اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 141709
تحميل: 8007

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141709 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فهل ينطبق هذا الوصف على مفاهيم المادّية التأريخية ، وتفاسيرماركس ؟!

إنّ الماركسية تؤكّد أنّ الانقلاب من مرحلة تأريخية إلى أخرى لا يتمّ إلاّ بشكل ثوري ؛ لأنّالتغيرات الكمّية التدريجية تؤدّي إلى تحوّل دفعي آني . مع أنّ تحوّل اليابان من الإقطاع إلى الرأسمالية تمّ بشكل سلمي وتنازل سادة الإقطاع عن حقوقهم ، فلم يضطرّوا اليابان ـ وهي في طريقها الرأسمالي ـ إلى ثورة كالثورة الفرنسية عام ( ١٧٨٩م ) .

كما أنّ الماركسية تعتبر أنّ كلّ تطوّر لا يتمّ إلاّ من خلال الصراع الطبقي : بين طبقة تقف إلى صفّ التطوّر ، وأخرى تحاول الوقوف في وجهه بينما نرى أن المجتمع الياباني قد وقف بمجموعه إلى جانب حركة التطوّر الصناعي والرأسمالي ، ولم يشذّ عن ذلك حتى سادة الإقطاع أنفسهم فقد آمنوا جميعاً بأنّ حياة البلاد رهن هذه الحركة وتنميتها .

والماركسية ترى ـ كما قرأنا نصوص رأس المال السابقة ـ أنّ التراكم الرأسمالي الذي تقوم الرأسمالية الصناعية على أساسه ، لا يمكن أن يفسّر بطرائق (العزل البريء ) ـ على حدّ تعبير ماركس ـ وإنّما يفسّر بأعمال العنف والغزو وعمليات التجريد والاغتصاب ، مع أنّ الواقع التأريخي لليابان يدلّل على العكس ؛ فلم يحدث التراكم الرأسمالي ولم تنشأ الرأسمالية الصناعية في اليابان نتيجة للغزو والاستعمار أو عمليات تجريد المنتجين من وسائل إنتاجهم ، وإنّما وجدت هذه الحركة بفضل نشاط ساهمت فيه اليابان كلّها ، واستخدمت في تنمية السلطة الحاكمة كلّ نفوذها السياسي ، فظهرت البورجوازية على المسرح الاجتماعي كنتيجة لتلك النشاطات السياسية والفكرية وغيرها ، وليس كقوّة خالقة للجوّ السياسي والفكري الذي يلائمها

١٦١

قوانين المجتمع الرأسمالي :

حين نعرض لقوانين المجتمع الرأسمالي من وجهة نظر المادّية التأريخية نكون بحاجة إلى إبراز الوجه الاقتصادي للماركسية ، الذي لا يتجلّى بملامحه الاقتصادية الكاملة عند تحليل الماركسية لأيّ مرحلة من مراحل التأريخ كما يتجلّى عند دراستها للمرحلة الرأسمالية فقد قامت الماركسية بتحليل المجتمع الرأسمالي وشروطه الاقتصادية ، ودرست قوانينه العامة على أسس المادّية التأريخية ، وانتهت من ذلك إلى التأكيد على ما يكمن في أعماق الرأسمالية من تناقضات ، تتراكم وفقاً للقوانين المادّية التأريخية ، حتى تدفع بالنظام الرأسمالي في النهاية إلى قبره المحتوم في لحظة حاسمة من لحظات التأريخ .

القيمة أساس العمل :

وقد بدأ (ماركس ) دراسته لجوهر المجتمع الرأسمالي وقوانين الاقتصاد السياسي البورجوازي بتحليل القيمة التبادلية ، بوصفها عصب الحياة في المجتمع الرأسمالي ـ كما بدأ غيره من الاقتصاديين الذين عاصروه وسبقوه ـ وجعل من نظريته التحليلية في القيمة حجر الزاوية في بنائه النظري العام ولم يصنعماركس شيئاً أساسياً في مجال تحليل القيمة التبادلية ، وإنّما أخذ بالنظرية التقليدية التي شادها قبله (ريكاردو ) وهي النظرية القائلة : إنّ العمل البشري هو جوهر القيمة التبادلية فالقيمة التبادلية لكلّ منتوج إنساني ، تقدّر على أساس كمية العمل المتجسّد فيه ، وتتفاوت قيم الأشياء بتفاوت العمل المهراق فيها فقيمة السلعة التي يتطلّب إنتاجها ساعة واحدة من العمل تساوي نصف قيمة السلعة التي ينفق عليها في العادة ساعتان من العمل .

وتعتبر هذه النظرية نقطة البدء عند (ريكاردو ) و(ماركس ) معاً في دراستهما التحليلية لهيكل الاقتصاد الرأسمالي فقد جعل كلّ منهما منها القاعدة التي يقوم عليها بناؤه العلمي ولئن كان (ريكاردو ) قد سبق (ماركس ) إلى وضع هذه النظرية في صيغة علمية محدّدة ، فقد سبقهما معاً عدّة مفكرين اقتصاديين وفلسفيين إلى التنويه بها ، كالفيلسوف الإنكليزي (جون لوك ) الذي أشار إلى هذه النظرية في بحوثه ، ثمّ أخذ بها (آدم سميث ) ـ الاقتصادي الكلاسيكي المعروف ـ في حدود ضيّقة ، فاعتبر العمل أساساً للقيمة التبادلية بين الجماعات البدائية ، غير أن (ريكاردو ) كان بحقّ هو الذي أعطى النظرية معنى الشمول والاستيعاب ، وآمن بأنّ العمل هو المصدر العام للقيمة التبادلية ، ثمّ جاء (ماركس ) يسير في طريقه بأسلوبه الخاص

١٦٢

وهذا لا يعني ـ بطبيعة الحال ـ أنّ ماركس لم يصنع شيئاً في حقل هذه النظرية سوى ترديد الصدى الذي تركه(ريكاردو ) ، بل إنّه ـ حين أخذ النظرية منه ـ صاغها في إطاره الفكري الخاص ، فادخل على بعض جوانبها إيضاحات جديدة وضمّنها عناصر ماركسيّة ، وقبل بعض جوانبها الأخرى كما تركها سلفه .

فـ (ريكاردو ) حين آمن بهذه النظرية : (العمل أساس القيمة ) ، أدرك أنّ العمل لا يحدّد القيمة في حالات الاحتكار التي تنعدم فيها المنافسة ؛ إذ إنّ من الممكن في هذه الحالات أن تتضاعف قيمة السلعة المحتكرة وفقاً لقوانين العرض والطلب ، دون أن تزيد كميات العمل المنفقة عليها ولأجل هذا اعتبر المنافسة الكاملة شرطاً أساسياً لتشكل القيمة التبادلية على أساس العمل وهذا ما قاله ماركس أيضاً ، معترفاً بأنّ النظرية لا تنطبق على حالات الاحتكار

ولاحظ (ريكاردو ) أيضاً أنّ العمل البشري يتفاوت في كفايته ، فساعة من عمل الصانع الذكي النشيط لا يمكن أن تساوي ساعة من عمل الصانع البليد البطيء وقد عالج ذلك بافتراض مقياس عام للكفاية الإنتاجية في كلّ مجتمع ، فكلّ كمّية من العمل إنّما تخلق القيمة التي تتناسب معها إذا كانت تتوافق مع ذلك المقياس العام وهذا المقياس نفسه هو الذي عبّر عنهماركس : بكمّية العمل الضرورية اجتماعياً ، إذ قال : إنّ كلّ عمل إنتاجي يخلق قيمة تناسبه إذا أنفق بالطريقة المتعارفة اجتماعياً

١٦٣

ووجد (ريكاردو ) نفسه ـ بعد وضع النظرية ـ مضطراً إلى إبعاد غير العمل من عناصر الإنتاج ـ كالأرض ورأس المال ـ عن عملية تكوين القيمة ، ما دام هو الأساس الوحيد لها ، فجاء لأجل ذلك بنظريته الجديدة في تفسير الريع(١) العقاري ، التي قلب بها المفهوم الاقتصادي السائد عن الريع ، كي يبرهن على أنّ الأرض لا تساهم في تكوين القيمة التبادلية في حالة المنافسة الكاملة فقد كان من عادة الاقتصاديين قبل (ريكاردو ) أن يفسّروا ريع الأرض بأنّه : هبة من الطبيعة تنشأ من اشتراك الأرض مع الجهود الإنسانية في الإنتاج الزراعي ، وبالتالي في تكوين القيمة التبادلية المنتجة وهذا يعني ضمناً : أنّ العمل ليس هو الأساس الوحيد للقيمة فكان من الضروري لريكاردو أن يرفض هذا التفسير للريع وفقاً لنظريته عن القيمة ويأتي بالتفسير الذي ينسجم مع النظرية ، وهذا ما قام به فعلاً ، فقرّر أنّ الريع نتيجة للاحتكار ، ولا يمكن أن يظهر في حالة المنافسة الكاملة فالأشخاص الذين سيطروا على الجزء الأكثر خصباً من الأرض يحصلون على ريع نتيجة لاحتكارهم واضطرار الآخرين إلى استثمار الأراضي الأقل خصباً

وأمّا فيما يتّصل برأس المال فقد ذكر (ريكاردو ) أنّ رأس المال ليس إلاّ عملاً متجمّعاً قد ادّخر مجسّداً في أداة أو مادة لينفق من جديد في سبيل الإنتاج ، فلا مبرر لاعتباره عاملاً مستقلاً في تكوين القيمة التبادلية فالمادة التي بذلت في إنتاجها ساعة من العمل ، ثمّ استهلكت في عملية إنتاج جديدة تعبّر عن عمل ساعة يضاف إلى الكمية الجديدة من العمل التي يتطلّبها الإنتاج الجديد ، وهكذا ينتهيريكاردو إلى أنّ العمل هو الأساس الوحيد للقيمة .

ـــــــــــــــ

(١) راجع ـ لنظرية ( ريكاردو ) في الريع ـ : كتاب أُسس الاقتصاد الحديث : ٣٠٣ ـ ٣٠٦ .

١٦٤

وكان من المنتظر أن يشجب (ريكاردو ) الربح الرأسمالي ما دام رأس المال لا يخلق قيمة تبادلية جديدة ، وما دامت السلعة مدينة في قيمتها التبادلية لعمل العامل فحسب ، غير أنّريكاردو لم يفعل شيئاً من هذا واعتبر من المنطقي أن تباع السلعة بسعر يعود بعائد صاف لمن يملك رأس المال ، وفسّر ذلك بفترة الوقت التي تمضي بين الاستثمار وظهور المنتجات للبيع وبهذا اعترف بالزمن بوصفه عاملاً آخر لتكوين القيمة التبادلية ومن الواضح أنّ هذا يعتبر منريكاردو تراجعاً عن نظريته القائلة : بأنّ العمل هو الأساس الوحيد للقيمة وعجزاً عن الاحتفاظ بالنظرية حتى النهاية(١) .

وأمّاماركس فهو حين عالج عناصر الإنتاج التي تشترك مع العمل في العملية الإنتاجية ، والتي عالجهاريكاردو من قبله أدخل على أفكار سلفه من ناحية شيئاً من التعديل ، وجاء من ناحية أخرى بأفكار جوهرية لها خطرها .

فمن الناحية الأولى : درس الريع العقاري فأقرّ تفسير (ريكاردو ) له ، واستطاع أن يميّز بين الريع التفاضلي الذي تحدّث عنه ريكاردو ، والريع المطلق الذي أثبت عن طريقه : أنّ للأرض بمجموعها ريعاً قائماً على أساس الاحتكار

ـــــــــــــــ

(١) راجع : المشكلة الاقتصادية : ٩٣ .

١٦٥

الطبيعي ، ومحدوديّة مساحة الأرض (١) .

ومن الناحية الثانية : هاجم اعترافريكاردو بمنطقية الربح الرأسمالي وشنّ حملة عنيفة ضدّه ، على أساس نظرية القيمة الفائضة التي تعتبر ـ بحقٍّ ـ الجزء الماركسي الصميم في البناء النظري الذي شادهماركس .

كيف وضع ماركس القاعدة الأساسية لاقتصاده ؟

يبدأ ماركس في استدلاله على جوهر القيمة بالتفرقة بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية فالسرير والملعقة ورغيف الخبز مجموعة من السلع تتضمّن كلّ واحدة منها قيمة استعمالية معيّنة بسبب المنفعة التي تؤدّيها السلعة ، وتختلف قيمها الاستعمالية تبعاً لاختلافها في نوعية المنفعة التي يجنيها الإنسان منها ، ولكلّ واحدة من تلك السلع قيمة من نوع آخر فإنّ السرير الخشبي الذي ينتجه الصانع كما يمكن أن ينام عليه ـ وهذا ما يحدّد قيمته الاستعمالية ـ كذلك يمكنه أن يستبدله بثوب يلبسه ، وهذا يعبّر عن القيمة التبادلية فالثوب والسرير بينما كانا متناقضين في منافعهما وقيمهما الاستعمالية ، نجد أنّهما يشتركان في قيمة تبادلية واحدة ، أي : إنّ كلاً منها يمكن استبداله بالآخر في السوق ؛ لأنّ سريراً خشبياً واحداً يساوي ثوباً حريرياً من نوع معيّن .

وهذه المعادلة تعني أنّه يوجد ثمّة في شيئين مختلفين : السرير والثواب ، شيءٌ مشترك بالرغم من اختلاف منافعهما وموادّهما فالشيئان هما إذن مساويان لشيء ثالث ليس في ذاته سريراً ولا ثوباً وهذا الشيء الثالث لا يمكن أن يكون خاصة طبيعية أو هندسية للبضائع ؛ لأنّ خصائصهما الطبيعية لا تدخل في الحساب إلاّ بقدر ما تمنحها من منفعة استعمالية ، ولمّا كانت القيم والمنافع الاستعمالية في الثوب والسرير مختلفة فيجب أن يكون الشيء الثالث المشترك بينهما أمراً غير القيم الاستعمالية ومقوّماتها الطبيعية ، فإذا أسقطنا من الحساب هذه القيم وطرحنا جميع الخصائص الطبيعية للثوب والسرير لا يبقى بين أيدينا إلاّ الصفة الوحيدة التي تشترك فيها السلعتان ، وهي : العمل البشري فكلّ منهما تجسيد لكمّية خاصة من العمل ، ولمّا كانت الكمّيتان المنفقتان على السرير والثوب متساويتين ، نتج عن ذلك تساويهما في القيمة التبادلية أيضاً .

ـــــــــــــــ

(١) رأس المال ٣ ، القسم الثاني : ١١٨٦ .

١٦٦

وهكذا ينتهي تحليل عملية التبادل إلى :أنّ العمل هو جوهر القيمة التبادلية (١)

ويتحدّد ثمن السلعة في السوق بصورة أساسية طبقاً لقانون القيمة التبادلية هذا ، أي : لكمّية العمل البشري المتجسّد فيها غير أنّ الثمن السوقي لا يطابق مع القيمة التبادلية الطبيعية التي يحدّدها القانون الآنف الذكر إلاّ في حالة معادلة العرض للطلب ومن هنا يمكن لثمن السلعة أن يرتفع عن قيمتها الطبيعية وفقاً لنسبة العرض إلى الطلب فقوانين العرض والطلب تستطيع أن ترفع الثمن أو تخفضه ، أي أن تجعله مناقضاً للقيمة الطبيعية ، ولكنّ القيم الطبيعية للسلع تحدّد بدورها من فعل قوانين العرض والطلب فهي وإن سمحت للسلعة بأن يزيد ثمنها عن قيمتها بسبب قلّة العرض وزيادة الطلب مثلاً ولكنّها لا تسمح لهذا الارتفاع أن يتزايد بشكل غير محدود ، ولذلك نجد أنّ المنديل ـ مثلاً ـ مهما تحكمت فيه قوانين العرض والطلب فهي لا تتمكّن من رفع ثمنه إلى ثمن السيارة وهذه القوّة الكامنة في المنديل التي تجذب الثمن إليها ولا تسمح له بالانطلاق غير المحدود هي القيمة التبادلية.

فالقيمة الطبيعية حقيقة ثابتة من وراء الثمن ، تخلقها كمّيات العمل المتجسّدة في السلع والثمن تعبير سوقي عنها تحدّده القيمة الطبيعية ، وتلعب قوانين العرض والطلب دوراً ثانوياً في خفضه ورفعه وفقاً لحالة المنافسة ونسبة العرض إلى الطلب ومدى وجود الاحتكار في السوق .

ـــــــــــــــ

(١) لاحظ : رأس المال ١ ، القسم الأوّل : ٤٤ ـ ٤٩ .

١٦٧

وقد لاحظماركس ـ و(ريكاردو ) من قبله ـ : أنّ قانون القيمة هذا لا ينطبق على حالات الاحتكار ؛ لأنّ القيمة في هذه الحالات تحدّد وفقاً لقوانين العرض والطلب التي يتحكّم فيها المحتكرون ، وكذلك لا ينطبق أيضاً على بعض ألوان الإنتاج الفني والأثري ، كاللوحة التي تنتجها ريشة فنّان مبدع ، أو الرسالة الخطّية التي يمتدّ تأريخها إلى مئات السنين ، فيكون لها ثمن مرتفع جداً نظراً إلى طابعها الفنّي أو التأريخي ، رغم الضآلة النسبية لكمية العمل الممثّلة فيها .

ولأجل هذا أعلنت الماركسية أنّ قانون القيمة القائم على أساس العمل يتوقّف :

أوّلاً : على توفّر المنافسة التامة ، فلا يسري إلى حالات الاحتكار .

وثانياً : على كون السلعة نتاجاً اجتماعياً يمكن إيجاده عن طريق العمل الاجتماعي دائماً ، فلا يسري القانون على الإنتاج الفردي الخاص كاللوحة الفنّية والرسالة الخطّية

ونودّ أن نشير قبل كلّ شيء إلى ظاهرة خطيرة في التحليل الماركسي لجوهر القيمة ، وهي أنّماركس اتّبع في تحليله واستكشافه لقانون القيمة طريقة تجريدية خالصة بعيداً عن الواقع الخارجي وتجاربه الاقتصادية وهكذا بدا فجأة وقد تقمّص شخصية (أرسطو ) الميتافيزيقية في الاستدلال والتحليل ولهذه الظاهرة سببها الذي اضطرماركس إلى هذا الموقف ؛ لأنّ الحقائق الواضحة عن الحياة الاقتصادية ، تعبّر دائماً عن ظواهر تناقض تماماً النتائج التي تؤدّي إليها النظرية الماركسيّة فإنّ من نتيجة هذه النظرية أنّ الأرباح المكتسبة تختلف من مشروع إلى آخر تبعاً لاختلاف كمّية العمل المأجور المنفق خلال الإنتاج دون أن يكون لكمّية الآلات والأدوات أثر في ذلك ، لأنّها لا تضفي على النتائج أيّة قيمة أكثر ممّا تفقده ، مع أنّ الربح في الحياة الاقتصادية السائدة يزداد كلّما ازدادت الآلات والأدوات التي يتطلّبها المشروع فلم يتمكّن ماركس لأجل هذا من التدليل على نظريته بشواهد من واقع الحياة الاقتصادية ، فحاول أن يبرهن عليها بصورة تجريدية ، حتى إذا أكمل مهمّته هذه جاء إلى النتائج المقلوبة في واقع الحياة الاقتصادية ليؤكّد أنّها لم توجد مقلوبة نتيجة لخطأ النظرية التي يؤمن بها ، وإنّما هي مظهر من مظاهر المجتمع الرأسمالي ، الذي يضطر المجتمع إلى الانحراف عن قانون القيمة الطبيعي والتكيف وفقاً لقوانين العرض والطلب(١) .

ـــــــــــــــ

(١) رأس المال ٣ ، القسم الثاني : ١١٨٥ .

١٦٨

نقد القاعدة الأساسية للاقتصاد الماركسي :

والآن فلنفحص قانون القيمة عندماركس في ضوء الدليل الذي قدّمه عليه

يبدأ ماركس في دليله ـ كما رأينا ـ من تحليل عملية التبادل ( تبادل السرير الخشبي بثوبٍ من حرير مثلاً ) ، فيرى أنّ هذه العملية تعبّر عن مساواة السرير للثوب في القيمة التبادلية ، ثمّ يتساءل : لماذا كان السرير والثوب متساويين في القيمة التبادلية ؟ ويجيب أنّ السبب في ذلك اشتراكهما في أمر واحد موجود فيهما بدرجة واحدة ، وليس هذا الأمر المشترك بين الثوب والسرير إلاّ العمل المتجسّد فيهما ، دون المنافع والخصائص الطبيعية التي يختلف فيها السرير عن الثوب ، فالعمل هو إذن جوهر القيمة

ولكن ماذا تقول الماركسية لو اصطنعنا نفس هذه الطريقة التحليلية ، في عملية تبادل بين إنتاج اجتماعي وإنتاج فردي ؟ أفليس للخط الأثري ـ وهو ما تسمّيه الماركسية بالإنتاج الفردي ـ قيمة تبادلية ؟! أوَليس من الممكن استبداله في السوق بنقد أو كتاب أو بأي مال آخر ؟! ، فإذا استبدلناه بنتاج اجتماعي كنسخة مطبوعة من تأريخ الكامل مثلاً ، كان معنى ذلك أنّ صفحة الخط الأثري مثلاً ، تساوي قيمتها التبادلية نسخة من تأريخ الكامل فلنفتّش هنا عن الأمر المشترك الذي أملى على السلعتين قيمة تبادلية واحدة ، كما فتّشت الماركسيّة عن الأمر المشترك بين السرير والثوب ، فكما كان يجب أن تكون القيمة التبادلية الواحدة للسرير والثوب تعبيراً عن صفحة مشتركة بينهما ( وهي في رأي الماركسية كمّية العمل المنفقة فيهما ) كذلك أيضاً تعبّر القيمة التبادلية الواحدة للخط الأثري ونسخة من تأريخ الكامل عن الأمر المشترك ، فهل يمكن أن يكون هذا الأمر المشترك هو كمّية العمل المنفقة عليهما ؟! كلاّ طبعاً ؛ فإنّنا نعلم أنّ العمل المتجسّد في الخطّ الأثري أقلّ كثيراً من العمل المتجسّد في نسخة مطبوعة من تأريخ الكامل بورقه وجلده وحبره وطباعته ، ولأجل هذا استثنت السلع الفنية والأثرية من قانون القيمة

١٦٩

ولسنا نؤاخذ الماركسية على هذا الاستثناء ؛ لأنّ لكلّ قانون من قوانين الطبيعة شروطه واستثناءاته الخاصة ، ولكنّنا نطالبها ـ على هذا الأساس ـ بتفسير الأمر المشترك بين الخطّ الأثري ونسخة من تأريخ الكامل ، اللذين تمّ التبادل بينهما في السوق كما يتمّ التبادل بين السرير والثوب فإن كان من الضروري أن يوجد من وراء المساواة في عملية التبادل أمر مشترك بين السلعتين المتساويتين في قيمتها ، فما هو هذا الأمر المشترك بين الخطّ الأثري ونسخة من تأريخ الكامل ، هاتين السلعتين المختلفتين في كمّية العمل المكتنز فيهما وفي نوعية المنفعة وشتى الخصائص ؟! أفلا يبرهن هذا على أنّ هناك أمراً مشتركاً بين السلع التي يجري بينها التبادل في السوق غير العمل المتجسّد فيها ، وأنّ هذا الأمر المشترك موجود في السلع المنتجة إنتاجاً فردياً كما يوجد في السلع التي تحمل طابع الإنتاج الاجتماعي ؟!

وإذا كان يوجد أمر مشترك بين جميع السلع بالرغم من اختلافها في كمّيات العمل المنفقة عليها ، وفي طابع العمل من ناحية كونه فردياً أو اجتماعياً ، واختلافهما أيضاً في المنافع والخصائص الطبيعية والهندسية ، إذا كان يوجد مثل هذا الأمر المشترك العام حقاً ، فلماذا لا يكون هو المصدر الأساسي للقيمة التبادلية وجوهرها الداخلي ؟!.

وهكذا نجد أنّ الطريقة التحليلية التي اتخذهاماركس تتوقّف به في منتصف الطريق ولا تسمح له بمواصلة استنتاجاته ، ما دامت كمّيات العمل المتجسّد في السلع قد تختلف اختلافا كبيراً مع مساواة بعضها لبعض في القيمة التبادلية فليست كمّيات العمل المتساوية هي السرّ الكامن وراء المساواة في عمليات التبادل

فما هو هذا السر الكامن إذن ؟

ما هو هذا الأمر المشترك بين الثوب والسرير ، والخطّ الأثري والنسخة المطبوعة من تأريخ الكامل ، الذي يحدّد لكلّ واحدة من هذه السلع قيمتها التبادلية تبعاً لنصيبها منه ؟

وفي رأينا هناك مشكلة أخرى تواجه قانون القيمة عندماركس لا يمكن للقانون أن يتغلّب عليها ؛ لأنّها تعبّر عن تناقض هذا القانون مع الواقع الطبيعي الذي يعيشه الناس مهما كان الطابع المذهبي والسياسي لهذا الواقع ، فلا يمكن أن يكون هذا القانون تفسيراً علمياً للواقع الذي يناقضه

١٧٠

ولنأخذ الأرض مثالاً لهذا التناقض بين القانون والواقع ، فالأرض تصلح ـ دون شكّ ـ لإنتاج عدد كبير من الحاصلات الزراعية ، أي لعدد كبير من الاستعمالات البديلة ، فيمكن أن تستعمل الأرض في زراعة الحنطة ، كما يمكن أن تستخدم ـ بدلاً عن الحنطة ـ في إنتاج القطن والرزّ ، وهكذا ومن الواضح أنّ الأرضي ليست متشابهة في كفاءتها الطبيعية ، فهناك من الأراضي ما يكون أكثر كفاءة في فرع معيّن من فروع الإنتاج الزراعي كإنتاج الرز مثلاً وهناك ما هو أكثر كفاءة لزراعة الحنطة أو القطن وهكذا تتمتّع كلّ أرضٍ باستعداد طبيعي يرشّحها لفرع معيّن من فروع الإنتاج ويعني هذا أنّ كمّية من العمل إذا أنفقت على زراعة الأرض في حالة تقسيمها على فروع الإنتاج الزراعي تقسيماً صحيحاً ، واستخدام كلّ أرض فيما هي أصلح له تنتج مقادير مهمّة من الحنطة والرزّ والقطن ، بينما لو صرفت نفس تلك الكمّية المعيّنة من العمل الاجتماعي في حالة توزيع سيء للأرض على فروع الإنتاج واستخدام كلّ أرض في غير ما هي أجدر به لَمَا أمكن الحصول إلاّ على جزء من تلك المقادير المهمّة فهل نستطيع أن نتصوّر أنّ هذا الجزء من الحنطة مثلاً ، يساوي ـ من الناحية التبادلية ـ ذلك المقدار المضاعف الذي ينتج في حالة توزيع الأرض ـ على فروع الإنتاج ـ توزيعاً صحيحاً ، لا لشيءٍ إلاّ لأنّه يساويه في كمّية العمل الاجتماعي المتجسّد فيه ؟! وهل يسمح الاتحاد السوفييتي ـ القائم على أساس ماركسي ـ لنفسه أن يساوي في التبادل بين هاتين الكمّيتين المختلفتين ، بوصفهما تعبيراً عن كمّية واحدة من العمل الاجتماعي .

إنّ الاتحاد السوفييتي ، وأيّ دولة أخرى في العالم ، تدرك عملياً ـ دون شك ـ مدى الخسارة التي تحيق بها من جراء عدم استخدام كلّ أرض فيما هي أكثر صلاحية له .

١٧١

وهكذا نعرف أنّ الكمّية الواحدة من العمل الزراعي قد تنتج قيمتين مختلفتين ، تبعاً للطريقة المتبّعة في تقسيمها على الأراضي المتنوّعة ومن الواضح ـ في ضوء ذلك ـ أنّ القيمة المضاعفة التي تحصل من استخدام كلّ أرض فيما هي أكثر صلاحية له ليست نتيجة للطاقة التي أنفقت في الإنتاج ، لأنّ الطاقة هي الطاقة لا تتغيّر ، سواء زرعت كلّ أرض بما هي أصلح له أم زرعت بغيره ، وإنّما هي ـ القيمة المضاعفة ـ مدينة للدور الإيجابي الذي تلعبه الأرض نفسها في تنمية الإنتاج وتحسينه(١) .

ـــــــــــــــ

(١) ويمكن للماركسية أن تقرّر ـ بصدد الدفاع عن وجهة نظرها ـ : أنّ الكيلو من القطن مثلاً إذا كان يتطلب إنتاجه ساعة من العمل في بعض الأراضي وساعتين من العمل في البعض الآخر ، فلا بدّ من أخذ المعدّل لمعرفة العمل المتوسط اللازم اجتماعيا لإنتاج كيلو من القطن ، وهو ـ في مثالنا ـ ساعة ونصف ، فيصبح الكيلو من القطن تعبيراً عن ساعة ونصف من العمل الاجتماعي المتوسّط ، وتحدّد قيمته وفقاً لذلك ، ويكون عمل ساعة في الأرض الأكثر كفاية منتجاً لقيمة أضخم من القيمة التي ينتجها عمل ساعة في الأرض الأخرى ؛ لأنّ العملين وإن كانا متساويين من ناحية شخصية ولكن كمّية العمل الاجتماعي المتوسّط المتضمّنة في أحدهما أكبر منها في الآخر ؛ لأنّ عمل ساعة في الأرض الخصبة يساوي ساعة ونصف من العمل الاجتماعي المتوسّط ، وأمّا عمل ساعة في الأرض الأخرى فهو يعادل ثلاثة أرباع ساعة من العمل المتوسط اجتماعياً فمردّ الفرق بين النتاجين في القيمة التبادلية هو اختلاف العملين نفسيهما في كمّية العمل الاجتماعي المتوسط المتضمّن في كلّ منهما .

ولكنّنا بدورنا نتساءل : أنّ عمل ساعة في الأرض الأكثر كفاءة لزراعة القطن كيف أصبح أكبر من نفسه ؟ وبقدرة أيّ قادر أضيفت إليه نصف ساعة من العمل فأصبح يساوي عمل ساعة ونصف ؟! إنّ هذه النصف ساعة من العمل التي دسّت نفسها بطريقة سحرية في عمل ساعة ونصف فصيّرته أكبر من نفسه ، ليست إنتاجا إنسانيا ، و لا تعبيراً عن طاقة منفقة في سبيلها ـ لأنّ الإنسان لم يصرف في استخدام الأرض الأكثر كفاءة ذرّة من طاقة أكثر ممّا يصرف في استخدام الأرض الأقل كفاءة ـ وإنّما هو نتاج الأرض الخصبة نفسها ، فخصب الأرض هو الذي قام بالعمل السحري ، فمنح مجّاناً نصف ساعة من العمل الاجتماعي للعامل .

فإذا كانت نصف الساعة هذه تدخل في حساب القيمة التبادلية للإنتاج كان معنى ذلك أنّ الأرض ـ بقدرتها على تمديد ساعة من العمل ومنحها قوّة ساعة ونصف ـ ذات دور إيجابي في تكوين القيمة التبادلية ، وليس العمل الإنتاجي من المنتج هو وحده جوهر القيمة ومصدرها .

وإمّا إذا لم تدخل نصف الساعة السحرية في حساب القيمة ، وتحدّدت القيمة وفقاً للعمل الذي قدّمه الإنسان فحسب كان معنى ذلك أنّ القطن الناتج عن عمل ساعة في الأرض الأكثر كفاءة له يساوي القطن الناتج عن عمل ساعة في الأرض الأقلّ كفاءة ، وبمعنى آخر : أنّ كيلو من القطن يساوي نصف كيلو منه ( المؤلّف قدّس سرّه ) .

١٧٢

وهكذا نواجه السؤال السابق نفسه مرّة أخرى : ما هو المحتوى الحقيقي للقيمة التبادلية الذي تلعب الطبيعة دوراً في تكوينه ، كما يلعب العمل الإنتاجي دوره الخطير في ذلك ؟

وظاهرة أخرى لا تستطيع الماركسية أن تفسّرها ، على ضوء قانونها الخاص في القيمة ، بالرغم من وجودها في كلّ مجتمع ، وهي : انخفاض القيمة التبادلية للسلعة تبعاً لانخفاض الرغبة الاجتماعية فيها : فكلّ سلعة إذا تضاءلت الرغبة فيها ولم يعد المجتمع يؤمن بمنفعة مهمّة لها تفقد ـ بسبب ذلك ـ جزءاً من قيمتها التبادلية ، سواء كان هذا التحوّل ـ في رغبات المجتمع ـ نتيجة عامل سياسي أو ديني أو فكري أو أيّ عاملٍ آخر ، وهكذا تتضاءل قيمة السلعة بالرغم من احتفاظها بنفس الكمّية من العمل الاجتماعي ، وبقاء ظروف إنتاجها كما هي دون تغيير وهذا يبرهن بوضوح على أنّ للدرجة التي تتيحها السلعة من الانتفاع وإشباع الحاجات أثراً في تكوين القيمة التبادلية فمن الخطأ أن تعتبر نوعية القيمة الاستعمالية ودرجة الانتفاع بالسلعة كمّية مهملة ، كما تقرّر الماركسية

والماركسية حين تتغاضى عن هذه الظاهرة وتحاول تفسيرها في ضوء قوانين العرض والطلب تؤكّد على ظاهرة أخرى ، بوصفها تعبيراً واقعياً عن قانونها في القيمة ، وهي : أنّ القيمة التبادلية تتناسب طردياً مع كمّية العمل المتجسّد في السلعة فإذا ساءت ظروف الإنتاج وتطلّب عملاً مضاعفاً في سبيل إنتاج السلعة تضاعفت قيمتها التبادلية تبعاً لذلك وإذا اتفق عكس هذا فتحسّنت ظروف الإنتاج وأصبح من الممكن الاكتفاء بنصف الكمّية السابقة من العمل الاجتماعي في إنتاج السلع انخفضت قيمة السلعة بدورها إلى النصف أيضاً

وهذه الظاهرة وإن كانت حقيقة واضحة في مجرى الحياة الاقتصادية ولكنّها لا تبرهن على صحّة قانون القيمة عند الماركسية ؛ إذ كما يمكن لهذا القانون أن يفسّر هذا التناسب بين القيمة وكمّية العمل ، كذلك يمكن تفسيره في ضوء آخر أيضاً فإنّ ظروف إنتاج الورق مثلاً إذا ساءت وتطلّب إنتاجه كمّية مضاعفة من العمل انخفضت كمّية الورق المنتجة اجتماعياً إلى النصف ـ في حالة بقاء مجموع العمل الاجتماعي المنفق على إنتاج الورق بنفس الكمّية السابقة ـ وحين تنخفض كمية الورق المنتج إلى النصف يصبح أكثر ندرة ، وتزداد الرغبة فيه ، وترتفع منفعته الحدّية .

١٧٣

وإذا حدث العكس ، فانخفضت كمّية العمل التي يتطلّبها إنتاج الورق إلى النصف فسوف تتضاعف كمّية الورق التي ينتجها المجتمع ـ في حالة بقاء مجموع العمل الاجتماعي المنفق على إنتاج الورق بنفس الكمّية السابقة ـ وتهبط منفعة الحدّية ، وتقل ندرته نسبياً ، وبالتالي تنخفض قيمته التبادلية وما دام من الممكن تفسير الظاهرة في ضوء عامل الندرة ، أو المنفعة الحدّية ، كما يمكن تفسيرها على أساس القانون الماركسي في القيمة فلا يمكن أن تعتبر دليلاً علمياً من واقع الحياة على صحّة هذا القانون دون سواه من الفرضيات

والعمل ـ بعد هذا كلّه ـ عنصر غير متجانس يضمّ وحدات من الجهود مختلفة في أهمّيتها ومتفاوتة في درجتها وقيمتها فهناك العمل الفنّي الذي يتوقّف على خبرة خاصة ، والعمل البسيط الذي لا يحتاج إلى الخبرة العلمية والفنية فساعة من عمل الحمّال تختلف عن ساعة من عمل المهندس المعماري ، ونهار من عمل الصانع الفنّي الذي يبذله لإنتاج محرّكات كهربائية يختلف ـ تمام الاختلاف ـ عن عمل العامل الذي يحفر السواقي الصغيرة في الحديقة

وهناك أيضاً العوامل الذاتية الكثيرة التي تؤثّر على العمل ـ باعتباره صفة إنسانية ـ فتحدّد أهمّية ودرجة كفايته ، كما تحدّد الجهد النفسي والعضوي الذي يتطلّبه فالاستعداد الطبيعي العضوي والذهني للعامل ، ومدى رغبته في النبوغ والتفوّق على الآخرين ، ونوعية ما يختلج في نفسه من عاطفة بالنسبة إلى العمل ، يجعله يُقبل عليه مهمّا بلغت مشقّته أو يعرض عنه مهما خفّ عبؤه ، وما يشعر به من حيف وحرمان ، أو ما ينعم به من حوافز تدفعه إلى التفنّن والإبداع ، وما تحيط به من ظروف تدعه فريسة لعوامل السأم والضجر ، أو تبعث في نفسه شيئاً من قوّة الأمل والرجاء كلّ هذه الأمور تعتبر من العوامل التي تؤثّر على نوعية العمل وتحدّد قيمته .

فمن الخطأ أن تقاس الأعمال قياساً كمّياً عددياً فحسب ، وإنّما هي بحاجة إلى قياس نوعي وصفي أيضاً ، يحدّد نوعية العمل المقاس ومدى تأثّره بتلك العوامل فساعة من العمل في ظل شروط نفسية ملائمة ، أكثر كفاية في إنتاجها من ساعة عمل في ظلّ شروط معاكسة فكما يجب أن نقيس كمّية العمل ـ وهذا هو العنصر الموضوعي في المقياس ـ كذلك يجب أن نقيس أيضاً نوعية العمل وأوصافه في ضوء العوامل النفسية المختلفة التي تؤثّر فيه ، وهذا هو العنصر الذاتي في المقياس

ومن الواضح أنّا إذا كنا نملك دقائق الساعة بوصفه مقياساً للعنصر الموضوعي وضبط كمّية العمل ، فلا نملك مقياساً نقيس به العنصر الذاتي للعمل ونوعيته وأوصافه التي تُحدّد طبقاً له

١٧٤

فبِمَ تتخلّص الماركسية من هاتين المشكلتين : مشكلة قياس عامّ للكمّيات الفنّية وغير الفنّية من العمل ، ومشكلة قياس نوعي لكفاية العمل وفقاً للمؤثّرات النفسية والعضوية والذهنية التي تختلف بين عامل وآخر ؟

أمّا المشكلة الأولى فقد حاولت الماركسية حلّها عن طريق تقسيم العمل إلى : بسيطٍ ومركبفالعمل البسيط هو الجهد الذي يعبّر عن طريق القوّة الطبيعية التي يملكها كلّ إنسان سَوي ، بدون تنمية خاصة لجهازه العضوي والذهني ، كعمل الحمّالوالعمل المركب هو : العمل الذي تستخدم فيه الإمكانات والخبرة التي اكتسبت عن طريق عمل سابق ، كأعمال المهندس والطبيب فالمقياس العام للقيمة التبادلية هو العمل البسيط ولمّا كان العمل المركب عملاً بسيطاً مضاعفاً ، فهو يخلق قيمة تبادلية أكبر ممّا يخلقه العمل البسيط المجرّد فالعمل في أسبوع الذي ينفقه المهندس الكهربائي على صنع جهاز كهربائي خاص أضخم من عمل أسبوع ينفقه الحمّال على حمل الأثقال ؛ نظراً إلى ما يتضمّنه عمل المهندس من جهد وعمل سابق بذل في سبيل اكتساب الخبرة الهندسية الخاصة

ولكن هل يمكن أن نفسّر الفرق بين العمل الفنّي وغيره على هذا الأساس ؟

إنّ هذا التفسير الماركسي للتفاوت بين عمل المهندس الكهربائي وعمل العامل البسيط يعني : أنّ المهندس الكهربائي إذا أنفق عشرين سنة مثلاً ، في سبيل الظفر بدرجة علمية وخبرة فنّية في الهندسة الكهربائية ومارس العمل بعد ذلك عشرين سنة أخرى يحصل على قيمة لمجموع نتاجه الذي أنجزه خلال العقدين تساوي القيمة التي يخلقها الحمّال عن طريق مشاركته في الإنتاج بحمل الإثقال خلال أربعة عقود ، وبمعنى آخر : أنّ يومين من عمل الحمّال الذي يساهم في الإنتاج بطريقته الخاصة تعادل يوماً واحداً من عمل المهندس الكهربائي ؛ لما يتضمّنه هذا اليوم من عمل دراسي سابق فهل هذا هو الواقع الذي نشاهده في مجرى الحياة الاقتصادية ؟ أو هل يمكن لأيّ سوق أو دولة الموافقة على مبادلة إنتاج يومين من عمل العامل البسيط بنتاج يوم واحد من عمل المهندس الكهربائي ؟!

١٧٥

ولا شكّ أن من حسن حظ الاتحاد السوفييتي أنّه لا يفكّر في الأخذ بالنظرية الماركسية عن العمل البسيط والمركب ، وإلاّ لمُني بالدمار إذا أعلن : استعداده لإعطاء مهندس في مقابل كلّ عاملين بسيطين ولذلك نجد أنّ العامل الفنّي في روسيا قد يزيد راتبه على راتب العامل البسيط بعشرة أضعاف أو أكثر ، بالرغم من أنّه لم يقض تسعة أضعاف عمر العامل البسيط في الدراسة ، وبالرغم من توفّر الكفاءات الفنّية في روسيا بالكمّية المطلوبة ، كتوفّر القوى العاملة البسيطة كذلك فمرّد الفرق ـ إذن ـ إلى قانون القيمة وليس إلى ظروف العرض والطلب ، وهو فرق كبير لا يكفي لتفسيره إدخال العمل السابق في تكوين القيمة .

وأمّا المشكلة الثانية ( مشكلة قياس نوعي لكفاية العمل وفقاً للمؤثّرات النفسية والعضوية والذهنية التي تختلف بين عامل وآخر ) فقد تخلّصت عنها الماركسية بأخذ المعدّل الاجتماعي للعمل مقياساً للقيمة فقد كتبماركس يقول :

( إنّ الوقت الضروري اجتماعياً لإنتاج البضائع هو الوقت الذي يقتضيه كلّ عمل يجري إنتاجه بدرجة وسطية من المهارة والقوّة وفي شروط اعتيادية طبيعية بالنسبة إلى البيئة الاجتماعية المعينة إذن ، فكمّية العمل وحدها أو وقت العمل الضروري في مجتمع معيّن لإنتاج صنف ما هي التي تحدّد كمّية القيمة وكلّ بضاعة خاصة تعتبر ـ بصورة عامة ـ بمثابة نسخة وسطية عن نوعها ) (١) .

وعلى هذا الأساس ، إذا كان العامل المنتج يتمتّع بشروط ترفعه عن الدرجة الوسيطة اجتماعياً يصبح بإمكانه أن يخلق لبضاعته خلال عمل ساعة قيمة أرقى من القيمة التي يخلقها العامل الوسطي خلال تلك الساعة ؛ لأنّ ساعة من عمله تفوق ساعة من معدل العمل الاجتماعي للعمل فالمعدل الاجتماعي للعمل ، ولمختلف العوامل المؤثّرة فيه ، هو المقياس العام للقيمة .

والخطأ الذي ترتكبه الماركسية بهذا الصدد هو أنّها تدرس المسألة دائماً بوصفها مسألة كمّية فالشروط العالية التي تتهيأ للعامل ليست ـ في نظر الماركسية ـ إلاّ عوامل تساعد العامل على إنتاج كمّية أكبر في وقت أقصر ، فتصبح الكمّية التي ينتجها في ساعة أوفر من الكمّية المنتجة في ساعة من معدل العمل الاجتماعي ، وبالتالي أكثر قيمة منها بينما ينتج هذا العامل مترين من النسيج في

ـــــــــــــــ

(١) رأس المال ١ ، القسم الأوّل : ٤٩ ـ ٥٠ .

١٧٦

ساعة واحدة، ينتج العامل الوسطي خلال تلك الساعة متراً واحداً فقط فيكون للمترين ضعفا قيمة هذا المتر الواحد ؛ لأنّهما يعبّران عن ساعتين من العمل الاجتماعي العام وإن تمّ إنتاجهما في الواقع بساعة واحدة من العمل الممتاز .

ولكنّ الشيء الجدير بالملاحظة هو أنّ الشروط الذهنية والعضوية والنفسية التي لا يتمتّع بها العامل الوسطي لا تعني دائماً زيادة كمية في منتوج العامل الذي يحظى بتلك الشروط ، بل قد تعني أحياناً امتيازاً كيفياً في السلعة المنتجة كما إذا كان هناك رسّامان تستغرق عملية التصوير عند كلّ منهما ساعة ولكن الاستعداد الطبيعي عند أحدهما يجعل الصورة التي يرسمها أروع من الصورة الأخرى فالمسألة هنا ليست مسألة إنتاج كمّية أضخم في وقت أقصر ، بل الذي لا يملك تلك الموهبة الطبيعية لا يستطيع أن يأتي بنظير تلك الصورة ولو ضاعف الوقت الذي ينفقه على عملية التصوير فلا نستطيع إذن القول : بأنّ الصورة الأكثر روعة تعبّر عن ساعتين من العمل الاجتماعي العام ، فإنّ ساعتين من العمل الاجتماعي العام لا تكفي أيضاً لإنتاج هذه الصورة التي أبدعها الرسّام الموهوب بفضل استعداده الطبيعي

وهنا نصل إلى النقطة الأساسية في شأن هاتين الصورتين ، وهي : أنّهما تختلفان في قيمتهما دون شكّ في كلّ سوق مهما كانت طبيعته السياسية ، ومهما كانت نسبة العرض فيه إلى الطلب ، فإنّ أحداً لا يقبل أن يستبدل الصورة الرائعة بالصورة الأخرى ولو كان الطلب والعرض متعادلين ، وهذا يعني : أنّ الصورة الرائعة تستمدّ قيمتها من عنصر لا يوجد في الصورة الأخرى ، وليس هذا العنصر هو كمّية العمل ؛ لأنّ روعة الصورة ـ كما عرفنا ـ لا تعبّر عن عمل كمّي زائد ، وإنّما تعبّر عن نوعية العمل المنفق على إنتاجها فلا يكفي إذن المقياس الكمّي للعمل ـ أو دقائق الساعة بتعبير آخر ـ لضبط قيمة السلع التي تتجسّد فيها تلك الكمّيات المختلفة من العمل فليس من الممكن أن نجد دائماً في كمّية العمل الفردي أو الاجتماعي تفسيراً لتفاوت السلع في قيمتها التبادلية ، لأنّ مردّ هذا التفاوت أحياناً إلى الكيف لا إلى الكم ، إلى الصفة والنوعية لا إلى عدد ساعات العمل .

هذه بعض الصعوبات العلمية التي تعترض طريقماركس ، وتبرهن على عدم كفاية القانون الماركسي لتفسير القيمة التبادلية ولكنماركس ـ بالرغم من كلّ هذه الصعاب ـ وجد نفسه مضطرّاً إلى قانونه هذا ، كما يبدو بكلّ وضوح من تحليله النظري للقيمة الذي استعرضناه في مستهلّ هذا البحث ؛ لأنّه حين حاول أن يستكشف الأمر المشترك بين السلعتين المختلفتين كالسرير والثوب

١٧٧

أسقط من الحساب المنفعة الاستعمالية وجميع الخصائص الطبيعية والرياضية ؛ لأنّ السرير يختلف عن الثوب في منفعته وخصائصه الفيزيائية والهندسية ، وبدا له ـ عندئذٍ ـ أنّ الشيء الوحيد الذي ظلّ مشتركاً بين السلعتين هو العمل البشري المنفق خلال إنتاجهما .

وهنا يكمن الخطأ الأساسي في التحليل ، فإنّ السلعتين المعروضتين في السوق بثمنٍ واحد وإن كانتا مختلفتين في منفعتهما وفي خصائصهما الفيزيائية والكيميائية والهندسية ولكنّهما بالرغم من ذلك مشتركتان في صفة سيكولوجية موجودة بدرجة واحدة فيهما معاً ، وهي الرغبة الإنسانية في الحصول على هذه السلعة وتلك فهناك رغبة اجتماعية في السرير ورغبة اجتماعية في الثوب ، ومردّ هاتين الرغبتين إلى المنفعة الاستعمالية التي يتمتّع بها السرير والثوب فهما وإن كانا مختلفين في نوعية المنفعة التي يؤدّيها كلّ منها ولكنّهما يشتركان في نتيجة واحدة ، وهي الرغبة الإنسانية وليس من الضروري ـ في ضوء هذا العنصر المشترك ـ أن يعتبر العمل أساساً للقيمة بوصفه الأمر المشترك الوحيد بين السلع المتبادلة كما زعمت الماركسيّة ، ما دمنا قد وجدنا أمراً مشتركاً بين السلعتين غير العمل المنفق على إنتاجهما

وبذلك ينهار الاستدلال الرئيسي الذي قدّمه لناماركس على قانونه ، ويصبح من الممكن أن تحلّ الصفة السيكولوجية المشتركة موضع العمل وتُتّخذ مقياساً للقيمة ومصدراً لها وعندئذٍ فقط يمكننا أن نتخلّص من الصعوبات السابقة التي اعترضتماركس ، وأنّ نفسّر ـ في ضوء هذا العنصر الجديد المشترك ـ الظواهر التي عجز قانون القيمة الماركسي عن تفسيرها فالخطّ الأثري والنسخة المطبوعة من تأريخ الكامل اللذان كنا نفتّش عن الأمر المشترك بينهما فلم نجده في العمل لاختلاف كمّية العمل المنفقة فيهما سوف نجد الأمر المشترك بينهما الذي يفسّر قيمتهما التبادلية في هذا المقياس السيكولوجي الجديد فالخط الأثري والنسخة المطبوعة من تأريخ الكامل إنّما يتمتّعان بقيمة تبادلية واحدة ؛ لأنّ الرغبة الاجتماعية موجودة فيهما بدرجة متساوية .

وكذلك تذوب سائر المشاكل الأخرى في ضوء هذا المقياس الجديد ، ولمّا كانت الرغبة في السلعة ناتجة عن منفعتها الاستعمالية فلا يمكن إذن أن نسقط المنافع الاستعمالية من حساب القيمة ، ولذلك نجد أنّ السلعة التي ليس لها منفعة لا تملك قيمة تبادلية إطلاقاً مهما أُنفق على إنتاجها من عمل وقد اعترفماركس نفسه بهذه الحقيقة ولكنّه لم يوضح لنا ـ ولم يكن من الممكن له أن يوضح ـ سرّ هذا الترابط بين المنفعة الإستعمالية والقيمة التبادلية ، وكيف دخلت المنفعة الاستعمالية في عملية

١٧٨

تكوين القيمة التبادلية مع أنّه أسقطها منذ البدء لأنّها تختلف من سلعة لأخرى ؟! وأمّا في ضوء المقياس السيكولوجي فالترابط بين المنفعة والقيمة واضح تماماً ما دامت المنفعة هي أساس الرغبة والرغبة هي مقياس القيمة ومصدرها العام .

والمنفعة الاستعمالية وإن كانت الأساس الرئيسي للرغبة ولكنّها لا تنفرد بتحديد الرغبة في الشيء ، فإنّ درجة الرغبة ـ في أيّ سلعة كانت ـ تتناسبطرداً مع أهمية المنفعة التي تؤدّيها السلعة ، فكلّما كانت السلعة أعظم منفعةً كانت الرغبة فيها أكثر وتتناسب درجة الرغبة عكسياً مع مدى إمكانية الحصول على السلعة ، فكلّما توفّرت إمكانات الحصول على السلعة أكثر تنخفض درجة الرغبة في السلعة وبالتالي تهبط قيمتها ومن الواضح أنّ إمكانية الحصول على السلعة تتبع الندرة والكثرة ، فقد يكون الشيء كثيراً ومتوفّراً بصورة طبيعية إلى الدرجة التي تجعل من الممكن الحصول عليه من الطبيعة دون جهد ، كالهواء ، وفي هذه الحالة تبلغ القيمة التبادلية درجة الصفر لانعدام الرغبة ، ومهما قلّت إمكانية الحصول على الشيء تبعاً لقلّة وجوده أو صعوبة إنتاجه ازدادت الرغبة فيه وتضخّمت قيمته (١) .

ـــــــــــــــ

(١) وهذا العرض أكثر انطباقاً على الواقع من نظرية المنفعة والحدّية القائمة على قانون تناقض المنفعة ، وهي النظري التي تقدّر قيمة السلعة على أساس ما للواحدة الأخيرة من وحدات السلع من قدرة على إشباع الرغبة والوحدة الأخيرة هي أقلّ الوحدات إشباعاً للرغبة ؛ نظراً إلى تناقص الرغبة بإلاشباع التدريجي ، فتحدّد قيمة كل الوحدات طبقاً لما تتيحه الوحدة الأخيرة من إشباع ؛ ولهذا كانت كثرة السلعة سبباً في تناقص المنفعة الحدّية وانخفاض قيمتها بوجه عامّ .

وهذه النظرية لا تفسّر الواقع تماماً ؛ لأنّها لا تنطبق على بعض الحالات التي قد يكون استهلاك الوحدة الأولى من السلعة أو الوحدات الأولى سبباَ لزيادة الرغبة وشدّة الحاجة إلى استهلاك وحدات جديدة ، كما يتّفق ذلك في المواد التي يسرع الاعتياد عليها فلو صحّت نظرية المنفعة الحدّية لكان من نتيجتها أن تزداد القيمة التبادلية في مثل هذه الحالة بزيادة الوحدات المعروضة من السلعة ؛ لأنّ الرغبة أو الحاجة حال استهلاك الوحدة الثانية أشدّ من الرغبة أو الحاجة حال استهلاك الوحدة الأولى ، مع أنّ الواقع العام يدلّ على العكس ، وهذا يدلّ على أنّ المقياس العام ليس هو الدرجة التي يحسّها الإنسان من الحاجة إلى الإشباع عند استهلاك الوحدة الأخيرة ، بل إنّ درجة إمكانية الحصول هي التي تحدّد ـ مع نوعية المنفعة وأهميتها ـ قيمة السلعة ( المؤلّف قدّس سرّه )

١٧٩

نقد الماركسية للمجتمع الرأسمالي :

قد يتبادر إلى بعض الأذهان أنّنا حين ندرس الملاحظات الماركسيّة حول المجتمع الرأسمالي إنّما نستهدف من وراء ذلك إلى تزييف هذه الملاحظات وتبرير الرأسمالية ، نظراً إلى كونها واقعاً معترفاً به في المجتمع الإسلامي الذي يؤمن بالملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج ويرفض الأخذ بمبدأ الملكية الاشتراكية ، فما دام الإسلام يحتضن الرأسمالية فيجب إذن على المذهبيّين الإسلاميين أن يفنّدوا مزاعم الماركسيّة حول الواقع الرأسمالي المعاش في تأريخنا الحديث ، ويقدّموا الدليل على خطأ التحليل الماركسي فيما يبرزه من مضاعفات هذا الواقع وتناقضاته ونتائجه الفظيعة التي تشتدّ وتتفاقم حتى تقضي عليه .

قد يتبادر إلى الأذهان شيء من هذا ، ولكنّ الواقع أنّ الموقف الإسلامي للباحث لا يفرض عليه أن يُنصبَ نفسه مدافعاً عن الواقع الرأسمالي المعاش وأنظمته الاجتماعية ، وإنّما يجب إبراز الجزء المشترك بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الرأسمالي ، ودرس التحليل الماركسي ليتبيّن مدى علاقته بهذا الجزء المشترك .

فمن الخطأ إذن ما يتّجه إليه بعض المذهبيّين الإسلاميين من الدفاع عن واقع الرأسمالية الغربية ، وإنكار ما يضج به من أخطاء وشرور ، ظنّاً منهم بأنّ هذا هو السبيل الوحيد لتبرير الاقتصاد الإسلامي الذي يعترف بالمِلكيّة الخاصة .

كما أنّ من الخطأ أيضاً ـ وقد عرفنا أنّ العامل الاقتصادي ليس هو العامل الأساسي في المجتمع ـ الطريقة التي اتخذهاماركس في تحليل المجتمع الرأسمالي والكشف عن عوامل الدمار فيه ، إذ اعتبر جميع النتائج التي تكشّف عنها المجتمع الرأسمالي على مسرح التأريخ وليدة مبدأ أساسي لهذا المجتمع ، وهو مبدأ الملكيّة الخاصة ، فكلّ مجتمع يؤمن بالملكية الخاصة يسير حتماً في الاتجاه التأريخي الذي سار فيه المجتمع الرأسمالي ، ويُمني بنفس النتائج والتناقضات .

وهكذا أرى من الضروري ، لتصفية الحساب مع موقف الماركسيّة من المجتمع الرأسمالي ، أن نؤكّد دائماً على هاتين الحقيقتين :

أوّلاً : أنّ الهدف المذهبي للباحثين المسلمين في الاقتصاد لا يفرض عليهم أن يصحّحوا أوضاع المجتمع الرأسمالي ، ويتنكّروا للحقائق المرّة التي تعصف به

١٨٠