اقتصادنا

اقتصادنا7%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152643 / تحميل: 9466
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

نفي الآلهة غير الله لا نفي الآلهة و إثبات الإله تعالى(1) و هو ظاهر فلا حاجة إلى ما تكلّف به بعضهم أنّ الضمير لكلمة التوحيد المعلوم ممّا تكلّم به إبراهيمعليه‌السلام .

و المراد بعقبه ذرّيّته و ولده، و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يرجعون من عبادة آلهة غير الله إلى عبادته تعالى أي يرجع بعضهم - و هم العابدون لغير الله بدعوة بعضهم و هم العابدون لله - إلى عبادته تعالى، و بهذا يظهر أنّ المراد ببقاء الكلمة في عقبه عدم خلوّهم عن الموحّد ما داموا، و لعلّ هذا عن استجابة دعائهعليه‌السلام إذ يقول:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) إبراهيم: 35.

و قيل: الضمير في( جعل) لإبراهيمعليه‌السلام فهو الجاعل هذه الكلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجعوا إليها، و المراد بجعلها باقية فيهم وصيّته لهم بذلك كما قال تعالى:( وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) البقرة: 132.

و أنت خبير بأنّ الوصيّة بكلمة التوحيد لا تسمّى جعلاً للكلمة باقية في العقب و إن صحّ أن يقال: أراد بها ذلك لكنّه غير جعلها باقية فيهم.

و قيل: المراد أنّ الله جعل الإمامة كلمة باقية في عقبه و سيجي‏ء الكلام فيه في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و يظهر من الآية أنّ ذرّيّة إبراهيمعليه‌السلام لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: ( بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) إضراب عمّا يفهم من الآية السابقة، و المعنى: أنّ رجوعهم عن الشرك إلى التوحيد كان هو الغاية المرجوّة منهم لكنّهم لم يرجعوا بل متّعت هؤلاء من قومك و آباءهم فتمتّعوا بنعمي( حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ) .

و لعلّ الالتفات إلى التكلّم وحده في قوله:( بَلْ مَتَّعْتُ ) للإشارة إلى تفخيم

____________________

(1) و ذلك أن ( الله ) فيها مرفوع على البدلية لا منصوب على الاستثناء.

١٠١

جرمهم و أنّهم لا يقصدون في كفرانهم للنعمة و كفرهم بالحقّ و رمية بالسحر إلّا إيّاه تعالى وحده.

و المراد بالحقّ الّذي جاءهم هو القرآن، و بالرسول المبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ ) هذا طعنهم في الحقّ الّذي جاءهم و هو القرآن و يستلزم الطعن في الرسول. كما أنّ قولهم الآتي:( لَوْ لا نُزِّلَ ) إلخ، كذلك.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) المراد بالقريتين مكّة و الطائف، و مرادهم بالعظمة - على ما يفيده السياق - ما هو من حيث المال و الجاه اللّذين هما ملاك الشرافة و علوّ المنزلة عند أبناء الدنيا، و المراد بقوله:( رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) رجل من إحدى القريتين حذف المضاف إيجازاً.

و مرادهم أنّ الرسالة منزلة شريفة إلهيّة لا ينبغي أن يتلبّس به إلّا رجل شريف في نفسه عظيم مطاع في قومه، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقير فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن الّذي جاء به وحياً نازلاً من الله فلو لا نزّل على رجل عظيم من مكّة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة.

و في المجمع: و يعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين الوليد بن المغيرة من مكّة و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفيّ من الطائف. عن قتادة، و قيل: عتبة بن أبي ربيعة من مكّة و ابن عبد ياليل من الطائف. عن مجاهد، و قيل: الوليد بن المغيرة من مكّة و حبيب بن عمر الثقفيّ من الطائف. عن ابن عبّاس. انتهى.

و الحقّ أنّ ذلك من تطبيق المفسّرين و إنّما قالوا ما قالوا على الإبهام و أرادوا أحد هؤلاء من عظماء القريتين على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلخ، المراد بالرحمة - على ما يعطيه السياق - النبوّة.

و قال الراغب: العيش الحياة المختصّة بالحيوان، و هو أخصّ من الحياة لأنّ الحياة تقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك، و يشتقّ منه المعيشة لما يتعيّش

١٠٢

به. انتهى. و قال: التسخير سياقه إلى الغرض المختصّ قهراً - إلى أن قال -: و السخريّ هو الّذي يُقهر فيتسخّر بإرادته. انتهى.

و الآية و الآيتان بعدها في مقام الجواب عن قولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ ) إلخ، و محصّلها أنّ قولهم هذا تحكّم ظاهر ينبغي أن يتعجّب منه فإنّهم يحكمون فيما لا يملكون. هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها و يرتزقون و هي رحمة منّا لا قدر لها و لا منزلة عندنا و ليست إلّا متاعاً زائلاً نحن نقسمها بينهم و هي خارجة عن مقدرتهم و مشيّتهم فكيف يقسمون النبوّة الّتي هي الرحمة الكبرى و هي مفتاح سعادة البشر الدائمة و الفلاح الخالد فيعطونها لمن شاؤا و يمنعونها ممّن شاؤا.

فقوله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) الاستفهام للإنكار، و الالتفات إلى الغيبة في قوله:( رَحْمَتَ رَبِّكَ ) و لم يقل: رحمتنا، للدلالة على اختصاص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعناية الربوبيّة في النبوّة.

و المعنى: أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة لله خاصّة به حتّى يمنعوك منها و يعطوها لمن هووا.

و قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) بيان لوجه الإنكار في الجملة السابقة بأنّهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل و لا منزلة له و هو معيشتهم في الحياة الدنيا فنحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون ما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره و هو النبوّة الّتي هي رحمة ربّك الخاصّة به.

و الدليل على أنّ الأرزاق و المعايش ليست بيد الإنسان اختلاف أفراده بالغنى و الفقر و العافية و الصحّة و في الأولاد و سائر ما يعدّ من الرزق، و كلّ يريد أن يقتني منها ما لا مزيد عليه، و لا يكاد يتيسّر لأحد منهم جميع ما يتمنّاه و يرتضيه فلو كان ذلك بيد الإنسان لم يوجد معدم فقير في شي‏ء منها بل لم يختلف اثنان فيها فاختلافهم فيها أوضح دليل على أنّ الرزق مقسوم بمشيّة من الله دون الإنسان.

على أنّ الإرادة و العمل من الإنسان بعض الأسباب الناقصة لحصول المطلوب الّذي هو الرزق و وراءهما أسباب كونيّة لا تحصى خارجة عن مقدرة الإنسان لا يحصل

١٠٣

المطلوب إلّا بحصولها جميعاً و اجتماعها عليه و ليست إلّا بيد الله الّذي إليه تنتهي الأسباب.

هذا كلّه في المال و أمّا الجاه فهو أيضاً مقسوم من عندالله فإنّه يتوقّف على صفات خاصّة بها ترتفع درجات الإنسان في المجتمع فيتمكّن من تسخير من هو دونه كالفطنة و الدهاء و الشجاعة و علوّ الهمّة و إحكام العزيمة و كثرة المال و العشيرة و شي‏ء من ذلك لا يتمّ إلّا بصنع من الله سبحانه، و ذلك قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

فيتبيّن بمجموع القولين أعني قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا ) إلخ، و قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) إلخ، إنّ القاسم للمعيشة و الجاه بين الناس هو الله سبحانه لا غير، و قوله:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي النبوّة خير من المال فكيف يملكون قسمها و هم لا يملكون قسم المال فيما بينهم.

و من الممكن أن يكون قوله:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ) عطف تفسير على قوله:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ) إلخ، يبيّن قسم المعيشة بينهم ببيان علل انقسامها في المجتمع الإنسانيّ، بيان ذلك أنّ كثرة حوائج الإنسان في حياته الدنيا بحيث لا يقدر على رفع جميعها في عيش انفراديّ أحوجته إلى الاجتماع مع غيره من الأفراد على طريق الاستخدام و الاستدرار أوّلاً و على طريق التعاون و التعاضد ثانياً كما مرّ في مباحث النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب.

فآل الأمر إلى المعاوضة العامّة المفيدة لنوع من الاختصاص بأن يعطي كلّ ممّا عنده من حوائج الحياة ما يفضل من حاجته و يأخذ به من الغير ما يعادله ممّا يحتاج إليه فيعطي مثلاً ما يفضل من حاجته من الماء الّذي عنده و قد حصّله و اختصّ به و يأخذ من غيره ما يزيد على قوته من الغذاء، و لازم ذلك أن يسعى كلّ فرد بما يستعدّ له و يحسنه من السعي فيقتني ممّا يحتاج إليه ما يختصّ به، و لازم ذلك أن يحتاج غيره إليه فيما عنده من متاع الحياة فيتسخّر له فيفيده ما يحتاج إليه كالخبّاز يحتاج إلى ما عند السقّاء من الماء و بالعكس فيتعاونان بالمعاوضة و كالمخدوم يتسخّر للخادم لخدمته و الخادم يتسخّر للمخدوم لماله و هكذا فكلّ بعض من المجتمع مسخّر

١٠٤

لآخرين بما عنده و الآخرون متسخّرون له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط لما أنّ كلّا يرتفع على غيره بما يختصّ به ممّا عنده بدرجات مختلفة باختلاف تعلّق الهمم و القصود به.

و على ما تقدّم فالمراد بالمعيشة كلّ ما يعاش به أعمّ من المال و الجاه أو خصوص المال و غيره تبع له كما يؤيّده قوله ذيلاً:( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) فإنّ المراد به المال و غيره من لوازم الحياة مقصود بالتبع.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً - إلى قوله -وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ) الآية و ما يتلوها لبيان أنّ متاع الدنيا من مال و زينة لا قدر لها عند الله سبحانه و لا منزلة.

قالوا: المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم مجتمعين على سنّة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أنّ زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله و المؤمن صفر الكفّ منها مطلقاً، و المعارج الدرجات و المصاعد.

و المعنى: و لو لا أن يجتمع الناس على الكفر لو رأوا تنعّم الكافرين و حرمان المؤمنين لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة و درجات عليها يظهرون لغيرهم.

و يمكن أن يكون المراد بكون الناس اُمّة واحدة كونهم جميعاً على نسبة واحدة تجاه الأسباب العاملة في حظوظ العيش من غير فرق بين المؤمن و الكافر، فمن سعى سعيه للرزق و وافقته الأسباب و العوامل الموصلة الاُخرى نال منه مؤمناً كان أو كافراً، و من لم يجتمع له حرم ذلك و قتر عليه الرزق مؤمناً أو كافراً.

و المعنى: لو لا ما أردنا أن يتساوى الناس تجاه الأسباب الموصلة إلى زخارف الدنيا و لا يختلفوا فيها بالإيمان و الكفر لجعلنا لمن يكفر، إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً ) تنكير( أَبْواباً ) و( سُرُراً ) للتفخيم، و الزخرف الذهب أو مطلق الزينة، قال في المجمع: الزخرف كمال حسن الشي‏ء و منه قيل للذهب، و يقال: زخرفه زخرفة إذا حسّنه و زيّنه، و منه

١٠٥

قيل للنقوش و التصاوير: زخرف، و في الحديث: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل الكعبة حتّى أمر بالزخرف فنحّي. انتهى. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) ( إِنْ ) للنفي و( لَمَّا ) بمعنى إلّا أي ليس كلّ ما ذكر من مزايا المعيشة إلّا متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية الّتي لا تدوم.

و قوله:( وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) المراد بالآخرة بقرينة المقام الحياة الآخرة السعيدة كان الحياة الآخرة الشقيّة لا تعدّ حياة.

و المعنى: أنّ الحياة الآخرة السعيدة بحكم من الله تعالى و قضاء منه مختصّة بالمتّقين، و هذا التخصيص و القصر يؤيّد ما قدّمناه من معنى كون الناس اُمّة واحدة في الدنيا بعض التأييد.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) يقال: عشي يعشى عشاً من باب علم يعلم إذا كان ببصره آفة لا يبصر مطلقاً أو بالليل فقط، و عشا يعشو عشواً و عشوّاً من باب نصر ينصر إذا تعامى و تعشّى بلا آفة، و التقييض التقدير و الإتيان بشي‏ء إلى شي‏ء، يقال: قيّضه له إذا جاء به إليه.

لمّا انتهى الكلام إلى ذكر المتّقين و أنّ الآخرة لهم عندالله قرنه بعاقبة أمر المعرضين عن الحقّ المتعامين عن ذكر الرحمن مشيراً إلى أمرهم من أوّله و هو أنّ تعاميهم عن ذكر الله يورثهم ملازمة قرناء الشياطين فيلازمونهم مضلّين لهم حتّى يردوا عذاب الآخرة معهم.

فقوله:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ) أي من تعامى عن ذكر الرحمن و نظر إليه نظر الأعشى جئنا إليه بشيطان، و قد عبّر تعالى عنه في موضع آخر بالإرسال فقال:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) مريم: 83، و إضافة الذكر إلى الرحمن للإشارة إلى أنّه رحمة.

و قوله:( فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) أي مصاحب لا يفارقه.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) ضمير

١٠٦

( أنّهم ) للشياطين، و ضمائر الجمع الباقية للعاشين عن الذكر، و اعتبار الجمع نظراً إلى المعنى في( وَ مَنْ يَعْشُ ) إلخ، و الصدّ الصرف، و المراد بالسبيل ما يدعو إليه الذكر من سبيل الله الّذي هو دين التوحيد.

و المعنى: و إنّ الشياطين ليصرفون العاشين عن الذكر و يحسب العاشون أنّهم - أي العاشين أنفسهم - مهتدون إلى الحقّ.

و هذا أعني حسبانهم أنّهم مهتدون عند انصدادهم عن سبيل الحقّ أمارة تقييض القرين و دخولهم تحت ولاية الشيطان فإنّ الإنسان بطبعه الأوّليّ مفطور على الميل إلى الحقّ و معرفته إذا عرض عليه ثمّ إذا عرض عليه فأعرض عنه اتّباعاً للهوى و دام عليه طبع الله على قلبه و أعمى بصره و قيّض له القرين فلم ير الحقّ الّذي تراءى له و طبق الحقّ الّذي يميل إليه بالفطرة على الباطل الّذي يدعوه إليه الشيطان فيحسب أنّه مهتد و هو ضالّ و يخيّل إليه أنّه على الحقّ و هو على الباطل.

و هذا هو الغطاء الّذي يذكر تعالى أنّه مضروب عليهم في الدنيا و أنّه سينكشف عنهم يوم القيامة، قال تعالى:( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي - إلى أن قال -قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) الكهف: 104، و قال فيما يخاطبه يوم القيامة و معه قرينه:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) - إلى أن قال -( قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) ق: 27.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ( حَتَّى ) غاية لاستمرار الفعل الّذي يدلّ عليه قوله في الآية السابقة:( لَيَصُدُّونَهُمْ ) و قوله:( يَحْسَبُونَ ) أي لا يزال القرناء يصدّونهم و لا يزالون يحسبون أنّهم مهتدون حتّى إذا جاءنا الواحد منهم.

و المراد بالمجي‏ء إليه تعالى البعث، و ضمير( جاء ) و( قال ) راجع إلى الموصول باعتبار لفظه، و المراد بالمشرقين المشرق و المغرب غلّب فيه جانب المشرق.

و المعنى: و أنّهم يستمرّون على صدّهم عن السبيل و يستمرّ العاشون عن الذكر

١٠٧

على حسبان أنّهم مهتدون في انصدادهم حتّى إذا حضر الواحد منهم عندنا و معه قرينه و كشف له عن ضلاله و ما يستتبعه من العذاب الأليم، قال مخاطباً لقرينه متأذّياً من صحابته: يا ليت بيني و بينك بعد المشرق و المغرب فبئس القرين أنت.

و يستفاد من السياق أنّهم معذّبون بصحابة القرناء وراء عذابهم بالنار، و لذا يتمنّون التباعد عنهم و يخصّونه بالذكر و ينسون سائر العذاب.

قوله تعالى: ( وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الظاهر أنّه معطوف على ما قبله من وصف حالهم، و المراد باليوم يوم القيامة، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) و المراد بضمير جمع المخاطب العاشون عن الذكر و قرناؤهم، و( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) واقع موقع التعليل.

و المراد - و الله أعلم - أنّكم إذا أساء بعضكم إلى بعض في الدنيا فأوقعه في مصيبة ربّما تسليتم بعض التسلّي لو ابتلي هو نفسه بمثل ما ابتلاكم به فينفعكم ذلك تسلّياً و تشفّياً لكن لا ينفعكم يوم القيامة اشتراك قرنائكم معكم في العذاب فإنّ اشتراكهم معكم في العذاب و كونهم معكم في النار هو بعينه عذاب لكم.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ فاعل( لَنْ يَنْفَعَكُمُ ) ضمير راجع إلى تمنّيهم المذكور في الآية السابقة، و قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدّنيا باتّباعكم إيّاهم في الكفر و المعاصي، و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليل لنفي النفع و المعنى: و لن ينفعكم تمنّي التباعد عنكم لأنّ حقّكم أن تشتركوا أنتم و قرناؤكم في العذاب.

و فيه أنّ فيه تدافعاً فإنّه أخذ قوله:( إِذْ ظَلَمْتُمْ ) تعليلاً لنفي نفع التمنّي أوّلاً و قوله:( أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) تعليلاً له ثانياً و لازم التطابق بين التعليلين أن يذكر ثانياً القضاء على المتمنّين التابعين بالعذاب لا باشتراك التابعين و المتبوعين فيه.

و قال بعضهم: معنى الآية أنّه لا يخفّف الاشتراك عنكم شيئاً من العذاب لأنّ

١٠٨

لكلّ واحد منكم و من قرنائكم الحظّ الأوفر من العذاب.

و فيه أنّ ما ذكر من سبب عدم النفع و إن فرض صحيحاً في نفسه لكن لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية و لا سياق الكلام.

و قال بعضهم: المعنى: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمّل أعبائها و تقسّمهم لعنائها لأنّ لكلّ منكم و من قرنائكم من العذاب ما لا تبلغه طاقته.

و فيه ما في سابقه من الكلام، و ردّ أيضاً بأنّ الانتفاع بذلك الوجه ليس ممّا يخطر ببالهم حتّى يردّ عليهم بنفيه.

قوله تعالى: ( أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) لمّا ذكر تقييضه القرناء لهم و تقليبهم إدراكهم بحيث يرون الضلال هدىً و لا يقدرون على معرفة الحقّ فرّع عليه أن نبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هؤلاء صمّ عمي لا يقدر هو على إسماعهم كلمة الحقّ و هدايتهم إلى سبيل الرشد فلا يتجشّم و لا يتكلّف في دعوتهم و لا يحزن لإعراضهم، و الاستفهام للإنكار، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) المراد بالإذهاب به توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الانتقام منهم، و قيل: المراد إذهابه بإخراجه من بينهم، و قوله:( فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) أي لا محالة، و المراد بإراءته ما وعدهم الانتقام منهم قبل توفّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو حال كونه بينهم، و قوله:( فإنا عليهم مقتدرون) أي اقتدارنا يفوق عليهم.

و قوله في الصدر:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) أصله إن نذهب بك زيدت عليه ما و النون للتأكيد، و محصّل الآية إنّا منتقمون منهم بعد توفّيك أو قبلها لا محالة.

قوله تعالى: ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الظاهر أنّه تفريع لجميع ما تقدّم من أنّ إنزال الذكر من طريق الوحي و النبوّة من سننه تعالى و أنّ كتابه النازل عليه حقّ و هو رسول مبين لا يستجيب دعوته إلّا المتّقون و لا يعرض عنها إلّا قرناء الشياطين، و لا مطمع في إيمانهم و سينتقم الله منهم.

١٠٩

فأكّد عليه الأمر بعد ذلك كلّه أن يجدّ في التمسّك بالكتاب الّذي اُوحي إليه لأنّه على صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالذكر ذكر الله، و بهذا المعنى تكرّر مراراً في السورة، و اللام في( لَكَ وَ لِقَوْمِكَ ) للاختصاص بمعنى توجّه ما فيه من التكاليف إليهم، و يؤيّده بعض التأييد قوله:( وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) أي عنه يوم القيامة.

و عن أكثر المفسّرين أنّ المراد بالذكر الشرف الّذي يذكر به، و المعنى: و إنّه لشرف عظيم لك و لقومك من العرب تذكرون به بين الاُمم.

قوله تعالى: ( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من اُممهم و علماء دينهم كقوله تعالى:( فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) يونس: 94، و فائدة هذا المجاز أنّ المسؤل عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم.

و قيل: المراد السؤال من أهل الكتابين: التوراة و الإنجيل فإنّهم و إن كفروا لكنّ الحجّة تقوم بتواتر خبرهم، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و التكليف لاُمّته.

و بُعد الوجهين غير خفيّ و يزيد الثاني بعداً التخصيص بأهل الكتابين من غير مخصّص ظاهر.

و قيل: الآية ممّا خوطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المعراج أن يسأل أرواح الأنبياءعليهم‌السلام و قد اجتمع بهم أن يسألهم هل جاؤا بدين وراء دين التوحيد.

و قد وردت به غير واحدة من الروايات عن أئمّة أهل البيتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سيوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) و قيل: الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين: عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

١١٠

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر و قد طبّقت الآية في بعضها على الإمامة في عقب الحسينعليه‌السلام .

و التأمّل في الروايات يعطي أنّ بناءها على إرجاع الضمير في( جَعَلَها ) إلى الهداية المفهومة من قوله:( سَيَهْدِينِ ) و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) أنّ الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم و إيرادهم درجات القرب من الله سبحانه و إنزال كلّ ذي عمل منزلة الّذي يستدعيه عمله، و حقيقة الهداية من الله سبحانه و تنسب إليه بالتبع أو بالعرض.

و فعليّة الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أوّلاً ثمّ تفيض عنه إلى غيره فله أتمّ الهداية و لغيره ما هي دونها و ما ذكره إبراهيمعليه‌السلام في قوله:( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتمّ مراتب الهداية الّتي هي حظّ الإمام منها فهي الإمامة و جعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك.

و في الإحتجاج، عن العسكريّ عن أبيهعليه‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قاعداً ذات يوم بفناء الكعبة إذ قال له عبدالله بن اُميّة المخزوميّ: لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولاً لبعث أجلّ من فيما بيننا مالاً و أحسنه حالاً فهلاً نزل هذا القرآن الّذي تزعم أنّ الله أنزله عليك- و ابتعثك به رسولاً، على رجل من القريتين عظيم: إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة و إمّا عروة بن مسعود الثقفيّ بالطائف.

ثمّ ذكرعليه‌السلام في كلام طويل جواب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله بما في معنى الآيات.

ثمّ قال: و ذلك قوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) قال الله:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) يا محمّد( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) فأحوجنا بعضنا إلى بعض أحوج هذا إلى مال ذلك و أحوج ذلك إلى سلعة هذا و إلى خدمته.

فترى أجلّ الملوك و أغنى الأغنياء محتاجاً إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب إمّا سلعة معه ليست معه، و إمّا خدمة يصلح لها لا يتهيّأ لذلك الملك أن يستغني إلّا به

١١١

و أمّا باب من العلوم و الحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير الّذي يحتاج إلى مال ذلك الملك الغنيّ، و ذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته.

ثمّ ليس للملك أن يقول: هلّا اجتمع إلي مالي علم هذا الفقير و لا للفقير أن يقول: هلّا اجتمع إلى رأيي و معرفتي و علمي و ما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنيّ، ثمّ قال تعالى:( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) .

ثمّ قال: يا محمّد( وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.

و في الكافي، بإسناده عن سعيد بن المسيّب قال: سألت عليّ بن الحسينعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) قال: عنى بذلك اُمّة محمّد أن يكونوا على دين واحد كفّاراً كلّهم( لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ) إلى آخر الآية.

و في تفسير القمّي، بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ) يا محمّد من مكّة إلى المدينة فإنّا رادّوك إليها و منتقمون منهم بعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه عن قتادة في قوله:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ) قال: قال أنس ذهب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بقيت النقمة و لم ير الله نبيّه في اُمّته شيئاً يكرهه حتّى قبض و لم يكن نبيّ قطّ إلّا و قد رأى العقوبة في اُمّته إلّا نبيّكم رأى ما يصيب اُمّته بعده فما رؤي ضاحكاً منبسطاً حتّى قبض.

أقول: و روي فيه هذا المعنى عنه و عن عليّ بن أبي طالب و عن غيرهما بطرق اُخرى.

و فيه، أخرج ابن مردويه من طريق محمّد بن مروان عن الكلبيّ عن أبي صالح عن جابر بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى:( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ )

١١٢

نزلت في عليّ بن أبي طالب أنّه ينتقم من الناكثين و القاسطين بعدي.

أقول: ظاهر الرواية و ما قبلها و ما في معناهما أنّ الوعيد في الآيتين للمنحرفين عن الحقّ من أهل القبلة دون كفّار قريش.

و في الإحتجاج، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث طويل يقول فيه: و أمّا قوله تعالى:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) فهذا من براهين نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي آتاه الله إيّاها و أوجب به الحجّة على سائر خلقه لأنّه لمّا ختم به الأنبياء و جعله الله رسولاً إلى جميع الاُمم و سائر الملل خصّه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوه من عزائم الله و آياته و براهينه. الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن أبي الربيع عن أبي جعفرعليه‌السلام في جواب ما سأله نافع بن الأزرق، و رواه في الدرّ المنثور، بطرق عن سعيد بن جبير و ابن جريح و ابن زيد.

١١٣

( سورة الزخرف الآيات 46 - 56)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 46 ) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ( 47 ) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا  وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 48 ) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( 50 ) وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( 51 ) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ( 52 ) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ( 53 ) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ  إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 54 ) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 55 ) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ ( 56 )

( بيان‏)

لمّا ذكر طغيانهم بعد تمتيعهم بنعمه و رميهم الحقّ الّذي جاءهم به رسول مبين بأنّه سحر و أنّهم قالوا:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) فرجّحوا الرجل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكثرة ماله مثّل لهم بقصّة موسىعليه‌السلام و فرعون و قومه

١١٤

حيث أرسله الله إليهم بآياته الباهرة فضحكوا منها و استهزؤا بها، و احتجّ فرعون فيما خاطب به قومه على أنّه خير من موسى بملك مصر و أنهار تجري من تحته فاستخفّهم فأطاعوه فآل أمر استكبارهم أن انتقم الله منهم فأغرقهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) اللّام في( لَقَدْ ) للقسم، و الباء في قوله:( بِآياتِنا ) للمصاحبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ ) المراد بمجيئهم بالآيات إظهار المعجزات للدلالة على الرسالة، و المراد بالضحك ضحك الاستهزاء استخفافاً بالآيات.

قوله تعالى: ( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) إلخ، الاُخت المثل، و قوله:( هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ) كناية عن كون كلّ واحدة منها بالغة في الدلالة على حقّيّة الرسالة، و جملة( وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ) إلخ، حال من ضمير( مِنْها ) ، و المعنى: فلمّا أتاهم بالمعجزات إذا هم منها يضحكون و الحال أنّ كلّاً منها تامّة كاملة في إعجازها و دلالتها من غير نقص و لا قصور.

و قوله:( وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي رجاء أن يرجعوا عن استكبارهم إلى قبول رسالته، و المراد بالعذاب الّذي اُخذوا به آيات الرجز الّتي نزلت عليهم من السنين و نقص من الثمرات و الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم آيات مفصّلات كما في سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) ما في( بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ) مصدريّة أي بعهده عندك و المراد به عهده أن يكشف عنهم العذاب لو آمنوا كما قيل أو أن يستجيب دعاءه إذا دعا كما احتمله بعضهم.

و قولهم:( يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ) خطاب استهزاء استكباراً منهم كما قالوا: ادّع ربّك و لم يقولوا: ادع ربّنا أو ادع الله استكباراً، و المراد أنّهم طلبوا منه الدعاء لكشف العذاب عنهم و وعدوه الاهتداء.

١١٥

و قيل: معنى الساحر في عرفهم العالم و كان الساحر عندهم عظيماً يعظّمونه و لم يكن صفة ذمّ. و ليس بذاك بل كانوا ساخرين على استكبارهم كما يشهد به قولهم:( ادْعُ لَنا رَبَّكَ ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ) النكث نقض العهد و خلف الوعد، و وعدهم هو قولهم:( إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) أي ناداهم و هو بينهم، و فصل( قالَ ) لكونه في موضع جواب السؤال كأنّه قيل: فما ذا قال؟ فقيل: قال كذا.

و قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) أي من تحت قصري أو من بستاني الّذي فيه قصري المرتفع العالي البناء، و الجملة أعني قوله:( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) إلخ، حالية أو( وَ هذِهِ الْأَنْهارُ ) معطوف على( مُلْكُ مِصْرَ ) ، و قوله:( تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) حال من الأنهار، و الأنهار أنهار النيل.

و قوله:( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) في معنى تكرير الاستفهام السابق في قوله:( أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) المهين الحقير الضعيف من المهانة بمعنى الحقارة، و يريد بالمهين موسىعليه‌السلام لما به من الفقر و رثاثة الحال.

و قوله:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) أي يفصح عن مراده و لعلّه كان يصف موسىعليه‌السلام به باعتبار ما كان عليه قبل الرسالة لكنّ الله رفع عنه ذلك لقوله:( قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) طه: 36 بعد قولهعليه‌السلام :( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) طه: 28.

و قوله في صدر الآية:( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) إلخ، أم فيه إمّا منقطعة لتقرير كلامه السابق و المعنى: بل أنا خير من موسى لأنّه كذا و كذا، و إمّا متّصلة، و أحد طرفي الترديد محذوف مع همزة الاستفهام، و التقدير: أ هذا خير أم أنا خير إلخ، و في المجمع، قال سيبويه

١١٦

و الخليل: عطف أنا بأم على( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) لأنّ معنى( أَنَا خَيْرٌ ) معنى أم تبصرون فكأنّه قال: أ فلا تبصرون أم تبصرون لأنّهم إذا قالوا له: أنت خير منه فقد صاروا بصراء عنده انتهى. أي إنّ وضع( أَمْ أَنَا خَيْرٌ ) موضع أم تبصرون من وضع المسبّب موضع السبب أو بالعكس.

و كيف كان فالإشارة إلى موسى بهذا من دون أن يذكر باسمه للتحقير و توصيفه بقوله:( الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) للتحقير و للدلالة على عدم خيريّته.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الأسورة جمع سوار بالكسر، و قال الراغب: هو معرّب دستواره قالوا: كان من دأبهم أنّهم إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوار من ذهب و طوّقوه بطوق من ذهب فالمعنى لو كان رسولاً و ساد الناس بذلك لاُلقي إليه أسورة من ذهب.

و قوله:( أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) الظاهر أنّ الاقتران بمعنى التقارن كالاستباق و الاستواء بمعنى التسابق و التساوي، و المراد إتيان الملائكة معه متقارنين لتصديق رسالته، و هذه الكلمة ممّا تكرّرت على لسان مكذّبي الرسل كقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) الفرقان: 7.

قوله تعالى: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) أي استخفّ عقول قومه و أحلامهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) الإيساف الإغضاب أي فلمّا أغضبونا بفسوقهم انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، و الغضب منه تعالى إرادة العقوبة.

قوله تعالى: ( فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ ) السلف المتقدّم و الظاهر أنّ المراد بكونهم سلفاً للآخرين تقدّمهم عليهم في دخول النار، و المثل الكلام السائر الّذي يتمثّل به و يعتبر به، و الظاهر أن كونهم مثلاً لهم كونهم ممّا يعتبر به الآخرون لو اعتبروا و اتّعظوا.

١١٧

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا يَكادُ يُبِينُ ) قال: لم يبيّن الكلام.

و في التوحيد، بإسناده إلى أحمد بن أبي عبدالله رفعه إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) قال: إنّ الله لا يأسف كأسفنا و لكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون و يرضون و هم مخلوقون مدبّرون فجعل رضاهم لنفسه رضىً و سخطهم لنفسه سخطاً و ذلك لأنّه جعلهم الدعاة إليه و الأدلّاء عليه فلذلك صاروا كذلك.

و ليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه و لكن هذا معنى ما قال من ذلك، و قد قال أيضاً من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة و دعاني إليها، و قال أيضاً:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) ، و قال أيضاً:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) و كلّ هذا و شبهه على ما ذكرت لك، و هكذا الرضا و الغضب و غيرهما من الأشياء ممّا يشاكل ذلك.

و لو كان يصل إلى المكوّن الأسف و الضجر و هو الّذي أحدثهما و أنشأهما لجاز لقائل أن يقول: إنّ المكوّن يبيد يوماً لأنّه إذا دخله الضجر و الغضب دخله التغيير فإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، و لو كان ذلك كذلك لم يعرف المكوّن من المكوّن و إلا القادر من المقدور و لا الخالق من المخلوقين تعالى الله عن هذا القول علوّاً كبيراً.

هو الخالق للأشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ و الكيف فيه فافهم ذلك إن شاء الله.

أقول: و روي مثله في الكافي، بإسناده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن عمّه حمزة بن بزيع عنهعليه‌السلام .

١١٨

( سورة الزخرف الآيات 57 - 65)

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 ) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ  مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا  بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ( 58 ) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ( 60 ) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ  إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( 62 ) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ  فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( 63 ) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 64 ) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ  فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 65 )

( بيان‏)

إشارة إلى قصّة عيسى بعد الفراغ عن قصّة موسىعليهما‌السلام و قدّم عليها مجادلتهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عيسىعليه‌السلام و اُجيب عنها.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ - إلى قوله -خَصِمُونَ ) الآية إلى تمام أربع آيات أو ستّ آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل ابن مريم، و الّذي يتحصّل بالتدبّر فيها نظراً إلى كون السورة مكّيّة و مع قطع النظر عن الروايات هو أنّ المراد بقوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) هو ما أنزله

١١٩

الله من وصفه في أوّل سورة مريم فإنّها السورة المكّيّة الوحيدة الّتي وردت فيها قصّة عيسى بن مريمعليه‌السلام تفصيلاً، و السورة تقصّ قصص عدّة من النبيّين بما أنّ الله أنعم عليهم كما تختتم قصصهم بقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) مريم: 58، و قد وقع في هذه الآيات قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) و هو من الشواهد على كون قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) إشارة إلى ما في سورة مريم.

و المراد بقوله:( إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) بكسر الصاد أي يضجّون و يضحكون ذمّ لقريش في مقابلتهم المثل الحقّ بالتهكّم و السخريّة، و قرئ( يَصِدُّونَ ) بضمّ الصاد أي يعرضون و هو أنسب للجملة التالية.

و قوله:( وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) الاستفهام للإنكار أي آلهتنا خير من ابن مريم كأنّهم لمّا سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة و الكرامة أعرضوا عنه بما يصفه به القرآن و أخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنّه إله ابن إله فردّوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ آلهتنا خير منه و هذا من أسخف الجدال كأنّهم يشيرون بذلك إلى أنّ الّذي في القرآن من وصفه لا يعتنى به و ما عند النصارى لا ينفع فإنّ آلهتهم خير منه.

و قوله:( ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ) أي ما وجّهوا هذا الكلام:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) إليك إلّا جدلاً يريدون به إبطال المثل المذكور و إن كان حقّاً( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) أي ثابتون على خصومتهم مصرّون عليها.

و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) ردّ لما يستفاد من قولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) أنّه إله النصارى كما سيجي‏ء.

و قال الزمخشريّ في الكشّاف، و كثير من المفسّرين و نسب إلى ابن عبّاس و غيره في تفسير الآية: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قرأ قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً فقال ابن الزبعري:

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

٢ ـ ارتباط الاقتصاد الإسلامي بمفاهيم الإسلام عن الكون والحياة وطريقته الخاصة في تفسير الأشياء ، كالمفهوم الإسلامي عن الملكية الخاصة وعن الربح فالإسلام يرى أنّ الملكية حقّ رعاية يتضمّن المسئولية(١) وليس سلطاناً مطلقاً كما يعطي للربح مفهوماً أرحب وأوسع ممّا يعنيه في الحساب المادّي الخالص ، فيدخل في نطاق الربح ـ بمدلوله الإسلامي ـ كثير من النشاطات التي تعتبر خسارة بمنظار آخر غير إسلامي(٢)

ومن الطبيعي أن يكون لمفهوم الإسلام ذاك عن الملكية أثره في كيفية الاستفادة من حقّ الملكية الخاصة وتحديدها وفقاً لإطارها الإسلامي كما أنّ من الطبيعي أيضاً أن يتأثّر الحقل الاقتصادي بمفهوم الإسلام عن الربح أيضاً بالدرجة التي يحدّدها مدى عمق المفهوم وتركّزه ، وبالتالي يؤثّر المفهوم على مجرى الاقتصاد الإسلامي خلال تطبيقه فلا بدّ أن يدرس من خلال ذلك ، ولا يجوز أن يعزل عن تأثير المفاهيم الإسلامية المختلفة خلال التطبيق .

ـــــــــــــــ

(١) قال تعالى :( وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) سورة النور : ٣٣ و( وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) سورة الحديد : ٧ وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) فيما رواه عيسى بن موسى : ( يا عيسى ، المالُ مال الله جعله ودائعَ عند خَلْقِه ) مستدرك وسائل الشيعة ١٣ : ٥٢ ، الباب ١٩ من أبواب مقدمات التجارة ، الحديث ٩ وراجع أيضاً بحار الأنوار ١ : ٢٢٥ ، الباب ٧ ، الحديث ١٧ وتفسير العيّاشي ٢ : ١٣ ، الحديث ٢٣ وغرر الحكم ١ :٦٤ .

(٢) قال تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) سورة البقرة : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ وقال أيضاً :( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) سورة فاطر : ٢٩ وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : ( ما أدّى أحدٌ الزكاة فنقصت من ماله ، ولا منعها أحدٌ فزادت في ماله ) وسائل الشيعة ٩ :٢٣ ، الباب ٣ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ٦ .

٢٦١

٣ ـ ارتباط الاقتصاد الإسلامي بما يبثّه الإسلام في البيئة الإسلامية من عواطف وأحاسيس قائمة على أساس مفاهيمه الخاصة ، كعاطفة الأخوّة العامة(١) التي تفجّر في قلب كلّ مسلم ينبوعاً من الحبّ للآخرين ، والمشاركة لهم في آلامهم وأفراحهم ويثرى هذا الينبوع ويتدفّق تبعاً لدرجة الشعور العاطفي بالأخوّة ، وانصهار الكيان الروحي للإنسان بالعواطف الإسلامية والتربية المفروضة في المجتمع الإسلامي وهذه العواطف والمشاعر تلعب دوراً خطيراً في تكييف الحياة الاقتصادية وتساند المذهب فيما يستهدفه من غايات

٤ ـ الارتباط بين المذهب الاقتصادي والسياسة المالية للدولة إلى درجة تسمح باعتبار السياسة المالية جزءاً من برنامج المذهب الاقتصادي للإسلام ؛ لأنّها وضعت بصورة تلتقي مع السياسة الاقتصادية العامة ، وتعمل لتحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي فالسياسة المالية في الإسلام لا تكتفي بتموين الدولة بنفقاتها اللازمة ، وإنّما تستهدف المساهمة في إقرار التوازن الاجتماعي والتكافل العام ولهذا كان من الضروري اعتبار السياسة المالية جزءاً من السياسة الاقتصادية العامة ، وإدراج الأحكام المتعلّقة بالتنظيم المالي للدولة ضمن هيكل التشريع العام للحياة الاقتصادية ، كما سنرى في البحوث الآتية

ـــــــــــــــ

(١) قال تعالى :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) سورة الحجرات : ١٠ .

٢٦٢

٥ ـ الارتباط بين الاقتصاد الإسلامي والنظام السياسي في الإسلام ؛ لما تؤدّي عملية الفصل بينهما في البحث إلى خطأ في الدراسة فللسلطة الحاكمة صلاحيات اقتصادية واسعة ، وملكيّات كبيرة تتصرّف فيها طبقاً لاجتهادها ، وهذه الصلاحيات والملكيّات يجب أن تقرن في الدرس دائماً بواقع السلطة في الإسلام ، والضمانات التي وضعها الإسلام لنزاهة ولي الأمر واستقامته : من العصمة أو الشورى والعدالة ، على اختلاف المذاهب الإسلامية(١) ففي ضوء هذه الضمانات نستطيع أن ندرس مكانة الدولة في المذهب الاقتصادي ونؤمن بصحة إعطائها الصلاحيات والحقوق المفروضة لها في الإسلام .

٦ ـ الارتباط بين إلغاء رأس المال الربوي وأحكام الإسلام الأخرى في المضاربة والتكافل العام والتوازن الاجتماعي فإنّه إذا درس تحريم الرِّبا بصورة منفردة كان مثاراً لمشاكل خطيرة في الحياة الاقتصادية وأمّا إذا أخذناه بوصفه جزءاً من عملية واحدة مترابطة ، فسوف نجد أنّ الإسلام وضع لتلك المشاكل حلولها الواضحة التي تنسجم مع طبيعة التشريع الإسلامي وأهدافه وغاياته ، وذلك خلال أحكام المضاربة والتوازن والتكافل والنقد ، كما سنرى في موضعٍ قادم(٢)

٧ ـ الارتباط بين بعض أحكام الملكية الخاصة في الاقتصاد الإسلامي وأحكام الجهاد التي تنظّم علاقات المسلمين بغيرهم في حالات الحرب فقد سمح الإسلام لولي الأمر باسترقاق الأسرى بوصفهم جزءاً من الغنيمة وتوزيعهم على المجاهدين كما توزع سائر عناصر الغنيمة وقد اعتاد أعداء الإسلام الصليبيّون أن يعرضوا هذا الحكم من الشريعة الإسلامية منفصلاً عن شروطه وملابساته ؛ ليبرهنوا على أنّ الإسلام شريعة من شرائع الرقّ والاستعباد التي مُني بها الإنسان منذ ظلمات التأريخ ، ولم ينقذه منها سوى الحضارات الأوروبية الحديثة التي حرّرت الإنسانية لأوّل مرّة ومسحت عنها الوحل والهوان

ـــــــــــــــ

(١) راجع للتفصيل : بحار الأنوار ٢٥ : ١٩١ ـ ٢١١ ، الباب ٥ ، باب لزوم عصمتهم و : كمال الدين وتمام النعمة ١ : ١٠ ، وجوب عصمة الإمام و : نهج الحق وكشف الصدق : ١٦٤ ، وجوب عصمة الإمام و : الأحكام السلطانية ١ : ١٩ ـ ٢٣ و : شرح المواقف ٨ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ .

(٢) سيأتي البحث عنها في مبحث : مسئولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي

٢٦٣

ولكنّنا في دراسة مخلصة للإسلام وحكمه في الغنيمة يجب أن نعرف ـ قبل كلّ شيء ـ : متى يعتبر الشيء غنيمة في نظر الإسلام ؟ ونعرف بعد ذلك : كيف وفي أيّ حدود سمح الإسلام لولي الأمر باسترقاق الأسير بوصفه غنيمة ؟ ومن هو هذا الحاكم الذي أبيح له استرقاق الأسير بهذا الوصف ؟ فإذا استوعبنا هذه النواحي كلّها ، استطعنا أن ننظر إلى حكم الإسلام في الغنيمة نظرةً صحيحةً .

فالشرط الأساسي لمفهوم الغنيمة في نظر الإسلام الحصول عليها في حرب جهادية مشروعة ومعركة عقائدية فما لم تكتسب الحرب طابع الجهاد لا يكون المال غنيمة ، وهذا الطابع يتوقّف على أمرين :

أحدهما : أن تكون الحرب بإذن من وليِّ الأمر في سبيل حمل الدعوة الإسلامية(١) . فليس من الجهاد بشيء حروب السلب والنهب كالمعارك الجاهلية ، أو القتال في سبيل الظفر بثروات البلاد وأسواقها كالحروب الرأسمالية .

والأمر الآخر : أن يبدأ الدعاة الإسلاميون قبل كلّ شيء بالإعلان عن رسالتهم الإسلامية ، وإيضاح معالمها الرئيسية معززة بالحُجج والبراهين ؛ حتى إذا تمّت للإسلام حجّته ، ولم يبقَ للآخرين مجال للنقاش المنطقي السليم ، وظلّوا بالرغم من ذلك مصرّين على رفض النور ، عند ذاك لا يوجد أمام الدعوة الإسلامية ـ بصفتها دعوة فكرية عالمية تتبنّى المصالح الحقيقة للإنسانية ـ إلاّ أن تشقَّ

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٤٥ ، الباب ١٢ من أبواب جهاد العدوّ .

٢٦٤

طريقها بالقوى المادّية بالجهاد المسلّح(١) . وفي هذا الظرف فقط تعتبر مكاسب الحرب غنيمة في نظر الإسلام .

وأمّا حكم الأسير في الغنيمة فهو تطبيق أحد أمورٍ ثلاثةٍ عليه ، فإمّا أن يعفى عنه ، وإمّا أن يطلق بفدية ، وإمّا أن يُستَرق فالاسترقاق هو أحد الأمور الثلاثة التي يجب على ولي الأمر معاملة الأسير على أساسها .

وإذا عرفنا بهذا الصدد أنّ ولي الأمر مسئول عن تطبيق أصلح الحالات الثلاث على الأسير ، وأوفقها بالمصلحة العامة ، كما صرّح بذلك الفاضل(٢) ، والشهيد الثاني(٣) ، وغيرهما(٤) من فقهاء الإسلام وأضفنا إلى ذلك حقيقة إسلامية أخرى ، وهي : أنّ الحرب في سبيل حمل الدعوة إلى بلاد الكفر لم يسمح بها الإسلام سماحاً عاماً ، وإنّما سمح بها في ظرف وجود قائد معصوم يتولّى قيادة الغزو وتوجيه الزحف الإسلامي في معاركه الجهادية ، إذا جمعنا بين هاتين الحقيقتين ، نتج عنها أنّ الإسلام لم يأذن باسترقاق الأسير إلاّ حين يكون أصلح من العفو والفداء معاً ، ولم يسمح بذلك إلاّ لوليِّ الأمر المعصوم الذي لا يخطئ في معرفة الأصلح وتمييزه عن غيره .

وليس في هذا الحكم شيء يؤاخذ الإسلام عليه ، بل هو حكم لا تختلف فيه المذاهب الاجتماعية مهما كانت مفاهيمها ؛ فإنّ الاسترقاق قد يكون أحياناً أصلح من العفو والفداء معاً ، وذلك فيما إذا كان العدو يتّبع مع أسراه طريقة الاسترقاق ، ففي مثل هذه الحالة يصبح من الضروري أن يعامل العدو بالمثل ، وتتّبع معه نفس الطريقة فإذا كانت توجد حالات يصبح فيها الاسترقاق أصلح من العفو والفداء فلماذا لا يسمح به الإسلام حين يكون أصلح الحالات الثلاث ؟ صحيح أنّ الإسلام لم يبيّن تلك الحالات التي يكون الاسترقاق فيها أصلح من غيره ، ولكنّه استغنى عن ذلك بإيكال الأمر إلى الحاكم المعصوم من الخطأ والهوى الذي يقود معركة الجهاد سياسياً ، فهو المسئول عن تمييز تلك الحالات والعمل وفقاً لرأيه

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٤٢ ، الباب ١٠ من أبواب جهاد العدوّ .

(٢) تذكرة الفقهاء ٩ : ١٥٧ ـ ١٥٩ وتحرير الأحكام الشرعيّة ٢ : ١٦٢ .

(٣) الروضة البهيّة ٢ : ٤٠١ .

(٤) جواهر الكلام ٢١ : ١٢٦ .

٢٦٥

ونحن إذا لاحظنا حكم الإسلام بشأن الأسير خلال التطبيق في الحياة السياسية للدولة الإسلامية ، وجدنا أنّ الاسترقاق لم يحدث إلاّ في تلك الحالات التي كان الاسترقاق فيها أصلح الحالات الثلاث ؛ لأنّ العدو الذي اشتبكت معه الدولة الإسلامية في معاركها كان يتّبع نفس الطريقة مع أسراه .فلا موضع لنقد أو اعتراض .

لا موضع للنقد أو الاعتراض على الحكم العام بجواز الاسترقاق ؛ لأنّ الإسلام سمح باسترقاق الأسير حين يكون ذلك أوفق بالمصلحة العامة في رأي الحاكم المعصوم ولا موضع للنقد أو الاعتراض على تطبيقه ؛ لأنّ تطبيقه كان دائماً في تلك الحدود التي يكون الاسترقاق فيها أصلح الإجراءات الثلاثة .

٨ ـ الارتباط بين الاقتصاد والتشريع الجنائي في الإسلام فالتكافل العام والضمان الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي يلقيان ضوءاً على طبيعة العقوبة التي فرضت في بعض الجنايات فقد تكون عقوبة السارق بقطع يده قاسية إلى حدّ ما في بيئة رأسمالية تركت فيها الكثرة الهائلة من أفراد المجتمع لرحمة القدر وزحمة الصراع ، وأمّا حيث تكون البيئة إسلامية ، وتوجد التربة الصالحة للاقتصاد الإسلامي ، ويعيش المجتمع في كنف الإسلام فليس من القسوة في شيء أن يعامل السارق بصرامة ، بعد أن وفّر له الاقتصاد الإسلامي أسباب الحياة الحرّة الكريمة ، ومحا من حياته كلّ الدوافع التي تضطرّه إلى السرقة .

٣ ـ الإطار العام للاقتصاد الإسلامي

يمتاز المذهب الاقتصادي في الإسلام عن بقية المذاهب الاقتصادية التي درسناها بإطاره الديني العام فإنّ الدين هو الإطار الشامل لكلّ أنظمة الحياة في الإسلام فكلّ شعبة من شعب الحياة حين يعالجها الإسلام يمزج بينها وبين الدين، ويصوغها في إطار من الصلة الدينية للإنسان بخالقه وآخرته .

وهذا الإطار هو الذي يجعل النظام الإسلامي قادراً على النجاح وضمان تحقيق المصالح الاجتماعية العامة للإنسان ؛ لأنّ هذه المصالح الاجتماعية لا يمكن أن يضمن تحقيقها إلاّ عن طريق الدين .

[مصالح الإنسان : ]

ولكي يتّضح ذلك يجب أن ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشية ، ومدى إمكان توفيرها وضمان تحقيقها لننتهي من ذلك إلى الحقيقة الآنفة الذكر ، وهي : أنّ المصالح الاجتماعية للإنسان لا يمكن أن توفّر ويضمن تحقيقها إلاّ عن طريق نظام يتمتّع بإطار ديني صحيحٍ .

٢٦٦

وحين ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشية يمكننا تقسيمها إلى فئتين :

إحداهما : مصالح الإنسان التي تقدّمها الطبيعة له بوصفه كائناً خاصّاً ، كالعقاقير الطبية مثلاً ؛ فإنّ مصلحة الإنسان الظفر بها من الطبيعة ، وليست لهذه المصلحة صلة بعلاقاته الاجتماعية مع الآخرين ، بل الإنسان بوصفه كائناً معرّضاً للجراثيم الضارّة بجاجة إلى تلك العقاقير ، سواء كان يعيش منفرداً أم ضمن مجتمعٍ مترابطٍ

والفئة الأخرى : مصالح الإنسان التي يكفلها له النظام الاجتماعي بوصفه كائناً اجتماعياً يرتبط بعلاقات مع الآخرين ، كالمصلحة التي يجنيها الإنسان من النظام الاجتماعي حين يسمح له بمبادلة منتوجاته بمنتوجات الآخرين ، أو حين يوفّر له ضمان معيشته في حالات العجز والتعطّل عن العمل

وسوف نطلق على الفئة الأولى اسم :المصالح الطبيعية . وعلى الفئة الثانية اسم :المصالح الاجتماعية

[ شروط توفير المصالح : ]

ولكي يتمكّن الإنسان من توفير مصالحه الطبيعية والاجتماعية ، يجب أن يجهّز بالقدرة على معرفة تلك المصالح وأساليب إيجادها ، وبالدافع الذي يدفعه إلى السعي في سبيلها فالعقاقير التي تستحضر للعلاج من السلّ مثلاً ، توجد لدى الإنسان حين يعرف أن للسل دواءً ويكتشف كيفية استحضاره ، ويملك الدافع الذي يحفّزه على الانتفاع باكتشافه واستحضار تلك العقاقير كما أنّ ضمان المعيشة في حالات العجز ـ بوصفه مصلحة اجتماعية ـ يتوقّف على معرفة الإنسان بفائدة هذا الضمان وكيفية تشريعه ، وعلى الدافع الذي يدفع إلى وضع هذا التشريع وتنفيذه فهناك إذن شرطان أساسيان لا يمكن بدونهما للنوع الإنساني أن يظفر بحياة كاملة تتوفّر فيها مصالحه الطبيعية والاجتماعية :

أحدهما : أن يعرف تلك المصالح وكيف تحقّق

والآخر : أن يملك دافعاً يدفعه بعد معرفتها إلى تحقيقها

٢٦٧

[ إمكانية توفير المصالح الطبيعية : ]

ونحن إذا لاحظنا المصالح الطبيعية للإنسان ـ كاستحضار عقاقير للعلاج من السلّ ـ وجدنا أنّ الإنسانية قد زُودت بإمكانات الحصول على تلك المصالح ، فهي تملك قدرة فكرية تستطيع أن تدرك بها ظواهر الطبيعة والمصالح التي تكمن فيها ، وهذه القدرة وإن كانت تنمو على مرّ الزمن نموّاً بطيئاً ولكنّها تسير على أيّ حالٍ في خطّ متكاملٍ على ضوء الخبرة والتجارب المستجدّة ، وكلّما نمت هذه القدرة كان الإنسان أقدر على إدراك مصالحه ، ومعرفة المنافع التي يمكن أن يجنيها من الطبيعة

وإلى جانب هذه القدرة الفكرية تملك الإنسانية دافعاً ذاتياً يضمن اندفاعها في سبيل مصالحها الطبيعية ، فإنّ المصالح الطبيعية للإنسان تلتقي بالدافع الذاتي لكلّ فرد ، فليس الحصول على العقاقير الطبية مثلاً مصلحة لفردٍ دون فرد ، أو منفعةٍ لجماعة دون آخرين فالمجتمع الإنساني دائماً يندفع في سبيل توفير المصالح الطبيعية بقوّة من الدوافع الذاتية للأفراد التي تتّفق كلّها على الاهتمام بتلك المصالح وضرورتها بوصفها ذات نفع شخصي للأفراد جميعاً

وهكذا نعرف أنّ الإنسان ركّب تركيباً نفسياً وفكرياً خاصاً يجعله قادراً على توفير المصالح الطبيعية ، وتكميل هذه الناحية من حياته عبر تجربته للحياة والطبيعة

[ المشكلة في توفير المصالح الاجتماعية : ]

وأمّا المصالح الاجتماعية فهي بدورها تتوقّف أيضاً ـ كما عرفنا ـ على إدراك الإنسان للتنظيم الاجتماعي الذي يصلحه ، وعلى الدافع النفسي نحو إيجاد ذلك التنظيم وتنفيذه فما هو نصيب الإنسان من هذين الشرطين بالنسبة إلى المصالح الاجتماعية ؟ وهل جهّز الإنسان بالقدرة الفكرية على إدراك مصالحه الاجتماعية ، وبالدافع الذي يدفعه إلى تحقيقها ، كما جهّز بذلك بالنسبة إلى مصالحه الطبيعية ؟

ولنأخذ الآن الشرط الأوّل ، فمن القول الشائع : إنّ الإنسان لا يستطيع أن يدرك التنظيم الاجتماعي الذي يكفل له كلّ مصالحه الاجتماعية وينسجم مع طبيعته وتركيبه العام ؛ لأنّه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف الاجتماعي بكلّ خصائصه ، والطبيعة الإنسانية بكلّ محتواها ويخلص أصحاب هذا القول إلى نتيجة هي : أنّ النظام الاجتماعي يجب أن يوضع للإنسانية ، ولا يمكن أن تترك الإنسانية لتضع بنفسها النظام ، ما دامت معرفتها محدودة وشروطها الفكرية عاجزة عن استكِْناه أسرار المسألة الاجتماعية كلّها.

٢٦٨

وعلى هذا الأساس يقدّمون الدليل على ضرورة الدين في حياة الإنسان وحاجة الإنسانية إلى الرسل والأنبياء ، بوصفهم قادرين عن طريق الوحي على تحديد المصالح الحقيقية للإنسان في حياته الاجتماعية وكشفها للناس .

غير أنّ المشكلة في رأينا تبدو بصورة أكثر وضوحاً حين ندرس الشرط الثاني فإنّ النقطة الأساسية في المشكلة ليست هي : كيف يدرك الإنسان المصالحالاجتماعية (١) ؟ بلى ، المشكلة الأساسية هي : كيف يندفع هذا الإنسان إلى تحقيقها وتنظيم المجتمع بالشكل الذي يضمنها ؟ ومثار المشكلة هو أنّ المصلحة الاجتماعية لا تتّفق في أكثر الأحايين مع الدافع الذاتي ؛ لتناقضها مع المصالح الخاصة للأفراد فإنّ الدافع الذاتي الذي كان يضمن اندفاع الإنسان نحو المصالح الطبيعية للإنسانية لا يقف الموقف نفسه من مصالحها الاجتماعية ، فبينما كان الدافع الذاتي يجعل الإنسان يحاول إيجاد دواء للسلّ ؛ لأنّ إيجاد هذا الدواء من مصلحة الأفراد جميعاً ، نجد أنّ هذا الدافع الذاتي نفسه يحول دون تحقيق كثير من المصالح الاجتماعية ، ويمنع عن إيجاد التنظيم الذي يكفل تلك المصالح أو عن تنفيذه فضمان معيشة العامل حال التعطّل يتعارض مع مصلحة الأغنياء الذين سيكلّفون بتسديد نفقات هذا الضمان وتأميم الأرض يتناقض مع مصلحة أولئك الذين يمكنهم احتكار الأرض لأنفسهم وهكذا كلّ مصلحة اجتماعية فإنّها تُمنى بمعارضة الدوافع الذاتية من الأفراد الذين تختلف مصلحتهم عن تلك المصلحة الاجتماعية العامة

وفي هذا الضوء نعرف الفارق الأساسي بين المصالح الطبيعية والمصالح الاجتماعية ؛ فإنّ الدوافع الذاتية للأفراد لا تصطدم بالمصالح الطبيعية للإنسانية ، بل تدفع الأفراد إلى إيجادها واستثمار الوعي التأملي في هذا السبيل ، ولذلك كان النوع الإنساني يملك الإمكانات التي تكفل له مصالحه الطبيعية بصورة تدريجية

ـــــــــــــــ

(١) قمنا بدراسة واسعة لتقييم إمكانات الإنسان للوصول فكرياً إلى التنظيم الاجتماعي الأصلح ، وإدراك المصالح الاجتماعية الحقيقية في كتابنا ( الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية ) ، وشرحنا هناك دور التجارب الاجتماعية والعلمية ومدى عطائها في هذا المجال ( المؤلّف قدّس سرّه )

٢٦٩

وفقاً لدرجة تلك الإمكانات التي تنمو عبر التجربة وعلى العكس من ذلك المصالح الاجتماعية ؛ فإنّ الدوافع الذاتية التي تنبع من حبّ الإنسان لنفسه وتدفعه إلى تقديم صالحه على صالح الآخرين ، إنّ تلك الدوافع تحول دون استثمار الوعي العملي عند الإنسان استثماراً مخلِصاً في سبيل توفير المصالح الاجتماعية ، وإيجاد التنظيم الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم

وهكذا يتّضح أنّ المشكلة الاجتماعية التي تحول بين الإنسانية وتكاملها الاجتماعي ، هي التناقض القائم بين المصالح الاجتماعية والدوافع الذاتية ، وما لم تكن الإنسانية مجهزة بإمكانات للتوفيق بين المصالح الاجتماعية والدوافع الأساسية التي تتحكّم في الأفراد لا يمكن للمجتمع الإنساني أن يظفر بكماله الاجتماعي ، فما هي تلك الإمكانات ؟

إنّ الإنسانية بحاجة إلى دافع يتّفق مع المصالح الاجتماعية العامة ، كما وجدت المصالح الطبيعية الدافع الذاتي حليفاً لها

هل يمكن للعلم أن يحلّ المشكلة ؟ :

ويتردّد على بعض الشفاه أنّ العلم الذي تطوّر بشكل هائل كفيل بحلّ المشكلة الاجتماعية ؛ لأنّ الإنسان هذا المارد الجبّار الذي استطاع أن يخطو خطوات العمالقة في ميادين الفكر والحياة والطبيعة ، وينفذ إلى أعمق أسرارها ، ويحلّ أروع ألغازها ، حتى أتيح له أن يفجّر الذرة ويطلق طاقتها الهائلة ، وأن يكشف الأفلاك ويرسل إليها قذائفه ، ويركب الطائرة الصاروخية ، ويسخّر قوى الطبيعة لنقل ما يحدث على بعد مئات الألوف من الأميال على شكل أصوات تُسمع وصور تُرى إنّ هذا الإنسان الذي سجّل في تأريخ قصيرٍ كلّ هذه الفتوحات العلمية ، وانتصر في جميع معاركه مع الطبيعة ، لقادرٌ ـ بما أوتي من علمٍ وبصيرة ـ أن يبني المجتمع المتماسك السعيد ، ويضع التنظيم الاجتماعي الذي يكفل المصالح الاجتماعية للإنسانية ، فلم يعد الإنسان بحاجة إلى مصدر يستوحي منه موقفه الاجتماعي سوى العلم الذي قاده من نصرٍ إلى نصرٍ في كلّ الميادين .

وهذا الزعم في الواقع لا يعني إلاّ الجهل بوظيفة العلم في الحياة الإنسانية ؛ فإنّ العلم مهما نما وتطوّر ليس إلاّ أداة لكشف الحقائق الموضوعية في مختلف الحقول ، وتفسير الواقع تفسيراً محايداً يعكسه بأعلى درجة ممكنة من الدقّة والعمق فهو يعلّمنا مثلاً في المجال الاجتماعي : أنّ الرأسمالية تؤدّي إلي تحكّم القانون الحديدي بالأجور وخفضها إلى المستوى الضروري للمعيشة ، كما يعلّمنا في المجال الطبيعي أنّ استعمال مادة كيمياوية معينة يؤدّي إلى تحكم مرض خطير بحياة الشخص والعلم

٢٧٠

حين يبرز لنا هذه الحقيقة أو تلك يكون قد قام بوظيفته وأتحف الإنسانية بمعرفة جديدة ، ولكن شبح هذا المرض الخطير أو ذلك القانون الرهيب ( قانون الأجور الحديدي ) ، لا يتلاشى لمجرّد أنّ العلم اكتشف العلاقة بين تلك المادة المعينة والمرض ، أو بين الرأسمالية والقانون الحديدي ، بل إنّ الإنسان يتخلّص من المرض بالتجنب عمّا يؤدّي إليه ، ويتخلص من القانون الحديدي للأجور بمحو الإطار الرأسمالي للمجتمع

وهنا نتساءل ما الذي يضمن أن يتخلّص الإنسان من ذلك المرض ، ومن هذا الإطار ؟ والجواب فيما يتّصل بالمرض واضح كلّ الوضوح ، فإنّ الدافع الذاتي عند الإنسان يكفي وحده لإبعاده عن تلك المادّة الخاصة التي كشف العلم عن نتائجها الخطيرة ؛ لأنّه يناقض المصلحة الخاصة للفرد وأمّا فيما يتّصل بالقانون الحديدي للأجور وإزالة الإطار الرأسمالي فإن الحقيقة العلمية التي كشفت عن الصلة بين هذا الإطار وذلك القانون مثلاً ، ليست قوّة دافعة إلى العمل وتغيير الإطار ، وإنّما يحتاج العمل إلى دافع ، والدوافع الذاتية للأفراد لا تلتقي دائماً ، بل تختلف تبعاً لاختلاف المصالح الخاصة

وهكذا يجب أن نفرّق بين اكتشاف الحقيقة العلمية ، والعمل في ضوئها على إسعاد المجتمع فالعلم إنّما يكشف الحقيقة بدرجة ما ، وليس هو الذي يطوّرها .

المادّية التأريخية والمشكلة :

وتقول الماركسية بهذا الصدد ـ على أساس المادّية التأريخية ـ دعوا المشكلة نفسها فإنّ قوانين التأريخ كفيلة بحلّها في يوم من الأيام ؛ أفَليست المشكلة هي أنّ الدوافع الذاتية لا تستطيع أن تضمن مصالح المجتمع وسعادته لأنّها تنبع من المصالح الخاصة التي تختلف في أكثر الأحايين مع المصالح الاجتماعية العامة ؟! إنّ هذه ليست مشكلة ! وإنّما هي حقيقة المجتمعات البشرية منذ فجر التأريخ ، فقد كان كلّ شيء يسير طبقاً للدافع الذاتي الذي ينعكس في المجتمع بشكل طبقي ، فيثور الصراع بين الدوافع الذاتية للطبقات المختلفة والغلبة دائماً تكون من حظّ الدافع الذاتي للطبقة التي تسيطر على وسائل الإنتاج ، وهكذا يتحكّم الدافع الذاتي بشكلٍ محتوم ، حتى تضع قوانين التأريخ حلّها الجذري للمشكلة بإنشاء المجتمع اللاطبقي ، تزول فيه الدوافع الذاتية وتنشأ بدلاً عنها الدوافع الجماعية ، وفقاً للملكية الجماعية .

وقد عرفنا في دراستنا للمادّية التأريخية أنّ أمثال هذه النبوءات التي تتنبأ بها المادّية التأريخية لا تقوم على أساس علمي ، ولا يمكن انتظار حلّ حاسم للمشكلة من ورائها

٢٧١

وهكذا تبقى المشكلة كما هي مشكلة مجتمع يتحكّم فيه الدافع الذاتي ، وما دامت الكلمة العليا للدافع الذاتي الذي تمليه على كلّ فرد مصلحته الخاصة فسوف تكون السيطرة للمصلحة التي تملك قوّة التنفيذ ، فمن يكفل لمصلحة المجتمع في زحمة الأنانيات المتناقضة أن يصاغ قانونه وفقاً للمصالح الاجتماعية للإنسانية مادام هذا القانون تعبيراً عن القوّة السائدة في المجتمع ؟!

ولا يمكننا أن ننتظر من جهاز اجتماعي ـ كالجهاز الحكومي ـ أن يحلّ المشكلة بالقوّة ويوقف الدوافع الذاتية عند حدّها ؛ لأنّ هذا الجهاز منبثق عن المجتمع نفسه ، فالمشكلة فيه هي المشكلة في المجتمع بأسره ؛ لأنّ الدافع الذاتي هو الذي يتحكّم فيه

ونخلص من ذلك كلّه إلى : أنّ الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعية ، وأنّ هذا الدافع أصيل في الإنسان لأنّه ينبع من حبّه لذاته .

فهل كتب على الإنسانية أن تعيش دائماً في هذه المشكلة الاجتماعية النابعة من دوافعها الذاتية وفطرتها ، وأن تشقى بهذه الفطرة ؟!

وهل استثنيت الإنسانية من نظام الكون الذي زُوِّد كلّ كائن فيه بإمكانات التكامل ، وأودعت فيه الفطرة التي تسوقه إلى كماله الخاص ، كما دلّت على ذلك التجارب العلمية إلى جانب البرهان الفلسفي ؟!

[ دور الدين في حلّ المشكلة : ]

وهنا يجيء دور الدين بوصفه الحلّ الوحيد للمشكلة ، فإنّ الدين هو الإطار الوحيد الذي يمكن للمسألة الاجتماعية أن تجد ضمنه حلّها الصحيح ؛ ذلك أنّ الحلّ يتوقّف على التوفيق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية العامة ، وهذا التوفيق هو الذي يستطيع أن يقدّمه الدين للإنسانية ، لأنّ الدين هو الطاقة الروحية التي تستطيع أن تعوّض الإنسان عن لذائذه الموقوتة التي يتركها في حياته الأرضية أملاً في النعيم الدائم ، وتستطيع أن تدفعه إلى التضحية بوجوده عن إيمان بأنّ هذا الوجود المحدود الذي يضحي به ليس إلاّ تمهيداً لوجود خالد وحياة دائمة ، وتستطيع أن تخلق في تفكيره نظرة جديدة تجاه مصالحه ، ومفهوماً عن الربح والخسارة أرفع من مفاهيمهما التجارية المادّية فالعناء طريق اللذّة ، والخسارة لحساب المجتمع سبيل الربح ، وحماية مصالح الآخرين تعني ضمناً حماية مصالح الفرد في حياة أسمى وأرفع وهكذا ترتبط المصالح الاجتماعية العامة بالدوافع الذاتية ، بوصفها مصالح للفرد في حسابه الديني

٢٧٢

وفي القرآن الكريم نجد التأكيدات الرائعة على هذا المعنى منتشرة في كلّ مكان ، وهي تستهدف جميعاً تكوين تلك النظرة الجديدة عند الفرد عن مصالحه و أرباحه ، فالقرآن يقول :

( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) .

( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ) (٢) .

( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (٣) .

ـــــــــــــــ

(١) سورة غافر : ٤٠ .

(٢) سورة فصّلت ٤٦ ، وسورة الجاثية : ١٥ .

(٣) سورة الزلزلة : ٦ ـ ٨ .

٢٧٣

( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْيُرْزَقُونَ ) (١) .

( مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (٢) .

هذه صور رائعة يقدّمها الدين في نصوص القرآن ليربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة ، ويطوّر من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن بأنّ مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للإنسانية ـ التي يحددها الإسلام ـ مترابطتان فالدين إذن هو صاحب الدور الأساسي في حلّ المشكلة الاجتماعية ، عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامة .

وبهذا نعرف أنّ الدين حاجة فطرية للإنسانية ، لأنّ الفطرة ما دامت هي أساس الدوافع الذاتية التي نبعت منها المشكلة فلا بدّ أن تكون قد جهّزت بإمكانات لحلّ المشكلة أيضاً ؛ لئلا يشذّ الإنسان عن سائر الكائنات التي زُوّدت فطرتها جميعاً بالإمكانات التي تسوق كلّ كائن إلى كماله الخاص وليست تلك الإمكانات التي تملكها الفطرة الإنسانية لحلّ مشكلة إلاّ غريزة التديّن والاستعداد الطبيعي لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام

فللفطرة الإنسانية ـ إذن ـ جانبان : فهي من ناحية تملي على الإنسان دوافعه الذاتية التي تنبع منها المشكلة الاجتماعية الكبرى في حياة الإنسان ( مشكلة التناقض بين تلك الدوافع والمصالح الحقيقية العامة للمجتمع الإنساني ) وهي من ناحية أخرى تزوّد الإنسان بإمكانية حلّ المشكلة عن طريق الميل الطبيعي إلى التديّن، وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفّق بين المصالح العامة والدوافع الذاتية وبهذا أتمّت الفطرة وظيفتها في هداية الإنسان إلى كماله ، فلو بقيت تثير المشكلة ولا تموّن الطبيعة الإنسانية بحلّها ، لكان معنى هذا أنّ الكائن الإنساني يبقى قيد المشكلة عاجزاً عن حلّها ، مسوقاً بحكم فطرته إلى شرورها ومضاعفاتها وهذا ما قرره الإسلام بكل وضوح في قوله تعالى :

ـــــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : ١٦٩ .

(٢) سورة التوبة : ١٢٠ ـ ١٢١

٢٧٤

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

فإن هذه الآية الكريمة تقرّر :

أولاً : أنّ الدين من شؤون الفطرة الإنسانية التي فطر الناس عليها جميعاً ، ولا تبديل لخلق الله

وثانياً : أنّ هذا الدين الذي فطرت الإنسانية عليه ليس هو إلاّ الدين الحنيف ، أي : دين التوحيد الخالص ؛ لأنّ دين التوحيد هو وحده الذي يمكن أن يؤدّي وظيفة الدين الكبرى ، ويوجّه البشرية على مقياس عملي وتنظيم اجتماعي ، تُحفظ فيه المصالح الاجتماعية وأمّا أديان الشرك أو الأرباب المتفرّقة ـ على حدّ تعبير القرآن ـ فهي في الحقيقة نتيجة للمشكلة فلا يمكن أن تكون علاجاً لها ؛ لأنّها كما قال يوسف لصاحِبَي السجن :( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء

ـــــــــــــــ

(١) سورة الروم : ٣٠ .

٢٧٥

سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ) (١) .. يعني بذلك أنّها وليدة الدوافع الذاتية ، التي أملت على الناس أديان الشرك طبقاً لمصالحهم الشخصية المختلفة ، لتصرف بذلك ميلهم الطبيعي إلى الدين الحنيف تصريفاً غير طبيعي ، وتحول بينهم وبين الاستجابة الصحيحة لميلهم الديني الأصيل

وثالثا ً: أنّ الدين الحنيف الذي فطرت الإنسانية عليه يتميّز بكونه ديناً قيّماً على الحياة( ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ، قادراً على التحكّم فيها وصياغتها في إطاره العام وأمّا الدين الذي لا يتولّى إمامة الحياة وتوجيهها فهو لا يستطيع أن يستجيب استجابة كاملةً للحاجة الفطرية في الإنسان إلى الدين ، ولا يمكنه أن يعالج المشكلة الأساسية في حياة الإنسان

ونخلص من ذلك إلى عدّة مفاهيم للإسلام عن الدين والحياة :

فالمشكلة الأساسية في حياة الإنسان نابعة من الفطرة ؛ لأنّها مشكلة الدوافع الذاتية في اختلافاتها وتناقضاتها مع المصالح العامة

والفطرة في نفس الوقت تموّن الإنسانية بالعلاج

وليس هذا العلاج إلاّ الدين الحنيف القيّم ؛ لأنّه وحده القادر على التوفيق بين الدوافع الذاتية وتوحيد مصالحها ومقاييسها العملية

فلا بدّ للحياة الاجتماعية إذن من دين حنيف قيّم

ولا بدّ للتنظيم الاجتماعي في مختلف شُعب الحياة أن يُوضع في إطار ذلك الدين القادر على التجاوب مع الفطرة ومعالجة المشكلة الأساسية في حياة الإنسان

وفي هذا الضوء نعرف أنّ الاقتصاد الإسلامي بوصفه جزءاً من تنظيمٍ اجتماعيٍّ شاملٍ للحياة يجب أن يندرج ضمن الإطار العام لذلك التنظيم ، وهو الدين ، فالدين هو الإطار العام لاقتصادنا المذهبي.

ـــــــــــــــ

(١) سورة يوسف : ٤٠ .

٢٧٦

ووظيفة الدين ـ بوصفه إطاراً للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام ـ أنّ يوفّق بين الدوافع الذاتية والمصالح الخاصة من ناحية ، والمصالح الحقيقة العامة للمجتمع الإنساني ـ من وجهة رأي الإسلام ـ من ناحيةٍ أُخرى .

٤ ـ الاقتصاد الإسلامي ليس علماً

يشكّل كلّ واحدٍ من مذاهب الاقتصاد التي عرضناها جزءاً من مذهبٍ كاملٍ يتناول مختلف شُعب الحياة ومناحيها فالاقتصاد الإسلامي جزء من المذهب الإسلامي الشامل لشتّى فروع الحياة ، والاقتصاد الرأسمالي جزء من الديمقراطية الرأسمالية التي تستوعب بنظرتها التنظيميّة المجتمع كلّه ، كما أنّ الاقتصاد الماركسي جزءٌ أيضاً من المذهب الماركسي الذي يبلور الحياة الاجتماعية كلّها في إطاره الخاص وتختلف هذه المذاهب في بذورها الفكرية الأساسية وجذورها الرئيسية التي تستمدّ منها روحها وكيانها ، وتبعاً لذلك تختلف في طابعها الخاص

فالاقتصاد الماركسي يحمل في رأي الماركسية طابعاً علمياً ، لأنّه يعتبر في عقيدة أنصاره نتيجةً محتومةً للقوانين الطبيعة التي تهيمن على التأريخ وتتصرّف فيه ، وعلى العكس من ذلك المذهب الرأسمالي ، فإنّه لم يضعه أصحابه ـ كما مرّ معنا في بحثٍ سابق ـ كنتيجة ضرورية لطبيعة التأريخ وقوانينه ، وإنّما عبّروا به عن الصورة الاجتماعية التي تتّفق مع القيم العلمية والمُثل التي يعتنقونها

وأمّا المذهب الإسلامي فهو لا يزعم لنفسه الطابع العلمي كالمذهب الماركسي ، كما أنّه ليس مجرّداً عن أساس عقائدي معيّن ونظرة رئيسية إلىالحياة والكون كالرأسمالية (١)

ونحن حين نقول عن الاقتصاد الإسلامي إنّه ليس علماً ، نعني : أنّ الإسلام دينٌ يتكفّل الدعوة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية كما يعالج سائر نواحي الحياة ، وليس علماً اقتصادياً على طراز علم الاقتصاد السياسي ، وبمعنى آخر : هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم ، وليس تفسيراً موضوعياً للواقع فهو حينما يضع مبدأ الملكية المزدوجة مثلاً ، لا يزعم بذلك أنّه يفسّر الواقع التأريخي لمرحلة معيّنة من حياة الإنسانية ، أو يعكس نتائج القوانين الطبيعية للتأريخ ، كما تزعم الماركسية حين تبشر بمبدأ الملكية الاشتراكية ، بوصفه الحالة الحتمية لمرحلة معينة من التأريخ والتفسير الوحيد لها

ـــــــــــــــ

(١) راجع في درس الفرق بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي من هذه الناحية : كتاب ( فلسفتنا ) ، التمهيد ( المؤلّفقدس‌سره )

٢٧٧

فالاقتصاد الإسلامي من هذه الناحية يشبه الاقتصاد الرأسمالي المذهبي في كونه عملية تغيير الواقع لا عملية تفسير له فالوظيفة المذهبية تجاه الاقتصاد الإسلامي هي : الكشف عن الصورة الكاملة للحياة الاقتصادية وِفْقاً للتشريع الإسلامي ، ودرس الأفكار والمفاهيم العامة التي تشعّ من وراء تلك الصورة ، كفكرة انفصال شكل التوزيع عن نوعية الإنتاج وما إليها من أفكار .

وأمّا الوظيفة العلمية تجاه الاقتصاد الإسلامي فيأتي دورها بعد ذلك لتكشف عن مجرى الحياة الواقعي وقوانينه ، ضمن مجتمع إسلامي يطبّق فيه مذهب الإسلام تطبيقاً كاملاً فالباحث العلمي يأخذ الاقتصاد المذهبي في الإسلام قاعدة ثابتة للمجتمع الذي يحاول تفسيره وربط الأحداث فيه بعضها ببعض فهو في هذا نظير الاقتصاد السياسي لعلماء الاقتصاد الرأسماليين ، الذين فرغوا من وضع خطوطهم المذهبية ، ثمّ بدأوا يفسّرون الواقع ضمن تلك الخطوط ، ويدرسون طبيعة القوانين التي تتحكّم في المجتمع الذي تطبّق عليه ، فنتج عن دراستهم هذه علم الاقتصاد السياسي

وهكذا يمكن أن يتكون للاقتصاد الإسلامي علم ـ بعد أن يدرس دراسة مذهبية شاملة ، من خلال دراسة الواقع في هذا الإطار ـ والسؤال هو : متى وكيف يمكن وضع علم الاقتصاد الإسلامي كما وضع الرأسماليون علم الاقتصاد السياسي ، أو بتعبير آخر : علم الاقتصاد الذي يفسّر أحداث المجتمع الرأسمالي ؟

والجواب على هذا السؤال : أنّ التفسير العلمي لأحداث الحياة الاقتصادية يرتكز على أحد أمرين :

الأوّل : جمع الأحداث الاقتصادية من التجربة الواقعية للحياة ، وتنظيمها تنظيماً عليماً يكشف عن القوانين التي تتحكّم بها في مجال تلك الحياة ، وشروطها الخاصة

الثاني : البدء في البحث العلمي من مسلّمات معيّنة تُفترض افتراضاً ، ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الأحداث

٢٧٨

أمّا التفسير العلمي على الأساس الأوّل ، فهو يتوقّف على تجسيد المذهب في كيان واقعي قائم ؛ ليتاح للباحث أن يسجّل أحداث هذا الواقع ، ويستخلص ظواهرها وقوانينها العامة وهذا ما ظفر به الاقتصاديون الرأسماليون ، حين عاشوا في مجتمع يؤمن بالرأسمالية ويطبّقها ، فأتيح لهم أن يضعوا نظرياتهم على أساس تجارب الواقع الاجتماعي التي عاشوها ولكن شيئاً كهذا لا يتاح للاقتصاديين الإسلاميين مادام الاقتصاد الإسلامي بعيداً عن مسرح الحياة ، فهم لا يملكون من حياتهم اليوم تجارب عن الاقتصاد الإسلامي خلال التطبيق ، ليدركوا في ضوئها طبيعة القوانين التي تتحكّم في حياة تقوم على أساس الإسلام

وأمّا التفسير العلمي على الأساس الثاني فمن الممكن استخدامه في سبيل توضيح بعض الحقائق التي تتميّز بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي ، بالانطلاق من نقاط مذهبية معيّنة ، واستنتاج آثارها في مجال التطبيق المفترض ، ووضع نظريّات عامة عن الجانب الاقتصادي في المجتمع الإسلامي على ضوء تلك النقاط المذهبية

فمثلاً : يمكن للباحث الإسلامي القول : بأنّ مصالح التجارة متّفقة في المجتمع الإسلامي مع مصالح الماليين وأصحاب المصارف ؛ لأنّ المصرف في المجتمع الإسلامي يقوم على أساس المضاربة لا على أساس الرِّبا ، فهو يتّجر بأموال زبائنه ويوزّع الأرباح بينه وبينهم بنسبة مئوية معيّنة من الربح ، وفي النهاية يتوقّف مصيره المالي على مدى الربح التجاري الذي يجنيه لا على الفائدة التي يقتطعها من الديون فهذه الظاهرة ـ ظاهرة الاتفاق بين مصالح المصارف ومصالح التجارة ـ هي بطبيعتها ظاهرة موضوعية ينطلق الباحث إلى استنتاجها من نقطة هي : إلغاء النظام الربوي للمصارف في المجتمع الإسلامي(١) .

ويمكن للباحث أيضاً بالانطلاق من نقطة كهذه أن يقرّر ظاهرة موضوعية أخرى ، وهي : نجاة المجتمع الإسلامي من عامل رئيسي للأزمات التي تمنى بها الحياة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي ؛ فإنّ دورات الإنتاج والاستهلاك في مجتمع قائم على أساس الرِّبا يعرقلها هذا الجزء الكبير من الثروة الأهلية الذي يدّخر طمعاً بالفائدة الربوية ، ويُسحب بذلك من مجالات الإنتاج والاستهلاك ، الأمر الذي يؤدّي إلى كساد قسم كبير من الإنتاج الاجتماعي للبضائع الرأسمالية

ـــــــــــــــ

(١) راجع التفصيل : البنك اللارِبوي في الإسلام ، للمؤلّف ( قدّس سرّه ) ، مبحث : (مفهوم المضاربة في الفقه الإسلامي) و ( إلغاء العنصر الربوي من الفائدة ) .

٢٧٩

والبضائع الاستهلاكية فحين يقوم المجتمع على أساس الاقتصاد الإسلامي ، ويحرّم فيه الرِّبا تحريماً تاماً ، كما يمنع عن الاكتناز بالنهي عنه ، أو يفرض ضريبةً عليه ، فسوف ينتج عن ذلك إقبال الناس جميعاً على إنفاق ثرواتهم .

ففي هذه التفسيرات نفترض واقعاً اجتماعياً واقتصادياً قائماً على أُسس معيّنة ، ونأخذ بتفسير هذا الواقع المفترض واستكشاف خصائصه العامة في ضوء تلك الأسس

ولكن هذه التفسيرات لا تكوّن لنا بدّقة المفهوم العلمي الشامل للحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي ، ما لم تجمع مواد الدراسة العلمية من تجارب الواقع المحسوس فكثيراً ما تقع مفارقات بين الحياة الواقعية للنظام وبين التفسيرات التي تقدم لهذه الحياة على أساس الافتراض ، كما اتفق للاقتصاديين الرأسماليين الذين بَنوا كثيراً من نظريّاتهم التحليلية على أساس افتراضي فانتهوا إلى نتائج تناقض الواقع الذي يعيشونه ؛ لانكشاف عدّة عوامل في الحقل الواقعي للحياة لم تؤخذ في مجال الافتراض .

أضف إلى ذلك : أنّ العنصر الروحي والفكري ، أو بكلمةٍ أخرى : المزاج النفسي العام للمجتمع الإسلامي ، ذو أثرٍ كبير في مجرى الحياة الاقتصادية ، وليس لهذا المزاج درجة محدودة أو صيغة معيّنة يمكن أن تفترض مسبقاً وتقام على أساسها النظريات المختلفة .

فعلم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقة إلاّ إذا جُسّد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع بجذوره ومعالمه وتفاصيله ، ودُرست الأحداث والتجارب الاقتصادية التي يمرّ بها دراسة منظّمة .

علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج

يمارس الناس في حياتهم الاجتماعية عمليتين مختلفتين :

إحداهما : عملية الإنتاج

والأخرى : عملية التوزيع .

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741