السنة في الشريعة الاسلامية
0%
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 142
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف:
المشاهدات: 15124
تحميل: 5358
توضيحات:
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 142
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف:
البيت وانما تجاوزهم الى جميع المسلمين عدا الخوارج، فعن خالد بن عمران قال: «كنا في المغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم، فقال: وددت أن بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يمينا وشمالا؛ وعن يعقوب الحضرمي عن جده، قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: مافيه الا كافر(١) ».
وأما مقاتل فحسابه من حيث العداء لأمير المؤمنين حساب عكرمة، ونسبة الكذب اليه لاتقل عن نسبتها الى زميله عكرمة، حتى عده النسائي في جملة الكذابين المعروفين بوضع الحديث(٢) . وقال الجوزجاني، كما في ترجمة مقاتل من ميزان الذهبي: كان مقاتل كذابا جسورا(٣) » «وكان يقول لأبي جعفر المنصور: أنظر ما تحب ان أحدثه فيك حتى أحدثه؛ وقال للمهدي: ان شئت وضعت لك أحاديث في العباس، قال: لاحاجة لي فيها(٤) »؛ واذا كان كل من مقاتل وعكرمة بهذا المتسوى لدى أرباب الجرح والتعديل، فأمر روايتهما ورأيهما لايحتاج الى اطالة حديث وبخاصة في مثل هذه المسألة التي تمس مواقع العقيدة او العاطفة من نفسيهما.
ولكن هذه البواعث فيما يبدو، خفيت على بعض الأعلام، فأقاموا لرأيهما وروايتهما وزنا، ولذلك نرى ان نعود الى التحدث عن ذلك بعيدا عن شخصيتهما لنرى قيمة هذه الرواية أو هذا الرأي.
١ - والذي لاحظته من قسم من الروايات: أن لفظة الأهل لم تكن تطلق في ألسنة العرب على الأزواج الا بضرب من التجوز، ففي
____________________
(١) الكلمة الغراء، ص٢١٥ طبعة النجف، وهي ملحقة بكتابه الفصول المهمة.
(٢) دلائل الصدق، ج٢ ص٩٥.
(٣) الكلمة الغراء، ص٢١٧.
(٤) اقرأ مصادرها في الغدير، ج٥ ص٢٦٦.
صحيح مسلم: ان زيد بن أرقم سئل عن المراد بأهل البيت هل هم النساء؟ «قال: لا وايم الله، ان المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها، فترجع الى أبيها وقومها(١) ».
وفي رواية أم سلمة، قالت: نزلت هذه الآية في بيتي «: انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، وفي البيت سبعة: جبريل وميكائيل وعلي وفاطمة والحسن والحسين(ض)؛ وانا على باب البتي، قلت: ألست من أهل البيت؟ قال: انك الى خير انك من أزواج النبيصلىاللهعليهوآله (٢) » فدفعها عن صدق هذا العنوان عليها، واثبات الزوجية لها: يدل على أن مفهوم الأهل لايشمل الزوجة، كما ان تعليل زيد بن أرقم يدل على المفروغية عن ذلك ولايبعد دعوى التبادر من كلمة أهل خصوص من كانت له بالشخص وشائج قربى ثابتة غير قابلة للزوال، والزوجة وان كانت قريبة من الزوج الا ان وشائجها القريبة قابلة للزوال بالطلاق وشبهه، كما ذكر زيد.
٢ - ومع الغض عن هذه الناحية، فدعوى نزولها في نساء النبي شرف لم تدعه لنفسها واحدة من النساء، بل صرحت غير واحدة منهن بنزولها في النبيصلىاللهعليهوآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
«أخرج الترمذي، وصححه، وابن جرير وابن المنذر والحاكم، وصححه وابن مردويه والبيهقي في سنن من طرق عن أم سلمة(ض) قالت: في بيتي نزلت:( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) ، وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين؛ فجللهم رسول اللهصلىاللهعليهوآله بكساء كان عليه، ثم قال: هؤلاء أهل بيتي، فاذهب عنهم
____________________
(١) صحيح مسلم، باب فضائل علي.
(٢) الدر المنثور ج٥ ص١٩٨.
الرجس وطهرهم تطهيرا(١) ».
وفي رواية أم سلمة الأخرى ، وهي صحيحة على شرط البخاري «في بيتي نزلت:( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) ، فأرسل رسول الله الى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: هؤلاء أهل بيتي(٢) ».
وحديث الكساء، الذي كاد أن يتواتر مضمونه لتعدد رواته لدى الشيعة والسنة في جميع الطبقات، حافل بتطبيقها عليهم بالخصوص، تقول عائشة: «خرج النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي، فأدخله؛ ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها؛ ثم جاء علي فأدخله، ثم قال:( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (٣) ) .
والذي يبدو ان الغرض من حصرهم تحت الكساء، وتطبيق الآية عليهم، ومنع حتى أم سلمة من الدخول معهم، كما ورد في روايات كثيرة، هو التأكيد على اختصاصهم بالآية، وقطع الطريق عل كل ادعاء بشمولهم لغيرهم.
وهناك روايات آحاد توسع بعضها في الجالسين تحت الكساء الى ما يشمل جميع أقاربه وبناته وأزواجه، وبعضهم تخصهم بالعباس وولده حيث اشتمل النبيصلىاللهعليهوآله «على العباس وبنيه بملاءة، ثم قال: يارب هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري اياهم فامنت أسكفة الباب وحوائط البيت، فقالت امين وهي ثلاثا(٤) ».
____________________
(١) الدر المنثور، ج٥ ص١٩٨.
(٢) الحاكم في المستدرك، ج٣ص١٤٦.
(٣) صحيح مسلم، ج٧ ص١٣٠.
(٤) دلائل الصدق، ج٢ ص٧٢ نقلا عن الصواعق المحرقة.
وهي لعدم طبيعتها وضعف أسانيدها، ومجافاتها لواقع الكثير منهم لا تستحق أن يطال فيها الحديث، ومن رغب في الاطلاع عليها فليقرأها مع محاكماتها في كتاب دلائل الصدق(١) ؛ وحسبها وهنا أن لايستدل بها أو يستند اليها أحد من اولئك أو أحد اتباعهم مع ما فيها من الشرف العظيم لأمثالهم.
وكأن النبيصلىاللهعليهوآله وقد خشي ان يستغل بعضهم قربه منه فيزعم شمول الآية له؛ فحاول قطع السبيل عليهم بالتأكيد على تطبيقها على هؤلاء بالخصوص، وتكرار هذا التطبيق حتى تألفه الأسماع، وتطمئن اليه القلوب؛ يقول ابو الحمراء: «حفظت من رسول اللهصلىاللهعليهوآله ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرة يخرج الى صلاة الغداة الا أتى الى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب، ثم قال: الصلاة الصلاة، انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا(٢) ». وفي رواية ابن عباس، قال: شهدنا رسول الله تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالبعليهالسلام عند وقت كل صلاة، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اهل البيت،( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا (٣) ) .
ومع ذلك كله، فهل تبقى لدعوى عكرمة وروايته مجال لمعارضة هذه الصحاح وعشرات من أمثالها(٤) حفلت بها كتب الحديث والكثير من صحاحها؟.
٣ - أما ما يتصل بدعوى وحدة السياق، فهي لو تمت لما كانت أكثر من كونها اجتهادا في مقابلة النص، والنصوص السابقة كافية لرفع
____________________
(١) ج٢ ص٧٢ ومابعدها.
(٢،٣) الدر المنثور، ج٥ ص١٩٩.
(٤) يحسن لمن يرغب استيعاب رواية الباب ان يرجع الى دلائل الصدق، ج٢ آية التطهير والكلمة الغراء.
اليد عن كل اجتهاد جاء على خلافها، على أنها في نفسها غير تامة، لأن من شرائط التمسك بوحدة السياق ان يعلم وحدة الكلام ليكون بعضه قرينة على المراد من البعض الآخر، ومع احتمال التعدد في الكلام لامجال للتمسك بها بحال.
ووقوع هذه الآية أو هذا القسم منها ضمن مانزل في زوجات النبي، لايدل على وحدة الكلام لما نعرف من أن نظم القرآن لم يجر على اساس من التسلسل الزمني، فرب آية مكية وضعت بين آيات مدنية وبالعكس فضلا عن اثبات ان الآيات المتسلسلة كان نزولها دفعة واحدة.
ومع تولد هذا الاحتمال لايبقى مجال للتمسك بوحدة السياق، وأي سياق يصلح للقرينية مع احتمال التعدد في أطرافه وتباعد ما بينها في النزول.
على ان تذكير الضمير في آية التطهير وتأنيث بقية الضمائر في الآيات السابقة عليها واللاحقة لها يقرب ما قلناه، اذ ان وحدة السياق تقتضي اتحادا في نوع الضمائر، ومقتضى التسلسل الطبيعي ان تكون الآية هكذا، انما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت لاعنكم.
والظاهر من روايات أم سلمة، وهي التي نزلت في بيتها هذه الآية أنها نزلت منفردة كما توحي به مختلف الأجواء التي رسمتها رواياتها لما أحاط بها من جمع أهل البيت وادخالهم في الكساء ومنعها من مشاركتهم في الدخول الى ما هنالك.
والحق الذي يتراءى لنا من مجموع ما رويناه من نزول الآية وحرص النبيصلىاللهعليهوآله على عدم مشاركة الغير لهم فيها واتخاذه الاحتياطات بادخالهم تحت الكساء، ليقطع بها الطريق على كل مدع ومتقول، ثم تأكيده هذا المعنى خلال تسعة أشهر في كل يوم خمس مرات يقف فيها على باب علي وفاطمة، كل ذلك ما يوجب القطع بأن الآية شأنا يتجاوز المناحي
العاطفية، وهو ما يتنزه عنه مقام النبوة لأمر يتصل بصميم التشريع من اثبات العصمة لهم، وما يلازم ذلك من لزوم الرجوع اليهم والتأثر والتأسي بهم في أخذ الأحكام، على ان الآية لايتضح لها معنى غير ذلك كما أوضحناه في بداية الحديث.
الآية الثانية قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِکَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (١) ) . وقد قرب الفخر الرازي دلالتها على عصمة أولي الأمر في تفسيره لهذه الآية بقوله: «ان الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابد وأن يكون معصوما عن الخطأ اذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ، يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي الى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وانه محال، فثبت ان الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت ان كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب ان يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعا أو أولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وان يكون معصوما(٢) ».
ولكن الفخر الرازي خالف الشيعة في دعواهم في ارادة خصوص أئمتهم من هذه الآية وقرب ان يكون المراد منها أهل الاجماع بالخصوص، واستدل على ذلك بقوله: «ثم نقول: ذلك المعصوم».
____________________
(١) النساء/٥٩.
(٢) التفسير الكبير، ج١٠ ص١٤٤. ويؤيد هذا التقريب مساواتهم لله والرسول في وجوب طاعتهم ما يدل على ان جعل الاطاعة لهم ليس من نوع جعلها للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بل هي من نوع اطاعة الله والرسول التي تجب على كل حال.
وأما مجموع الأمة او بعض الأمة لا جائز ان يكون بعض الأمة لأنا بينا ان الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا، واجاب طاعتهم قطعا مشروط بكوننا عارفين بهم، قادرين على الوصول اليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم، عاجزون عن الوصول اليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، واذا كان الأمر كذلك، علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ولاطائفة من طوائفهم، ولما بطل هذا، وجب ان يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: وأولي الأمر أهل الحل والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأن اجماع الأمة حجة(١) ».
ثم استعرض بعد ذلك الأقوال الأخر في الآية وناقشها جميعا مناقشات ذات أصالة وجهد حتى انتهى الى رأي من أسماهم بالروافض، فقال:
«وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه: أحدها ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول اليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم اذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبم وأولي الأمر منكم يقتضي الاطلاق، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الله وطاعة الرسول، وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهو قوله: وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، واللفظة الواحدة لايجوز ان تكون مطلقة ومشروطة معا، فلما كانت
____________________
(١) التفسير الكبير، ج١٠ ص١٤٤.
هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب ان تكون مطلقة في حق أولي الأمر.
الثاني أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر وأولو الأمر جمع، وعندهم لايكون في الزمان الا امام واحد، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر.
وثالثها أنه قال: «فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول، ولو كان المراد بأولي الأمر الامام المعصوم لوجب ان يقال: فان تنازعتم في شيء فردوه الى الامام، فثبت ان الحق تفسير الآية بما ذكرناه(١) ».
والذي يرد - على الفخر الرازي في استفادته وجوب اطاعة أهل الاجماع وانهم هم المراد من كلمة أولي الأمر لا الأئمة - بناؤه هذه الاستفادة على اعتبار معرفة متعلق الحكم من شروط نفس التكليف، وبانتفاء هذا الشرط لتعذر معرفة الأئمة والوصول اليهم ينتفي المشروط.
وهذا النوع من الاستفادة غريب في بابه، اذ لازمه ان تتحول جميع القضايا المطلقة الى قضايا، مشروطة لأنه ما من قضية الا ويتوقف امتثالها على معرفة متعلقها، فلو اعتبرت معرفة المتعلق شرطا فيها لزمت ان تكون مشروطة.
والظاهر ان الرازي خلط بين ما كان من سنخ مقدمة الوجوب وما كان من سنخ مقدمة الواجب، فلزوم معرفة المتعلق انما هو من النوع الثاني أي من نوع ما يتوقف عليه امتثال التكليف لا أصله، ولذلك التزم بعضهم بوجوبه المقدمي، بينما لم يلتزم أحد فيما نعلم بوجوب مقدمات أصل التكليف وشروطه، اذ الوجوب قبل حصولها غير موجود ليتولد منه وجوب لمقدماته وبعد وجودها لا معنى لتولد الوجوب منه بالنسبة اليها
____________________
(١) التفسير الكبير، ج١٠ ص١٤٦.
مروم تحصيل الحاصل.
وعلى هذا فوجوب معرفة المتعلق للتكليف، لايمكن أخذه شرطا فيها بما هو متعلق لها لتأخره رتبة عنها، ويستحيل أخذ المتأخر في المتقدم للزوم الخلف أو الدور.
على ان هذا الاشكال وارد عليه نقضا، لأن اجماع أهل الحل والعقد هو نفسه مما يحتاج الى معرفة، وربما كانت معرفته أشق من معرفة فرد أو أفراد لاحتياجها الى استيعاب جميع المجتهدين وليس من، السهل استقراؤهم جميعا والاطلاع على آرائهم، وعلى مبناه يلزم تقييد وجوب الاطاعة بمعرفتهم، ويعسر تحصيل هذا الشرط والاشكال نفس الاشكال.
والغريب في دعواه بعد ذلك ادعاء العجز عن الوصول الى الأئمة ومعرفة آرائهم!! مع توفر أدلة معرفتهم وامكان الوصول الى ما يأتون به من أحكام بواسطة رواتهم الموثوقين.
ثم ان استفادة الاجماع من كلمة (أولي الأمر) مبنية على ارادة العموم المجموعي منها وحملها على ذلك خلاف الظاهر، لأن الظاهر من هذا النوع من العمومات هو العموم الاستغراقي المنحل في واقعه الى أحكام متعددة بتعدد أفراده، ومن استعرض أحكام الشارع التي استعمل فيها العمومات الاستغراقية، يجدها مستوعبة لأكثر أحكامه وما كان منها من قبيل العموم المجموعي نادر نسبيا، فلو قال الشارع: اعطوا زكواتكم لأولي الفقر والمسكنة - مثلا - فهل معنى ذلك لزوم اعطائها لهم مجتمعين واعطاء الزكوات مجتمعة أم ماذا؟ وعلى هذا فحمل (أولو الأمر) في الآية على العموم المجموعي حمل على الفرد النادر من دون قرينة ملزمة وما ذكره من القرينة لاتصلح لذلك مادام أهل الاجماع أنفسهم مما يحتاجون الى المعرفة كالائمة،
ومعرفة واحد أو آحاد أيسر بكثير من معرفة مجموع المجتهدين - كما قلنا - وبخاصة بعد توفر وسائل معرفتهم وأخذ الأحكام عنهم.
وقد اتضحت الاجابة بهذا على ما أورده على الشيعة من اشكالات.
أما الاشكال الأول فهو بالاضافة الى وروده نقضا عليه لأن اطاعة الله والرسول وأهل الحل والعقد كلها مما تتوقف على المعرفة؛ ان المعرفة لا يمكن أخذها قيدا في أصل التكليف لما سبق بيانه، ولو أمكن فالوجوبات الواردة على اطاعة الله والرسول كلها مقيدة بها فلا يزلم التفرقة في التكليف الواحد كما يقول.
والاشكال الثاني يتضح جوابه مما ذكرناه في اعتبار هذا النوع من الجموع من العمومات الاستغراقية التي ينال فيها كل فرد حكمه فاذا قال المشرع الحديث - مثلا -: حكم الحكام نافذ في المحاكم المدنية، فان معناه ان حكم كل واحد منهم، نافذ لاحكمهم مجتمعين؛ نعم يظهر من اتيانه بلسان الجمع ان أولي الأمر أكثر من فرد واحد وهذا ما تقول به الشيعة، ولا يلزمه ان يكونوا مجتمعين في زمان واحد لأن صدق الجمع على الافراد الموزعين على الأزمنة لاينافي ظاهره.
يبقى الاشكال الثالث وهو عدم ذكره لأولي الأمر في وجوب الرد اليهم عند التنازع بل اقتصر في الذكر على خصوص الله والرسول؛ وهذا الاشكال أمره سهل لجواز الحذف اعتمادا على قرينة ذكره سابقا؛ وقد سبق في صدر الآية ان ساوى بينهم وبين الله والرسول في لزوم الطاعة، ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الآية الثانية( ولو ردوه الى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستبطونه منهم ) .
والاشكال الذي يرد على الشيعة - بعد تسليم دلالتها على عصمة أولي الأمر كما قال الفخر - ان القضية لا تثبت موضوعها فهي لاتعين المراد
من أولي الأمر وهل هم الأئمة من اهل البيت او غيرهم، فلابد من اثبات ذلك الى التماس أدلة أخرى من غير الآية، وسيأتي الحديث حول ذلك في جواب سؤال من هم اهل البيت.
والآيات الباقية التي استدلوا بها على العصمة حساب مايدل منها عليها حساب هذه الآية من حيث عدم تعيينها للامام المعصوم، فالمهم ان يساق الحديث الى أدلتم من السنة النبوية.
أدلتهم من السنة
وأول أدلتهم من السنة وأهمها:
حديث الثقلين:
وهذا الحديث يكاد يكون متواترا بل هو متواتر فعلا، اذا لوحظ مجموع رواته من الشيعة والسنة وفي مختلف الطبقات، واختلاف بعض الرواة في زيادة النقل ونقيصته تقتضيه طبيعة تعدد الواقعة التي صدر فيها، ونقل بعضهم له بالمعنى وموضع الألتقاء بين الرواة متواتر قطعا.
ومن حسنات دار التقريب بين المذاهب الاسلامية في مصر، أنها أصدرت رسالة ضافية ألفها بعض أعضائها في هذا الحديث أسمتها: (حديث الثقلين)، وقد استوفى فيها مؤلفها ما وقف عليه من أسانيد الحديث في الكتب المعتمدة لدى اهل السنة.
وحسب الحديث لئن يكون موضع الاعتماد الباحثين ان كيون من رواته كل من صحيح مسلم، وسنن الدارمي، وخصائص النسائي، وسنن أبي داود، وابن ماجة، ومسند احمد، ومستدرك الحاكم، وذخائر الطبري، وحلية الأولياء، وكنز العمال، وغيرهم؛ وان تعني بروايته كتب
المفسرين أمثال الرازي، والثعلبي، والنيسابوري، والخازن، وابن كثير، وغيرهم؛ بالاضافة الى الكثير من كتب التأريخ، واللغة، والسير، والتراجم. وقد استقصت رسالة دار التقريب عشرات المؤلفين من هؤلاء وغيرهم(١) ؛ وقد كنت أود نقلها بنصها لقيمة ما ورد فيها من رأي ونقل لولا انتشارها وتداولها؛ وما أظن أن حديثا يملك من الشهرة مايملكه هذا الحديث، وقد أوصله ابن حجر في الصواعق المحرقة الى نيف وعشرين صحابيا، يقول في كتابه: «ثم اعلم ان لحديث التمسك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا(٢) »، وفي غاية المرام وصلت أحاديثه من طرق السنةالى (٣٩) حديثا، ومن طرقالشيعة الى (٨٢) حديثا (٣) .
والظاهر أن سر شهرته تكرار النبيصلىاللهعليهوآله له في أكثر من موضع، يقول ابن حجر: «ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه؛ وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قال بالمدينة في مرضه، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قال ذلك لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف». وقال: «ولاتنافي اذ لامانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة(٤) ».
ولسان الحديث كما في رواية زيد بن أرقم: «اني تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض،
____________________
(١) راجع ذلك في هذه الرسالة، ص٥ ومابعدها، مطبعة مخيمر مصر.
(٢) الصواعق المحرقة، ص١٤٨.
(٣) أصول الاستنباط، ص٢٤.
(٤) الصواعق المحرقة.
وعترتي اهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض؛ فانظروا كيف تخلفونني فيهما(١) ». وفي رواية زيد بن ثابت: «اني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والارض، أو ما بين السماء الى الارض، وعترتي اهل بيتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض(٢) ».
ورواية أبي سعيد الخدري: «اني أوشك ان أدعى فأجيب، وأني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل، وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الارض، وعترتي اهل بيتي، وان اللطيف أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما(٣) ».
وقد استفيد من هذا الحديث عدة أمور نعرضها بايجاز:
١ - دلالته على عصمة أهل البيت:
أ - لأقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه، ومن البديهي أن صدور أية مخالفة للشريعة سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة، تعتبر افتراقا عن القرآن في هذا الحال وان لم يتحقق انطباق عنوان المعصية عليها أحيانا كما في الغافل والساهي، والمدار في صدق عنوان الافتراق عنه عدم مصاحبته لعدم التقيد بأحكامه وان كان معذورا في ذلك، فيقال فلان - مثلا افترق عن الكتاب وكان معذورا في افتراقه عنه؛ والحديث صريح في عدم افتراقهما حتى يردا الحوض.
ب - ولأنه اعتبر التمسك بهم عاصما عن الضلالة دائما وأبدا، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة لن التأييدية، وفاقد الشيء لايعطيه.
ج - على أن تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب
____________________
(١،٢،٣) اقرأ أسانيدها مفصلة في كتاب المراجعات، ص٢٠، ٢١؛ وبقية ألسنتها متقاربة واكثرها صحيحة الاسناد.
منهم تجويز للكذب على الرسولصلىاللهعليهوآله الذي أخبر عن الله عز وجل بعدم وقوع افتراقهما، وتجويز الكذب عليه متعمدا في مقام التبليغ والاخبار عن الله في الأحكام وما يرجع اليها من موضوعاتها وعللها، مناف لافتراض العصمة في التبليغ، وهي مما أجمعت عليها كلمة المسلمين على الاطلاق حتى نفاة العصمة عنه بقول مطلق؛ يقول الشوكاني بعد استعراضه لمختلف مبانيهم في عصمة الانبياء: «وهكذا وقع الاجماع على عصمتهم بعد النبوة من تعمد الكذب في الأحكام الشرعية لدلالة المعجزة على صدقهم؛ وأما الكذب غلطا فمنعه الجمهور، وجوزه القاضي أبو بكر(١) ». ولااشكال أن الغلط لايتأتى في هذا الحديث لاصرار النبيصلىاللهعليهوآله على تبليغه في أكثر من موضع والزام الناس بمؤداه؛ والغلط لايتكرر عادة. على ان الأدلة العقلية على عصمة النبي، والتي سبقت الاشارة اليها، من استحالة الخطأ عليه في مقام التبليغ - وكلما يصدر عنه تبليغ - كما يأتي، تكفي في دفع شبهة القاضي أبي بكر، وتمنع من احتمال الخطأ في دعواه عدم الافتراق.
٢ - لزوم التمسك بهما معا لابواحد منهما منعا من الضلالة، لقولهصلىاللهعليهوآله : فيه ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا، ولقوله: فانظروا كيف تخلفونني فيهما؛ وأوضح من ذلك دلالة ما ورد في رواية الطبراني في تتمتها: «فلا تقدموهما فتهلكوا، ولاتقصروا عنهما فتهلكوا، ولاتعلموهم فانهم أعلم منكم(٢) ».
وبالطبع ان معنى التمسك بالقرآن، هو الأخذ بتعاليمه والسير على وفقها، وهو نفسه معنى التمسك بأهل البيت عدل القرآن.
ومن هذا الحديث يتضح أن التمسك بأحدهما لايغني عن الآخر (ما
____________________
(١) ارشاد الفحول ص٣٤.
(٢) الصواعق المحرقة، ص١٤٨.
ان تمسكتم بهما)، (ولاتقدموهما فتهلكوا، ولاتقصروا عنهما فتهلكوا). ولم يقل ما ان تمسكتم بأحدهما، أو تقدمتم أحدهما؛ وسيأتي السر في ذلك من أنهما معا يشكلان وحدة يتمثل بها الاسلام على واقعه وبكامل أحكامه ووظائفه.
٣ - بقاء العترة الى جانب الكتاب الى يوم القيامة، أي لايخلو منهما زمان من الأزمنة ما داما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهي كناية عن بقائهما الى يوم القيمة. يقول ابن حجر: «وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت اشارة على عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به الى يوم القيمة، كما ان الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي(١) ».
٤ - دلالته على تميزهم بالعلم بكل ما يتصل بالشريعة وغيره، كما يدل على ذلك اقترانهم بالكتاب الذي لايغادر صغيرة ولاكبيرة؛ ولقولهصلىاللهعليهوآله : ولاتعلموهم فانهم أعلم منكم. يقول ابن حجر : وهو من خير من كتبوا في هذا الحديث فهما وموضوعية «تنبيه سمى رسول اللهصلىاللهعليهوآله القرآن وعترته، وهي بالمثناة الفوقية، الأهل والنسل والرهط الأدنون الثقلين، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك اذ كل منهما معدن العلوم اللدنية، والأسرار والحكم العلية، والأحكام الشرعية».
«ولذا حثصلىاللهعليهوآله على الاقتداء والتمسك بهم والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت».
«وقيل: سميا ثقلين، لثقل وجوب رعاية حقوقهما».
« ثم ان الذين وقع الحث عليهم منهم انما هم العارفون بكتاب الله
____________________
(١) الصواعق المحرقة ص١٤٩.
وسنة رسوله، اذ هم الذين لايفارقون الكتاب الى الحوض؛ ويؤيده الخبر السابق: ولاتعلموهم فانهم أعلم منكم، وتميزوا بذلك عن بقية العلماء لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وشرفهم بالكرامات الباهرة، والمزايا المتكاثرة، وقد مر بعضها(١) ».
مناقشة الحديث:
وقد ناقش الاستاذ محمد أبو زهرة هذا الحديث بمناقشات مطولة بعد ان استعرض استدلال الشيعة به على وجوب الرجوع اليهم، نذكر كل ما يتصل بحديثنا منه، ثم نعقب عليه بما يتراءى لنا من أوجه المفارقة فيه.
يقول: «ولكنا نقول: ان كتب السنة التي ذكرته بلفظ سنتي أوثق من الكتب التي روته بلفظ عترتي؛ وبعد التسليم بصحة اللفظ نقول: بانه لايقطع بل لايعين من ذكروهم من الأئمة الستة المتفق عليهم عند الامامية الفاطميين، وهو لايعين أولاد الحسين دون أولاد الحسن، كما لايعين واحدا من هؤلاء بهذا الترتيب، وكما لايدل على ان الامامة تكون بالتوارث، بل لايدل على امامة السياسة، وانه أدل على امامة الفقه والعلم(٢) ».
ومواقع النظر حول نصه هذا، تقع في ثلاث:
١ - مناشته في الحديث من حيث سنده لتقديم ما ورد فيه من لفظ سنتي على ما ورد من لفظ عترتي، لكون رواته من كتب السنة بهذا اللفظ أوثق.
____________________
(١) هذا النص بطوله مستل من الصواعق المحرقة، ص١٤٩؛ مطبعة دار الطباعة المحمدية بمصر.
(٢) الامام الصادق، ص١٩٩.
٢ - كونه لايعين المراد من الأهل، كما لايعين الأئمة المتفق عليهم لدى الشيعة أو غيرهم، وكانه يريد ان يقول: ان القضية لاتثبت موضوعها، فكيف جاز الاستدلال به على امامة خصوص الأئمة؟!.
٣ - دلالته على امامة الفقه لا السياسة:
أما المناقشة الأولى فهي غير واضحة لدينا، لأن رواية وسنتي - لو صحت - فهي لاتعارض رواية العترة، واعتبار الصادر شيئا واحدا أما هذه أو تلك لاملجى ء له، وأظن ان الشيخ أبا زهرة تخيل التعارض بينهما، استنادا الى مفهوم العدد، ولكنه نسي أن هذا النوع من مفاهيم المخالفة ليس بحجة - كما هو التحقيق لدى متأخري الأصوليين - على ان التعارض لايلجأ اليه الا مع تحكم المعارضة، ومع امكان الجمع بينهما لامعارضة أصلا، وقد جمع ابن حجر بينهما في صواعقه، فقال: «وفي رواية كتاب الله وسنتي وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب لان السنة مبنية له، فأغنى ذكره عن ذكرها، والحاصل ان الحث وقع على التمسك بالكتاب وبالسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت؛ ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الامور الثلاثة الى قيام الساعة(١) » وان شئت ان تقول: ان ذكر أهل البيت معناه ذكر للسنة لانهم لايأتون الا بها، فكل ما عندهم مأخوذ بواسطة النبي، أي بواسطة السنة، وقد طفحت بذلك أحاديثهم، ويؤيده ما ورد في كنز العمال من جواب النبيصلىاللهعليهوآله لعلي عندما سأله: ما أرث منك يا رسول الله؟ قالصلىاللهعليهوآله : ما ورث الانبياء من قبل: كتاب ربهم وسنة نبيهم(٢) ».
واذن يكون ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر، وكلتا الراويتين
____________________
(١) الصواعق المحرقة ص١٤٨.
(٢) السقيفة للمظفر، ص٤٩ عن كنز العمال (٤١:٥).
يمكن ان تكونا صحيحتين ولا حاجة الى تكذيب احدهما وتعيين الصادرة منهما بالرجوع الى المرجحات.
ومع الغض عن ذلك وافتراض تمامية المعارضة، وان الصادر منهصلىاللهعليهوآله لايمكن أن يكون الا واحدة منهما فتقديمه لكلمة وسنتي، لا أعرف له وجها.
لان حديث التمسك بالثقلين متواتر في جميع طبقاته، والكتب التي حفلت به أكثر من أن تحصى ، وطرقه الى الصحابة كثيرة، ورواته منهم - أي الصحابة - كثيرون جدا، وفي رواياته عدة روايات كانت في أعلى درجات الصحة، كما شهد بذلك الحاكم وغيره.
بينما نرى الحديث الآخر لايتجاوز في اعتباره عن كونه من أحاديث الآحاد، ولقد كنت أحب للسيد أبي زهرة ان يتفضل بذكر الكتب السنية التي روت حديث وسنتي، لنرى مدى ادعائه الأوثقية لها، وأي كتب أوثق من الصحاح والسنن والمسانيد ومستدركاتها التي سبق ذكرها وذكر روايتها للحديث لتقدم عند المعارضة؟!.
وفي حدود تتبعي لكتب الحديث، واستعانتي ببعض الفهارس، لم أجد رواية وسنتي الا في عدد من الكتب لاتتجاوز عدد الأصابع لليد الواحدة، وهي مشتركة في رواية الحديثين معا، اللهم الا ما يبدو من مالك حيث اقتصر في الموطأ على ذكرها فحسب، ولم يذكر الحديث الآخر - ان صدق تتبعي لما في الكتاب - يقول راوي الموطأ: «وحدثني عن مالك: انه بلغه ان رسول اللهصلىاللهعليهوآله قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه(١) »، ويكفي في توهين الرواية أنها مرفوعة ولم يذكر الكتاب رواتها، مما يدل
____________________
(١) الموطأ، ج٢ ص٢٠٨، طبعة مصطفى البابي الحلبي.
على عدم اطمئنان صاحبها اليها ولسانها «عن مالك انه بلغه ان رسول الله»، ولعل الموطأ هو أقدم مصادرها في كتب الحديث، كما أن ابن هشام هو أقدم رواتها في كتب السير(١) فيما يبدو.
وما عدا هذين الكتابين، فقد ذكرها ابن حجر في صواعقه مرسلة، وذكرها الطبراني فيما حكي عنه(٢) .
ومثل هذه الرواية - وهي بهذه الدرجة من الضعف لأنها لاتزيد على كونها مرفوعة او مرسلة، ولو قدر صحتها فهي لاتزيد على كونها من أخبار الاحاد - هل يمكن ان تقف بوجه حديث الثقلين مع وفرة رواته في كتب السنة وتصحيح الكثير من رواياته، كما سبق بيانه؟.
هذا كله من حيث سند الحديثين.
أما من حيث المضمون، فانا - شخصيا - لا أكاد أفهم كيف يمكن أن تكون السنة مرجعا يطلب الى المسلمين في جميع عصورهم أن يتمسكوا بها الى جنب الكتاب، وهي غير مجموعة على عهدهصلىاللهعليهوآله وفيها الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد.
ولقد كان رسول اللهصلىاللهعليهوآله بالمدينة واصحابه كما يقول ابن حزم: «مشاغيل في المعاش، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز، وانه كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط، وأنه انما قامت الحجة على سائر من لم يحضرهصلىاللهعليهوآله بنقل من حضره، وهم واحد او اثنان(٣) ».
واذا صح هذا وهو صحيح جدا لأن التاريخ لم يحدثنا عنهصلىاللهعليهوآله أنه كان يجمع الصحابة جميعا، ويبلغهم بكل ما يجد من أحكام، ولو
____________________
(١ و٢) حديث الثقلين، ص١٨، دار التقريب.
(٣) تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية، ص١٢٣ نقلا عنه.
تصورناه في أقواله فلا نتصوره في أفعاله وتقريراته وهما من السنة، فماذا يصنع من يريد التمسك بسنته من بعده ولنفترضه من غير الصحابة؟ أيظل يبحث عن جميع الصحابة وفيهم الولاة والحكام، وفيهم القواد والجنود في الثغور ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرف عليه من أحكام، أم يكتفي بالرجوع الى الموجودين وهو لايجزيه لاحتمال صدور الناسخ أو المقيد أو المخصص أمام واحد أو اثنين ممن لم يكونوا بالمدينة؟ والحجية - كمايقول ابن حزم: لاتتقوم الا بهم.
والعمل بالعام أو المطلق لايجوز قبل الفحص عن مخصصه او مقيده ما دمنا نعلم أن من طريقة النبي في التبليغ هو الاعتماد على القرائن المنفصلة، فالارجاع الى شيء مشتت وغير مدون تعجيز للأمة وتضييع للكثير من أحكامها الواقعية.
واذا كانت هذه المشكلة قائمة بالنسبة الى من أدرك الصحابة وهم القلة نسبيا، فما رأيكم بالمشكلة بعد تكثر الفتوح، وانتشار الاسلام، ومحاولة التعرف على أحكامه من قبل غير الصحابة من رواتهم، وبخاصة بعد انتشار الكذب والوضع في الحديث للأغراض السياسية أو الدينية أو النفسية؟.
ومثل هذه المشكلة هل يمكن ان لايكون أمامهصلىاللهعليهوآله وهو المسؤول عن وضع الضمانات لبقاء شريعته مادامت خاتمة الشرائع، وقد شاهد قسما من التنكر لسنته على عهدهصلىاللهعليهوآله ، كما مرت الاشارة الى ذلك في سابق من الأحاديث.
ان الشيء الطبيعي أن لايفرض أي مصدر تشريعي على الأمامة ما لم يكن مدونا ومحدد المفاهيم، أو يكون هناك مسؤول عنه يكون هو المرجع فيه.
وما دمنا نعلم أن السنة لم تدون على عهد الرسولصلىاللهعليهوآله ، وان