الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ٢

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 163

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 163
المشاهدات: 64507
تحميل: 7193


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 163 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64507 / تحميل: 7193
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 2

مؤلف:
العربية

١

بسِمِ اللّهِ الرّحَمنِ الرَّحيَمِ

الحمد للّه الذي منّ علينا بالإسلام، وعرّفنا خيرته من الأنام، وصلاته وسلامه على خاتم الأنبياء وعلى آله الأئمة الأوصياء.

المختار من كلامه

إِن كلام أبي عبد اللّهعليه‌السلام لا تنزفه الدلاء، ولا تلمّ به صحائف، وما اكثر اُصوله، وأوفى فروعه، وإِنما نريد ههنا أن نذكر منه فصولاً أربعة، هي : الخطب، والعِظات، والوصايا، والحِكم، فإن بها نجعة الرائد ورواء الظمآن، وحياة النفس، إِجتهدتُ في جمعها واختيارها من خيرة الكتب وصفوة المؤلّفات.

١ - خُطبه

لم يعرف عنه أنه رقى الأعواد للإرشاد ولم تكن ظروفه تواتيه أن يخطب على الجماهير، ومع ذلك فقد عثرت قدر الوسع في التنقيب على خطبتين إِحداهما طويلة، والاُخرى قصيرة.

أمّا الاُولى فهي على فصلين : (الأوّل) في صفة النبيّ خاصّة وهو قوله(١) : فلم يمنع ربّنا لحلمه وأناته وعطفه ما كان من عظيم جرمهم وقبيح أفعالهم أن انتجب لهم أحبّ أنبيائه اليه واكرمهم عليه، محمّد بن عبد اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في

______________________

(١) لا يصلح أن يكون هذا الكلام ابتداء الخطبة، فلا بدّ أن يكون لها ابتداء غير هذا، ولقد تتبّعت أبواب الكافي فلم أجد فيها زيادة على ما أوردناه.

٢

حومة العزّ(١) مولده، وفي دومة الكرم محتده(٢) غير مشوب حسَبه، ولا ممزوج نسَبه، ولا مجهول عند أهل العلم صفته، بشّرت به الأنبياء في كتبها، ونطقت به العلماء بنعتها، وتأمّلته الحكماء بوصفها، مهذّب لا يدانى، هاشميّ لا يوازى، أبطحيّ لا يسامى، شيمته الحياء وطبيعته السخاء، مجبول على أوقار(٣) النبوَّة وأخلاقها، مطبوع على أوصاف الرسالة وأحلامها الى أن انتهت به أسباب مقادير اللّه الى أوقاتها وجرى بأمر اللّه القضاء فيه الى نهاياتها، أدّى محتوم قضاء اللّه الى غاياتها يبشّر به كلّ اُمّة من بعدها، ويدفعه كلّ أب الى أب من ظهر الى ظهر، لم يخلط في عنصره سفاح، ولم ينجسه في ولادته نكاح، من لدن آدم إِلى أبيه عبد اللّه في خير فرقة، واكرم سبط، وأمنع رهط، وأكلأ حمل، وأودع حجر، اصطفاه اللّه وارتضاه واجتباه، وآتاه من العلم مفاتيحه، ومن الحِكم ينابيعه، ابتعثه رحمةً للعباد، وربيعاً للبلاد، وأنزل اللّه اليه الكتاب، فيه البيان والتبيان، قرآناً عربيّاً غير ذي عوج لعلّهم يتّقون، قد بيّنه للناس ونهجه بعلم قد فصّله، ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها، وحدود حدّها للناس وبيّنها، واُمور قد كشفها لخلقه وأعلنها، فيها دلالة الى النجاة ومعالم تدعو الى هداة، فبلّغ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما اُرسل به، وصدع بما اُمر به، وأدَّى ممّا حمّل من أثقال النبوّة، وصبر لربّه، وجاهد في سبيله، ونصح لاُمّته، ودعاهم الى النجاة، وحثّهم على الذِّكر، ودلّهم على سبيل الهدى، بمناهج ودواع أسّس للعباد أساسها، ومنازل رفع لهم أعلامها، كي لا يضلّوا من بعده، وكان بهم رؤوفاً

______________________

(١) أي في أرفع موضع من العز.

(٢) الدومة - بالضم - الشجرة، والمحتد - بفتح الميم وكسر التاء - الأصل.

(٣) أثقال.

٣

رحيماً(١) .

(الفصل الثاني) ما كان منها في صفة الأئمةعليهم‌السلام ، ذكره الكليني طاب ثراه في الكافي، كتاب الحجّة، باب نادر جامع في فصل الإمام وصفاته، وذكره المسعودي علي بن الحسين(٢) في كتاب الوصيّة ص ١٣٩، قال : ولمّا أفضى أمر اللّه عزّ وجل اليه - يعني الصادقعليه‌السلام - جمع الشيعة وقام فيها خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه وذكّرهم بأيّام اللّه، ثمّ ذكر الفصل الذي سنذكره، وبين رواية الكليني ورواية المسعودي اختلاف قليل، ونحن نورده على رواية الكليني لأن فيها زيادات.

قالعليه‌السلام : إِن اللّه تعالى أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبّنا عن دينه، وأبلج(٣) بهم عن سبيل منهاجه، وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، فمن عرف من اُمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجب حقّ إِمامه وجد طعم حلاوة إِيمانه، وعلم فضل طلاوة(٤) إِسلامه، لأن اللّه تعالى نصب الإمام علَماً لخلقه، وجعله حجّة على اهل مواده(٥) وعالمه، وألبسه تعالى تاج الوقار، وغشاه من نور الجبّار، يمدّ بسبب من السماء لا ينقطع عنه مواده(٦) ولا ينال ما عند اللّه إِلا بجهة

______________________

(١) الكافي، باب مولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال بعد أن ذكر السند عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام : في خطبة له خاصّة يذكر فيها حال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمةعليهم‌السلام وصفاتهم، فذكر ههنا ما اختصّ بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر في باب فضل الإمام وصفاته ما اختص بالإمام.

(٢) أبو الحسن الهذلي البغدادي صاحب التآليف القيّمة ومن أشهرها مروج الذهب وهو إِماميّ المذهب ويعتمد عليه الفريقان، ولم تضبط سنة وفاته، وقيل : إِنه كان حيّاً الى عام ٣٤٥.

(٣) أوضح وأنار.

(٤) الطلاوة - مثلثة الطاء - الحسن والبهجة والقبول.

(٥) جمع مدة - بالضم - البرهة من الدهر، أي أهل زمانه.

(٦) جمع مادة.

٤

أسبابه، ولا يقبل اللّه أعمال العباد إِلا بمعرفته(١) فهو عالم بما يرد عليه من ملتبسات الدجى، ومعميات السنن، ومشتبهات الفتن، فلم يزل اللّه تعالى مختارهم لخلقه من ولد الحسينعليه‌السلام من عقب كلّ إِمام إِماماً، يصطفيهم لذلك ويجتبيهم، ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم، كلّما مضى منهم إِمام نصب لخلقه من عقبه إِماماً، عَلماً بيّناً، وهادياً نيّراً، وإِماماً قيّماً، وحجّة عالماً، أئمة من اللّه يهدون بالحقّ وبه يعدلون، حجج اللّه ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهداهم العباد وتستهلّ بنورهم البلاد، وينمو ببركتهم التلاد(٢) جعلهم اللّه حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للاسلام، جرت بذلك فيهم مقادير اللّه على محتومها، فالامام هو المنتجب المرتضى، والهادي المنتجى(٣) والقائم المرتجى(٤) اصطفاه اللّه بذلك واصطنعه على عينه في الذرّ حين ذرأه، وفي البريّة حين برأه، ظلاً قبل خلق الخلق نسمة عن يمين عرشه، محبواً بالحكمة في عالم(٥) الغيب عنده، اختاره بعلمه، وانتجبه لطهره، بقيّة من آدمعليه‌السلام ، وخيرة من ذرّيّة نوح، ومصطفى من آل إِبراهيم، وسلالة من إِسماعيل، وصفوة من عترة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يزل مرعيّاً بعين اللّه يحفظه ويكلأه بستره، مطروداً عنه حبائل إِبليس وجنوده، مدفوعاً عنه وقوب الغواسق(٦) ونفوث كلّ فاسق(٧) ،

______________________

(١) كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات ولم يعرف إِمام زمانه مات ميتة جاهلية، أي كأنه لم يسلم ولم يعمل عملاً في الاسلام عبادة أو غيرها.

(٢) أي النتاج المتأخّر.

(٣) بالبناء للمفعول أي المنتخب أو المخصوص بالسرّ من الانتجاء الاختصاص بالمناجاة.

(٤) المرتضى في نسخة.

(٥) علم «خ».

(٦) الوقوب : الدخول، والغواسق : جمع غاسق الظلام، ويراد منه كلّ ما يطرق بالليل من سوء من الهوام والسباع والفسّاق.

(٧) النفث : السحر.

٥

مصروفاً عنه قوارف السوء(١) مبرأً من العاهات، معصوماً من الفواحش كلّها، معروفاً بالحلم والبرّ في يفاعه(٢) منسوباً الى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه، مسنداً اليه أمر والده، صامتاً عن المنطق في حياته، فاذا انقضت مدّة والده الى أن انتهت به مقادير اللّه الى مشيّته، وجاءت الإرادة من اللّه فيه الى محبّة(٣) وبلغ منتهى مدّة والده صلّى اللّه عليه فمضى وصار أمر اللّه اليه من بعده، وقلّده دينه وجعله الحجّة على عباده، وقيّمه في بلاده وأيّده بروحه وآتاه علمه وأنبأه فصل بيانه، ونصبه عَلماً لخلقه، وجعله حجّةً على أهل عالمه، وضياءً لأهل دينه، والقيّم على عباده، رضي(٤) اللّه به إِماماً لهم، استودعه سرّه، واستحفظه علمه، واستخبأه حكمته، واسترعاه لدينه، وانتدبه لعظيم أمره، وأحيى به مناهج سبيله، وفرائضه وحدوده، فقام بالعدل عند تحيّر أهل الجهل، وتحيير أهل الجدل، بالنور الساطع، والشفاء النافع، بالحقّ الأبلج، والبيان اللائح من كل مخرج، على طريق المنهج الذي مضى عليه الصادقون من آبائهعليهم‌السلام ، فليس يجهل حقّ هذا العالم إِلا شقي، ولا يجحده إِلا غوي، ولا يصدّ عنه إِلا جريء على اللّه تعالى.

أقول : لعلّك تخال بأن هذه النعوت كبيرة على الإنسان بحكم العادة، وأين من يحمل هذه الصفات ولكنّك لو نظرت الى أن الإمامة خلافة الرسول، وأن خليفته يجب أن يقوم بوظائفه، مرشداً لاُمّته، مصلحاً للناس عامّة، لايقنت أن هذه النعوت لا تنفكّ عنه، وأنه لا بدّ أن يكون في الاُمّة من يتحلّى بهذه

______________________

(١) قوارف السوء : أعماله ومقارباته.

(٢) شبابه.

(٣) حجّته «خ» حجبه «خ».

(٤) جواب «فاذا انقضت».

٦

السمات(١) .

(الخطبة الثانية) هي المرويّة في مناقب ابن شهراشوب «١/ ١٨٣ - ١٨٤» قال : لمّا دخل هشام بن الوليد المدينة أتاه بنو العبّاس وشكوا من الصادقعليه‌السلام أنه أخذ تركات ماهر الخصي دوننا، فخطب أبو عبد اللّهعليه‌السلام فكان ممّا قال :

إِن اللّه لمّا بعث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أبونا أبو طالب المواسي له بنفسه والناصر له، وأبوكم العبّاس وأبو لهب يكذبان ويوليان عليه شياطين الكفر وأبوكم يبغي له الغوائل، ويقود اليه القبائل في بدر، وكان في أوّل رعيلها وصاحب خيلها ورجلها، المطعم يومئذٍ، والناصب له الحرب، ثمّ قال :

فكان أبوكم طليقنا وعتيقنا، وأسلم كارهاً تحت سيوفنا، ولم يهاجر إِلى اللّه ورسوله هجرة قط، فقطع اللّه ولايته منّا بقوله :( الذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء ) (٢) ثمّ قال :

مولى لنا مات فخرنا تراثه، إِذ كان مولانا ولأنّا ولد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واُمّنا فاطمة أحرزت ميراثه.

أقول : إِن الصادق أرفع من أن يواقف بني العبّاس من جراء المال، ولكن إِخال أنه يريد أن يكشف حالاً للعبّاس كانت مجهولة، لأن المُلك سوف يوافي بنيه فيعلم الناس شأن من يملك منهم الرقاب.

وهذه الكلمات على وجازتها تفيد التاريخ فوائد جمّة، ولا أحسب أن التاريخ يذكر للعبّاس تلك المواقف.

______________________

(١) سبق في الطليعة صدر الكتاب برهاننا على الإمامة، واستوفينا ما يجب أن يتصف به الإمام مع البرهان عليه في رسالتنا «الشيعة والإمامة».

(٢) الأنفال : ٧٢.

٧

وقد سبق أن قلت : إِني لم أجد حسب الجهد في التتبّع خُطَباً لصادق أهل البيت غير ما ذكرنا، نعم إِلا أن يكون وقوفه في وجه شيبة بن عفال والي المنصور على المدينة يعدّ من الخطب، فتكون ثلاثاً، وقد أوردناها في مواقفه مع المنصور وولاته في الجزء الأول.

٢ - عِظاته

ما زال إِمامناعليه‌السلام ينشر مواعظه الخالدة بين الناس لتهذيبهم وإِرشادهم الى طريق اللّه تعالى اللاحب، وحرصاً على سعادتهم في الدارين، والذي وصل الينا منها الشيء الكثير الذي يفوت الحصر وهو مبثوث في غضون الكتب التي بين أيدينا.

وقد رأينا أن نورد أهمّ ما وصل الينا من هذه المواعظ مرتّباً على الأبواب على نحو ما يأتي :

المعرفة

معرفة اللّه تعالى أوّل الواجبات، وأساس الفضائل والأعمال، بل هي غاية الغايات، ومنتهى كمال الانسان، وعلى قدر التفاضل فيها يكون التفاضل بين الناس، ولأجله جعلناها في طليعة مواعظه، وكفى من كلامه فيها أن نورد هذه الشذرات الآتية التي يدعو فيه الى المعرفة، ويحثّ عليها كاشفاً عن جليل آثارها وعظيم لذّتها، فقالعليه‌السلام :

«لو يعلم الناس ما في فضل معرفة اللّه عزّ وجل ما مدّوا أعينهم الى ما متّع اللّه به الأعداء من زهرة هذه الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلّ عندهم ممّا يطؤونه بأرجلهم، ولنعموا بمعرفة اللّه عزّ وجل وتلذّذوا به تلذّذ من لم يزل في روضات الجنّات مع أولياء اللّه، إِن معرفة اللّه عزّ وجل أنس من كلّ وحشة، وصاحب من كلّ وحدة، ونور من كلّ ظلمة، وقوّة من كلّ ضعف، وشفاء من كلّ سقم» .

٨

ثمّ قالعليه‌السلام :«قد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير، وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردهم عمّا عليه شيء ممّا هم فيه، من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى، بل ما نقموا منهم إِلا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد، فاسألوا درجاتهم، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم» (١) .

إِنّهعليه‌السلام يصف المعرفة كمن ذاقها، فيحبّذ هذا الطعم الشهي للناس، ونحن لاسترسالنا في الغفلة لا نعرف ذلك المذاق، سوى أننا نفقه أن من اتّجه الى معرفة اللّه تعالى ودنا من حظيرة القدس شبراً بعدُ عن متاع هذا الوجود ميلاً، وكلّما تجرّد عن زخرف هذا الوجود استزهد ما دون معرفة واجب الوجود.

الخوف والرجاء

إِنَّ اللّه سبحانه جمع بين العظمة والرأفة، وبين الغضب والرضى، فعلى سعة رحمته عظيم سخطه، وعلى جزيل ثوابه كبير عقابه، ومن كانت رحمته واسعة كان الأمل بشمولها للمجرم قريباً، ومن كان عقابه شديداً كان الخوف من سخطه أكيداً، فلا بدَّ للمؤمن إِذن أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء، لأنه لا يدري بأيّة زلّة يُؤخذ فيكتب في ديوان المجرمين، ولا يعلم على أيّة حسنة يُثاب فيُحسب من المحسنين، فيجب عليه أبداً أن يحذر الزلّة فيتّقيها، ويرعى الحسنة فيوافيها، وتعاليم الصادقعليه‌السلام الواردة عنه هي من أعظم ما ورد في هذا الباب تشرح حقيقة الخوف والرجاء وكيف يجتمعان وضرورة اجتماعهما في المؤمن وأثر انعدامهما على الانسان، وما الى ذلك، فقال في الخوف:

______________________

(١) الكافي : ٨/٢٠٧/٣٤٧.

٩

«خف اللّه كأنك تراه وإِن كنت لا تراه فانّه يراك، وإِن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإِن كنت تعلم أنه يراك ثمّ بدرت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك» .(١)

أقول : أمّا الكفر بإنكار رؤيته للناس فلأن معناه إِنكار علمه بالموجودات وهو يساوق إِنكار خلقه بل إِنكار وجوده.

وأمّا أنه يكون أهون الناظرين فواضح لأن المرء إِذا أحسّ أن أحداً ذا شأن وبطش وقوّة مشرف على عمله ساخط عليه قادر على الفتك به، فإنه لا محالة يكفّ عن العصيان خجلاً أو حذراً وخوفاً، وإِنما يكون التهاون بالناظر والمطّلع إِذا كان ممّن لا يتّقى أو يخشى أو كان ممّن يستهان برضاه وغضبه وثوابه وعقابه، فالمبادر بالمعصية مع علمه بأنه تعالى لا يراه لا محالة قد جعله أهون الناظرين.

وقالعليه‌السلام أيضاً : من عرف اللّه خافه، ومن خاف اللّه سخت نفسه عن الدنيا(٢) .

وقالعليه‌السلام : إِن من العبادة شدة الخوف من اللّه عزّ وجل، يقول اللّه عزّ وجل :( إِنما يخشى اللّهَ من عباده العلماء ) (٣) وقال جلّ ثناؤه :( فلا تخشَوا الناس واخشَونِ ) (٤) وقال تبارك وتعالى :( ومن يتّقِ اللّه يجعل له مخرجاً ) (٥) ، إِن

______________________

(١) الكافي، باب الخوف والرجاء : ٢/٦٧/٢.

(٢) نفس المصدر : ٢/٦٨/٤.

(٣) الملائكة : ٢٨.

(٤) المائدة : ٤٤.

(٥) الطلاق : ٢.

١٠

حُبّ الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب(١) .

وقالعليه‌السلام في قوله عزّ وجل :( ولمن خاف مقام ربّه جنّتان ) (٢) : من علمَ أن اللّه يراه ويسمع ما يقول، ويعلم ما يعمله من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربّه، ونهى النفس عن الهوى.

وقالعليه‌السلام : المؤمن بين مخافتين، ذنب قد مضى لا يدري ما صنع اللّه فيه، وعُمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إِلا خائفاً ولا يصلحه إِلا الخوف(٣) .

أقول : كذلك صلاح المؤمن يكون بالخوف أبداً، لأنه إِذا خاف اتجه بكلّ جارحة وجانحة لدفع ما يخاف منه، فينصرف عن العصيان ويقبل على الطاعة.

وقالعليه‌السلام : من خاف اللّه أخاف اللّه منه كلّ شيء ومن لم يخف اللّه أخافه من كلّ شيء(٤) .

وقالعليه‌السلام في الخوف والرجاء معاً : ينبغي للمؤمن أن يخاف اللّه تعالى خوفاً كأنه مُشرِف على النارِ، ويرجو رجاءً كأنه من أهل الجنّة - ثمّ قال - : إِنّ اللّه تعالى عند ظنّ عبده إِن خيراً فخيراً، وإِن شرّاً فشرّاً(٥) .

أقول : كذلك ينبغي للمؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء كما قال تعالى :( يدعون ربّهم خوفَاً وطمعاً ) (٦) لأن الخوف وحده قد يبعث على اليأس والقنوط، واليأس من رحمة اللّه مذموم يثبّط العبد عن العمل الصالح، والرجاء وحده قد يدفع بالعبد على الأمن من مكر اللّه وهو ضلال وخيبة يقعد بالعبد عن النشاط للعبادة، وأمّا المراد من أن اللّه تعالى عند ظنّ عبده فلا يبعُد أن يكون أنه في رعاية العبد ومكافاته على حسب ما يظن، لا أنه يكون كذلك بمجرّد الظن وإِن عمل ما لا يرتضيه اللّه تعالى من السوء وهو يظنّ فيه الخير، كما سينبّه عليه.

______________________

(١) الكافي، باب الخوف والرجاء : ٢/٦٩/٧.

(٢) الرحمن : ٤٦.

(٣) الكافي : ٢/٧١/١٢.

(٤) مجالس الشيخ الطوسي، المجلس /٤٢، والكافي : ٢/٦٨/٣.

(٥) الكافي : ٢/٧٢/٣.

(٦) السجدة : ١٦.

١١

وقالعليه‌السلام : لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو(١) .

أقول : لأن العمل مظهر الخوف والرجاء فإن لم يعمل كان كاذباً في دعوى الخوف والرجاء، وعليه الوجدان، فإن من خاف أحداً على نفسه أو نفيسه اجتهد في الحيطة والحذر، ومن رجا توسّل بالذرائع التي تقرّبه من المرجو.

وقالعليه‌السلام : حسن الظنّ باللّه ألا ترجو إِلا اللّه ولا تخاف إِلا ذنبك(٢) .

أقول : لأن رجاء غير اللّه لا يكون إِلا عن شكّه في قدرة اللّه ورحمته لعباده أو عن توهّم أن غير اللّه له قدرة مستغنية عنه تعالى وهذا سوء ظنّ بالقادر الرحيم، وكذلك خوف غير الذنب من نحو الخوف من الموت والانسان والمخلوقات الاُخرى فإنه يستلزم الشكّ في قدرة اللّه ورحمته.

وقيل له : قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت، فقالعليه‌السلام : هؤلاء يترجّحون(٣) في الأماني، كذبوا ليسوا

______________________

(١) الكافي، باب الخوف والرجاء : ٢/٧١/١١.

(٢) الكافي، باب حسن الظن باللّه : ٢/٧٢/٤.

(٣) يتذبذبون.

١٢

براجين، من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شيء هرب منه(١) .

أقول : فإن المرجو لا ينال بغير السعي والطلب إِلا صدفة، والمخاف لا يسلم منه بغير الهرب إِلا صدفة، وهل يتَّكل العاقل الرشيد في أمريه على الصدف.

الورع والتقوى

إِن من آثار معرفته تعالى والخوف منه تقواه والورع عن محارمه، ولذلك حذَّرَ أبو عبد اللّهعليه‌السلام من التورّط في المخالفة ورَغّبَ في الإحاطة بالتقوى، والورع في الدين.

فيقول مرّة :«اتقوا اللّه وصونوا دينكم بالورع» واُخرى بعد أن رَغَّب في الزُّهد :«عليكم بالورع» (٢) وثالثة :«من أشدّ ما فرضَ على خلقه ذكر اللّه كثيراً، ولا أعني سبحان اللّه والحمد للّه ولا إِله إِلا اللّه واللّه اكبر، وإِن كان منه، ولكن ذكر اللّه عند ما أحلَّ وحرَّم، فإن كان طاعة عمل بها، وإِن كان معصية تركها» (٣) .

أقول : حقّاً أنّ موقف الإنسان لشديد أمام الواجب والمحرّم، بأن يجعل اللّه نصب عينيه عندهما، فيعمل ما يجب، ويرفض ما حرّم، وان الورع ليعلم في هذه المواقف حين لم يكن القاهر غير النفس والدين.

وسُئل مرَّة عن تعريف الورع من الناس ليعرفوا بذلك حقيقة الورع فقالعليه‌السلام : الذي يتورّع عن محارم اللّه عزّ وجل(٤) .

______________________

(١) الكافي، ٢/٦٨/٥.

(٢) الكافي، باب الورع : ٢/٧٦/٣.

(٣) الكافي، باب اجتناب المحارم : ٢/٨٠/٤.

(٤) الكافي، باب الورع : ٢/٧٧/٨.

١٣

وسُئلَ عن قوله اللّه عزّ شأنه :( وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءاً منثوراً ) (١) فقالعليه‌السلام : أما واللّه إِن كانت أعمالهم أشدّ بياضاً من القباطي(٢) ولكن اذا عرض لهم حرام لم يَدعوه(٣) .

وقال المفضّل بن عمر(٤) يوماً : أنا ما أضعف عملي، فقالعليه‌السلام له : مَه إِستغفر اللّه، إِن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى، فقال له : كيف يكون كثيراً بلا تقوى ؟ قالعليه‌السلام : نعم مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله(٥) فاذا ارتفع له الباب من الحرام دخله(٦) .

وهذا نظير قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إِن من قال لا إِله إِلا اللّه غرست له شجرة في الجنّة، فقال له بعض أصحابه : إِذن إن شجرنا في الجنّة لكثير، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولكن لا ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها.

______________________

(١) الفرقان : ٢٣.

(٢) الثياب المنسوبة الى قبط مصر.

(٣) الكافي، باب اجتناب المحارم : ٢/٨١/٥.

(٤) الجعفي الكوفي ممّن أخذ عن الصادق والكاظمعليهما‌السلام وكان من وكلاء الصادق في الكوفة وسنذكره في ثقات المشاهير من رواته.

(٥) كناية عن استعداده لقبول الأضياف وغشيانهم داره.

(٦) الكافي، باب الطاعة : ٢/٧٦/٧.

١٤

الزهد

الزهد : هو الإعراض عن الدنيا بقلبه وجوارحه، رغبته في الآخرة وفي ما عند اللّه تعالى، وهو أحد منازل الدين وأعلى مقامات العارفين.

وحقّاً أن العارف باللّه لا ينبغي أن يعبأ بالدنيا إِن أقبلت عليه أو أدبرت عنه، لأن الإقبال عليها يشغله عن التماس تلك الرتب، التي لا يحسّ بحلاوتها إِلا من تجرّد عن هذه الشواغل.

ولذلك يقول صادق أهل البيتعليهم‌السلام : جعل الخير كلّه في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا.

ويروي هو لنا عن المرشد الاكبر جدّه النبي صلّى اللّه وآله قوله : لا يجد الرجل حلاوة الإيمان حتّى لا يبالي من أكل الدنيا.

ثمّ يقول الصادقعليه‌السلام : حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتّى تزهد في الدنيا.

ويقول مرّة ترغيباً في الزهد : ما أعجب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الدنيا إِلا أن يكون فيها جائعاً خائفاً.

ويقول تارة : اذا أراد اللّه بعبده خيراً زهّده في الدنيا، وفقّهه في الدين وبصّره عيوبها، ومن اُوتيهنّ فقد أوتي خير الدنيا والآخرة.

أقول : حقّاً أنّ الخير كلّه في هذه الثلاث، لأن فيها الراحة والطمأنينة والبصيرة، وهذا هو الخير في هذه العاجلة، والحظوة بالرتب العليّة في تلك الآجلة كما وعد اللّه.

ويقول أيضاً : لم يطلب أحد الحقّ بباب أفضل من الزهد في الدنيا، وهو ضدّ لما طلب أعداء الحقّ من الرغبة فيها، ألا مِن صبّار كريم، فإنما هي أيام قلائل.

١٥

أقول : إِن الذي يحول بين المرء وبين الحقّ هو الحبّ للدنيا والرغبة فيها، فإن الرغبة في وفرة المال تمنعه عن أداء حقّه، والحبّ للجاه يحجزه عن القول بالحقّ، والميل الى الراحة يصدّه عن القيام بالفرض، فلا يطيق المرء إِذن أن يقول الحقّ أو يعمله أو يبلغه إِن لم يعرض عن هاتيك الأماني النفسيّة، نعم إِن الإعراض عن هذه الرغائب يحتاج الى صبر وسخاء نفس، ومن ثمّ ندب الصادق الى هذا الصفح أرباب الصبر والكرم ثمّ أشار الى أن الصبر والكرم لا ينبغي أن يكونا عزيزين في الناس اذا انتبهوا الى أن البقاء في الدنيا لا يكون إِلا أياماً قلائل، لأن الانسان اذا عرف أن الشدّة لا تدوم وطّنَ نفسه على السخاء والصبر على تلك المكاره.

ثمّ أنهعليه‌السلام رغّب في الزُّهد من طريق نفعه العاجل، وهو أحسن ذريعة للرغبة في الشيء، لأن المرء يريد أبداً أن يكون لعمله نتيجة عاجلة، فقال : ومن زهد في الدنيا أثبت اللّه الحِكمة في قلبه، وانطلق بها لسانه، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها وأخرجه اللّه سالماً الى دار السّلام(١) .

نعم يجب أن نعرف الزُّهد وحقيقته، لئلا نخبط في التلبّس به خبط عشواء، فقد سأله بعض العارفين من أصحابه عن حدّ الزهد في الدنيا، فقالعليه‌السلام : فقد حدّه اللّه في كتابه، فقال عزّ من قائل :( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) (٢) ثمّ قال : إن أعلم الناس أخوفهم للّه، وأخوفهم له أعلمهم به، وأعلمهم به أزهدهم فيها(٣) .

أقول : إِن تحديده للزهد بما في الآية الكريمة يفهمنا أن الزهد في الدنيا ليس كما يتبادر الى بعض الأفهام من الجشوبة في العيش والخشونة في الملبس، وإِن كانتا من آثاره أحياناً، وإِنّما هو أعلى وأرفع من ذلك.

إِن المرء اذا كان مُعرِضاً عن الدنيا هانت عليه فلا يحزن بما فات، ولا يفرح بما هو آت، ولو كان مقبلاً عليها لأحزنه الفائت وأسرَّه الآتي، فأحسن كاشف عن حقيقة الزُهد في الدنيا هذا الحزن والفرح.

ولو كان الزُهد الصفح عن نعيم هذا الوجود وما فيه من ملذّات كما

______________________

(١) الكافي، باب ذمّ الدنيا والزهد فيها : ٢/١٢٨/١.

(٢) الحديد : ٢٣.

(٣) بحار الأنوار : ٧٨/١٩٣/٧.

١٦

تصنع المتصوَّفة لما خلق اللّه هذه الطيّبات منَّه على العباد، أفهل يا ترى يمنّ عليهم بشيء وهو الجواد ويكره أن ينالوا منه البلغة، فلمن إِذن خلَق تلك الطيّبات من الرزق( قُل مَن حرَّم زينة اللّه التي أَخرَج لِعبادِه والطيّباتِ مِن الرّزق ) (١) . ويكشف لنا عن جليّة الحال بقولهعليه‌السلام :«فأمّا اذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها، ومؤمنوها لا منافقوها، ومسلموها لا كفّارها» وقد قال ذلك عندما رأوه وعليه ثياب بيض وعابوا عليه تلك البزَّة وحسبوها من الرغبة في الدنيا، وكان شعار آبائه الزهد.

نعم إِنَّما يُراد من العبد ألا يكون شغله الطيّبات وهمّه هذه الحياة، بل أن يكون شغله ما هو أرفع، وهمّه فيما هو أبقى وأنفع.

إِن اللّه سبحانه قد فرض فرائض، وحدّد حدوداً لم يسأل العباد عمّا وراءها، ولذلك تجد الصادقعليه‌السلام يرشدنا الى تلك الحقيقة فيقول : أورع الناس من وقف عند الشبهة، وأعبد الناس من أقام الفرائض، وأزهد الناس من ترَكَ الحرام، وأشدّ الناس اجتهاداً من ترَكَ الذنوب(٢) .

الدنيا :

ليست دُنيا الانسان إِلا نفسه وما فيها من غرائز وشهوات وأفكار واعتقادات، وكلّ شيء ما عدا نفسه فهو خارج عن ذاته أجنبيّ عنه، بل ليس من دُنياه في شيء، ولا يرتبط به إِلا بمقدار ما يرتبط في أفكاره وآرائه وإِشباع شهواته وتحقيق ما تدفع اليه الغرائز.

فاذا اُشبعت شهواته كلّها فقد حاز على كلّ ما في دنياه بحذافيرها وإِلا فهو محروم منها بمقدار بقاء بعض شهواته جائعة أو مكبوتة.

______________________

(١) الأعراف : ٣٠.

(٢) بحار الأنوار : ٧٨/١٩٢/٥.

١٧

غير أن إِشباع جميع الشهوات من المستحيل على الانسان في هذه الحياة الدنيا، ولنضرب مثلاً بشهوة حبّ الاستعلاء والسيطرة التي هي أشدّ الشهوات عرامة وقوّة، فإن الإنسان مهما بلغ من السلطان والاستطالة لا بدّ أن تكون هنا جهات اُخرى لم يشملها سلطانه أو تزاحمه عليه وتضايقه أو متمرّدة عليه، فشهوة السلطان والحال هذه لا تشبع أبداً مهما حاول صاحبها إِشباعها، على أنها كلّما غذيت تقوى وتشتدّ ولا تصل الى حدّ الإشباع، ومثلها أيضاً من هذه الناحية شهوة التملّك والحيازة، فإن كلّ ما تحقق لصاحبها التملّك من الأموال فإن الأموال - بطبيعة الحال - لا يحوزها كلّها بل الأكثر يبقى ممتنعاً عليه، وهو يزيد كلّما زادت أمواله شهوةً وحرصاً على جمعها.

مضافاً الى أن إِشباع مثل شهوة السيطرة والتملّك لا يتمّ حتّى بعضه إِلا بالتنازل عن كثير من الشهوات مثل شهوة الراحة والاستقرار والأمن لأن الاحتفاظ بالسيطرة والتملّك أو توسعتهما يستدعي كثيراً من مدافعة المزاحمين ومناهضة المتمرّدين، وكلّما زادت سيطرته وتملّكه زادت المزاحمة فتزيد محروميّته من اشباع كثير من الشهوات، وهكذا كلّما زاد الإنسان انغماراً في الشهوات وحرصاً على دُنياه زادت شهواته عرامة وقوّة وبقيت اكثر شهواته بلا إِشباع تلحُّ عليه وتؤلمه وتنغّص عليه عيشه وراحته حتّى يموت في سبيل ذلك.

وما أعظم تصوير هذه الناحية في الإنسان في كلمات إِمامناعليه‌السلام إِذ يقول :«إِنَّ مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتّى يقتله» (١) .

______________________

(١) الكافي، باب ذمّ الدنيا والزهد فيها : ٢/١٣٦/٢٤.

١٨

ويقولعليه‌السلام :«مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القزّ كلّما ازدادت من القزّ على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمّا» (١) .

ويقولعليه‌السلام في التحذير من الدنيا :«إِنَّ مثل الدنيا مثل الحيّة مسّها ليّن وفي جوفها السمّ القاتل، يحذرها الرجل العاقل، ويهوى اليها الفتيان بأيديهم» (٢) .

أقول : إِن الرجل العاقل هو المجرّب الذي خبر الدنيا فعرف أنها لا تصفو من الكدر وأنها تخبئ كثيراً من الآلام والآفات والنكبات، أما الغرّ غير المجرّب فهو كالطفل يرى حلاوتها ولم يشعر بمرارتها، فيغترّ بها كما يغترّ بلين مسّ الحيّة وإِن كان فيها السمّ القاتل، والامامعليه‌السلام وجميع المصلحين يحذّرون من الاغترار بنعيم الدنيا، لأنه يسبّب طغيان الانسان وعتوّه ونسيان الآخرة وما يجب من العمل لها في فرصة الحياة الدنيا. وإن شئت أن تبعد غوراً في عرفانها فتبصّر بقوله في صفتها :

«إِن هذه الدنيا وإِن أمتعت ببهجتها، وغرّت بزبرجها، فإن آخرها لا يعدو أن يكون كآخر الربيع، الذي يروق بخضرته ثمّ يهيج (٣) عند انتهاء مدته، وعلى من نصح لنفسه وعرف ما عليه وله أن ينظر اليها نظر من عقل عن ربّه جلّ وعلا وحذر سوء منقلبه، فإن هذه الدنيا خدعت قوماً فارقوها أسرع ما كانوا اليها، وأكثر ما كانوا اغتباطاً بها، طرقتهم آجالهم بياتاً وهم نائمون، أو ضحَى وهم يلعبون، فكيف اُخرجوا عنها، والى ما صاروا بعدها، أعقبتهم الألم، وأورثتهم

______________________

(١) الكافي، باب حبّ الدنيا والحرص عليها : ٢/٣١٦/٧.

(٢) كتاب الزهد للثقة الجليل الحسين بن سعيد بن حمّاد بن مهران الأهوازي، باب ما جاء في الدنيا ومن طلبها : ٤٥/١٢١.

(٣) ينبس.

١٩

الندم، وجرعتهم مُرَ المذاق وغصّصتهم بكأس الفراق، فيا ويح من رضي عنها أو أقرّ عيناً، أما رأى مصرع آبائه، ومن سلف من أعدائه وأوليائه أطول بها حيرة، وأقبح بها كرّة، وأخسر بها صفقة، واكبر بها ترحة، اذا عاين المغرور بها أجله وقطع بالأماني أمله، وليعمل على أنه اُعطي أطول الأعمار وأمدَّها، وبلغ فيها جميع الآمال، هل قصاراه إِلا الهرم، وغايته إِلا الوهم (١) نسأل اللّه لنا ولك عملاً صالحاً بطاعته، ومآباً الى رحمته، ونزوعاً عن معصيته، وبصيرةً في حقّه، فإنما ذلك له وبه» (٢) .

وتأمّل قوله في نعتها ونعت ذويها :«كم من طالب للدنيا لم يدركها، ومدرك لها قد فارقها، فلا يشغلنّك طلبها عن عملك، والتمسها من مُعطيها ومالكها، فكم من حريص على الدنيا قد صرعَته، واشتغل بما أدرك منها عن طلب آخرته حتّى فُني عمره وأدركه أجله» (٣) .

وما أصدق قوله في تحليلها وأطوار الناس فيها :«ما الدنيا وما عسى أن تكون، هل الدنيا إِلا اكل اكلته، أو ثوب لبسته، أو مركب ركبته، إِن المؤمنين لم يطمئنوا في الدنيا ولم يأمنوا قدوم الآخرة، دار الديا دار زوال، ودار الآخرة دار قرار، أهل الدنيا أهل غفلة، إِن أهل التقوى أخفّ أهل الدنيا مؤونة واكثرهم معونة، إِن نسيت ذكّروك، وإِن ذكّروك أعلموك، فانزل الدنيا كمنزلٍ نزلته فارتحلت عنه، أو كمالٍ أصبته في منامك فاستيقظت وليس في يدك شيء منه، فكم من حريص على أمر قد شقي به حين أتاه، وكم

______________________

(١) الثقل والرداءة.

(٢) مهج الدعوات، في باب أدعية الصادق، وقد أشرنا اليها في فصل استدعاء المنصور له في أوّل مرّة.

(٣) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه في أحوال الصادقعليه‌السلام .

٢٠