المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام0%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن الصفار
تصنيف: الصفحات: 312
المشاهدات: 118675
تحميل: 7409

توضيحات:

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118675 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهم على صغر سِنّهم - أي أطفال فاطمة - يَعُونَ هذه الحقيقية فيؤلمهم الفراق، لكنّهم يسلّمون أمرهم إلى الله، ويردّدون في ثقة ويقين:( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) (٤) .

وفي ظلام الليل قام عليعليه‌السلام بتغسيل فاطمة، ثمّ أدرجها في أكفانها بمنظر من زينب وإخوتها، تقول الرواية: (فغسّلها أمير المؤمنينعليه‌السلام ولم يحضرها غيره والحسن، والحسين، وزينب، وأمّ كلثوم، وفضّة جاريتها، وأسماء بنت عميس)(٥) .

وحانت ساعة الوداع الأخيرة، فلا بدّ وأنْ يعطي عليعليه‌السلام الفرصة لأبنائه ليلقوا آخر نظرة على محيّا أُمِّهم الزهراء.

يقول السيّد القزويني:

رأى الإمام أنّ يتامى فاطمة ينظرون إلى أُمِّهم البارّة الحانية، وهي تُلفُّ في أثواب الكفن، إنّها لحظة فريدة في الحياة، لا يستطيع القلم وصْفها، إنّها لحظة يهيج فيها الشوق الممزوج بالحزن، إنّه الوداع الأخير الأخير!

هاجتْ عواطف الأب العطوف على أطفاله المنكسرة قلوبهم، فلم يعقد الخيوط على الكفن، بل نادى بصوت مختنق بالبكاء:

(يا أُمّ كلثوم ويا زينب ويا رقيّة ويا فضّة ويا حسن ويا حسين هلمّوا وتزوّدوا من أُمّكم فاطمة ، فهذا الفراق والملتقى في الجنّة).

كان الأطفال ينتظرون هذه الفرصة وهذا السماح لهم كي يودّعوا تلك الحوراء، ويعبّرون عن آلامهم وأصواتهم ودموعهم المكبوتة المحبوسة، وأقبلوا مسرعين وجعلوا يتساقطون على ذلك الجثمان الطاهر كما يتساقط الفَرَاش على السراج.

كانوا يبكون بأصوات خافتة، ويغسّلون كفن أُمِّهم الحانية بالدموع فتجفّفها

____________________

(٤) سورة البقرة: الآية: ١٥٦.

(٥) بحار الأنوار: المجلسي: ج ٤٣، ص ١٧١.

٨١

الآهات والزفرات، كان المنظر مشجياً مثيراً للحزن، فالقلوب ملتهِبة، والأحاسيس مشتعِلة، والعواطف هائجة والأحزان ثائرة(٦) .

وقد روى صاحب (ناسخ التواريخ) في كتابه:

إنّ زينب أقبلتْ عند وفاة أُمّها وهي تجرّ رداءها وتنادي: (يا أبتاه يا رسول الله الآن عرفنا الحرمان من النظر إليك).

وروى هذه الرواية صاحب (البحار) عن (الروضة) بهذا اللفظ:

وخرجت أُمّ كلثوم وعليها برقعة تجر ذيلها متجلببة برداء عليها تسحبها، وهي تقول: (يا أبتاه يا رسول الله الآن حقّاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده أبداً ).

وأُمّ كلثوم هذه هي زينبعليها‌السلام من غير شكّ، كما صرح باسمها في رواية صاحب (ناسخ التواريخ)، ولكونها أكبر بنات فاطمةعليها‌السلام (٧) .

____________________

(٦) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: القزويني ص ٦٢٤.

(٧) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ١٨.

٨٢

سيّدة العائلة:

وبعد رحيل أُمّها الزهراء إلى عالم الخلود، أصبحتْ السيّدة زينب على صغر سِنّها سيّدة المنزل وربّة البيت، ترعى شؤون أبيها وإخوتها، تماماً كما كانت أُمّها الزهراء تملأ فراغ أُمّها خديجة بنت خويلد بالنسبة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى سُمِّيتْ: (أُمّ أبيها ).

وقد أشار العديد من الكُتّاب والباحثين إلى تحمّل السيّدة زينب لأعباء المنزل والعائلة بعد وفاة أُمّها الزهراءعليها‌السلام .

يقول الأستاذ محمود يوسف:

وقُدّر للسيّدة زينب أنْ تفقد جدّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي في الخامسة من العمر، وفقدتْ أُمَّها الزهراء بعد ذلك بشهور قلائل، فحزنتْ - وهي الصبيّة الصغيرة - عليهما حزناً شديداً، وواجهتْ حياة البيت، ورعتْه وأدارتْ شؤونَه بعقليّة رتيبة واعية، وحسٍّ صادق وقلب مؤمن(٨) .

ويقول السيّد بحر العلوم:

وتحمّلت عقيلة بني هاشم مسؤوليّة بيت علي،

____________________

(٨) مجلّة (الموسم): نقلاً عن جريدة (الجمهوريّة) المصريّة: ٣١ / ١٠ / ١٩٧٢ م.

٨٣

وعاشتْ في خضمّ المشاكل والأحداث، ويكاد هذا البيت ينفجر من الأحداث، فالأقدار تتواثب عليه، والنوائب تصليه... وقلب زينب أخذ يتّسع لكل هذه وأكثر منها، ولا غرابة فهي ابنة علي(٩) .

وتقول السيّدة عائشة بنت الشاطئ:

وإذا استطعنا أنْ نتناسى إلى حين أحزان تلك الصبية التي رُوِّع عامها الخامس بشهود مأساة الموت مرّتين، في أعزّ الناس لديها وأحبّهم إليها، إذا استطعنا أنْ نكف لحظة عن التحديق في تلك الظلال التي حامتْ على مَهْدها، والأحزان التي أرهقتْ صباها، ألفينا جانباً آخر من الصورة مشرقاً، حيث تبدو (زينب) في بيت أبيها ذات مكانة أكبر من سنّها: أنضجتْها الأحداث، وهيّأتْها لأنْ تشغل مكان الراحلة الكريمة، فتكون للحسن والحسين وأُمّ كلثوم، أُمّاً لا تعوزها عاطفة الأمومة بكلّ ما فيها من حُنُوٍّ وإيثار، وإنْ أعوزتْها التجربة والاختبار(١٠) .

____________________

(٩) في رحاب السيدة زينب: محمّد بحر العلوم: ص ٢٤.

(١٠) السيِّدة زينب: عائشة بنت الشاطئ: ص ٤٢.

٨٤

في بيت الزوجيّة

٨٥

٨٦

وتجاوزتْ زينب مرحلة الصبا، واكتمل نضجها الجسدي والنفسي، ومع شديد رغبتها في البقاء قرب أبيها، وفي توفير الرعاية والعناية لأخويها الحسنَين، إلاّ أنّه كان لا بدّ لها من الزواج؛ لِمَا يعنيه الزواج من تكامل في الشخصيّة، واستجابة للسُنّة الإلهيّة التي جعلها الله تعالى في بني البشر، بل في كافّة المخلوقات كما يقول تعالى:( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (١) ، ولأنّ تعاليم الإسلام تحثّ على الزواج وتحبّذه، وتذمّ العزوبة وتنفر منها.

-فعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (النكاح سنّتي فَمَنْ رَغِبَ عن سنّتي فليس منّي)(٢) .

-وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لرجل يُقال له عكاف : (أَلَكَ زوجة؟

قال : لا.

____________________

(١) سورة الذاريات: الآية: ٤٩.

(٢) الفقه: كتاب النكاح: السيِّد محمّد الشيرازي: ج ٦٢، ص ١٢.

٨٧

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أَلَكَ جارية؟

قال : لا يا رسول الله.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أَفَأَنْتَ مُوسِر؟

قال : نعم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تزوّج وإلاّ فأنتَ من المذنبين).

وفي رواية : تزوّج وإلاّ فأنتَ من إخوان الشياطين)(٣) .

-وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (شراركم عزّابكم، وأراذل موتاكم عزّابكم)(٤) .

ومهما كانت كفاءة البنت وفضلها فإنّ ذلك لا يُغنيها عن نعمة الحياة الزوجيّة، ومخطئة جدّاً مَن تظنّ أنّ الشهادة الدراسيّة أو المنصب الوظيفي أو أي كفاءة علميّة أو اجتماعيّة يمكن أنْ تُصبح بديلاً عن الزواج، أو أنْ تملأ الفراغ في حياة المرأة بدلاً عن الزواج.. إنّه لو كان كذلك لاستغنتْ سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عن الزواج وهي لا تداني في فضلها ومؤهّلاتها، ولاستغنتْ ابنتُها العقيلة زينب عن تحمّل أعباء الحياة الزوجيّة لِمَا لها من الفضل والكفاءة.

لقد دخلتْ امرأة ذات يوم على الإمام الصادق عليه‌السلام وقالتْ : أصلحك الله إني مُتَبَتِّلَة.

فسألها الإمام : (وما التَبَتُّل عندك؟

قالتْ : لا أريد التزويج أبداً.

قال : وَلِمَ؟

____________________

(٣) المصدر السابق: ص ١٦.

(٤) ميزان الحكمة: الري شهري: ج ٤، ص ٢٧٥.

٨٨

قالتْ : ألتمس في ذلك الفضل.

فقال : انْصَرِفِي، فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمةعليها‌السلام أحقّ به منك، إنّه ليس أحد يسبقها إلى الفضل(٥) .

وجاء الخاطبون يتوافدون على بيت علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، كلٌّ منهم يتمنّى أنْ يحظى بشرف الاقتران بالعقيلة زينب؛ رغبةً في الاتصال بالنسب النبوي الشريف، ولِمَا يعرفونه من كمال زينب وفضلها وأدبها، لكنّ أباها عليّاً كان يردّ كلّ خاطب؛ لأنّهعليه‌السلام قد اختار لابنته الزوج المناسب والكفوء.

يقول السيّد الهاشمي:

إنّ العقيلة زينب بنت علي خطبها الأشراف من قريش والرؤساء من القبائل.. ويُروى أنّه خطبها الأشعث بن قيس وكان من ملوك كِنْدَة(٦) .

والعناية الإلهيّة التي أحاطتْ بالسيّدة زينبعليها‌السلام ووجّهتْ مسارات حياتها كان لا بدّ وأنْ تتدخّل في شأن هذا الأمر الخطير من حياة السيّدة زينب، وهو اختيار القرين والزوج المناسب الكفوء لهذه المرأة العظيمة. وهذا ما حصل بالفعل فقد شاء الله تعالى أنْ تقترن العقيلة زينب بواحد من أعظم وأنبل شباب الهاشميّين، وهو ابن عمّها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

واختيار الإمام علي لعبد الله بن جعفر ليكون زوجاً لابنته زينب اختيارٌ أكثر من موفّق، فعلي يعرف مكانة أخيه جعفر، وعبد الله ربيب للإمام علي، حيث أصبح في رعايته بعد شهادة أبيه جعفر، وأمّه أسماء بنت عميس وثيقة الصلة والعلاقة بالسيّدة الزهراء أُمّ العقيلة زينب، ثمّ هي قد أصبحتْ زوجاً للإمام علي، إضافةً لكل ذلك المؤهّلات الشخصيّة التي كان يجدها الإمام في ابن أخيه عبد الله بن

____________________

(٥) ميزان الحكمة: الري شهري: ج ٤، ص ٢٧٤.

(٦) عقيلة بني هاشم: السيّد علي الهاشمي: ص ٣١.

٨٩

جعفر، وقد أصدق الإمام ابنته زينب(٤٨٠) درهماً من خالص ماله كصداق أُمّها فاطمة الزهراءعليه‌السلام .

ولنسلّط الأضواء الآن على شخصيّة هذا الرجل العظيم:

٩٠

* أَبوه: جعفر الطيّار:

وجعفر الطيّار هو ابن أبي طالب، وأخو الإمام علي، وهو أكبر من الإمام علي بعشر سنين، وهو ثالث مَن أَسْلَمَ وصلّى مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد علي وخديجة، حيث كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يتقدّمهم للصلاة وعلي عن يمينه، وجعفر عن يساره، وخديجة من خلفه.

وكان جعفر يشبه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خلقه وخُلُقه، وكان يكنّيه (أبا المساكين ).

وعن الزمخشري في (ربيع الأبرار ):

كان جعفر أشبه الناس برسول الله خلقاً وخُلُقاً، وكان الرجل يرى جعفر فيقول: السلام عليك يا رسول الله. يظنّه إيّاه، فيقول: لستُ برسول الله، أنا جعفر.

قال حسان بن ثابت:

وَكُنّا نَرى في جَعفَرٍ مِن مُحَمَّدٍ

وَقَارَاً وَأَمراً حازِماً حينَ يَأمُرُ

وَما زالَ في الإِسلامِ مِن آلِ هاشِمٍ

دَعائِمُ صِدْقٍ لا تُرَام وَمَفخَرُ

هُمُ جَبَلُ الإِسلامِ وَالناسُ حَولَهُم

رِضامٌ إِلى طَودٍ يَطُول وَيَقهَرُ

٩١

بَهاليلُ مِنهُم جَعفَرٌ وَاِبنُ أُمِّهِ

عَلِيٍّ وَمِنهُم أَحمَدُ المُتَخَيَّرُ(٧)

وهو الذي قاد أوّل مجموعة مسلمة مهاجرة إلى الحبشة، من مكّة المكرّمة ومعه زوجته أسماء بنت عميس. وبقي جعفر في الحبشة حتّى السنة السابعة من الهجرة، وعندما ترك الحبشة قاصداً المدينة، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله راجعاً من حرب خيبر، والتقاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقبّله بين عَيْنَيه، وقال: (ما أدري بأيّهما أشدّ فرحاً بقدوم جعفر أو بفتح خيبر).

وقال له: (أنت أشبه الناس بخَلْقِي وخُلُقي، وقد خُلِقْتَ مِن الطينة التي خُلِقْتُ منها).

ولم يمضِ على بقاء جعفر في المدينة إلى جنب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ حوالي سنة واحدة، حتّى بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سنة ٨ ه- على رأس جيش من المسلمين يبلغ ثلاثة آلاف مقاتل لمواجهة الروم.

وفي مؤتة - قرية في الأردن - حصلتْ معركة حاسمة على حدود الشام، حيث كان عدد جيش الروم أكثر من مائة ألف، وأخذ الراية جعفر وتقدّم بِمَنْ معه من المسلمين، وحمل على تلك الحشود التي ملأتْ الصحراء بعددها وعتادها، وظلّ يقاتلهم حتّى قُطِعَتْ يمينه وشماله وخرّ صريعاً، ووجدوا في مقدّم جسده بعد شهادته أكثر من تسعين ضربة وطعنة.

وكان يُنشد أثناء القتال:

يا حبّذا الجنّة واقترابها

طيّبةٌ وباردٌ شرابُها

والرومُ روم قد دَنَا عَذَابُهَا

كافرةٌ بعيدة أَنْسَابُها

عليّ إذْ لاقيتها ضرابها

____________________

(٧) مجلّة (الموسم): ص ١٠٦٥ - ١٠٦٨.

٩٢

وكانت شهادة جعفر في غزوة مؤتة، في جمادي الأولى سنة ٨ ه-.

وفي(عمدة الطالب):

لَمَّا رأى جعفر الحرب قد اشتدّتْ، والروم قد غلبتْ، اقتحم عن فرس له أشقر ثمّ عقره، وهو أوّل مَن عقر في الإسلام فقاتل حتّى قُطِعَتْ يده اليمنى، فأخذ الراية بيده اليسرى، وقاتل إلى أنْ قُطعتْ يده اليسرى أيضاً، فاعتنق الراية وضمّها إلى صدره حتّى قُتل، ووُجد فيه نيّف وسبعون، وقيل نيف وثمانون ما بين طعنة وضربة ورمية.

وحينما وصل خبر مقتله إلى المدينة جزع المسلمون كثيراً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا تبكوا على أخي بعد اليوم، إنّ له جناحَين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة). فسُمّي ذا الجناحين والطيّار(٨) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (اللهمّ إنّ جعفراً قد قدّم إلى أحسن الثواب فاخْلفْه في ذرِّيَّته بأحسن ما خلفتَ أحداً من عبادك في ذرِّيَّته)(٩) .

وينقل التاريخ أنّ جعفر بن أبي طالب كان معروفاً بحسن السيرة والسلوك حتّى قبل الإسلام، ورُوي عنه أنّه كان يتحدّث عن حياته في الجاهليّة، فيقول:

(ما شربت خمراً قط؛ لأنّي علمتُ إنّ شَرِبْتُها زال عقلي، وما كذبتُ قط؛ لأنّ الكذب ينقص المروءة، وما زنيتُ قط؛ لأنّي خِفْتُ أنّي إذا عملتُ عُمِلَ بي، وما عبدتُ صنماً قط؛ لأنّي عَلِمْتُ أنّه لا يضر ولا ينفع ).

ورُوي أنّ جعفر بن أبي طالب كان يقول لأبيه: (يا أبه إنّي لأستحي أنْ أطعم طعاماً وجيراني لا يقدرون على مثله ).

فأجابه أبوه : إنّي لأرجو أنْ يكون فيك خلف

____________________

(٨) زينب وليدة النبوّة والإمامة: م. صادق: ص ٥٣ - ٥٥ بتصرّف.

(٩) في رحاب السيّدة زينب: محمّد بحر العلوم: ص ٣٣.

٩٣

من عبد المطّلب(١٠) .

وفي الحديث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (إنّ الله اختارني في ثلاثة من أهل بيتي، وأنا سيّد الثلاثة وأتقاهم لله ولا فخر ، اختارني، وعليّاً وجعفراً ابني أبي طالب، وحمزة بن عبد المطّلب)(١١) .

ذلك هو الأصل الذي تفرّع عنه عبد الله بن جعفر زوج السيّدة زينبعليها‌السلام .

____________________

(١٠) مجلّة (الموسم): العدد الرابع من المجلّد الأوّل: ص ١٠٦٥ - ١٠٦٨.

(١١) مع بطلة كربلاء: محمّد جواد مغنية: ص ٢٨.

٩٤

* أُمّه: (أسماء بنت عميس):

كانت أسماء بنت عميس الخثعميّة امرأة كريمة شريفة، ذات رأي حازم، ومعرفة وتجربة، هاجرتْ في سبيل الله مع زوجها جعفر الطيّار هجرتَين، الأولى: إلى الحبشة، والثانية: إلى المدينة.

وبعد شهادة زوجها جعفر تزوّجتْ من أبي بكر، فأولدها (محمّد بن أبي بكر ).

وكانت وثيقة الصلة بالسيّدة الزهراءعليها‌السلام وهي التي ساعدتْها فترة مرضها بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت قريبة منها عند وفاتها، وشاركتْ الإمام علي في تجهيز فاطمة الزهراء.

وبعد وفاة أبي بكر تزوّجها الإمام علي وضمّها إلى عياله مع ولدها محمّد بن أبي بكر، وهو في الرابعة من عمره، والذي أصبح ربيب الإمام علي، وولدتْ للإمام علي ولداً أسماه (يحيى )(١٢) ، ف- (عبد الله بن جعفر ومحمّد بن أبي بكر ويحيى بن علي ) إخوة من أُمٍّ واحدة.

____________________

(١٢) زينب وليدة النبوّة والإمامة: م. صادق: ص ٥٦.

٩٥

يقول عنها العلاّمة المحقّق الشيخ جعفر النقدي:

كانت أسماء من القانتات العابدات، روتْ الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن علي والزهراءعليهما‌السلام . وروى عنها كثيرون، منهم ابنها عبد الله بن جعفر، وحفيدها القاسم بن محمّد بن أبي بكر وهو جدّ إمامنا الصادقعليه‌السلام لأُمِّه، وروى عنها عبد الله بن عبّاس وهو ابن أختها (لبابة بنت الحارث ).

قيل:

وكان الخليفة عمر يسألها عن تفسير المنام، ونقل عنها أشياء من ذلك ومن غيره.

قال في (الإصابة):

ويُقال إنّها لمّا بلغها قتْل ولدها محمّد بمصر قامتْ إلى مسجد بيتها وكظمتْ غيظها حتّى شخب ثدياها دَمَاً(١٣) .

وقد عبّر عنها الإمام الصادقعليه‌السلام ب- (النجيبة )، وترحّم عليها بقوله: (رحم الله الأخوات من أهل الجنّة). وعَدّ أسماء في مقدِّمتهنّ(١٤) .

هذا هو الحضن الذي تربّى فيه عبد الله بن جعفر زوج السيِّدة زينبعليها‌السلام .

____________________

(١٣) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٧٧.

(١٤) في رحاب السيّدة زينب: بحر العلوم: ص ٣٤.

٩٦

* شخصيّة عبد الله بن جعفر:

هو أكبر أولاد أبيه، وقد ولد في الحبشة عندما هاجر إليها والداه، وهو أوّل مولود وُلد في الإسلام بأرض الحبشة، وبعد شهادة أبيه في مؤتة أخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجره قائلاً: (أمّا عبد الله فشبيه خَلْقي وخُلُقي، اللهمّ اخْلُفْ جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه).

وخاطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أسماء زوجة جعفر، والتي كانت متأثّرة لِيُتْم أبنائها قائلاً:(لا تخافي عليهم أنا وليّهم في الدنيا والآخرة)(١٥) .

وطبيعي أنْ يرعاه عمّه علي بعد شهادة أبيه.

وصحب عبد الله بن جعفر النبي، وحفظ الحديث عنه، ولازم عمّه أمير المؤمنين، وابنَي عمّه الحسن والحسين، وأخذ العلم عنهم.

قال عبد العزيز سيّد الأهل:

رأى النبي وكانت له به صحبة وكرمه رسول الله،

____________________

(١٥) مع بطلة كربلاء: محمّد جواد مغنية: ص ٣٢.

٩٧

فأردفه يوماً في ركوبه، ثمّ شرّفه فاسرّ إليه حديثاً حين أركبه فأردفه(١٦) .

وكان أغنى بني هاشم وأيسرهم، وكانت له ضياع كثيرة، ومتاجر واسعة، وكان أسخى رجل في الإسلام، وله حكايات في الجود كثيرة وعجيبة(١٧) .

وجاء في كتاب (الاستيعاب):

أنّ عبد الله بن جعفر كان كريماً جواداً ظريفاً خليقاً عفيفاً سخيّاً، يُسمّى بحر الجود.

وذكر ابن عساكر قال:

روى الحافظ : أنّ معاوية كان يقول: بنو هاشم رجلان: رسول الله لكلّ خير ذكر، وعبد الله بن جعفر لكلّ شرف، والله لكأنّ المجد نازل منزلاً لا يبلغه أحد وعبد الله بن جعفر نازل وسطه(١٨) .

ومن جود ابن جعفر وكرمه، ما ذكره ابن عساكر في(تاريخه) قال : جاء شاعر إلى عبد الله بن جعفر فأنشده:

رأيتُ أبا جعفر في المنام

كساني من الخزّ درّاعة

نقلتُ إلى صاحبي أمرَها

فقال ستؤتَى بها الساعة

سيكسوها الماجدُ الجعفري

ومِن كفّه الدهر نفّاعة

ومَن قال للجود لا تعدني

فقال لك السَمْعُ والطاعة

فقال عبد الله لغلامه : ادفع إليه جبّتي الخزّ.

ثمّ قال له : ويحك كيف لم ترَ جُبّتي الوشي التي اشتريتُها بثلاثمائة دينار منسوجة بالذهب.

____________________

(١٦) زينب عقيلة بني هاشم: عبد العزيز سيّد الأهل: ص ٢٠.

(١٧) مع بطلة كربلاء: محمّد جواد مغنية: ص ٣٣.

(١٨) عقيلة بني هاشم: الهاشمي: ص ٣٤.

٩٨

فقال : اغفي غفية أخرى فلعلّي أراها في المنام.

فضحك منه عبد الله وقال لغلامه : ادفع إليه جُبّتي الوشي أيضاً(١٩) .

وقال ابن حيان:

كان يُقال لعبد الله بن جعفر قطب السخاء، وكان له عند موت النبي عشر سنين(٢٠) .

وقال ابن حجر في (الإصابة):

أخرج ابن أبي الدنيا والخرائطي بسند حسن إلى محمّد بن سيرين: إنّ دهقاناً من أهل السواد كلّم ابن جعفر في أنْ يكلّم عليّاً في حاجة، فكلّمه فيها، فقضاها فبعث إليه الدهقان أربعين ألفاً، فردّها وقال: إنّا لا نبيع معروفاً(٢١) .

ومضى إليه رجل يدّعي أنّه ابن سبيل، قد راهن الناس على أنّ عبد الله أجود الناس،فقالوا : أَرِنَا.فجاء إليه وعبد الله على راحلته يريد ضيعة له،فقال الرجل : يا ابن عمّ رسول الله.

قال: قل ما تشاء.

قال: أنا ابن سبيل قد انقطع بي.

فأخرج عبد الله رجله من ركابه ونزل عن راحلته، وقال له : ضع رجلك، واستوِ على الناقة، وخُذْ ما في الحقيبة، وإيّاك أنْ تخدع عن السيف فإنّه من سيوف علي بن أبي طالب.

ثمّ ترك الرجل ورجع.

أمّا الرجل فقد وضع رجله في الركاب واستوى على الناقة ومدّ يده إلى الحقيبة

____________________

(١٩) عقيلة بني هاشم: الهاشمي: ص ٣٤.

(٢٠) زينب الكبرى: جعفر النقدي: ص ٨١.

(٢١) المصدر السابق: ص ٨٦.

٩٩

فوجدها ممتلئة بمطارف الخزّ، وبها أربعة آلاف دينار، وكان سيف علي أنفس من المطارف وأجل من الدنانير(٢٢) .

وخرج عبد الله بن جعفر يوماً إلى ضيعة له:

فنزل على حائط به نخيل لقوم وفيه غلام أسود يقوم عليه، فأتى بِقُوْتِهِ ثلاثة أقراص، فدخل كلب فدنا من الغلام، فرمى إليه بقرص فأكله، ثمّ رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما، وعبد الله ينظر إليه.

فقال : يا غلام كمْ قوتك كلّ يوم؟

قال : ما رأيتَ.

قال : فَلِمَ آثرتَ هذا الكلب؟

قال : إنّ أرضنا ما هي بأرض كلاب، وإنّ هذا الكلب جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهتُ أنْ أردّه.

قال : فما أنت صانع اليوم؟

قال : أطوي يومي هذا.

فقال عبد الله بن جعفر : أَأُلاَمُ على السخاء وهذا العبد أسخى منّي؟

ثمّ اشترى الحائط وما فيه من النخيل والآلات، واشترى الغلام ثمّ أعتقه، ووهبه الحائط بما فيه من النخيل(٢٣) .

ويشير السيّد بحر العلوم إلى أنّ الخيرات والبركات قد انهالتْ على عبد الله بن جعفر عند زواجه بالسيّدة زينبعليها‌السلام فيقول: وزحفتْ البركة على ابن جعفر مع زينب فوفد عليه الرزق من المال والولد، وامتلاك الضياع، وفاضتْ أرضه بالثمار والغلاّت، ووفد أهل المدينة وأبناء السبيل في حاجاتهم على

____________________

(٢٢) زينب عقيلة بني هاشم: عبد العزيز سيّد الأهل: ص ٢٢.

(٢٣) زينب الكبرى: ص ٨٨.

١٠٠