السنة في الشريعة الاسلامية
0%
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 142
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف:
المشاهدات: 15126
تحميل: 5358
توضيحات:
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 142
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف:
السنة التقريرية:
وهي قائمة باقراره لبناء العقلاء على الأخذ بأخبار الآحاد اذا كانوا ثقات في النقل؛ يقول شيخنا النائيني: «وأما طريقة العقلاء فهي عمدة أدلة الباب بحيث لو فرض أنه كان سبيل الى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل الى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة، والاتكال عليهم في محاوراتهم، بل على ذلك يدور رحى نظامهم، ويمكن ان يكون ماورد من الأخبار المكتفة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدمة كلها امضاء لما عليه بناء العقلاء وليست في مقام تأسيس جواز العمل به لما تقدم من أنه ليس للشارع في تبليغ أوامره طريق خاص بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري(١) » لدى الناس جميعا، وهم يعتمدون أخبار الآحاد، ويرتبون عليها جميع آثار العلم وان لم تكن علما في واقعها.
وامتداد هذا البناء الى زمن النبيصلىاللهعليهوآله من الواضحات؛ وقد حكى الغزالي في المسلك الاول «ماتواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لاتنحصر(٢) »، وقد ضرب لها بعشرات الأمثلة، وبالطبع انه لو كانت للنبي طريقة خاصة في تبليغ الأحكام لاتعتمد أخبار الأحاد لبينها ولردع صحابته عن العمل بغيرها، وهذا ما لم يتحدث فيه التأريخ، ومثله ما يشتهر عادة ويطول الحديث فيه.
الاجماع:
وقد حكام في ارشاد الفحول عن الصحابة والتابعين(٣) ، وحكاه الشيخ الطوسي عن الامامية وغيرهما.
____________________
(١) فوائد الأصول، ج٣ ص٦٨.
(٢) المستصفى للغزالي، ج١ ص٩٥.
(٣) ارشاد الفحول، ص٤٩.
ولكن الاستدلال بالاجماع لايتضح له وجه لعدم الطريق اليه بالنسبة الينا غير أخبار الآحاد لبداهة عدم امكان تحصيله من قبلنا، ولعدم امكان استيعاب الصحابة والتابعين كما هو الشأن في الدعوى الأولى ، وعدم امكان التعرف على آراء الامامية جميعا بالنسبة للدعوى الثانية، والاجماع المنقول متوقفة حجيته على حجية خبر الناقل له، فلو كانت حجية خبر الناقل له موقوفة عليه لزم الدور؛ وهناك مناقشات أخرى له لاداعي للاطالة في عرضها فلتراجع في المطولات(١) .
العقل:
وقد صور بصور عدة، نذكر بعضها، ونحيل البعض الآخر على الكتب المطولة لعدم الجدوى بعرضها ومناقشتها جميعا.
أولاها: ما ذكره الغزالي من أن «المفتي اذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو اجماع أو سنة متواترة، ووجد خبر الواحد، فلو لم يحكم به لتعطلت الأحكام، ولأن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم ، اذا كان مبعوثا الى اهل عصر يحتاج الى انفاذ الرسل اذ لايقدر على مشافهة الجميع، ولا اشاعة جميع أحكامه على التواتر الى كل أحد، اذ لو أنفذ عدد التواتر الى كل قطر لم يف بذلك اهل مدينته(٢) ».
وقد أجاب الغزالي على الشق الأول بأن «المفتي اذا فقد الأدلة القاطعة، يرجع الى البراءة الأصلية والاستصحاب، كما لو فقد خبر الواحد أيضا(٣) »؛ ولكن هذا الجواب غير واضح لأن الرجوع الى البراءة الأصلية في غير ما يقطع فيه محقق للرسالة من أساسها، لبداهة أن
____________________
(١) اقرأ حقائق الأصول، ج٢ ص١٣٦، وغيره.
(٢) المستصفى ، ج١ ص٩٤.
(٣) المستصفى ، ج١ ص٩٤.
الأحكام القطعية محدودة جدا ان لم تكن معدومة.
والأحكام المعروفة بضروريات الدين كالصوم، والصلاة، والحج، وأمثالها، وان ثبتت لها الضرورة القطعية، الا أن ثبوتها لها انما هو ثبوت في الجملة لا في جميع الخصوصيات، ولو جردت من الخصوصيات الثابتة بالامارات المعتبرة لتحولت الى واقع لاتقره جميع المذاهب الاسلامية، فضلا عن انكار كونه من الضروريات ، على أن الاسلام ليس هو هذه الضروريات فحسب كما هو ثابت بالبداهة.
والرجوع الى الاستصحاب وهو في رتبة سابقة على البراءة كما سبق بيانه، ويأتي مناقش صغرى وكبرى ؛ أما الصغرى فلاحتياجه الى حالة سابقة معلومة وشك طارى ء عليها، وهو نادر ما يقع في الأحكام الكلية الثابتة بالضرورة، وفي غيرها لاعلم بحالة سابقة، كما هو الفرض؛ وأما الكبرى فللشك في حجية مثل هذا الاستصحاب لرجوعه الى ما يدور أمره بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع، لأن الحكم المجعول ان كان واسع المنطقة الى هذا الزمان، فهو مقطوع البقاء، وان كان ضيق المنطقة فهو مقطوع الارتقاع، فما هو الحكم المعلوم اذن ليستصحب بقاؤه؟ وأصالة عدم النسخ ان رجعت الى الاستصحاب فحسابها نفس هذا الحساب؛ وسيأتي فيها الكلام مفصلا.
اللهم الا ان يدعي أن مراده هنا من الاستصحاب استصحاب عدم الجعل قبل البعثة، او استصحاب عدم الحكم المجعول في حقه حال الصغر؛ ولكن الاشكال في جريان هذين الاستصحاب جار أيضا أما لعدم الموضع فعلا لعدم مشاهدتنا للحالتين: حالة ما قبل البعثة، وحالة ما بعدها، لنجري في حقنا استصحاب الحالة السابقة، لو اريد استصحاب العدم بالنسبة لحكمنا الخاص، أما لو أريد استصحاب عدم
الجعل الكلي فهو مثبت بالنسبة الينا، واستصحاب عدم الجعل حال الصغر يشكل جريانه للشك في تبدل الموضوع، فنحن حال الصغر غيرنا عندما نقع تحت التكاليف، وللاعلام في هذه الأنواع من الاستصحابات حديث يأتي في موضوعه ولعل لنا في بعضها رأيا.
على أن استصحاب عدم الجعل هنا، لايجري في جميع المشكوكات للعلم الاجمالي بجعل الكثير منها لبداهة أن الاسلام لم يأت بهذه المقطوعات او الضروريات فحسب، ومع قيام العلم الاجمالي لايمكن جريان الاستصحاب ولا البراءة الأصلية في أطرافه، اما لعدم امكان جريانها أصلا، أو انها تجري وتتساقط للمعارضة؛ وسيأتي ايضاح ذلك في مبحث الاحتياط العقلي.
والأنسب ان يجاب عنه بأن هذا الدليل لو تم فهو لايعين العمل بأخبار الآحاد الا بضميمة مقدمات أجنبية عن حكم العقل لجواز ان تكون هناك طرق مجعولة من قبله تؤمن هذا الغرض الخاص او الايكال الى الاحتياط فيها مثلا.
وأجاب عن الشق الثاني بقوله: «أما الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فليقتصر على من يقدر على تبليغه، فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلايكلف به، فليس تكليف الجميع واجبا(١) ».
وهذا الجواب غريب في بابه أيضا لمنافاته للشمولية التي جاءت بها رسالة النبيصلىاللهعليهوآله ، وعمومها لجميع البشر( وَ مَا أَرْسَلْنَاکَ إِلاَّ کَافَّةً لِلنَّاسِ (٢) ) ولأن فرض الاقتصار على البعض يوجب اختصاص الرسالة بهم وحرمان غيرهم مع فرض احتياجهم الى مثلها، وأين قاعدة اللطف منها اذن؟
____________________
(١) المستصفى ، ج١ ص٩٤.
(٢) سبأ/٢٨.
ولماذا لايبعث لكل أمة نبيا يفي بحاجتها اذا تعذر قيام نبي واحد بهذه المهمة؟.
فلابد إذن أن يفرض - بعد ثبوت الجانب الشمولي فيها - أن طرق التبليغ المعتمدة لدى النبيصلىاللهعليهوآله كافية بايصال صوته اليها بالوسائل المتعارفة، وبذلك يتم ما قال المستدل.
ثم عقب - أعني الغزالي - بعد ذلك بقوله: «نعم لو تعبد نبي بان يكلف جميع الخلق، ولايخلي واقعة عن حكم الله تعالى ، ولاشخصا عن التكليف، فربما يكون خبر الواحد ضرورة في حقه(١) ».
وهذا الاستدراك عين ما أراده المستدل لتحدثه عن نبيناصلىاللهعليهوآله بالخصوص ورسالته، لأنها موضع حاجتنا الفعلية.
ومن البديهي ان شريعتنا عامة لجميع البشر، وما من واقعة الا ولها فيها حكم، الا أن قوله: «فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة» لايتم الا بضميمة مقدمات أخرى تحصر الطريق فيه، وهو ما لم يذكر في الدليل، كما لم يذكره في استدراكه عليه.
الصورة الثانية: ما ذكره صاحب الوافية «وحاصله انا نعلم تفصيلا ببقاء التكليف بالصلاة والصوم ونحوهما من الضروريات، وليس لنا علم تفصيلي بأجزائها وشرائطها، فاذا تركنا العمل بمؤديات الامارات، واقتصرنا على خصوص ما علمناه من الاجزاء والشرائط، خرجت هذه الأمور عن حقائقها، لأن الضرورية من الأجزاء والشرائط ليست الا أمورا معدودة بحيث نقطع بعدم صدق العناوين المزبورة على ما هو المتفق دخله فيها. فلا مناص من الرجوع الى الأخبار المودعة في الكتب المعتبرة(٢) ».
____________________
(١) المستصفى ، ج١ ص٩٤.
(٢) دراسات الاستاذ المحقق الخوئي، ص١٢٥.
ولكن هذا الدليل أضيق من المدعى لعدم اقتضائه اثبات الحجية لمطلق الاخبار بل لخصوص ما اثبت منها الأجزاء والشرائط للتكاليف المعلومة.
أما الاخبار النافية التي ورد على خلافها عموم مثبت للتكليف أو اطلاق أو اصل عملي فلا تتعرض لها باثبات، ومقتضاه عدم الحجية فيها؛ والتحقيق ان العقل لايلزم باخبار الآحاد، وحسبنا في ذلك ما مر من الأدلة السمعية «فما ذهبت اليه الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين، انه لايستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا، ولايجب التعبد به عقلا، وان التعبد واقع به سمعا(١) » وهو الحق في المسألة، وهو الذي اختاره جل علماء الشيعة ما يظهر مما أورده في كتبهم المطولة.
ادلة المانعين:
أما المانعون فقد استدلوا على المنع بالأدلة السمعية، كالآيات الناهية عن العمل بالظن أو بغير العلم، باعتبار أن أخبار الآحاد لاتفيد علما بمدلولها.
والجواب على ذلك ان هذه الآيات مخصصة بما دل على جواز العمل باخبار الآحاد لأنها أخص منها ان لم تكن هذه الادلة حاكمة عليها.
وقد اعتبروا هذه الآيات أيضا رادعة عن بناء العقلاء بعد التغافل عن تخصيصها بما دل على الجواز.
وأجيب عن ذلك أيضا بحكومة بناء العقلاء عليها لاعتبار العقلاء هذا النوع من أخبار الآحاد علما من حيث ترتيب جميع آثار العلم عليه، ومع اعتباره علما، فهو خارج عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم
____________________
(١) المستصفى ، ج١ ص٩٥.
موضوعا، فلايكون مشمولا لها بحال.
واستدلوا أيضا بالاجماع على المنع من العمل بها، وهو مناقش صغرى وكبرى ؛ أما الصغرى فلعدم حصوله لما سمعت من أن جل العلماءيذهبون الى جواز العمل بها، فأين موقع الاجماع منها؟ وأما الكبرى فلمعارضته بمثله، وهو ما سبق حكايته عن الشيخ الطوسي؛ على ان هذا النوع من الاجماع يستحيل ان يكون حجة لأنه يلزم من اثبات حجيته عدمها بداهة أن معنى قيامه على عدم العمل بأخبار الآحاد أن لايكون هو بنفسه حجة لأنه منقول بأخبار الآحاد، وما يلزم من وجوده عدمه لايصلح للدليلية أصلا.
أما ادلتهم من العقل، فأركزها ما سبق ان عرضناه من دعوى استحالة جعل الأحكام الظاهرية من قبل الشارع للزوم تناقضها أو تماثلها مع الأحكام الواقعية، وقد عرفت في البحوث التمهيدية مناقشتها فلانعيد.
وكأن بعض المانعين لهذه الأسباب أو ما يشبهها أوهمت كلماتهم نفي الحجية عن نفس السنة، وهم لايريدون ذلك قطعا، وكان ذلك من نتائج الضيق في الأداء كما يوحي به تفصيل كلماتهم وضم بعضها الى بعض(١) .
شرائط العمل به:
وقد اختلفوا في الشرائط المعتبرة للعمل بأخبار الآحاد، وفي مقدار اعتبارها، على أقوال قد لايكون في عرضها وتعدادها والاستدلال عليها أي جدوى ما دمنا قد انتهينا في استدلالنا السابق الى أن المدار في الحجية وعدمها هي وثاقة الراوي والاطمئنان بعدم كذبه، كما هو مقتضى مايدل عليه بناء العقلاء، وبعض الادلة اللفظية التي تسأل عن
____________________
(١) راجع تاريخ الفقه الاسلامي، لمحمد يوسف موسى ، ص٢٢٧ ومابعدها.
وثاقة الراوي، ومناسبات الحكم والموضوع، وما سبق من ارجاع الأئمة الى كتب بني فضال.
فالظاهر أن الحديث في هذه الشرائط كالحديث عن اعتبار العدالة او البلوغ أو الذكورية او غيرها، انما هو من قبيل اتخاذ الاحتياطات من قبل بعض الأصوليين للحد من الفوضى والتسامح في قبول جميع الأخبار، أو هي من قبل بعضهم اعتقاد بعدم امكان تشخيص الصغريات لما هو حجة من الأخبار الا من هذه الطريق.
وعلى هذا فافتقاد بعض شرائط العدالة في الراوي وعلى الأخص فيما تختلف المذاهب في اعتباره منها، لايضر باعتماد الخبر اذا كان راويه من الثقات.
واختلاف المذاهب في الرواة اذا عرف من حالهم عدم التأثر والانفعال بمسبقات مذهبهم في مجال النقل، لايمنع من اعتماد خبرهم والأخذ به ما لم تكن هناك قرائن أخر توجب التوقف عن العمل به.
ومن هنا اعتبر الشيعة الامامية - خلافا لما نقل عنهم من قبل بعض المتأخرين من الكتاب غير المتورعين - أخبار مخالفيهم في العقيدة حجة اذا ثبت أنهم من الثقات، وأسموا أخبارهم بالموثقات، وهي في الحجية كسائر الأخبار وقد طفحت بذلك جل كتب الدراية لديهم، فلتراجع في مظانها المختلفة.
وما يقال عن اعتبار هذه الشرائط ونظائرها، يقال عن تقسيماتهم للخبر غير المتواتر.
تقسيمات
فقد قسموه الى مشهور، أو مستفيض، وغير مشهور؛ وقسموا غير
المشهور الى صحيح، وحسن، وموثق، وضعيف؛ ثم قسموه الى مرسل، ومقطوع، ومرفوع، ومسند.
وجل هذه التقسيمات منصب على تشخيص صغريات ما يحصل به الاطمئنان بالصدور.
وقسم منها لايجدي الا في مجال الترجيح عند تعارض الأخبار، ولايهم فعلا الدخول في تفصيلاتها ما دمنا نملك المقياس في الحجية، وهو التوثق والاطمئنان بصدور الخبر من قبل المعصوم.
وحتى اعتباهرم هجر الأصحاب للخبر الصحيح من قبيل الموهنات له، وعمل الأصحاب بالخبر الضعيف جابرا له انما هو من قبيل تشخيص الصغرى لما يوجب الثقة بالصدور لا للتعبد المحض بذلك.
وعلى هذا فالدخول هنا في الأقسام وتحديدها لايهم الآن بحثه، وهو من شؤون علماء الحديث، وموضعا في كتب الدراية، فلتراجع في مظانها الخاصة.
(٢) أما ما لم يقم عليه دليل قطعي فأهمه أمران، أولهما:
الشهرة:
وربما عللت حجيتها بما لها من كشف عن رأي المعصوم مما اقتضى ان تعرض ضمن الأدلة الكاشفة عن رأيه.
ويراد من الشهرة انتشار الخبر، أو الاستناد، أو الفتوى ، انتشارا مستوعبا لجل الفقهاء أو المحدثين، فهي دون مرتبة الاجماع من حيث
الانتشار، وقد قسموها الى ثلاثة أقسام قد تختلف من حيث الحجية وعدمها.
اولاها : الشهرة في الرواية.
ومؤداها انتشار رواية ما، وتداولها بين الرواة على نحو مستوعب في الجملة ومقابلها الندرة والشذوذ.
وقد اعتبروها من مرجحات باب التعارض بين الروايات، وأدلتها من السنة كثيرة، بالاضافة الى ان كثرة النقل عن حس مما يوجب الوثوق بالصدور بخلاف الندرة والشذوذ، فالقول بحجيتها وصلوحها للترجيح مما لاينبغي ان يكون موضعا لكلام.
ثانيها : ان الشهرة في الاستناد.
ويراد بها انتشار الاستناد في مقام استنباط الحكم الى رواية ما من قبل أكثر المجتهدين.
وهذه الرواية قد لاتكون مستوفية لشرائط القبول، الا ان استناد الفقهاء اليها يكون جابرا لضعفها، كما ان اعراضهم عن رواية ما، وان كانت صحيحة، يكون من موجبات تركها وعدم العمل بها.
وهذا النوع من الاستناد أو الاعراض لادليل على اعتباره من المرجحات، اللهم الا ان يولد وثوقا للانسان بصدور ما استندوا اليه وعدم صدور ما هجروه أو صدروه لا لغاية بيان الحكم الواقعي باعتبار أن اصرار أكثرية الفقهاء على الأخذ برواية مع ضعفها، أو هجر رواية وهي بأيديهم مع صحتها، لايكون بلا مستند جابر أو موهن عادة.
وعلى أي فالمدار - كما سبقت الاشارة اليه - في ذلك كله على حصول الوثوق بالصدور وعدمه، ولاخصوصية للاستناد أو الهجران، ولايبعد ان يكون الوثوق بالصدور حاصلا في أكثر ما استندوا اليه وبعدم صدوره فيما هجروه من الروايات وهو العمدة في مقام الحجية للاخبار وعدمها.
ثالثها : الشهرة في الفتوى
ومضمونها انتشار فتوى ما بين الفقهاء انتشارا يكاد يكون مستوعبا دون ان يعلم لها أي مستند.
وقد استدلوا على حجيتها بأدلة ثلاثة: الكتاب، والسنة، والقياس.
أدلتهم من الكتاب:
وأهمها التعليل الوارد في آية النبأ السابقة( ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتهم نادمين ) حيث ركزت الآية في وجوب التبين على التعليل باصابة قوم بجهالة، ومقتضى ذلك دوران هذا الحكم مدارها وجودا وعدما، وبما أن الاستناد الى الشهرة الفتوائية لايعد من الجهالة والسفه، فلايجب التبين معه في هذا الحال وهو معنى حجيته
والجواب على ذلك: أن دوران حكم مع علة ماوجودا وعدما، لايكون الا مع فرض انحصار العلة، ولا دليل على انحصارها في أمثال هذا التعابير؛ فاذا قال الشارع - مثلا -: حرمت الخمرة لاسكارها؛ فغاية ما يدل عليه هذا التعبير تعميم العلة في الحرمة الى غير الخمر من المسكرات لا ارتفاع الحرمة عن شيء عند ارتفاع الاسكار لجواز ثبوتها له لعلة أخرى كالنجاسة، او الغصبية، او غيرهما من موجبات التحريم؛ وانما التزمنا بدوران التبين مدار خبر الفاسق وجودا وعدما في صدر الآية، لدلالة مفهوم الشرط عليها لا أخذا بهذا التعليل، فارتفاع السفاهة هنا لايدل على ارتفاع التبين لجواز ثبوته بعلة أخرى غيرها.
أدلتهم من السنة:
وهي كثيرة، وقد وردت رواياتها في باب تعارض الخبرين كمرفوعة زرارة، قال: «قلت: جعلت فداك! يأتي عنكما الخبران، والحديثان المتعارضان، فبأيهما نعمل؟ قالعليهالسلام : خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر».
وقد قربوا الاستدلال بها أن الموصول في قوله «ما اشتهر» مبهم، وصلته معرفة له، وبما أن الشهرة التي اعتبرت في الصلة مطلقة ،فهي شاملة للشهرة في الفتوى بمقتضى ذلك الاطلاق.
وقد أجيب عليها بأن المراد من الشهرة هنا، الشهرة بمدلولها اللغوي، وهي الوضوح والابانة، أخذا من شهر السيف اذا جرده من غمده وأبانه، وهي مختصة بهذا المعنى بما علم صدوره من الشارع، لا من ظن او شك فيه، فكأنه قالعليهالسلام : خذ بما وضح وبان انتسابه الينا لدى أصحابك؛ على أن طبيعة السؤال والجواب تقتضي أن يكون الجواب على قدر السؤال ولايتجاوزه الى غيره، والمسؤول عنه هنا هو خصوص الخبرين المتعارضين، فلامعنى للاجابة بما يعمهما ويعم الشهرة الفتوائية، لأنها غير داخلة في السؤال، ومن شرائط الاطلاق أن يعلم أن الشارع كان في مقام البيان من هذه الجهة ولم يقم قرينة على الخلاف ليصح التمسك به، فكونه في مقام البيان من حيث التعميم لها، تأباه طبيعة التطابق بين السؤال والجواب الذي يقتضي السنخية بينهما حتى مع فرض التعميم لغير المورد.
ولو تنزلنا فلا محرز له ان لم نقل ان التطابق يصلح للقرينية على الخلاف.
ثالثها - القياس:
وقد قربوه بما ادعى استفادته في خبر الواحد من كون العلة في حجيته هو حصول الظن بمدلوله، وهي متوفرة في الشهرة الفتوائية، بل هي فيها أقوى منها في خبر الآحاد.
وهذا الاستدلال من أمتنها لو كان المنشأ في حجية أخبار الآحاد هو الظن الحاصل منه.
ولكن سبق لنا ان استعرضنا جل ادلة أخبار الآحاد، فلم نجد فيها ما يشير الى هذه العلة، وهي اعتبار الظن، لذلك عممنا حجيته الى ما لم يفد الظن منه، ولم نجعل الظن مقياسا لنلجأ اليه، فأركان القياس آذن لم تتوفر في هذا الموضع ليصح الأخذ به.
وعلى هذا، فالشهرة الفتوائية لامستند لها ليؤخذ بها، فهي ليست بحجة كما ذهب الى ذلك الكثير من الفقهاء.
(٣) حجية مطلق الظن بالسنة:
ويراد به العمل بكل ظن يتولد للانسان من أي سبب كان، اذا كان متعلقا بحكم شرعي يظن انه ثبت بالسنة.
وقد استدل له بادلة كلها عقلية، وليس فيها ما ينهض بالدليلية؛ وجل أدلته مما ترجع الى ما يسمى بدليل (الانسداد الكبير) وقد عرضناه وناقشناه في مبحث القياس لاستدلال بعضهم به على حجيته باعتباره من مصاديق ما يحصل به الظن؛ والذي يرتبط من أدلته ببحوثنا هذه
ما ذكره صاحب الحاشية من عده في جملة ما تثبت به السنة بمقتضى فحوى دليله، وحاصل ما استدل به: «انا نعلم علما قطعيا بلزوم الرجوع الى السنة بحديث الثقلين وغيره مما دل على ذلك، فيجب علينا العمل بما صدر عن المعصومين، فان أحرز ذلك بالقطع فهو، والا فلا بد من الرجوع الى الظن في تعيينه، ونتيجة ذلك وجوب الأخذ بما يظن بصدوره(١) »؛ ومن الواضح ان الظن هنا لم يقيد بكونه حاصلا من الأخبار ليكون دليلا على حجية مايفيد الظن منها كما أفيد، بل أطلق لما يشمل كل ظن بالسنة ومن أي سبب كان، لذلك آثرنا عده من أدلة مطلق الظن بالسنة.
والجواب على هذا أن دعوى القطع بالعمل بمطلق الظن بالسنة مع عدم احرازها بالقطع - كما هو مقتضى مفاد دليله - لاتخلو من مصادرة، لأن الظن بما هو ظن ليس من الحجج الذاتية التي لاتحتاج الى جعل أو امضاء، وهذا الدليل لا يثبت جعلا ولاامضاء شرعيا له بل لا تعرض فيه لهذه الجهة أصلا.
ووجوب العمل بالسنة - وان كان ضروريا - الا أنه لايتنجز على المكلف الا بعد احرازها بمحرز ذاتي أو مجعول، وهذا الترديد الذي ورد في الدليل لايتم الا اذا ثبت من الخارج أن الظن محرز للسنة في عرض القطع أو في طوله على الأقل، واثبات محرزيته بهذا الدليل دوري كما هو واضح.
وحسبنا من الادلة الرادعة عن العمل بالظن حجة في الردع عن مثله مادام لم يثبت لنا بهذا الدليل مايخصصها او يحكم عليها لعدم تماميته وصلوحه لاثبات ما أريد له.
____________________
(١) الدراسات، ص١٢٥.
السنة وكيفية الاستفادة منها
السنة كلها تشريع، كيفيات الاستفادة منها: دلالة القول: حجية أقوال أهل الفن، الأصول اللفظية، دلالة الفعل، دلالة الترك، دلالة التقرير.
(١) السنة كلها تشريع:
والحديث حول كيفيات الاستفادة منها يدعونا ان نمهد له بالحديث عن تشخيص نفس السنة التي تقع موقع التشريع، فهي وان اتفقوا على تعريفها بقول المعصوم وفعله وتقريره الا أنهم قيدوا حجيتها بما أحزر أنها واردة مورد التشريع، ولذا قسموها الى أقسام؛ يقول في سلم الوصول - وهو كلام جار نظيره على السنة الكثير -: «ليس كل ما روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام، من أقواله وأفعاله وتقريراته تشريعا يطالب به المكلفون، لأن الرسول بشر كسائر الناس اصطفاه الله رسولا لهداية الناس وارشادهم؛ قال تعالى :( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ يُوحَى إِلَيَّ (١) ) فما صدر منه ينتظم الأقسام الآتية:
(١) ما صدر منه بحسب طبيعته البشرية كالأكل، والشرب، والنوم، وما الى ذلك من الأمور التي مرجعها طبيعة الانسان وحاجته.
(٢) ما صدر منه بحسب خبرته وتجاربه في الحياة وفي الأمور الدنيوية، وبحسب تقديره الشخصي للظروف والأحوال الخاصة، وذلك مثل شؤون التجارة والزراعة والمسائل المتعلقة بالتدبيرات الحربية، وما الى ذلك من الأمور التي يعتمد فيها على مقتضيات الأحوال ومراعاة الظروف.
وهذان القسمان ليسا تشريعا، لأن مرجع القسم الأول الطبيعة والحاجة البشرية، ومرد القسم الثاني الخبرة والتجارب في الحياة والتقدير الشخصي
____________________
(١) الكهف/١١٠.
للظروف الخاصة من غير ان يكون هناك دخل للوحي الالهي ولا للنبوة والرسالة.
(٣) ما صدر منه على وجه التبليغ عن الله تعالى ، بصفته رسولا يجب الاقتداء به والعمل بما سنه من الأحكام مثل تحليل شيء او تحريمه، والأمر بفعل او النهي عنه، وكبيان العبادات، وتنظيم المعاملات، والحكم بين الناس.
فهذا القسم الأخير تشريع عام يجب على كل مكلف العمل به. والأحاديث الواردة في هذا القسم تسمى بأحاديث الأحكام.
وبالجملة فان أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته انما تكون دليلا من الأدلة، ومصدرا من المصادر التشريعية التي تستمد منها الأحكام الشرعية ذا صدرت منه بمقتضى رسالته لسن القوانين وتشريع الأحكام او بيانها(١) ».
ولكن هذه التفرقة بين أقسام ما يصدر عنه من قول او فعل او تقرير، لاتخلو من غرابة اذا علمنا أنه ما من واقعة الا ولها حكم في الشريعة الاسلامية كما هو مقتضى شموليتها، ولايفرق في ذلك بين ما تقتضيه طبيعته البشرية كالأكل والشرب وغيره، اذا كان صادرا منه عن ارادة، وبين غيره من تجارب.
واذا تم ما سبق أن عرضناه من أدلة العصمة له، فان كل ما يصدر عنه بطبيعة الحال يكون موافقا لأحكام الشريعة ومعبرا عنها، ومادام الأكل والنوم والشرب من أفعاله الارادية، فهي محكومة حتما بأحد الأحكام، فأصل الأكل محكوم بالجواز بالمعنى العام، وأكله لنوع معين يدل على جوازه، كما أن تركه لأنواع أخرى يدل على جواز الترك لها،
____________________
(١) سلم الوصول، ص٢٦٢ ومابعدها.