كفاية الأصول

كفاية الأصول0%

كفاية الأصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 521

كفاية الأصول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد كاظم الخراسانى
تصنيف: الصفحات: 521
المشاهدات: 52406
تحميل: 17386

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 521 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52406 / تحميل: 17386
الحجم الحجم الحجم
كفاية الأصول

كفاية الأصول

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المقصد الاول: في الاوامر

وفيه فصول:

الأول : فيما يتعلق بمادة الأمر من الجهات، وهي عديدة:

الأولى : إنه قد ذكر للفظ الأمر معانٍ متعددة، منها الطلب، كما يقال، أمره بكذا.

ومنها الشأن، كما يقال: شغله أمر كذا.

ومنها الفعل، كما في قوله تعالى:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) (١) .

ومنها الفعل العجيب، كما في قوله تعالى:( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) (٢) .

ومنها الشيء، كما تقول: رأيت اليوم أمراً عجيباً.

ومنها الحادثة، ومنها الغرض، كما تقول: جاء زيد لأمر كذا.

ولا يخفى أن عدّ بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم؛ ضرورة أن الأمر في (جاء زيد لأمر[كذا]) ما إستعمل في معنى الغرض، بل اللام قد دل على الغرض، نعم يكون مدخوله مصداقه، فافهم، وهكذا الحال في قوله

____________________

(١) هود: ٩٧.

(٢) هود: ٦٦، ٨٢.

٦١

تعالى( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) (١) يكون مصداقاً للتعجب، لا مستعملاً في مفهومه، وكذا في الحادثة والشأن.

وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول(٢) ، من كون لفظ الأمر حقيقة في المعنيين الأولين، ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء، هذا بحسب العرف واللغة.

وأما بحسب الإِصطلاح، فقد نقل(٣) الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص، ومجاز في غيره، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه الاشتقاق، فإن معناه - حينئذ - لا يكون معنى حدثياً، مع أن الاشتقاقات منه - ظاهراً - تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الآخر، فتدبر.

ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيراً عنه بما يدل عليه، نعم القول المخصوص - أي صيغة الأمر - إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الأمر، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.

وكيف كان، فالأمر سهل لو ثبت النقل، ولا مشاحة في الاصطلاح، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفاً ولغة، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة، ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز.

وما ذكر في الترجيح، عند تعارض هذه الأحوال، لو سلم، ولم يعارض بمثله، فلا دليل على الترجيح به، فلا بد مع التعارض من الرجوع إلى الأصل في مقام العمل، نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه، ولو إحتمل أنه كان للانسباق من الإِطلاق، فليحمل عليه، وإن لم يعلم أنه حقيقة فيه

____________________

(١) هود: ٦٦، ٨٢.

(٢) الفصول / ٦٢، القول في الأمر.

(٣) الفصول / ٦٢ - ٦٣، القول في الأمر.

٦٢

بالخصوص، أو فيما يعمه، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول.

الجهة الثانية : الظاهر اعتبار العلو في معنى الأمر، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمراً، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية، كما أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمراً ولو كان مستخفضاً لجناحه.

وأما إحتمال اعتبار أحدهما فضعيف، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه، وتوبيخه بمثل: إنك لِمَ تأمره، إنما هو على استعلائه، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه، وإنما يكون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه، وكيف كان، ففي صحة سلب الأمر عن طلب السافل، ولو كان مستعلياً كفاية.

الجهة الثالثة : لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب، لانسباقه عنه عند إطلاقه، ويؤيّد قوله تعالى( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (١) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : (لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) : - لبريرة بعد قولها: أتأمرني يا رسول الله؟ -: (لا، بل إنما أنا شافع) إلى غير ذلك، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرد مخالفته، كما في قوله تعالى( مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (٤) .

وتقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الأعم منه في مقام تقسيمه، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو

____________________

(١) النور: ٦٣.

(٢) غوالي اللآلي: ٢ / ٢١ الحديث ٤٣.

(٣) الكافي: ٥ / ٤٨٥، التهذيب: ٧ / ٣٤١، الخصال: ١ / ١٩٠.

(٤) الأعراف: ١٢.

٦٣

الحقيقة، كما لا يخفى، وأما ما أُفيد(١) من أن الاستعمال فيهما ثابت، فلو لم يكن موضوعاً للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز، فهو غير مفيد، لما مرت الإِشارة إليه في الجهة الأولى، وفي تعارض الأحوال(٢) ، فراجع.

والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة، وكل طاعة فهو فعل المأمور به، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى، لو أُريد من المأمور به معناه الحقيقي، وإلا لا يفيد المدعى.

الجهة الرابعة : الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الأمر، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلباً بالحمل الشائع الصناعي، بل الطلب الإِنشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلباً مطلقاً، بل طلباً إنشائياً، سواء أُنشئ بصيغة إفعل، أو بمادة الطلب، أو بمادة الأمر، أو بغيرها، ولو أبيت إلا عن كونه موضوعاً للطلب فلا أقل من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضاً، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أن الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية(٣) واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة، من المغايرة بين الطلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحق والمعتزلة، من اتحادهما، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام، وإن حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لما تكن عن المحذور خالية، والإعادة [ليست] بلا فائدة ولا إفادة، كان المناسب هو التعرض ها هنا أيضاً.

فاعلم، أن الحق كما عليه أهله - وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة - هو اتحاد الطلب والإرادة، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء

____________________

(١) أفاده العلامةرحمه‌الله نهاية الأصول / ٦٤ مخطوطة.

(٢) في الأمر الثامن من المقدمة ص ٢٠.

(٣) في «ب»: الحقيقة.

٦٤

أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائية، وبالجملة هما متحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً، لا أن الطلب الإنشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه - كما عرفت - متحد مع الإرادة الحقيقية(١) التي ينصرف إليها إطلاقها أيضاً، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس. فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، فإن الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها، يكون هو الطلب غيرها، سوى ما هو مقدمة تحققها، عند خطور الشئ والميل وهيجان الرغبة إليه، والتصديق لفائدته، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها.

وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب، فلا محيص(٢) عن إتحاد الإرادة والطلب، وأن يكون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك، مسمى بالطلب والإِرادة كما يعب به تارة وبها أخرى، كما لا يخفى. وكذا الحال في سائر الصيغ الإنشائية، والجمل الخبرية، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس، من الترجي والتمني والعلم إلى غيرذلك، صفة أخرى كانت قائمة بالنفس، وقد دل اللفظ عليها، كما قيل:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وقد انقدح بما حققناه، ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع عدم الإرادة، كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل، فإنه كما لا إرادة

____________________

(١) في «ب»: الحقيقة.

(٢) في النسختين فلا محيص إلّا، والظاهر «إلّا» هنا مقحمة في السياق.

٦٥

حقيقة في الصورتين، لا طلب كذلك فيهما، والذي يكون فيهما إنما هو الطلب الإنشائي الإيقاعي، الذي هو مدلول الصيغة أو المادة، ولم يكن بيّناً ولا مبيّناً في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الإنشائية.

وبالجملة: الذي يتكفله الدليل، ليس إلا الانفكاك بين الإرادة الحقيقية، والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما. وهو مما لا محيص عن الالتزام به، كما عرفت، ولكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلاً، لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والإنشائي، كما لا يخفي.

ثم إنه يمكن - مما حققناه - أن يقع الصلح بين الطرفين، ولم يكن نزاع في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً حقيقياً وإنشائيّاً، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الإنشائي من الطلب، كما هو كثيراً ما يراد من إطلاق لفظه، وا لحقيقي من الإرادة، كما هو المراد غالباً منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظياً، فافهم.

دفع ووهم (١) : لا يخفى أنه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة، من نفي غير الصّفات المشهورة، وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاماً نفسياً مدلولاً للكلام اللفظي، كما يقول به الأشاعرة، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام.

إن قلت: فماذا يكون مدلولاً عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟

قلت: أما الجمل الخبرية، فهي دالّة على ثبوت النسبة بين طرفيها، أو نفيها في نفس الأمر من ذهن أو خارج، كالإنسان نوع أو كاتب.

وأما الصيغ الإنشائية، فهي - على ما حققناه في بعض فوائدنا(٢) - موجدة

____________________

(١) المتوهم هو القوشجي، راجع شرح تجريد العقائد للقوشجي / ٢٤٦، عند البحث عن المسموعات.

(٢) تعليقة المصنف على الفرائد، كتاب الفرائد / ٢٨٥.

٦٦

لمعانيها في نفس الأمر، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها، وهذا نحو من الوجود، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب عليه شرعاً وعرفاً آثار، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات.

نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني - بالدلالة الالتزامية - على ثبوت هذه الصفات حقيقة، إما لأجل وضعها لإيقاعها، فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة، فلو لم تكن هناك قرينة، كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها، لأجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس، وضعاً أو إطلاقاً.

إشكال ودفع : أما الإشكال، فهو إنه يلزم بناء على اتحاد الطلب والإرادة، في تكليف الكفار بالإيمان، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالأركان، إما أن لا يكون هناك تكليف جدي، إن لم يكن هناك إرادة، حيث أنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي، وإعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي، وإن كان هناك إرادة، فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا تكاد تتخلف، إذا أراد الله شيئاً يقول له: كن فيكون.

وأما الدفع، فهو إن إستحاله التخلف إنما تكون في الإرادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام، دون الإرادة التشريعية، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف. وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية، فإذا توافقتا فلابد من الإطاعة والإيمان، وإذا تخالفتا، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان.

إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلاً.

٦٧

قلت: إنما يخرج بذلك عن الاختيار، لو لم يكن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار، وإلا لَزِم تخلف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

إن قلت: إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف؟ وقد سبقهما الإرادة الأزلية والمشيّة الإلهية، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالأخرة بلا اختيار؟

قلت: العقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه)(١) و (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)(٢) ، كما في الخبر، والذاتي لا يعلّل، فانقطع سؤال: إنه لِمَ جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد سر بشكست)(٣) ، قد إنتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام، ومن الله الرشد والهداية وبه الاعتصام.

وهم ودفع : لعلك تقول: إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل، لزم - بناء على أن تكون عين الطلب - كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهية هو العلم، وهو بمكان من البطلان.

____________________

(١) ورد بهذا المضمون في توحيد الصدوق / ٣٥٦ الباب ٥٨ الحديث ٣.

(٢) الروضة من الكافي ٨ / ١٧٧، الحديث ١٩٧.

مسند أحمد بن حنبل ٢ / ٥٣٩ وفيه تقديم الفضّة على الذهب. وقريب منه في هذا المصدر صفحة ٢٥٧، ٢٦٠، ٣٩١، ٤٣٨، ٤٨٥، ٤٩٨، ٥٢٥ والبخاري ٤ / ٢١٦.

(٣) يريد المؤلفرحمه‌الله : وهنا يقف القلم، لأن الكلام انتهى إلى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام، وما بين القوسين، تعبير فارسي ترجمته: لما وصل القلم إلى هنا انكسر رأسه.

٦٨

لكنك غفلت عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح، إنما يكون خارجاً لا مفهوماً، وقد عرفت(١) أن المنشأ ليس إلا المفهوم، لا الطلب الخارجي، ولا غرو أصلاً في اتحاد الإرادة والعلم عيناً وخارجاً، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى؛ لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة، قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه(٢) : (وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه).

الفصل الثاني

فيما يتعلق بصيغة الأمر وفيه مباحث:

الأول : إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها، وقد عد منها: الترجي، والتمني، والتهديد، والإنذار، والإهانة، والاحتقار، والتعجيز، والتسخير، إلى غير ذلك، وهذا كما ترى، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها، بل لم يستعمل إلا في إنشاء الطلب، إلا أن الداعي إلى ذلك، كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون أخرى أحد هذه الأمور، كما لا يخفى.

[و]قصارى ما يمكن أن يدعى، أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب، فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك، لا بداعٍ آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثاً حقيقة، وإنشاؤه بها تهديداً مجازاً، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره، فلا تغفل.

إيقاظ : لا يخفى أن ما ذكروه في صيغة الأمر، جار في سائر الصيغ الإنشائية، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام

____________________

(١) مرّ في صفحة ٦٦ من هذا الكتاب عند قوله: وأما الصيغ الإنشائية. الخ.

(٢) نهج البلاغة / ٣٩ الخطبة الأولى.

٦٩

بصيغها، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة، يكون الداعي غيرها أخرى، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها، واستعمالها في غيرها، إذا وقعت في كلامه تعالى، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى، مما لازمه العجز أو الجهل، وأنه لا وجه له، فإن المستحيل إنما هو الحقيقي منها لا الإنشائي الإيقاعي، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة، كما عرفت، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الإيقاعية الإنشائية أيضاً، لا لإظهار ثبوتها حقيقة، بل لأمر آخر حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الإنكار أو التقرير إلى غير ذلك، ومنه ظهر أن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضاً.

المبحث الثاني : في أن الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب، أو فيهما، أو في المشترك بينهما، وجوه بل أقوال، لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب، مع الاعتراف بعدم دلالته ليه بحال أو مقال، وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه(١) ، لكثرة استعماله في الوجوب أيضاً، مع أن الاستعمال وإن كثر فيه، إلا أنه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجب صيرورته مشهوراً فيه، ليرجح أو يتوقف، على الخلاف في المجاز المشهور، كيف؟ وقد كثر إستعمال العام في الخاص، حتى قيل: (ما من عام إلا وقد خص) ولم ينثلم به ظهوره في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

المبحث الثالث : هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث - مثل: يغتسل، ويتوضأ، ويعيد - ظاهرة في الوجوب أو التعدد

____________________

(١) هذا تعريض بصاحب المعالمقدس‌سره ، معالم الدين / ٤٨، فصل في الأوامر: فائدة.

٧٠

المجازات فيها، وليس الوجوب بأقواها، بعد تعذر حملها على معناها من الأخبار، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها.

الظاهر الأول، بل تكون أظهر من الصيغة، ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام - أي الطلب - مستعملة في غير معناها، بل تكون مستعملة فيه، إلا أنه ليس بداعي الإعلام، بل بداعي البعث بنحو آكد، حيث أنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه، إظهاراً بأنه لا يرضى إلا بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال في الصيغ الإنشائية، على ما عرفت من أنها أبداً تستعمل في معانيها الإيقاعية لكن بدواعٍ أخر، كما مر(١) .

لا يقال: كيف؟ ويلزم الكذب كثيراً، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علواً كبيراً.

فإنه يقال: إنما يلزم الكذب، إذا أتي بها بداعي الإخبار والإعلام، لا لداعي البعث، كيف؟ وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل (زيد كثير الرماد) أو (مهزول الفصيل) لا يكون كذباً، إذا قيل كناية عن جوده، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلاً، وإنما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ، فإنه مقال بمقتضى الحال. هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده، فإن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب، موجبة لتعيّن إرادته إذا كان بصدد البيان، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره، فافهم.

____________________

(١) في المبحث الأول من هذا الفصل، عند قولهقدس‌سره : إيقاظ / ٦٩.

٧١

المبحث الرابع : إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب هذه لا تكون ظاهرة فيه أيضاً أو تكون؟ قيل بظهورها فيه، إما لغبة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده أو أكمليته، والكل كما ترى، ضرورة أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر. وأما الأكملية فغير موجبة للظهور، إذ الظهور لا يكاد يكون إلا لشدة أنس اللفظ بالمعنى، بحيث يصير وجهاً له، ومجرد الأكملية لا يوجبه، كما لا يخفى، نعم فيما كان الأمر بصدد البيان، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مؤونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد، فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان، كاف في بيانه، فافهم.

المبحث الخامس : إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليّاً، فيجزي إتيانه مطلقاً، ولو بدون قصد القربة، أو لا؟ فلا بد من الرجوع فيما شك في عبديته وتوصليته إلى الأصل.

لابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات:

إحداها : الوجوب التوصلي، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب، ويسقط بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لابد - في سقوطه وحصول غرضه - من الإتيان به متقرباً به منه تعالى.

ثانيتها : إن التقرب المعتبر في التعبدي، إن كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره، كان مما يعتبر في الطاعة عقلاً، لا مما أخذ في نفس العبادة شرعاً، وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر مطلقاً شرطاً أو شطراً، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.

٧٢

وتوهم إمكان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر، وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي، ضرورة إمكان تصور الأمر بها مقيدة، والتمكن من إتيانها كذلك، بعد تعلق الأمر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً في صحة الأمر إنما هو في حال الامتثال لا حال الأمر،واضح الفساد ، ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الإمكان، إلا أنه لا سكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها، لعدم الأمر بها، فإن الأمر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الأمر، ولا يكاد يدعو الأمر إلا إلى ما تعلق به، لا إلى غيره.

إن قلت: نعم، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالأمر بها مقيدة.

قلت: كلّا؛ لأن ذات المقيد لا يكون مأموراً بها، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلاً، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة.

إن قلت: نعم، لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً، وأما إذا أخذ شطراً، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد، يكون متعلقاً للوجوب، إذ المركب ليس إلا نفس الأجزاء بالأسر، ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب؛ ضرورة صحة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.

قلت: مع امتناع اعتباره كذلك، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري، فإن الفعل وإن كان بالإرادة اختيارياً، إلا أن إرادته - حيث لا تكون بإرادة أخرى، وإلا لتسلسلت - ليست باختيارية، كما لا يخفى. إنما يصح الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي، ولا يكاد يمكن الإتيان بالمركب عن قصد الامتثال، بداعي امتثال أمره.

٧٣

إن قلت: نعم(١) ، لكن هذا كله إذا كان إعتباره في المأمور به بأمر واحد، وأما إذا كان بأمرين: تعلق أحدهما بذات الفعل، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره، فلا محذور أصلاً، كما لا يخفى. فللآمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده، بلا منعة.

قلت: - مضافاً إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد، كغيرها من الواجبات والمستحبات، غاية الأمر يدور مدار الامتثال وجوداً وعدماً فيها المثوبات والعقوبات، بخلاف ما عداها، فيدور فيه خصوص المثوبات، وأما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة - أن الأمر الأول إن كان يسقط بمجرد موافقته، ولو لم يقصد به الامتثال، كما هو قضية الأمر الثاني، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأول بدون قصد امتثاله، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة، وإن لم يكد يسقط بذلك، فلا يكاد يكون له وجه، إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره؛ لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله، وإلا لما كان موجباً لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر، لاستقلال العقل، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه، فيسقط أمره.

هذا كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال.

وأما إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه، أو كونه ذا مصلحة [أو له تعالى](٢) ، فاعتباره في متعلق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان، إلا أنه غير معتبر فيه قطعاً، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال، الذي عرفت

____________________

(١) إشارة إلى ما أفاده صاحب التقريرات في مطارح الأنظار / ٦٠، السطر الأخير، في التعبدي والتوصلي.

(٢) سقطت من «أ».

٧٤

عدم إمكان أخذه فيه بديهة.

تأمل فيما ذكرناه في المقام، تعرف حقيقة المرام، كي لا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الأعلام.

ثالثتها : إنه إذا عرفت بما لا مزيد عليه، عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلاً، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه - ولو كان مسوقاً في مقام البيان - على عدم اعتباره، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصح التمسك به إلا فيما يمكن اعتباره فيه.

فانقدح بذلك أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل الأمر، من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها، نعم إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ماله دخل في حصول غرضه، وإن لم يكن له دخل في متعلق أمره، ومعه سكت في المقام، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه، وإلا لكان سكوته نقصاً له وخلاف الحكمة، فلا بد عند الشك وعدم إحراز هذا المقام، من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ويستقل به العقل.

فاعلم: أنه لا مجال - ها هنا - إلا لأصالة الاشتغال، ولو قيل بأصالة البراء‌ة فيما إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وذلك لأن الشك ها هنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب - مع الشك وعدم إحراز الخروج - عقاباً بلا بيان، والمؤاخذه عليه بلا برهان، ضرورة أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة، وعدم الخروج عن العهدة، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة، وهكذا الحال في كل ما شك دخله في الطاعة، والخروج به عن العهدة، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتمييز.

نعم: يمكن أن يقال: إن كلّ ما ربما يحتمل بدواً دخله في الامتثال،

٧٥

أمراً كان مما يغفل عنه غالباً العامة(١) ، كان على الآمر بيانه، ونصب قرينة على دخله واقعاً، وإلّا لأخل بما هو همّه وغرضه، [و]أما إذا لم ينصب دلالة على دخله؛ كشف عن عدم دخله، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة، حيث ليس منهما عين ولا أثر في الأخبار والآثار، وكانا مما يغفل عنه العامة، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة، فتدبر جيّداً.

ثم إنه لا أظنك أن تتوهم وتقول: إن أدلة البراء‌ة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار، وإن كان قضية الاشتغال عقلاً هو الاعتبار، لوضوح أنه لابد في عمومها من شيء قابل للرفع والوضع شرعاً، وليس ها هنا، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي. ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك، إلا أنهما قابلان للوضع والرفع شرعاً، فبدليل الرفع - ولو كان أصلاً - يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك، يجب الخروج عن عهدته عقلاً، بخلاف المقام، فإنه علم بثبوت الأمر الفعلي، كما عرفت، فافهم.

المبحث السادس : قضية إطلاق الصيغة، كون الوجوب نفسياً تعينيّاً عينياً لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضيق دائرته، فإذا كان في مقام البيان، ولم ينصب قرينة عليه، فالحكمة تقتضي كونه مطلقاً، وجب هناك شيء آخر أو لا، أتى بشيء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا، كما هو واضح لا يخفى.

المبحث السابع : إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعاً أو إطلاقاً فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال:

____________________

(١) هذا ما أثبتناه من «أ و ب»، وفي بعض النسخ المطبوعة هكذا (إن كل ما يحتمل بدواً دخله في الامتثال وكان يغفل عنه غالباً العامة).

٧٦

نسب(١) إلى المشهور ظهورها في الإباحة، وإلى بعض العامّة(٢) ظهورها في الوجوب، وإلى بعضٍ(٣) تبعيتها لما قبل النهي، إن علق الأمر بزوال علّة النهي، إلى غير ذلك.

والتحقيق: إنّه لا مجال للتشبّث بموارد الاستعمال، فإنّه قلّ مورد منها يكون خالياً عن قرينة على الوجوب، أو الإباحة، أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها، لم يظهر بعدُ كون عقيب الحظر موجباً لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه.

غاية الأمر يكون موجباً لإجمالها، غير ظاهرة في واحد منها إلّا بقرينة أخرى، كما أشرنا.

المبحث الثامن : الحق أن صيغة الأمر مطلقاً، لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فإن المنصرف عنها، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرّة، فإنّما هو لحصول الامتثال بها في الأمر بالطبيعة، كما لا يخفى.

ثم لا يذهب عليك: أن الإتفاق على أن المصدر المجرّد عن اللام والتنوين، لا يدلّ إلّا على الماهية - على ما حكاه السكاكي(٤) - لا يوجب كون النزاع ها هنا في الهيئة - كما في الفصول(٥) - فإنه غفلة وذهول عن [أنّ] كون المصدر كذلك، لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدلّ إلا على

____________________

(١) راجع الفصول / ٧٠، وبدائع الأفكار في النسخة الثانية من نسختي الأوامر / ٢٩٤.

(٢) البصري في المعتمد / ٧٥، باب في صيغة الأمر الواردة بعد حظر، والبيضاوي وغيره راجع الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي: ٢ / ٤٣.

(٣) كالعضدي، شرح مختصر الأصول / ٢٠٥، في مسألة وقوع صيغة الأمر بعد الحظر.

(٤) مفتاح العلوم.

(٥) الفصول / ٧١، فصل: الحق أن هيئة...الخ.

٧٧

الماهية، ضرورة أن المصدر ليس(١) مادة لسائر المشتقات، بل هو صيغة مثلها، كيف؟ وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادة لها؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها، كما لا يخفى.

إن قلت: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلاً في الكلام.

قلت: مع أنّه محلّ الخلاف، معناه أن الذي وضع أولاً بالوضع الشخصي، ثم بملاحظته وضع نوعيّاً أو شخصياً سائر الصيغ التي تناسبه، مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه، بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل، فافهم.

ثم المراد بالمرة والتكرار، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والأفراد؟

والتحقيق: أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع، وإن كان لفظهما ظاهراً في المعنى الأول،وتوهم (٢) أنّه لو أُريد بالمرة الفرد، لكان الأنسب، بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتي، من أن الأمر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد؟ فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلقه بالفرد، هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد؟ أو لا يقتضي شيئاً منهما؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه، وأما لو أُريد بها الدفعة، فلا علقة بين المسألتين، كما لا يخفى، فاسد، لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضاً، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج، ضرورة أن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين، فيصحّ النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها.

____________________

(١) في «أ و ب» ليست.

(٢) المتوهم هو صاحب الفصول، الفصول / ٧١.

٧٨

أمّا بالمعنى الأول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو وجودات، وإنّما عبر بالفرد لأن وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد، غاية الأمر خصوصيته وتشخصه على القول بتعلق الأمر بالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد، فإنه مما يقوّمه.

تنبيه : لا إشكال بناءً على القول بالمرة في الامتثال، وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانياً، على أن يكون أيضاً به الامتثال، فإنه من الامتثال بعد الامتثال. وأما على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار، فلا يخلو الحال: إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان، بل في مقام الإِهمال أو الإِجمال، فالمرجع هو الأصل. وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها، فإن لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها، هو الإتيان بها مرة أو مراراً، لا لزوم الإقتصار على المرة، كما لا يخفى.

والتحقيق: إن قضية الإِطلاق إنما هو جواز الإِتيان بها مرة في ضمن فرد أو أفراد، فيكون إيجادها في ضمنها نحواً من الامتثال، كإيجادها في ضمن الواحد، لا جواز الإتيان بها مرة ومرات، فإنه مع الإتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الأمر، فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى، بحيث يحصل بمجرده، فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانياً بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالاً واحداً؛ لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها، وسقوط الغرض معها، وسقوط الأمر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتي به، ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلاً، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه، بل

٧٩

مطلقاً، كما كان له ذلك قبله، على ما يأتي بيانه في الإجزاء.

المبحث التاسع: الحق أنه لا دلالة للصيغة، لا على الفور ولا على التراخي، نعم قضية إطلاقها جواز التراخي، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها، بلا دلالة على تقييدها بأحدها، فلا بدّ في التقييد من دلالة أخرى، كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية.

وفيه منع، ضرورة أن سياق آية( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) (١) وكذا آية( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) (٢) إنّما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير، من دون استتباع تركهما للغضب والشرّ، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعاً للغضب والشر، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب، كما لا يخفى، فافهم.

مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات، وكثير من الواجبات بل أكثرها، فلا بدّ من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب، ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه إرشاداً إلى ذلك، كالآيات والروايات الواردة في الحثِّ على أصل الإطاعة، فيكون الأمر فيها لما يترتب على المادة بنفسها، ولو لم يكن هناك أمر بها، كما هو الشأن في الأوامر الإِرشادية، فافهم.

تتمة : بناء على القول بالفور، فهل قضية الأمر الإتيان فوراً ففوراً بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فوراً أيضاً، في الزمان الثاني، أو لا؟ وجهان: مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول، هو وحدة المطلوب أو تعدده، ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية، لما كان لها دلالة على نحو

____________________

(١) آل عمران: ١٣٣.

(٢) البقرة: ١٤٨، المائدة: ٤٨.

٨٠