السنة في الشريعة الاسلامية
0%
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 142
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف:
المشاهدات: 15119
تحميل: 5356
توضيحات:
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 142
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف:
فالقول بأن ما كان من شؤون طبيعته البشرية لايعبر عن حكم، لايتضح له وجه.
كما أن ما يتصل بالقسم الثاني من شؤون خبرته وتجاربه هو الآخر معبر عن حكمه، وحكمه هنا جواز التعبير عنه - وان أخطأ الواقع لو صح جواز خطئه في الموضوعات، ولنا التأسي به في الاخبار عن تجاربنا وخبراتنا في حدود ما نعلم منها، وحتى قوله - لو صح عنه -: أنتم أعلم بشؤون دنياكم، فهو امضاء لهم على جواز اعمال تجاربهم وخبراتهم الخاصة ، فهو لايخرج عن الدلالة على التشريع.
نعم ما كان من مختصات النبيصلىاللهعليهوآله كالزواج بأكثر من أربع، أو ما كان من أفعاله الطبيعية غير الارادية، فهو لايعبر عن حكم عام.
والخلاصة ان تقييد السنة بما صدر عنه على وجه التشريع كما صنع غير واحد في غير موضعه، لأن كل ما يصدر عنه من أفعاله الارادية فهو تشريع عام عدا مختصاته الخاصة، اللهم الا ان يريدوا به الايضاح لا الاحتراز وهو بعيد عن مساق كلامهم.
اقصاه ان بعض افعاله تختلف عن البعض الآخر من حيث دلالتها على الحكم بعنوانه الأولي او العنوان الثانوي، ودلالتها أحيانا على جواز العمل بالحكم الظاهري، وهكذا...
(٢) كيفيات الاستفادة منها:
وما دمنا قد علمنا أن السنة هي القول والفعل والتقرير، فلابد من التحدث عن مدى دلالة كل منها.
دلالة القول:
واستفادة ما له من دلالة انما تكون بحسب ما تدل عليه الألفاظ بمفاهيمها اللغوية - او الاصطلاحية فيما ثبتت فيه الحقيقة الشرعية من قبله - لما سبق ان أكدناه من أن الشارع لم يخترع لنفسه ولأتباعه طريقة جديدة خاصة للتفاهم، وانما جرى على وفق ما عند العرب منها.
وهذه الألفاظ ان كانت نصا في مدلولها أو ظاهرة فيه أخذ بها، والا فلابد من الاستعانة - في غوامض اللغة وغرائبها - بالرجوع الى اهل الفن في ذلك كاللغويين في المفردات اللغوية، والنحويين، والصرفيين، والبلاغيين في الهيئات وتراكيب اللغة وخصائص الأساليب، واستشارتهم في هذه الجوانب والصدور عما يقولون.
حجية أقوال أهل الفن:
والظاهر ان المنشأ في حجية أقوالهم، هو البناء العقلائي في رجوع الجاهل الى العالم الممضي من قبل الشارع قطعا، وربما اعتبره بعضهم من الأحكام العقلية التي تطابق عليها العقلاء بما فيهم الشارع المقدس.
نعم يعتبر في هؤلاء ان يكونوا خبراء في فنهم، وأن يكونوا موثوقين في اداء ما ينتهون اليه، لأنه هو المتيقن من ذلك البناء أو الحكم العقلي.
فالتشكيك آذن في حجية أقوال اللغويين أو غيرهم من أهل الفن في غير موضعه.
الأصول اللفظية:
وهناك أصول لفظية يرجع اليها عند الشك في المراد بسبب بعض الطوارى ء التي تولد احتمالا على خلاف الظاهر كاصالة عدم التخصيص عند
الشك في طرو مخصص على العام، وأصالة عدم التقييد عند الشك في طرو المقيد على المطلق، وأصالة عدم القرينة عند الشك في اقامتها على خلاف الحقيقة وتجمعها اصالة الظهور؛ وهذه الأصول ونظائرها، انما تجري لدى أهل العرف - وهم منشأ حجيتها مع العلم باقرار الشارع لهم عليها، لما قلناه من عدم اختراعه طريقة للتفاهم خاصة به - عند الشك في تعيين المراد، ولاتجري فيما اذا علم المراد وشك في كيفية الارادة، فاصالة عدم القرينة - مثلا - لا تجري فيما اذا علم باستعمال لفظة ما في أحد المعاني، وشك في كون الاستعمال كان على نحو الحقيقة أو المجاز لتثبت أنه على نحو الحقيقة باعتبار أن المجاز مما يحتاج الى قرينة، وأصالة عدم القرينة تدفعها بل تجري اذا احتملنا ارادة أحد معنيين حقيقي ومجازي ولم نستطع تعيينه بالذات؛ فاصالة عدم القرينةتعين المعنى الحقيقي منهما.
دلالة الفعل:
وقد اختلفوا في مقدار ما يستفاد من افعاله، فالذي عليه أبو اليسر هو التفصيل بين أن يكون الفعل معاملة، فالاباحة اجماعا، وبين ان يكون قربة فهو محل الخلاف، والذي نقل عن مالك: «للوجوب عليه وعلينا، وقال الكرخي: مباح في حقه لتيقنها بالفعل، وليس للأمة اتباعه الا بدليل، وقال جمع من الحنفية: الاباحة في حقه، ولنا اتباعه الا بدليل(١) ».
و«هذان المذهبان، يعكران على نقل أبي اليسر الاجماع على الاباحة في المعاملات، فانهما لم يفرقا بين قربة ومعاملة، وقال المحققون: ان الخلاف انما هو بالنسبة الى الأمة، فمن قائل بالوجوب، ومن قائل بالندب، ومن قائل بالاباحة، ومن قائل بالوقف(٢) ».
____________________
(١ - ٢) أصول الفقه للخضري، ص٢٣٢ ومابعدها.
والذي عليه من نعرف من محققي الشيعة عدم دلالته على أكثر من الاباحة بالمعنى العام لا الاباحة في مقابل الوجوب والحرمة باستثناء ما كان قريبا منه، لأن التقرب يصلح للقرينية على رجحان ما أتى به، ولايعين نوعه من وجوب او استحباب اذ لامعنى للتقرب بالمكروه أو المباح.
وعمدة مايصلح للدليلية لهم هو كون الفعل مجملا بنفسه لا لسان له ليتعبد بمقتضى ما يدل عليه لسانه؛ وغاية ما تدل عليه أدلة العصمة أن المعصوم لايرتكب الذنب، فمجرد صدور الفعل منه، يدل على أن ما أتى به ليس بمحرم عليه وانما هو مباح بالمعنى الأعم للاباحة، وأوامر الاقتداء به تدل على مشاركتنا له في جميع الأحكام الا ما كان من مختصاته، فهو اذن مباح لنا ايضا، ودعوى أن النبيصلىاللهعليهوآله لايصدر منه الا ما كان راجحا، فلايعمل المكروه ولا المباحات مع توفر العناوين الثانوية التي يمكن أن تحول ما كان مباحا بالأصل الى مستحب بالعنوان الثانوي - وان كان مما يقتضيها مقام النبوة - الا أن أدلة العصمة لاتلزم بها أصلا.
واستدلال بعضهم على الوجوب علينا بأوامر الاقتداء - الدالة على لزوم متابعتهصلىاللهعليهوآله في كل ما يفعله حتى المباحثات حيث تتحول مباحاته الى واجبات في حقنا بحكم لوم المتابعة - لايخلو من غرابة لأن أوامر الاقتداء لاتقتضي أكثر من الاتيان بالأفعال على الوجه الذي اتى به، فاذا افترضناها مباحة أو مستحبة، فتحويلها الى الوجوب في حقنا ينافي طبيعة الاقتداء والالتزام بما التزم به الرسولصلىاللهعليهوآله لأن معنى اقتدائنا به في المباحات، هو كوننا مخيرين بين الفعل والترك كما هو مخير بينهما، فاضفاء صفة الوجوب عليها، ينهي بنا الى الخلف طبعا.
والظاهر ان الآمدي، وابن الحاجب، والخضري من المتأخرين، ممن تبنوا هذا الرأي الذي انتهى اليه المحققون من الشيعة؛ يقول الخضري: «ومختار الآمدي وابن الحاجب ما ذكرنا أولا وهو الظاهر، لأن المتيقن من صدور الفعل منه اباحته فلا يثبت الزائد على ذلك الا بدليل».
«وظهور قصد القربة دليل على أن الفعل مطلوب، والمتيقن من الطلب الندب، فلايثبت ما زاد عنه».
«أما ادعاء ان الفعل يثبت بنفسه مع جهل صفته حكما شرعيا فوق الاباحة، فهو قول بلا دليل، وكل ما ذكروه من أدلتهم انما يتجه اذا علمت صفة الفعل، وفرض المسألة انها مجهولة(١) ».
الا أن الذي يؤخذ على الخضري عدم تقييده الاباحة بكونها بالمعنى العام مما يوهم ارادة الاباحة الاصطلاحية، أي تساوي الطرفين، وهي لامعين لها أيضا، كما ان تعبيره بعد ذلك ان المتيقن من الطلب الندب، لايخلو من من مسامحة أيضا، لأن الندب نوع من أنواع الطلب في مقابلالوجوب وله فصله الخاص، فتعيينه بالذات يحتاج الى معين لأن نسبة الطلب اليهما نسبة واحدة ما دام معتبرا من قبيل الجنس لهما.
نعم لو كان هو مرتبة من الوجوب لأمكن ان يقال بالقدر المتيقن بالنسبة له، ولكنه ليس كذلك بداهة، بل هو نوع في مقابله له حدوده الخاصة فلامعنى لاعتباره قدرا متيقنا له.
دلالة الترك:
ولايستفاد منها أكثر من عدم الوجوب، أما تعيين الحرمة او
____________________
(١) أصول الفقه، ص٢٣٣.
الاستحباب او الكراهة او الاباحة، فلا معين لها لأن القدر المتيقن من أدلة العصمة انه لا يرتكب الذنب، فتركه للشيء إذن لا يكون تركا لواجب كما هو مقتضى ما تدل عليه وتلزم به، وان كان في ما يقتضيه مقام النبوة ان لايواظب النبيصلىاللهعليهوآله على ترك مستحب، كما سبقت الاشارة اليه.
دلالة التقرير:
والظاهر أن ما يفيده الاقرار على الشيء لايدل على أكثر من الجواز بالمعنى العام سواء كان متعلقه فعلا عابرا، أن عادة متحكمة، أم عرفا خاصا، أم بناء عقلائيا؛ اللهم الا ان يكون البناء أو العرف قائما على حجة ملزمة فاقراره يستلزم ثبوت حجيتها عند الشارع المساوق للالزام بها في مواقع الالزام كما هو الشأن في الأخذ بأخبار الثقات وبالبناء العقلائي على الأخذ بالظواهر والعمل بالاستصحاب وأمثالها.
هذا اذا لم تكن هناك قرينة تبين نوع الحكم المقر كما لو كانت بعض العادات مثلا قد اتخذت طابع الحكم الالزامي عندهم، فاقرارهم عليه يدل على الالزام به، أما الاقرار على عدم الفعل فهو لايدل على أكثر من عدم وجوبه.
والقول بأن التقرير يدل (على الاباحة(١) ) اذا أريد من الاباحة تساوي الطرفين مشكل اذ لامعين لها من بين أنواع الجواز والتقرير كالفعل لا لسان له فهو مجمل، والقدر المتيقن منه الاباحة بالمعنى العام فتعيين فصلها يحتاج الى معين.
____________________
(١) أصول الفقه، ص٢٣٣.
وقد اشترط غير واحد اعتبار القدرة على الانكار في حجية التقرير وهو شرط سار في جميع أنواع السنة، لأن القدرة على التبليغ شرط فيها جميعا.
نعم يستفاد من السكوت مع عدم القدرة على الانكار أن ذلك - أعني السكوت - مشروع للتقية، بل هو من أدلة مشروعية التقية التي لامدفع لها.
السنة والكتاب
النسة وعلائقها بالكتاب، نوعية أحكامها، تخصيص الكتاب بها وعدمه، نسخ الكتاب بالسنة، رتبة السنة من الكتاب.
السنة وعلائقها بالكتاب:
واذا عرفنا مفهوم السنة وتعرفنا على حجيتها، واستطعنا التوصل اليها من طرقها الذاتية أو المجعولة، وعرفنا مضامينها حسب الكيفيات المجعولة لذلك كان علينا بعدها ان نبحث علائقها بالكتاب العزيز والحديث حول ذلك يقع في مواقع أهمها أربعة:
١ - نوعية ما ترد به من أحكام ونسبته الى الكتاب العزيز.
٢ - امكان تخصيص الكتاب بها وعدمه.
٣ - امكان نسخ الكتاب بها وعدمه.
٤ - رتبتها من الكتاب عند الاستدلال والمعارضة.
١ - نوعية أحكامها:
أما نوعية أحكامها فهي حسبما يدل عليه استقراؤها في مصادرها لاتخرج عن احد ثلاثة:
أ - تأكيد ما ورد في الكتاب من أحكام عامة كالأحاديث الآمرة بأصل الصلاة والصيام والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكالأحاديث الناهية عن الخمر والميسر والانصاب والازلام وما أهلّ به لغير الله، وحسابها حساب الآيات المتعددة الدالة على حكم واحد.
ب - شرح ما ورد من آيات عامة في القرآن، وبيان أساليب ادائها وامتثالها والتعرض لكل ما يتصل بها من أجزاء وشرائط وموانع، كالأحاديث المحددة للمراد من الصلاة والصيام والحج، والمبينة لأجزائها
وشرائطها وموانعها وكل ما يرتبط بها من شؤون الاداء.
ج - تأسيس أحكام جديدة لم يتعرض لها الكتاب فيما نعرف من آيات أحكامه مثل حرمان القاتل من الميراث اذا قتل موروثه، وتحريم الجمع بين نكاح العمة وابنة أخيها أو الخالة وابنة اختها الا باذنهما، وكتحريم لبس الحرير للرجال وأمثالها، يقول ابن القيم: «والسنة مع القرآن ثلاثة أوجه: احدها ان تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها، والثاني ان تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له، والثالث ان تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن ايجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه(١) ».
٢ - تخصيص الكتاب بها وعدمه:
ومن اعتبار صفة الشرح والبيان لها يتضح أنه ليس هناك ما يمنع من تخصيص الكتاب بها مادام المخصص بمنزلة القرينة الكاشفة عن المراد من العام، والظاهر أنه بهذا المقدار موضع اتفاق المسلمين، ولذلك أرسلوا - ارسال المسلمات - امكان تخصيص الكتاب بما تواتر من السنة، ولكن موضع الخلاف في السنة التي تثبت باخبار الآحاد، فالذي عليه الجمهور ان «خبر الواحد يخص عام الكتاب كما يخصه المتواتر(٢) » وفصل الحنفية بين ان يكون العام الكتابي قد خصص من قبل بقطعي حتى صار بذلك التخصيص ظنيا، وبين ما لم يخصص فجوزوه في الأول ومنعوه في الثاني(٣) ، وذهب البعض الى المنع مطلقا.
وعمدة ما استدلوا به دليلان: أولهما دعوى ان الخبر الواحد لا
____________________
(١) سلم الوصول، ص٢٥٩ نقلا عن أعلام الموقعين، ج٢ ص٢٣٢.
(٢ - ٣) أصول الفقه للخضري، ص١٨٤.
يقوى على معارضة الكتاب، لأن الكتاب قطعي وخبر الواحد ظني.
وثانيهما موقف عمر بن الخطاب من حديث فاطمة بنت قيس: «حينما روت انه عليه الصلاة والسلام لم يجعل لها نفقة، ولاسكنى وهي بائن فقال عمر: لانترك كتاب ربنا، ولاسنة نبينا لقول امرأة لاندري أصابت أم أخطأت(١) ».
وكلاهما لايصلحان للدلالة على المقصود، أما الأول منهما فلأن نسبة الخاص الى العام نسبة القرينة الى ذي القرينة، وليس بينهما تعارض كما هو فحوى الدليل، وحيث يمكن الجمع بين الدليلين لامجال لطرح أحدهما والغائه ولو فرض التعارض، وعدم امكان الجمع بينهما عرفا لما أمكن رفع اليد عن الكتاب بالتخصيص حتى في السنة المتواترة بينما لم يلتزم أحد منهم بذلك، بل لما أمكن ورود الخاص من الشارع أصلا لاستحالة تناقضه على نفسه كما هو الشأن في المتباينين او العامين من وجه عندما يلتقي الحكمان في موضع التقائهما حيث حكموا بالتساقط في الأخبار الحاكية لذلك فيهما.
وبعد افتراض حجية الخاص في نفسه وان كان مرويا بأخبار الآحاد، فأي مانع من اعطائه صفة الشرح لما أريد من العام الكتابي؟ ومع التنزل فان التعارض في الحقيقة ليس بين سنديهما ليقدم القطعي على الظني، وانما هو بين ظنية الطريق في خبر الآحاد، وظنية الدلالة في العام الكتابي، فالكتاب وان كان قطعي الصدور الا أنه ظني الدلالة بحكم ما له من ظهور في العموم، ولاموجب لاسقاط أحدهما بالآخر.
نعم لو كان العموم الكتابي مما لايقبل التخصيص لكونه نصا في مدلوله لايحتمل الخلاف، ولايتقبل قرينة عليه، لتعين القول باسقاط
____________________
(١) أصول الفقه للخضري، ص١٨٤.
الخبر وتكذيبه لاستحالة صدور التناقض من الشارع، وحيث ان الكتاب مقطوع الصدور ومقطوع الدلالة، فلابد ان يكون الكذب منسوبا الى الخبر ويتعين لذلك طرحه.
وبهذا العرض يتضح معنى الأخبار الواردة عن المعصومين في اعتبار ما خالف كتاب الله زخرفا، او يرمى به عرض الجدار، وجعل الكتاب مقياسا لصحة الخبر عند المعارضة في الأحكام التي تعرّض لها الكتاب.
واتهام الزنادقة بوضع هذه الأخبار - ما ورد على لسان بعض الأصوليين - منشؤه عدم ادراك معنى الحديث.
نعم قد يقال ان النسخ يقتضي أحيانا مصادمة الحديث الناسخ للكتاب، فكيف يجعل الكتاب مقياسا لصحته، وهذا الاشكال صحيح لو كانت هذه الأحاديث واردة في غير أبواب التعادل المستدعي لتعارض الأخبار، والتعارض لايكون الا في أخبار الآحاد، وسيأتي ان النسخ لايكون بخبر الواحد اجماعا على أن النسخ - لولا الاجماع على عدم وقوعه بخبر الآحاد - لأمكن القول به هنا أيضا، لحكومة الدليل الناسخ على الدليل المنسوخ، ولاتصادم بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم فلاتصدق المخالفة مع عدم التصادم، وسيأتي ايضاح ذلك عما قليل.
أما الدليل الثاني - أعني رأي الخليفة عمر - فان أريد من الاستدلال به أنه سنة واجبة الاتباع أخذا بما ذهب اليه الشاطبي، فقد عرفت ما فيه في مبحث سنة الصحابة، وان أريد الاستدلال به بما أنه (مذهب الصحابي) واجتهاده، فسيأتي ما فيه، وأنه لايصلح ان يكون حجة الا عليه وعلى مقلديه لا على المجتهدين، كما هو التحقيق، على أن الذي يبدو من الرواية المذكورة تشكيك الخليفة في قيمة راويتها وهو أجنبي
عن جواز التخصيص بخبر الثقة وعدمه، فلاتصلح للاستدلال بها أصلا، والذي يظهر من اقرار الخليفة عمر للخليفة الأول في تخصيصه لآية المواريث بخبره الذي انفرد بنقله: (نحن معاشر الأنبياء لانورث)، وعدم الانكار عليه أنه من القائلين بجواز التخصيص بخبر الآحاد.
ودعوى الخضري(١) أن هذا الحديث ونظائره قد يكون مستفيضا الى درجة توجب القطع غريبة لأنها تصادم كلما تصح نقله في هذا الباب من انفراد الخليفة بنقله(٢) .
وما يقال عن التخصيص يقال عن التقييد باخبار الآحاد لمطلقات الكتاب، والحديث فيهما واحد.
واذا صح هذا لم نعد بحاجة الى استعراض - ما طرأ - على آية( وأحلّ لكم ما وراء ذلكم ) ، ونظائرها من الآيات - من التخصيصات المأثورة بأخبار الآحاد، والمقرة من قبل الصحابة، ما أنا لم نعد بحاجة الى مناقشة الحنفية في تفصيلهم الذي لايعرف له مأخذ يمكن الركون اليه.
٣ - نسخ الكتاب بالسنة:
ويراد من النسخ على ما هو التحقيق في مفهومه - رفع الحكم في مقام الاثبات عن الأزمنة اللاحقة مع ارتفاعه في مقام الثبوت لارتفاع ملاكه، وهو لايتأتى الا في الأحكام التي تؤدي بصيغ العموم، أو كل ما يدل عليه - ولو بمعونة القرائن - من حيث التعميم لجميع الأزمنة.
وارتفاع الأحكام التي تقيد بوقت معين لانتهاء وقتها لايسمى نسخا اصطلاحا، وقد أحاله فريق لأدلة عقلية لاتنهض بذلك وسرها الجهل
____________________
(١) أصول الفقه للخضري، ص١٨٤.
(٢) راجع مصادره في النص والاجتهاد في قصة فدك وغيره.
بحقيقته بتخيل ان الرفع واقع في مقام الثبوت بعد وضع الحكم على الأزمان اللاحقة للعلم الحادث بتبدل المصلحة مما يوجب نسبة الجهل الى الله تعالى وتقدس عما يتخيلون، بينما هو في واقعه لايتجاوز مقام الاثبات لمصلحة التدرج في التبليغ، والحكم ابتداء لم يجعل الا على قدر توفر الملاك فيه، والمصلحة والمفسدة اللذان هما ملاكا الأحكام مما يتأثران بعوامل الزمان والمكان قطعا، وسيأتي أيضاح أنهما ليسا من قبيل الحسن والقبح الذاتيين دائما ليلزم الخلف والحكم في الأزمنة اللاحقة لم يثبت في مقام الجعل ليقال كيف يرتفع الحكم الثابت مع مايلزم من فرض اثبات صفة الثبوت له.
والحقيقة ان النسخ لايتجاوز الاخبار عن عدم تحقق الملاك في الأزمنة اللاحقة، الملازم لارتفاع الحكم ثبوتا وان أدي بصيغ الرفع في مقام التبليغ.
ولقد أشار القرآن الكريم الى امكانه وأجمع المسلمون على وقوعه، ولم ينقل الخلاف الا عن أبي مسلم الاصفهاني «ولم يحقق الناقلون مذهبه(١) » وقد استظهر الخضري «ان خلاف أبي مسلم انما هو في نسخ نصوص القرآن، فهو يرى ان القرآن كله محكم لاتبديل لكلمات الله(٢) » وما أدري ما قيمةهذا الكلام بعد تصريح القرآن بامكان النسخ في أياته( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (٣) ) على ان النسخ المدعى هنا ليس هو تبديلا لكلمات الله وانما هو شرح للمراد منها وتقييد أو تخصيص لظهوراتها، ثم ليس فيها مصادمة لنص لايحتمل الخلاف، وحاشا لله ان يكذب نفسه أو وليا من أوليائه المبلغين عنه(٤) ، وما قلناه أو قالوه عن التخصيص يقال عن النسخ.
____________________
(١) أصول الفقه للخضري، ص٢٤٦.
(٢) أصول الفقه، ص٢٤٦.
(٣) البقرة/١٠٥،
(٤) ومن هنا صرحوا ان أمثال هذه الآيات لاتقبل نسخا (ولاتقبلوا لهم شهادة أبدا) كما صرحوا ان الآيات المخبرة عن أمور تقع لاتقبل النسخ لانتهائها الى التكذيب، راجع سلم الوصول، ص٣٣٧.
وهذا من الأمور التي تكاد تكون بديهية بين المسلمين فلاتحتاج الى اطالة حديث، والظاهر ان النسخ واقع في الكتاب من الكتاب ومن السنة على خلاف في قلة وكثرة الأحكام التي يدعى لها النسخ، وقد استعرض استاذنا الخوئي في كتابه (البيان) كل ما قيل عن الآيات المنسوخة وحاكمه بجهد ولم يجد فيها ما يصلح ما يكون منسوخا الا أقل القليل.
أو الخلاف الذيوقع انما هو في امكان نسخ الأحكام - المقطوعة أسانيدها كالأحكام الكتابية والمتواترة من السنة - بأخبار الآحاد، وأكثرية المسلمين على المنع وربما ادعي عليه الاجماع، وأهم ما لديهم من الشبه هي شبهة ان الظني لايقاوم القطعي فيبطله، وهي شبهة عرفت قيمتها في الحديث عن التخصيص لعدم المعارضة بينهما، لأن الدليل الناسخ لايزيد على كونه شارحا للمراد من الدليل المنسوخ، وقرينة على عدم ارادة الظهور وحاله حال التخصيص، على ان الخبر وان كان ظنيا في طريقه، الا أنه مقطوع الحجية للادلة السابقة ومع الغض وافتراض المعارضة فانها في الحقيقة قائمة بين ظنين لا بين قطعي وظني، أي بين ظنية الدلالة في مقطوع السند وظنية الطريق.
ولعل منشأ الاجماع المدعى او اتفاق الأكثرية، انما هو في وضع حد لما يمكن ان يقع من التسامح في دعوى النسخ وابطال الأحكام لمجرد ورود خبر ما، وهو عمل في موضعه وربما استدعته صيانة الشريعة عن عبث المتلاعبين بأحكام الله والوقوف دون تصرفاتهم، وعلى الأخص وان في الدخلاء على الاسلام من تمثل بصورة القديسين ليتسنى له هدم الاسلام وتقويض قواعده.
٤ - رتبة السنة من الكتاب:
من الكلمات المألوفة على السنة كثير من الاصوليين ان رتبة السنة متأخرة عن رتبة الكتاب في الاعتبار.
وهو كلام لا أعرف له مدلولا يمكن الاطمئنان اليه لاضطراب في تحديد معنى الرتبة هنا، فالذي يظهر من بعض أقوالهم ان مرادهم بها ان تقدم الكتاب على السنة من قبيل تقدم الحاكم على المحكوم، أي مع وجود دليل من الكتاب لاينظر الى السنة ولاتلتمس كدليل، وهي أشبه بما ذكرنا من التقدم الرتبي لأدلة الامارات على الأصول ولكن بعضها الآخر يبدو منه ان المراد منها هو السبق الرتبي من حيث الشرف والأهمية، ووجودها أقرب الى الوجود الظلي بالنسبة للكتاب، وفي ثالث من الأقوال ان الكتاب يقدم عليها عند التعارض فسبقه الرتبي من حيث أرجحيته في هذا الباب.
ومن أدلتهم على هذا السبق الرتبي تتضح وجهات النظر، وان كان قد جمع بعض المتأخرين بين هذه الأدلة وكأنها مساقة لمبنى واحد، في تفسيرها لا لمباني متعددة.
وأول هذه الأدلة قولهم: «ان الكتاب مقطوع والسنة مظنونة، والقطع فيها انما يصح على الجملة لا على التفصيل بخلاف الكتاب، فانه مقطوع به على الجملة والتفصيل والمقطوع به مقدم على المظنون، ولعله لا يوجد من متواترها القولي شيء(١) ».
وهذا الدليل يصلح للقول الثالث أي تقديم الكتاب على السنة عند المعارضة لا مطلقا، اذ لامعنى لرفع اليد عن المظنون بالمقطوع مع عدم
____________________
(١) أصول الفقه، ص٢٣٧ للخضري.
المعارضة، وكلاهما حجة كما هو الفرض.
والمعارضة لاتتعقل بين الكتاب والسنة بما هي قول أو فعل أو تقرير، لاستحالة تناقض الشارع على نفسه، وانما تمكن في الأخبار الحاكية لها، وعليها يقتضي أن تحرر المسألة في تقدم الكتاب على أخبار الآحاد لا على السنة.
وقد سبق ان أيدنا دعوى من يذهب الى طرح الأخبار، اذا خالفت الكتاب ولم يمكن الجمع بينها وبينه لنفس هذا الدليل وللأخبار الآمرة بطرح ما يخالف الكتاب.
ثانيها: قولهم: «ان السنة، اما بيان للكتاب أو زياد على ذلك، فان كانت بيانا فالبيان تال للمبين في الاعتبار، اذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان لاالعكس، وما شأنه هذا فهو أولى بالتقدم وان لم يكن بيانا فلايعتبر الا بعد ألاّ يوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب(١) »، وهذا الدليل يصلح للاستدلال به على التقديم من حيث الشرف والأولوية، لا من حيث الاقتصار على الكتاب، مع وجوده لعدم امكان الاستغناء عن البيان بحال، وما دامت السنة بيانا للكتاب فهي متممة للاستدلال به، بل كلاهما يكونان دليلا واحدا لبداهة أن ما يحتاج الى البيان لاينهض بالدليلية الا به، ولكن اعتبار التقدم في الرتبة على أساس التفاضل في المكانة، لا معنى لادراجه في مباحث الأصول والتماس الادلة له لعدم اعطائه أية ثمرة عملية في مجالات الاستنباط.
ثالثها: «ما دل على ذلك من الأخبار كحديث معاذ وأثر عمر، اللذين تقدم ذكرهما، ومثله عن ابن مسعود: «من عرض له منكم قضاء
____________________
(١) أصول الفقه للخضري، ص٢٣٧.
فليقض بما في كتاب الله، فان جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومثل ذلك عن ابن عباس وهو كثير في كلام السلف والعلماء وهو الوجه في تفرقة الحنفية بين الفرض والواجب(١) » وهذا الدليل صالح للدلالة على المبنى الأول في التقدم الرتبي، أي مع قيامه لاينظر الى السنة، ولاتعتبر دليلا.
وهذا المذهب من أغرب المذاهب اذ كيف يعقل الاستغناء بالكتاب عن السنة ومنها بيانه وشروحه وشروط أحكامه وأدلتها، فهل يكتفي ابن مسعود او عمر او ابن عباس، لوصح عنهم ذلك، بالرجوع الى الكتاب والاكتفاء به في حكم واحد من الأحكام فضلا عن جميع ما ورد فيه منها، وهم يعلمون من طريقة الكتاب في البيان هي الاتكال على القرائن المنفصلة، والسنة هي الكفيلة ببيانها، وكيف يسوغ لهم العمل بظواهره مع هذا الاحتمال؟.
على أن هذه الأقوال لاتصلح للاستدلال بها لأنها لاتمثل أكثر من رأي أصحابها لو أرادوا ظواهرها، وهو بعيد، وهم ليسوا بمعصومين ليجب علينا التعبد بها.
نعم في اقرار النبيصلىاللهعليهوآله لمعاذ ما يصلح للاستدلال، باعتبار ان الاقرار من السنة، فالاستدلال بها استدلال بالسنة، الا أن الكلام في صحة رواية معاذ، وسيأتي في مبحث القياس اثبات أنها من الموضوعات.
فالحق ان السنة في مجالات الاستدلال صنو للكتاب وفي رتبته، بل هما واحد من حيث انتسابهما الى المشرع الأول وهو الله عز وجل، ولا
____________________
(١) أصول الفقه للخضري، ص٢٣٧.