الاذان بين الاصالة والتحريف

الاذان بين الاصالة والتحريف0%

الاذان بين الاصالة والتحريف مؤلف:
الناشر: لسان الصدق
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 470

الاذان بين الاصالة والتحريف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السید علی الشهرستانی
الناشر: لسان الصدق
تصنيف: الصفحات: 470
المشاهدات: 39330
تحميل: 7135

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39330 / تحميل: 7135
الحجم الحجم الحجم
الاذان بين الاصالة والتحريف

الاذان بين الاصالة والتحريف

مؤلف:
الناشر: لسان الصدق
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(أبَوا) بعد نزول قوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ) (102) . وعندئذ نزل التهديد الإلهيّ ليعلم الناس أنّ دين اللَّه خالص نقيّ لا يجوز بحالٍ أن يشوبه شي‏ء من رأي البشر ولو قَلّ وضَئُل إلى مستوى حرفٍ. استمع إلى تعابير المواجهة والإنذار: ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (103) ، وهو الذي ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (104) .

ثانياً: إنّ الأذان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفريضة الصلاة التي هي (خيرُ موضوع)، كما يقول رسول اللَّه (صلَّى الله عليه وآله)، وهي عمود الدين وأساسه الجوهري.. إلى حدّ أن جعل الإمام الهادي الزيدي الأذان من أصول الدين! كما مرّ بنا سابقاً.

والأذان مقدّمة للصلاة، وكلاهما عبادة خالصة للَّه عزّ وجلّ صادرة عن حقيقة وجودية توحيدية عميقة. من هنا يكون من الغفلة الاعتقاد بأنّ اللَّه عزّ وجلّ قد أمر خاتم أنبيائه الكرام بإقامة الصلاة على وجهها الذي شرّعه اللَّه تعالى، ثمّ ترك شأن تعليم أذان الصلاة و إقامتها لأُناس عاديّين يقولون إنّهم رأوها في المنام! أو إنّهم قد أضافوا إليها من عندهم ما يكملها، دون أن يُعلّمها رسولَه الذي هو مبلّغ الوحي وحامل راية الهدى لأجيال البشرية كافّة.

ثالثاً: تشير بعض النصوص السنيّة التي أوردتها كتب الصحاح والسنن في موضوع الأذان إلى أنّ رسول اللَّه كان في حيرة من أمر الأذان، ولم يكن يعلم الحكم الإلهيّ فيه أيّاماً، حتّى شاور الصحابةَ في ذلك، وأمر بناقوس النصارى ليكون

____________________

(102) الكهف: 77.

(103) الحاقّة: 44 - 47.

(104) النجم: 3.

٦١

إعلاماً لوقت الصلاة حتّى (كاد ينقس)!

وفي هذا الرأي من التوهين والتقليل من شأن رسول اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) ما لا خفاء فيه، وهو ممّا يرفضه منطق القرآن الكريم، و يرفضه المنطق الإيماني على وجه العموم، ذلك أنّ هذا التوهين يعارض دعوةَ القرآن المسلمين إلى توقير رسول اللَّه وتعظيمه، و يضادّ نهي الذين آمنوا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، تعريفاً بتميّزه وعلوّ مقامه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (105) اهتماماً بمكانته (صلَّى الله عليه وآله) وشأنه.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية نزلت لمّا تنازع أبو بكر وعمر في تعيين مَن يكون موفد الرسول المصطفى إلى بني تميم. فقال أبو بكر: القعقاع بن معبد، وقال عمر: الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلَّا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتمارَيا حتّى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك هذه الآيات الحكيمة (106) .

فإذا كان اللَّه سبحانه لا يرتضي التنازع ورفع الصوت بمحضر النبيِّ في أيّة قضيّة من القضايا احتراماً له وتوقيراً لمقامه، فكيف يصحّ أن يُنسَب إليه التحيّر في شأن أمر تعبّدي كالأذان حتّى اختار - أو كاد أن يختار - ناقوس النصارى يُنقس به إعلاماً للصلاة؟!

رابعاً: أهمل الشيخان البخاريّ ومسلم وكذا الحاكم النيسابوريّ في مستدركه

____________________

(105) الحجرات: 1 - 2.

(106) انظر: صحيح البخاريّ 60: 290 كتاب المغازي، باب وفد بني تميم ج 812، باب وفد بني تميم.

٦٢

ذِكْر أحاديث رؤيا عبد اللَّه بن زيد، بل في المستدرك عن (سفيان بن الليل عن الإمام الحسن السبط) ما يُسَخِّف تشريع الأذان بالمنام.

وقد أجاب الحاكم معلّلاً تركَ الشيخين أحاديث عبد اللَّه بن زيد التي قصّها على رسول اللَّه بقوله: (... و إنّما ترك الشيخان حديث عبد اللَّه بن ز يد في الأذان والرؤيا التي قصّها على رسول اللَّه بهذا الإسناد (107) ، لتقدّم موت عبد اللَّه بن زيد، فقد قيل: إنَّه استُشهد بأُحد، وقيل: بعد ذلك بيسير، واللَّه أعلم) (108) .

ويشير إهمال الشيخين لهذا الحديث إلى أنّه لا أصل لحديث عبد اللَّه بن زيد عن رسول اللَّه، و يؤيّد ذلك ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة عمر بن عبد العزيز عن عبيد اللَّه بن عمر، قال: (دَخَلتْ ابنة عبد اللَّه بن زيد على عمر بن عبد العزيز، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا بنت عبد اللَّه بن زيد، أبي شهد بدراً وقُتِل

____________________

(107) ليس فيما روي عن عبد اللَّه بن زيد في الأذان ما رجاله على شرط الشيخين إلّا ما رواه بشير بن محمد بن عبد اللَّه بن زيد عن جدّه عبد اللَّه بن زيد، ولكن لم يخرجه الشيخان في صحيحيهما لأنّه منقطع؛ فالحفيد بشير لم يدرك جدّه عبد اللَّه بن زيد.

(108) المستدرك للحاكم 4: 348 كتاب الفرائض، باب ردّ الصدقة ميراثاً. قال ابن حجر في تلخيص الحبير 3: 162.

(وقال الحاكم والبيهقي: الروايات عن عبد اللَّه بن زيد في هذا الباب كلّها منقطعة؛ لأنّ عبد اللَّه بن زيد استشهد يوم أحد. ثمّ أسند عن الدراوردي عن عبيد اللَّه بن عمر قال: دخلت ابنة عبد اللَّه بن زيد على عمر بن عبد العزيز فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا ابنة عبد اللَّه بن زيد، شهد أبي بدراً وقتل يوم أحد. وفي صحّة هذا نظر؛ فإن عبيد اللَّه بن عمر لم يدرك هذه القصّة... وروى الواقدي عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد قال: تُوفّي أبي بالمدينة سنة اثنين وثلاثين، وقال ابن سعد: شهد أحداً والخندق والمشاهد كلها، ولو صحّ ما تقدم للزم أن تكون بنت عبد اللَّه بن زيد صحابية). عن تلخيص الحبير 3: 162 - 163.

أقول: الظاهر أنّ كلام الحاكم هو الصحيح، فإن الراوي هو عبيد اللَّه بن عمر العمري كما في الإصابة 2: 312 ترجمة عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة، وهو عبيد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب، المتوفَّى سنة 144 و145 و147 هـ، والمسند إليه صحيح بلحاظ الراوي والمروي عنه. انظر: تهذيب الكمال 19: 124 - 130.

٦٣

يوم أحد، فقال عمر:

تلك المكارِمُ لا قعبان من لَبنٍ

شِيبا بماءٍ فعادا بَعدُ أبوالا

سَليني ما شئتِ، فسألت فأعطاها ما سألت) (109) .

ولو ثبت بشكل قطعي أنَّ عبد اللَّه رأى الأذان لَذَكرتْ ابنته هذه المكرمة له وعدّتها ضمن منقبتيه الأُوليين: حضوره بدراً وقتله بأُحد، بل أن فضيلة رؤيا الأذان لو كانت واقعةً فعلاً لَما ضاهاها شي‏ء؛ إذ إنّ الوحي قد وافقه في هذه المسألة دون عموم بني البشر، وهي أهمّ من حضوره بدراً وقتله بأُحد، وذلك لمشاركة آخَرين له في هاتين الفضيلتين.

إنَّ عدم ذكر ابنة عبد اللَّه بن زيد لهذه المنقبة - وهي في معرض استعطاف عمر بن عبد العزيز - ليشير إلى عدم ثبوت هذه المكرمة له في العهد الأوّل.

خامساً: من الثابت عند أهل العلم أنّ رؤيا الأنبياء وحدهم حجّة، لا رؤيا غيرهم. نعم، إنّهم صحّحوا هذه الرؤيا والمنامات الأخرى بتطابق الوحي معها.

قال العسقلانيّ: (وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد اللَّه بن زيد، لأنَّ رؤيا غير الأنبياء لا يُبنى عليها حكم شرعيّ، وأُجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك...) (110) .

لكنّ هذا الجواب غير علميّ ولا دقيق؛ لأنَّ مجرّد احتمال مقارنة الوحي لا يفيد، إذ لو كان ذلك صحيحاً لذكرته الروايات المعتمدة في الباب ولم تنحصر باجتهادات أمثال ابن حجر.

____________________

(109) حلية الأولياء 5: 322 ترجمة عمر بن عبد العزيز، وعنه في الإصابة 2: 312 ترجمة عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربّه ‏بن ثعلبة.

(110) فتح الباري 2: 65 باب الأذان مثنى.

٦٤

ثمّ لماذا لم ينزل الوحي على رسول اللَّه حينما كان متحيّراً في أوّل أمره، أي حينما قَدِم المدينة، حتّى أخبره عبد اللَّه بن زيد بمنامه، ثمّ تطابق الوحي مع الرؤيا بعد ذلك؟!

إنَّ تعارض النصوص وتخالفها مع الثوابت الأُخرى تُخطِّئ هذه الرؤية؛ لأنَّ القول بتشريع الأذان في المَسرى لا يتطابق مع حيرة النبيّ وسعيه لمشاورة الصحابة في المدينة، وخصوصاً حينما نشم رائحة الغلوّ من بعض النصوص وادِّعاء نزول ما يشابه الوحي على عبد اللَّه بن زيد، أو على عمر، أو بلال، لقول عبد اللَّه في بعض النصوص: (كأنّي وأنا بين نائم و يقظان)، وفي آخر: (لولا أن يقول الناس لقلتُ بأنّي كنتُ يقظان غير نائم)!!

أو ما جاء في نصوص أُخرى: (إنَّ جبرئيل أذَّن في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالاً فأخبر النبيّ ثمّ جاء...)، أفَلا ترى أنّ هذه النصوص ترفع من شأن عبد اللَّه بن زيد ومن شأن عمرَ إلى مرتبة النبوّة، وتغلو فيهما؟!

بل العجب العجاب أن نرى إلقاء العب‏ء الأكبر في الأذان على عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربّه الخزرجي الأنصاري، هذا الصحابي غير الواضح المعالم في التاريخ والفقه، والذي لم يُعرَف ولم يشتهر إلّا عبر هذه المفردة، إذ عرف ب (الذي أُرِيَ الأذان). ومثل ذلك ما قيل في سَمِيّه عبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري (صاحب حديث الوضوء) الذي ألقوا على عهدته قسماً من الوضوء الثلاثي الغَسلي وادّعوا أن الأخبار الصحيحة جاءت عنه وهو منها بري‏ء!

فلماذا هذان الصحابيان الأنصاريان الغامضا المعالم؟! اللذان لا يعرفان إلّا في حديثَي الأذان والوضوء؟!

٦٥

وبعد هذا، لابدّ من الإشارة إلى إشكال آخر أثاره السُّهيليّ (111) والعسقلانيّ وغيرهما حاولوا الإجابة عنه.

قال ابن حجر في إرشاد الساري : (فإن قلتَ: ما الحكمة في تخصيص الأذان برؤيا رجل ولم يكن بوحي؟ أُجيب: لما فيه من التنويه بالنبيّ والرفع لذِكره؛ لأنَّه إذا كان على لسان غيره كان أرفَعَ لذكره وأفخَرَ لشأنه. على أنّه روى أبو داود في المَراسيل أنَّ عمر لمّا رأى الأذان جاء ليخبر النبيّ فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلّا أذان بلال، فقال له (عليه السلام): سبقك بها الوحي. ورواة هذا الحديث خمسة، وفيه التحديث والإخبار) (112) .

وهذا التعليل عليل، لأنَّه لو صحّ للزم لحاظ هذا الوجه في كلّ شي‏ء ورد فيه ذِكر الشهادتين، لأنَّ نقل ذلك على لسان غيره أرفع لذكره وأفخر لشأنه وأدفع لتهم أعدائه، في حين نعلم بأنَّ الباري جَلَّ شأنه هو الذي رفع ذِكره بقوله: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (113) ، وبعد هذا فلا يحتاج إلى أن يرفع ذكره بعد الباري (جلّ شأنه) أحدٌ.

هذه أهمّ الأقوال التي قيلت في تشريع الأذان عند مدرسة أهل السنّة والجماعة، وقد يمكن إرجاع بعضها إلى بعض، وتقليص حجم اختلافاتها، غير أنّ إعادة جميع النصوص إلى قول واحد محالٌ من القول، لأنّ القول بتشريعها والتأذين بها في الإسراء والمعراج لا يتّفق مع هَمِّ وغمّ رسول اللَّه في المدينة وجلوسه مع أصحابه يستشيرهم في كيفيّة التأذين وطريقة جمع المسلمين على شي‏ء واحد.

____________________

(111) في الروض الأنف 2: 356.

(112) إرشاد الساري 2: 4.

(113) الشرح: 4.

٦٦

وهكذا الحال بالنسبة إلى ما جاء عن عمر وأنّه كان أوّل من سمع أذان جبرئيل في السماء ثمّ بلال، أو ما حكي عنه من أنّه أضاف الشهادة بالنبوة في الأذان بعد أن كانت فيه الشهادة بالتوحيد فقط، فإنّه لا يتّفق مع تشريع الأذان في المسرى.

وكذا القول بأنّ أبا بكر كان أوّل مَن أخبر رسولَ اللَّه بالأذان - كما في خبر جامع المسانيد - فهو يخالف المشهور بين المحدّثين من أنّ عبد اللَّه بن زيد الأنصاريّ كان أوّل مَن أخبر رسول اللَّه بمنامه.

وكذا الحال بالنسبة إلى ما اشتهر عن عبد اللَّه بن زيد وأنّه أخبر رسول اللَّه في الصّباح - بعد أن نام بالليل - لقوله: (فلمّا أصبحتُ أتيت رسول اللَّه) أو: (فلما غدا...) وهو يخالف ما قاله الحافظ الدمياطي في سيرته من أنّ عبد اللَّه بن زيد أتى رسول اللَّه ليلاً وأخبره (114) .

وقد حاول الحلبيّ الجمع بين القولين ذاهباً إلى عدم المنافاة بينهما؛ لأنّ جملة: (فلمّا أصبحتُ) أو: (فلمّا غدا) إشارة إلى مقاربة الوقت للصباح.

وهذا تأو يل بعيد يخالف الظاهر، لأن المتبادر من كلمة (فلما أصبحت) أو (غدوت) صريح في الصبح، فكان على الحلبي أن يخطّئ نقل الحافظ الدمياطي وهو خير له من أن يقول بهذا القول.

وكذا الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطّاب، ففي بعض النصوص نراه يخرج حينما سمع الأذان (وهو في بيته يجرّ رداءه)، وفي بعض آخر نراه يقترح على رسول اللَّه بقوله: (أوَ لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟)، ف(فخرج يجر رداءه) يختلف مع (أو لا تبعثون) لكون الثاني يشير إلى أنَّ الأذان شُرِّعَ باقتراح عمر بن الخطّاب وأنَّه

____________________

(114) انظر: السيرة الحلبية 2: 299.

٦٧

كان بمحضر الرسول.

أمّا جملة (فخرج يجر رداءه)، فتشير إلى أنّه سمع الأذان وهو في بيته.

قال القسطلاني في إرشاد الساري - بعد أن أتى بخبر ابن عمر السابق الذكر -: (كان المسلمون حين قدموا المدينة)؛ قال الحافظ ابن حجر بأنَّ سياق حديث عبد اللَّه بن زيد يخالف ذلك، فإنَّ فيه أنّه لمّا قصَّ رؤياه على النبيِّ، قال: فسمع عمر الصوت فخرج فأتى النبيَّ فقال: رأيتُ مِثل الذي رأى. فدلَّ على أنَّ عمر لم يكن حاضراً لما قصَّ عبد اللَّه.

قال: والظاهر أنّ إشارة عمر بإرسال رجل ينادي بالصلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأنَّ رؤيا عبد اللَّه كانت بعد ذلك؛ وتعقّبه العينيّ بما رواه أبو داود عن أبي بشر، عن أبي عمير، عن أنس، عن عمومة له من الأنصار، أنّ عبد اللَّه بن زيد: قال (إذ أتاني آتٍ فأراني الأذان، وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه، فقال له النبيُّ: ما منعك أن تخبرنا...) إلى آخره، ليس فيه أنَّ عمر سمع الصوت فخرج؛ فقال: فهو يُقَوي كلام القرطبيّ و يردّ كلام بعضهم - أي ابن حجر - انتهى.

وأجاب ابن حجر في انتقاض الاعتراض بأنَّه إذا سكت في رواية أبي عمير عن قوله: فسمع عمر الصوت فخرج، وأثبتها ابن عمر، إنّما يكون إثبات ذلك دالاً على أنّه لم يكن حاضراً، فكيف يعترض بمثل هذا؟! (115) .

ومجمل الكلام أنّهم بهذه الوجوه سعوا للجمع بين بعض النصوص، ولكن أنَّى لهم الجمع في مواردها الأخرى؟ فإنهم كلّما رقعوا منها جانباً انخرق منها جانب آخر، ونحن تركنا مناقشة تلك الروايات سنداً خوفاً من الإطالة، مكتفين بالتعليق

____________________

(115) إرشاد الساري 2: 3.

٦٨

على دلالة بعضها.

و خلاصة القول: إنَّ الأذان كغيره من الشرائع قد جرى فيه اتِّجاهان:

أحدهما: يقول بتشريعه في الإسراء والمعراج وأنَّه من الوحي الذي لا يجوز فيه الزيادة والنقصان.

و ثانيهما: يعتقد بأنَّ تشر يعه جاء على أثر منام رآه عبد اللَّه بن ز يد بن عبد ربّه، أو أنّه شُرِّع بمشورة من الصحابة.

وقد اختلف الاتّجاهان في المفاهيم والأُصول؛ لأنَّ القائل بتشريعه في الإسراء والمعراج يربطه بقضايا إلهيّة قدسيّة، حيث إنَّ حقيقة الإسراء هي حقيقة عالية ترتبط بالغيب، و إنَّ أهل بيت الرسالة وبعض الصحابة المتعبّدين كانوا هم المطّلعين بما دار في الإسراء والمعراج، بعكس بعض قريش التي كانت تنكر حقيقة المسرى وتسخّف مغزاه، فلم تكن تقبل بأن الرسول الأعظم تجاوز الحجب حتّى وصل إلى دار العظمة، حاملاً معه مفاهيم ربانية وأفكاراً عالية لا يمكن الوصول إليها إلَّا بالاستعانة بالقدرة الإلهيّة، ولا يمكن معرفة دقائقها إلّا عن أهل بيت الرسالة والوحي، الذين وضَّحوا لنا المبهم من هذه الأمور.

أمّا القائل بتشريعه عن طر يق رؤيا رآها عبد اللَّه بن زيد، أو سبعةٌ آخرون من الصحابة، فيعطي لفكرته مسحة عدم التوقيف، ليكون له مساغ في أن يزيد في هذه الشعيرة المقدسة، أو ينقص منها.

قال السرخسي في المبسوط: (... بدليل ما روي عن إبراهيم أنَّ: أوّل مَن أفرد الإقامة معاوية. وقال مجاهد: كانت الإقامة مثنى كالأذان حتّى استخفّه بعض أمراء الجور فأفرده لحاجة لهم) (116) .

____________________

(116) المبسوط 1: 129 كتاب الصلاة باب بدء الأذان، وانظر: المصنف لعبد الرزّاق

=

٦٩

وقال ابن عبد البرّ - في فتح المالك بتبويب التمهيد على موطّأ مالك - وهو يريد أن يصحّح اختلاف أحاديث الأذان بقوله: (روى عن النبيّ في قصَّة عبد اللَّه بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعانٍ متقاربة، وكلّها تتّفق على أنَّ عبد اللَّه بن ز يد أُري النداء في النوم، وأنَّ رسول اللَّه أمر به عند ذلك، وكان ذلك أوّل أمر الأذان...) (117) .

فهذا النصّ وما سبقه يتضح منهما أن غالب أهل السنّة والجماعة يقولون بعدم توقيفيّة الأذان بالنحو الذي تقوله الشيعة، إذ العامة يستدلون على شرعيّة الأذان بمنام عبد اللَّه بن زيد حتّى إنّ بعض أمراء الجور أفرد الإقامة لحاجة له.

والعجب في هذا الباب ما قاله ابن عبد البرّ في موضع آخر من الكتاب المذكور: (في حديث هذا الباب لمالك وغيره من سائر ما أوردنا فيه من الآثار أوضح الدلائل على فضل الرؤيا وأنّها من الوحي والنبوّة، وحسبك بذلك فضلاً لها وشرفاً، ولو لم تكن وحياً من اللَّه ما جعلها شريعة ومنهاجاً لدينه) (118) .

قال أبو عمر (119) : (اختلفت الآثار في صفة الأذان و إن كانت متّفقة في أصل أمره، كان من رؤيا عبد اللَّه بن زيد، وقد رآه عمر بن الخطّاب أيضاً) (120)! !!.

أفلا يدل قوله هذا على أنّ لعبد اللَّه بن زيد وعمر بعض النبوّة؟!!

____________________

=

1: 463/ 1793.

(117) فتح المالك 2: 3.

(118) فتح المالك 2: 7.

(119) هو ابن عبد البرّ.

(120) التمهيد لابن عبد البر 24: 27.

٧٠

كانت هذه صورة مصغّرة عن اختلاف الآراء في مدرسة الخلفاء حول بدء تشريع الأذان، وكيف اتفقت مدرسة أهل البيت ومعها الصحابة المتعبدون على أنّه كان في الإسراء بتعليم من اللَّه العليّ العظيم.

٧١

تحقيق في ما وراء نظريّة الرؤيا

بعد أن توصلنا إلى وجود اختلاف بين المسلمين في كيفيّة تشريع هذه الشعيرة الإسلامية، وعلمنا أنّ أهل بيت النبوّة لا يقبلون فكرة الرؤيا، حاولنا تحديد زمن النزاع بين المسلمين، والدوافع الكامنة وراء طرح مثل هذه الآراء في الشريعة.

ممّا لا شك فيه أنّ قدرات المسلمين وأفهامهم وإدراكاتهم لحقيقة الإيمان والإسلام لم تكن بمرتبة واحدة. فالبعضُ منهم كان يفهم مغزى الرسالة ومكانة الرسول وما يريده اللَّه من أوامره ونواهيه بدّقة عالية فكان يتعبد بما قاله رسول اللَّه ولا يرى لنفسه الخيرة من أمره. والبعض الآخر كان يرى لنفسه حقّ التشريع وإبداء الرأي مسمّياً فعله بالاجتهاد. وهناك اتّجاه ثالث أغرق في النزع، فراح يتعامل مع الرسول كأنّه رجل حارب فانتصر! ورابع وخامس و...

وقد أوضحنا في دراستنا لأسباب "منع تدوين الحديث" ونتائجه هذه الاتجاهات، وقلنا: إنّها جميعاً تنخرط وتنتظم في نهجين هما:

1 - المتعبدون = التعبد المحض.

2 - المجتهدون = الاجتهاد بالرأي.

ونحن لا نريد أن نعود إلى ما كتبناه سابقاً، بل نريد الإشارة إلى بعض الشي‏ء

٧٢

عن هذين النهجين، مؤكدين الكلية التي رسمناها في دراسة ملابسات التشريع، مبينين كيفية تطبيقها في مفردة الأذان، وكيف ارتبطت قضية الأذان بالمنام بعد ثبوتها في الإسراء والمعراج، وما هو ارتباطها بالرؤيا التي أقلقت النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ تلك الرؤيا التي رأى (صلّى الله عليه وآله) فيها بني أميّة يَنْزُون على منبره الشريف نَزْوَ القردة؟

وقد رأينا تقديم شي‏ء من خبر الإسراء والتحريفات الواقعة فيه؛ لارتباطه ببيان رؤيتنا بصدد الرؤيا في الأذان، وهو بيان لدواعي اختلاف المسلمين في بدء الأذان، فنقول:

إنّ خبر الإسراء والمعراج ثابت لا كلام فيه، وقد وردت سورة باسم الإسراء في الذكر الحكيم. وقد اختلف المسلمون في يوم الإسراء ومكانه وكيفيّة عروجه (صلَّى الله عليه وآله) إلى السماء، وما جرى في الإسراء والمعراج، وهل أُسري به مرّة أو مرّتين (121) أو أكثر من ذلك (122) ، وهل كان عروجه بروحه وجسده أم بروحه فقط؟ على أنّ هناك من فَصَّل بين إسرائه ومعراجه، فقال بأن إسراءَهُ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بروحه وجسمه، وأنّ عروجه إلى السماء كان بروحه فقط؟

فالذين لا يدركون عمق الرسالة ومكانة الرسول شكّكوا في حقيقة الإسراء والمعراج وقالوا بأشياء لا تتفق مع رسالة الغيب والوحي، وقد ارتدّ بعض من أَسلَمَ حينما سمع بخبر الإسراء، وهناك من ثبت على الدين وصَدَّق بما قال الرسول وبما حكاه من مشاهدات ومغيّبات، كبعض الصحابة المتعبدين المخلصين الذين شهد له

____________________

(121) انظر: على سبيل المثال تفسير ابن 3: كثير 22 حيث قال: وقد صرّح بعض من المتأخّرين بأنّه‏ (عليه السلام) أُسري به مرّة من مكّة إلى بيت المقدس فقط، ومرّة من مكّة إلى السماء فقط، ومرّة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء.

(122) الخصال: 600. وانظر: علل الشرائع: 149.

٧٣

التاريخ بصدقهم ووفائهم وبقائهم على العهد الذي فارقوا رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله).

نعم، قد اختلفت النصوص في مكان الإسراء، فالبعض منها صرحت بأنّه (صلّى الله عليه وآله) أسري به من شعب أبي طالب (123) ، والأُخرى من بيت خديجة (124) ، وثالثة من بيت فاختة (أمّ هاني) بنت أبي طالب (125) أخت الإمام عليّ، ورابعة من بيت عائشة (126) .

ففي تفسير الطبري بإسناده عن أبي صالح بن ياذم، عن أُمّ هاني بنت أبي طالب في مسرى النبيّ، أنّها كانت تقول: ما أُسري برسول اللَّه إلّا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلّى العشاء الآخرة ثمّ نام ونمنا، فلما كان قُبيل الفجر أهبَّنا رسول اللَّه، فلمّا صلّى الصبح وصلّينا معه قال: (يا أُمّ هاني، لقد صلّيتُ معكم العشاء الآخرة كما رأيتِ بهذا الوادي، ثمّ جئتُ بيت المقدس فصلّيت فيه، ثمّ صلّيت صلاة الغداة معكم الآن كما تَرَين) (127) .

وفي بعض الآثار أنّ أمّ هاني قالت: فقدتُه (صلّى الله عليه وآله) وكان نائماً عندي فامتنع منّي النوم مخافةَ أن يكون عرض له بعض قريش. و يقال: أنّه تفرّقت بنو عبد المطلّب يلتمسونه، ووصل العبّاس إلى ذي طُوى وهو ينادي: يا محمّد، يا محمّد، فأجابه (صلّى الله عليه وآله).

____________________

(123) فتح الباري 7: 160 كتاب أحاديث الأنبياء، باب المعراج، الدرّ المنثور 4: 149 سورة الإسراء عن ابن أبي حاتم عن قتادة.

(124) المجموع النووي 9: 248 باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فرع في مذاهب العلماء في بيع دور مكّة، شرح الأزهار 1: 199.

(125) المغني 10: 616 كتاب الجزية، الشرح الكبير 10: 621 كتاب الجزية، فتح الباري 7: 160، تحفة الأحوذي 9: 193.

(126) الدرّ المنثور 4: 154 - 157 سورة الإسراء الآية 1، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1: 194.

(127) تفسير الطبري 3: 15 سورة بني إسرائيل الآية 1.

٧٤

فقال: يا ابن أخي، أعيَيْتَ قومك! أين كنت؟

قال: (ذهبتُ إلى بيت المقدس).

قال: مِن ليلتك؟!

قال: (نعم).

قال: هل أصابك إلّا خير؟

قال: (ما أصابني إلّا خير)، وقيل غير ذلك (128) .

وفي روضة الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: (لمّا أسري برسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله) أصبح فقعد فحدَّثهم بذلك؛ فقالوا له: صِفْ لنا بيت المقدس. قال: فوصف لهم، و إنّما دخله ليلاً فاشتبه عليه النعت، فأتاه جبرئيل فقال: انظر هاهنا، فنظر إلى البيت فوصفه وهو ينظر إليه، ثمّ نعت لهم ما كان من عِير لهم فيما بينهم وبين الشام، ثمّ قال: هذه عير بني فلان تَقدِم مع طلوع الشمس يتقدّمها جملٌ أورَق أو أحمر. قال: وبعثت قريش رجلاً على فرس ليردّها، قال: وبلغ مع طلوع الشمس، قال قرطة بن عبد عمرو: يا لَهفا!! ألّا أكون لك جذعاً حين تزعم أنّك أتيت بيت المقدس ورجعت من ليلتك) (129) .

وفي أمالي الصدوق بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لمّا أسري برسول اللَّه إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البُراق، فأتَيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلّى بها وردّه، فمرّ رسول اللَّه في رجوعه بعِيرٍ لقريش، و إذا لهم ماء في آنية وقد أضلّوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه، فشرب رسول اللَّه من ذلك الماء وأهرق باقيه.

____________________

(128) تفسير روح المعاني 6: 15 سورة بني إسرائيل الآية 1، الدر المنثور 4: 149 سورة الإسراء الآية 1.

(129) روضة الكافي 8: 262 / الحديث 376. وانظر: الدرّ المنثور 4: 148 - 149.

٧٥

فلما أصبح رسول اللَّه قال لقريش: إنّ اللَّه جلّ جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم، وإنّي مررت بعِيرٍ لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلوا بعيراً لهم فشربتُ من مائهم وأهرقتُ باقي ذلك، فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة منه، فاسألوه: كم الأساطينُ فيها والقناديل؟

فقالوا: يا محمّد، إنّ ها هنا من قد دخل بيت المقدس، فصِفْ لنا كم أساطينُه وقناديله ومحاريبه؟

فجاء جبرئيل فعلّق صورة بيت المقدس تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه، فلمّا أخبرهم، قالوا: حتّى تجي‏ء العير ونسألهم عمّا قلت، فقال لهم رسول اللَّه: تصديقُ ذلك أن العِير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جملٌ أورَق.

فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العَقَبة و يقولون: هذه الشمس تطلع [علينا] الساعة، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العِير - حتّى طلع القرص - يقدمها جمل أورَق، فسألوهم عمّا قال رسول اللَّه فقالوا: لقد كان هذا؛ ضلّ جمل لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماءً فأصبحنا وقد أهريق الماء فلم يَزِدْهم ذلك إلّا عُتوّاً) (130) .

وروى البغوي في تفسيره عن ابن عبّاس وعائشة عن رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله): (لمّا كانت ليلة أُسري بي أصبحت بمكّة فضِقتُ بأمري وعرفتُ أنّ الناس يكذّبوني)، فروي أنّه (عليه الصلاة والسلام) قعد معتزلاً حزيناً، فمرّ به أبو جهل فجلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل استفدتَ من شي‏ء؟

قال: (نعم، إنِّي أُسري بي الليلة).

قال: إلى أين؟

____________________

(130) أمالي الصدوق: 363، المجلس 69 - الحديث 1. وانظر: الدرّ المنثور 4: 148.

٧٦

قال: (إلى بيت المقدس).

قال: ثمّ أصبحتَ بين ظَهرانينا؟!

قال: (نعم).

فلم يُرِهِ أبو جهل أنّه ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث، قال: أتُحدِّثُ قومك بما حدثتني به؟

قال: (نعم).

قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤيّ، هلمّوا. قال: فانقضّت إليه المجالس فجاءوا حتّى جلسوا إليهما، قال: فحدِّثْ قومك بما حدّثتني؟

قال: (نعم، أنّه أُسري بي الليلة).

قالوا: إلى أين؟

قال: (إلى بيت المقدس).

قالوا: ثمّ أصحبت بين ظهرانينا؟

قال: (نعم).

قال: فمِن بين مصفّق، ومن بين واضعٍ يدَه على رأسه متعجّباً للكذب، وارتدّ ناسٌ ممن كان آمن به وصدّقه.. (131) .

قال ابن إسحاق: وحدِّثتُ عن الحسن:.... فلمّا أصبح صلى الله عليه وآله غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: هذا واللَّه الأمر البيِّن! واللَّه إنّ العِير لتطرد شهراً من مكّة إلى الشام؛ مُدبرةً شهراً ومُقبلةً شهراً، فيذهب ذلك محمّد في ليلة واحدة و يرجع إلى مكّة!

____________________

(131) تفسير البغوي 3: 79. وانظر: مختصر تاريخ دمشق 17: 189 ترجمة عليّ بن أحمد بن المبارك.

٧٧

قال: فارتدّ كثير ممن كان أسلم (132) .

* * *

كان هذا بعض الشي‏ء عن الإسراء والمعراج وتكذيب قريش بهما، وارتداد بعض المسلمين، وقد سعت قريش وعن طريق حكّام بني أميّة وبعض علماء البلاط في العصور المتأخّرة إلى التشكيك في الإسراء والمعراج والتقليل من عظمة هذا الأمر الإلهيّ ومكانة الرسول بطرح تشكيكات ذات طابع جدلي، كالقول باستحالة صعود الأجسام إلى العالم العلوي بهذه السرعة الخارقة للعادة بحيث يذهب في آخر الليل ويرجع إلى مكّة عند الفجر، وعدم تطابق ما قيل في مقدمات هذا السفر الإلهي من شقّ الصدر وغسله بماء زمزم وركوبه (صلّى الله عليه وآله) البراق و... مع العقل.

كلّ تلك التساؤلات، بل قل التشكيكات، جاءت مساوقة للتشكيك في مدلول قوله تعالى في الآية 60 من سورة الإسراء؛ إذ قال سبحانه ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ) حيث قالوا بأنّ الإسراء والمعراج كان بروحه (صلّى الله عليه وآله)، لا بجسمه وروحه، كي يقللوا من واقع الإسراء ويعضّدوا القول بأنّه كان في المنام لا في اليقظة و...

فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عائشة (رضى اللَّه تعالى عنها)، قالت: ما فقدتُ جسدَ رسولِ اللَّه، ولكنّ اللَّه أسرى بروحه (133) .

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنّه كان إذا سئل

____________________

(132) أحكام القرآن للقرطبي 10: 285 سورة بني إسرائيل الآية 60.

(133) الدرّ المنثور 4: 157. وفي تفسير الطبري 15: 13 حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثني بعض آل أبي بكر أنّ عائشة كانت تقول: ما فُقد جسدُ رسول اللَّه ولكنّ اللَّه أسرى بروحه.

٧٨

عن مسرى رسول اللَّه قال: كانت رؤيا صادقة (134) .

قال القرطبي في تفسيره: وقد احتُجَّ لعائشة بقوله تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) فسمّاها رؤيا.

وهذا يردّه قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ) ، ولا يقال في النوم (أسرى)، وأيضاً فقد يقال لرؤية العين (رؤيا)... وفي نصوص الأخبار الثابتة دلالة واضحة على أنّ الإسراء كان بالبدن... (135) .

وقال ابن عطيّة الأندلسي:... والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، ولو كانت منامة ما أمكن قريشاً التشنيع، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق، ولا قالت له أمّ هاني: لا تُحدِّث الناس بهذا فيكذبوك، إلى غير هذا من الدلائل.

واحتجّ لقول عائشة بقوله تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) ويحتمل القول الآخر؛ لأنّه يقال لرؤية العين (رؤيا). واحتجّ أيضاً بأنّ في بعض الأحاديث (فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام)، وهذا محتمل أن يريد من الإسراء النوم.

واعترض قول عائشة بأنّها كانت صغيرة لم تشاهد ولا

____________________

(134) الدرّ المنثور 4: 157. وفي تفسير الطبري 15: 13 حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنّ معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول اللَّه ‏(صلَّى الله عليه وآله) قال: كانت رؤيا من اللَّه صادقة!

(135) تفسير القرطبي 10: 209 سورة الإسراء الآية 1.

٧٩

حدّثت عن النبي عليه السلام. وأمّا معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال، صغيراً، ولم يحدّث عن النبيّ... (136) .

وقال ابن كثير:... فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شي‏ء، ولم يكن مستعظماً، ولما بادرت قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدّت جماعة ممّن كان قد أسلم. وأيضاً فإن (العبد) عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال: ( أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ) ... (137) .

و يجري مجرى قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ) ما في سورة النجم، فقوله تعالى: ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) (138) لا يتّفق مع الرؤيا، بل الآية في سياق الامتنان وبيان آيات ربّه الكبرى. أمّا الرؤيا، فهي نحو من التخيّل يتفق للصالح والطالح ولا منزلة للرسول في القول بهذا.

هذا ويمكن إجابة كلّ التساؤلات والتشكيكات بأنّ الأمر كان معجزةً، والمعجزةُ لا تدركها العقول البسيطة، فهي من قبيل إحياء الأموات، وتبديل العصى ثعباناً، وكولادة عيسى من غير أَب، وخروج ناقة صالح من الجبل الأصم، وقوله تعالى: ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ

____________________

(136) المحرر الوجيز 3: 435، وانظر: تفسير الثعالبي 2: 248.

(137) تفسير ابن كثير 3: 23 سورة الإسراء آية 1.

(138) النجم: 17 - 18.

٨٠