الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 228

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 228
المشاهدات: 77049
تحميل: 6334


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77049 / تحميل: 6334
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

غير أن في الهاشميّين رجالاً كثيرة تصلح للرئاسة، وتقوى على التدبير والسياسة، أفيثب بهم ربّ الخلافة وربيب الامامة أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام ، أم عبد اللّه بن الحسن فاضل بني الحسن وشيخهم أم ابنه محمّد من جمع مِن المكارم كلّ خلّة، أم اخوة ابراهيم أبي الضيم، أم ابراهيم بن محمّد العبّاسي، أم أخواه السَّفّاح والمنصور، أرباب الهمم والشمم، أم عبد اللّه بن معاوية الجعفري الذي أهّلته المفاخر والمكارم لذلك المقام، أم سواهم وهم عدّة كاملة، لو رشّح نفسه كلّ فرد منهم لتلك الزعامة لزانها بجميل خصاله.

بيد أن الصادقعليه‌السلام لو تقدم لها لم يسبقه اليها أحد، لفضله وكثرة شيعته، ولكنه كان يدافع من يستحثّه، ولا يجيب من يستنهضه.

ولمّا لم يجدوا عنده أملاً للنهوض عدلوا عنه إلى غيره، فتارةً يبايعون محمّداً وفي طليعتهم أبوه وأخوه وبنو الحسن وبنو العبّاس، واُخرى يدعو أبو مسلم في خراسان للعبّاسيّين، وأبو سلمة الخلال بالكوفة للرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطوراً يثب ابن جعفر في كوفان فلا يتمّ له أمر، وتارةً يظهر في فارس فلا يستقيم له شأن، فيهرب إلى أبي مسلم في خراسان، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، لأنّ حتفه كان على يديه، ولم تمض برهة طويلة على تلك الأعاصير الهائجة، والأجواء المضطربة، حتى استقرَّ الأمر في بني العبّاس.

تلك الأقدار هي التي طوحت بالأمر حتى جعلته في أحضان السفّاح والمنصور، وإلا فمَن الذي كان يحتسب أن الأخوين اللذين كانا يتنقّلان في الأحياء يرويان للناس فضائل أبي الحسن ذريعة للاستعطاف والاستجداء واللذين بايعا ابن الحسن يوم اجتماعهم بالأبواء من دون تلكّؤ وأمل بالمُلك واللذين كانا تحت راية ابن جعفر وفي جنده يوم ظهر في فارس ينيلهما من وفره، هما اللذان يتواليان على دسّت الحكم، ويكونان السالبين لعروش اُميّة، ومَن الذي كان يخال أن ابن جعفر فارس الوثبة يكون قتيل داعيتهما أبي مسلم، وما هما إلا بعض جنده، ومَن الذي كان يظنّ أن ابن الحسن الذي أمّل نفسه وأمّلته الناس بالخلافة وبايعته على الموت يصبح وأخوه إبراهيم صريعين بسيف المنصور.

٢١

شاءت الأقدار - ومن يغلب القدر - أن يثب على كرسيّ الحكم بنو العبّاس، وتصبح الدولة الاُمويّة أثراً بعد عين، وخبراً بعد حسّ، فلا أسف على من فات، ولا فرح بالآت، تذهب أُمة فاجرة وتأتي دولة جائرة.

ارتقى السَفَّاح منصَّة الحكم فضحكت له الدنيا بعد تقطيب وأقبلت عليه بعد إدبار، ولكن هل يسلم المرء - وإن أقبلت عليه الدنيا بأسرها - من نوازل الهم ؟ أصبح ابن عبّاس بين هميّن همّ تطهير البلاد من الاُمويّين لتخلص له الأُمّة، وهمّ المنافسة على العرش من بني علي، العرش الذي لم ترسخ أُسسه بعد، ولم تثبت قوائمه، وما أسرع ما يميد إذا عصفت أعاصير الوثبات عليه، ولم يسترح بعد من همّه الأوَّل حتى أقلقه الثاني، وكيف يأمن من العلويّين، وأبو عبد اللّه الصادقعليه‌السلام إمام مفترض الطاعة عند شطر من هذه الاُمّة، وعند كثير من أجنادهم الذين قلبوا بهم عروش بني مروان، وهل قتلوا أبا سلمة الخلال إلا لأنهم أحسّوا منه أنه يريدها لبني علي، وأن البيعة للسفّاح كانت بالغلبة عليه وإعجاله عليها.

وكيف يأمن ألا ينافسه العلويّون ومحمّد بن الحسن كانت له البيعة يوم الأبواء، وهو الذي صفّق السفّاح والمنصور بيديهما على يده، وهو الذي كان المؤهَّل للعرش الذي وثبوا عليه، وما زالت تلك الأماني تخالج نفسه ولأيّ شيء اختفى يوم ظهر السفّاح ؟ أليس الليث قد يربض للوثبة ؟

حاول ابن عبّاس أن يستريح من هذا الهمّ فأرسل خلف الصادقعليه‌السلام إلى الحيرة ليوقع به وإن لم يظهر ما يتخوّفه على سلطانهم، فلما وصلها ضيَّق عليه، ولكن لمّا لم يجد عنده هاتيك المخاوف سرَّحه إلى المدينة راجعاً والهواجس تساوره.

ثمّ صار يتطلّب ابني عبد اللّه بن الحسن، وهما مختفيان خوفاً من بطشه وكلّما جدَّ في العثور عليهما جدّا في الاختفاء.

انقضى دور السفّاح القصير والصادقعليه‌السلام وادع في المدينة وابنا الحسن خلف ستور الخفاء، وما جاءت أيام المنصور إلا واشتدَّ على العلويّين،

فما ترك الصادق يقرُّ في دار الهجرة بل صار يجلبه إليه مرَّة بعد اُخرى ويلاقيه بالاساءة عند كلّ جيئة، ويهمّ بقتله في كل مرَّة، وما زال معه على هذه الحال إلى أن قضى عليه بالسمّ.

٢٢

وأما محمّد وابراهيم فكان يفحص عنهما بكلّ ما اُوتي من حول وحيلة فكان يعلن بالأمان لهما مرَّة، ويشتدّ على أبيهما وبني الحسن اُخرى، فلم تنفعه هذه الوسائل للوصول اليهما، والعثور عليهما، ثم حمل بني الحسن إلى العراق، واستودعهم غياهب السجون، حتى قضى أكثرهم بأشنع قتلة وما فتئَ أن فوجئ بوثبة محمّد بالمدينة والبصرة، وهذا ما كان يرقبه ويتذرَّع بالوسائل لصدِّه، ويتخوَّف عُقباه، غير أن القضاء غالب.

ملكَ بنُو العبّاس فظهر مكرهم وغدرهم، بايعوا ابن الحسن ثمّ جدّوا في طلبه وطلب أخيه للقضاء عليهما، حاول ابن عبّاس أن يضعا يديهما بيده استسلاماً، وكيف يستسلمان وفي النفوس إباء وعزَّة وآمال تؤيّدها الناس في طلب الوثبة، وإن خمدت فيهما تلك الروح الوثَّابة استفزَّها الناس بالحثّ على النهضة، فما زالوا بهما حتى وثبا بعد ذاك الاختفاء الطويل.

وما كانت تلك الغدرة من بني العبّاس ببني الحسن الوحيدة في سلطانهم، غدر المنصور بأبي مسلم باني كيان دولتهم، وقتلوا أبا سلمة الخلال وحبسوا يعقوب بن داود، وقتلوا الفضل بن سهل، وما سوى هؤلاء وكم همَّوا بعليّ بن يقطين وجعفر بن محمّد الأشعث الوزيرين.

وغدر المنصور أيضاً بعيسى بن موسى العبّاسي وعزلَه عن ولاية العهد وولّى مكانه ابنه المهدي، وكانت الولاية لعيسى جعلها له المنصور بدلاً عن بلائه في حرب محمّد وإبراهيم وقضائه عليهما وعلى نهضتهما، تلك النهضة التي أقلقت المنصور وجعلته يعتقد بزوال سلطانه.

وغدر الرشيد بوزرائه البرامكة وبيحيى الحسني بعد الأَمان، وغدر الأمين بأخيه المأمون حين عزله عن العهد، والمأمون بالرضاعليه‌السلام حين سمَّه بعد بيعته بولاية عهده، إلى ما لا يحصى ممّا كان منهم من غدرة وفجرة.

وإن أعظم غدر منهم ما كان مع بني الحسينعليه‌السلام ، كانت شيعة بني علي جند بني العبّاس في إزالة دولة بني مروان كما تقدم، وكان شعارهم الطلب بثأر القتلى من أهل البيت، وهل قتل بسيف الأمويّين غير الطالبيين ؟ وهل لقي الشِدَّة والضيق من الاُمويين غير العلويين ؟ ولئن لاقى سواهم من الهاشميّين شيئاً من ذلك فلا يشبه ما حلَّ بآل أبي طالب.

٢٣

ندب العبّاسيّون الناس لطلب الثأر بل ندبهم الناس اليه، وكانت هذه أمضى وسيلة لنيل إربهم، فما استقرَّت أقدامهم في حظيرة المُلك إلا وراحوا يتتبعون آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكأن العترة هم الذين جنوا في تلك الحوادث القاسية يوم الطفّ، وسبوا عقائل النبوة، وأنزلوا بزيد ويحيى وغيرهما هاتيك الفظائع المؤلمة، وكأنّما القتلى والأسرى كانت من بني العبّاس والجناة عليهم العلويّون، وكأن لم يكن العلويّون هم الذين نهض الناس انتقاماً لهم، وللأخذ بتراتهم.

ما انجلت الحوادث عن طرد الاُمويّين إلا وأهل البيت صرعى تلك الحوادث بدلاً من أن ينالوا العطف من بني العبّاس لما حلَّ بهم من فواجع دامية من الاُمويّين، ولما ناله العبّاسيّون أنفسهم من المُلك الفسيح بهم.

هكذا انجلت الغبرة بعد استلام العبّاسيّين أزمة الحكم، فما نسيت الناس حوادث أهل البيت من الاُمويّين حتى كانت المقارع على رؤوسهم من بني العبّاس يتبع بعضها بعضاً من دون رحمة، ولا هوادة، ولا فترة، لماذا هذا كلّه، ولماذا كان أهل البيت دون غيرهم بيت المصائب والنوائب ؟ فلنبحث عن السبب في الفصل الآتي:

ما جناية أهل البيت ؟

هتف القرآن المجيد بآيات كثيرة في شأن أهل البيت، آمراً بمودَّتهم مخبراً عن طهارتهم، حاثّاً على الاعتصام بهم، حاضّاً على طاعتهم، معلناً عمّا لهم من جزيل الفضل وعظيم المنزلة.

٢٤

وأتبعه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته كاشفاً عمّا جمعه آله من الفضائل، وحبوا به من المفاخر، يوجب تارةً طاعتهم واتّباعهم، ويلزم أُخرى بمودّتهم ويعطف طوراً للقلوب عليهم ويستميل مرّة النفوس اليهم إلى ما سوى ذلك(١) .

وما كان ذلك إلا لسعادة الناس أنفسهم ليأخذوا الدين من أهله والعلم من معدنه، فكان الحقّ على الناس احترامهم، والانقطاع اليهم والانصراف عن غيرهم.

كان أهل البيت - أعني عليّاً والزهراء وابنيهما وأبناء الحسينعليهم‌السلام - مثالاً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شمائله وفضائله وخصاله وفعاله، فمن أراد علم الرسول كانوا باب مدينته، ومن أراد منطقه كانوا مظهر فصاحته وبلاغته، ومن أراد خُلقه وجدهم أمثلة سيرته، ومن أراد دينه وجدهم مصابيح شريعته، ومن أراد زهده وجد فيهم منهاج طريقته، ومن أراد البرّ بعترته كانوا صفوة ذرّيته، ومن أراد النظر اليه كانوا جمال صورته، هكذا كان أهل البيت إن قستهم إلى صاحب البيت، وهذا بعض ما كانوا فيه مثالاً لشخصيّته الكريمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومَن كانت له عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترة فمنهم الأخذ بترته، أو كان له مع الاسلام عداء فهم للاسلام أقوم عدَّته، أو كان له مع الدين غضاضته فإنهم للدين أوقى جنّته، أو كان له مع المعروف حرب فهم للمعروف أبناء دعوته أو كان له مع المنكر ولاء فهم أعداء خطَّته.

وإن ذكر الخير كانوا أدلاءَه، أو سار الفضل كانوا لواءه، أو نشر العدل كانوا أخلاءَه، أو خاض الناس في المفاخر كانوا أبعدهم قعراً وأثمنهم درّاً، أو تسابق أهل الفخر إلى المكارم كانوا أسبقهم جولة، وأبعدهم شوطاً، وإن تنافسوا في الشرف كان عندهم الوقوف والاحجام، فما من فضيلة إلا وإليهم مآلها، ومنهم انتقالها.

____________________

(١) ذكرنا في كتابنا «الشيعة وسلسلة عصورها» بعض ما جاء في الكتاب والسنّة في شأن أهل البيت وفضلهم والدعوة الى ولائهم.

٢٥

فاذا كان أهل البيت كما وصفنا فكيف لا يقف معهم بنو أُميّة موقف العدوّ اللدود، والخصم العنود، ألم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قتل منهم في اللّه من قتل، فمتى يأخذون منه تراتهم، ولو أغضوا عن حماة الاسلام، ودعاة الدين لعاد النبيّ بدعوته، كأنه لم يمت ولم يمت ذكره، ولسار الاسلام وأحكامه ونظامه كما أراده الجليل تعالى والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو وقفوا معهم موقف المحايد لعرف الناس فضل أهل البيت وبان للعالم حقّهم، ولما بقيت عندئذٍ لأُميّة وسيلة لارتقاء منابر الاسلام، وذريعة للاستيلاء على البلاد واسترقاق العباد.

ما برحت أُميّة تظهر وتضمر العدل للرسول الأطهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا بدع لو كانت مواقفهم مع آل الرسالة تلك المواقف المشهودة ولو كانوا على غير ما عرفته الأيام منهم لكان ذلك بدعاً من خلائقهم وأخلاقهم.

وأما بنو العبّاس، فإنهم حين ملكوا الأمر، وعبروا الجسر إلى مآربهم، الجسر الذي أقاموه على أكتاف الشيعة، ورفعوا أعمدته من جماجم اُولئك السذّج، عرفوا أن الحال إن هدأت سوف يحاسبهم الناس على الحقّ وموضعه والخلافة وأهلها، لأنهم لم ينهضوا معهم إلا لهدم عروش أُميّة، وللأَخذ بترات الدماء الزكيّة التي أُريقت من غير جرم، ولبناء خلافة الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما قاموا وقاوموا لأن يقيموا عرشاً لبني العبّاس دون بني علي فارتأى العبّاسيّون أن يفتكوا بالرجال الذين عبَّدوا لهم السبل، ووطّدوا لهم الطريق لاعتلاء أسرَّة الحكم، كأبي سلمة الخلال وغيره، حذراً من ذلك الحساب ورأوا أن يضيِّقوا على أبناء علي، ويضعوا عليهم العيون والرصد، خوفاً من تلك النزعات التي تخالج نفوسهم أو يحملهم عليها الناس، ورأوا أن يكمّوا أفواه الشيعة بالإرهاب خشية من ذلك السؤال والحساب.

فما كانت جناية أبناء عليّ لديهم إلا أنّهم أهل الحقّ والمقام، وأهل البيعة والخلافة، بالقرابة أو بالنصّ أو بالفضيلة.

٢٦

ولم يكن شيء يدعوهم لإنزال الضربات بالعلويّين سوى أن العلويّين أجدر بالخلافة التي غلب عليها العبّاسيّون، وأن العبّاسيّين لا يأمنون من وثباتهم ما برح لأبناء عليّ مكانة سامية بين الناس، وما برح فيهم قروم تطمح اليهم الأنظار وتهوى اليهم القلوب، فاتخذ العبّاسيّون الغضّ من كرامة آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفتك باُولئك القروم ذريعة لميل النفوس وانكفاء الأهواء عنهم، ولو حذرا من الفتك والبطش، كما كان دأبهم الإرغام لمعاطس شيعة أهل البيت والتنكيل بهم، لئلا تكون لهم قوَّة وشوكة يستعين بها أهل البيت على النهضة.

والفرق بين الأُمويّين والعبّاسيّين هو أن الذي دعا الأُمويّين لحرب الهاشميّين شيئان: الانتقام من الرسول، والتسلّق للزعامة، والذي دعا العبّاسيّين: نيل العروش والذبّ عنها فقط، دون أن يكون منهم حرب مع النبيّ وشريعته بقصد، وإن كان حربهم لعلماء الشريعة حرباً للشريعة وللصّادع بها.

ولو ألقيت نظرة مستعجلة على ما لقيه أهل البيت من أجل تقمّصهم بالفضائل لعرفت كيف تحارب الدنيا الدين، وكيف انطبع الناس على حبّ الدنيا وحلفائها، وعلى عداء الدين وحلفائه، ولأبصرت أن بني العبّاس جَروا في مضمار بني أُميّة، وإن سبقوهم شوطاً بعيداً في حرب أهل البيت.

قتلَ بنو أُميّة الحسين بن عليعليهما‌السلام في الطفّ ومعه صفوة زاكية من أهل بيته، ونخبة صالحة من أصحابه، حيث وثب مُنكِراً عليهم تلاعبهم بالدين حسب الأهواء، وقتَل بنو العبّاس الحسين بن علي بفخّ ومعه غرانيق من العلويّين عزَّ على وجه الأرض نظيرهم، حين نهض مُنكِراً عليهم ما ارتكبوه من الأعمال التي أغضبوا بها الدين وأهله.

سمَّ بنو أُميّة من الأَئمة ثلاثة: الحسن والسجّاد والباقرعليهم‌السلام ، وسمَّ بنو العبّاس منهم ستة: الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكريعليهم‌السلام .

٢٧

أرسل هشام بن عبد الملك على الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى الشام لينال منهما سوءً فحين حلا بالشام لم يجد بدّاً من إكرامهما وتسريحهما إلى المدينة حذراً من أن يفتتن بهما الناس، وأمّا بنو العبّاس فلم يتركوا إماماً يقرّ في بيته، أرسل السفّاح خلف الصادق، وأرسل المنصور أيضاً خلفه مرّات عديدة، وأرسل الرشيد خلف الكاظم وحبسه ثمّ أطلقه، ولم يطل العهد حتّى أرسل عليه مرّة أُخرى، فما خرج من الحبس إلا وهو قتيل السمّ، ولا تسل عمّا ارتكبه معه حين إخراجه من السجن والنداء عليه على الجسر، وأرسل المأمون خلف الرضا إلى طوس، فما عاد إلى أهله بل عاجله بالسمّ وهو في خراسان، وأرسل خلف الجواد ثمّ سرَّحه من دون أن يأتي اليه بسوء، وما قبض المعتصم زمام الأمر إِلا وأرسل خلف أبي جعفر الجوادعليه‌السلام وحبسه، وما أطلقه من السجن حتّى دبَّر الحيلة في قتله بالسمّ، وأرسل المتوكّل خلف أبي الحسن الهاديعليه‌السلام وجدَّ في النيل من كرامته إلى أن هلك، وما زال يلاقي من ملوك العبّاسيّين ضروب الأذى والتضييق، يسجن مرَّة ويطلق أُخرى إلى أن سقاه المعتز السمّ، وبقي ولده أبو محمّد الحسنعليه‌السلام في سامراء، لا يأذنون له بالإياب إلى المدينة، ولا يتركونه قارّاً في بيته، بل يحبسونه مرَّة ويطلقونه أُخرى، إلى أن قضي بسمّ المعتمد، وصار يفحص عن ابنه أبي القاسم حين علم أن له ولداً ابن خمس يريد أن يقبضه ليقضي عليه، فتغيّب هارباً من جورهم وفتكهم حتى اليوم.

أباد الاُمويّون جماعة من العلويّين بالسمّ والحبس والقتل والصلب أمثال زيد ويحيى وفئة أُخرى يوم الحرَّة، وعبد اللّه أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة على قول وغيرهم، وأين هؤلاء من تلك العدَّة التي أبادها العبّاسيّون وكفى منهم قتلى فخ والعصابة التي قضوا في قعر السجون، وما ارتقى العرش عبّاسي إلا وقتل جماعة من العلويّين.

هرب من جور الأمويّين أمثال يحيى وعبد اللّه الجعفري وعدّة اُخرى ولكن أنَّى تُقاس كثرة بالذين هربوا واختفوا خوفاً من العبّاسيّين، وأين أنت عن القاسم وأحمد ابني الامام الكاظمعليه‌السلام وعيسى بن زيد وغيرهم، بل لم ينتشر العلويّون في الأقطار النائية كالهند وايران إلا هرباً من بني العبّاس وحذراً من بطشهم، وكان الكثير منهم يخفي نسبه حذراً من ولاتهم.

٢٨

ولئن غدر الاُمويّون ببعض العلويّين والعبّاسيّين فقتلوهم سمّاً فلا تسل عمّن غدر به العبّاسيّون من العلويّين، ولو تصفَّحت «مقاتل الطالبيّين» لعرفت ما ارتكبه منهم بنو العبّاس.

ولئن أحرق الاُمويّون بيوت أبناء الرسالة يوم الطف، فلقد أحرق العبّاسيّون دار الصادق عليه وعلى عياله، حتّى خرج الصادق اليها فأطفأها وقد سرت في الدهليز.

ولئن سلب الاُمويّون بنات الرسالة يوم الطف، فلقد أرسل الرشيد قائده الجلودي إلى المدينة ليسلب ما على الطالبيّات من حليّ وحلل، فكان الجلودي أقسى من الجلمد في إمضاء ما أراده فلم يترك لعلويّة ولا طالبيّة حلَّة ولا حلية.

وسيَّر هشام بعد حادثة زيد كل علوي من العراق إلى المدينة وأقام لهم الكفلاء ألا يخرجوا منها، وسيَّر موسى الهادي بعد حادثة فخ كلّ علوي من المدينة إلى بغداد حتى الأطفال فأُدخلوا عليه وقد علتهم الصفرة ممّا شاهدوه من الرعب والتعب والأحداث.

وهكذا لو أردنا أن نقايس بين أعمال الدولتين، فلا نجد للاُمويّين حدثاً في الإساءة لأهل البيت إلا وللعبّاسيّين مثله مضاعفاً، فكأَنما اتخذوا تلك الخطّة مثالاً لهم يسيرون عليها، وزاد العبّاسيّون أن اختصّوا بأشياء من فوادحهم مع العلويّين لم يكن للاُمويّين مثلها، كجعلهم العلويّين بالأبنية والاسطوانات حتّى جعل المنصور أساس بغداد عليهم، ولا تنسل عمّن وضعه الرشيد في تلك المباني من الفتية العلوية البهاليل.

وقطع الرشيد شجرة عن قبر الحسينعليه‌السلام كان يستظلّ بها زائروه، وهدم المتوكّل قبره وما حوله من الأبنية والبيوت، وحرث أرض كربلاء وزرعها ليخفي القبر وتنطمس آثاره، حتّى قيل في ذلك:

تاللّه إِن كانت اُميّة قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتته بنو أبيه بمثله

فغدا لعمرُك قبره مهدوما

أسفوا على ألا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما

٢٩

ولقد كانت أيام بني اُميّة ألف شهر وقد قتلوا فيها الأماثل من العلويّين ولو حسبت من بدء أيام بني العبّاس إلى ألف شهر لوجدت إن العبّاسيّين قد قتلوا من العلويين أضعاف ما قتله الاُمويّون، وما قتلوهم إلا وهم عالمون بما لهم من فضل وقربى، وهذا موسى بن عيسى الذي حارب أهل فخ يقول عن الحسين صاحب فخ وأصحابه: هم واللّه أكرم خلق اللّه وأحقّ بما في أيدينا منّا ولكنّ المُلك عقيم، لو أنّ صاحب هذا القبر - يعني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نازعنا المُلك ضربنا خيشومه بالسيف.(١)

على أن هذا الآثم الجريء اعترف بذنبه، ولكنه لم يذكر الحقيقة كلّها لأن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصفوة من آله لم يطلبوا المُلك للمُلك، وإِنَّما يطلبونه للدين وللأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولإزالة البدع والضلالات ولو طلبوا المُلك للمُلك لما رشقنا الاُمويّين والعبّاسيّين بنبال اللوم على ما جنوه مع الطالبيّين، وهل يُلام الظافر بقرينه إِذا تجالدا على السلطان.

أترى أن الحسين في نهضته، وزيداً في وثبته، ويحيى في جهاده، والحسين بفخّ في دفاعه، وأمثالهم من الطالبيّين أهل الدين والبصائر، كانوا يضحُّون بالنفس والنفائس لأجل السلطان، وكيف يتطلّبون الدنيا محضاً وهم دُعاة الدين، وأدلاء الهدى، ومصابيح الرشاد، وكيف يتطلّبون المُلك وهم يعلمون أن ما لديهم من قوَّة لا يفوز بها الناهض بالظفر والنصر، نعم ضحّوا بتلك النفوس الثمينة والنفائس لما عرفوه من أن الدين أنفس من نفوسهم، ومن استغلى الثمن هان عليه البيع، وهل عرف الناس الحقّ صراحاً، والدين يقيناً، إِلا بعد تلك القرابين، وهل ظهر الحقّ على الباطل في الحجّة والبرهان إِلا بعد ذلك الفداء.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين في مقتل الحسين بن علي صاحب فخ.

٣٠

كانت واقعة الطفّ وتضحيات العلويّين مثالاً لأرباب الدين وتعليماً لرجال الحقّ عند المنافسة بين الهدى والضلال، والحقّ والباطل، ولم تدع عذراً لدعاة الدين عن الفداء في سبيل النصرة، فإنهم بأعمالهم علّموهم كيف يكون الانتصار في هذه التضحية، وكيف تكون الحياة في هذا الممات، وإِنَّ تلك التجارب للجام الأفواه عن العذر بالعجز، إِذ ليس النصر لفوز العاجل وإِلا فإن يوم الحسين وأيام العلويّين كانت أيام الظفر لأعدائهم، ولكن ما عرف النّاس إلا بعد حين أن الظفر والفوز كانا لأُولئك العلويين الناهضين الذين بذلوا ما لديهم في سبيل الدين، وأن الخسران في الدنيا والدين لأعدائهم الظافرين في يومهم.

وبتلك الحوادث بانَ للعالم ما كان عليه أهل البيت من الدين والجهاد في إِحياء الشريعة، وما كان عليه أعداؤهم من الدنيا والحرب للدين، واتضحت نوايا الفريقين، وبانت أقصى غاياتهم من أعمالهم هاتيك، وإِلا فأيّ ذنب للطفل الرضيع وقد جفَّ لبنه وذبلت شفتاه عطشاً أن يقتل على صدر أبيه، حتّى يتركه السهم يرفرف كالطير المذبوح.

وأيّ ذنب للأطفال الذين لم يحملوا السلاح، ولم يلجوا حومة الحرب أن يُذبحوا صبراً، أو يُداسوا بالخيل قسراً.

وأيّ ذنب للنساء عقائل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تسبى على الهزل بعد السلب والسبّ الضرب، ولماذا تُحمل من بلد لآخر كما تساق الإماء.

ولو أن الحسين ورهطه قد حاربوا طلباً للسلطان لما استحقَّ بعد القتل أن يُداس جسمه ويُرفع على القناة رأسه، وتُسبى على المهازيل أهله، أترى أن قطع الرؤوس، ورضّ الصدور والظهور بسنابك الخيل، وسلب الجثث وتركها عارية، وإِبقاءها بالعراء بلا دفن، وأخذ النساء أسارى مّما يُجازى به القتيل الناهض للمُلك والسلطان.

إِن الذي يذر الملح على الجرح، وينكأ القرحة، ويزيد في النكبة أن القوم لم يفعلوا بالحسين وأهله تلك الفعلة النكراء الفظيعة عن جهل بمقامه، واعتقاد بخروجه عن الدين، بل إِنهم ليعلمون أنه صاحب الدين، وربّ الخلافة والامامة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وريحانة الرسول، بل يعلمون بكل ما له من سابقة وفضل.

وهكذا لو فتّشت عن الأمر في غير الحسينعليه‌السلام فإنك لتجد الحال في زيد ويحيى وأهل فخ، وما سواهم من أمثال أهل البيت الذين كانوا طعمة للسيوف، ومنتجعاً للسمّ، ووقفاً على الحبوس، كالحال في الحسين في المعرفة بهم والعمد على ظلمهم.

٣١

فلا بدع إِذن لو وضح للعالَم من تلك المواقف المشهودة، والمشاهد المعلومة، أن الحرب بين أهل البيت وبين أعدائهم من نوع حرب الفضيلة والرذيلة، وأن الذين يريدون العروش لا يستطيعون نيلها إِلا بمحاربة أهل البيت ومحوهم من صفحة الوجود، لأنهم يعتقدون أنهم لا يصلون إِلى الغاية ولأهل البيت شبح قائم، وظلّ يتفيّأه الناس، فما كانت جناية أهل البيت إِذن لدى الناس إِلا أنهم أهل الدين، وأرباب الفضائل، فلا ترتقي الناس أرائك الخلافة وأهل البيت أكفاؤها الذين خُلقت لهم وخُلقوا لها تعرفهم الأُمّة قياماً بين أبناء الاسلام.

المذاهِب والنِّحَل

كانت أيام أبي عبد اللّه الصادقعليه‌السلام أيام نِحَل ومذاهب، وآراء وأهواء، وكلام وبحث، وبدع وأضاليل، وشُبه وشكوك، ونحن الآن نذكر أُصول تلك الفِرق والمذاهب موجزاً، جرياً على السنن الذي درجنا فيه، لأن التبسّط في البحث يخرجنا عن خطّة الكتاب، وفي كتب المِلل والنِحل المعدَّة لهذا الشأن بعض الاغناء.

اُصول الفِرَق الإسلاميّة:

إِنَّ الأُمّة الاسلاميّة قد افترقت ثلاث وسبعين فرقة كما أنبأ عن ذلك نبيّنا الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: ستفترق اُمّتي على ثلاث وسبعين فِرقة(١) ، وتلك من أعلام نبوَّته وما أكثرها.

والذي نريد أن نبحث عنه في هذا الفصل هو ما كان من الفِرَق في عصر الصادق بارزاً يُعرف، ونخصّ البحث في الأُصول التي ترجع اليها الفِرَق المتشعّبة، وقد نشير الى بعض تلك الشُّعب بعد ذكر الأصل، وذلك أقرب للقصد، وأمسّ بالخطّة.

____________________

(١) سنن ابن ماجة: ٢/١٣٢١.

٣٢

إِن جميع أُصول الفرق الاسلاميّة، التي اليها المرجع والمآل أربعة: المرجئة، المعتزلة، الشيعة، الخوارج(١) فإن كلّ فرقة تنتمي إِلى أحد هذه الأُصول، وأما الغلاة وإِن رمتهم الفِرق الأُخرى بالكفر إِلا أنهم أيضاً من شُعب هذه الأُصول - ولو بزعمهم - فالكلام في هذه الأُصول الأربعة عنوان البحث.

١ - المرجئة

يمكننا أن نقول: إِن المرجئة اليوم يقصد منها الأشاعرة فحسب، وهم عامّة أهل السنّة في الاعتقاد في هذه الآونة، إِذ لم يبق على مذهب أهل الاعتزال في هذه الأزمنة أحد معروف.

كانت المرجئة قبل الأشعري فِرقاً متكثّرة، وكلّها قسم من أهل السنّة المقابل للشيعة والخوارج، غير أنه لمّا حدث مذهب الأشعري في الاعتقاد أصبح عنوان المرجئة عنواناً آخر لأهل السنّة، أو للمذهب الأشعري بوجه عامّ، قال الشهرستاني في المِلل والنِّحل(٢) : «وقيل الارجاء تأخير عليعليه‌السلام عن الدرجة الأُولى إِلى الرابعة» انتهى. وهذا كما ترى هو ما عليه أهل السنّة أجمع.

وليس من قصدنا أن نبحث عن جهة اجتماع هذه العناوين في المذهب الأشعري أو افتراقها عنه، وإِنما القصد الأوَّلي أن نعرف ما كان عليه المرجئة في ذلك اليوم، وليس من شكّ بأن المرجئة في ذلك العهد كانت فِرقاً ومذاهب يجمعها قولهم بالاكتفاء في الايمان بالقول وإِن لم يكن عمل، حتّى لو ارتكب مدَّعي الايمان من الجرائم والمآثم كلّ موبقة لما أخرجه ذلك عندهم عن ربقة الايمان، بل كان على ايمان جبرئيل وميكائيل، ورجوا لهؤلاء مرتكبي الكبائر المغفرة، ولعلّه من هنا سمّوا المرجئة أو من جهة أنّ اللّه تعالى أرجأ تعذيبهم، من الارجاء - التأخير - أو لتأخيرهم عليّاًعليه‌السلام عن الدرجة الأُولى إِلى الرابعة، كما ينقله الشهرستاني.

____________________

(١) فِرَق الشيعة لابي محمّد الحسن النوبختي: ١٧، وذكر ابن حزم في الفصل: ٢/٨٨ أنها خمسة بجعل أهل السنّة فرقة في قبال المرجئة والمعتزلة.

(٢) المطبوع في هامش الفصل: ١/١٤٥.

٣٣

إِن أقصى ما يمكن استفادته في القول الجامع لفِرق المرجئة هو ما أشرنا اليه، وهو الذي تفيده كتب الفريقين، التي تذكر اجتماع الفِرق وافتراق النِّحل.

وهل كان أبو حنيفة ونظراؤه من المرجئة الماصريّة(١) وهم مرجئة أهل العراق، والشافعي والثوري ومالك بن أنس وابن أبي ليلى وشريك بن عبد اللّه ونظراؤهم من المرجئة الذين يسمّون الشكاك، أو البتريّة، وهم أهل الحشو والجمهور العظيم المسمّون بالحشويّة ؟ ذلك ما لا نستطيع البتّ به، لأن كتب الفِرق اختلفت في تلك النسب، ولم تستند في تحقيق ما تقوله إِلى مصدر صريح لنتعرَّف صحّة الأقاويل، فإن تعصّب أُولئك المؤلّفين لنِحلهم ومذاهبهم يجعل النِّحل الأُخرى هدفاً لهم، وساعد على هذه الجناية رجال السلطات الزمنيّة في تلك العصور، لأنهم إِذا حاولوا ترويج فرقة أو محاربة أُخرى استأجروا لهذا الغرض أقلاماً ومحابر، وخطباء ومنابر، فمن هنا قد تضيع الحقيقة على من لا دراية له وتتبّع.

ولربما أوقعت تلك المؤلّفات كثيراً من الكتّاب في أشراك الخبط والخلط، وصفوة القول ان الاعتماد على تلك الكتب في صحّة النسب ليس بالسهل، فمن ثمَّ لا يصحّ لدينا من تلك الفِرق التي نسبت إِلى المرجئة إِلا الجهميّة أصحاب جهم بن صفوان لصراحة اعتقادهم بما ذكرناه عنهم ولإجماع المؤلّفين.

____________________

(١) المِلل والنِّحل في هامش الفصل: ١/١٤٧ في كلامه على المرجئة الغسّانية، وص١٥١ في كلامه على رجال المرجئة، وقد جاء في بعض المناظرات التي جرت مع أبي حنيفة خطابهم له بقولهم: بلغنا عنكم أيها المرجئة، فلم ينكر أبو حنيفة هذه النسبة اليه، انظر في ذلك تأريخ الخطيب: ١٣/٣٧٠ وما بعدها فإنك تجد فيها تفصيل نسبته إِلى الارجاء.

٣٤

كما أنه قد رووا في لعن المرجئة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نحن براء من تبعته مثل قوله: لُعنت المرجئة على لسان سبعين نبيّاً، قيل: مَن المرجئة يا رسول اللّه ؟ قال: الذين يقولون: الايمان كلام(١) .

والخلاصة: أن المرجئة كانت ولا شكّ في ذلك العهد، كما أنها كانت وهي ذات فِرق، ويجمعها في الاعتقاد ما ذكرناه من كفاية القول في الايمان وإِن لم يكن عمل يطابق ذلك الاعتقاد، بل حتّى لو كان العمل على نقيض ذلك القول، ولسنا في حاجة إِلى الغور في تشعّباتها وخصوصيّات ما اعتقدته تلك الشُّعب لجواز ألا نُصيب شاكلة الهدف، ونحن في فسحة من الوقوع في أمثال هذه المزالق، نسأله تعالى العصمة من الخطأ، والأمان من العثار.

٢ - المعتزلة

لا نشكّ في أن الاعتزال وليد عصر الصادقعليه‌السلام ، وفي ذلك العصر نشأ وشبَّ، وذلك حين اعتزل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما حوزة الحسن البصري فنبذوهم بهذا اللقب، وما قيل من أنه وليد عصر أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما اعتزل سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأُسامة بن زيد حروب أمير المؤمنين فلا وجه له، لأن ذلك الاعتزال لم يكن إِعتزالاً مذهبيّاً على أساس في الرأي أو شبهة في الدين، وما كان إِلا انحرافاً عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ولذا لم يكن اسم الاعتزال معروفاً في ذلك العهد، ولا سمّي هؤلاء بالمعتزلة في ذلك اليوم، ولا أن المعتزلة ينتمون إِلى أُولئك في المذهب. والمعتزلة افترقت فِرقاً كثيرة بعد أن اتفقت على الاعتزال، وليس في يومنا الحاضر أحد معروف النسبة اليه على ما أحسب، والذي يجمع عقيدة الاعتزال ما نقله صاحب «الفرق بين الفِرَق» ص ٩٤ عن الكعبي في مقالاته:

إِن المعتزلة أجمعت على أن اللّه عزّ وجل شيء لا كالأشياء، وأنه خالق الأجسام والاعراض وأنه خَلق كلّ ما خَلقه من لا شيء، وأن العباد يفعلون أعمالهم بالقدر التي خلقها اللّه سبحانه وتعالى فيهم، قال: وأجمعوا على أن اللّه لا يغفر لمرتكبي الكبائر بلا توبة. هذا ما حكاه عن الكعبي في القول الجامع في الاعتقاد لِفرق المعتزلة، ونكتفي به عن الكلام عمّا يعتقدون، ولسنا بصدد التمحيص لنضع هذا الكلام في ميزان النقد، ونتعرّف صحة ما صوَّبه صاحب الفرق نحو هذا الزعم كما دعانا هذا لإغفال ما ينسبه اليهم ابن حزم والشهرستاني وصاحب الفرق من الأقوال الكثيرة.

____________________

(١) الفَرق بين الفِرَق ص ١٩٠.

٣٥

ثمّ اننا بعد هذا لانتبسّط في البحث عن فروع ذلك الأصل، وما يمتاز به كلّ فرع منها في الاعتقاد فيما يزيد على الجامع، فإن التبسّط خروج عن الخطّة الموسومة، مع اننا لا نأمن من العِثار.

وهل القدريّةِ هم هؤلاء المعتزلة ؟ أو هم نفس الأشاعرة ؟ ذلك موضع الشكّ، لأنّا إن أردنا من القدريّة من يقول: بأن أفعال العباد مخلوقة لهم وأنها من صنعهم وتقديرهم وإِنما خلق اللّه فيهم قوّة وقدرة بها يفعل العباد أعمالهم فهم المعتزلة، على ما نقل عنهم من القول الجامع السابق، ولا يكونون على هذا نفس الأشاعرة، لأن الأشاعرة على العكس من ذلك يرون أن الأفعال كلّها من صنع اللّه تعالى وتقديره دون العبد.

وإِن أردنا من القدريّة من يقول بأن القدر خيره وشرّه من اللّه تعالى فيكونون حينئذٍ هم الأشاعرة يقيناً. وقد روى الشهرستاني عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: القدريّة مجوس هذه الأُمّة، وقوله: القدريّة خصماء اللّه في القدر.(١)

ولا ندري - إن صحّت الرواية - أين يتوجّه هذا الذمّ الصريح، والسمة الفاضحة.

٣ - الشيعة

كان التشيع على عهد صاحب الشريعة الغرّاء وسمّى بعض الصحابة بالشيعة من ذلك اليوم، أمثال سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وخزيمة وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي أيوب وخالد بن سعيد بن العاص وقيس بن سعد وغيرهم(٢) .

والشيعة لغةً: - الأتباع والأنصار والأعوان، وأصله من المشايعة - المطاوعة والمتابعة، ولكن هذا اللفظ اختصَّ بمن يوالي عليّاً وأهل بيتهعليهم‌السلام (٣) .

وأوّل من نطق بلفظ الشيعة قاصداً به من يتولّى عليّاً والأئمة من بنيه هو صاحب الشريعة سيّد الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جاءت عنه في ذلك عدَّة أحاديث(٤) .

____________________

(١) انظر المِلل والنِحل المطبوع على هامش الفصل: ١/ ٥٠ - ٥١.

(٢) الاستيعاب في أبي ذر، والدرجات الرفيعة للسيد علي خان في ترجمة سلمان، وروضات الجنّات نقلاً عن كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي، وشرح النَّهج: ٤/٢٢٥، وخطط الشام لمحمّد كرد علي: ٥/٢٥١ - ٢٥٦.

(٣) القاموس ولسان العرب ونهاية ابن الأثير ومقدّمة ابن خلدون ص ١٣٨ إلى كثير غيرها.

(٤) راجع في ذلك الصواعق بعد الآية الثامنة والآية العاشرة من الآيات الواردة في فضل اهل البيت، ونهاية ابن الأثير في قمح، والدرّ المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى:( إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك خير البريّة ) إِلى نظائرها من الكتب.

٣٦

وأما فِرق الشيعة فهي كثيرة، وقد أنهتها بعض كتب المِلل والنِّحل إِلى أكثر ممّا نعرفه عنها، فذكرت فِرقاً كثيرة، ورجالاً تنسب الفِرق اليهم، أمثال الهشاميّة نسبة إِلى هشام بن الحكم، والزراريّة نسبة إِلى زرارة بن أعين، والشيطانيّة نسبة إِلى مؤمن الطاق محمّد بن النعمان الأحوال، واليونسيّة نسبة إِلى يونس بن عبد الرحمن، إِلى غيرها، والحقّ اننا من أهل البيت وأهل البيت أدرى بما فيه لا نعرف عيناً ولا أثراً لهذه الفِرق، ولا للبدع التي نسبت لهؤلاء الرجال.

وإِنَّ من نظر في كتب الحديث وكتب الرجال للشيعة عرف أن هؤلاء من خواصّ الأئمة الذين يعتمدون عليهم ويرجعون الشيعة اليهم، ولو كان لهم آراء ومذاهب لا يرتضيها الأئمة لسخطوا عليهم وأبعدوهم عنهم، ومن سبر ما جاء عنهم في الرجال الذين انتحلوا البدع لعلم أن هؤلاء برآء مما نسبوه اليهم، فإنهم برئوا من ابن سبأ ولعنوه وحذّروا من بدعه، وبرئوا من المغيرة بن سعيد حين صار يكذب على الباقرعليه‌السلام ويدّعي الأباطيل، كما برئ الصادقعليه‌السلام من أبي الخطّاب وجماعته، ومن أبي الجارود وكما قالوا في بني فضال: خذوا ما رووا ودعوا ما رأوا، وكما برئ الحجّة المغيب من جماعة خلطوا في الدين وادَّعوا أنهم أبوابه، إِلى غير هؤلاء(١) ولو كان مثل هؤلاء الصفوة على مثل تلك الضلالات التي نسبت اليهم لكان نصيبهم من الأئمة نصيب غيرهم من الضالّين البراءة منهم والذمّ واللعن لهم.

نعم كانت للشيعة فِرق قبل عصر الصادقعليه‌السلام وبعده وقد ذهبت ذهاب أمس الدابر، ولم يبق منها اليوم شيء معروف إِلا ثلاث فِرق:

١ - الإماميّة: وهم القائلون بإمامة الاثني عشر، وولادة الثاني عشر ووجوده اليوم حيّاً ويترقّبون كلّ حين ظهوره.

٢ - الزيديّة: وهم الذين يرون إِمامة زيد وكلّ من قام بالسيف من بني فاطمة، وكان مجمعاً للخصال الحميدة.

٣ - الاسماعيليّة: وهم الذين يجعلون الامامة بعد الصادقعليه‌السلام في ابنه إسماعيل دون موسى وبنيهعليهم‌السلام .

____________________

(١) انظر في ذلك كلّه غيبة الشيخ الطوسي طاب ثراه.

٣٧

هذا ما بقي من فِرق الشيعة ظاهراً يُعرف منذ عهد بعيد حتّى الزمن الحاضر، وأما ما كان منهم في الزمن الماضي، فقد بحث عنه النوبختي في كتابه «فِرق الشيعة» وليس اليوم منها فرقة معروفة عدا ما ذكرناه.

والذي يهمّنا ذكره من بينها هو ما كان في أيام الصادقعليه‌السلام وإن لم يبق اليوم منهم نافخ ضرمة.

الكيسانيّة:(١)

فمن فِرق الشيعة في عهد الصادقعليه‌السلام (الكيسانيّة) وهم الذين قالوا بإمامة محمّد بن الحنفيّة، وقد اختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم، وهم ينتهون إِلى فِرق:

فِرقة قالت بأن محمّداً هو المهدي، وهو وصيّ أمير المؤمنينعليه‌السلام وليس لأَحد من أهل بيته مخالفته، وأن مصالحة الحسنعليه‌السلام لمعاوية كانت بإذنه، وخروج الحسينعليه‌السلام أيضاً بإذنه، كما أن خروج المختار طالباً بالثأر أيضاً بإذنه، وفرقة قالت بإمامته بعد أخويه الحسنينعليهما‌السلام ، وإِنه هو المهدي وبذلك سمّاه أبوه، وإِنه لم يمت ولا يموت ولا يجوز ذلك، ولكنه غاب ولا يُدرى أين هو، وسيرجع ويملك الأرض، ولا إِمام بعد غيبته إِلى رجوعه وهم أصحاب ابن كرب ويسمّون «الكربيّة».

وفرقة قالت: بأنه مقيم بجبال رضوى بين مكّة والمدينة، وهو عندهم الإمام المنتظر.

وفرقة قالت: بأنه مات والامام بعده ابنه عبد اللّه، ويكنّى أبا هاشم وهو أكبر ولده، واليه أوصى أبوه، وسميّت هذه الفرقة «الهاشميّة» بأبي هاشم، وهذه الفرقة قالت فيه كما قالت الفِرق الأُول في أبيه، بأنه المهدي وأنه حيّ لم يمت بل غلَوا فيه وقالوا إِنه يحيي الموتى، ولكن لمّا توفي أبو هاشم افترقت أصحابه إِلى فِرق.

وكان من الكيسانيّة رجال لهم ذكر ونباهة، منهم كثير عزّة وله بذلك شعر يروى.

وكان منهم السيد إسماعيل الحميري الشهير. وله أيضاً شعر يشهد بما نسبوه اليه، ولكنه عدل عن ذلك إِلى القول بإمامة الصادقعليه‌السلام بعد أن ناظره الصادق وأقام الحجّة عليه، وله في العدول والذهاب إِلى إِمامة الصادق شعر مذكور.

____________________

(١) اننا نستند على الكثير ممّا نذكره عن الكيسانيّة إِلى كتاب فِرق الشيعة، والمِلل والنِحل، والفَرق بين الفِرَق.

٣٨

ومنهم حيّان السرّاج، وقد دخل يوماً على الصادقعليه‌السلام فقال له أبو عبد اللّه: يا حيّان ما يقول أصحابك في محمّد بن الحنفيّة ؟ قال: يقولون: إنه حيّ يرزق، فقال الصادقعليه‌السلام : حدّثني أبيعليه‌السلام : إِنه كان فيمن عاده في مرضه وفيمن غمضه وأدخله حفرته وزوَّج نساءه وقسّم ميراثه، فقال: يا أبا عبد اللّه إِنَّما مثل محمّد في هذه الأُمّة كمثل عيسى بن مريم شبّه أمره للناس، فقال الصادقعليه‌السلام : شُبّه أمره على أوليائه أو على أعدائه ؟ قال: بل على أعدائه، فقالعليه‌السلام : أتزعم أن أبا جعفر محمّد بن عليعليهما‌السلام عدوّ عمّه محمّد بن الحنفيّة ؟ فقال: لا، ثمّ قال الصادقعليه‌السلام : يا حيّان إِنكم صدفتم(١) عن آيات اللّه وقد قال تبارك وتعالى( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ) (٢) .

وقال بريد العجلي(٣) : دخلت على الصادقعليه‌السلام فقال لي: لو سبقت قليلاً لأدركت حيّان السرّاج، واشار إِلى موضع في البيت، فقال: كان ههنا جالساً، فذكر محمّد بن الحنفيّة وذكر حياته، وجعل يطريه ويقرضه، فقلت له: يا حيّان أليس تزعم ويزعمون، وتروي ويروون: لم يكن في بني إسرائيل شيء إِلا وهو في هذه الأُمّة مثله ؟ قال: بلى، فقلت: هل رأينا ورأيتم، وسمعنا وسمعتم بعالم مات على أعين الناس، فنكحت نساؤه وقسّمت أمواله، وهو حيّ لا يموت ؟ فقام ولم يردّ عليّ شيئاً(٤) .

والكيسانيّة من الفِرق البائدة، ولا نعرف اليوم قوماً ينتسبون اليها.

الزيديّة:

ومن الفِرق التي تنسب إِلى التشيّع (الزيديّة) نسبة الى زيد بن علي بن الحسينعليهما‌السلام ، لأنهم قالوا بإمامته.

____________________

(١) أعرضتم.

(٢) إِكمال الدين للصدوق طاب ثراه ص ٢٢، ورجال الكشي ص ٢٠٣، والآية في سورة الأنعام: ١٥٧.

(٣) من أصحاب الصادق ومشاهير ثقاتهم.

(٤) رجال الكشي في ترجمة حيّان ص ٢٠٢.

٣٩

وزيدعليه‌السلام ما ادّعى الامامة لنفسه بل ادَّعتها الناس له، وما دعاه للنهضة إِلا نصرة الحقّ وحرب الباطل، وزيد أجلّ شأناً من أن يطلب ما ليس له، ولو ظفر لعرف أين يضعها، وقد نسبت بعض الأحاديث ادّعاه الإمامة لنفسه، ولكن الوجه فيها جليّ، لأن الصادقعليه‌السلام كان يخشى سطوة بني أُميّة، ولا يأمن من أن ينسبوا اليه خروج زيد، وإِن قيامه بأمر منه، فيؤخذ هو وأهله وشيعته بهذا الجرم، فكان يدفع ذلك الخطر بتلك النسبة، ولو كان زيد كما تذكره هذه الأحاديث لم يبكه قبل تكوينه جدّاه المصطفى والمرتضى عليهما وآلهما السّلام، ولم تبلغ بهما ذكريات ما يجري عليه مبلغاً عظيماً من الحزن والكآبة، كما هو الحال في آبائه عندما يذكرون مقتله وما يجري عليه بعد القتل.

وكفى في إِكبار نهضته وبراءته مما يُوصم به بكاء الصادقعليه‌السلام عليه وتقسيمه الأموال في عائلات المقتولين معه، وتقريع من تخلّف عن نصرته، وتسميته الثائرين معه بالمؤمنين، والمحاربين له بالكافرين.

وكيف يكون قد طلب الامامة لنفسه والصادقعليه‌السلام يقول: رحمه اللَّه أما أنه كان مؤمناً وكان عارفاً وكان عالماً وكان صدوقاً، أما أنه لو ظفر لوفى، أما أنه لو مَلَك لعرف كيف يضعها(١) . ويقول: ولا تقولوا خرج زيد فإن زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً، ولم يدعكم إِلى نفسه، وإِنما دعاكم إِلى الرضا من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ولو ظفر(٣) لوفى بما دعاكم اليه، وإنما خرج إِلى سلطان مجتمع لينقضه(٤) .

____________________

(١) رجال الكشي في ترجمة السيّد الحميري ص ١٨٤.

(٢) الرضا: كناية عن إِمام الوقت من أهل البيت وإِنما يكنّى عنه حذراً عليه من التصريح باسمه.

(٣) ظهر: في نسخة.

(٤) الوافي عن الكافي، كتاب الحجّة، باب أن زيد بن علي مرضي: ١/١٤١.

٤٠