اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 141697
تحميل: 8007

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141697 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأضافستالين إلى ما تقدّم :

( هذا هو الوضع فيما يتعلّق بالنظام في الحزب أثناء فترة الكفاح التي تسبق تحقيق الديكتاتورية ، ويجب ـ بل حتى إلى درجة أعظم ـ أن يقال الشيء ذاته عن النظام في الحزب بعد أن يكون قد تمّ تحقيق الدكتاتورية )

فالتجربة الاشتراكية إذن تتميّز بصورة خاصة عن سائر التجارب الثورية بأنّها مضطرّة ـ كما يرى أقطابها ـ إلى الاستمرار في النهج الثوري والأسلوب المطلق في الحكم داخل نطاق الحزب وخارجه ؛ من أجل خلق الإنسان الاشتراكي الجديد ، البريء من أمراض المجتمعات الطبقية وميولها الاستغلالية التي عاشتها الإنسانية آلاف السنين

وهكذا يصبح من الضروري أن يباشر الثوريون القادّة ، ومن يدور في فلكهم الحزبي السلطة بشكلٍ غير محدود ، ليتأتى لهم تحقيق المعجزة وصنع الإنسان الجديد .

وحين نصل إلى هذه المرحلة من تسلسل التجربة الاشتراكية نجد أنّ هؤلاء القادة في الجهاز الحزبي والسياسي وأنصارهم ، يتمتّعون بإمكانات لم تتمتّع بها أكثر الطبقات على مرّ التأريخ ، ولا يفقدون من خصائص الطبقة شيئاً ، فهم قد كسبوا سلطة مطلقة على جميع الممتلكات ووسائل الإنتاج المؤمّمة في البلاد ، ومركزاً سياسياً يتيح لهم الانتفاع بتلك الممتلكات ، والتصرّف بها طبقاً لمصالحهم الخاصة ، وإيماناً راسخاً بأنّ سيطرتهم المطلقة تكفل السعادة والرخاء لجميع الناس كما كانت تؤمن بذلك الفئات السابقة التي مارست الحكم في العهود الإقطاعية والرأسمالية.

والفرق الوحيد بين طبقة هؤلاء الثوريين الحاكمين وسائر الطبقات التي حدثتنا الماركسية عنها : أنّ تلك الطبقات كانت توجد وتنمو ـ في رأي الماركسيّين ـ تبعاً لعلاقات الملكية القائمة بين الناس ، وطبيعة هذه العلاقات هي التي كانت تحدّد اندراج هذا الشخص ضمن هذه الطبقة أو تلك ، وأمّا هؤلاء المالكون الجدد في المرحلة الاشتراكية فليست طبيعة الملكية هي التي تحدّد اندراجهم في الطبقة الحاكمة ، فلا يندرج هذا الشخص أو ذاك في الطبقة الحاكمة ؛ لأنّ له ملكية خاصة بدرجة معينة في المجتمع كما كانت تفترض الماركسية بالنسبة إلى المجتمعات الطبقية السابقة ، بل العكس هو الذي يصدق على المجتمع الاشتراكي الماركسي ، فإنّ هذا أو ذلك يتمتّع بامتيازات خاصة أو المحتوى الحقيقي للملكيّة ؛ لأنّه مندرج في الطبقة الحاكمة

٢٠١

وتفسير هذا الفرق بين الطبقة في المجتمع الاشتراكي وغيرها من الطبقات واضح ، فإنّ هذه الطبقة لم تولد على الصعيد الاقتصادي الذي ولدت عليه سائر الطبقات في زعم الماركسية ، وإنّما نشأت ونمت على الصعيد السياسي ضمن تنظيم ذي طراز معيّن ، قائم على أسس فلسفية وعقائدية وفكرية خاصة ، أي : ضمن الحزب الثوري الذي يتزعّم التجربة فالحزب بنظامه وحدوده الخاصة هو مصنع هذه الطبقة الحاكمة

وتنحصر مظاهر هذه الطبقة الحزبية فيما يتمتّع به أفراد هذه الطبقة من امتيازات الإدارة غير المحدودة ، التي تمتد من إدارة الدولة وإدارة المؤسسات الصناعية ومشاريع الإنتاج إلى كلّ مناحي الحياة ، كما تنعكس أيضاً في التناقضات الشديدة بين أجور العمّال ورواتب موظّفي الحزب

وفي ضوء الظروف الطبقية التي تؤدّي إليها المرحلة الاشتراكية الماركسية يمكن أن نفسّر ألوان التناقض والصراع على الصعيد السياسي في العالم الاشتراكي ، التي تتمثّل أحياناً في عمليات تطهير هائلة فإنّ الطبقة الممتازة في ظل التجربة الاشتراكية وإن نشأت في داخل الحزب كما رأينا ، إلاّ أنّها من ناحية لا تشمل الحزب كلّه ، ومن ناحية أخرى يمكن أن تمتدّ إلى خارج نطاق الحزب ، طبقاً للظروف التي تكتنف القيادة ومتطلّباتها

ولذلك كان من الطبيعي أن تواجه الطبقة المتفرّدة بالامتياز معارضة شديدة في داخل الحزب من الأشخاص الذين لم تستوعبهم تلك الطبقة بالرغم من حزبيّتهم ، أو طردتهم من حضيرتها ، فأخذوا يعتبرون هذا التركيب الطبقي الجديد خيانة للمبادئ التي ينادون بها

وكذلك تواجه الطبقة الممتازة معارضة هائلة في خارج الحزب ممّن أتاح الواقع السياسي للفئة الممتازة أن تستثمرهم ، على شكل امتيازات خاصة ، وحقوق معيّنة ، واحتكارات للأجهزة الإدارية والمرافق الحيوية في البلاد .

ويبدو من المنطقي بعد ذلك أن تحدث عمليات تطهير واسعة النطاق ـ كما يسمّيها الشيوعيون ـ بوصفها انعكاساً لتلك الظروف والتناقضات الطبقية ومن الطبيعي أيضاً أن تكون تلك العمليات هائلة في صرامتها وشمولها ؛ تبعاً لقوّة المركز الطبقي الذي تتمتّع به الفئة الحاكمة في الحزب والدولة

٢٠٢

ويكفينا لكي نتبيّن مدى الصرامة وقوّة الشمول التي تتّسم بها تلك العمليات أن تعلم أنّها كانت تجري في الذروة العليا في كيان الحزب ، كما تجري في القاعدة باستمرار وعنف قد يفوق كثيراً العنف الذي تعرضه الماركسية كطابع عام لأشكال التناقض الطبقي المختلفة في التأريخ فقد شملت عمليات التطهير في مرّة تسعة وزراء من أعضاء الوزارة الأحد عشر ، الذين كانوا يديرون دفّة الحكومة السوفييتية عام ( ١٩٣٦م ) ، وشملت أيضاً خمسة رؤساء من الرؤساء السبعة للجنة السوفييت التنفيذية المركزية التي وضعت دستور ( ١٩٣٦م ) ، واكتسحت ثلاثة وأربعين أميناً من أمناء سر منظمة الحزب المركزية ، الذين كان يبلغ مجموعهمثلاثة وخميسين أميناً ، وكذلك سبعين عضواً من أعضاء مجلس الحزب الثمانين ، وثلاثة من مارشالات الجيش السوفييتي الخمسة ، و٦٠% تقريباً من مجموع جنرالات السوفييت ، وجميع أعضاء المكتب السياسي الأوّل الذي أنشأه لينين بعد الثورة ، باستثناء ستالينكما أدّت عمليات التطهير إلى طرد ما يزيد على مليونين من أعضاء الحزب (١) ، وما حل عام ( ١٩٣٩م ) حتى كان عدد أعضاء الحزب الرسمي مليونين ونصف المليون عضو وعدد المطرودين مليونين عضو ، وبذلك كاد الحزب الشيوعي المطرود أن يوازي الحزب الشيوعي نفسه

ولا نرمي من وراء هذا إلى التشهير بالجهاز الحاكم في المجتمع الاشتراكي ـ وليس التشهير من شأن هذا الكتاب ـ وإنّما نرمي إلى تحليل المرحلة الاشتراكية تحليلاً علمياً ؛ لنجد : كيف تؤدّي ـ بطبيعتها ـ المادّية الدكتاتورية إلى ظروف طبقية تتمخّض عن ألوان رهيبة من الصراع ؟! وإذا بالتجربة التي جاءت لتمحو الطبقية قد أنشأتها من جديد

[٢ ـ السلطة الدكتاتورية ] :

والسلطة الدكتاتورية ـ التي هي الركن الثاني في المرحلة الاشتراكية ـ ليست ضرورية لأجل تصفية حساب الرأسمالية فحسب كما تزعم الماركسية ، إذ تعتبرها ضرورة مؤقّتة تستمرّ حتى يقضى على كلّ خصائص الرأسمالية الروحية والفكرية والاجتماعية وإنّما تعبّر عن ضرورة أعمق في طبيعة الاشتراكية الماركسية المؤمنة بضرورة التخطيط الاقتصادي الموجّه لكلّ شُعب النشاط الاقتصادي في الحياة فإنّ وضع مثل هذا التخطيط وتنفيذه يتطلّب سلطة قويّة

ـــــــــــــــ

(١) قيود الملكية الخاصة : ٩٠ ، نقله عن القانون الدستوري والنظم السياسية ، القسم الثالث : ٧٢ ـ ٧٥ .

٢٠٣

لا تخضع للمراقبة ، وتتمتّع بإمكانات هائلة ؛ ليتاح لها أن تقبض بيدٍ حديدية على كلّ مرافق البلاد ، وتقسّمها وفقاً لمخططٍ دقيقٍ شاملٍ فالتخطيط الاقتصادي المركزي يفرض على السلطة السياسية طبيعة دكتاتورية إلى حدٍ بعيد وليست مهمّة تصفية الجوّ من التراث الرأسمالي هي وحدها التي تفرض هذا اللون السياسي من الحكم .

[٣ ـ التأميم : ]

ونصل بعد هذا إلى التأميم بوصفه الركن الثالث للمرحلة الاشتراكية والفكرة العلمية في التأميم تقوم على : أساس تناقضات القيمة الفائضة التي تتكشف عنها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج في رأسماركس . فإنّ هذه التناقضات تتراكم حتى يصبح تأميم كلّ وسائل الإنتاج ضرورة تأريخية لا مَحيد عنها .

وقد مرّ بنا الحديث عن هذا التناقضات المزعومة وكيف أنّها تقوم على أسس تحليلية خاطئة ، ومن الطبيعي أن تُمنى النتائج بالخطأ إذا كانت الأسس التي يقوم عليها التحليل مضلّله وغير صحيحة

وأمّا الفكرة المذهبية في التأميم فتتلخّص : في محو الملكية الخاصة وتتويج المجموع بملكية وسائل الإنتاج في البلاد ؛ ليصبح كلّ فرد ـ في نطاق المجموع ـ مالكاً لثروات البلاد كلّها كما بملكها الآخرون

غير أنّ هذه الفكرة تصطدم بواقع هو الواقع السياسي للمرحلة الاشتراكية الذي يتجسّم في طبقة تتمتّع بحكم دكتاتوري مطلق في أجهزة الحزب والدولة فلا يكفي في هذا الحال أن تُلغى الملكية الخاصة قانونياً ويتم الإعلان عن ملكية المجموع للثروة ؛ ليتمتّع هذا المجموع بملكيتها حقّاً ويجد محتواها الحقيقي في حياته التي يعيشها بل إنّ طبيعة الموقف السياسي سوف تجعل حظّ المجموع في تملّكه حظّاً قانونياً فحسب ، وتسمح للطبقة الحاكمة أن تتمتّع بالمحتوى الحقيقي للملكيّة ، الذي يتمثّل في سيطرتها المطلقة على مقدّرات البلاد وثرواتها وهكذا تحصل هذه الطبقة على نفس الفرص التي كان الرأسماليون الاحتكاريون يتمتّعون بها في المجتمع الرأسمالي ، إذ تقف ـ فوق الأنظمة ـ وراء كلّ عمل من أعمال الدولة وتحتكر لنفسها حقّ تمثيل المجتمع اللاطبقي والتصرّف في ممتلكاته ، وتصبح ـ في هذه اللحظة ـ أقدر من أي رأسمالي آخر على سرقة القيمة الفائضة ، فما هي الضمانات العمليّة في هذا المجال ؟!

٢٠٤

وإذا أردنا أن نستعير من الماركسية لغتها أمكننا القول : بأنّ التأميم في المجتمع الاشتراكي الماركسي يبرز تناقضاً بين الملكية الاشتراكية للمجموع والجوهر الحقيقي للملكيّة الذي تتمتّع به الطبقة الحاكمة ، فإنّ الملكية ـ بجوهرها الواقعي ـ ليست إلاّ السلطة على الثروة والقدرة على التمتّع بها بمختلف الأساليب وهذا الجوهر هو الذي تتمتّع به القوى السياسية المهيمنة على كلّ كيانات المجتمع ، وينعكس على الصعيد القانوني بشكل امتيازات وحقوق ليست في الحقيقة إلاّ ستاراً مزيفاً وترجمة قانونية لجوهر الملكية الحقيقي ، غير أنّ هذا المالك الجديد في المجتمع الاشتراكي الماركسي يختلف عن أيّ مالك سابق في نقطة ، وهي : أنّه لا يستطيع أن يعترف بملكيته قانونياً ؛ لأنّ ذلك يناقض طبيعة موقفه السياسي .

فالاشتراكية ـ بحكم طبيعتها السياسية ـ تحمل بذرة هذا المالك الجديد وتَخلُقه عبر تجربتها ، وإن كانت تفرض عليه في نفس الوقت أن ينكر دوره الحقيقي في الحياة الاقتصادية وتجعله أكثر حياء وخجلاً من الرأسمالي الذي كان يعلن بكلّ وقاحةٍ عن ملكيّته الخاصة

وليس التأميم في الاشتراكية الماركسية حدثاً فريداً في التأريخ ، فقد وقعت تجارب سابقة لفكرة التأميم عبر التأريخ ، إذ قامت بعض الدول القديمة بتأميم كلّوسائل الإنتاج ، وحصلت بسبب ذلك على مكاسب تشابه تماماً المكاسب التي حصلت عليها الاشتراكية الماركسية في تجربتها ففي بعض الممالك الهيلينستية وفي مصرخاصة اتّبعت الدولة مبدأ التأميم ، وأخضعت الإنتاج والمبادلة لإشرافها ، وتولّت بنفسها إدارة معظم فروع الإنتاج ، فجلب هذا النظام للدولة فوائد كبيرة ، ولكنّه حيث كان ينفّذ في إطار سلطة فرعونية مطلقة لم يستطع بعد ذلك أن يخفي جوهره ، فإنّ التأميم في ظلّ سلطة مطلقة تنشئ الملكية الجماعية لتوسعة الإنتاج لا يمكن أن يؤدي واقعياً إلاّ إلى تملك السلطة نفسها وتحكّمها في الممتلكات المؤمّمة ولهذا ظهرت في التجربة القديمة خيانة الموظفين واستبداد السلطة التي كانت تتجسد في شخص الملك ، حتى قفز الملك إلى درجة ( إله ) وأصبحت القوى الهائلة تنفق كلّها لحساب هذا الإله الحاكم وتحقيق رغباته من بناء المعابد والقصور والقبور

٢٠٥

ولم يكن من الصدفة أن تقترن تجربة التأميم في أقدم العهود الفرعونية بنفس الظواهر التي اقترنت بها تجربة التأميم الماركسية في العصر الحديث ، من التقدّم السريع في حركة الإنتاج ، وتمتّع السلطة بقوّة تشتدّ وتنمو بشكل هائل ، وانحرافها واستبدادها بعد ذلك بالثروة المؤمّمة فقد تقدمت حركة الإنتاج في ظل التجربة الحديثة للتأميم كما تقدّمت في ظلّ التأميم الفرعوني ؛ لأنّ التسخير غير الحرّ في الإنتاج يثمر دائماً التقدم السريع المؤقّت في حركة الإنتاج ونشأ التأميم في كلّ من التجربتين في ظلّ سلطة عليا لا تعترف لنفسها بحدود ؛ لأنّ التأميم حينما يقصد منه تنمية الإنتاج فحسب يتطلّب مثل هذه السلطة الحديدية

ونتج عن ذلك في كلّ من التجربتين أيضاً استفحال أمر السلطة وتمتّعها بالجوهر الحقيقي للملكيّة ؛ لأنّ التأميم لم يقم على أساس روحي أو قناعة بقيم خُلُيقة للإنسان ، وإنّما قام على أساس مادّي لتحقيق أكبر نصيب من الإنتاج فمن الطبيعي أن لا تجد السلطة تعارضاً بين هذا الهدف المادّي وبين ما تحيط به نفسها من امتيازات ومتعة ومن الطبيعي أيضاً أن لا يقرّ الجهاز الحاكم الملكيّة العامة عملياً إلاّ في حدود الدافع المادّي الذي يدفعه إلى مضاعفة الإنتاج وتنميته

ولا يبدو غريباً بعد ذلك أن نجد جهاز الدولة في التجربة القديمة وهو يضج بخيانات الموظفين وإثرائهم على حساب الممتلكات العامة ، ونجدستالين في التجربة الحديثة وهو يضطر إلى الاعتراف بأنّ كبار رجال الدولة والحزب قد استغلّوا فرصة انشغال دولتهم بالحرب الأخيرة فجمعوا الأموال والثروات ، حتى أنّه أذاع ذلك في منشور عمّمه على جميع أبناء الشعب

فالتشابه بين التجربتين الاشتراكيتين واضح كلّ الوضوح في الظواهر والنتائج ، وبالرغم من اختلاف ظروفهما المدنية وأشكال الإنتاج فيهما وهذا يشير إلى أنّ الجوهر في كلتا التجربتين واحد مهما اختلفت الألوان والإطارات

وهكذا نعرف أنّ كلّ تجربة للتأميم تُمنى بنفس النتائج إذا كانت في نفس الإطار السياسي للتجربة الماركسية ، إطار السلطة المطلقة ، وكان المبرّر الموضوعي لها في رأي قادة التجربة هو نفس المبرّر الذي يباشر قادة الماركسية تجربتهم على أساسه ، وهو تنمية الإنتاج ، التي هي القوّة الدافعة للتأريخ على مرّ الزمن في مفاهيم المادّية التأريخية .

[٤ ـ مِن كلٍّ حَسْبَ طاقته ولكلٍّ حَسْبَ عمله ]

وأمّا الركن الأخير من المرحلة الاشتراكية فهو ـ كما سبق ـ مبدأ التوزيع ، القائل : مِن كلٍّ حَسْبَ طاقته ، ولكلّ حسب عمله .

٢٠٦

ويرتكز هذا المبدأ ـ من الناحية العلمية ـ على قوانين المادّية التأريخية ؛ فإنّ المجتمع بعد أن يصبح طبقة واحدة ـ بموجب قانون الاشتراكية الحديثة ـولا تبقى طبقة عاملة وأخرى مالكة ، يكون من الضروري لكلّ فردٍ أن يعمل ليعيش كما أنّ القانون الماركسي للقيمة القائل : أنّ العمل هو أساس القيمة ، يجعل لكلّ عامل نصيباً من الإنتاج بالقدر الذي يتّفق مع كمّية عمله وهكذا يسير التوزيع على أن : ( مِن كلٍّ حسب طاقته ، ولكلٍّ حسب عمله ) .

وهذا المبدأ يأخذ بالتناقض مع الطبيعة اللاطبقية للمرحلة الاشتراكية منذ أن يوضع موضع التنفيذ ، فإنّ الأفراد يختلفون في أعمالهم تبعاً لاختلاف كفاءاتهم ، ولنوعية العمل ودرجة تعقيده فهذا عامل لا يطيق من العمل ست ساعات ، وذلك عامل أقوى منه بُنية يستطيع أن يعمل عشر ساعات في كلّ يوم ، وهذا عامل موهوب يملك من القريحة والنباهة ما يجعله يدخل تحسينات على طريقة الإنتاج وينتج ضعف ما ينتجه الآخرون ، وذلك عامل لم يؤاتِهِ الحظ قد خلق للتقليد لا للابتكار ، وهذا عامل فنّي مدرّب يمارس إنتاج الأجهزة الكهربائية الدقيقة ، وذاك عامل بسيط لا يمكن أن يستخدم إلاّ في حمل الأثقال ، وثالث يعمل في الحقل السياسي ويتوقّف على عمله مصير البلاد كلّها

واختلاف هذه الأعمال يؤدّي إلى تفاوت القيم التي تخلقها تلك الأعمال وليست هذا الألوان الصارخة من التفاوت بين نفس الأعمال أو القيم الناتجة عنها مستمدّة من واقع اجتماعي معيّن ، بل إنّ الماركسية نفسها تعترف بذلك إذ تقسّم العمل إلى : بسيطٍ ومركّب ، وترى أنّ قيمة ساعة عمل مركب شديد التعقيد قد تفوق بأضعاف قيمة ساعة من العمل البسيط .

والمجتمع الاشتراكي إذ يواجه هذه المشكلة لا يوجد أمامه إلاّ سبيلان للحلّ :

أحدهما : أن يحتفظ بمبدأ التوزيع القائل : (لكلٍّ حسب عمله ) ، فيوزّع الناتج على الأفراد بدرجات مختلفة ، وبذلك ينشئ الفروق الطبقية مرّة أخرى فيمنى المجتمع الاشتراكي بالتركيب الطبقي بأسلوب جديد .

والآخر : أن يستعير المجتمع الاشتراكي من الرأسمالي طريقته في اقتطاع القيمة الفائضة على رأيماركس ، فيساوي بين جميع الأفراد في الأجور

وللنظرية والتطبيق اتجاهان مختلفان في حلّ هذه المشكلة

٢٠٧

فالتطبيق ـ أو واقع المجتمع الاشتراكي القائم اليوم ـ يتجه إلى حلّ المشكلة بسلوك السبيل الأوّل ، الذي يدفع المجتمع إلى التناقضات الطبقية من جديد ، ولذلك نجد أنّ النسبة بين الدخل المنخفض والدخل الراقي في روسيا تبلغ ـ على ما قيل ـ ٥% و١.٥% تبعاً لاختلاف التقديرات ، فقد وجد القادة الاشتراكيون أنّ من المستحيل عملياً تنفيذ المساواة المطلقة ، والنزول بأعمال العلماء والسياسيين والعسكريين إلى مستوى العمل البسيط ؛ لأنّ ذلك يجمّد النموّ الفكري ، ويعطّل الحياة الفنّية والعقلية ، ويجعل أكثر الأفراد ينصرفون إلى أتفه الأعمال ما دام الأجر هو الأجر مهما اختلف العمل وتعقّد ولهذا السبب نشأت الفوارق والتناقضات في ظلّ التجربة الاشتراكية ، وقامت بعد ذلك السلطة الحاكمة بتعميق هذه الفوارق والتناقضات وفقاً لطبيعتها السياسية ، فأنشأت طبقة البوليس السرّي ، وميّزت عملها الجاسوسي بامتيازات ضخمة ، وسخرّتها لتدعيم كيانها الدكتاتوري ، ولم يستيقظ المجتمع بعد أن أسفر الصبح إلاّ عن نفس الواقع الذي كانت تمنّيه الاشتراكية بالخلاص منه

وأمّا اتجاه النظرية في حلّ المشكلة : فقد جاءت إشارة إلى تجديد هذا الاتّجاه في كتاب (ضد دوهرنك ) ، إذ عرض أنجلز المشكلة وكتب في الجواب عليها :

٢٠٨

( كيف سنحلّ إذن مسألة دفع أعلى الأجور عن العمل المركب ، وهي مسألة هامّة برمّتها ؟ يدفع الأفراد أو عائلاتهم في مجتمع المنتجين الخاصّين تكاليف تدريب العامل الكفوء ، لذا فإنّ الثمن العالي الذي يدفع عن القوّة العاملة الكفوءة ناجم عن الأفراد أنفسهم فالرقيق الماهر يباع بثمن عال ، وكاسب الأجر الماهر تدفع له أجور عالية إنّ المجتمع إذ يكون منظماً تنظيماً اشتراكياً فإنّه هو الذي يتحمّل هذه التكاليف فإليه إذن تعود ثمراتها وهي القيم العالية التي ينتجها العمل المركب ، ولا تكون زيادة الأجور مطلباً من مطالب العامل )(١) .

وهذا الحلّ النظري للمشكلة الذي يقدّمهأنجلز يفترض أنّ القيم العالية التي يمتاز بها العمل المركب عن العمل البسيط تعادل تكاليف تدريب العامل الكفوء على العمل المركّب ونظراً إلى أنّ الفرد في المجتمع الرأسمالي يتحمّل بنفسه تكاليف تدريبه فيستحقّ تلك القيم التي نجمت عن تدريبه وأمّا في المجتمع الاشتراكي فالدولة هي التي تنفق على تدريبه فتكون وحدها صاحبة الحقّ في القيم العالية للعمل المركب ، وليس للعامل الفنّي حينئذ أن يطالب بأجرٍ يزيدُ على أجر العامل البسيط !

ولكن هذا الافتراض يناقض الواقع فإنّ القيم العالية التي يحصل عليها العامل السياسي العسكري في مجتمع المنتجين الخاصين ـ في المجتمع الرأسمالي ـ تزيد كثيراً عن تكاليف دراسته للعلوم السياسية والعسكرية ، كما مرّ سابقاً

أضف إلى ذلك أنّ أنجلز لم يضع معالجته للمشكلة في صيغة دقيقة تنّفق مع الأسس العلمية المزعومة في الاقتصاد الماركسي ؛ فقد غاب عن ذهنأنجلز أنّ السلعة التي ينتجها العامل الفنّي المدرّب لا يدخل في قيمتها ـ التي يخلقها العامل ـ ثمن تدريبه وأجور دراسته ، وإنّما الذي يحدّد قيمتها كمّية العمل المنفقة على إنتاجها فعلاً ، مع كمّية العمل التي أنفقها العامل خلال الدراسة والتدريب فمن الممكن أن ينفق العامل عشر سنوات من العمل في التدريب ويكلّفه ذلك ألف دينار ، ويكون ثمن التدريب هذا ـ وهو ألف دينار ـ معبّراً عن كمّية من العمل المختزن فيه تقلّ عن عمل عشر سنوات فأجرة التدريب ـ في هذا الفرض ـ تصبح أقل من القيمة التي ساهم عمل العامل خلال تدريبه في إيجادها ، نظير تكاليف تجديد قوّة العمل التي تقلّ عن القيمة التي يخلقها العمل نفسه ، كما تزعم نظرية القيمة الفائضة

ـــــــــــــــ

(١) ضد دوهرنك ٢ : ٩٦

٢٠٩

فما يصنع أنجلز إذا أصبحت كمّية العمل الماثلة في تكاليف تدريب العامل أقلّ من كمّية العمل التي ينفقها العامل خلال التدريب ؟! إنّ الدولة ليس من حقّها في هذه الحال ـ على أساس الاقتصاد الماركسي ـ أن تقتطف ثمرات التدريب ، وتسلب من العامل القيمة التي خلقها بعمله في السلعة خلال التدريب بوصفها قد دفعت أجرة التدريب ؛ لأنّ القيمة الزائدة التي يتمتّع بها منتوج العامل الفنّي لا تعبّر عن تكاليف تدريبه وأجرة دراسته ، بل عن العمل الذي قضاه العامل خلال الدراسة فإذا زاد هذا العمل على كمّية العمل المتمثّلة في نفقات التدريب كان للعامل الحقّ في زيادة الأجر على إنتاجه الفنّي

وشيء آخر فاتأنجلز أيضاً ، وهو : أنّ تعقيد العمل لا ينشأ دائماً من التدريب ، بل قد يحصل بسبب مواهب طبيعية في العامل تجعله ينتج في ساعة من العمل ما لا ينتج اجتماعياً إلاّ خلال ساعتين فهو يخلق في الساعة القيمة التي يخلقها غيره في ساعتين بسبب من كفاءته الطبيعية ، لا من تدريس سابق فهل يأخذ هذا العامل ضِعف ما يأخذه غيره ، فيمنى المجتمع الاشتراكي بالفوارق والتناقضات ، أو يساوى بينه وبين غيره ولا يعطي إلاّ نصف ما يخلقه من القيمة ، فيرتكب المجتمع الاشتراكي بذلك سرقة القيمة الفائضة ؟!

وهكذا يتلخّص : أنّ الحكومة في المرحلة الاشتراكية الماركسية ، لا مَحيد لها عن أحد أمرين : فأمّا أن تطبّق النظرية كما يفرضه القانون الماركسي للقيمة ، فتوزّع على كلّ فرد حسب عمله ، فتخلق بذرة التناقض الطبقي من جديد وإمّا أن تنحرف عن النظرية في مجال التطبيق وتساوي بين العمل البسيط والمركب ، والعامل الاعتيادي والموهوب ، فتكون قد اقتطعت من العامل الموهوب القيمة الفائضة التي يتفوّق بها عن العامل البسيط ، كما كان يصنع الرأسمالي تماماً في حساب المادّية التأريخية .

الشيوعية :

وننتهي من دراسة المرحلة الاشتراكية إلى المرحلة النهائية التي يولد فيها المجتمع الشيوعي ، ويحشر البشر إلى الفردوس الأرضي الموعود ، في نبوءات المادّية التأريخية.

وللشيوعية ركنان رئيسيان :

الأوّل : محو الملكية الخاصة ، لا في مجال الإنتاج الرأسمالي فحسب ، بل في مجال الإنتاج بصورة عامة وفي مجال الاستهلاك أيضاً ، فتؤمّم كلّ وسائل الإنتاج وكلّ البضائع الاستهلاكية .

٢١٠

والثاني : محو السلطة السياسية وتحرير المجتمع من الحكومة بصورة نهائية .

[١ ـ محو الملكية الخاصة : ]

أمّا محو الملكية الخاصة في كلّ المجالات فهو لا يستمدّ وجوده في المذهب من قانون علمي للقيمة ، كما كان تأميم وسائل الإنتاج الرأسمالي يقوم على أساس نظرية القيمة الفائضة ، والقانون الماركسي للقيمة ، وإنّما تقوم الفكرة في تعميم التأميم على افتراض أنّ المجتمع يبلغ بفضل النظام الاشتراكي درجة عالية من الثروة ، كما تنمو القوى المنتجة نمواً هائلاً ، فلا يبقى موقع للملكيّة الخاصة لبضائع الاستهلاك ، فضلاً عن ملكيّة وسائل الإنتاج ؛ لأنّ كلّ فرد سوف يحصل في المجتمع الشيوعي على ما يحتاج إليه ويتوق إلى استهلاكه في أيّ وقت شاء ، فأيّ حاجة له في الملكية الخاصة ؟!

وعلى هذا الأساس يقوم مبدأ التوزيع في المجتمع الشيوعي على قاعدة : أنّ لكلٍّ حسب حاجته لا حسب عمله ، أيّ أنّ كلّ فرد يُعطى قدر ما يشبع رغبته ويحقّق سائر طلباته ؛ لأنّ الثروة التي يملكها المجتمع قادرة على إشباع كلّ الرغبات .

ونحن لا نعرف فرضية أكثر إمعاناً في الخيال وتجنيحاً في آفاقه البعيدة من هذه الفرضية التي تعتبر : أنّ كلّ إنسان في المجتمع الشيوعي قادر على إشباع جميع رغباته وحاجته إشباعاً كلياً ، كما يشبع حاجاته من الهواء والماء ، فلا تبقى ندرة ولا تزاحم على السلع ، ولا حاجة إلى الاختصاص بشيء .

ويبدو من هذا : أنّ الشيوعية كما تصنع المعجزات في الشخصية الإنسانية فتحوّل الناس إلى عمالقة في الإنتاج ، بالرغم من انطفاء الدوافع الذاتية والأنانية في ظل التأميم ، كذلك تصنع المعجزة مع الطبيعة نفسها ، فتجرّدها عن الشحّ والتقتير ، وتمنحها روحاً كريمة تسخو دائما بكلّ ما يتطلّبه الإنتاج الهائل من موارد ومعادن وأنهار .

ومن سوء الحظ أنّ قادة التجربة الماركسية حاولوا أن يخلقوا الجنّة الموعودة على الأرض ففشلوا ، وظلّت التجربة تتأرجح بين الاشتراكية والشيوعية حتى أعلنت بصراحة عجزها عن تحقيق الشيوعية بالفعل ، كما تعجز كلّ تجربة تحاول اتجاهاً خيالياً يتناقض مع طبيعة الإنسان فقد اتجهت الثورة الاشتراكية في بادئ الأمر اتجاهاً شيوعياً خالصاً ، إذ حاوللينين أن يكون كلّ شيء شائعاً بين المجموع ، فانتزع الأرض من أصحابها وجرّد الفلاحين من وسائل إنتاجهم الفردية ، فتمرّد الفلاحون وأعلنوا إضرابهم عن العمل والإنتاج ، فنشأت المجاعة الهائلة التي زعزعت كيان البلاد ، وأرغمت

٢١١

السلطة على العدول عن تصميمها فردت للفلاح حقّ التملّك واستعادت البلاد حالتها الطبيعية ، إلى أن جاءت سنة( ٢٨ ـ٣٠ ) فحدث انقلاب آخر أريد به تحريم الملكية من جديد ، فاستأنف الفلاحون ثورتهم وإضرابهم ، وأمعنت الحكومة في الناس قتلاً وتشريداً وغصّت السجون بالمعتقلين ، وبلغت الضحايا ـ على ما قيل ـ مئة ألف قتيل ، باعتراف التقارير الشيوعية وأضعاف هذا العدد في تقدير أعدائها وراح ضحية المجاعة الناجمة عن الإضراب والقلق سنة( ١٩٣٢م ) ستّة ملايين نسمة باعتراف الحكومة نفسها ، فاضطرّت السلطة إلى التراجع ، وقرّرت منح الفلاح شيئاً من الأرض وكوخاً وبعض الحيوانات للاستفادة منها على أن تبقى الملكية الأساسية للدولة ، وينضمّ الفلاح إلى جمعية ( الكلخوز الزراعية الاشتراكية )(١) التي تتعهّدها الدولة وتستطيع أن تطرد أيّ عضو منها متى شاءت

[٢ ـ زوال الحكومة : ]

وأمّا الركن الثاني للشيوعية ( زوال الحكومة ) فهو أطرف ما في الشيوعية من طرائف وتقوم الفكرة فيه على أساس رأي المادّية التأريخية في تفسير الحكومة ، القائل : بأنّ الحكومة وليدة التناقض الطبقي ؛ لأنّها الهيئة التي تخلقها الطبقة المالكة لإخضاع الطبقة العاملة لها ففي ضوء هذا التفسير لا يبقى للحكومة أيّ مبرر في مجتمع لا طبقي ، بعد أن يتخلّص من كلّ آثار الطبقية وبقاياها ، ويصبح من الطبيعي أن تتلاشى الحكومة تبعاً لزوال الأساس التأريخي لها .

ومن حقّنا أن نتساءل عن هذا التحوّل الذي ينقل التأريخ من مجتمع الدولة إلى مجتمع متحرّر منها ، من المرحلة الاشتراكية إلى المرحلة الشيوعية :

كيف يتمّ هذا التحوّل الاجتماعي ؟! وهل يحصل بطريقة ثورية وانقلابية ، فينتقل المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية في لحظة حاسمة ، كما انتقل من الرأسمالية إلى الاشتراكية ؟! أو أنّ التحوّل يحصل بطريقة تدريجية فتذبل الدولة وتتقلّص حتى تضمحلّ وتتلاشى ؟!

ـــــــــــــــ

(١) راجع : تأريخ الملكية : ١٣٢ ـ ١٢٦ ، والملكية في النظام الاشتراكي : ٣٩١ ـ ٣٩٥ .

٢١٢

فإذا كان التحول ثورياً آنياً وكان القضاء على حكومة البروليتاريا سيتمّ عن طريق الثورة ، فمن هي الطبقة الثائرة التي سيتمّ على يدها هذا التحوّل ؟! وقد علّمتنا الماركسية أنّ الثورة الاجتماعية على حكومة إنّما تنبثق دائماً من الطبقة التي لا تمثلها تلك الحكومة فلا بد إذن في هذا الضوء أن يتمّ التحوّل الثوري إلى الشيوعية على أيدي غير الطبقة التي تمثلها الحكومة الاشتراكية وهي طبقة البروليتاريا فهل تريد الماركسية أن تقول لنا أن الثورة الشيوعية تحصل على أيدي رأسماليين مثلا ؟!

وإذا كان التحوّل من الاشتراكية وزوال الحكومة تدريجياً.. فهذا يناقض ـ قبل كلّ شيء ـ قوانين الديالكتيك التي ترتكز عليها الماركسية ؛ فإنّ قانون الكمّية والكيفية في الديالكتيك يؤكّد : أنّ التغيرات الكيفية ليست تدريجية ، بل تحصل بصورة فجائية ، وتحدث بقفزة من حالة إلى أخرى وعلى أساس هذا القانون آمنت الماركسية بضرورة الثورة في مطلع كلّ مرحلة تأريخية بوصفها تحوّلاً آنياً فكيف بطل هذا القانون عند تحوّل المجتمع من الاشتراكية إلى الشيوعية ؟!

والتحوّل التدريجي السلمي من المرحلة الاشتراكية إلى الشيوعية كما يناقض قوانين الديالكتيك كذلك يناقض طبيعة الأشياء ، إذ كيف يمكن أن نتصوّر أنّ الحكومة في المجتمع الاشتراكي تتنازل في التدريج عن السلطة وتقلّص ظلّها ، حتى تقضي بنفسها على نفسها ، بينما كانت كلّ حكومة أخرى على وجه الأرض تتمسّك بمركزها وتدافع عن وجودها السياسي إلى آخر لحظة من حياتها ؟! فهل هناك أغرب من هذا التقليص التدريجي تتبرّع بتحقيقه الحكومة نفسها ، فتسخو بحياتها في سبيل تطوير المجتمع ؟! بل هل هناك ما هو أبعد من هذا عن طبيعة المرحلة الاشتراكية والتجربة الواقعية التي تجسد اليوم في العالم ؟! فقد عرفنا أنّ من ضرورات المرحلة الاشتراكية قيام حكومة دكتاتورية مطلقة السلطان ، فكيف تصبح هذه الدكتاتورية المطلقة مقدّمة لتلاشي الحكومة واضمحلالها نهائياً ؟! وكيف يمهّد استفحال السلطة واستبدادها إلى زوالها واختفائها ؟!

وأخيراً : فَلِنجنَح مع الماركسية في أخيلتها ، ولنفترض أنّ المعجزة قد تحقّقت ، وأنّ المجتمع الشيوعي قد وجد ، وأصبح كلّ شخص يعمل حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته ، أفلا يحتاج المجتمع إلى سلطة تحدّد هذه الحاجة ، وتوفّق بين الحاجات المتناقضة فيما إذا تزاحمت على سلعة واحدة ، وتنظّم العمل وتوزعه على فروع الإنتاج ؟!

٢١٣

الكتاب الأوّل ٢

مع الرأسمالية

الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية

الرأسمالية المذهبية ليست نتاجاً للقوانين العلمية .

القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي ذات إطار مذهبي .

دراسة الرأسمالية المذهبية في أفكارها وقيمها الأساسية

[ تمهيد : ]

كما يقسّم الاقتصاد الماركسي إلى علم ومذهب كذلك ينقسم الاقتصاد الرأسمالي إلى هذين القسمين ففيه الجانب العلمي الذي تحاول الرأسمالية فيه أن تفسّر مجرى الحياة الاقتصادية وأحداثها تفسيراً موضوعياً قائماً على أساس الاستقرار والتحليل وفيه أيضاً الجانب المذهبي الذي تدعو الرأسمالية إلى تطبيقه وتتبنّى الدعوة إليه .

وقد اختلط هذان الجانبان أو الوجهان للاقتصاد الرأسمالي في كثير من البحوث والأفكار ، مع أنّهما وجهان مختلفان ولكلّ منهما طبيعة الخاصة وأُسسه ومقاييسه فإذا حاولنا أن نسبغ على أحد الوجهين الطابع المميّز للآخر ، فنعتبر القوانين العلمية مذهباً خالصاً ، أو نضفي الطابع العلمي على المذهب ، فسوف نقع في خطأ كبير كما سنرى .

والرأسمالية وإن اتّفقت مع الماركسيّة في تشعّبها إلى جانب علمي وجانب مذهبي ، ولكنّ العلاقة بين علم الاقتصاد الرأسمالي والمذهب الرأسمالي في الاقتصاد تختلف اختلافاً جوهرياً عن العلاقة بين الجانب العلمي من الماركسيّة والجانب المذهبي منها ، أي : بين المادّية التأريخية من ناحية والاشتراكية والشيوعية من ناحية أخرى ، وهذا الاختلاف هو الذي سيجعل طريقة بحثنا مع الرأسمالية تختلف عن طريقة دراستنا للماركسيّة ، كما يتضح خلال هذا الفصل ( مع الماركسية )

وسوف نستعرض فيما يلي : الاقتصاد الرأسمالي في خطوطه الرئيسية ، ونعالج بعد ذلك علاقة المذهب الرأسمالي بالجانب العلمي من الرأسمالية ، وندرس أخيراً الرأسمالية في ضوء أفكارها المذهبية التي ترتكز عليها .

٢١٤

الرأسمالية المذهبية في خطوطها الرئيسية

يرتكز المذهب الرأسمالي على أركان رئيسية ثلاثة يتألّف منها كيانه العضوي الخاص ، الذي يميّزه عن الكيانات المذهبية الأخرى وهذه الأركان هي :

أوّلاً : الأخذ بمبدأ الملكية الخاصة بشكل غير محدود ، فبينما كانت القاعدة العامة في المذهب الماركسي هي : الملكية الاشتراكية التي لا يجوز الخروج عنها إلاّ بصورة استثنائية ، تنعكس المسألة في المذهب الرأسمالي تماماً فالملكية الخاصة في هذا المذهب هي القاعدة العامّة التي تمتد إلى كلّ المجالات وميادين الثروة المتنوّعة ، ولا يمكن الخروج عنها إلاّ بحكم ظروف استثنائية تضطرّ أحياناً إلى تأميم هذا المشروع أو ذاك وجعله ملكاً للدولة فما لم تبرهن التجربة الاجتماعية على ضرورة تأميم أيّ مشروع تبقى الملكية الخاصة هي القاعدة النافذة المفعول .

وعلى هذا الأساس تؤمن الرأسمالية بحرية التملّك ، وتسمح للملكية الخاصة بغزو جميع عناصر الإنتاج ، من : الأرض ، والآلات ، والمباني ، والمعادن ، وغير ذلك من ألوان الثروة ويتكفّل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكيّة الخاصة ، وتمكين المالك من الاحتفاظ بها .

ثانياً : فسح المجال أمام كلّ فرد لاستغلال ملكيّته وإمكاناته على الوجه الذي يروق له ، والسماح له بتنمية ثروته بمختلف الوسائل والأساليب التي يتمكّن منها فإن كان يتملك أرضاً زراعية مثلاً ، فله أن يستغلّها بنفسه في أيّ وجه من وجوه الاستغلال ، وله أن يؤجّرها للغير ، وأن يفرض على الغير شروطه التي تهمّه ، كما له أن يترك الأرض دون استغلال

وتستهدف هذه الحرية الرأسمالية التي يمنحها المذهب الرأسمالي للمالك : أن تجعل الفرد هو العامل الوحيد في الحركة الاقتصادية ، إذ ما من أحد أعرف منه بمنافعه الحقيقة ، ولا أقدر منه على اكتسابها ولا يتأتّى للفرد أن يصبح كذلك ما لم يزوّد بالحرية في مجال استغلال المال وتهيئته ، ويستبعد من طريقه التدخّل الخارجي من جانب الدولة وغيرها فبذلك يصبح لكلّ فرد الفرصة الكافية لاختيار نوع الاستغلال الذي يستغلّ به ماله ، والمهنة التي يتّخذها ، والأساليب التي يتّبعها لتحقيق أكبر مقدار ممكن من الثروة .

٢١٥

وثالثاً : ضمان حرية الاستهلاك كما تضمن حرية الاستغلال فلكلّ شخص الحرية في الإنفاق من ماله كما يشاء على حاجاته ورغباته ، وهو الذي يختار نوع السلع التي يستهلكها ، ولا يمنع عن ذلك قيام الدولة أحياناً بتحريم استهلاك بعض السلع ، لاعتبارات تتعلّق بالمصلحة العامة ، كاستهلاك المخدّرات

فهذه هي المعالم الرئيسية في المذهب الرأسمالي ، التي يمكن تلخيصها في حرّيات ثلاث : حرّية التملّك ، والاستغلال ، والاستهلاك

ويظهر منذ النظرة الأولى : التناقض الصارخ بين المذهب الرأسمالي والمذهب الماركسي ، الذي يضع الملكية الاشتراكية مبدءاً بدلاً عن الملكية الفردية ، ويقضي على الحرّيات الرأسمالية التي ترتكز على أساس الملكية الخاصة ، ويستبدلها بسيطرة الدولة على جميع مرافق الحياة الاقتصادية

ومن القول الشائع : أنّ اختلاف المذهبين الرأسمالي والماركسي في

معالمهما، يعكس اختلافهما في طبيعة نظرتهما إلى الفرد والمجتمع ؛ لأنّ المذهب الرأسمالي مذهب فردي يقدّس الدوافع الذاتية ، ويعتبر الفرد هو المحور الذي يجب على المذهب أن يعمل لحسابه ويضمن مصالحه الخاصة وأمّا المذهب الماركسي فهو مذهب جماعي ، يرفض الدوافع الذاتية والأنانية ، ويُفني الفرد في المجتمع ، ويتّخذ المجتمع محوراً له وهو لأجل هذا لا يعترف بالحرّيات الفردية ، بل يهدرها في سبيل القضية الأساسية ، قضية المجتمع بكاملة

والواقع : أنّ كِلا المذهبين يرتكز على نظرة فردية، ويعتمد على الدوافع الذاتية والأناني ؛ فالرأسمالية تحترم في الفرد السعيد الحظ أنانيته ، فتضمن له حرية الاستغلال والنشاط في مختلف الميادين ، مستهترة بما سوف يصيب الآخرين من حيف وظلم نتيجة لتلك الحرية التي أطلقتها لذلك الفرد ما دام الآخرون يتمتّعون بالحرية مبدئياً ، كما يتمتّع بها الفرد المستغل .

وبينما توفّر الرأسمالية للمحظوظين إشباع دوافعهم الذاتية وتنمّى نزعتهم الفردية تتّجه الماركسية إلى غيرهم من الأفراد الذين لم تتهيأ لهم تلك الفرص فتركّز دعوتها المذهبية على أساس إثارة الدوافع الذاتية والأنانية فيهم ، والتأكيد على ضرورة إشباعها ، وتسعى بمختلف الأساليب إلى تنمية هذه الدوافع بوصفها القوّة التي يستخدمها التأريخ في تطوير نفسه ، حتى تتمكن من تفجيرها تفجيراً ثورياً وتشرح لأولئك الذين تتّصل بهم : أنّ الآخرين يسرقون جهودهم وثروتهم فلا يمكن لهم أن يقرّوا هذه السرقة بحال ؛ لأنّها اعتداء صارخ على كيانهم الخاص .

٢١٦

وهكذا نجد أنّ الوقود الذي يعتمد عليه المذهب الماركسي هو نفس الدوافع الذاتية والفردية التي تتبنّاها الرأسمالية فكل من المذهبين يتبنّى إشباع الدوافع الذاتية وينمّيها ، وإنّما يختلفان في نوع الأفراد الذين تتجاوب دوافعهم الذاتية والأنانية مع هذا المذهب أو ذاك .

وأمّا المذهب الجدير بصفة المذهب الجماعي فهو المذهب الذي يعتمد على وقود من نوع آخر ، على قوى غير الأنانية والدوافع الذاتية

إنّ المذهب الجماعي هو المذهب الذي يربّي في كلّ فرد شعوراً عميقاً بالمسؤولية تجاه المجتمع ومصالحه ، ويفرض عليه ـ لذلك ـ أن يتنازل عن شيء من ثمار أعماله وجهوده وأمواله الخاصة في سبيل المجتمع وفي سبيل الآخرين ، لا لأنّه سرق الآخرين وقد ثاروا عليه لاسترداد حقوقهم الخاصة ، بل لأنّه يحس بأنّ ذلك جزء من واجبه ، وتعبير عن القيم التي يؤمن بها

إنّ المذهب الجماعي هو المذهب الذي يحفظ حقوق الآخرين وسعادتهم لا بإثارة دوافعهم الذاتية ، بل بإثارة الدوافع الجماعية في الجميع ، وتفجير منابع الخير في نفوسهم وسوف نرى في بحوث مقبلة ما هو هذا المذهب ؟

الرأسمالية المذهبية ليست نتاجاً للقوانين العلمية

في فجر التأريخ العلمي للاقتصاد ، حين كان يضع أقطاب الاقتصاد الطبيعي الكلاسيكي بذور هذا العلم وبُنياته الأوّلية ، سادت الفكر الاقتصادي يومذاك فكرتان

إحداهما : أنّ الحياة الاقتصادية تسير وفقاً لقوى طبيعة محدّدة ، تتحكّم في كلّ الكيان الاقتصادي للمجتمع ، كما تسير شتى مناحي الكون طبقاً لقوى الطبيعة المتنوّعة والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة الاقتصادية هو استكشاف قوانينها العامة وقواعدها الأساسية ، التي تصلح لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية

والفكرة الأخرى : هي أنّ تلك القوانين الطبيعية ، التي يجب على علم الاقتصاد استكشافها ، كفيلة بضمان السعادة البشرية إذا عملت في جوّ حرّ ، وأتيح لجميع أفراد المجتمع التمتّع بالحرّيات الرأسمالية ، حرّيات : التملّك ، والاستغلال ، والاستهلاك

٢١٧

وقد وَضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي ، ووضعت الفكرة الثانية بذرته المذهبية ، غير أنّ الفكرتين أو البذرتين ارتبطتا في بادئ الأمر ارتباطاً وثيقاً ، حتى خيّل للمفكّرين الاقتصاديين يومئذٍ : أنّ تقييد حرّية الأفراد والتدخل في الشؤون الاقتصادية من الدولة يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها ، التي كفلت للإنسانية رخاءها وحلّ جميع مشاكلها ، فكلّ محاولة لإهدار شيء من الحرّيات الرأسمالية تعتبر جريمة في حقّ القوانين الطبيعية العادلة وهكذا انتهى بهم هذا القول : بأنّ تلك القوانين الخيّرة تفرض بنفسها المذهب الرأسمالي ، وتحتّم على المجتمع ضمان الحرّيات الرأسمالية

غير أنّ هذا اللون من التفكير يبدو الآن مضحكاً وطفولياً إلى حدٍّ كبير ؛ لأنّ الخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أنّ هناك جريمة ارتكبت في حقّ هذا القانون ، وإنّما يبرهن على خطأ القانون نفسه ، وينزع عنه وصفه العلمي الموضوعي ؛ لأنّ القوانين الطبيعية لا تتخلّف في ظلّ الشروط والظروف اللازمة لها ، وإنّما قد تتغير الشروط والظروف ، فمن الخطأ أن تعتبر الحرّيات الرأسمالية تعبيراً عن قوانين طبيعية ، وتعتبر مخالفتها جريمة في حقّ تلك القوانين فقوانين الاقتصاد الطبيعية تعمل ولا تكفّ عن العمل في جميع الأحوال ومهما اختلفت درجة الحرّية التي يتمتّع بها الأفراد في حقول التملك والاستغلال والاستهلاك ، وإنّما قد يحدث أن يختلف مفعول تلك القوانين تبعاً لاختلاف الشروط والظروف التي تعمل في ظلّها ، كما تختلف قوانين الفيزياء في آثارها ونتائجها طبقاً لاختلاف شروطها وظروفها .

فيجب إذن أن تدرس الحرّيات الرأسمالية لا بوصفها ضرورات علمية تحتّمها القوانين الطبيعية من وجهة رأي الرأسماليين حتى تكتسب بذلك الطابع العلمي ، وإنّما تدرس على أساس مدى ما تتيح للإنسان من سعادة وكرامة ، وللمجتمع من قِيم ومُثُل وهذا هو الأساس الذي اتّبعه بعد ذلك علماء الاقتصاد الرأسمالي في دراسة الرأسمالية المذهبية

٢١٨

وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم الفرق الجوهري ـ الذي ألمعنا إليه في مستهل هذا الفصل ـ بين الماركسية والرأسمالية ، إذ تختلف العلاقة بين الجانب العلمي والجانب المذهبي من الماركسية اختلافاً أساسياً عن العلاقة بين الاقتصاد العلمي والاقتصاد المذهبي للرأسمالية ؛ فإنّ الماركسية المذهبية التي تتمثّل في الاشتراكية والشيوعية ، تُعتبر نتيجة حتمية لقوانين المادّية التأريخية التي تعبّر عن القوانين الطبيعية للتأريخ من وجهة رأي الماركسية فإذا كانت المادّية التأريخية على صواب في تفسير التأريخ فهي تبرهن على الجانب المذهبي من الماركسية ولذلك يعتبر درس الجانب العلمي من الماركسية أساساً لدرس الجانب المذهبي منها ، وشرطاً ضرورياً للحكم في صالح المذهب الماركسي أو ضدّه ولا يمكن لباحث مذهبي أن ينقد الاشتراكية والشيوعية بصورة مستقلة عن أساسها العلمي ، عن المادّية التأريخية

أمّا الرأسمالية المذهبية فليست هي نتيجة لعلم الاقتصاد الذي شاده الرأسماليون ، ولا يرتبط مصيرها بمدى نجاح الجانب العلمي للرأسمالية في تفسير الواقع الموضوعي ، وإنّما ترتكز الرأسمالية المذهبية على قيم وأفكار خلقية وعملية معيّنة يجب أن تعتبر هي المقياس للحكم في حقّ المذهب الرأسمالي

وهكذا يتضح أنّ موقفنا ـ بوصفنا نؤمن بمذهب اقتصادي يتميّز عن الرأسمالية والماركسية ـ تجاه الماركسية يختلف عن موقفنا من الرأسمالية ؛ فنحن تجاه الماركسية أمام مذهب اقتصادي يزعم أنّه : يرتكز على قوانين علم التأريخ ( المادّية التأريخية ) فمن الضروري لنقد هذا المذهب أن نتناول تلك القوانين العلمية المزعومة بالدرس والتمحيص ولأجل ذلك عرضنا المادّية التأريخية بمفاهيمها ومراحلها ، تمهيداً إلى إصدار الحكم في حقّ المذهب الماركسي نفسه ، وأمّا بالنسبة إلى موقفنا تجاه الرأسمالية المذهبية ، أي الحرّيات الرأسمالية ، فنحن نواجه مذهباً لا يستمدّ كيانه من القوانين العلمية ، ليكون المنهج الضروري لدراسته هو بحث تلك القوانين وتدقيقها ، وإنّما نواجه مذهباً يستمدّ كيانه من تقديرات خُلُقية وعملية معيّنة ولهذا فسوف لن نتحدّث عن الجانب العلمي من الرأسمالية إلاّ بالقدر الذي يوضح : أنّ الجانب المذهبي ليس نتيجة حتمية له ، ولا يحمل طابعه العلمي ، ثمّ ندرس المذهب الرأسمالي في ضوء الأفكار العملية والقيم الخُلُقية التي يرتكز عليها ؛ لأنّ بحوث هذا الكتاب تحمل كلّها الطابع المذهبي ، ولا تتّسع للجوانب العلمية إلاّ بمقدار ما يتطلّبه الموقف المذهبي .

٢١٩

ودراسة المذهب الرأسمالي على هذا الأساس وإن كانت تتوقّف أيضاً على شيء من البحث العلمي ، غير أنّ دور البحث العلمي في هذه الدراسة يختلف كلّ الاختلاف عن دوره في دراسة المذهب الماركسي ؛ فإنّ البحث العلمي في قوانين المادّية التأريخية كان وحده هو الذي يستطيع أن يصدر الحكم النهائي في حقّ الماركسية المذهبية كما سبق وأمّا البحث العلمي في مجال نقد الرأسمالية المذهبية فليس هو المرجع الأعلى للحكم في حقّها ؛ لأنّها لا تدّعى لنفسها طابعاً علمياً

وإنّما يُستعان بالبحث العلمي لتكوين فكرة كاملة عن النتائج الواقعية ( الموضوعية ) ، التي تتمخّض عنها الرأسمالية على الصعيد الاجتماعي ، ونوعية الاتجاهات التي تتّجِهُها قوانين الحركة الاقتصادية في ظل الرأسمالية ، لكي تقاس تلك النتائج والاتجاهات التي يسفر عنها تطبيق المذهب بالمقاييس الخُلُقية والأفكار العملية التي يؤمن بها الباحث فوظيفة البحث العلمي في دراسة المذهب الرأسمالي إعطاء صورة كاملة عن واقع المجتمع الرأسمالي لنقيس تلك الصورة بالمقاييس العملية الخاصة وليست وضيفته تقديم البرهان على حتمية المذهب الرأسمالي أو خطأه .

فكم يخطئ الباحث ـ على هذا الأساس الذي قدّمناه ـ إذا تلقّى المذهبالرأسمالي من العلماء الرأسماليين بوصفه حقيقة علمية ، أو جزءاً من علم الاقتصاد السياسي ، ولم يميّز بين الصفة العلمية والصفة المذهبية لأولئك الاقتصاديين فيخيّل له ـ مثلاً ـ حين يحكم هؤلاء بأنّ توفير الحرّيات الرأسمالية خير وسعادة للجميع إنّ هذا رأي علمي أو قائم على أساس علمي كالقانون الاقتصادي القائل مثلاً :( إذا زاد العرض انخفض الثمن ) ، مع أنّ هذا القانون تفسير علمي لحركة الثمن كما توجد في السوق وأمّا الحكم السابق بشأن الحرّيات الرأسمالية فهو حكم مذهبي يصدره أنصاره بوصفهم المذهبي ، ويستمدّونه من القيم والأفكار الخُلُقية والعلمية التي يؤمنون بها فلا تعني صحّة ذلك القانون العلمي أو غيره من القوانين العلمية أن يكون هذا الحكم المذهبي صحيحاً ، وإنّما يتوقّف هذا الحكم على صحّة القيم والأفكار التي أقيم على أساسها

٢٢٠