اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 146417
تحميل: 8781

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146417 / تحميل: 8781
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأكبر الظنّ أن الماركسية حين قرّرت أنّ التركيب الطبقي قائم على أساس اقتصادي ، وأكّدت على أنّ الطبقة نتيجة للملكيّة لم تدرك النتيجة التي تترتب على ذلك منطقياً ، وهي أنّ النشاط في ميادين الأعمال هو الأسلوب الوحيد إلى كسب المقام الاجتماعي وتكوين طبقة رفيعة في المجتمع ، لأنّ التكوين الطبقي للطبقة الرفيعة الحاكمة في المجتمع إذا كان نتاجاً للملكية ـ الوضع الاقتصادي ـ فلا بدّ لها من إيجاد هذه الملكيّة لكي تصبح طبقة رفيعة حاكمة ، ولا سبيل إلى حصولها على تلك الملكيّة إلاّ النشاط في ميادين العمل وقد تكون هذه أغرب نتيجة يتمخّض عنها التحليل الماركسي ؛ لبعدها عن الواقع ، وإلاّ فمتى كان النشاط في ميادين العمل هو الطريق الأساسي لتكوين الطبقة الحاكمة في المجتمع ؟! وإن كانت هذه النتيجة ـ التي تترتب منطقياً على التحليل الماركسي ـ تنطبق على ظرفٍ تأريخي فإنّما تنطبق فقط على المجتمع الرأسمالي في ظرف تكوّنه وتكامله ، إذ يمكن لأحدٍ أن يقول أنّ الطبقة الرأسمالية قد بنت كيانها الطبقي عن طريق الملكية التي حصلت عليها بالنشاط الدائب في ميادين العمل والإنتاج وأمّا في الظروف التأريخية الأخرى فلم يكن النشاط العملي هو الأساس لتكوّن الطبقات ، ولا الدعامة الرئيسية للطبقة الحاكمة في كلّ العصور ، بل على العكس كانت حالة الملكيّة تظهر على الأكثر بوصفها نتيجة للوضع الطبقي ، وليست أساساً له

١٢١

وإلاّ فكيف نفسّر الحدود الفاصلة التي كانت توضع في المجتمع الروماني بين طبقة الأشراف ومجموع العامة بما فيهم طبقة رجال الأعمال الذين كانوا يدانون الأشراف في ثرواتهم ، ويتمتّعون بملكيات لا تقلّ عن ملكيات أولئك الأشراف ، بالرغم من التفاوت الكبير بين مقامهما الاجتماعي ، ومن السلطات السياسية الخاصة التي كان الأشراف يمتازون بها على رجال الأعمال وغيرهم من الفئات(١) .

وكيف نفسر وجود طبقة (الساموراي ) ذات النفوذ الكبير في المجتمع الياباني القديم التي كانت تأتي في السلّم الاجتماعي بعد أمراء الإقطاع مباشرة ، وترتكز في تكوينها الطبقي على خبرتها الخاصة بحمل السيف وفنون الفروسية وأساليبها ، وليس على الملكيّة وقيمها الاقتصادية ؟!(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) لاحظ : قصّة الحضارة ٩ : ٤٦ ـ ٥٧ .

(٢) راجع المصدر السابق ٥ : ٣٧ ـ ٣٨ .

١٢٢

وكيف نفسّر قيام التنظيم الطبقي في المجتمع الهندي قبل التأريخ الحديث بألفي سنة على يد الفاتحين من الآريين الفيديّين الذين غزوا الهند وسيطروا عليها وأقاموا فيها تنظيماً طبقياً على أساس اللون والدم ، ثمّ تطوّر التكوين الطبقي فانقسمت الطبقة الفاتحة الحاكمة إلى طبقة (الكشاترية ) المتميّزة بكفاءتها العسكرية وبراعتها في القتال ، وطبقة (البراهمة ) القائمة على أساس ديني ، وظلّت الفئات الأخرى كلّها محكومة لهاتين الطبقتين بما فيها التجّار والصنّاع الذين كانوا يملكون وسائل الإنتاج واحتلّت القبائل الوطنية التي ظلّت متمسّكة بدينها أدنى الدرجات في السلّم الاجتماعي ، وتكوّنت منها طبقة المنبوذين فلم يكن للملكيّة أثر في هذا التكوين الطبقي الذي ظلّ يمارس وظيفته الاجتماعية مئات السنين في القارة الهندية قائماً على أسس عسكرية ودينية وعنصرية ، ولم يشفع للتجّار والصنّاع ملكيّتهم لوسائل الإنتاج كي يرتقوا إلى مصافّ الطبقات الحاكمة أو ينافسوها في سلطانها السياسي والديني(١) .

وأخيراً ، كيف نفسّر قيام الطبقة الإقطاعية في أوروبا الغربية نتيجة للفتح الجرماني إذا لم نفسّره تفسيراً عسكرياً وسياسياً ؟ فإنّنا جميعاً نعلم ـ وحتى أنجلز نفسه فقد كان يعترف أيضاً ـ بأنّ القوّاد الفاتحين الذين تكوّنت منهم تلك الطبقة لم يكن مقامهم الاجتماعي ناتجاً عن الملكية الإقطاعية ، وإنّما تكوّنت ملكيّتهم الإقطاعية هذه تبعاً لدرجتهم الاجتماعية وامتيازاتهم العسكرية والسياسية الخاصة ، بوصفهم غزاة فاتحين دخلوا أرضاً واسعة وتقاسموها ، فكانت الملكية أثراً ولم تكن هي العامل المؤثّر .

وهكذا نجد عناصر غير ماركسيّة وتنتهي إلى نتائج غير ماركسيّة لدى تحليل كثير من التركيبات الطبقيّة في المجتمعات البشرية المختلفة

وقد تحاول الماركسية بهذا الصدد الدفاع عن مفهومها في الطبقية عن طريق القول بالعلاقة المتبادلة بين العامل الاقتصادي وشتى العوامل الاجتماعية الأخرى ، الأمر الذي يجعله يتأثّر بها ويتكيّف وفقاً لها ، كما يؤثّر فيها ويساهم في تكوينها

ـــــــــــــــ

(١) راجع : قصّة الحضارة ٣ : ١٩ ـ ٢٤ .

١٢٣

غير أنّ هذا المحاولة وحدها تكفي لنسف المادّية التأريخية ، والقضاء على مجدها العلمي الشامخ في دنيا الماركسية ؛ لأنّها لا تختلف عندئذٍ عن التفاسير الأخرى للتأريخ إلاّ في التأكيد على أهمية العامل الاقتصادي نسبياً مع الاعتراف بالعوامل الأخرى الأصيلة التي تساهم في صنع التأريخ .

وإذا كانت الماركسية على خطأ في تعليل الطبقية بالوضع الاقتصادي وحده عرفنا من ذلك خطأها أيضاً في إعطاء الطبقة مفهوماً اقتصادياً خالصاً ؛ لأنّ الطبقة إذا لم تكن قائمة دائماً على أساس اقتصادي في تركيبها الاجتماعي فليس من الصحيح إذن أن نعتبر الطبقية مجرّد تعبير عن قيمة اقتصادية معيّنة كما زعمت الماركسية ذلك ، الأمر الذي جعلها تصل إلى نتائج غريبة مشابهة لِما أدّت إليه نظرتها في تعليل الطبقية وتبريرها من نتائج ، فقد رأينا أنّ الماركسية حين آمنت بأنّ الطبقة إنّما تتكون وفقاً للشروط الاقتصادية والحالة الملكيّة ، كلّفها ذلك القول : بأنّ النشاط في ميادين العمل هو الطريق الوحيد إلى السمو الاجتماعي .

وكذلك يمكننا أن نلاحظ الآن أنّنا إذا أعطينا الطبقة مفهومها الماركسي ـ وبالأحرى مفهومها الاقتصادي البحت ـ القائل بأنّ الجماعة التي تعيش على عملها طبقة واحدة ، والجماعة التي تعيش على استثمار وسائل الإنتاج التي تملكها طبقة أخرى ، ولم ندخل في مفهوم الطبقة أيّ اعتبار آخر سوى هذه القيم الاقتصادية كما تصرّ الماركسية على ذلك ، لكان معنى هذا أنّنا أدرجنا كبار الأطباء والمهندسين ومدراء المؤسّسات التجارية والشركات الكبرى في نفس الطبقة التي تضم عمّال المناجم وأجراء الزراعة والصناعة ؛ لأنّهم جميعاً يعيشون على الأجور ! بينما يلزمنا أن نضع حداً طبقياً فاصلاً بين هؤلاء الأجراء وبين مالكي وسائل الإنتاج مهما كانت أجور أولئك ومهما كانت نوعية الوسائل المنتجة المتوفّرة عند هؤلاء .

وحيث إنّ الصراع بين الطبقات ضريبة ماركسية لا محيد للطبقات عن القيام بها فسوف ينتهي بنا ذلك إلى تصوّر أنّ صغار مالكي الوسائل المنتجة سوف يقفون في صراعهم الطبقي إلى صف الطبقة المستثمرة من المالكين ، بينما يقف كبار الأجراء من المهندسين والأطبّاء الأخصائيين إلى صف الكادحين المستثمرين ، وهكذا ينقلب مدير المؤسّسة التجارية الكبرى عاملاً كادحاً يخوض المعركة ضدّ المالكين المستثمرين ، نتيجة لدمج الحقائق الاجتماعية بالقيم الاقتصادية ، واتخاذ الجهاز الاقتصادي في توزيع الدخل أساساً للطبقات الاجتماعية .

١٢٤

ونستنتج من دراستنا هذه للتحليل الماركسي للطبقة نتيجتين خطيرتين :

إحداهما : أنّ من الممكن قيام الطبقات في المجتمع حتى ولو انعدمت فيه الملكية الخاصة بصورة قانونية ؛ لأنّ حالة الملكية ـ كما عرفنا ـ ليست هي الأساس الوحيد للتكوين الطبقي ، وهذه هي النتيجة التي كانت الماركسية تخشاها حين أكّدت على حالة الملكيّة بوصفها السبب الوحيد لوجود الطبقات ، كي تبرهن عن هذا الطريق على ضرورة زوال الطبقية واستحالة وجودها في المجتمع الاشتراكي الذي تلغي فيه الملكية الخاصة وما دمنا قد تبينّا أن الملكية الخاصة بصيغتها القانونية ليست هي العامل الوحيد في وجود المجتمع الطبقي فمن الطبيعي أن ينهار هذا البرهان ويصبح من الممكن أن توجد الطبقيّة بشكل من الأشكال في المجتمع الاشتراكي بالذات ، كما وجدت في غيره من المجتمعات وهذا ما سندرسه ـ إن شاء الله ـ باستيعاب أكثر عند نقد المرحلة الاشتراكية من مراحل المادّية التأريخية

والنتيجة الأخرى هي : أنّ الصراع في المجتمع ـ حيث يوجد ـ لا يجب أن يعكس القيم الاقتصادية التي يقرّرها جهاز التوزيع في المجتمع ، فليست نوعية الدخل الناحية الاقتصادية ـ ككون الدخل أجراً أو ربحاً ـ هي التي تفرض الصراع ، ولا جبهات الصراع مقسّمة على أساس تلك الدخول والقيم الاقتصادية .

٤ ـ العوامل الطبيعية والماركسية :

ومن مظاهر النقصان البارزة في الفرضية الماركسية تناسي العوامل الفيزيولوجّية والسيكولوجية والفيزيائية وإهمال دورها في التأريخ ، مع أنّها قد تكون في بعض الأحايين ذات تأثير كبير في حياة المجتمع وكيانه العام ؛ لأنّها هي التي تحدّد للفرد اتّجاهاته العلمية وعواطفه وكفاءاته الخاصة ، تبعاً لِما تتحفه به من تركيب عضوي خاص ، وهذه الاتجاهات والعواطف والكفاءات ، التي تختلف في الأفراد وفقاً لتلك العوامل ، تساهم في صنع التأريخ وتقوم بأدوار إيجابية متفاوتة في حياة المجتمع .

١٢٥

فكلّنا نعلم بالدور التأريخي الذي لعبته مواهب نابليون العسكرية وشجاعته الفريدة في حياة أوروبا(١) .

وكلّنا نعلم بمُيوعة لويس الخامس عشر وآثارها التأريخية خلال حرب السنوات السبع ، التي خاضتها فرنسا إلى جانب النمسا فقد استطاعت امرأة واحدة كـ (مدام بومبادور ) أن تملك إرادة الملك ، وبالتالي أن تدفع فرنسا للاشتراك مع

ـــــــــــــــ

(١) الموسوعة العربية الميسّرة ٢ : ١٨١٢ .

١٢٦

النمسا في حربها ، وتحمّل العواقب الوخيمة التي أسفرت عنها (١) .

وكلّنا نعلم بالدور التأريخي الذي نجم عن حادثة غرام خاصة في حياة ملك انجليزي كهنري ، إذ أدّت تلك الحادثة إلى انفصال العائلة المالكة ، وبالتالي إنكلترا كلّها ، عن المذهب الكاثوليكي (٢) .

وكلّنا نعلم ما فعلته عاطفة الأبوّة التي دفعت بمعاوية بن أبي سفيان إلى اتّخاذ كلّ الأساليب الممكنة لأخذ البيعة لابنه يزيد ، الأمر الذي عبّر في وقته عن تحوّل حاسم في المجرى السياسي العام (٣) .

فهل كان التأريخ سيتم بنفس الصورة التي وجدت فعلاً لو لم يكن نابليون رجلاً عسكرياً حديدياً ، ولم يكن لويس ذائباً مستسلماً لمحظّياته ، ولم يعشق هنري ( آن بولين ) ، ولم تسيطر عاطفة خاصّة على معاوية بن أبي سفيان وليس أحد يدري ماذا كان يحدث لو لم تسمح الشروط الطبيعية للوباء باكتساح أرجاء الإمبراطورية الرومانية ، وامتصاص مئات الآلاف من سكّانها ممّا ساعد على انهيارها وتغيّر الوجه التأريخي العام ؟

ولا يدري أحدٌ أيضاً أيّ اتّجاه كان يتّجه التأريخ القديم لو أنّ جندياً مقدونياً لم ينقذ حياة الإسكندر في اللحظة المناسبة ، فيقطع اليد التي أهوت عليه بالسيف من خلفه وهو في طريقه إلى فتح عسكري خطير امتدّت آثاره عبر الأجيال والقرون

وإذا كانت تلك الصفات : من الصلابة ، والميوعة ، والغرام ، والعاطفة ، ذات تأثير في التأريخ، ومجرى الحوادث الاجتماعية فهل من الممكن أن نفسّر هذه الصفات على أساس القوى المنتجة والأوضاع الاقتصادية ، لننتهي مرّة أخرى إلى العامل الاقتصادي الذي تؤمن به الماركسية ؟

ـــــــــــــــ

(١) قصّة الحضارة ٣٦ : ٤١ ـ ٦١ .

(٢) المصدر السابق ٢٥ : ٨٢ وما بعدها .

(٣) الكامل في التأريخ ٤ : ٥ ـ ٦ .

١٢٧

الحقيقة أنّ أحداً لا يشكّ في أنّ هذه الصفات لا يمكن تفسيرها على أساس العامل الاقتصادي وقوى الإنتاج ؛ فإنّ الوسائل المنتجة والظروف الاقتصادية ليست هي التي كوّنت المزاج الخاص للملك لويس الخامس عشر مثلاً ، بل كان من الممكن ـ لو ساعدت الشروط الطبيعية والسيكولوجية ـ أن يكون لويس الخامس عشر شخصاً صُلباً قويّ الإرادة نظير لويس الرابع عشر ، أو نابليون مثلاً ، وإنّما نبع مزاجه الخاص من الخصائص الفيزيائية والفيزيولوجية والنفسية التي يتكوّن منها وجوده الخاص ، وشخصيّته المتميّزة

وقد تبتدر الماركسية هنا قائلة : أليست العلاقات الاجتماعية التي أنشأها العامل الاقتصادي في المجتمع الفرنسي هي التي سمحت للملك لويس أن يؤثّر على التأريخ ويعكس مُيوعته على الأحداث العسكرية والسياسية ، بما أقرّته تلك العلاقات من النظام الملكي الوراثي ؟! فالدور التأريخي الذي أدّاه هذا الملك ليس في الحقيقة إلاّ نتاجاً لهذا النظام الذي هو بدوره وليد الوضع الاقتصادي وقوى الإنتاج ، وإلا فمَن يستطيع أن يقول : إنّ لويس كان يمكنه أن يؤثّر في التأريخ لو لم يكن ملكاً ولم تكن فرنسا تعترف بنظام الملكية الوراثية في الحكم(١) ؟!

وهذا صحيح ، فإنّ لويس لو لم يكن ملكاً لكان كمّية مهملة في حساب التأريخ ، ولكنّا نقول من ناحية أخرى : إنّه لو كان ملكاً يتمتّع بشخصية صُلبة وقوّة تصميم لاختلف دوره التأريخي ، ولاختلفت بالتالي أحداث فرنسا السياسية والعسكرية ، فما الذي سلب منه صلابة الشخصية ، وحرمه من قوّة التصميم ؟ أهو النظام الملكي أو العوامل الطبيعية التي ساهمت في تركيبه العضوي وتكوينه الخاص ؟

ـــــــــــــــ

(١) راجع : دور الفرد في التأريخ : ٦٨ .

١٢٨

وبكلمة أخرى : أنّ ثلاثة تقادير كان من الممكن أن يوجد أيّ واحد منها في فرنسا : السلطة السياسية الجمهورية ، والسلطة المَلَكيّة المتمثّلة في شخص مائع ، والسلطة المَلَكيّة المتمثّلة في مَلِكٍ قويّ حديدي .

ولكلّ من هذه التقادير الثلاثة أثره الخاص في مجرى الحوادث السياسية والعسكرية ، وبالتالي في تكوين فرنسا لفترة من الزمن .

فلنتبين فحوى قوانين التأريخ التي استكشفتها الماركسية وفسّرت على أساسها التأريخ بالعامل الاقتصادي .

إنّ هذه القوانين تشير إلى أنّ الوضع الاقتصادي لم يكن يسمح بقيام سلطة جمهورية في البلاد بل كان يفرض النظام الملكي في الحكم ولنفترض أنّ هذا صحيح فليس هو إلا جانباً واحداً من المسألة ؛ لأنّنا نستطيع بذلك أن نستبعد التقدير الأوّل ويبقى التقديران الآخران فهل هناك قانون علمي يحتّم وجود ملك مائع أو قوي في تلك الفترة من تأريخ فرنسا سوى القوانين العلمية : في الفيزياء والفيزيولوجيا والسيكولوجيا ، التي تفسّر شخصية لويس ومزاجه الخاص ؟!

وهكذا نعرف، أنّ للأفراد أدوارهم في التأريخ التي تحدّدها لهم العوامل الطبيعية والنفسية ، لا قوى الإنتاج السائدة في المجتمع .

١٢٩

وليست هذه الأدوار التأريخية ، التي يقوم بها الأفراد وفقاً لتكوينهم الخاص ، أدواراً ثانوية في عملية التأريخ دائماً ، كما زعم (بليخانوف ) الكاتب الماركسي الكبير ، إذ أكّد على :

( أنّ الخصائص الفردية التي يتّصف بها الرجال العظام تحدّد السمة الخاصة للحوادث التأريخية ، وتحدّد عامل المصادفة وتلعب دوراً جزئياً في مجرى هذه الحوادث التي تحدّد اتجاهها في النهاية الأسباب الموصوفة بالعامة ، أي : بتطوّر القوى المنتجة ، وبالعلاقات التي تحدّدها هذه القوى بين الناس )(١) .

ولا نريد أن نعلّق على تأكيد (بليخانوف ) هذا إلاّ بمثالٍ واحدٍ نستطيع أن ندرك في ضوئه كيف يمكن أن يكون دور الفرد سبباً لتحوّل الاتجاه التأريخي بشكل حاسم ، فماذا كان يقدّر لوجهة التأريخ العالمي لو أنّ عالماً ذرياً في ألمانيا النازيّة قد سبق إلى اكتشاف سرّ الذرة بعدّة شهور فقط ؟ ألم يكن امتلاك هتلر لهذا السرّ كفيلاً بتغيير وجهة التأريخ وتقويض الديمقراطية الرأسمالية والاشتراكية الماركسية من أوروبا ؟! فلماذا لم يستطع هتلر أن يملك هذا السر ؟ ليس ذلك طبعاً بسبب من الوضع الاقتصادي ونوعيّة القوى المنتجة ، وإنّما هو لأنّ الفكر العلمي لم يستطع في تلك اللحظة أن يستكشف السرّ الذي اكتشفه بعد ذلك بعدّة شهور فقط ، تبعاً لظروفه الفسيولوجية والسيكولوجية.

بل ماذا كان يمكن أن يقع لو أنّ العلماء الروس لم يصلوا إلى سرّ الذرّة ؟ ألم يكن من الممكن أن يستغلّ المعسكر الرأسمالي في تلك اللحظة قوى الذرّة في القضاء على الحكومات الاشتراكية ؟! فيم نستطيع أن نفسّر اكتشاف العلماء الروس للسرّ ، الأمر الذي أنقذ العالم الاشتراكي من الدمار ؟ لا يمكننا أن نقول : إنّ

ـــــــــــــــ

(١) دور الفرد في التأريخ : ٩٣ .

١٣٠

قوى الإنتاج هي التي أزاحت الستار عن هذا السرّ وإلاّ فلماذا لم يدركه سوى نفرٌ خاص من العدد الكبير من العلماء الذريّين الذين كانوا يمارسون التجارب الذرية ؟! فإنّ هذا يوضح أن الاكتشاف مدين ـ بصورة خاصة ـ للتركيب العضوي الخاص وشروطه الذهنية ، ولو لم تتهيّأ هذا الشروط في شخصٍ أو أشخاص معدودين من علماء الروس ، ولم يوحد النبوغ العلمي الخاص المرتهن بذلك التركيب وتلك الشروط ، لمنيت الاشتراكية بالدمار والهزيمة الكبرى ، وبالرغم من قوانين المادّية التأريخية كلّها وإذا كان من الممكن أن توجد لحظات في حياة الإنسان تقرّر مصير التأريخ أو نوعية الأحداث الاجتماعية ، فكيف يمكن أن تكون قوانين الوسائل المنتجة هي القوانين الحتمية للتأريخ ؟!

٥ ـ الذوق الفني والماركسية :

والذوق الفني في الإنسان ـ بوصفه ظاهرة اجتماعية اشتركت فيها كلّ المجتمعات على اختلافها في النظم والعلاقات ووسائل الإنتاج ـ لون آخر من الحقائق الاجتماعية التي تضيق بها المادّية التأريخية كما سنرى والحديث عن الذوق الفني له جوانب عديدة ، فالرسّام حين يبدع صورة رائعة لزعيم سياسي أو لمعركة حربية قد نسألمرّةً عن : الطريقة التي اتبعها هذا الفنان في إبداع الصورة ، ونوعية الأدوات التي استعملها ، وقد نسأل مرّةًأخرى عن : الهدف الذي كان يرمي إليه من وراء هذه الصورة ، وقد نسألثالثةً : لماذا نعجب بها ونمتلئ أحساساً بروعتها والتذاذاً بمنظرها ؟

ويمكن للماركسية التي تجيب علىالسؤال الأوّل قائلة : إنّ الطريقة التي اتبعها الرسام خلال العملية هي الطريقة التي تفرضها درجة التطوّر في الأدوات وقوى الإنتاج فالوسائل الطبيعية هي التي تقرّر طريقة الرسم

وكذلك يمكن للماركسية أن تجيب علىالسؤال الثاني ، زاعمة : أنّ الفنّ استُخدم دائماً لخدمة الطبقة الحاكمة ، فالهدف الذي يدعو الفنان إلى التفنّن والإبداع هو تعزيز هذه الطبقة ومصلحتها ، ولما كانت هذه الطبقة وليدة القوى المنتجة فوسائل الإنتاج هي الجواب الأخير على هذا السؤال .

ولكن ماذا تصنع الماركسيةبالسؤال الثالث : لماذا نعجب بالصورة ونستذوقها ؟ فهل قوى الإنتاج أو المصلحة الطبقية هي التي تخلق في نفوسنا هذا الإعجاب وهذا الذوق الفنّي ، أو هو شعور وجداني وذوق ينبع من صميم النفس وليس مستورداً من وسائل الإنتاج وظروفها الطبقية ؟

١٣١

إنّ المادّية التأريخية تفرض على الماركسية أنّ تفسّر الذوق الفني بقوى الإنتاج والمصلحة الطبقية ؛ لأنّ العامل الاقتصادي هو الذي يفسّر كلّ الظواهر الاجتماعية في المادّية التأريخية ، ولكنّها لا تستطيع ذلك وإن حاولته ؛ إذ لو كانت القوى المنتجة أو المصلحة الطبقية هي التي تخلق هذا الذوق الفنّي لزال بزوالها ، ولتطوّر الذوق الفنّي تبعاً لتطوّر وسائل الإنتاج كما تتطوّر سائر الظواهر والعلاقات الاجتماعية ، مع أنّ الفنّ القديم بآياته الرائعة لا يزال في نظر الإنسانية حتى اليوم منبعاً من منابع اللذّة الجمالية ، ولا يزال يتحف الإنسان وهو في عصر الذرّة بما كان يتحفه به قبل آلاف السنين من انشراحٍ وسحرٍ ، فكيف ظلّت هذه المتعة النفسية حتى أخذ الإنسان الاشتراكي والرأسمالي يتمتّع بفنِّ مجتمعات الرقّ كما كان الأسياد والعبيد يتمتعون بها ؟! وبقدرة أيّ قادر استطاع الذوق الفنّي أن يتحرّر من قيود المادّية التأريخية ويخلد في وعي الإنسان ؟! أليس العنصر الإنساني الأصيل هو التفسير الوحيد الذي يجيب على هذه الأسئلة ؟!

ويقومماركس هنا بمحاولة للتوفيق بين قوانين المادّية التأريخية وإعجابنا بالفن الإنساني القديم ، زاعماً : أنّ الإنسان الحديث يلتذّ بروعة الفنّ القديم بوصفه ممثّلاً لطفولة النوع البشري ، كما يلذّ لكلّ إنسان أن يستعرض أحوال طفولته البريئة الخالية من التعقيد(١) .

ولكنّماركس لا يقول لنا شيئاً عن سرور الإنسان بأحوال الطفولة ، فهل هو نزعة أصيلة في الإنسان ، أو ظاهرة خاضعة للعامل الاقتصادي ومتغيّرة تبعاً له ؟

ثمّ لماذا يجد الإنسان الحديث المتعةَ والسحر في روائع اليونان الفنّية مثلاً ، ولا يجد هذه المتعة والسحر في استعراض بقية ظواهر حياتهم من أفكار وعادات ومفاهيم بدائية ، مع أنّها جميعاً تمثّل طفولة النوع البشري ؟

وماذا يقول لناماركس عن المناظر الطبيعية الخالصة التي كانت منذ أبعد آماد التأريخ ولا تزال قادرة على إرضاء الحس الجمالي في الإنسان وبعث المتعة إلى نفسه ؟! فكيف نجد المتعةَ في هذه المناظر كما كان يجدها الأسياد والرقيق والإقطاعيون والأقنان مع أنّها مظاهر طبيعية لا تمثّل شيئاً من طفولة النوع البشري التي يفسّر ماركس على أساسها إعجابنا بالفنّ القديم ؟!

ـــــــــــــــ

(١) كارل ماركس : ٢٤٣ .

١٣٢

أفلسَنا نعرف من هذا أنّ المسألة ليست مسألة الإعجاب بصور الطفولة ، وإنّما هي مسألة الذوق الفنّي الأصيل العام الذي يجعل إنسان عصر الرقّ وإنسان عصر الحريّة يشعران بشعور واحد ؟!

وفي ختام دراستنا هذه للنظرية بما هي عامّة ألا نجد من الطبيعي أن يندمأنجلز المؤسّس الثاني للمادّية التأريخيّة على المبالغة بدور العامل الاقتصادي في التأريخ ، ويعترف بأنّه مع صديقهماركس قد اندفعنا بروح مذهبية في مفهومهما المادّي عن التأريخ اندفاعاً خاطئاً ؟! فقد كتبأنجلز إلىيوسفبلوخ عام (١٨٩٠م ) يقول :

( إنّ توجيه الكتّاب الناشئين الاهتمام إلى الجانب الاقتصادي بأكثر ممّا يستحق أمر يقع اللوم فيه على عاتقي وعاتق ماركس ؛ لقد كان علينا أن نؤكّد هذا المبدأ الرئيسي لنعارض خصومنا الذين كانوا ينكرونه ، ولم يكن لدينا الوقت أو المكان أو الفرصة لنضع العناصر الأخرى التي تتضمنّها العلاقة المتداخلة في مواضعها الحقيقية ) (١)

ـــــــــــــــ

(١) التفسير الاشتراكي للتأريخ : ١١٦ .

١٣٣

٤ ـ النظـرية بتفاصيـلها

حين نأخذ تفاصيل النظرية بالدرس والتمحيص يجب أن نبدأ بالمرحلة الأولى من مراحل التأريخ في رأي الماركسية ، وهي الشيوعية البدائية

[ ١ ـ الشيوعية البدائية ]

فلقد مرّت الإنسانية في عقيدة الماركسيين بدور الشيوعية البدائية في مطلع حياتها الاجتماعية ، وكان هذا الدور يحمل في طيّاته نقيضه وفقاً لقوانين الديالكتيك ، وبعد صراع طويل نما النقيض واشتدّ حتى حطّم الكيان الشيوعي للمجتمع وبرز النقيض منتصراً في ثوب جديد ، وهو النظام العبودي ومجتمع الرقّ ، بدلاً عن نظام الإشاعة ومجتمع المساواة .

هل وجد المجتمع الشيوعي؟

وقبل أن نستوعب تفاصيل هذه المرحلة ، يعترضُ البحثَ سؤالٌ أساسي : ما هو الدليل العلمي على أنّ البشرية مرّت بدور الشيوعية البدائية حقاً ؟ بل كيف يمكن الحصول على هذا الدليل العلمي ما دمنا نتكلّم عن الإنسانية قبل عصور التأريخ المأثور ؟

وقد حاولت الماركسية تذليل هذه الصعوبة وتقديم الدليل العلمي على صحّة فهمها لتلك المرحلة المغمورة من حياة المجتمع البشري ، بالاستناد إلى ملاحظة عدّة مجتمعات معاصرة ، حكمت عليها الماركسية بالبدائية واعتبرتها مادّة علمية للبحث عمّا قبل عصر التأريخ ؛ بوصفها ممثّلة للطفولة الاجتماعية ، ومعبّرة عن نفس الحالة البدائية التي مرّت بها المجتمعات البشرية بصورة عامة ولمّا كانت معلومات الماركسية عن هذا المجتمعات البدائية المعاصرة تؤكّد أنّ الشيوعية البدائية هي الحالة السائدة فيها فيجب ـ إذن ـ أن تكون هي المرحلة الأولى لكلّ المجتمعات البدائية في ظلمات التأريخ وبذلك خيّل للماركسية أنّها وضعت يدها على الدليل المادّي المحسوس .

١٣٤

ولكن يجب أن نعلم ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ الماركسية لم تتلقّ معلوماتها عن تلك المجتمعات البدائية المعاصرة بصورة مباشرة ، وإنّما حصلت عليها عن طريق الأفراد الذين اتّفق لهم الذهاب إلى تلك المجتمعات والتعرّف على خصائصها وليس هذا فقط ، بل إنّها لم تأخذ بعين الاعتبار إلاّ المعلومات التي تتّفق مع نظريّتها العامّة واتّهمت كلّ المعلومات التي تتعارض معها بالتحريف والتزوير ، وبهذا كانت البحوث الماركسية تتّجه إلى انتقاء المعلومات النافعة للنظرية ، وتحكيم النظرية نفسها في تقدير قيمة المعلومات والأخبار التي تُقدَّم عن تلك المجتمعات ، بدلاً عن تحكيم المعلومات في النظرية وامتحان النظرية في ضوئها ونستمع بهذه المناسبة إلى كاتب ماركسي كبير يقول :

( وبالقدر الذي نستطيع أن نتوغّل في الماضي نجد أنّ الإنسان كان يعيش في مجتمعات وممّا يسهّل دراسة المجتمعات البدائية القديمة أنّه ما زالت تسود ظروف اجتماعية بدائية ـ حتى عصرنا هذا ـ بين كثير من الشعوب ، كما هو الحال بالنسبة لبعض السكّان الملوّنين في أفريقيا وبولونيزيا وماليزيا واستراليا ، وهنود أمريكا قبل اكتشافها ، والأسكيمو واللاجئون وأغلب المعلومات الكثيرة التي وصلتنا من هذه المجتمعات البدائية قدّمها رجال البعثات التبشيرية الذين حرّفوا الحقائق عن قصد أو غير قصد )(١)

ولنسلّم أنّ المعلومات التي اعتمدت عليها الماركسية عن تلك المجتمعات المعاصرة هي وحدها المعلومات الصحيحة ، فمن حقّنا بعد ذلك أن نتساءل عن هذه المجتمعات : هل هي مجتمعات بدائية يمكن الاعتماد عليها في تصوير البدائية الاجتماعية ؟ وبالنسبة إلى هذا السؤال الجديد لا تملك الماركسية دليلاً واحداً على بدائية هذه المجتمعات المعاصرة ، بالمعنى العلمي للفظ ، بل إنّ قوانين التطوّر الحتمي للتأريخ التي تؤمن بها الماركسية تقضي بأنّ تلك المجتمعات قد شملتها عملية التطوّر الاجتماعي حتماً ، فالماركسية حين تزعم أنّ الحالة الحاضرة لتلك المجتمعات هي حالتها البدائية تُبطل قوانين التطوّر وتقرر الجمود عبر آلاف السنين !

كيف نفسّر الشيوعية البدائية ؟

ولنترك هذا لنرى الماركسية كيف تفسّر هذه المرحلة الشيوعية المزعومة ، وفقاً لقوانين المادّية التأريخية ؟

ـــــــــــــــ

(١) القوانين الأساسية للاقتصاد الرأسمالي : ١٠ .

١٣٥

إنّ الماركسية تفسّر علاقات الملكيّة الشيوعية في المجتمع البدائي للبشريّةبالدرجة البدائية، التي كانت عليها قوى الإنتاج حينئذ، وظروف الإنتاج السائدة فإنّ الناس كانوا مضطرّين إلى ممارسة الإنتاج بشكل اجتماعي مشترك والتكتّل في وجه الطبيعة ؛ نظراً إلى ما كان عليه الإنسان من ضعفٍ وقلّة حيلة والاشتراك في الإنتاج يحتّم قيام علاقات الملكية الاشتراكية ولا يسمح بفكرة الملكيّة الخاصّة فالملكية إنّما كانت اشتراكية لأنّ الإنتاج اشتراكي ، ويقوم التوزيع بين أفراد المجتمع على أساس المساواة بسبب من ظروف الإنتاج أيضاً ؛ لأنّ المستوى الشديد الانخفاض للقوى المنتجة فرض تقسيم الغذاء الضئيل والسلع البسيطة المنتَجة إلى أجزاء متساوية ، وكان من المستحيل قيام أيّ طريقة أخرى للتقسيم ، لأنّ حصول أحد الأفراد على نصيب يزيد على نصيب الآخرين يعني أن يموت شخص آخر جوعاً (١) .

بهذه الطريقة تفسّر الماركسية شيوعية المجتمع البدائي ، وتشرح أسباب المساواة السائدة فيه ، التي تحدّث عنها(مورغان ) بصدد وصف القبائل البدائية التي شاهدها تعيش في سهول أمريكا الشمالية ، ورآها تقسّم لحوم الحيوانات إلى أجزاء متساوية توزّع على أفراد القبيلة كلّها .

تقول الماركسية هذا في نفس الوقت الذي تناقض ذلك عندما تتحدّث عن أخلاق المجتمع الشيوعي وتمجّد بفضائله ، فتنقل عن (جيمس آديررز ) الذي درس هنود أمريكا في القرن الماضي : أنّ تلك الجماعات البدائية كانت تعتبر عدم تقديم المعونة لمن يحتاجها جريمة كبرى يُحتقر مرتكبها وتنقل عن الباحث (كاتلين ) : أنّ كلّ فرد في القرية الهندية ، رجلاً كان أو امرأة أو طفلاً ، كان له الحقّ في أن يدخل إلى أيّ مسكن من المساكن ويأكل إن كان جائعاً ، بل إنّ أولئك الذين

ـــــــــــــــ

(١) تطوّر الملكية الفردية : ١٤ .

١٣٦

كانوا يعجزون عن العمل ، أو يقعد بهم مجرّد الكسل عن الصيد ، كانوا يستطيعون رغم ذلك أن يدخلوا إلى أيّ منزلٍ يشاؤون ويقتسمون الطعام مع من فيه وبذلك كان الفرد في تلك المجتمعات يحصل على الطعام مهما تهرّب من التزاماته في إنتاج هذا الطعام ، ودون أن يترتب على تهرّبه إلاّ إحساسه بفقدان ملحوظ لهيبته(١) .

وهذه المعلومات التي تتحفنا بها الماركسية عن أخلاق المجتمعات الشيوعية البدائية ، وتقاليدها المتّبعة اجتماعياً ، توضّح أنّ مستوى القوى المنتجة لم يكن منخفضاً إلى الدرجة التي تعني أنّ زيادة نصيب أحد الأفراد من الإنتاج يؤدّي إلى موت شخص آخر جوعاً ، بل كانت توجد وفرة يحصل على شيء منها الضعيف والعاجز وغيرهما ، فلماذا إذن كانت المساواة في التوزيع هي الطريقة الوحيدة الممكنة ؟! وكيف لم يخطر على ذهن أحد فكرة الاستغلال والتلاعب في التوزيع ما دام في الإنتاج وفرة يمكن استغلالها ؟ وإذا كانت قوى الإنتاج تسمح بقيام الاستغلال في تلك المجتمعات فيجب أن نجد سبب عدم ظهوره فيها ماثلاً في درجة وعي الإنسان البدائي وفكره العملي فقد جاءت فكرة الاستغلال عنده كظاهرة متأخّرة لهذا الوعي والفكر العملي ، وكنتيجة لنموّه وزيادة الخبرة الإنسانية بالحياة

وإذا أمكن للماركسية أن تقول ـ أو أمكن لنا أن نقول من وجهة نظرنا ـ : أنّ طريقة المساواة في التوزيع أتت في بادئ الأمر تبعاً لقلّة الإنتاج ، ثمّ تأصّلت وأصبحت عادة فهل نجد في ذلك تفسيراً معقولاً لموقف المجتمع البدائي من الأفراد الكسالى الذين يتركون العمل عن قصد واختيار فيجدون كفايتهم في إنتاج الآخرين، دون أن يتهدّدهم خطر الجوع، والحرمان ؟! فهل الاشتراك الاجتماعي في عمليات الإنتاج يفرض توزيع الإنتاج على غير المشتركين في الإنتاج أيضاً ! وإذا كان البدائيون قد حرصوا أوّل الأمر على طريقة المساواة لئلا يموت أحدهم جوعاً فيخسرون بذلك عوناً في عمليات الإنتاج الجماعي ، فلماذا حرصوا على إعالة الكسالى الذين لا يخسرون بفقدهم شيئاً !

ـــــــــــــــ

(١) تطوّر الملكية الفردية : ١٨ .

١٣٧

ما هو نقيض المجتمع الشيوعي ؟

إنّ المجتمع الشيوعي البدائي منذ ولد كان في رأي الماركسية يخفى في أحشائه تناقضاً أخذ ينمو ويشتد حتى قضى عليه وليس هذا التناقض طبقياً ؛ لأنّ المجتمع الشيوعي طبقة واحدة وليس فيه طبقتان متناقضتان ، وإنّما هو التناقض بين العلاقات الشيوعية في الملكية ، وقوى الإنتاج حين تأخذ بالنمو حتى تصبح العلاقات الشيوعية معيقة لها عن نموّها ، ويكون الإنتاج عندئذ بحاجة إلى علاقات جديدة ، يستطيع أن يواصل نموّه ضمنها

أمّا كيف ولماذا تصبح العلاقات الشيوعية معيقة لقوى الإنتاج عن نموّها ؟ فهذا ما تشرحه الماركسية قائلة : إنّ ارتقاء القوى المنتجة جعل في إمكان الفرد أن ينال من عمله في تربية الماشية والزراعة من وسائل المعيشة ما يزيد عمّا يلزمه للمحافظة على حياته ، وبذلك أصبح الفرد قادراً على الاكتفاء بالعمل في جزء محدود من الوقت لإعاشة نفسه دون أن يبذل كلّ طاقاته العملية ، فكان لا بدّ ـ لكي تجنّد كلّ الطاقات العملية لصالح الإنتاج ، كما تتطلّبه القوى المنتجة في ارتقائها ونموّها ـ أن تُخلق قوّة اجتماعية جديدة تضطرّ المنتجين إلى بذل كلّ طاقاتهم ، وحيث إنّ العلاقات الشيوعية لا يوجد فيها هذه القوّة أصبح من الضروري استبدال تلك العلاقات بالنظام العبودي الذي يتيح للأسياد أن يرغموا العبيد على العمل المتواصل وهكذا نشأ النظام العبودي .

وقد بدأ النظام العبودي أوّل ما بدأ باستعباد الأسرى الذين كانت القبيلة تربحهم في غاراتها ، وقد اعتادت قبلاً أن تقضي عليهم ؛ لأنّها لم تكن تجد مصلحة في إبقائهم وإعالتهم وبعد تطوّر الإنتاج أصبح من المصلحة الاقتصادية للقبيلة استبقاؤهم واسترقاقهم ؛ لأنّهم ينتجون أكثر ممّا يأكلون ، وهكذا تحوّل أسرى الحرب إلى عبيد ونتيجة لإثراء الذين استخدموا العبيد أخذ هؤلاء الأثرياء يستعبدون أعضاء قبيلتهم ، وانقسم المجتمع إلى سادة وعبيد ، واستطاع الإنتاج أن يواصل ارتقاءه خلال هذا الانقسام وبفضل النظام العبودي الجديد .

١٣٨

ونحن إذا دقّقنا في هذا استطعنا أن نتبيّن من خلال التفسير الماركسي نفسه أنّ المسألة هي مسألة الإنسان قبل أن تكون مسألة وسائل الإنتاج ؛ لأنّ نموّ القوى المنتجة لم يكن يتطلّب إلاّ مزيداً من العمل البشري ، وأمّا الطابع الاجتماعي للعمل فليس له علاقة بنموّها ، فكما أنّ العمل الكثير العبودي ينمّي الإنتاج كذلك العمل الكثير الحرّ فلو أنّ أفراد المجتمع قرّروا جميعاً مضاعفة جهودهم في الإنتاج وتقسيم النتاج بعد ذلك بالتساوي ، لضمنوا بذلك للقوى المنتجة نموّها الذي حقّقه المجتمع العبودي ، بل لَنَما الإنتاج كيفيّاً ونوعيّاً أكثر ممّا نما بممارسة العبيد ؛ لأنّ العبد يعمل بيأس ولا يحاول أن يفكّر أو يكسب خبرة في سبيل تحسين الإنتاج ، على العكس من الأحرار المتضامنين في العمل

فنموّ القوى المنتجة ـ إذن ـ لم يكن يتوقّف على الطابع العبودي للعمل ، وإنّما كان يتوقّف على مضاعفة العمل ، فلماذا إذن ضاعف الإنسان الاجتماعي العمل عن طريق تحويل نصف المجتمع إلى عبيد ، ولم يحقّق ذلك عن طريق الاتفاق الحر ـ بين الجميع ـ على مضاعفة العمل ؟! إنّ الجواب على هذا السؤال لا نجده إلاّ في الإنسان نفسه ، وفي ميوله الطبيعية فهو ميال بطبيعته إلى الاقتصاد في العمل ، وسلوك أوفر الطرق راحةً إلى غايته فلا يواجه سبيلين أمامه إلى غاية واحدة إلاّ اختار أقلّهما جهداً وليس هذا الميل الأصيل نتاجاً لوسائل الإنتاج وإنّما هو نَتاج تركيبه الخاص ولذلك ظلّ هذا الميل ثابتاً بالرغم من تطوّر الإنتاج خلال آلاف السنين ، كما أنّه ليس نتاجاً للمجتمع ، بل إنّ تكوّن المجتمع إنّما كان بسبب هذا الميل الطبيعي في الإنسان ؛ إذ رأى أنّ التكتل أقلّ الأساليب جهداً لمقاومة الطبيعة واستثمارها

وهذا الميل الطبيعي هو الذي أوحى إلى الإنسان بفكرة استعباد الآخرين ؛ بصفته أضمن الطرق لراحته وأقلها تكليفاً له وعلى هذا فليست قوى الإنتاج هي التي صنعت للإنسان الاجتماعي النظام العبودي أو دفعته في هذا السبيل ، وإنّما هي التي هيأت له الظروف الملائمة للسير وفقاً لميله الطبيعي فمَثلُها في ذلك نظير من يعطي شخصاً سيفاً فينفّس هذا الشخص عن حقده ويقتل به عدوه فلا يمكننا أن نفسّر حادثة القتل هذه على أساس السيف فحسب ، وإنّما نفسّرها ـ قبل ذلك ـ في ضوء المشاعر الخاصة التي كانت تختلج في نفس القاتل ، إذ لم يكن تسليم السيف إليه يدفعه إلى ارتكاب الجريمة لولا تلك المشاعر التي ينطوي عليها .

١٣٩

ونلاحظ في هذا المجال ، أنّ الماركسية تلتزم الصمت إزاء سبب آخر كان من الطبيعي أن يكون له أثره الكبير في القضاء على الشيوعية وتطوير المجتمع إلى سادة وعبيد ، وهو ما أدّت إليه الشيوعية من ركون الكثرة الكاثرة من أفراد المجتمع إلى الدعة والكسل ، والانصراف عن مواصلة الإنتاج وتنميته ، حتى كتب(لوسكيل ) عن بعض القبائل الهندية يقول :

( إنّهم من الكسل بحيث لا يزرعون شيئاً بأنفسهم ، بل يعتمدون كلّ الاعتماد على احتمال : أنّ غيرهم لن يرفض أن يقاسموه في إنتاجه ولمّا كان النشيط لا يتمتّع من ثمار الأرض بأكثر ممّا يتمتّع الخامل ، فإنّ إنتاجهم يقلّ عاماً بعد عام ) .

فالماركسية لا تشير إلى هذه المضاعفات للشيوعية البدائية ، بصفتها عاملاً في فشلها واختفائها عن مسرح التأريخ ، وقيام الأفراد النشيطين باستعباد الكسالى واستخدامهم في مجالات الإنتاج بالقوّة .

وهذا موقف مفهوم من الماركسية تماماً ، فإنّها لا تعترف بما نجم عن الشيوعية من كسل وخمول شامل ؛ لأنّ ذلك يضع يدنا على الداء الأصيل في الشيوعية الذي يجعلها لا تصلح للإنسان بتركيبه النفسي والعضوي الخاص الذي وجد في إطاره منذ فجر الحياة ، ويبرهن على أنّها لا تصلح للطبيعة الإنسانية ، ويقدّم الدليل على أنّ ما حصل من مضاعفات مشابهة لذلك خلال محاولة الثورة الحديثة في روسيا لتطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً لم يكن نتيجة للأفكار الطبقية والذهنية الرأسمالية المسيطرة على المجتمع كما يدّعي الماركسيون ، وإنّما كانت تعبيراً عن واقع الإنسان ودوافعه ومشاعره الذاتية التي خلقت معه قبل أن تولد الطبقية وتناقضاتها وأفكارها

 [٢ ـ ] المجتمع العبودي

وبتحوّل المجتمع من الشيوعية البدائية إلى مجتمع عبودي تبدأ المرحلة الثانية في المادّية التأريخية وببدئها تولّد الطبقية في المجتمع ، وينشأ التناقض الطبقي بين طبقة السادة وطبقة العبيد ، الأمر الذي قذف المجتمع في أتون الصراع الطبقي لأوّل مرّة في التأريخ ، ولم يزل هذا الصراع قائماً حتى اليوم بأشكال مختلفة تبعاً لنوعية القوى المنتجة ومتطلّباتها

ومن الضروري أن نثير هنا سؤالاً ـ في وجه الماركسية ـ عن هذه الانقسامية الفاصلة في حياة البشرية ، التي قسّمت المجتمع إلى طبقتين : سادة وعبيد ، كيف أعطيت فيها السيادة لأولئك وكتب على هؤلاء الرقّ والعبودية ؟

١٤٠