دراسات في الكافي للكليني، والصحيح للبخاري

دراسات في الكافي للكليني، والصحيح للبخاري0%

دراسات في الكافي للكليني، والصحيح للبخاري مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 357

دراسات في الكافي للكليني، والصحيح للبخاري

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف:

الصفحات: 357
المشاهدات: 59764
تحميل: 7409

توضيحات:

دراسات في الكافي للكليني، والصحيح للبخاري
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 357 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59764 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الكافي للكليني، والصحيح للبخاري

دراسات في الكافي للكليني، والصحيح للبخاري

مؤلف:
العربية

به واستنصره ولكنه تجاهله وكأن الامر لا يعنيه وجاء بعد ذلك يطالب بدمه متخذاً من قميص لوثه بدماء حيوان وسيلة لتضليل أهل الشام واستجداء عطفهم ونجدتهم للمطالبة بدمه واغراهم بولايته الشرعية التي تخوله وحده ان يثأر للخليفة المقتول ظلماً وعدواناً على حد زعمه وزعم الذين قادوا الثورة للبصرة في حين انهم كانوا يزودون الثائرين على عثمان بكل ما يضمن لهم النجاح والقضاء عليه.

وتم له الاستيلاء على الحكم بالخداع والمكر واراقة الدماء وتبذير الاموال لشراء الخونة من اهل العراق وغيرهم، وظل نحواً من عشرين عاماً يحكم باسم الدين ويداه تقطران من دماء الابرياء والصلحاء ومضى الى ربه وهو يحث الجماهير ويشتري الضمائر بالاموال لينتقموا له من علي والطيبين من ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بدلاً من الاستغفار والندم والتوبة وان كانت لا تجديه شيئاً.

ومن تتبع تاريخه واحصى تصرفاته لا يرتاب في انه كان يعمل بكل ما لديه من قوة للقضاء على الاسلام والرجوع الى الجاهلية الاولى بكل مظاهرها واشكالها.

وهو مع كل ذلك من عدول المسلمين ومجتهديهم المعذورين فيما صدر منهم، والمأجورين على جميع جرائمهم حتى في اغراء جعدة بنت الاشعث على قتل الحسن ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقتله الصحابي الجليل حجر بن عدي واصحابه البررة والحاقه زياداً بأبيه وغير ذلك من جرائمه التي لا تحصى.

وقد مضى الامويون طيلة حكمهم في محاربة الاسلام باحياء مظاهر الجاهلية بجميع اشكالها وحاول عبد الملك وولده هشام بن عبد الملك

١٠١

التوهين من مقام النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق دعاتهما المنتشرين في انحاء البلاد، ويؤكد ذلك ما جاء في تاريخ التمدن الاسلامي لجرجي زيدان.

قال: كان الحجاج بن يوسف عامل عبد الملك يفضل الخلافة على النبوة، ويقول: ما قامت السموات والارض الا بالخلافة، وان الخليفة عند الله افضل من الملائكة المقربين والانبياء والمرسلين، واذا حاجه احد في ذلك قال: أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله اليهم، وكان عبد الملك اذا سمع ذلك اعجب به، واقتدى بالحجاج من جاء بعده من العمال الاشداء كخالد القسري عامل هشام بن عبد الملك فقد كان يقول بمقالته، وخطب الناس في مكة، فقال: أيها الناس أيهما أعظم أخليفة الرجل على اهله ام رسوله اليهم؟ يعرض برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بلغ الحال ببعض المتملقين اليهم ان احدهم وقف مرة ليخطب الناس فاخطأ في آية من القرآن، فوقف بعض المتملقين، وقال: لا يهولنك ايها الامير ما رأيت عاقلاً قط حفظ القرآن انما يحفظه الحمقى من الرجال(١) .

ومهما كان الحال فمعاوية بصفته صحابياً مأجوراً على جميع اعماله، قال ابن كثير في كتابه «الباعث الحثيث»: واما ما شجر منهم بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين، والاجتهاد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذور وان اخطأ، ومأجور ايضاً، واما المصيب فله اجران اثنان واضاف الى ذلك. ان ما ذهبت اليه المعتزلة من ان الصحابة كلهم عدول الا من قاتل علياً قول مردود ومرذول(٢) .

ومنهم سمرة بن جندب الصحابي صاحب النخلة التي ساومه النبي

____________________

(١) انظر ص ٢ ج ٢ تاريخ التمدن الاسلامي عن العقد الفريد والمسعودي وابن الاثير والاغاني.

(٢) انظر ص ١٨٢ من الباعث الحثيث.

١٠٢

عليها بالجنة، فأبى ان يقبل شيئاً من تلك العروض المغرية، واصر على الدخول على الانصاري وايذائه، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يستعطفه حرصاً على حقه وصوناً لكرامة الانصاري، ولما رأى النبي تعنته واصراره على ايذاء الانصاري، قال له: اذهب فاقلعها وارم بها وجهه، لا ضرر ولا ضرار في الاسلام.

وكان سمرة من انصار المنحرفين عن علي (ع)، وخاض الفتن معهم، واشترك في جميع المخازي والمنكرات التي اظهرها معاوية، وجاء عن أبي هريرة انه قال لرجل من أهل البصرة: ما فعل سمرة بن جندب، قال انه حي يرزق قال ابو هريرة: ما احد احب الي طول حياة منه، لان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي وله ولحذيفة اليمان: آخركم موتاً في النار.

وكان يتلذذ بقتل الابرياء، وجاء عنه انه قتل في البصرة ثمانية آلاف ممن لا يحل قتلهم في دين الله، ولما ضج أهلها من قسوته واستهتاره بالدماء قال لهم: واي بأس على المقتول، فمن كان من اهل الجنة عجلناه اليها، ومن كان من اهل النار مضى الى مقره، وقتل من بني سوار العدوي سبعة واربعين رجلاً من حفاظ القرآن في يوم واحد، وحرض التابعين على الخروج لحرب الحسين بن علي (ع) وقتاله، واعطاه معاوية خمسمئة الف درهم مقابل ان ينسب الى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ان الآية «ومن الناس من يشري نسه ابتغاء مرضاة الله»، تعني ابن ملجم لانه قتل علياً (ع)، وان الآية «ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه، واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد» نزلت في علي بن ابي طالب (ع)(١) الى غير ذلك من المنكرات التي ارتكبها ويكفيه ذماً قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : انك رجل مضار ووقوفه الى جانب معاوية وتحريضه على قتل الحسين (ع)، ومع ذلك

____________________

(١) انظر لشرح النهج ج ١ ص ٣٦١ و ٣٦٣.

١٠٣

فهو من عدول المسلمين، ومن المجتهدين المأجورين على جميع اعمالهم.

ومنهم المئات ممن كانوا يكيدون للاسلام، ويتعاطون جميع المعاصي والمنكرات على اختلاف انواعها، ومن اراد ان يتتبع اخبارهم ويحصي عليهم تصرفاتهم لا يكفيه مجلد خاص في هذا الموضوع.

ونحن لا نريد من وراء ذلك انتقاص الصحابة، وانكار فضلهم، فان للصحبة شرفها وللعمل الصالح اجره، وللجهاد فضله، وانما الذي أردناه ان الصحبة ليست من اسباب العصمة عن الذنوب، وان الاسلام قد نظر الى الانسان من خلال اعماله وتصرفاته، لا من خلال امجاده والقابه واوصافه ولم يجعل لقرابة الدم والعرق ميزة فضلاً عن الالقاب والصفات، نريد ان نقول لمن يشترطون عدالة الراوي، وتزكيته بشاهدين عدلين، ان جلال السنة ومكانتها من التشريع، واثرها في حفظ الثروة الاسلامية، كل ذلك يفرض علينا ان نتأكد من صحة الحديث اياً كان الراوي له، ولا يكفينا ان نتثبت من احوال الرواة، حتى اذا انتهينا الى الصحابي الراوي للحديث، نقف امامه خاشعين واجمين كانه قرآن منزل من غير ان تتأكد صحته ومن غير ان ننظر الى متن الرواية نظرة فاحصة واعية ونعرضها على العقل والقرآن واصول الاسلام.

ان هذا الغلو في تقديس مرويات الصحابة، قد ادخل على السنة النبوية مجموعة من الخرافات والاحاديث المكذوبة، لا يزال المسلمون ينظرون اليها نظرة تقديس واحترام لان رواتها من الصحابة، وهي في واقعها وصمة على السنة وسلاح بيد اعداء الاسلام للهدم والتخريب، والتشنيع على المسلمين ومعتقداتهم ومن الغريب المؤسف أن يغالي السنة في الصحبة الى حد القول: بأن يوماً واحداً حضره معاوية بن هند مع رسول الله، خير من عمر بن عبد العزيز واهل بيته، مع العلم بان عمر بن عبد العزيز كان من خيرة الحكام في سيرته وسياسته وعدله وزهده.

١٠٤

لقد قال الشيعة بعصمة الائمة الاثني عشر فاقاموا الدنيا واقعدوها وقالوا هم بعصمة الالوف من البشر من حيث لا يشعرون، واذا انكر عليهم الشيعة عدالة مروان وابيه الذي كان يحكي النبي في مشيته ساخراً ويدلع له لسانه ويغمز عليه عينه. وعدالة معاوية وامثاله، وصفوهم بالرفض والغلو وغيرها من الاوصاف.

وليست العصمة في حساب الشيعة الا ترك المعاصي على اختلاف اصنافها وفعل الواجبات، وليس ذلك بنظر العقل من المحالات، وتاريخ الائمة (ع) يؤكد ما يدعيه الشيعة فقد بذل اخصامهم السياسيون والمذهبيون اقصى ما لديهم من جهد في سبيل انتقاصهم فلم يستطيعوا ان يلصقوا بهم عيباً، او تساهلاً في واجب وانحرافاً عن الحق.

لقد انكر السنة عصمة علي (ع)، وقالوا بعدالة معاوية ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص وبسر بن ارطاة وغيرهم من العشرات الذين وصفهم القرآن بالنفاق معلناً بذلك في كثير من آياته وسوره، ووصفهم الرسول بالارتداد عن الدين والرجوع الى جاهلتيهم الاولى، واذا جازت العدالة التي تشد الانسان الى الله، وتحول بينه وبين انتهاك حرماته، اذا جازت على معاوية وابيه، ومروان وأمثاله، فكيف يستسيغ اصحاب هذه الفرية ان يهاجموا من يذهب الى عصمة علي (ع) القائل: والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت، والقائل ان امرتكم لا تساوي نعلاً بالية اذا لم تكن وسيلة لاحقاق الحق وازهاق الباطل، والى عصمة ابنائه الائمة الهداة الذين نهجوا نهجه، واتبعوا سيرة جدهم الاعظم، وحاربوا الظلم والظالمين، والطغاة والمتجبرين، واستهانوا في حياتهم في سبيل الله وخير الانسانية.

وهل العصمة الا الرجوع الى الله سبحانه في جميع الامور صغيرها

١٠٥

وكبيرها وترك ما نهى الله عنه بنحو تكون هذه المرتبة من الايمان وكأنها طبيعة له تلازمه ملازمة الضوء للشمس والظل لذي الظل.

وجاء عن الامام زين العابدين (ع) انه قال: لا يكون الامام منا الا معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فتعرف، قيل له فما معنى المعصوم قال: المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان الى يوم القيامة، فالامام يهدي الى القرآن، والقرآن يهدي الى الامام(١) .

واذا كان مرد العصمة التي يدعيها الامامية لعلي والائمة من ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الى هذا المعنى، فهل هي بنظر العقل والعادة من المحالات حتى تتعرض لتلك الهجمات العنيفة من جانب اهل السنة، مع العلم بانهم اثبتوها مصغرة لآلاف المسلمين بما فيهم الذين ساروا باتجاه معاكس لمبادئ الاسلام والقرآن طيلة حياتهم، ولولا ان الاسلام قد تساهل في اطلاق لفظ المسلم واعطاءه لكل من نطق بالشهادتين ولو بلسانه، لكان من الواجب اخراجهم من صفوف المسلمين حتى في التسمية.

واعود لاكرر ان الشيعة لا يستخفون بالصحابة جميعهم كما يدعي المهوشون والمضللون، ولا يخالفون قول ربهم وسنة نبيهم بالنسبة اليهم فيتبعون الصالحين الصادقين في ايمانهم، ويستخفون بمن عناهم الله سبحانه بقوله: ومن اهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردون الى عذاب عظيم، وبمن عناهم الرسول بقوله: «ارتدوا على ادبارهم القهقهرى، ولا يخلص منهم الا مثل همل النعم» ولا يتخطون رأي أئمتهم في الصحابة وغيرهم من الناس على اختلاف اصنافهم واديانهم الذين نظروا الى الناس من خلال اعمالهم وآثارهم لا من خلال القابهم وامجادهم.

____________________

(١) انظر مجمع البحرين مادة عصم.

١٠٦

وقد جاء في دعاء الامام زين العادين الذي كان بدعوته للانبياء واتباعهم، ما يؤكد ان الائمة لم يترددوا في تعظيم الطيبين من الصحابة وتقديسهم.

قال (ع) اللهم وصلِّ على أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة، وابلوا البلاء الحسن في نصره، واسرعوا الى وفادته، وسابقوا الى دعوته، واستجابوا له حيث اسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الازواج والاولاد في اظهار كلمته، وقاتلوا الابناء والآباء في تثبيت دعوته وانتصروا به، وحتى كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر اذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات اذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنسَ لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك، واشكرهم على هجرتهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش الى ضيقه يا ارحم الرحمين.

هؤلاء الذين عناهم الامام بتلك الدعوات المباركات من بين من أسموهم بالصحابة ينظر الشيعة اليهم بكل تقديس وتقدير ولا يرتاب احد في عدالتهم واستقامتهم وولائهم للرسول ودعوته المباركة طيلة حياتهم وجهادهم المخلص لاحيائها وارساء قواعدها الى ان فارقوا الدنيا بقلوب عامرة بالايمان ونفوس مطمئنة بما وعد الله به العاملين والمجاهدين.

الفصل الرابع : البخاري وصحيحه بنظر المحدثين

١٠٧

١٠٨

١٠٩

١١٠

هو محمد بن اسماعيل بن ابراهيم البخاري صاحب الصحيح المعروف (بصحيح البخاري).

وجاء في ترجمته انه ولد في شوال سنة ١٩٤ هجري، وتوفي في قرية تسمى (خرتنك) من بلاد سمرقند سنة ٢٥٦ هجري في اليوم الاول من شوال، وهو من اصل فارسي يعتنق المجوسية، واول من اسلم منهم جدابية المغيرة بواسطة اليمان الجعفي والي بخارى، وكان ولاؤه وولاء اولاده اليه، ولذلك فقد انتسب اليه فقال في نسبه: محمد بن اسماعيل ابو عبد الله الجعفي، فتكون نسبته اليه بالولاء لا بالنسب، وكان أبوه محدثاً مات وهو صغير السن، وترك له مالا جليلاً فنشأ محمد بن اسماعيل في حجر امه، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ الحديث فحفظ كتب ابن المبارك ووكيع وهما من مشاهير المحدثين في القرن الثاني، قبل ان يتجاوز السادسة عشر من العمر ونشط في طلب الحديث وحفظه الى ان نبغ في هذه الناحية وأصبح بنظر محدثي السنة من أوثق المحدثين واعرفهم فيه، وقضى شطراً من حياته يطلب الحديث حيث كان من بلد الى بلد حتى جمع ستمائة الف حديث انتخب منها كتابه المعروف بصحيح البخاري كما جاء في اكثر كتب التراجم التي تعرضت لتاريخه.

١١١

ونقل عنه بعض المحدثين انه قال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً الا اغتسلت وصليت ركعتين، وبقي ستة عشرة سنة يتتبع الاحاديث ويستقصيها حتى أتمه، وبلغ من ثقة المحدثين به ان أبا الحسن المقدسي كان يقول: كل من روى عنه البخاري في صحيحه فقد جاز القنطرة، أي لا بد ان تكون شروط الراوي بكاملها متوفرة.

وقال الخطيب البغدادي في ترجمة الامير ابي الهيثم، خالد بن احمد بن احمد المتوفى سنة ٢٧٠ هجري انه تولى امارة بخارى وسكنها وترك فيها آثاراً محمودة واخذ الحديث عن ابن راهويه وغيره، وانفق في طلب العلم اكثر من الف الف درهم، ولما استوطن بخارى وفد عليه حفاظ الحديث، فبسط يده بالاحسان اليهم، وطلب من محمد بن اسماعيل البخاري ان يلازم مجلسه، فامتنع عن ذلك واظهر الاستخفاف به، فاخرجه من بخارى الى سمرقند فلم يزل بها حتى وافته المنية.

وقال ابن العماد الحنبلي: ان البخاري قد نقل عن الف من العلماء، ولم ينقل الا عمن كان يقول: الايمان قول وعمل.

وجاء عنه انه قال: الذي دفعني الى تأليف الصحيح، هو اني رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة اذب عنه، فسألت بعض الذين يتعاطون تفسير الاحلام عن تأويل ذلك، فقال: انك تذب عنه الكذب، فاتجهت الى اختيار الصحاح من المرويات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله

وجاء عن الفريري. انه سمع محمد بن ابي حاتم البخاري الوراق يقول: رأيت محمد بن اسماعيل البخاري في المنام يمشي خلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكلما رفع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع.

واثنى عليه من ناحية احاطته بعلم الحديث واستخراج الصحيح منه جماعة من المحدثين ثناء بالغاً، فقد روى حمدون الاعمشي. انه رأى محمد

١١٢

ابن اسماعيل البخاري في جنازة ابي عثمان سعيد بن مروان، ومحمد بن يحيى يسأله عن الاسامي والكنى والعلل، فيمر عليها محمد بن اسماعيل كالسهم كأنه يقرأ قل هو الله أحد.

وقال فيه احمد بن حنبل ما اخرجت خراسان مثل محمد بن اسماعيل البخاري.

وجاء عن محمد بن يوسف الفريري انه قال: لقد سمع كتاب الصحيح من محمد بن اسماعيل تسعون الف رجل، وما بقي احد يروي عنه غيري.

وقال محمود بن عمر العقيلي: لما ألف البخاري كتابه الصحيح عرضه على احمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المدني وغيرهم فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة الا في اربعة احاديث قال العقيلي والقول فيها قول البخاري.

وجاء في هدى الساري للعسقلاني: ان الاسماعيلي في المدخل قال: بعد ان اثنى على صحيح البخاري وبالغ في الثناء عليه، ونحا نحوه في التصنيف جماعة منهم الحسن بن علي الحلواني، ومنهم ابو داود السجستاني وكان معاصراً له، ومنهم مسلم بن الحجاج، فرام مرامه واخذ عنه وعن كتبه، الا انه لم يضايق نفسه مضايقة ابي عبد الله البخاري، وروى عن جماعة لم يتعرض لهم البخاري.

وقال الحاكم ابو احمد النيسابوري: رحم الله محمد بن اسماعيل فانه ألف اصول الاحكام من الاحاديث، وبين للناس، وكل من جاء بعده فقد اخذ من كتابه كمسلم بن الحجاج وغيره.

وقال الدارقطني: لولا البخاري لما ذهب مسلم وما جاء، واضاف

١١٣

الى ذلك، واي شيء صنع مسلم انما اخذ كتاب البخاري فعمل عليه وزاد فيه بعض الزيادات.

ونص على ذلك القرطبي في كتابه المفهم في شرح صحيح مسلم، وبعد ان استعرض ابن حجر في مقدمة فتح الباري آراء المحدثين والعلماء في صحيح البخاري، وسرد الجهات المؤدية الى تفضيله على صحيح مسلم وجميع كتب الحديث، اخذ في بيان الخصائص والكرامات التي امتاز بها صحيح البخاري، ونقل عن ابي احمد بن ابي حمزة انه قال: قال لي بعض السادات المقر لهم بالفضل: ان صحيح البخاري ما قرئ في شدة الا فرجت، ولا ركب به في مركب فغرق.

وجاء في المقدمة. ان البخاري قد فقد بصره في حداثة سنه وذهبت عيناه، فرأت والدته ابراهيم الخليل في المنام فقال لها: يا هذه قد رد الله على ابنك بصره، فاصبح وقد رد الله عليه بصره، وكان بعد ذلك يكتب في الليالي المقمرة واورد من فضائله وكراماته حياً وميتاً ما لم يثبت مثله للانبياء والمقربين(١) . ومن امثلة ذلك، ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر الناس بتدريس كتاب البخاري. وروي عن ابي زيد المروزي ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جاءه وهو نائم بين الركن والمقام، فقال له: الى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي؟ قلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال جامع محمد بن اسماعيل. وجاء في المقدمة ايضاً ان الروائح العطرة الطيبة كانت تفوح من قبره بعد ان وضع فيه واستمرت زمناً طويلاً بعد دفنه، مما ادى الى ازدحام الناس حول قبره ليأخذوا من ترابه العطر الفواح، ولم يمتنعوا عنه الا بعد ان احيط بحاجز يحول بين الناس وبينه، وعد من كراماته انه كان يحفظ ستمئة الف حديث، وانه كان يحفظ كل ما يسمع وما يتلى عليه لاول مرة، ويمر بالكتاب مرة واحدة من اوله لآخره فيحفظه بالغاً

____________________

(١) انظر مقدمة فتح الباري الجزء الاول والثاني.

١١٤

ما بلغ، وانه وفد على البصرة، وهو غلام ليسمع الحديث، فذهب مع جماعة الى مشايخ البصرة ومحدثيها، وكلهم يكتب ما يتلى عليه، الا هو فانه كان يستمع ولا يكتب، وفي خلال خمسة عشر يوماً دون اصحابه خمسة عشر الف حديث، ولما لاموه على عدم الكتابة، اعاد عليهم كل ما سمعه وسمعوه، مما اضطرهم ان يعرضوا ما دونوه على محفوظاته(١) .

ومن تتبع ما قيل فيه، وما نسب اليه، يجد ان اتباعه قد غالوا في تقديسه وتعظيمه حتى خرجوا بذلك عن الحد المألوف ووضعوه في مستوى الاساطير، وكلمة المقدسي وحدها، «كل من روى عنه البخاري فقد جاز القنطرة» التي تعبر عن رأي الجمهور فيه، هذه الكلمة وحدها تكفي للتعبير عن غلوهم المتطرف فيه، ولو نزهوه عن هذه المبالغات والمقالات، وتركوه لآثاره ومؤلفاته، التي توفيه حقه كاملاً غير منقوص لو فعلوا ذلك لابعدوا عنه وعن صحيحه الطعون المسددة التي وجهها ويوجهها لهما كل باحث منصف ينشد الحقيقة مجرداً عن جميع العوامل والمؤثرات، ولكنهم لما أبوا الا ان يجعلوه ثاني القرآن، أبى الباحثون المنصفون الا ان ينظروا الى البخاري كمحدث اجتهد في جمع الحديث وتدوينه يخطئ ويصيب، والى كتابه كغيره من مجاميع الحديث التي جمعت الغث والسمين، والصحيح والفاسد.

____________________

(١) انظر ص ٢٥١ وما بعدها من الجزء الثاني مقدمة فتح الباري وانظر شذرات الذهب ج ٢ ص ١٣٤ و ١٣٥.

١١٥

الصحيح بنظر العلماء والمحدثين

الظاهر ان المحدثين من السنة متفقون على ان محمد بن اسماعيل البخاري اول من تطوع لتمييز الصحيح عن غيره، بعد ان كانت الطبقة الاولى التي دونت الحديث لا يعنيها من امره الا جمع حديث الرسول وأقوال الصحابة واقضيتهم من غير ترتيب وتبويب، وجائت الطبقة الثانية فوزعته على الابواب الفقهية ووضعت كل حديث في المحل المناسب له، فكان البخاري مجدداً في الطريقة التي سلكها، ومهد لمن الف من بعده كمسلم بن الحجاج، وابن ماجة المتوفى ٢٧٣ هجري، وابي داود المتوفى ٢٧٥ هجري، والترمذي المتوفى ٢٧٩ هجري، والنسائي المتوفى ٣٠٣ هجري.

وقال ابن كثير في الباعث الحثيث: اول من اعتنى بجمع الحديث الصحيح محمد بن اسماعيل، وتلاه تلميذه وصاحبه مسلم بن الحجاج النيسابوري فهما اصح كتب الحديث، والبخاري ارجح منه، لانه اشترط في كتابه هذا ان يكون قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه، واكتفى مسلم بالمعاصرة ولو لم يسمع منه(١) .

____________________

(١) انظر الباعث الحثيث ص ٢٥ وجاء ص ٣٠ من المجلد الاول من هدى الساري عن ابي المعمر المبارك بن احمد ان شرط الصحيح عند البخاري ان يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته الى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الاثبات ويكون اسناده متصلاً غير مقطوع وان كان للصحابي راويان فصاعداً فحسن، وان لم يكن الا راو واحد وصح الطريق اليه كفى، واضاف الى ذلك أبو بكر الحازمي أن يكون راويه مسلماً صادقاً غير مدلس ولا مختلط متصفاً بصفات العدالة ضابطاً سليم الذهن والاعتقاد.

١١٦

وجاء عنه انه استخرج كتابه الصحيح من ستمئة الف حديث، وانه كان يحفظ مائة الف حديث من الصحاح، ومائني الف من غيرها.

وقال جماعة: ان اصح الاحاديث ما في الصحيحين، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ويأتي بعد ذلك المرويات على شرطهما في صحة الحديث، وهي التي تكون جامعة للشروط المعتبرة عندهما ويأتي في المرتبة الاخيرة ما كان من المرويات على شرط احدهما.

ولما ألف الحافظ ابو الفرج الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧ هجري كتابه الموضوعات لم ينتقد البخاري الا في حديث واحد، فجاء العلماء من بعده فاقروا اكثر ما اورده في كتابه الا ما يتعلق بانتقاده البخاري ومسلماً(١) .

وقال السيد رشيد رضا: ان احاديث الجامع الصحيح للبخاري في جملتها اصح في صناعة الحديث وتحري الصحيح من كل ما جمع في الدفاتر من كتب الحديث، ويليه في ذلك صحيح مسلم، واضاف الى ذلك ويوجد في غيرهما من دواوين السنة احاديث اصح من بعض ما فيها، وما روي من رفض البخاري لمئات الالوف من الاحاديث التي كانت تروى يؤيد ذلك، فنفوا ما نفوا لينتقوا الصحاح الثابتة(٢) .

وجاء في التعليقة على الباعث الحثيث: الحق الذي لا مرية فيه عند اهل العلم بالحديث من المحققين ومن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الامر، ان احاديث الصحيحين كلها صحيحه ليس في واحد منها مطعن، او ضعف، وانما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الاحاديث على معنى ان ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد

____________________

(١) انظر ص ١٤٠ من السنة للدكتور السباعي.

(٢) الاضواء على السنة ص ٢٥٢.

١١٧

منهم في كتابه، واما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف فيها احد، فلا يهولنك ارجاف المرجفين، وزعم الزاعمين ان في الصحيحين احاديث غير صحيحة(١) .

ويبدو من تتبع آراء المحدثين والفقهاء في الصحيح للبخاري ان اكثرهم يرجحه على صحيح مسلم، وانهما معاً اصح المؤلفات في الحديث والذين يفضلونه على جميع الصحاح، بين من بلغ بهم الغلو الى تصحيح جميع مروياته، وبين من ضعف قسماً من احاديثه تفرد هو ببعضها، واشترك معه مسلم في اثنين وثلاثين حديثاً، كما نص على ذلك في مقدمة فتح الباري ص ٨١ وبالاضافة الى ذلك فقد تناول جماعة من المحدثين رجال البخاري، واتهموا عدداً كبيراً منهم بما يوحي بضعفهم وعدم جواز الاعتماد على مروياتهم، ومع ذلك فلم تتزعزع ثقة الجمهور فيه، وبالغوا في تقديسه والدفاع عنه حتى خرجوا عن المألوف والمعقول، وقد حدد المقدسي موقفهم منه بقوله: «كل من روى عنه البخاري فقد جاز القنطرة» أي يصبح فوق الشبهات والاحتمالات.

والواقع الذي لا يجوز التنكر له هو ان البخاري في اختياره لتلك المرويات التي دونها في صحيحه، والتي نظر اليها الجمهور وكأنها من وحي السماء يمكن ان تتلمس له المعذرة بالنسبة لمن لم يكن أمره واضحاً من حيث دينه وسيرته، فلا بد له والحال هذه من البحث عن حال الراوي والرجوع الى المصادر التي تبحث عن أحوال الرجال وتاريخهم حتى اذا تبين له انه مستوف للشروط من حيث العدالة والاستقامة وجب الرجوع الى متن الحديث من حيث موافقته للكتاب ومخالفته له واشتماله على العلل والقرائن وغير ذلك مما يؤكد صحته، او يمنع من الاعتماد عليه، وقد اختلفت آراء المحدثين في ذلك اشد الاختلاف، فالمعروف عن مالك

____________________

(١) الباعث الحثيث ص ٣٥.

١١٨

ابن انس، انه كان يعتمد على أحاديث أهل المدينة اكثر من غيرها، كما اعتمد ابن جريح على احاديث المكيين، والكثير من المحدثين لم يعتمدوا على مرويات العراقيين بحجة انها لا تخلو من التعليل في الغالب، هذا بالاضافة الى ان الانظار تختلف في تحديد العدالة باعتبارها من الشروط الاساسية في الراوي، فرب شخص يوثق رجلاً، ولا يراه غيره ثقة، لانه اطلع منه على ما يخل بالعدالة او على ما لم يطلع عليه غيره لا سيما وقد وجد البخاري وغيره في عصر تشعبت فيه الآراء والمعتقدات، وتفرق المسملون فيه شيعاً واحزاباً وتراشقوا بالتكفير والتفسيق، واستحل بعضهم دماء البعض الآخر وكان من ابرز ما حدث النزاع الذي استحكم بين المحدثين من جهة والمعتزلة من جهة اخرى. ففي مثل ذلك يمكن ان تتلمس للبخاري ولغيره العذر في اعتمادهم على هذا النوع من الرواة أجل قد يعذر البخاري في اعتماده على بعض الرواة ما دام بالامكان ان نجد له ولو ما يشبه العذر.

اما اذا كانت حالة الراوي واضحة ومخالفاته تأبى عن التأويل الذي ومهما كان الحال. فقد نص ابن حجر في هدى الساري، على مروياتهم مهما حاول المتعصبون لهم اعطائهم صفة البرائة وسلامة القصد، وسنتعرض في الفصول الآتية لبعض الطعون الموجهة لبعضهم كما جاء في كتب التراجم واحوال الرواة، بالاضافة الى من اشرنا اليهم من رواة احاديثه.

ومهما كان الحال. فقد نص ابن حجر في هدى الساري، على ابي اسحاق ابراهيم بن احمد المستعلي قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفريري، فرأيت فيه اشياء لم تتم، واشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيء، ومنها احاديث لم يترجم لها، فاضفنا بعض ذلك الى بعض، قال ابو الوليد: ومما يدل على

١١٩

صحة هذا القول، ان رواية ابي اسحاق المستعلي، ورواية أبي محمد السرخسي، ورواية ابي الهيثم الكشمهيني، ورواية ابي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع انهم انتسخوا من اصل واحد، وانما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة او رقعة مضافة انه من موضع ما فاضافه اليه.

ويبين ذلك انك تجد ترجمتين واكثر من ذلك متصلة ليس بينهما احاديث(١) وقد انتقد المحدثون والحفاظ البخاري بانه لم يتقيد بالنص الحرفي للرواية، واحياناً ينقل الرواية بالمعنى، وان رواياته تشتمل على المكرر والمعلق والموقوف، والمقطوع(٢) وغير ذلك من عيوب الرواية.

ومن الجائز القريب ان يكون البخاريرحمه‌الله قد وضع في حسابه ان لا يضع الصيغة النهائية لكتابه الا بعد جمعه اولاً ثم تميحص اسانيده، ومحاكمة متونه، ولكن الاجل قد وافاه بعد الفراغ من الجولة الاولى، التي تم له فيها ان يجمع تلك الكمية من الاحاديث بعد أن أنفق شطراً كبيراً من عمره متجولاً في المدن الاسلامية الكبرى التي تحولت مساجدها ونواديها، وبيوت علمائها الى معاهد لتدريس الحديث وتدوينه ولغير ذلك من العلوم والفنون، وفي هذه المرحلة كان يدون الاحاديث احياناً كما تنقل اليه واحياناً يعتمد على ذاكراته التي كانت اشبه بآلة للتسجيل تلتقط جميع ما يصل الى فضائها من الاصوات كما يستنتج ذلك من كتب التراجم التي وضعته في مستوى الاساطير، ولم يمهله الاجل لتمحيص اسانيده

____________________

(١) انظر الاضواء ص ٣٤٨ عن مقدمة فتح الباري.

(٢) المراد من المعلق هو الحديث الذي لم يذكر فيه السند من اوله، كأن يرويه ابتداء عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والموقوف هو الذي ينتهي سنده الى الصحابي من غير ان يتعرض للنبي في قول او فعل والمقطوع هو الذي ينتهي سنده الى التابعي ولا يتعداه.

١٢٠