السنة في الشريعة الاسلامية
0%
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 142
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف:
المشاهدات: 15121
تحميل: 5358
توضيحات:
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 142
مؤلف: محمد تقي الحكيم
تصنيف:
(٤) موقع السنة من الكتاب. ولكل منها أقسام وفيها بحوث.
تقسيم الطرق الى السنة:
والذي ينبغي أن يقال جريا على ما أصلناه في مباحث الحجة أن الطرق التي لها أهلية الايصال اليها ذات قسمين:
١ - قطعية.
٢ - وغير قطعية.
ولكل منها أقسام لابد من استقراء المهم منها والتماس أدلته، وحججه، وفحصها وتقييمها على أساس مقارن.
الطرق القطعية:
وقد ذكروا لها أقساما أهمها ستة.
١ - الخبر المتواتر.
٢ - الخبر المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره.
٣ - الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم.
٤ - بناء العقلاء الكاشف عن رأي المعصوم فيه.
٥ - سيرة المتشرعة الكاشفة عن رأي المعصوم فيها.
٦ - ارتكاز المتشرعة
(١) الخبر المتواتر:
ويراد به اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وصدورهم جميعا عن خطأ أو اشتباه أو خداع حواس، على ان يجري هذا المستوى في الاخبار
في جميع طبقات الرواة، حتى الطبقة التي تنقل عن المعصوم مباشرة.
فلو تأخر التعدد في طبقة ما، أو فقد أحد تلكم الشروط، خرج عن كونه متواترا الى أخبار الآحاد، لأن النتائج - كما يقول علماء الميزان -: تتبع دائما أخس المقدمات.
ومثل هذا الخبر - أعني المتواتر - مما يوجب علما بصدور مضمونه؛ والعلم - كما سبق بيانه-: حجة ذاتية لاتقبل الوضع والرفع.
شروطه:
وقد جعلوا له شروطا اختلفوا في تعددها، ويمكن انتزاعها جميعا من نفس التعريف: يقول المقدسي: «وللتواتر ثلاثة شروط»:
«الأول: أن يخبروا عن علم ضروري مستند الى محسوس، اذ لو أخبرنا الجم الغفير عن حدوث العالم وعن صدق الأنبياء، لم يحصل لنا العلم بخبرهم».
«الثاني: أن يستوي طرف الخبر وسطه في هذه الصفة وفي كمال العدد، لأن كل عصر يستقل بنفسه فلابد من وجود الشروط فيه، ولأجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسىعليهالسلام تكذيب كل ناسخ لشريعته».
«الشرط الثالث: في العدد الذي يحصل به التواتر واختلف الناس فيه، فمنهم من قال: يحصل باثنين، ومنهم من قال: يحصل بأربعة، وقال قوم: بخمسة، وقال قوم: بعشرين، وقال آخرون: بسبعين، وقيل: غير ذلك».
«والصحيح أنه ليس له عدد محصور(١) ».
ويقول زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني في درايته وهو يعرفه
____________________
(١) روضة الناظر، ص٥٠.
ويشير الى شروطه:«هو ما بلغت رواته في الكثرة مبلغا أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، واستمر ذلك الوصف في جميع الطبقات حيث تتعدد، فيكون أوله كآخره، ووسطه كطرفيه، ولا ينحصر ذلك بعدد خاص(١) ».
ومثلهما غيرهما من أعلام الشيعة والسنة على غموض في أداء بعضهم ربما أو هم خلاف ذلك.
على أن هذه التحديدات، ليست بذات ثمرة الا في حدود تشخيص المصطلح للخبر المتواتر وتحديد مفهومه، وكل ما كتب في هذا الشأن، فانما هو لتشخيص صغريات ما يقع به العلم عادة، وهذه الشرائط وأشباهها من موجبات ما يحصل بها التشخيص، والا فان المدار على العلم فان حصل منها فهو الحجة، وان لم يحصل احتجنا الى التماس دليل على الحجية، وليس في هذه الشرائط ما يشير اليه.
وأمثلة المتواتر كثيرة، وقد عدوا منها كل ما يتصل بضروريات الدين، كالفرائض اليومية وأعدادها وأعداد ركعاتها، وصوم شهر رمضان، وكالذي مر في حديث الثقلين، والغدير، وأشباههما.
واعتبروا منها قولهعليهالسلام : «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار(٢) ».
(٢) الخبر المحفوف بالقرائن القطعية:
ويراد به الخبر غير المتواتر، سواء كان مشهورا أم غير مشهور،
____________________
(١) الدراية، ص١٢، مطبعة النعمان، النجف.
(٢) سلم الوصول، ص٢٥٥.
على ان يحتف بقرائن توجب القطع بصدوره عن المعصوم.
والمدار في حجية هذا النوع من الاخبار هو حصول العلم منه كالخبر المتواتر، والعلم بنفسه - كما سبق بيانه - حجة ذاتية، فلانحتاج بعده الى التماس أدلة على الحجية.
(٣) الاجماع:
والبحث في الاجماع له استقلاله، وليس موضعه هنا نظرا لاعتباره لدى الأكثر مصدرا مستقلا من مصادر التشريع في مقابل الكتاب والسنة.
نعم في بعض المباني وبخاصة لدى الأكثر من علماء الشيعة هو كشفه عن رأي المعصوم على نحو القطع، فيكون من حقه على هذا المبنى ان يبحث عنه في هذا الموضع، ولايعتبر من الأدلة المستقلة.
وقد آثرنا تأخير البحث عنه الى موضعه جريا على ماسلكه الأكثر في عده من مصادر التشريع.
(٤) بناء العقلاء :
ويراد به صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة ما صدورا تلقائيا، ويتساوون في صدورهم عن هذا السلوك على اختلاف في أزمنتهم وأمكنتهم، وتفاوت في ثقافتهم ومعرفتهم، وتعدد في نحلهم وأديانهم.
وأمثلته كثيرة منها: صدور العقلاء جميعا عن الأخذ بظواهر الكلام، وعدم التقيد بالنصوص القطعية منه، على نحو يحمل بعضهم بعضا لوازم ظاهر كلامه، ويحتج به عليه: ومنها: صدور العقلاء جميعا عن الرجوع الى أهل الخبرة - فيما يجهلونه من شؤونهم الحياتية وغيرها - فالمريض يرجع الى الطبيب؛ والجاهل يرجع الى العالم، وهكذا...
وحجية مثل هذا البناء انما تتم اذا تم كشفه عن مشاركة المعصوم لهم في هذا الصدور فيما تمكن فيه المشاركة، أو اقراره لهم على ذلك فيما لم تمكن فيه.
وسر احتياجنا الى الكشف عن مشاركة المعصوم، أو اقراره ولو من طريق عدم الردع فيما يمكنه الردع عنه مع اطلاعه عليه، أن هذا البناء ليس من الحجج القطعية في مقام كشفه عن الواقع، لجواز تخطئة الشارع لهم في هذا السلوك.
والفرق بينه وبين حكم العقل، أن حكم العقل فيما يمكنه الحكم فيه وليد اطلاع على المصلحة أو المفسدة الواقعية، كما يأتي بيانه، وهذا البناء لايشترط فيه ذلك لكونهم يصدرون عنه، - كما قلنا - صدورا تلقائيا غير معلل، فهو لايكشف عن واقع متعلقه من حيث الصلاح والفساد، ولعل قسما كبيرا من الظواهر الاجتماعية منشؤه هذا النوع من البناء.
ومع عدم كشفه عن الواقع فهو لايصلح للاحتجاج به على المولى لكونه غير ملزم له، ومع اقراره أو عدم ردعه أو صدوره هو عنه يقطع الانسان بصحة الاحتجاج به عليه.
وسيأتي مزيد حديث عنه بما أسموه (بالعرف) واعتبروه من الأدلة المستقلة مع رجوع قسم كبير منه الى حجية هذا البناء.
(٥) سيرة المتشرعة:
وهي صدور فئة من الناس ينتظمها دين معين أو مذهب معين عن عمل ما أو تركه، فهي من نوع بناء العقلاء مع تضييق في نوع من يصدر عنهم ذلك البناء، وحجية مثل هذه السيرة انما تكون بعد اثبات امتدادها تأريخيا الى زمن المعصوم واثبات مشاركته لهم في السلوك فيما يمكن صدوره منه أو اقرارها من قبله، ولو من قبيل عدم ردعه عنها مع امكان الردع والاطلاع عليها فيما لم يمكن صدورها منه.
ومع عدم اثبات ذلك لامجال للتمسك بها بحال، وما أكثر السير المنقطعة من وجهة تأريخية لكونها حادثة، أو لايمكن اثبات امتدادها لذلك الزمن.
والمقياس في حجيتها كشفها عن فعل المعصوم أو اقراره كشفا قطعيا ليصح الاحتجاج بها.
وبهذا ندرك قيمة ما يحتج به أحيانا من ادعاءقيام السيرة القطعية على فعل شيء أو تركه مع عدم امكان اثبات امتدادها تأريخيا الى زمن المعصوم، وقد يكون منشؤها فتوى سائدة يمر عليها جيل أو جيلان، تتخذ طابع السيرة لدى الناس.
وكثير من الأعراف والعادات التي تشيع في بلد ما، أو بيئة معينة حسابها نفس هذا الحساب، وان أصبح لها في نفوس العوام طابع الشعار المقدس.
وسيأتي في مبحث العرف ان قسما من الفتاوى التي سادت في بعض المذاهب لا منشأ لها الا هذا العرف المستحدث، وهو مالايصلح ان يكون حجة.
وربما عرضنا في مبحث العرف جملة من أقوال العلماى بما يكشف عن التقاء في وجهات النظر في مناشئ اعتبار الحجية لها وعدمها.
وعلى أي حال فما كشف عن السنة منها قولا او فعلا او اقرارا، كان حجية، والا فلا دليل على حجيته قطعا لما سبق ان قلنا في التمهيد الثاني من أن كل حجة لاتنهي الى القطع فهي ليست بحجة، وان الشك في حجية شيء ما كاف للقطع بعدمها.
(٦) ارتكاز المتشرعة:
وقد شاع استعمال هذا الاصطلاح على السنة عند بعض أساتذتنا المتأخرين، والظاهر انهم يريدون به بالاضافة الى توفر السيرة على الفعل او الترك، بالنسبة الى شيء ما، شعور معمق بنوع الحكم الذي يصدر عن فعله او تركه المتشرعون لايعلم مصدره على التحقيق.
الفارق بينه وبين سيرة العقلاء او المتشرعة:
ان سيرة العقلاء او المتشرعة بحكم كونها فعلا او تركا لا لسان لها، فهي مجملة من حيث تعيين نوع الحكم، وان دلت على جوازه بالمعنى العام عند الفعل او عدم وجوبه عند الترك، لكن ارتكاز المتشرعة يعين نوعه من وجوب او حرمة او غيرهما.
حجيته:
وحجية مثل هذا الارتكاز لاتتم الا اذا علمنا بوجوده في زمن المعصومين واقرارهم لأصحابه عليه، ومثل هذا العلم يندر حصوله جدا، وتكوين الارتكز في نفوس الرأي العام لايحتاج من وجهة نفسية الى أكثر من امرار فتوى ما في جيلين او ثلاث على الحرمة مثلا، ليصبح ارتكازا في نفوس العاملين عليها.
الطرق غير القطعيّة
خبر الواحد
تحديده، أدلة حجيته: الكتاب، السنة، الاجماع، العقل، أدلة المانعين ومناقشتها، شرائط العمل به، تقسيمات.
الشهرة
تحديدها، أقسامها: الشهرة في الرواية، الشهرة في الاستناد، الشهرة في الفتوى ، أدلة حجيتها: الكتاب، السنة، القياس، ومناقشتها.
مطلق الظن في السنة
تحديده، أدلة حجيته ومناقشتها.
الطرق غير القطعية:
ونريد بها خصوص ما كان له قابلية الكشف عن السنة كشفا ناقصا، وهي على قسمين:
١ - ما قام على اعتباره دليلا قطعيا.
٢ - ما لم يقم على اعتباره دليلا.
ويكاد ينحصر الأول منهما باخبار الآحاد على تفصيل فيها.
(١) خبر الواحد:
وقد عرفوه بتعريفات متعددة ترجع في جوهرها الى ما يقابل الخبر المتواتر والخبر المحفوف بقرائن توجب القطع واحدا كان أو أكثر.
الاختلاف في حجيته:
وقد اختلفوا في حجيته على أقوال لاتكاد تلتقي، فمنهم من منع العمل به مطلقا، ومنهم من أجازه(١) .
والمانعون يختلفون في سبب المنع فمنهم من يعزوه الى حكم العقل، وينسب ذلك الى ابن علية والأصم، ومنهم من ينسبه الى الشرع كالقاشاني من أهل الظاهر(٢) .
والمجوزون مختلفون بدورهم أيضا فمنهم من يستند في حجيته الى حكم العقل، وينسب ذلك الى أحمد بن حنبل وابن شريح وأبو الحسن البصري والصيرفي من الشافعية(٣) ؛ وزاد احمد بن حنبل: «ان خبر الواحد يفيد
____________________
(١ - ٢ - ٣) ارشاد الفحول، ص٤٩.
بنفسه العلم، وحكاه ابن حزم في كتاب الأحكام عن داود الظاهري والحسين ابن علي الكرابيسي والحارثي المحاسبي، قال: وبه نقول؛ وحكاه ابن خواز منداد عن مالك بن انس، واختاره وأطال في تقريره(١) ».
وأكثر علماء الاسلام على حجيته على اختلاف بينهم في شروط الحجية ومناشئها.
ويعرف الوجه في حجيته وعدمها من عرض أدلتها اثباتا ونفيا، فلا حاجة الى الدخول في تفصيل الأقوال فيها ومناقشتها بجميع ما لها من خصوصيات.
أدلة المثبتين:
وقد استدل المثبتون - على اختلاف أدلتهم - بعد ضم بعضها الى بعض بالأدلة الأربعة: الكتاب، السنة، الاجماع، حكم العقل.
وأهم أدلتهم من الكتاب آيتان:
أولاهما قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (٢) ) .
والظاهر من الآية بقرينة مورد نزولها أنها واردة مورد الردع عن بناء عقلائي قائم اذ ذاك، وهو الاعتماد على خبر الواحد وان كان غير مؤتمن على النقل.
وقد صبت الآية ردعها على خصوص الفاسق - بما أنه غير مؤتمن على طبيعة ما ينقله بقرينة تعليقها اتلتبيين على نبئه بالخصوص.
وتخصيص التبين بخبر الفاسق، يكشف بمفهوم الشرط عن اقرارهم على الأخذ بخبر غيره.
____________________
(١) ارشاد الفحول ، ص٤٨.
(٢) الحجرات/٦.
وليست القضية هنا واردة لبيان الموضوع - ما قد يتخيل ذلك - لكون الجزاء معلقا على المجيء، وانتفاء التبيين لانتفائه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع وهي لاتدل على المفهوم.
وذلك لأن الموضوع في القضية الشرطيةاذا كان مؤلفا من جزءين «أحدهما مما يتوقف عليه الجزاء عقلا دون الآخر، كما اذا قيل: ان ركب الأمير، وكان ركوبه يوم الجمعة، فخذ بركابه، فان توقف الجزاء على أصل الركوب عقلي، وعلى كونه في يوم الجمعة شرعي مولوي، ففي ذلك يثبت لها المفهوم بالاضافة الى خصوص الجزء الذي لايتوقف عليه تحقق الجزاء عقلا ولا يكون لها مفهوم بالاضافة الى الجزء الآخر(١) ».
والموضوع الذي ركز عليه التبين هنا، كان مركبا من النبأ ومجيء الفاسق به، فاذا انتفى مجيء الفاسق به، انتفى لزوم التبين عنه؛ فكأنه قال النبأ الذي لايجيء به الفاسق لايجب التبين عنه، وهو معنى حجية النبأ الذي يجيء به غير الفاسق؛ والظاهر ان انطواء الآية على تخصيص الردع بقسم من الأخبار التي قام بناؤها على الأخذ بها مطلقا واقرار الباقي مما لاينبغي ان يكون موضعا لكلام، وظهورها في ذلك لاتزعزعه كثرة ما أورد عليها من اشكالات قد يخضع أكثرها لفلسفة لغوية، ولكنه لايقوى مهما كانت قيمته على زلزلة ما لها من ظهور عرفي وهو الاساس في الحجية، وبخاصة اذا لاحظنا اسلوب عرضها للفكرة وألقينا عليها الأضواء من أسباب النزول.
ولكن الآية في ظاهرها واردة لاقرار بناء عقلائي قام ورادعة عن قسم منه، وهو الأخذ بأخبار الفاسق - بما أنه غير مؤتمن على خبره كما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع، ويقتضيه التعليل - هي من مكملات
____________________
(١) دراسات الاستاذ المحقق الخوئي، ص٩٧.
الدليل القادم، أعني بناء العقلاء.
الآية الثانية وهي قوله تعالى :( وَ مَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لاَ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١) ) .
والذي يبدو لي من صدر الآية أن شبهة عرضت لبعض من هم خارج المدينة من المسلمين في أن لزوم التفقه المباشر من النبيصلىاللهعليهوآله انما هو من قبيل الواجبات العينية التي لايسقطها قيام البعض بها عنهم، ففكروا بالنفر جميعا الى المدينة ليأخذوا الأحكام عنه مباشرة، فنزلت هذه الآية لتفهمهم بأن هذا النوع من النفر الجماعي لاضرورة له، وليس هو مما ينبغي ان يكون لما ينطوي عليه من شل لحركتهم الاجتماعية وتعطيل لأعمالهم، فاكتفى الشارع بمجيء طائفة من كل فرقة منهم للتفقه في الدين والقيام بهمة تعليمهم اذا رجعوا اليهم.
والظاهر من أمثال هذه الآيات التي يقع فيها تقابل الجمع بالجمع انها واردة على نحو الجموع الانحلالية لا المجموعية، بمعنى أن كل واحد من هذه الطائفة مسؤول عن تعليم بعض المكلفين لا ان المجموع مسؤولون عن تعليم المجموع، ونظيره في تعبيراتنا المتعارفة ما لو أصدرت وزارة التعليم مثلا بيانا الى المعلمين في الدولة في ان يكافحوا الأمية بتعليم المواطنين الأميين؛ فليس معنى ذلك ان يجتمع المعلمون جميعا ليعلموا دفعة واحدة مجموع الأميين، بل معناه أن على كل واحد ان يجند نفسه لتعليم غيره فردا كان او أكثر.
والعمومات المجموعية نادرة فلايصار اليها الا بدليل.
والذي أتصوره أن الطريقة السائدة في عصورنا من الهجرة الى مراكز
____________________
(١) التوبة/١٢٢.
التفقه كالنجف الاشرف، وقم، والقاهرة من بعض من يسكنون بعيدا عنها، ثم العودة الى بلادهم ليعلموا اخوانهم أحكام دينهم هي نفس الطريقة التي دأبوا عليها في عصر النبيصلىاللهعليهوآله ودعت اليها الآية.
وليس في هذه الطريقة اجتماع المبلغين والمرشدين في مقام الأداء ليكوّنوا لمستمعيهم مقدار ما يتحقق به التواتر، بل يكتفون بالواحد الموثوق به منهم، فالآية على هذا واردة في مقام جعل الحجة لأخبار آحاد الطائفة، وان شئت ان تقول انها واردة لامضاء بناء عقلائي في ذلك كسابقتها.
واذا صحت هذه الاستفادة لم تبق حاجة بعد الى استعراض ما يراد من كلمة (لعل) في الآية، أو كلمة (الحذر) فيها، لعدم توقف دلالة الآية عليها، ويكفي في الالزام بالرجوع اليهم لأخذ الأحكام تشريع ذلك، وان كان بلسان الترخيص ومن لوازم الترخيص في مثله جعل الحجية لما يحدثون به فلايسوغ تجاهلها مع قيامها بداهة.
واحتمال ان يراد بالطائفة ما يبلغ به حد التواتر على أن يجتمع الكل لتبليغ كل واحد منهم احتمال يأباه ظاهر الآية، وكيفية الاستفادة من نظائرها كما يأباه الواقع العملي لما درج عليه المبلغون في جميع العهود بما فيها عهد الرسولصلىاللهعليهوآله على أن لفظ طائفة أوسع منه فتضييقها الى ما يخصه بالخصوص لا ملجأ له ولاشاهد عليه.
وبهذا يتضح واقع ما أثاره الآمدي وغيره من التشكيكات حول دلالة الآية على حجية خبر الواحد(١) ، فلاحاجة الى الدخول في تفصيلاته.
____________________
(١) اقرأ ما كتبه الآمدي، ج١ ص١٧١ من الأحكام وما ورد في الكفاية وشروحها ورسائل الشيخ حول هذه التشكيكات.
أدلتهم من السنة:
وقد استغرقت أدلتهم من السنة جوانبها الثلاث قولا وفعلا وتقريرا.
السنة القولية:
أما السنة القولية فهناك طاوئف من الراويات عن أهل البيت اذا لوحظت مجتمعة فهي متواترة المضمون.
أولاها : ما ورد عنهمعليهالسلام من ارجاعهم بعض أصحابهم الى البعض كارجاعهعليهالسلام الى زرارة بقوله: «اذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس وأشار الى زرارة» وقولهصلىاللهعليهوآله «العمري ثقة، فما أدى اليك، فعني يؤدي» وكثير من أمثالها.
ثانيها : ما دل على وجوب الرجوع الى الرواة كخبر الاحتجاج: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فانهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم».
ثالثها : ما ورد عنهمعليهالسلام من الحث على كتابة الحديث وابلاغه كقولهصلىاللهعليهوآله : «من حفظ على أمتي أربعين حديثا، بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة» وقولهعليهالسلام لأحد الرواة: «واكتب وبثّ علمك في بني عمك، فانه يأتي زمان هرج لايأنسون الا بكتبهم».
رابعها : ما دل على ذم الكذب عليهم والتحذير من الكذابين، مثل الحديث المتواتر عن النبيصلىاللهعليهوآله : «من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار» مما يدل على المفروغية عن حجية خبر الآحاد، اذ لو كانوا مقتصرين في مجال الحجية على خصوص الخبر المتواتر لما كان مجال للكذب عليهم، ولما كان أثر لأولئك الكذابين يخشى منه.
خامسها : الأخبار الواردة في باب التعارض من الأخذ بالمرجحات
كالأعدلية، والأصدقية، والشهرة، والقول بالتخيير عند التساوي؛ ومع فرض عدم حجية خبر الآحاد لايتصور فرض التعارض في أخبار المعصومين.
سادسها : الأخبار الواردة في تسويغ الرجوع الى كتب الشلمغاني وبني فضال والأخذ بروايتها وترك آرائهم(١) .
ومن استعراض جميع هذه الطوائف نرى أن الحجية مجعولة فيها لخبر الثقة بما أنه ثقة، وليس لنحلته او مذهبه أثر في الأخذ بحديثه او تركه كما هو الشأن في كتب بني فضال والشلمغاني، وهم من غير الشيعة الامامية، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضيه لذلك فلاخصوصية للعدالة أو غيرها من الشروط.
السنة العملية:
وحسبنا منها «ماتواتر من انفاذ رسول اللهصلىاللهعليهوآله أمراءه وقضاته ورسله وسعاته الى الاطراف، وهم آحاد، ولايرسلهم الا لقبض الصدقات، وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع(٢) ». وشواهده أكثر من ان تحصى ، فلو كان خبر الثقة ليس بحجة لما كان معنى لهذاالارسال الملازم لتكليف المسلمين بالأخذ عنهم والزامهم بذلك، وبدعوى أن أحاديث أمثال هؤلاء مما يكتنفها من القرائن ما يوجب القطع بمطابقتها للواقع، لاتعمتد على دليل، لأن رسله ليسوا كلهم هذا المستوى ، ولا الأحاديث التي يحدثون بها كذلك.
____________________
(١) تلاحظ هذه الأحاديث - بمختلف طوائفها - ولعلها تبلغ العشرات في الوسائل - كتاب القضاء - وفي رسائل الشيخ في مبحث حجية خبر الواحد.
(٢) المستصفى ، ج١ ص٩٦.