الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 228

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 228
المشاهدات: 77020
تحميل: 6333


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77020 / تحميل: 6333
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 1

مؤلف:
العربية

وفي صواعق ابن حجر(١) : «ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان».

وفي ينابيع المودّة(٢) طبع اسلامبول ص ٣٨٠ «ومن أئمة أهل البيت أبو عبد اللّه جعفر الصادق» وقال: «وكان من سادات أهل البيت» وقال: «وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السالمي في طبقات المشايخ الصوفيّة: جعفر الصادق فاق جميع أقرانه من أهل البيت، وهو ذو علم غزير، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تامّ في الشهوات، وأدب كامل في الحكمة».

واليك ما يقوله الحافظ أبو نعيم(٣) في حلية الأولياء (٣: ١٩٢): «ومنهم الامام الناطق والزمام السابق، أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق أقبل على العبادة

____________________

(١) المحدّث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي نزيل مكّة.

(٢) هي للشيخ سليمان بن إِبراهيم المعروف بخواجه كلان، وكان فراغه من تأليفها تاسع شهر رمضان عام ١٢٩١.

(٣) أحمد بن عبد اللّه الاصبهاني المتوفى عام ٤٣٠.

٦١

والخضوع: وآثر العزلة والخشوع، ونهى(١) عن الرياسة والجموع» ثم روى عن عمرو بن أبي المقدام كلامه السابق، وروى عن الهياج بن بسطام(٢) قوله: «وكان جعفر بن محمّد يطعم حتى لا يبقى لعياله شيء».

ويقول ابن الصبّاغ المالكي(٣) في الفصول المهمّة: «كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه، والقائم بالامامة من بعده برز على جماعته بالفضل وكان أنبههم ذكراً، وأجلّهم قدراً، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته وذكره في سائر البلدان»، وقال في اُخريات كلامه: «مناقب أبي عبد اللّه جعفر الصادق فاضلة، وصفاته في الشرف كاملة، وشرفه على جهات الأيام سائلة، وأندية المجد والعزّ بمفاخره ومآثره آهلة».

وهذا السويدي(٤) في سبائك الذهب ص ٧٢ يقول: «كان من بين اخوته خليفة أبيه ووصيّه، نقل عنه من العلوم ما لم ينقل عن غيره، وكان إِماماً في الحديث» وقال: «ومناقبه كثيرة».

وفي عمدة الطالب(٥) ص ١٨٤: «ويقال له عمود الشرف، ومناقبه متواترة بين الأنام، مشهورة بين الخاصّ والعامّ، وقصده المنصور الدوانيقي بالقتل مراراً فعصمه اللّه منه».

____________________

(١) هكذا في الأصل وفي كشف الغمّة عن الحلية «ولها» وكلّ منهما يناسب المقام.

(٢) التميمي الحنظلي الهروي رحل إِلى العراق وسمع علماء عصره ودخل بغداد وحدّث بها، مات عام ١٧٧، ترجم له الخطيب البغدادي: ١٤/٨٠.

(٣) نور الدين علي بن محمّد بن الصبّاغ المالكي المولود عام ٧٨٤ والمتوفى عام ٨٥٥، ترجم له السخاوي في الضوء اللامع: ٥/٢٨٣ وذكر مشايخه وكتابه الفصول المهمّة في معرفة الأئمة وهم اثنا عشر.

(٤) محمّد أمين البغدادي، وآل السويدي من البيوتات الرفيعة في بغداد حتّى اليوم وهو من رجال القرن الماضي، وفرغ من كتابه في شوّال عام ١٢٢٩.

(٥) للنسّابة الشهير جمال الدين أحمد بن علي الداودي الحسني المتوفى عام ٨٢٨.

٦٢

والشهرستاني(١) في المِلل والنِّحل: «وهو ذو علم غزير في الدين والأدب، كامل في الحكمة، وزهد بالغ وورع تامّ في الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين اليه، ويفيض على الموالين أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة ما تعرَّض للامامة قط(٢) ولا نازع أحداً في الخلافة، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلّى إِلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط، وقيل من آنس باللّه توحّش عن الناس، ومن استأنس بغير اللّه نهبه الوسواس».

واليافعي(٣) في مرآن الجنان ( ١: ٣٠٤) فيمن توفي عام ١٤٨، يقول: «وفيها توفي الامام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة، أبو عبد اللّه جعفر الصادق، ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمّد الباقر، وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن بن علي رضوان اللّه عليهم أجمعين، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام اُولي المناقب، وإِنما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد الّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة».

والصدوق طاب ثراه(٤) يروي في أماليه المجلس ال ٤٢ عن سليمان بن داود

____________________

(١) أبو الفتح محمّد بن أبي القاسم كان فقيهاً متكلّماً على مذهب الأشعري، دخل بغداد عام ٥١٠ وأقام بها ثلاث سنين وكانت ولادته بشهرستان وبها توفي عام ٥٤٨، ترجم له في الوفيّات ومعجم الاُدباء وطبقات السبكي وروضات الجنّات ومفتاح السعادة وغيرها.

(٢) يراد من الامامة هنا الامامة التي يعقدها الناس، وإِلا فهو إِمام اجتمع عليه الناس أو تفرّقوا، تعرّض للأمر أو صفح.

(٣) أبو محمّد عبد اللّه بن سعد بن علي بن سليمان عفيف الدين اليافعي اليماني نزيل الحرمين المتوفى عام ٧٦٨.

(٤) محمّد بن علي بن بابويه القميّ المحدّث الجليل صاحب التآليف القيمّة الكثيرة البالغة نحواً من ٣٠٠ مؤلّف، وقد ورد بغداد عام ٣٥٢ وسمع منه شيوخ الطائفة على حداثة سنّه، ومات بالري عام ٣٨١.

٦٣

المنقري(١) عن حفض بن غياث(٢) انه كان إِذا حدّثنا عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام قال: «حدّثني خير الجعافرة».

وروى الصدوق أيضاً فيه مسنداً عن علي بن غراب(٣) انه كان إِذا حدّثنا عن جعفر بن محمّد قال: «حدّثنا الصادق عن اللّه، جعفر بن محمّد...».

وروى أيضاً في ال ٣٢ مسنداً عن محمّد بن زياد الأزدي(٤) قال: سمعت مالك بن أنس(٥) يقول: أدخل الى الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام فيقدّم لي مخدّة، ويعرف لي قدراً، وكان لا يخلو من إِحدى ثلاث خصال إمّا صائماً وإِما قائماً وإِما ذاكراً، وكان من عظماء العبّاد واكابر الزهّاد، الذين يخشون اللّه عزّ وجل وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اخضرَّ مرَّة، واصفرَّ اُخرى، حتّى ينكره مَن يعرفه، ولقد حججت معه سنة فلمّا استوت به راحلته عند الاحرام كان كلّما همَّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ عن راحلته، فقلت: يابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولابدّ لك من أن تقول، فقال:يابن عامر كيف أجسر أن أقول لبّيك اللّهمّ لبّيك، وأخشى أن يقول عزّ وجل: لا لبّيك ولا سعديك.

____________________

(١) المعروف بابن الشاذكوني وهو ممن روى عن الصادقعليه‌السلام وعن رواته وكان من ثقات الرواة.

(٢) الكوفي القاضي، وسيأتي في الثقات من مشاهير رواة الصادقعليه‌السلام ، والظاهر أنه من أهل السنّة.

(٣) ابن عبد العزيز وهو ممّن روى عن الصادقعليه‌السلام واستظهر بعض الرجاليين أنه من أهل السنّة إلا أن ابن النديم في الفهرست عدّه من مشايخ الشيعة الذين رووا الفقه عن الأئمةعليهم‌السلام .

(٤) هو المعروف بابن أبي عمير وقد لقي الكاظم والرضا والجوادعليهم‌السلام ، حبسه الرشيد ليلي القضاء، وقيل ليدلّه على مواضع الشيعة وأصحاب الكاظمعليه‌السلام ، وقيل ضرب أسواطاً ونالت منه فلم يقر، وقد رويت عنه كتب مائة رجل من أصحاب الصادقعليه‌السلام ، وله مصنّفات كثيرة، وهو ممّن لا يروي إلا عن ثقة، وقد أجمع العصابة على قبول مراسيله، وهو من العصابة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم، وقد اتفق الفريقان على وثاقته وعلوّ منزلته، وقيل: إِنما قبلوا مراسيله لأنه دفن كتبه يوم حبس فتلفت فروى ما علق منها في ذهنه، فمن ثمّ قد ينسى الراوي وإِن حفظ الرواية، مات عام ٢١٧.

(٥) المدني أوّل المذاهب الأربعة، وهو ممّن أخذ عن الصادقعليه‌السلام كما سيأتي في أصحاب الصادقعليه‌السلام ، وهو مذهب أهل الحجاز والنسبة اليه مالكي.

٦٤

وابن شهراشوب(١) في كتابه المناقب في أحوال الصادقعليه‌السلام يروي عن مالك بن أنس أيضاً قوله: ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً، وزاد الصدوق في أماليه في ال ٨١ قوله: كان واللّه إِذا قال صدق.

وقال أيضاً: وذكر أبو القاسم البغار في مسند أبي حنيفة(٢) قال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة وقد سئل: من أفقه من رأيت ؟ قال: جعفر بن محمّد، لمّا أقدمه المنصور بعث إِليّ فقال: يا أبا حنيفة إِن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إِليّ أبو جعفر وهو في الحيرة فأتيته فسلّمت عليه، فأورد إِليّ المجلس فجلست ثم التفت اليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثمّ التفت إِليّ فقال: القِ على أبي عبد اللّه من مسائلك، فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعناكم، وربما تابعناهم، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلّ منها بشيء، ثمّ قال أبو حنيفة: أليس أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.

____________________

(١) محمّد بن علي المازندراني رشيد الدين من مشايخ الطائفة وفقهائها وكان شاعراً بليغاً منشأً وله مصنّفات عديدة منها: معالم العلماء، وكتاب أنساب آل أبي طالب، وكتاب مناقب آل أبي طالب، وهو الذي أشرنا اليه في الأصل، وكثيراً ما نروي عنه في هذا الكتاب.

(٢) النعمان بن ثابت ثاني المذاهب لأهل السنّة وهو أيضاً ممّن أخذ عن الصادقعليه‌السلام ، والنسبة اليه حنفي، وسيأتي الكلام عليه في أصحاب الصادقعليه‌السلام .

٦٥

بل ان المنصور نفسه وهو مَن علمت كيف يحرّق الارم(١) على أبي عبد اللّهعليه‌السلام قد ينطق بالحقّ، عند ذكره أو مقابلته، فيقول: هذا الشجى المعترض في حلقي من أعلم الناس في زمانه(٢) ويقول اُخرى: وإنه ممّن يريد الآخرة لا الدنيا(٣) ويقول تارة: إنه ليس من أهل بيت نبوّة إِلا وفيه محدّث، وإن جعفر بن محمّد محدّثنا اليوم(٤) ويقول مخاطباً للصادقعليه‌السلام : لانزال من بحرك نغترف، واليك نزدلف، تبصر من العمى، وتجلو بنورك الطخياء(٥) فنحن نعوم في سحاب قدسك، وطامي بحرك(٦) ، ويقول لحاجبه الربيع: وهؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إِلا جاهل لا حظّ له في الشريعة(٧) .

ويقول إسماعيل بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس: دخلت على أبي جعفر المنصور يوماً وقد اخضلّت لحيته بالدموع، وقال لي: ما علمت ما نزل بأهلك فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين، قال: فإنّ سيّدهم وعالمهم وبقيّة الأخيار منهم توفي، فقلت ومَن هو ؟ قال: جعفر بن محمّد، فقلت: أعظم اللّه أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه، فقال لي: إِن جعفراً كان ممّن قال اللّه فيه «ثمّ اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» وكان ممّن اصطفى اللّه، وكان من السابقين في الخيرات(٨) .

هذا وهو المنصور العدوّ الألدّ للصادق، الذي كان مجاهداً في النيل من كرامته والقضاء عليه.

____________________

(١) كركع - الأضراس، ولتولّد الحرارة فيها من حكّ بعضها ببعض يقال يحرقها، وهو مثَل يضرب لمن يبلغ به الغيظ شدّته لأن الحكّ من آثاره.

(٢) كتاب الوصيّة للمسعودي.

(٣) كشف الغمّة عن تذكرة ابن حمدون: ٢ / ٢٠٩.

(٤) الكافي: باب مولدهعليه‌السلام : ١ / ٤٧٥، وبصائر الدرجات، والمناقب، والخرائج والجرائح.

(٥) الليلة المظلمة، ولعلّه كناية عن الاُمور المشكلة التي لا يهتدي الناس إِلى حلّها.

(٦) بحار الأنوار: في أحوال الصادقعليه‌السلام : ٤٧ / ١٩٩.

(٧) مهج الدعوات لابن طاووس: ص ١٩٢، بحار الأنوار: ٤٧/١٩٩.

(٨) تأريخ اليعقوبي: ٣/١١٧.

٦٦

بل أن الملاحدة على كفرهم وعدائهم للاسلام ورجاله كانوا يعظّمونه ويعترفون له بغزارة العلم، والميزة بالصفات الروحيّة والملكات القدسيّة، أمثال ابن المقفّع وابن أبي العوجاء والديصاني وغيرهم، فهذا ابن المقفع يقول: ترون هذا الخلق وأومأ بيده الى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له إسم الانسانيّة إِلا ذلك الشيخ الجالس، يعني الصادقعليه‌السلام ، وقال ابن أبي العوجاء: ما هذا ببشر، وإِن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ويتروّح اذا شاء باطناً فهو هذا، يعني الصادقعليه‌السلام .(١)

وكان ابن أبي العوجاء اذا سأل أحد أصحاب الصادقعليه‌السلام عن شيء غامض واستمهله، ثمّ أتاه بالجواب بعد حين واستحسنه، قال: هذه نقلت من الحجاز.

وهكذا كان الديصاني مع أصحاب الصادقعليه‌السلام ، وما يقوله فيم يحملون اليه جوابه.

وهذه قطرة من غيث ممّا نطق به أهل الفضل في شأن الصادقعليه‌السلام مع اختلاف الزمن والبلد والذوق والرأي في القائلين، اُقدّمها أمام الدخول في حياته التفصيليّة لتعطيك صورة إجماليّة عن هذه الشخصيّة الفذّة، فإن هذه الكلمات مع وجازتها تعلم القارئ عمّا لأبي عبد اللّهعليه‌السلام من فضيلة بل فضائل، وعمّا له من آثار ومآثر.

التقيّة

تمهيد:

مُني الامام الصادقعليه‌السلام من بين الأئمة بمعاصرة الدولتين المروانيّة والعبّاسيّة، اللتين حاربتا الشريعة وصاحبها النبيّ الأمين بمطاوعة الشهوات والتفنّن باللذات.

ثمّ تنبغ من بين هاتيك المعازف والقيان وذلك الجور والفجور رجالات البدع والمذاهب، والآراء والأهواء، ناصبين فخاخهم لصيد السمعة والصيت حين لا محاسب ولا معاقب، ولا ناهي ولا آمر، بل كانت السلطة قد تروّج تلك الاختلافات، فيما يضعف من مذهب أهل البيت ويقلّل من أنصاره.

ولقد كان أبو عبد اللّه الصادقعليه‌السلام يشاهد ذلك الصراع القائم بين الدين والحكومتين، وبين الحقّ وأرباب هاتيك البدع.

فماذا تراه سيتّخذ من موقف في وسط هذا المحيط المائج ؟ أيعلن الحرب على السلطة والبدع وهو يعرف الناس وتخاذلهم عن الحق.

____________________

(١) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإثبات المحدث: ١/٧٤.

٦٧

وكم شاهد وسمع من غدرة بعلوي، ونكثة بهاشمي، ولا يهمّه ذلك لو كان يصل الى غرضه كما فعل الحسينعليه‌السلام ، فليست نفسه بأعزّ من الدين عليه، ولكنه يعلم يقيناً بأن ذلك سيقضي على نفيس حياته، دون أن يسدي الى الدين نفعاً، ويجرّ له مغنماً أو أنه يلتزم الصمت أمام ذلك الصراع وفيه مسؤوليّة كبرى أمام اللّه وأمام صاحب الشريعة فلا بدّ إِذن من مخرج لتخليص الدين من هذا الصراع، مع سلامة نفسه وصفوة رجاله من مخالب تلك الاُسود الضارية.

فكانت سياسته الرشيدة في سبيل ذلك نشر العلوم والمعارف وبثّ الأحكام والحِكم وافشاء الفضائل، وكبح الضلالات بالحجّة في ظلّ (التقيّة) التي اتّخذ منها جنّة ودريئة لتنفيذ سياسته الحكيمة، فكانت تعاليمه خدمة للشريعة، وعباداته إِرشاداً للناس، ومناظراته مناهضة للبدع، فاستقام مجاهداً على ذلك الى أن وافاه الأجل.

فوجب أن نتكلّم عن التقيّة لأجل ذلك في فصل مستقل.

دليل التقيّة:

إن التقيّة من الوقاية، فهي جنّة تدرأ بها المخاوف والأخطار وموردها الخوف على النفيس من نفس وغيرها.

ودليلها: الكتاب، والسنّة، والعقل، والاجماع عند الشيعة، أمّا الكتاب فيكفي منه قوله تعالى( لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء إِلا أن تتّقوا منهم تقاة ويحذّركم اللّه نفسه ) (١) فجوّز تعالى للمؤمنين أن يتظاهروا في ولاء الكافرين عند التقيّة والخوف من شرّهم، الى غيرها من الآيات التي سيرد عليك بعضها.

وأمّا السنّة فما جاء عن أهل البيت وغيرهم أكثر من أن يحصر، وسنذكر شطراً منه في طيّ هذا المبحث، وكفى من السنّة ما رواه الفريقان في قصّة عمّار، حتّى عذره اللّه سبحانه

____________________

(١) آل عمران: ٢٨.

٦٨

في كتابه العزيز فنزل في حقّه( إِلا من اُكره وقلبه مطمئن بالايمان ) (١) .

وأمّا إِجماع الشيعة على المشروعيّة بل الوجوب فلا نقاش فيه، لنذكر مصادره، لأن أمر التقيّة ولزومها عند أهل البيت وشيعتهم لا يختلف فيه اثنان.

وأمّا العقل فلأنه بالبداهة يحكم بوجوب المحافظة على النفس والنفيس ما استطاع المرء اليها سبيلاً، ويمنع من إلقاء النفس بالمهالك، وقد نهى عن ذلك الكتاب العزيز أيضاً فقال تعالى:( ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة ) (٢) وقال سبحانه( ولا تقتلوا أنفسكم إِن اللّه كان بكم رحيماً ) (٣) .

وسيرة أرباب العقول جارية على وفق هذا الحكم العقلي، بل ان غريزة البشر على التقيّة، فإنك لو حللت بدار قوم يخالفونك في المذهب أو المبدأ السياسي، وتخشى منهم لو علموا ما أنت عليه لكنت تسرّ ما عندك بطبعك وفطرتك ما استطعت، من دون أن تعرف حكم العقل أو الشرع في هذا الشأن.

ولو استعرضت تأريخ الاسلام من البدء لوجدت أن التقيّة كانت ضرورة يلتجأ اليها، فقد أخفى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدء الدعوة أمره حتّى دعا بني هاشم وأمره اللّه سبحانه أن يصدع بأمره(٤) ، وتكتّم المسلمون في إِسلامهم قبل ظهوره وانتشاره، وتستّر أبو طالب في إِسلامه ليتسنّى له الدفاع عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليبعد عنه التهمة في دفاعه.

وكيف عاد الأمر عكساً يوم ارتفع منار الاسلام فصار أهل الكفر في مكّة والمدينة يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر.

____________________

(١) النحل: ١٠٦.

(٢) البقرة: ١٩٥.

(٣) النساء: ٢٩.

(٤) الحجر: ٩٤.

٦٩

إبتداء التقيّة ومبرّراتها:

ما كانت تقيّة الشيعة مبتدأة من عصر الصادقعليه‌السلام بل كانت من عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام حتّى أنه كان قد استعمل التقيّة بنفسه في اكثر أيامه، إِنك لتعلم أنه من بدء الخلافة كان يرى أن الخلافة له، ويراها ثلّة من الناس فيه، ولكنّه لمّا لم يجد أنصاراً وادَعَ وصمَت هو وأصحابه، ولو وجد أربعين ذوي عزم منهم لناهض القوم - على حدّ تعبيره نفسه - وان النّاس حتّى من يخالفه لتعلم أن له رأيه في القوم ومن ثمّ أرادوه للبيعة في الشورى على اتباع سيرة السلف فأبى إِلا على كتاب اللّه وسنّة رسوله.

وكان يتكتّم كثيراً بما يرى التقيّة في إبدائه حتّى بعدما صار الأمر اليه لعلمه بأن في الناس من يخالفه ويناوئه، فلو باح بكلّ ما عنده لم يأمن خلاف الناس عليه، كيف وقد نكثت طائفة، وقسطت اُخرى، ومرق آخرون، فلو صارح بكلّ ما يعلم ويرى لانتقضت عليه أطراف البلاد.

ومع أن الكوفة يغلب عليها الولاء والتشيّع وهي عاصمة ملكه ما استطاع أن يغيّر فيها كلّ ما ورثوه من العهد السابق، كما لم يطق أن يبوح فيها بكلّ ما يعلم إِلا القليل، هذا وهو صاحب السلطتين: الروحيّة والزمنيّة، فكيف إِذن به يوم كان أعزل، وكيف بأولاده والسطوة والقوّة عليهم.

لم يتّخذوا التقيّة جنّة إِلا لما يعلمون بما يجنيه عليهم وعلى أوليائهم ذلك الإعلان، وقد أمر بها أمير المؤمنين قبل بنيه، فإنه قال في بعض احتجاجاته كما يرويه الطبرسي(١) في الاحتجاج: وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك - إِلى أن يقول -: وتصون بذلك من عرف من أوليائنا واخواننا فإن ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك، وتنقطع به عن عمل في الدين وصلاح إِخوانك المؤمنين، وإِيّاك ثم إِيّاك أن تترك التقيّة التي أمرتك بها فإنك شاحط بدمك ودماء إِخوانك، متعرّض لنفسك ولنفسهم للزوال، مذلّ لهم في أيدي أعداء الدين وقد أمرك اللّه بإعزازهم، فإنك إِن خالفت وصيّتي كان ضررك على إِخوانك ونفسك أشدّ من ضرر الناصب لنا الكافر بنا.

فانظر كيف يأمر أمير المؤمنين وليّه بالتقيّة، ويكشف له عن فوائدها والضرر في خلافها.

ظهر التشيّع والشيعة أيام أمير المؤمنين، لأن السلطان بيده مرجعه ومآله حتّى عرفتهم أعداؤهم في كلّ مصر وقطر، فماذا ترى سيحلّ بهم بعد تقويض سلطانه ؟

____________________

(١) أحمد بن علي بن أبي طالب من علماء الطائفة وشيوخهم، وكتابه الاحتجاج كثير الفوائد جليل النفع.

٧٠

لقد حاربهم معاوية بكلّ ما اوتي من حول وقوّة وحيلة وخديعة، فكان من تلك الوسائل سبابه لأبي الحسن وأمره به ليربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير كما يقول هو، وفي ذلك أيّ حرب لهم وإذلال، ثمّ قتل المعروفين من رجالهم، والمشهورين من أبدالهم وكان أكثر بالكوفة فاستعمل عليهم زياداً وضمّ اليه البصرة وهو بهم عارف، يقول المدائني: فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطردهم وشرّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم(١) .

وأمّا الذين لم يتمكّنوا من الهرب لمعروفيّتهم في البلاد أو هربوا وأدركهم الطلب فكان نصيبهم الموت الأحمر، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وعمرو بن الحمق وأضرابه.

ويقول العبري في تاريخ ص ٨٧: وكان معاوية قد أذكى العيون على شيعة علي فقتلهم أين أصابهم. ويقول الباقرعليه‌السلام عند ذكرى النوازل بهم وبأوليائهم: وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسنعليه‌السلام فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع الينا سجن ونهب ماله وهدمت داره(٢) .

كان معاوية يخشى الحسنعليه‌السلام ، لأن الناس منتظرة لنهضته، وما صالح معاوية إِلا على شروط، منها أن تعود الخلافة اليه بعده ومن ثمّ عاجله بالسمّ، فالناس طامحة الأنظار لأبي محمّد، مادام أبو محمّد في قيد الحياة ومع تلك الرهبة من أبي محمّد وخشيته جانبه كان تلك فعاله، فكيف حاله مع الشيعة بعد موت الحسنعليه‌السلام .

ولمّا عاد الأمر ليزيد وابن زياد كانا أقوى في الفتك وأجرأ في السفك من معاوية وزياد، فقد قتل ابن زياد مسلماً وهانياً ورشيداً الهجري وميثماً التمّار وفتية شيعيّة، وملأ من الشيعة ووجوهها السجون، حتّى بلغت في حبسه اثني عشر ألفاً، ثمّ لحق ذلك حادثة الطف.

وما نسيت هذه المشانق والمرازئ حتّى جاء دور الحجّاج وفتكه، ولنترك إِمامنا الباقرعليه‌السلام يحدّثنا عن هذا الدور الذي شاهده بنفسه، فيقول: ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم - يعني الشيعة - كلّ قتلة وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة، حتّى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ اليه من أن يقال له شيعة عليعليه‌السلام (٣) .

____________________

(١) شرح النهج: ٣/١٥.

(٢) شرح النهج: ٣/١٥.

(٣) نفس المصدر.

٧١

فكان هذا دأب الاُمويّين مع العلويّين وشيعتهم، وقد عرفت شطر تلك السيرة ممّا سبق.

ولو استطردت أنباء العصر العبّاسي لعلمت أن الدولة العبّاسيّة اقتدت بالاُمّة الاُمويّة في سيرتها القاسية مع العلويّة وأوليائهم، وأمامك ما سلف ممّا حدّثناك به عن الاُمويّة والعبّاسيّة وما جنتاه على أهل البيت من قسوة واعتداء.

أفيستطيع بعد تلك النوائب والمصائب أن يجهر أهل البيت أو شيعتهم بما يرونه من الدين ومعارضة السلطة في المبدأ والمعتقد والسيرة والعمل ؟

بوجدانك أيها البصير ما كنت صانعاً لو تمرّ عليك وعلى أتباعك أمثال تلك الوقائع وأنت رائد ومسؤول، أفتغريهم بإعلان ما يجعلهم مجزرة للأعداء وهدفاً للناقمين، أم تحتّم عليهم الكتمان والتستّر هرباً من تلك المجازر، وفراراً من مرارة العذاب والتنكيل ؟

واذا كانت العترة أحد الثقلين اللذين بهما حفظ الدين ونواميسه تستأصلهم الحراب والحروب فهل يبقى للدين منار مرفوع أو ظلّ ممدود.

إِذن لا محيص من التقيّة إِذا أرادت العترة ملازمة القرآن وتعليم ما فيه حتّى يردا الحوض معاً على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإِذا أرادوا كشف ما عليه اولئك المسيطرون على الناس من الظلم وبيان ما عليه اولئك المبتدعون في الدين من الضلالة والجهالة.

٧٢

ولذلك يقول الصادقعليه‌السلام : التقيّة ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقيّة له، وإِنَّ المذيع لأمرنا كالجاحد به، وقالعليه‌السلام لجماعة من أصحابه كانوا عنده يحدّثهم: لا تذيعوا أمرنا ولا تحدّثوا به إِلا أهله فإنَّ المذيع علينا سرّنا أشد مؤونة من عدوّنا، انصرفوا رحمكم اللّه ولا تذيعوا سرّنا(١) .

ويقولعليه‌السلام : نفَس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل اللّه(٢) .

ويقولعليه‌السلام لمدرك بن الهزهز(٣) : يا مدرك إِن أمرنا ليس بقبوله فقط ولكن بصيانته وكتمانه عن غير أهله، أقرى أصحابنا السلام ورحمة اللّه وبركاته وقل لهم رحم اللّه امرأً اجتر مودّة الناس الينا فحدّثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون(٤) .

وكانوا دائبين على تلك الوصايا لأصحابهم حتّى أن جابراً الجعفي الثقة الثبت الراوية عن الباقر والصادق يقول: رويت خمسين ألف حديث ما سمعها أحد مني، بل قيل كانت سبعين وقيل تسعين ألفاً عن الباقر فحسب ولم يحدّث بها أحداً من الناس(٥) .

ولذلك يقول الصادقعليه‌السلام للمعلّى بن خنيس: لا تكونوا أسرى في أيدي الناس بحديثنا، إِن شاءوا أمنوا عليكم، وإن شاءوا قتلوكم. وكان يقولعليه‌السلام : ما قتل المعلّى إِلا من جهة إِفشائه لحديثنا الصعب(٦) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢/٧٤/٤٢.

(٢) بحار الأنوار: ٢/٦٤/١.

(٣) أو ابن أبي الهزهاز النخعي الكوفي روى عن الصادقعليه‌السلام وروى عنه الثقات.

(٤) بحار الأنوار: ٢/٧٧/٦٢.

(٥) بحار الأنوار: ٢/٦٩/ ٢١ - ٢٢.

(٦) بحار الأنوار: ٢١/٧١/٣٤.

٧٣

وما اكثر ما جاء عنه من الردع عن إذاعة سرّهم والإفشاء لحديثهم وأن المذيع له قاتلهم عمداً لا خطأً(١) ، فهذه الأحاديث وغيرها تكشف لك سرّ أمرهم بالتقيّة، فكأَنَّهم يعلمون بأن الناس سوف تستهدف الشيعة على التقيّة فأبانوا الوجه في إلزامهم بها واستمرارهم عليها.

أثر التقيّة في خدمة الدين:

وأمّا أثر التقيّة في خدمة الدين والمجتمع الشيعي فلا يكاد يجهل، فإن الكوفة أيام زياد ضعف فيها التشيّع حتّى لم يبق بها من الشيعة معروف وبلغ الحال بها أيام الحجّاج إِلى أن ينسب الرجل إِلى الكفر والزندقة أحبّ اليه من أن ينسب إِلى التشيّع، ولكن لم تمض برهة على تشديدهم على الشيعة في اعتزال الناس والسياسة واختفائهم وراء حجب التقيّة حتّى بلغ رواة الصادقعليه‌السلام أربعة آلاف أو يزيدون كما أحصاهم ابن عقدة، والشيخ الطوسي طاب ثراه في كتاب الرجال، والطبرسي في أعلام الورى، والمحقّق الحلّي في المعتبر، وكان اكثرهم من أهل الكوفة، وكان الحسن بن علي الوشا(٢) يقول: لو علمت أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإني أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ، على أن الوشا لم يدرك من تلك الطبقة إِلا قليلاً.

فهناك تعرف السرّ لماذا كثرت الرواية عنهعليه‌السلام ؟ ولماذا صار منهل العلوم والمعارف ومصدر الأحكام والحكم ؟ ولماذا صار مذهباً لأهل التشيّع ؟

____________________

(١) بحار الأنوار: ٢/٧٤/٤٥.

(٢) البجلي الكوفي من وجوه الطائفة ومن أصحاب الرضاعليه‌السلام وثقات رواته، وله كتب، وله مسائل الرضاعليه‌السلام ، ترجم له الرجاليّون كلّهم.

٧٤

ولماذا روى عنه حتّى أئمة القوم وأعلامهم، أمثال مالك وأبي حنيفة والسفيانين وأيوب السختياني وشعبة وابن جريح وغيرهم ؟، كلّ ذلك لما كان عليه من البُعد عن مجتمع الناس الذي يجلب التهمة اليه بطلب الرياسة والخلافة، ولتستّره في نشر العلم والأخلاق، ولولا ذلك لما ظهرت علومه وفضائله، ولولا ذلك لما عرف الناس شأن أهل البيت وحقيقة القرآن وعلوم الدين، ولولا ذلك لما وضح ما كان عليه أرباب السلطتين، ولولا ذلك لما بادت كثير من الفِرق الباطلة، وقامت الحجّة عليها من ذوي الفقه والكلام، ولولا ذلك لما بلغت الشيعة سبعين مليوناً، وحلّت في كلّ صقع واحتلّت كثيراً من البلاد(١) .

فمن ههنا تعرف أثر التقيّة في خدمة الدين والشريعة، وردّ عوادي الظلم والضلالة، وتعريف الناس حقائق الايمان، وبطلان الشبهات والمبتدعات.

فلا أخالك بعد هذا البيان تصغي إِلى شيء من الغمز في التقيّة ونسبة الشيعة إِلى الباطنيّة من جرّاء ذلك التكتّم في الاعتقاد، والتستّر في المذاهب.

وما كان هذا الإسهاب إِلا لرفع النقاب عن محيا الحقيقة لمن يزعم أن التقيّة مجهولة المحاسن، لأنها حجاب كثيف وعسى أن يكون ما وراء الحجاب ألف عيب وألف نقص، ومن يتّقي في عقيدته كيف يعرف الناس ما لديه ويرون جمال ما يضمره، أترى يصحّ هذا الغمز والنبز بعدما ألمسناك فوائدها، وأريناك منافعها ؟

على أن اليوم بفضل المطابع قد انتشرت علوم الشيعة وعقائدهم، فأين الكتمان وأين الإتّقاء ؟ وما كان الإتّقاء إِلا في ذلك العهد يوم كانت الشيعة قليلي العدد والاُهبة، ولو مسحهم السيف لم يبق للبيت وأهله ذكر وعلم وحجّة ورواية، وأمّا اليوم فهم في جنّة واقية من نشر هاتيك الكتب التي ملأت الخافقين، ولم تدع عذراً لكاتب وقارئ يزعمان أن مذهب الاماميّة باطنيّاً يتستّر بالتقيّة، لا نعرف مبادية وعقائده، ولا اُصوله وفروعه، فإن كتبهم بالأيدي، في كلّ علم وفن، ومصادرهم مقروّة ومداركهم مبثوثة.

____________________

(١) استوفينا البيان عن الشيعة وعددهم وبلدانهم في كتابنا «تاريخ الشيعة» وقد أخرجته المطابع فاقرأه ففيه عن ذلك بلغة ومتعة.

٧٥

الصادق والمحن

كفى في امتحان أهل الدين هذا التصارع الدائم بين الدين والدنيا وقلّماً ائتلفا في عصر، ولولاه لما كانت التقيّة، ولما كانت تلك الفوادح النازلة بساحة أهل البيت.

ليس الصراع بين أهل البيت وبين اُميّة والعبّاس غريباً مادام أهل البيت مثال الدين، واولئك مثال الدنيا.

يعلم المروانيّون والعبّاسيّون أن الصادقعليه‌السلام زعيم هذا التصارع ولئن صمت عن مصارعتهم بالحرب فلا يكفيهم أماناً من حربه لهم، ولربما كان الصمت نفسه أداة الصراع أو هو الصراع نفسه، فإن السكوت قد يكون جواباً كما يقولون.

فمن ثمّ تجدهم يوجّهون اليه عوادي المحن كلّ حين، وما كفّهم عن تعاهده بالأذى ذلك الانعزال والانشغال بالعبادة والعلم، فإن هذا الشغل هو سلاح الحرب، لأنه ظاهرة الدين وبه تتّجه الأنظار اليه، وكلّما ارتفع مقام الصادق قويت شوكة الدين، وإِذا قوي الدين انصرع أهل الدنيا.

ولولا تشاغل الاُمويّين بالفتن بينهم لما أبقوا على الصادقعليه‌السلام ، كما لم يبقوا على آبائه، أجل كأنهم تركوا ذلك إلى أبناء عمّه الأقربين،( واولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ) !(١)

كانت أيام السفّاح أربع سنين، وهذا الزمن لا يكفي لتطهير الأرض من أُميّة، ولبناء اُسّ المُلك وترسيخ دعائمه، فلم يشغله ذلك عن الصادقعليه‌السلام ، فإنه لم يطمئن بعدُ من أُميّة والروح الموالية لهم، ولم يفرغ من تأسيس ذلك البناء حتّى أرسل على الصادق من المدينة إِلى الحيرة، ليفتك به، ولكن كفى بالأجل حارساً.

ولماذا كان الصادق إِحدى شُعب همّه، وهو ابن عمّهم الذي اشتغل بالعبادة والتعليم والارشاد، والذي أخبرهم بما سيحظون به من المُلك دون بني الحسن، وقد كانوا بأضيق من جحر الضب من بني أُميّة، وأقلق من الريشة في مهبّ الريح خوفاً منهم.

ما كان يدفع السفّاح على ذلك العمل الشائن إِلا ما قلناه من ذلك الصراع حذراً من أن يتّجه الناس إِلى الصادقعليه‌السلام ، ويعرفوا منزلته، والناس إِلى ذلك العهد كانت ترى أن الخلافة مجمع السلطتين الروحيّة والزمنيّة، ولا تراها سلطاناً خالصاً لا علاقة لها بالدين، فلا يصرف الناس عن الصادق أنه رجل الدين الخالص، بل أن هذا ادعى عند بعض الناس للامامة، ليكونوا منه في أمان على دنياهم، كما هم في أمان على دينهم.

____________________

(١) الأنفال: ٧٥.

٧٦

وبذلك الحذر وقف المنصور بمرصد للصادقعليه‌السلام ، فشاهدعليه‌السلام منه ضروب الآلام والمكاره، وما كفّ ولا عفّ عنه حتّى أذاقه السمّ.

ولا عجب ممّا كان يلاقيه أبو عبد اللّهعليه‌السلام من تلك المكاره، فإنّ محن المرء على قدر ما له من فضيلة وكرامة، وعلى قدر مقامه بين الناس وطموحه إِلى الرتب العالية.

كان بين ولاية المنصور ووفاة الصادقعليه‌السلام اثنتا عشرة سنة لم يجد الصادق فيها راحة ولا هدوءً على ما بينهما من البُعد الشاسع، الصادق في الحجاز، والمنصور في العراق، وكان يتعاهده بالأذى، كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالطرف والتحف.

يقول ابن طاووس أبو القاسم علي طاب ثراه(١) في كتاب «مهج الدعوات» في باب دعوات الصادقعليه‌السلام : إِن المنصور دعا الصادق سبع مرّات كان بعضها في المدينة والربذة حين حجّ المنصور، وبعضها يرسل اليه إِلى الكوفة وبعضها إِلى بغداد، وما كان يرسل عليه مرّة إِلا ويريد فيها قتله، هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول، ونحن نذكرها بالتفصيل:

الاولى: روى ابن طاووس عن الربيع حاجب المنصور قال: لما حجّ المنصور(٢) وصار بالمدينة سهر ليلة فدعاني فقال: يا ربيع انطلق في وقتك هذا على أخفض جناح وألين مسير، وإِن استطعت أن تكون وحدك فافعل حتّى تأتي أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد فقل له: هذا ابن عمّك يقرأ عليك السّلام ويقول لك:

____________________

(١) رضيّ الدين أبو القاسم علي بن موسى الحسني الحلّي من آل طاووس جمع بين العلم والعبادة والزهادة وبين الشعر والأدب والانشاء والبلاغة، تنسب اليه الكرامات العالية، وقيل: إنه كان أعبد أهل زمانه وأزهدهم، وعن العلامة الحلّي في بعض إجازاته وهو ممّن روى عنه، يقول عند ذكره: وكان رضيّ الدين علي صاحب كرامات حكي بعضها وروى لي والدي البعض الآخر، وكان أزهد أهل زمانه.

(٢) حجّ المنصور أيّام الصادقعليه‌السلام ثلاث مرّات عام ١٤٠ و١٤٤ و١٤٧ وبعد وفاة الصادق مرّتين عام ١٥٢ وعام ١٥٨ فلم يتمّ الحجّ، انظر تاريخ اليعقوبي: ٣/١٢٢ طبع النجف، والذي يظهر أن المنصور في كلّ مرّة من الثلاث يأمر بجلب الصادقعليه‌السلام .

٧٧

إِن الدار وإِن نأت والحال وإِن اختلفت فإنّا نرجع إِلى رحم أمسّ من يمين بشمال، ونعل بقبال(١) وهو يسألك المصير اليه في وقتك هذا، فإن سمح بالمصير معك فأوطئه خدّك، وإِن امتنع بعذر أو غيره فاردد الأمر اليه في ذلك، وإِن أمرك بالمصير اليه في تأنّ فيسّر ولا تعسّر، واقبل العفو ولا تعنف في قول ولا فعل، قال الربيع: فصرت إِلى بابه فوجدته في دار خلوته فدخلت عليه من غير استئذان، فوجدته معفّراً خدّيه مبتهلاً بظهر كفّيه قد أثَّر التراب في وجهه وخدّيه، فأكبرت أن أقول شيئاً حتّى فرغ من صلاته ودعائه، ثم انصرف بوجهه فقلت: السّلام عليك يا أبا عبد اللّه فقال: وعليك السّلام يا أخي، ما جاء بك، فقلت: ابن عمّك يقرأ عليك السّلام، حتّى بلغت إِلى آخر الكلام، فقال: ويحك يا ربيع( ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحقّ ولا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) (٢) ويحك يا ربيع( أفأمن أهل القرى أن يأتيَهم بأسُنا بياتاً وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيَهم بأسُنا ضحىً وهم يلعبون، أفأمنوا مكرَ اللّه فلا يأمن مكرَ اللّه إِلا القوم الخاسرون ) (٣) قرأت على أمير المؤمنين السّلام ورحمة اللّه وبركاته، ثمّ أقبل على صلاته، وانصرف إِلى توجّهه، فقلت: هل بعد السّلام من مستعتب أو اجابة، فقال: نعم، قل له:( أفرأيت الذي تولّى، وأعطى قليلاً واكدى، أعنده علم الغيب فهو يرى، أم لم ينبّأ بما في صحف موسى، وإِبراهيم الذي وفّى، ألا تزر وازرة وزر أُخرى، وأن ليس للانسان إِلا ما سعى، وأنّ سعيَهُ سوف يُرى ) (٤) إِنّا واللّه

____________________

(١) بالكسر زمام بين الاصبع الوسطى والتي يليها.

(٢) الحديد: ١٥.

(٣) الأعراف: ٩٧ - ٩٩.

(٤) النجم: ٣٣ - ٤٠، وأن هذه الآيات فيها تذكير ووعظ وتهديد، وأن الانسان مقرون بعمله ولا يؤاخذ بغير وزره.

٧٨

يا أمير المؤمنين قد خفناك وخافت بخوفنا النسوة اللاتي أنت أعلم بهنّ، ولا بدّ لنا من الايضاح به(١) فإن كففت وإِلا أجرينا اسمك على اللّه عزّ وجل في كلّ يوم خمس مرّات(٢) وأنت حدّثتنا عن أبيك عن جدّك أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أربع دعوات لا يحجبن عن اللّه تعالى: دعاء الوالد لولده، والأخذ بظهر الغيب لأخيه، والمخلص...

قال الربيع، فما استتمّ الكلام حتّى أتت رسل المنصور تقفو أثري وتعلم خبري فرجعت فأخبرته بما كان فبكى، ثمّ قال: ارجع إِليه وقل له: الأمر في لقائك اليك والجلوس عنّا، وأمّا النسوة اللاتي ذكرتهنّ فعليهنّ السّلام فقد آمن اللّه روعتهنّ وجلى همّهنّ، قال: فرجعت اليه فأخبرته بما قال المنصور فقال: قل له: وصلت رحماً، وجزيت خيراً، ثمّ اغرورقت عيناه حتّى قطر من الدموع في حجره قطرات.

ثمّ قال: يا ربيع إِن هذه الدنيا وان أمتعت ببهجتها، وغرّت بزبرجها(٣) فقلت: يا أبا عبد اللّه أسألك بكلّ حقّ بينك وبين اللّه جلّ وعلا إِلا عرفتني ما ابتهلت به إِلى ربّك تعالى، وجعلته حاجزاً بينك وبين حذرك وخوفك فلعلّ اللّه يجبر بدوائك كسيراً، ويغني به فقيراً، واللّه ما اعني غير نفسي، قال الربيع: فرفع يده وأقبل على مسجده كارهاً أن يتلو الدعاء صفحاً، ولا يحضر ذلك بنيّة، فقال: قل: اللّهم إني أسألك يا مدرك الهاربين، ويا ملجأ الخائفين، الدعاء.(٤)

____________________

(١) أحسبه يريد أنه لابدّ من الافصاح بحقيقة الحال.

(٢) يريد أنه يدعو عليه بعد كلّ صلاة، ويكون من دعاء المظلوم الذي لا يحجب.

(٣) سوف نذكرها في المختار من كلامه في باب مواعظه.

(٤) ذكرنا هذه الأدعية التي في هذا الفصل كلّها فيما جمعناه من دعاء الصادقعليه‌السلام فإنّا لمّا رأينا أن أدعيته في هذا الفصل طويلة وكثيرة آثرنا جمعها مع ما ظفرنا به من أدعيته الاُخر وجعلناها كتاباً مفرداً وسمّيناه دعاء الصادق وقد اجتمع لدينا حتّى اليوم ما يناهز ٤٠٠ صفحة بقطع هذا الكتاب.

٧٩

ليس في استدعاء المنصور للصادقعليه‌السلام في هذه الدفعة ظاهرة سوء، فما الذي أقلق أبا عبد اللّه وروع نساءه، وجعله يتوسّل إِلى اللّه تعالى في كفّ شرّ المنصور، إِن أبا عبد اللّه أبصر بقومه وأدرى بنواياهم، ومن الدفعات الآتية تتّضح لك جليّاً مقاصد المنصور مع الصادقعليه‌السلام ، وأنه ما كان يقصد من هذا الإرسال إِلا السوء.

الثانية: وروى ابن طاووس عن الربيع أيضاً، قال حججت مع أبي جعفر المنصور فلمّا صرت في بعض الطريق قال لي المنصور: يا ربيع إِذا نزلت المدينة فاذكر لي جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن عليعليهم‌السلام فواللّه العظيم لا يقتله أحد غيري، إحذر أن تدع أن تذكّرني به، قال: فلمّا صرنا إِلى المدينة أنساني اللّه عزّ وجل ذكره، فلما صرنا إِلى مكّة قال لي: يا ربيع ألم آمرك أن تذكّرني بجعفر بن محمّد اذا دخلنا المدينة، قال: فقلت: نسيت يا مولاي يا أمير المؤمنين، فقال لي: فاذا رجعنا إِلى المدينة فذكّرني به فلا بدّ من قتله، فإن لم تفعل لأضربنّ عنقك، قال: فقلت له: نعم يا أمير المؤمنين، ثم قلت لأصحابي وغلماني: ذكّروني بجعفر بن محمّد إِذا دخلنا المدينة إِن شاء اللّه قال: فلم يزل أصحابي وغلماني يذكّروني به في كلّ منزل ندخله وننزل فيه حتّى قدمنا المدينة، فلمّا نزلنا المدينة دخلت الى المنصور فوقفت بين يديه وقلت: يا أمير المؤمنين جعفر بن محمّد، قال: فضحك وقال لي: نعم اذهب يا ربيع فأتني به ولا تأتني به إِلا مسحوباً، قال: فقلت له: يا مولاي حبّاً وكرامة، وأنا أفعل ذلك طاعة لأمرك، قال: ثمّ نهضت وأنا في حال عظيم من ارتكابي ذلك، قال: فأتيت الامام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام وهو جالس في وسط داره، فقلت له جعلت فداك: إِن أمير المؤمنين يدعوك اليه، فقال: السمع والطاعة، ثمّ نهض وهو معي يمشي، قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إِنه أمرني ألا آتيه بك إِلا مسحوباً، قال: فقال الصادقعليه‌السلام : امتثل يا ربيع ما أمرك به، قال الربيع: فأخذت بطرف كمّه أسوقه، فلمّا أدخلته عليه رأيته وهو جالس على سريره وفي يده عمود من حديد يريد أن يقتله به، ونظرت الى جعفر بن محمّد يحرّك شفتيه فلم أشكّ أنه قاتله، ولم أفهم الكلام الذي كان جعفر بن محمّد يحرّك به شفتيه، فوقفت أنظر اليهما، قال

٨٠