النبيصلىاللهعليهوآله منزه عن التفريط برسالته، فلابد أن نفترض جعل مرجع تحدد لديه السنة بكل خصائصها، وبهذا تتضح أهمية حديث الثقلين وقيمة ارجاع الأمة الى أهل البيت فيه لأخذ الأحكام عنهم، كما تتضح أسرار تأكيده على الاقتداء بهم(١) ، وجعلهم سفن النجاة تارة(٢) ، وأمانا للأمة أخرى(٣) ، وباب حطة ثالثة(٤) وهكذا... وبخاصة اذا أدركنا مقام النبوة وما يقتضيه من تنزيه عن جميع المجالات العاطفية غير المنطقية، والا فما الذي يفرق اهل بيته عن غيرهم من الأمة ليضفي عليهم كل هذا التقديس، ويلزمها بهذه الأوامر المؤكدة بالرجوع اليهم، والاقتداء بهم، والتمسك بحبلهم؟.
أما ما يتصل بعدم تعيينه المراد من اهل البيت، فهذا من أوجه ما أورده ابو زهرة من اشكالات على هذا الحديث.
وكون القضية لاتشخص موضوعها بديهية، لذلك نرى ان نتعرف على المراد من اهل البيت من خارج نطاق هذا الحديث.
____________________
(١ - ٢ - ٣ - ٤) مضامين الأحاديث، اقرأها واسانيدها من كتب النسة في كتاب المراجعات للامام شرف الدين، ص٢٣ ومابعدها.
من أهل البيت؟
وأول ما يلفت النظر سكوت الأمة عن استيضاح أمرهم من النبيصلىاللهعليهوآله وبخاصة وقد سمعوه منه في نوب متفرقة وأماكن مختلفة، أما كان فيهم من يقول له: أنك عصمتنا من الضلالة بالرجوع الى اهل بيتك، وجعلتهم قرناء القرآن؛ فمن هم اهل هذا البيت لنعتصم بهم؟ أترى ان عصمتهم من الضلالة من الأمور العادية التي لاتهم معرفتها والاستفسار عنها، أم ترى أنهم كانوا معروفين لديهم فما احتاجوا الى استفسار وحديث؟.
والذي يبدو ان الصحابة ما كانوا في حاجة الى استفسار وهم يشاهدون
نبيهمصلىاللهعليهوآله في كل يوم يقف على باب علي وفاطمة، وهو يقرأ: انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا؛ وتسعة أشهر وهي المدة التي حدث عنها ابن عباس، كافية لئن تعرف الأمة من هم اهل البيت، ثم يشاهدونه وقد خرج الى المباهلة وليس معه غير علي وفاطمة وحسن وحسين، وهو يقول: (اللهم هؤلاء أهلي(١) )، وهم من أعرف الناس بخصائص هذا الكلام، وأكثرهم ادراكا لما ينطوي عليه من قصر واختصاص.
وأحاديث الكساء التي سبقت الاشارة اليها فيما سبق، بما في بعضها من اقصاء حتى لزوجته أم سلمة، ما يغني عن إطالة الحديث معه في التعرف على المراد من اهل البيت على عهده، وأحاديثه على اختلافها يفسر بعضها بعضا، ويعين بعضها المراد من البعض.
على أنا لانحتاج في بدء النظر الى أكثر من تشخيص واحد منهم يكون المرجع للقيام بمهمته من بعده، وهو بدوره يعين الخلف الذي يأتي بعده وهكذا... وليس من الضروري ان يتولى ذلك النبي بنفسه ان لم نقل أنه غير طبيعي لولا ان تقتضيه بعض الاعتبارات.
ومن هنا احتجنا الى النص على من يقوم بوظيفة الامامة، لان استيعاب السنة والاحكام الشرعية وطبيعة الصيانة لحفظها التي تستدعي العصمة لصاحبها والعاصمية للآخرين، ليست من الصفات البارزة التي يدركها جميع الناس ليتركها مسرحا لاختيارهم وتمييزهم، ولو أمكن تركها لهم في مجال التشخيص فليس من الضروري أن يتفق الناس على اختيار صاحبها بالذات
____________________
(١) يقول مسلم في صحيحه، ج٧ ص١٢١: «لما نزلت هذه الآية( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي) وقد رواها بالاضافة الى صحيح مسلم كل من: الترمذي، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم؛ انظر دلائل الصدق، ج٢ ص٨٦.
مع تباين عواطفهم وميولهم.
وطبيعة الصيانة والحفظ ومراعاة استمرارها منهجا وتطبيقا في الحياة، تستدعي اتخاذ مختلف الاحتياطات اللازمة لذلك.
ولقد أغناهاصلىاللهعليهوآله حين عين عليا في نفس حديث الثقلين وسماه من بين أهل بيته لينهض بوظائفه من بعده؛ ومما جاء في خطابه التاريخي في يوم غدير خم، وهو ينعى نفسه لعشرات الالوف من المسلمين الذين كانوا معه: «كأني قد دعيت فأجبت، اني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما اكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلفونني فيهما؛ فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: «ان الله عز وجل مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي، فقال: من كنت مولاه فهذا وليه؛ اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه(١) ».
ثم قال في مرض موته بعد ذلك مؤكدا: «أيها الناس يوشك ان أقبض قبضا سريعا فينطلق بي، وقد قدمت اليكم القول معذرة اليكم، الا اني مخلف فيكم كتاب ربي عز وجل، وعترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي فرفعها، فقال: هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا علي الحوض فأسألهما ما خلفت فيهما(٢) ».
على أن الأحاديث الدالة على عصمته كافية في تعيينه، أمثال قولهصلىاللهعليهوآله : «علي مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيثما دار(٣) » وقولهصلىاللهعليهوآله لعمار: «ياعمار، ان رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره، فاسلك مع علي ودع الناس، انه لن يدلك على ردى ولن يخرج من هدى(٤) ». وقولهصلىاللهعليهوآله : «اللهم أدر الحق
____________________
(١) مستدرك الحاكم وتلخيصه للذهبي، ج٣ ص١٠٩، وقد صحح الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله.
(٢) ابن حجر في الصواعق، ص٢٤.
(٣ - ٤) دلائل الصدق، ج٢ ص٣٠٣، وفيه عشرات من أمثالها اقرأ مصادرها من كتب أهل السنة في الجزء نفسه.
مع علي، حيث دار(١) » الى غيرها من الأحاديث.
ومن هنا قال أبو القاسم البجلي وتلامذته من المعتزلة: «لو نازع علي عقيب وفاة رسول اللهصلىاللهعليهوآله وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة، اذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها، واذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول اللهصلىاللهعليهوآله لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال: «علي مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيثما دار»، وقال له غير مرة: «حربك حربي، وسلمك سلمي(٢) ».
واذا كانت هذه الأحاديث التي مرت تعين عليا وولديه، فما الذي يعين بقية الأئمة من أهل البيت؟.
هناك روايات مأثورة لدى الشيعة وأخرى لدى السنة، يذكرها صاحب الينابيع وغيره، تصرح بأسمائهم جميعا(٣) .
ولكن الروايات التي حفلت بها الصحاح والمسانيد لاتذكرهم بغير عددهم.
ففي رواية البخاري عن «جابر بن سمرة، قال: سمعت النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم ، يقول: يكون اثنا عشر أميرا، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: انه قال: كلهم من قريش(٤) »، وفي صحيح مسلم بسنده عن النبيصلىاللهعليهوآله : «لايزال الدين قائما حتى تقوم الساعة او يكون عليكم
____________________
(١) المستصفى ، ج١ ص١٣٦.
(٢) ابن ابي الحديد في شرحه للنهج، ج١ ص٢١٢.
(٣) ينابيع المودة، ج٣ ص٩٩.
(٤) البخاري، ج٩ ص٨١.
اثنا عشر خليفة كلهم من قريش(١) ».
وفي رواية احمد عن مسروق، قال: «كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول اللهصلىاللهعليهوآله كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله، اثني عشر كعدة نقباء بني اسرائيل(٢) ».
وفي نظير هذه الأحاديث مع اختلاف في بعض المضامين، حدث كل من أبي داود، والبزار، والطبراني(٣) ، وغيرهم، وطرقها في هذه الكتب كثيرة وبخاصة في صحيح مسلم ومسند احمد.
والذي يستفاد من هذه الروايات:
١ - ان عدد الأمراء او الخلفاء لايتجاوز الاثني عشر، وكلهم من قريش.
٢ - وان هؤلاء الأمراء معينون بالنص، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني اسرائيل لقوله تعالى :( ولقد أخذنا ميثاق بني اسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيب ) .
٣ - ان هذه الروايات افترضت لهم البقاء مابقي الدين الاسلامي، او حتى تقوم الساعة، كما هو مقتضى رواية مسلم السابقة، وأصرح من ذلك روايته الاخرى في نفس الباب: «لايزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان(٤) ».
____________________
(١) صحيح مسلم، ج٦ ص٤؛ وفي ص ٣ - ٤ روايات أخرى بمضمون رواية البخاري.
(٢) دلائل الصدق، ج٢ ص٣١٦ نقلا عن مسند احمد وغيره.
(٣) أضواء على السنة المحمدية، ص٢١٠ وما بعدها.
(٤) صحيح مسلم، ج٦ ص٣.
واذا صحت هذه الاستفادة فهي لاتلتئم الا مع مبنى الامامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبلهصلىاللهعليهوآله ، وهي منسجمة جدا مع حديث الثقلين وبقائهما حتى يردا عليه الحوض.
وصحة هذه الاستفادة موقوفة على ان يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الامامة والخلافة - بالاستحقاق - لا السلطة الظاهرية.
لأن الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من الله، وهي في حدود السلطنة التشريعية لا التكوينية، لان هذا النوع من السلطنة هو الذي تقتضيه وظيفته كمشرع، ولاينافي ذلك ذهاب السلطنة منهم في واقعها الخارجي لتسلط الآخرين عليهم.
على ان الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلينا عن حملها على هذا المعنى لبداهة ان السلطنة الظاهرية قد تولاها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد، فضلا عن انقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم - أمويين وعباسيين - باتفاق المسلمين.
ومن الجدير بالذكر ان هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل ان يكتمل عدد الائمة، فلايحتمل ان تكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور على ان جميع رواتها من أهل السنة ومن الموثوقين لديهم.
ولعل حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الاحاديث وملاءمتها للواقع التأريخي، كان منشؤها عدم تمكنها من تكذيبها، ومن هنا تضاربت الاقوال في توجيهها وبيان المراد منها.
والسيوطي «بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الاحاديث المشكلة خرج برأي غريب نورده هنا تفكهة للقراء، وهو «وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الاربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن
عبد العزيز وهؤلاء ثمانية، ويحتمل ان يضم اليهم المهدي من العباسيين لانه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر لما أوتيه من العدل وبقي الاثنان المنتظران أحدهما: المهدي لانه من أهل بيت محمد، ولم يبين المنتظر الثاني، و رحم الله من قال في السيوطي: انه حاطب ليل(١) ».
وما يقال عن السيوطي، يقال عن ابن روزبهان في رده على العلامة الحلي وهو يحاول توجيه هذه الاحاديث(٢) .
والحقيقة ان هذه الاحاديث لاتقبل توجيها الا على مذهب الامامية في أئمتهم.
واعتبارها من دلائل النبوة في صدقها عن الاخبار بالمغيبات، أولى من محاولة اثارة الشكوك حولها كما صنعه بعض الباحثين المحدثين متخطيا في ذلك جميع الاعتبارات العلمية وبخاصة بعد ان ثبت صدقها بانطباقها على الائمة الاثني عشرعليهمالسلام .
على أنا في غنى عن هذه الروايات وغيرها بحديث الثقلين نفسه، فهو الذي ترك بأيدينا مقياسا لتشخيص العصمة في أصحابها، وقديما قيل: (اعرف الحق تعرف أهله).
والمقياس في العصمة هو عدم الافتراق عن القرآن، فلنمسك بأيدينا هذا المقياس، ونسبر به الواقع السلوكي لجميع من تسموا بالائمة لدى فرق الشيعة، ونختار أجدرهم بالانطباق عليه لنتمسك بامامته.
وأظن ان الانسب والابعد عن الادعاء ان نهمل كتب الشيعة على اختلافها، وننزع الى كتب اخواننا من أهل السنة ونجعلها الحكم في تطبيق هذا المقياس عليهم، فانها أقرب الى الموضوعية عادة من كتب
____________________
(١) أضواء على السنة المحمدية، ص٢١٢.
(٢) دلائل الصدق، ج٢ ص٣١٥.
قد يقال في حق أصحابها أن كل طائفة تريد التزيد لأئمتها بالخصوص.
ولنا من ابن طولون مؤرخ دمشق في كتابه «الائمة الاثنا عشر»، وابن حجر في صواعقه، والشيخ سليمان البلخي وغيرهم رادة لامثال هذه البحوث.
ولنترك قراءة تراجمهم جميعا للأخ أبي زهرة ليرى أيهم أكثر انسجاما في واقعه مع المقياس الذي استفدناه من حديث الثقلين، يقول أحمد وهو يعلق على حديث الامام الرضا عن آبائه حين مر بنيسابور: «لو قرأت هذا الاسناد على مجنون لبرى ء من جنته(١) ».
والذي نرجوه ونأمل أن لا ننساه ونحن نستعرض تراجمهم، ان هؤلاء الائمة الاثني عشر قد ادعوا لانفسهم الامامة في عرض السلطة الزمنية، واتخذوا من أنفسهم كما اتخذهم الملايين من أتباعهم قادة للمعارضة السلمية للحكم القائم في زمنهم، وكانوا عرضة للسجون والمراقبة، وكثير منهم قتل بالسم، وفيهم من استشهد في ميدان الجهاد على يد القائمين بالحكم.
وفي هؤلاء الائمة من تولى الامامة وهو ابن عشرين سنة كالحسن العسكري، بل فيهم من تولى منصبها وهو ابن ثمان كالامامين الجواد والهادي.
ومن المعروف عن الشيعة ادعاؤهم العصمة لأئمتهم الملازمة لدعوى الاحاطة في شؤون الشريعة جميعها، بل ادعوا الأعلمية لهم في جميع الشؤون، وهم أنفسهم صرحوا بذلك.
ومن كلمات أئمتهم في ذلك كله ماورد عن أمير المؤمنينعليهالسلام في نهجه الخالد «نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم وينابيع الحكمة»، وقولهعليهالسلام : «أين الذين زعموا أنهم
____________________
(١) الصواعق المحرقة، ص٢٠٣.
الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا، ان رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى ، ان الائمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لاتصلح على سواهم ولاتصلح الولاة من غيرهم».
وقول علي بن الحسين السجاد: «وذهب آخرون الى التقصير في أمرنا واحتجوا بمتشابه القرآن فتأولوا بآرائهم واتهموا مأثور الخبر فينا»، الى ان يقول: «فالى من يفزع خلف هذه الامة، وقد درست أعلام هذه الامة، ودانت الامة بالفرقة والاختلاف يكفر بعضهم بعضا، والله تعالى يقول:( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، فمن الموثوق به على ابلاغ الحجة، وتأويل الحكم الا أعدال الكتاب وأبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى الذين احتج الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة، هل تعرفونهم او تجدونهم الا من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (١) ) ؟.
ومع هذه الأقوال ونظيرها صادر عن اكثر الأئمة، وهم مصحرون بمبادئهم، أما كان بوسع السلطة وهي تملك ما تملك من وسائل القمع أن تقضي على هذه الجبهة من المعارضة ذات الدعاوى العريضة من أيسر طرقها، وذلك بتعرض أئمتها لشيء من الامتحان العسير في بعض ما يملكه العصر من معارف وبخاصة ما يتصل منها بغوامض الفقه والتشريع ليسقط دعواها في الأعلمية من الأساس، أو يعرضهم الى شيء من الامتحان في الاخلاق والسلوك ليسقط ادعاءهم العصمة.
____________________
(١) اقرأ هذه الأقوال وغيرها في المراجعات لشرف الدين مأثورة عن النهج والصواعق ص١٨.
واذا كان في الكبار منهم عصمة وعلم، نتيجة دربة ومعاناة فما هو الشأن في ابن عشرين عاما أو ابن ثمان، فهل تملك الوسائل الطبيعية تعليلا لتمثلهم لذلك كله.
ولو كان هؤلاء الأئمة في زوايا او تكايا، وكانوا محجوبين عن الرأي العام، كما هو الشأن في أئمة الاسماعيلية أو بعض الفرق الباطنية لكان لاضفاء الغموض والمناقبية على سلوكهم من الاتباع مجال، ولكن ما نصنع هم مصحرون بأفكارهم وسلوكهم وواقعهم، تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفكر، والتأريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لأفكارهم وتعريضهم لمختلف وسائل الاغراء والاختبار ومع ذلك فقد حفل التأريخ بنتائج اختباراتهم المشرفة وسجلها باكبار.
ولقد حدث المؤرخون عن كثير من هذه المواقف المحرجة وبخاصة مع الامام الجواد، مستغلين صغر سنه عند تولي الامامة(١) .
وحتى لو افترضنا سكوت التأريخ عن هذه الظاهرة، فان من غير الطبيعي ان لاتحدث أكثر من مرة تبعا لتكرر الحاجة اليها وبخاصة وان المعارضة كانت على أشدها في العصور العباسية.
وطريقة اعلان فضيحتهم باحراج أئمتهم فيما يدعونه من علم او استقامة سلوك، وابراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوى لو أمكن ذلك أيسر بكثير من تعريض الأمة الى حروب قد يكون الخليفة نفسه من ضحاياها، او تعريض هؤلاء الأئمة الى السجون والمراقبة او المجاملة أحيانا.
واذا كان بوسع الاخ أبي زهرة ان يعلل هذه الظاهرة بتعليل منطقي
____________________
(١) اقرأ موقفه من امتحان الخليفة له على يد يحيى بن اكثم في الصواعق المحرقة، ص٢٠٤.
يخضع لما نعرف من عوامل طبيعية - أعني ظاهرة تفوقهم في مجالات الاختبار والتمحيص - بالنسبة الى الكبار من الائمة بارجاعها الى الجهد والدراسة والتجربة السلوكية سرا، فهل بوسع فضيلته ان يعللها في ابن عشرين سنة او في ابن ثمان، كما هو الشأن في الأئمة الثلاثة: الجواد، والهادي، والعسكري.
وما لنا نبعد والاخ ابو زهرة، وهو من الاساتذة الذين عانوا مشاكل التدريس في الجامعات، هل يستطيع ان يعطي الضمانة لنجاح أي استاذ - لو عرض لامتحان عسير - في خصوص ما ألفه من كتب من دون سابق تحضير، فكيف اذا وسعنا الامتحان الى مختلف مجالات المعرفة - وهي المدعاة لأئمة أهل البيت في مذهب الشيعة الامامية - ودون سابق تحضير؟.
واذا كان للصدفة - وهي مستحيلة - مجالها في امتحان ما بالنسبة الى شخص ما فليس لها موقع بالنسبة الى جميع الائمة صغارهم وكبارهم كما يحدث في ذلك التأريخ.
وأظن ان في هذه الاعتبارات التي ذكرناها مجمعة ما يغني عن استيعاب كل ما ذكر في تشخيص المراد من أهل البيت.
أما الدعوى الثالثة وهي دلالته على امامة الفقه لا السياسة، فهي ما لا أعرف لها وجها يمكن الركون اليه لافتراضها فصل السلطتين الدينية والزمنية عن بعضهما مع ان الامام لايعترف بذلك لما فيه من تجاهل لوظائف الامامة وهي امتداد لوظائف النبي الا فيما يتصل بعالم الاتصال بالسماء، وبخاصة فيما يتصل في الشؤون التطبيقية.
لان الفكرة - أية فكرة - لايكفي في تحقيق نفسها ان تشرع وتعيش على صعيد من الورق، بل لابد ان تضمن لها تطبيقا تتلاءم فيه الوسائل والاهداف، والا لما صح نسبة النجاح لتجربتها بحال من الاحوال؛
ولقد كتبت فصلا مطولا في البحث الذي يتصل بانبثاق فكرة الامامة والضرورات الداعية اليها في محاضراتي عن تأريخ التشريع الاسلامي في كلية الفقه، مما جاء فيه مما يتصل بحديثنا هذا: «والذي اخاله ان من أوليات ما يقتضيه ضمان التطبيق ان يكون القائم على تطبيقها شخصا تتجسد فيه مبادى ء فكرته تجسدا مستوعبا لمختلف المجالات التي تكفلت الفكرة تقويمها من نفسه.
ولا نريد من التجسد أكثر من أن يكون صاحبها خليا عن الافكار المعاكسة لها من جهة، وتغلغلها في نفسه كمبدأ يستحق من صاحبه التضحية والفناء فيه من جهة أخرى ، ومتى كان الانسان بهذا المستوى استحال في حقه من وجهة نفسية ان يخرج على تعاليمها بحال.
واذا لم يكن القائم بالحكم بهذا المستوى من الايمان بها وكانت لديه رواسب على خلافها لم يكن بالطبع أمينا على تطبيقها مائة بالمائة لاحتمال انبعاث احدى تلكم الرواسب في غفلة من غفلات الضمير واستئثارها في توجيهه الوجهة المعاكسة التي تأتي على الفكرة في بعض مناحيها وتعطلها عن التأثير ككل، وربما استجاب الرأي العام له تخفيفا لحدة الصراع في أعماقه بين ما جد من تعاليم هذه الفكرة وما كان معاشا له ومتجاوبا مع نفسه من الرواسب.
على ان الناس - كل الناس - لايكادون يختلفون الا نادرا في قدرتهم على التفكيك بين الفكرة وشخصية القائم عليها، فالتشريع الذي يحرم الرشوة أو الربا أو الاستئثار لايمكن ان يأخذ مفعوله من نفوس الناس متى عرف الارتشاء أو المراباة أو الاستئثار في شخص المسؤول عن تطبيقه ولو في آن ما، أو احتمل فيه ذلك».
وبما ان الاسلام يعالج الانسان علاجا مستوعبا لمختلف جهاته داخلية
وخارجية، احتجنا لضمان تبليغه وتطبيقه الى العصمة في الرسول ثم العصمة في الذي يتولى وظيفته من بعده، وعلى هذا يتضح سر اصرار النبي على تعيين أهل بيته الذين أعدهم الله لهذه المهمة اعدادا خاصا بالاضافة الى مواهبهم الارادية للقيام بشؤونها.
وما لنا نبعد بالاستاذ أبي زهرة وطبيعة النص الذي تحدث حوله تقتضيه، وهل وراء التعبير بلفظ مخلف ولفظ خليفتين مايؤدي هذا المعنى
على ان الأخ أبا زهرة حاول ان يقتطع النص من اجوائه التي تسلط الاضواء على تحديد مفاهيمه، ويدرسه بعيدا عنها فوقع فيما وقع فيه.
وهل نسي حضرته مجيئه في معرض التمهيد لحديث النص في يوم الغدير ومما جاء فيه: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وصفة الأولوية لا تكون الا لمن له الولاية العامة على الأمة ليستطيع التصرف بما تقتضيه مصلحتها ثم تعقيبها باعطاء الولاية له بقوله: «من كنت وليه فهذا علي وليه» ولحوقها بالدعاء الذي لايناسب الا الولاية العامة «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره».
ثم ورودها بعد ذلك في معرض تأكيد النص قبيل وفاته كما سبق التحدث في ذلك مما يوجب القطع بشمولها للجانب السياسي اذا لوحظت بمجموع ما لابسها من قرائن وأجواء.
على شمولها للجانب السياسي وعدم شمولها لم يعد موضحا لحاجتنا اليوم لنطيل التحدث فيه.
لأن البحث في هذا الجانب لايثمر ثمرة فقهية ومجاله التأريخ.
واثباته هناك لايتوقف على دلالة هذه الرواية فحسب لتظافر أدلة النص وتكثرها في التأريخ.
وانما الذي يتصل بصميم رسالتنا - كمقارنين - اثبات لزوم الرجوع
اليهم في الفقه وأصوله، والحديث واف في الدلالة عليه كما ذكر أبو زهرة وغيرهم.
وأظن ان تحدثنا عن هذا الحديث وما انطوى عليه من عرض كثير من الأحاديث المعتبرة ذات الدلالة على حجية رأيهم يغني عن استعراض بقية الأحاديث ودراستها فليرجعاليها في مظانها من الكتب المطولة.
الأدلة العقلية:
ودليل العقل على اعتبار العصمة لهم لايختلف عما استدل به على اعتبارها في النبي لوحدة الملاك فيهما، وبخاصة اذا تذكرنا ما قلناه من ان الامامة امتداد للنبوة من حيث وظائفها العامة عدا ما يتصل بالوحي فانه من مختصات النبوة، وهذا الجانب لايستدعي العصمة بالذات الا من حيث الصدق في التبليغ، وهو متوفر في الامام.
ولعل في شرحنا السابق لوظائف الامامة مايغني عن معاودة الحديث فيها.
وقد صور هذا الدليل على ألسنتهم بصور ننقلها عن دلائل الصدق بنصها الأولى : «ان الامام حافظ للشرع كالنبي لأن حفظه من أظهر فوائد امامته، فتجب عصمته لذلك، لأن المراد حفظه علما وعملا، وبالضرورة لايقدر على حفظه بتمامه الا معصوم، اذ لاأقل من خطأ غيره، ولو اكتفينا بحفظ بعضه لكان البعض الآخر ملغى بنظر الشارع وهو خلاف الضرورة، فان النبي قد جاء لتعليم الأحكام كلها وعمل الناس بها على مرور الايام(١) ».
والثانية: «ان الحاجة الى الامام في تلك الفوائد (يشير الى ما ذكره
____________________
(١) للدليل تتمة مطولة فيها دفع شبه أوردها المصنف على نفسه وأجاب عليها، لا أرى حاجة لعرضها.
العلامة من فوائد الامامة كاقامة الحدود وحفظ الفرائض وغيرها) يوجب عصمته والا لافتقر الى امام آخر وتسلسل».
والثالثة: «ان الامام لو عصى لوجب الانكار عليه والايذاء له من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مفوت للغرض من نصبه ومضاد لوجوب طاعته وتعظيمه على الاطلاق المستفاد من قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم».
الرابعة: «لو صدرت المعصية منه لسقط محله من القلوب فلا تنقاد لطاعته، فتنتفي فائدة النصب».
الخامسة: «انه لو عصى لكان أدون حالا من أقل آحاد الامة، لأن أصغر الصغائر من أعلى الامة وأولاها بمعرفة مناقب الطاعات ومثالب المعاصي أقبح وأعظم من أكبر الكبائر من أدنى الامة(١) ».
هذه الادلة لو تمت جميعا فهي غاية ما تثبته عصمة الائمة ولازمها اعتبار كل ما يصدر عنهم موافقا للشريعة وهو معنى حجيته، الا أنها لاتعين الائمة ولاتشخصهم فتحتاج الى ضميمة الادلة السابقة من كتاب وسنة لتشخيصهم جميعا.
والدخول في عرض ما أورد أو يورد عليها وما أجيب عنها من الشبه يخرج البحث من أيدينا الى بحث كلامي لانرى ضرورة الخوض فيه هنا، وهو معروض في جل كتب الشيعة الامامية.
والخلاصة ان دلالة الكتاب والسنة على عصمة أهل البيت وأعلميتهم وافية جدا.
وان ما ورد من انسجام واقعهم التأريخي مع طبيعة ما فرضته أدلة حجيتهم من العصمة والاعلمية وبخاصة في الائمة الذين لايمكن اخضاعهم
____________________
(١) دلائل الصدق، ج٢ ص١٠ ومابعدها.
للعوامل الطبيعية التي نعرفها كالائمة الثلاثة الجواد والهادي والعسكري خير ما يصلح للتأييد.
فتعميم السنة آذن لهم في موضعه.
وما أروع ما نسب الى الخليل بن أحمد الفراهيدي من الاستدلال على امامة الامام علي بقوله: «استغناؤه عن الكل واحتياج الكل اليه دليل امامته(١) »، وهو دليل يصلح للاستدلال به على امامة جميع الائمة اذ لم يحدث التأريخ في رواية صحيحة عن احتياج أحد منهم الى الاستفسار عن أي مسألة أو أخذها أو دراستها من الغير مهما كان شأنه عدا المعصوم الذي سبقه، ولو وجدت لحفلت بذكره أحاديث المؤرخين كما هو الشأن في نظائره من الاهمية، وبخاصة وان الشيعة يفترضون لهم ذلك.
وتمام ما انتهينا اليه من بداية الحديث عن السنة الى هذا الموضع، ان حجية السنة في الجملة من ضروريات الاسلام، بل لا معنى للاسلام بدونها، فاطالة الحديث في التماس الحجج لها من التطويل غير المستساغ لوسط اسلامي، وان كنا محتاجين في الجملة لاطالة التحدث حول بعض ما ورد من التعميمات فيها الى الصحابة، أو الائمة من أهل البيت.
____________________
(١) لم يسعني التأكد من صحة النسبة فعلا لعدم عثوري عليها في المصادر التي أمتلكها.
الطرق القطعية الى السنة
تمهيد، الخبر، المتواتر، الخبر المحفوف بقرائن قطعية، الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم، بناء العقلاء، سيرة المتشرعة، ارتكاز المتشرعة.
تمهيد
والسنة بما هي سنة، وان كانت حجيتها - كما قلنا - من الضروريات، الا أن مجالات الاستفادة منها لبحوثنا الفقهية موقوفة على ركائز أخر بالنسبة الينا.
وقد نكون في غنى عن هذه الركائز لو كنا على عهد المعصومين، ولدينا من المؤهلات البيانية ما يرفعنا الى فهم كلماتهم والاستفادة منها.
ولكن بعدنا عن زمن النبيصلىاللهعليهوآله وأهل بيته ولّد لنا بحوثا لابد من اعتمادها ركيزة من ركائز الاستنباط الأساسية بعد دراستها والخروج منها بالثمرة المتوخاة.
وهذه البحوث ذات أقسام:
يقع بعضها في الطرق والوسائل المثبتة للسنة والموصلة اليها؛ وتقع الأخرى في كيفية الاستفادة منها، ثم معرفة مدى نسبتها للكتاب.
ولعلنا نرى بعد حين أن اكثر ما أثير من الشبه حول حجية السنة على ألسنة بعض القدامى ، فانما هو منصب على الطرق الموصلة اليها، أو على كيفيات الاستفادة منها، وان ضاق ببعضهم حججهم ومناقشاتها.
وعلى هذا، فالبحوث (حول السنة) انما تقع في مواقع:
(١) الطرق المثبتة لها بطريق القطع.
(٢) الطرق المثبتة لها بغير القطع.
(٣) كيفيات الاستفادة منها.
(٤) موقع السنة من الكتاب. ولكل منها أقسام وفيها بحوث.
تقسيم الطرق الى السنة:
والذي ينبغي أن يقال جريا على ما أصلناه في مباحث الحجة أن الطرق التي لها أهلية الايصال اليها ذات قسمين:
١ - قطعية.
٢ - وغير قطعية.
ولكل منها أقسام لابد من استقراء المهم منها والتماس أدلته، وحججه، وفحصها وتقييمها على أساس مقارن.
الطرق القطعية:
وقد ذكروا لها أقساما أهمها ستة.
١ - الخبر المتواتر.
٢ - الخبر المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره.
٣ - الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم.
٤ - بناء العقلاء الكاشف عن رأي المعصوم فيه.
٥ - سيرة المتشرعة الكاشفة عن رأي المعصوم فيها.
٦ - ارتكاز المتشرعة
(١) الخبر المتواتر:
ويراد به اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وصدورهم جميعا عن خطأ أو اشتباه أو خداع حواس، على ان يجري هذا المستوى في الاخبار
في جميع طبقات الرواة، حتى الطبقة التي تنقل عن المعصوم مباشرة.
فلو تأخر التعدد في طبقة ما، أو فقد أحد تلكم الشروط، خرج عن كونه متواترا الى أخبار الآحاد، لأن النتائج - كما يقول علماء الميزان -: تتبع دائما أخس المقدمات.
ومثل هذا الخبر - أعني المتواتر - مما يوجب علما بصدور مضمونه؛ والعلم - كما سبق بيانه-: حجة ذاتية لاتقبل الوضع والرفع.
شروطه:
وقد جعلوا له شروطا اختلفوا في تعددها، ويمكن انتزاعها جميعا من نفس التعريف: يقول المقدسي: «وللتواتر ثلاثة شروط»:
«الأول: أن يخبروا عن علم ضروري مستند الى محسوس، اذ لو أخبرنا الجم الغفير عن حدوث العالم وعن صدق الأنبياء، لم يحصل لنا العلم بخبرهم».
«الثاني: أن يستوي طرف الخبر وسطه في هذه الصفة وفي كمال العدد، لأن كل عصر يستقل بنفسه فلابد من وجود الشروط فيه، ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسىعليهالسلام تكذيب كل ناسخ لشريعته».
«الشرط الثالث: في العدد الذي يحصل به التواتر واختلف الناس فيه، فمنهم من قال: يحصل باثنين، ومنهم من قال: يحصل بأربعة، وقال قوم: بخمسة، وقال قوم: بعشرين، وقال آخرون: بسبعين، وقيل: غير ذلك».
«والصحيح أنه ليس له عدد محصور(١) ».
ويقول زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني في درايته وهو يعرفه
____________________
(١) روضة الناظر، ص٥٠.
ويشير الى شروطه:«هو ما بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، واستمر ذلك الوصف في جميع الطبقات حيث تتعدد، فيكون أوله كآخره، ووسطه كطرفيه، ولا ينحصر ذلك بعدد خاص(١) ».
ومثلهما غيرهما من أعلام الشيعة والسنة على غموض في أداء بعضهم ربما أو هم خلاف ذلك.
على أن هذه التحديدات، ليست بذات ثمرة الا في حدود تشخيص المصطلح للخبر المتواتر وتحديد مفهومه، وكل ما كتب في هذا الشأن، فانما هو لتشخيص صغريات ما يقع به العلم عادة، وهذه الشرائط وأشباهها من موجبات ما يحصل بها التشخيص، والا فان المدار على العلم فان حصل منها فهو الحجة، وان لم يحصل احتجنا الى التماس دليل على الحجية، وليس في هذه الشرائط ما يشير اليه.
وأمثلة المتواتر كثيرة، وقد عدوا منها كل ما يتصل بضروريات الدين، كالفرائض اليومية وأعدادها وأعداد ركعاتها، وصوم شهر رمضان، وكالذي مر في حديث الثقلين، والغدير، وأشباههما.
واعتبروا منها قولهعليهالسلام : «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار(٢) ».
(٢) الخبر المحفوف بالقرائن القطعية:
ويراد به الخبر غير المتواتر، سواء كان مشهورا أم غير مشهور،
____________________
(١) الدراية، ص١٢، مطبعة النعمان، النجف.
(٢) سلم الوصول، ص٢٥٥.
على ان يحتف بقرائن توجب القطع بصدوره عن المعصوم.
والمدار في حجية هذا النوع من الاخبار هو حصول العلم منه كالخبر المتواتر، والعلم بنفسه - كما سبق بيانه - حجة ذاتية، فلانحتاج بعده الى التماس أدلة على الحجية.
(٣) الاجماع:
والبحث في الاجماع له استقلاله، وليس موضعه هنا نظرا لاعتباره لدى الأكثر مصدرا مستقلا من مصادر التشريع في مقابل الكتاب والسنة.
نعم في بعض المباني وبخاصة لدى الأكثر من علماء الشيعة هو كشفه عن رأي المعصوم على نحو القطع، فيكون من حقه على هذا المبنى ان يبحث عنه في هذا الموضع، ولايعتبر من الأدلة المستقلة.
وقد آثرنا تأخير البحث عنه الى موضعه جريا على ماسلكه الأكثر في عده من مصادر التشريع.
(٤) بناء العقلاء :
ويراد به صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة ما صدورا تلقائيا، ويتساوون في صدورهم عن هذا السلوك على اختلاف في أزمنتهم وأمكنتهم، وتفاوت في ثقافتهم ومعرفتهم، وتعدد في نحلهم وأديانهم.
وأمثلته كثيرة منها: صدور العقلاء جميعا عن الأخذ بظواهر الكلام، وعدم التقيد بالنصوص القطعية منه، على نحو يحمل بعضهم بعضا لوازم ظاهر كلامه، ويحتج به عليه: ومنها: صدور العقلاء جميعا عن الرجوع الى أهل الخبرة - فيما يجهلونه من شؤونهم الحياتية وغيرها - فالمريض يرجع الى الطبيب؛ والجاهل يرجع الى العالم، وهكذا...
وحجية مثل هذا البناء انما تتم اذا تم كشفه عن مشاركة المعصوم لهم في هذا الصدور فيما تمكن فيه المشاركة، أو اقراره لهم على ذلك فيما لم تمكن فيه.
وسر احتياجنا الى الكشف عن مشاركة المعصوم، أو اقراره ولو من طريق عدم الردع فيما يمكنه الردع عنه مع اطلاعه عليه، أن هذا البناء ليس من الحجج القطعية في مقام كشفه عن الواقع، لجواز تخطئة الشارع لهم في هذا السلوك.
والفرق بينه وبين حكم العقل، أن حكم العقل فيما يمكنه الحكم فيه وليد اطلاع على المصلحة أو المفسدة الواقعية، كما يأتي بيانه، وهذا البناء لايشترط فيه ذلك لكونهم يصدرون عنه، - كما قلنا - صدورا تلقائيا غير معلل، فهو لايكشف عن واقع متعلقه من حيث الصلاح والفساد، ولعل قسما كبيرا من الظواهر الاجتماعية منشؤه هذا النوع من البناء.
ومع عدم كشفه عن الواقع فهو لايصلح للاحتجاج به على المولى لكونه غير ملزم له، ومع اقراره أو عدم ردعه أو صدوره هو عنه يقطع الانسان بصحة الاحتجاج به عليه.
وسيأتي مزيد حديث عنه بما أسموه (بالعرف) واعتبروه من الأدلة المستقلة مع رجوع قسم كبير منه الى حجية هذا البناء.
(٥) سيرة المتشرعة:
وهي صدور فئة من الناس ينتظمها دين معين أو مذهب معين عن عمل ما أو تركه، فهي من نوع بناء العقلاء مع تضييق في نوع من يصدر عنهم ذلك البناء، وحجية مثل هذه السيرة انما تكون بعد اثبات امتدادها تأريخيا الى زمن المعصوم واثبات مشاركته لهم في السلوك فيما يمكن صدوره منه أو اقرارها من قبله، ولو من قبيل عدم ردعه عنها مع امكان الردع والاطلاع عليها فيما لم يمكن صدورها منه.
ومع عدم اثبات ذلك لامجال للتمسك بها بحال، وما أكثر السير المنقطعة من وجهة تأريخية لكونها حادثة، أو لايمكن اثبات امتدادها لذلك الزمن.
والمقياس في حجيتها كشفها عن فعل المعصوم أو اقراره كشفا قطعيا ليصح الاحتجاج بها.
وبهذا ندرك قيمة ما يحتج به أحيانا من ادعاءقيام السيرة القطعية على فعل شيء أو تركه مع عدم امكان اثبات امتدادها تأريخيا الى زمن المعصوم، وقد يكون منشؤها فتوى سائدة يمر عليها جيل أو جيلان، تتخذ طابع السيرة لدى الناس.
وكثير من الأعراف والعادات التي تشيع في بلد ما، أو بيئة معينة حسابها نفس هذا الحساب، وان أصبح لها في نفوس العوام طابع الشعار المقدس.
وسيأتي في مبحث العرف ان قسما من الفتاوى التي سادت في بعض المذاهب لا منشأ لها الا هذا العرف المستحدث، وهو مالايصلح ان يكون حجة.
وربما عرضنا في مبحث العرف جملة من أقوال العلماى بما يكشف عن التقاء في وجهات النظر في مناشئ اعتبار الحجية لها وعدمها.
وعلى أي حال فما كشف عن السنة منها قولا او فعلا او اقرارا، كان حجية، والا فلا دليل على حجيته قطعا لما سبق ان قلنا في التمهيد الثاني من أن كل حجة لاتنهي الى القطع فهي ليست بحجة، وان الشك في حجية شيء ما كاف للقطع بعدمها.
(٦) ارتكاز المتشرعة:
وقد شاع استعمال هذا الاصطلاح على السنة عند بعض أساتذتنا المتأخرين، والظاهر انهم يريدون به بالاضافة الى توفر السيرة على الفعل او الترك، بالنسبة الى شيء ما، شعور معمق بنوع الحكم الذي يصدر عن فعله او تركه المتشرعون لايعلم مصدره على التحقيق.
الفارق بينه وبين سيرة العقلاء او المتشرعة:
ان سيرة العقلاء او المتشرعة بحكم كونها فعلا او تركا لا لسان لها، فهي مجملة من حيث تعيين نوع الحكم، وان دلت على جوازه بالمعنى العام عند الفعل او عدم وجوبه عند الترك، لكن ارتكاز المتشرعة يعين نوعه من وجوب او حرمة او غيرهما.
حجيته:
وحجية مثل هذا الارتكاز لاتتم الا اذا علمنا بوجوده في زمن المعصومين واقرارهم لأصحابه عليه، ومثل هذا العلم يندر حصوله جدا، وتكوين الارتكز في نفوس الرأي العام لايحتاج من وجهة نفسية الى أكثر من امرار فتوى ما في جيلين او ثلاث على الحرمة مثلا، ليصبح ارتكازا في نفوس العاملين عليها.
الطرق غير القطعيّة
خبر الواحد
تحديده، أدلة حجيته: الكتاب، السنة، الاجماع، العقل، أدلة المانعين ومناقشتها، شرائط العمل به، تقسيمات.
الشهرة
تحديدها، أقسامها: الشهرة في الرواية، الشهرة في الاستناد، الشهرة في الفتوى ، أدلة حجيتها: الكتاب، السنة، القياس، ومناقشتها.
مطلق الظن في السنة
تحديده، أدلة حجيته ومناقشتها.
الطرق غير القطعية:
ونريد بها خصوص ما كان له قابلية الكشف عن السنة كشفا ناقصا، وهي على قسمين:
١ - ما قام على اعتباره دليلا قطعيا.
٢ - ما لم يقم على اعتباره دليلا.
ويكاد ينحصر الأول منهما باخبار الآحاد على تفصيل فيها.
(١) خبر الواحد:
وقد عرفوه بتعريفات متعددة ترجع في جوهرها الى ما يقابل الخبر المتواتر والخبر المحفوف بقرائن توجب القطع واحدا كان أو أكثر.
الاختلاف في حجيته:
وقد اختلفوا في حجيته على أقوال لاتكاد تلتقي، فمنهم من منع العمل به مطلقا، ومنهم من أجازه(١) .
والمانعون يختلفون في سبب المنع فمنهم من يعزوه الى حكم العقل، وينسب ذلك الى ابن علية والأصم، ومنهم من ينسبه الى الشرع كالقاشاني من أهل الظاهر(٢) .
والمجوزون مختلفون بدورهم أيضا فمنهم من يستند في حجيته الى حكم العقل، وينسب ذلك الى أحمد بن حنبل وابن شريح وأبو الحسن البصري والصيرفي من الشافعية(٣) ؛ وزاد احمد بن حنبل: «ان خبر الواحد يفيد
____________________
(١ - ٢ - ٣) ارشاد الفحول، ص٤٩.
بنفسه العلم، وحكاه ابن حزم في كتاب الأحكام عن داود الظاهري والحسين ابن علي الكرابيسي والحارثي المحاسبي، قال: وبه نقول؛ وحكاه ابن خواز منداد عن مالك بن انس، واختاره وأطال في تقريره(١) ».
وأكثر علماء الاسلام على حجيته على اختلاف بينهم في شروط الحجية ومناشئها.
ويعرف الوجه في حجيته وعدمها من عرض أدلتها اثباتا ونفيا، فلا حاجة الى الدخول في تفصيل الأقوال فيها ومناقشتها بجميع ما لها من خصوصيات.
أدلة المثبتين:
وقد استدل المثبتون - على اختلاف أدلتهم - بعد ضم بعضها الى بعض بالأدلة الأربعة: الكتاب، السنة، الاجماع، حكم العقل.
وأهم أدلتهم من الكتاب آيتان:
أولاهما قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (٢) ) .
والظاهر من الآية بقرينة مورد نزولها أنها واردة مورد الردع عن بناء عقلائي قائم اذ ذاك، وهو الاعتماد على خبر الواحد وان كان غير مؤتمن على النقل.
وقد صبت الآية ردعها على خصوص الفاسق - بما أنه غير مؤتمن على طبيعة ما ينقله بقرينة تعليقها اتلتبيين على نبئه بالخصوص.
وتخصيص التبين بخبر الفاسق، يكشف بمفهوم الشرط عن اقرارهم على الأخذ بخبر غيره.
____________________
(١) ارشاد الفحول ، ص٤٨.
(٢) الحجرات/٦.
وليست القضية هنا واردة لبيان الموضوع - ما قد يتخيل ذلك - لكون الجزاء معلقا على المجيء، وانتفاء التبيين لانتفائه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع وهي لاتدل على المفهوم.
وذلك لأن الموضوع في القضية الشرطيةاذا كان مؤلفا من جزءين «أحدهما مما يتوقف عليه الجزاء عقلا دون الآخر، كما اذا قيل: ان ركب الأمير، وكان ركوبه يوم الجمعة، فخذ بركابه، فان توقف الجزاء على أصل الركوب عقلي، وعلى كونه في يوم الجمعة شرعي مولوي، ففي ذلك يثبت لها المفهوم بالاضافة الى خصوص الجزء الذي لايتوقف عليه تحقق الجزاء عقلا ولا يكون لها مفهوم بالاضافة الى الجزء الآخر(١) ».
والموضوع الذي ركز عليه التبين هنا، كان مركبا من النبأ ومجيء الفاسق به، فاذا انتفى مجيء الفاسق به، انتفى لزوم التبين عنه؛ فكأنه قال النبأ الذي لايجيء به الفاسق لايجب التبين عنه، وهو معنى حجية النبأ الذي يجيء به غير الفاسق؛ والظاهر ان انطواء الآية على تخصيص الردع بقسم من الأخبار التي قام بناؤها على الأخذ بها مطلقا واقرار الباقي مما لاينبغي ان يكون موضعا لكلام، وظهورها في ذلك لاتزعزعه كثرة ما أورد عليها من اشكالات قد يخضع أكثرها لفلسفة لغوية، ولكنه لايقوى مهما كانت قيمته على زلزلة ما لها من ظهور عرفي وهو الاساس في الحجية، وبخاصة اذا لاحظنا اسلوب عرضها للفكرة وألقينا عليها الأضواء من أسباب النزول.
ولكن الآية في ظاهرها واردة لاقرار بناء عقلائي قام ورادعة عن قسم منه، وهو الأخذ بأخبار الفاسق - بما أنه غير مؤتمن على خبره كما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع، ويقتضيه التعليل - هي من مكملات
____________________
(١) دراسات الاستاذ المحقق الخوئي، ص٩٧.
الدليل القادم، أعني بناء العقلاء.
الآية الثانية وهي قوله تعالى :( وَ مَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١) ) .
والذي يبدو لي من صدر الآية أن شبهة عرضت لبعض من هم خارج المدينة من المسلمين في أن لزوم التفقه المباشر من النبيصلىاللهعليهوآله انما هو من قبيل الواجبات العينية التي لايسقطها قيام البعض بها عنهم، ففكروا بالنفر جميعا الى المدينة ليأخذوا الأحكام عنه مباشرة، فنزلت هذه الآية لتفهمهم بأن هذا النوع من النفر الجماعي لاضرورة له، وليس هو مما ينبغي ان يكون لما ينطوي عليه من شل لحركتهم الاجتماعية وتعطيل لأعمالهم، فاكتفى الشارع بمجيء طائفة من كل فرقة منهم للتفقه في الدين والقيام بهمة تعليمهم اذا رجعوا اليهم.
والظاهر من أمثال هذه الآيات التي يقع فيها تقابل الجمع بالجمع انها واردة على نحو الجموع الانحلالية لا المجموعية، بمعنى أن كل واحد من هذه الطائفة مسؤول عن تعليم بعض المكلفين لا ان المجموع مسؤولون عن تعليم المجموع، ونظيره في تعبيراتنا المتعارفة ما لو أصدرت وزارة التعليم مثلا بيانا الى المعلمين في الدولة في ان يكافحوا الأمية بتعليم المواطنين الأميين؛ فليس معنى ذلك ان يجتمع المعلمون جميعا ليعلموا دفعة واحدة مجموع الأميين، بل معناه أن على كل واحد ان يجند نفسه لتعليم غيره فردا كان او أكثر.
والعمومات المجموعية نادرة فلايصار اليها الا بدليل.
والذي أتصوره أن الطريقة السائدة في عصورنا من الهجرة الى مراكز
____________________
(١) التوبة/١٢٢.
التفقه كالنجف الاشرف، وقم، والقاهرة من بعض من يسكنون بعيدا عنها، ثم العودة الى بلادهم ليعلموا اخوانهم أحكام دينهم هي نفس الطريقة التي دأبوا عليها في عصر النبيصلىاللهعليهوآله ودعت اليها الآية.
وليس في هذه الطريقة اجتماع المبلغين والمرشدين في مقام الأداء ليكوّنوا لمستمعيهم مقدار ما يتحقق به التواتر، بل يكتفون بالواحد الموثوق به منهم، فالآية على هذا واردة في مقام جعل الحجة لأخبار آحاد الطائفة، وان شئت ان تقول انها واردة لامضاء بناء عقلائي في ذلك كسابقتها.
واذا صحت هذه الاستفادة لم تبق حاجة بعد الى استعراض ما يراد من كلمة (لعل) في الآية، أو كلمة (الحذر) فيها، لعدم توقف دلالة الآية عليها، ويكفي في الالزام بالرجوع اليهم لأخذ الأحكام تشريع ذلك، وان كان بلسان الترخيص ومن لوازم الترخيص في مثله جعل الحجية لما يحدثون به فلايسوغ تجاهلها مع قيامها بداهة.
واحتمال ان يراد بالطائفة ما يبلغ به حد التواتر على أن يجتمع الكل لتبليغ كل واحد منهم احتمال يأباه ظاهر الآية، وكيفية الاستفادة من نظائرها كما يأباه الواقع العملي لما درج عليه المبلغون في جميع العهود بما فيها عهد الرسولصلىاللهعليهوآله على أن لفظ طائفة أوسع منه فتضييقها الى ما يخصه بالخصوص لا ملجأ له ولاشاهد عليه.
وبهذا يتضح واقع ما أثاره الآمدي وغيره من التشكيكات حول دلالة الآية على حجية خبر الواحد(١) ، فلاحاجة الى الدخول في تفصيلاته.
____________________
(١) اقرأ ما كتبه الآمدي، ج١ ص١٧١ من الأحكام وما ورد في الكفاية وشروحها ورسائل الشيخ حول هذه التشكيكات.
أدلتهم من السنة:
وقد استغرقت أدلتهم من السنة جوانبها الثلاث قولا وفعلا وتقريرا.
السنة القولية:
أما السنة القولية فهناك طاوئف من الراويات عن أهل البيت اذا لوحظت مجتمعة فهي متواترة المضمون.
أولاها : ما ورد عنهمعليهالسلام من ارجاعهم بعض أصحابهم الى البعض كارجاعهعليهالسلام الى زرارة بقوله: «اذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس وأشار الى زرارة» وقولهصلىاللهعليهوآله «العمري ثقة، فما أدى اليك، فعني يؤدي» وكثير من أمثالها.
ثانيها : ما دل على وجوب الرجوع الى الرواة كخبر الاحتجاج: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فانهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم».
ثالثها : ما ورد عنهمعليهالسلام من الحث على كتابة الحديث وابلاغه كقولهصلىاللهعليهوآله : «من حفظ على أمتي أربعين حديثا، بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة» وقولهعليهالسلام لأحد الرواة: «واكتب وبثّ علمك في بني عمك، فانه يأتي زمان هرج لايأنسون الا بكتبهم».
رابعها : ما دل على ذم الكذب عليهم والتحذير من الكذابين، مثل الحديث المتواتر عن النبيصلىاللهعليهوآله : «من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار» مما يدل على المفروغية عن حجية خبر الآحاد، اذ لو كانوا مقتصرين في مجال الحجية على خصوص الخبر المتواتر لما كان مجال للكذب عليهم، ولما كان أثر لأولئك الكذابين يخشى منه.
خامسها : الأخبار الواردة في باب التعارض من الأخذ بالمرجحات
كالأعدلية، والأصدقية، والشهرة، والقول بالتخيير عند التساوي؛ ومع فرض عدم حجية خبر الآحاد لايتصور فرض التعارض في أخبار المعصومين.
سادسها : الأخبار الواردة في تسويغ الرجوع الى كتب الشلمغاني وبني فضال والأخذ بروايتها وترك آرائهم(١) .
ومن استعراض جميع هذه الطوائف نرى أن الحجية مجعولة فيها لخبر الثقة بما أنه ثقة، وليس لنحلته او مذهبه أثر في الأخذ بحديثه او تركه كما هو الشأن في كتب بني فضال والشلمغاني، وهم من غير الشيعة الامامية، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضيه لذلك فلاخصوصية للعدالة أو غيرها من الشروط.
السنة العملية:
وحسبنا منها «ماتواتر من انفاذ رسول اللهصلىاللهعليهوآله أمراءه وقضاته ورسله وسعاته الى الاطراف، وهم آحاد، ولايرسلهم الا لقبض الصدقات، وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع(٢) ». وشواهده أكثر من ان تحصى ، فلو كان خبر الثقة ليس بحجة لما كان معنى لهذاالارسال الملازم لتكليف المسلمين بالأخذ عنهم والزامهم بذلك، وبدعوى أن أحاديث أمثال هؤلاء مما يكتنفها من القرائن ما يوجب القطع بمطابقتها للواقع، لاتعمتد على دليل، لأن رسله ليسوا كلهم هذا المستوى ، ولا الأحاديث التي يحدثون بها كذلك.
____________________
(١) تلاحظ هذه الأحاديث - بمختلف طوائفها - ولعلها تبلغ العشرات في الوسائل - كتاب القضاء - وفي رسائل الشيخ في مبحث حجية خبر الواحد.
(٢) المستصفى ، ج١ ص٩٦.