اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 146415
تحميل: 8781

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146415 / تحميل: 8781
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فهم من ناحية يخوضون معركة مع الطبيعة في سبيل إخضاعها لرغباتهم ويتسلّحون في هذه المعركة بما تسمح به خبرتهم من أدوات الإنتاج ، ومن ناحية أخرى يقيم هؤلاء الناس بينهم علاقات معيّنة تحدّد صلة الأفراد بعضهم ببعض في مختلف شؤون الحياة ، وهذه العلاقات هي التي نطلق عليها اسم : النظام الاجتماعي وتندرج فيها علاقات التوزيع للثروة التي ينتجها المجتمع فالأفراد في عملية الإنتاج يحصلون على مكاسبهم من الطبيعة ، وفي النظام الاجتماعي الذي يحدّد العلاقات بينهم يتقاسمون تلك المكاسب .

وَبَدَهيٌ أنّ عملية الإنتاج في تطوّر وتحوّل أساسيٍّ دائمٍ وفقاً لنمو العلم وعمقه ، فبينما كان يستخدم الإنسان في إنتاجه المحراث أصبح يستخدم الكهرباء والذرّة ، كما أنّ النظام الاجتماعي الذي يحدّد علاقات الناس بعضهم ببعض ـ بما فيها علاقات التوزيع ـ هو الآخر أيضاً لم يتّخذ صيغة ثابتة في تأريخ الإنسان ، بل اتّخذ ألواناً مختلفة باختلاف الظروف وتغيرها .

والسؤال الأساسي بهذا الصدد : ما هي الصلة بين تطوّر أشكال الإنتاج وتطوّر العلاقات الاجتماعية بما فيها علاقات التوزيع ( النظام الاجتماعي) ؟ وتعتبر هذه النقطة مركز الاختلاف الرئيسي بين الاقتصاد الماركسي والاقتصاد الإسلامي ، ومن النقاط المهمّة للخلاف بين الماركسية والإسلام بوجه عام

فالاقتصاد الماركسي يرى : أنّ كلّ تطوّر في عمليات الإنتاج وأشكاله يواكبه تطوّر حتميٌّ في العلاقات الاجتماعية عامة وعلاقات التوزيع خاصة ، فلا يمكن أن يتغيّر شكل الإنتاج وتظلّ العلاقات الاجتماعية محتفظة بشكلها القديم ، كما لا يمكن أيضاً أن تسبق العلاقات الاجتماعية شكل الإنتاج في تطوّرها وتستخلص الماركسية من ذلك : أنّ من المستحيل أن يحتفظ نظام اجتماعي واحد بوجوده على مرّ الزمن ، أو أن يصلح للحياة الإنسانية في مراحل متعدّدة من الإنتاج ؛ لأنّ أشكال الإنتاج تتطوّر خلال التجربة البشرية دائماً ، وتتطوّر وفقاً لها العلاقات الاجتماعية .

فالنظام الذي يصلح لمجتمع الكهرباء والذرّة غير النظام الذي كان يصلح لمجتمع الصناعة اليدوية ، ما دام شكل الإنتاج مختلفاً في المجتمعين وعلى هذا الأساس تقدّم الماركسية المذهب الاشتراكي باعتباره العلاج الضروري للمشكلة الاجتماعية في مرحلة تأريخية معيّنة وفقاً لمقتضيات الشكل الجديد للإنتاج في تلك المرحلة .

٢٨١

وأمّا الإسلام فهو يرفض هذه الصلة الحتمية المزعومة ، بين تطوّر الإنتاج وتطوّر النظام الاجتماعي ، ويرى أنّ للإنسان حقلين : يمارس في أحدهما عمله مع الطبيعة ، فيحاول بمختلف وسائله أن يستثمرها ويسخّرها لإشباع حاجاته ، ويمارس في الآخر علاقاته مع الأفراد الآخرين في شتى مجالات الحياة الاجتماعية وأشكال الإنتاج هي حصيلة الحقل الأول ، والأنظمة الاجتماعية هي حصيلة الحقل الثاني وكلّ من الحقلين ـ بوجوده التأريخي ـ تعرّض لتطوّرات كثيرة في شكل الإنتاج أو في النظام الاجتماعي ، ولكنّ الإسلام لا يرى ذلك الترابط المحتوم بين تطوّرات أشكال الإنتاج وتطوّرات النظم الاجتماعية ولأجل ذلك فهو يعتقد أنّ بالإمكان أن يحتفظ نظام اجتماعي واحد بكيانه وصلاحيته على مرّ الزمن مهما اختلفت أشكال الإنتاج .

وعلى أساس هذا المبدأ ( مبدأ الفصل بين النظام الاجتماعي وأشكال الإنتاج ) ، يقدّم الإسلام نظامه الاجتماعي بما فيه مذهبه الاقتصادي ، بوصفه : نظاماً اجتماعيا صالحاً للأمّة في كلّ مراحل إنتاجها ، وقادراً على إسعادها حين تمتلك سرّ الذرة ، كما كان يسعدها يوم كانت تفلح الأرض بيدها .

ومردّ هذا الاختلاف الأساسي بين الماركسية والإسلام في نظرتهما نحو النظام الاجتماعي إلى اختلافهما ـ بوجهٍ عام ـ في تفسير الحياة الاجتماعية التي يتكفّل النظام الاجتماعي بتنظيمها وضبطها فالحياة الاجتماعية للإنسان وليدة القوى المنتجة في رأي الماركسية ؛ لأنّ قوى الإنتاج هي القاعدة الأساسية والعامل الأوّل في تأريخ الإنسان كلّه ، فإذا تغيّر شكل القوى المنتجة كان طبيعياً أن يتغيّر تبعاً لذلك شكل الحياة الاجتماعية ، الذي يعبّر عنه النظام الاجتماعي السائد ، ويولد نظامٌ اجتماعي جديد يساير الشكل الجديد للإنتاج

وفي دراستنا السابقة للمادّية التأريخية ونَقْدِنا الموسّع لمفاهيمها عن التأريخ ، ما يغنينا عن التعليق في هذا المجال ، فقد برهنّا بكلّ وضوح على أنّ القوى المنتجة ليست هي العامل الأساسي في التأريخ.

٢٨٢

وأمّا في ضوء الإسلام ، فليست الحياة الاجتماعية بأشكالها نابعة من الأشكال المتنوّعة للإنتاج ، وإنّما هي نابعة من حاجات الإنسان نفسه ، لأنّ الإنسان هو القوّة المحرّكة للتأريخ لا وسائل الإنتاج ، وفيه نجد ينابيع الحياة الاجتماعية فقد خُلق الإنسان مفطوراً على حبّ ذاته والسعي وراء حاجاته ، وبالتالي استخدام كلّ ما حوله في سبيل ذلك ، وكان من الطبيعي أن يجد الإنسان نفسه مضطرّاً إلى استخدام الإنسان الآخر في هذا السبيل أيضاً ؛ لأنّه لا يتمكّن من إشباع حاجاته إلاّ عن طريق التعاون مع الأفراد الآخرين ، فنشأت العلاقات الاجتماعية على أساس تلك الحاجات ، واتّسعت تلك العلاقات ونمت باتّساع تلك الحاجات ونموّها خلال التجربة الحياتية الطويلة للإنسان فالحياة الاجتماعية ـ إذن ـ وليدة الحاجات الإنسانية ، والنظام الاجتماعي هو الشكل الذي ينظّم الحياة الاجتماعية وفقاً لتلك الحاجات الإنسانية

ونحن إذا درسنا الحاجات الإنسانية وجدنا أنّ فيها جانباً رئيسياً ثابتاً على مرّ الزمن ، وفيها جوانب تستجدّ وتتطوّر طبقاً للظروف والأحوال فهذا الثبات الذي نجده في تركيب الإنسان العضوي وقواه العامة ، وما أُودع فيه من أجهزة للتغذية والتوليد وإمكانات للإدراك والإحساس يعني ـ حتماً ـ اشتراك الإنسانية كلّها في خصائص وحاجات وصفات عامة ، الأمر الذي جعلها أمّة واحدة في خطاب الله لأنبيائه :( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١)

ومن ناحية أخرى نجد أنّ عدداً كبيراً من الحاجات يدخل في نطاق الحياة الإنسانية بالتدريج ، وينمو من خلال تجارب الحياة وزيادة الخبرة بملابساتها وخصائصها فالحاجات الرئيسية ثابتة إذن ، والحاجات الثانوية تستجدّ وتتطوّر وفقاً لنموّ الخبرة بالحياة وتعقيداتها .

وإذا عرفنا إلى جانب ذلك : أنّ الحياة الاجتماعية نابعة من الحاجات

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأنبياء : ٩٢ .

٢٨٣

الإنسانية ، وأنّ النظام الاجتماعي هو الشكل الذي ينظّم الحياة الاجتماعية وِفقا لتلك الحاجات كما سبق إذا عرفنا ذلك كلّه خرجنا بنتيجة ، وهي : أنّ النظام الاجتماعي الصالح للإنسانية ليس من الضروري لكي يواكب نموّ الحياة الاجتماعية ـ أن يتطوّر ويتغيّر بصورة عامة ، كما أنّه ليس من المعقول أن يصوغ كلّيات الحياة وتفاصيلها في صيغ ثابتة ، بل يجب أن يكون في النظام الاجتماعي جانب رئيسي ثابت ، وجوانب مفتوحة للتطوّر والتغيّر ؛ ما دام الأساس للحياة الاجتماعية ( الحاجات الإنسانية ) يحتوي على جوانب ثابتة وجوانب متغيّرة ، فتنعكس كلّ من جوانبه الثابتة والمتطوّرة في النظام الاجتماعي الصالح .

وهذا هو الواقع في النظام الاجتماعي للإسلام تماماً ، فهو يشتمل على جانب رئيسي ثابت يتّصل بمعالجة الحاجات الأساسية الثابتة في حياة الإنسان ، كحاجته إلى الضمان المعيشي والتوالد والأمن ، وما إليها من الحاجات التي عولجت في أحكام توزيع الثروة ، وأحكام الزواج والطلاق ، وأحكام الحدود والقصاص ، ونحوها من الأحكام المقرّرة في الكتاب والسنّة .

ويشتمل النظام الاجتماعي في الإسلام أيضاً على جوانب مفتوحة للتغيّر وِفقاً للمصالح والحاجات المستجدّة ، وهي الجوانب التي سمح فيها الإسلام لولي الأمر أن يجتهد فيها وِفقاً للمصلحة والحاجة على ضوء الجانب الثابت من النظام كما زود الجانب الثابت من النظام بقواعد تشريعية ثابتة في صيغها القانونية غير أنّها تتكيّف في تطبيقها بالظروف والملابسات ، وبذلك تحدّد الأسلوب الصحيح لإشباع الحاجات الثابتة التي تتـنوّع أساليب إشباعها بالرغم من ثباتها ، وذلك كقاعدة نفي الضرر في الإسلام ، ونفي الحرج في الدين

وهكذا ـ وخلافاً للماركسية القائلة : بتبعيّة علاقات التوزيع ، وبالتالي النظام الاجتماعي كلّه لأشكال الإنتاج ـ نستطيع أن نقرّر : انفصال علاقات التوزيع عن شكل الإنتاج فمن الممكن لنظام اجتماعي واحدٍ أن يقدّم للمجتمع الإنساني علاقات توزيع صالحة له ، في مختلف ظروف الإنتاج وأشكاله ، وليس كلّ نوع من علاقات التوزيع مرهوناً بشكل معيّن من أشكال الإنتاج ، لا يسبقه ولا يتأخّر عنه كما ترى الماركسية .

٢٨٤

وعلى هذا الأساس يختلف الإسلام والماركسية في نظرتهما إلى أنظمة التوزيع الأخرى التي طبّقت في التأريخ ، وحكمهما في حقّ تلك الأنظمة فالماركسية تدرس كلّ نظام للتوزيع من خلال ظروف الإنتاج السائدة في المجتمع ، فتحكم بأنّه نظام صالح إذا كان يواكب نمو القوى المنتجة ، وبأنّه نظام فاسد تجب الثورة عليه إذا كان عقبة في طريقها الصاعد ولهذا نجد أنّ الماركسية تبارك الرقّ على أبعد مدى وبأفظع صورة في المجتمع الذي يعيش على الإنتاج اليدوي للإنسان ؛ لأنّ مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يدفع إلى مضاعفة النشاط المنتج إلاّ إذا رفعت السياط على رؤوس الكثرة الكاثرة من أفراده ، وأجبروا على العمل تحت وقع السياط ووخز الخناجر ، فمن يباشر عملية الإرهاب الهائل ويمسك السوط بيده هو الرجل التقدّمي والطليعة الثورية في ذلك المجتمع ، لأنّه الساهر دون وعي على تحقيق إدارة التأريخ ! وأمّا ذلك الفرد الآخر الذي يستنكف عن الاشتراك في عملية الاسترقاق ، ويترك هذه الفرصة الذهبية ، فهو جدير بكلّ النعوت التي يطلقها الاشتراكيون اليوم على الرأسمالي ؛ لأنّه رجل يعارض عملية التقدّم البشري !

وأمّا الإسلام فهو يحكم على كلّ نظام في ضوء صلته بالحاجات الإنسانية المتنوّعة ، التي يجب على النظام تكييف الحياة تكييفاً يضمن إشباعها ، بوصفها الأساس لنشوء الحياة الاجتماعية ولا يعتبر هذا الشكل أو ذاك من أشكال الإنتاج مبرّراً لقيام نظام اجتماعي وعلاقات توزيع لا تكفل إشباع تلك الحاجات ؛ لأنّه ينكر تلك الصلة الحتمية المزعومة بين أشكال الإنتاج والنُّظم الاجتماعية

والإسلام حين ينكر هذه الصلة لا يقرّر ذلك نظرياً فحسب ، بل هو يقدّم الدليل العملي على ذلك من وجوده التأريخي ، فقد سجّل الإسلام في تجربته الواقعية للحياة نصراً فكرياً وبرهاناً حيّاً على كذب تلك الصلة المزعومة بين النظام الاجتماعي وأشكال الإنتاج ، ودلّل على أنّ الإنسانية تستطيع أن تكيّف وجودها الاجتماعي تكييفاً انقلابياً جديداً ، بينما يظلّ أسلوبها في الإنتاج كما هو دونما تغيير .

فإنّ الواقع الإسلامي الذي عاشته الإنسانية لحظة قصيرة من عمر الزمن المديد ، وأحدث فيها أروع تطوير شهدته الأسرة البشرية ، لم يكن هذا الواقع الانقلابي الذي خلق أمّة وأقام حضارة وعدّل من سير التأريخ ، وليد أسلوب جديد في الإنتاج ، أو تغير في أشكاله وقواه ولم يكن من الممكن في منطق التفسير الاشتراكي للتأريخ ـ الذي يربط النظام الاجتماعي بوسائل الإنتاج ـ أن يوجد هذا الانقلاب الشامل ، الذي تدفّق إلى كلّ جوانب الحياة دون أن يسبقه أيّ تحوّل أساسي في ظروف الإنتاج .

٢٨٥

وهكذا تحدّى الواقع الإسلامي منطق الماركسية التأريخي في كلّ حساباتها وفي كلّ شيء نعم ، في كلّ شيء فقد تحدّاها في فكرة المساواة ؛ لأنّ الماركسية ترى أنّ فكرة المساواة من نتاج المجتمع الصناعي الذي يتفتح عن الطبقة التي تحمل لواء المساواة وهي البورجوازية ، وليس من الممكن ـ في رأيها ـ حمل هذا اللواء قبل أن يبلغ التطوّر التأريخي هذه المرحلة الصناعية ويقفالإسلام من هذا المنطق ـ الذي يرد كلّ وعي وفكرة إلى تطوّر الإنتاج ـ هازئاً ؛ لأنّه استطاع أن يرفع لواء المساواة ، وأن يفجّر في الإنسانية وعياً صحيحاً وإدراكاً شاملاً ، واستطاع أيضاً أن يعكس جوهرها في واقع العلاقات الاجتماعية ، بدرجة لم تصل إليها البورجوازية استطاع أن يقوم بذلك كلّه قبل أن يأذن الله بظهور الطبقة البورجوازية ، وقبل أن توجد شروطها المادّية بعشرة قرون ، فقد نادى بالمساواة يوم لم تكن قد وجدت الآلة ، فقال : ( كُلّكم لآدم وآدم من تُراب ) (١) و : ( الناس سواسيةٌ كأسنان المُشْط ) (٢) ، ( لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ إلاّ بالتقوى ) (٣) .

فهل استوحى المجتمع الإسلامي هذه المساواة من وسائل الإنتاج البورجوازي ، التي لم تظهر إلاّ بعد ذلك بألف سنة ؟! أو استوحاها من وسائل الزراعة والتجارة البدائية التي كان المجتمع الحجازي يعيش عليها ، وهي وسائل كانت توجد بدرجة أكثر نموّاً وأعظم تطوّراًُ في مجتمعات المساواة ، وجنّدته للقيام بأروع دور تأريخي في سبيل تحقيق هذه الفكرة ، ولم تصنع نظير ذلك مع المجتمعات العربية في اليمن أو الحيرة أو الشام ؟!

وتحدّى الإسلام أيضاً حسابات المادّية التأريخية مرّة أخرى ، فبّشر بمجتمع عالمي يجمع الإنسانية كلّها على صعيد واحد ، وعمل جاهداً في سبيل تحقيق هذه الفكرة في بيئة كانت تضجّ بالصراع القبلي ، وتزخر بآلاف المجتمعات العشائرية المتناقضة ، فقفز بتلك الوحدات إلى وحدة إنسانية كبرى ، وتسامى بالمسلمين من فكرة المجتمع القبلي الذي تحدّه حدود الدم والقرابة والجوار إلى فكرة المجتمع الذي لا يحدّه شيء من تلك الحدود ، وإنّما تحدّه القاعدة الفكرية للإسلام فأيّ أداة إنتاج حوّلت أولئك الذين كانت تضيق عقولهم عن فكرة المجتمع القومي ، فجعلتهم أئمّة المجتمع العالمي والدعاة إليه في فترة قصيرة ؟!

ـــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٣٤ .

(٢) تحف العقول : ٣٦٨ ، وفيه : ( سواء ) بدل ( سواسية ) .

(٣) كنز العمّال ٣ : ٩٣ ، الحديث ٥٦٥٢ ، مع اختلاف .

٢٨٦

وتحدى الإسلام المنطق التأريخي المزعوم مرّة ثالثة ؛ فيما أقام من علاقات التوزيع التي لم يكن من الممكن في حساب الاقتصاد الاشتراكي أن تقوم في مجتمع قبل أن يبلغ درجة من المرحلة الصناعية والآلية في الإنتاج فقلّص من دائرة الملكية الخاصة وضيّق من مجالها ، وهذّب من مفهومها ووضع لها الحدود والقيود ، وفرض عليها كفالة الفقراء ، ووضع إلى جانبها الضمانات الكافية لحفظ التوازن والعدالة في التوزيع ، وسبق بذلك الشروط المادّية ـ في رأي الماركسية ـ لهذا النوع من العلاقات ، فبينما يقول القرن الثامن عشر :

( لا يجهلن سوى الأبله أنّ الطبقات الدنيا يجب أن تظلّ فقيرة ، وإلاّ فإنها لن تكون مجتهدة ) (١)

ويقول القرن التاسع عشر :

( ليس للذي يولد في عالم تمّ امتلاكه حقّ في الغذاء إذا ما تعذّر عليه الظفر بوسائل عيشه عن طريق عمله أو أهله ، فهو طفيلي على المجتمع لا لزوم لوجوده ، إذ ليس له على خُوان الطبيعة مكان ، والطبيعة تأمره بالذهاب ولا تتوانى في تنفيذ أمرها هذا ) (٢) .

بينما يقول العالم هذا حتى بعد مجيء الإسلام بقرون ، يقول الإسلام ـ على ما جاء في الحديث ـ معلناً مبدأ الضمان الاجتماعي :

ـــــــــــــــ

(١) النصّ لأحد كتّاب القرن الثامن عشر ، وهو ( آرثر يونج ) ( المؤلّف قدّس سرّه )

(٢) النصّ لـ ( مالتس ) الذي عاش في بداية القرن التاسع عشر ( المؤلّف قدّس سرّه ) وراجع المادّية التأريخية : ١١٧ ـ ١١٨ .

٢٨٧

( من ترك ضياعاً فعليَّ ضياعه ، ومن ترك دَيناً فعليَّ دَينه ) (١) .

ويعلن الاقتصاد الإسلامي بوضوح : أنّ الفقر والحرمان ليس نابعاً من الطبيعة نفسها ، وإنّما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء ، فيقول ـ على ما جاء في الحديث ـ :

( ما جاعَ فقيرٌ إلاّ بما مُتّع به غَنيّ ) (٢) .

إنّ هذا الوعي الإسلامي لقضايا العدالة الاجتماعية في التوزيع الذي لم يوجد نظيره حتى في مجتمعات أرقى من المجتمع الإسلامي في شروطه المادّية ، لا يمكن أن يكون وليد المحراث والتجارة البدائية أو الصناعية اليدوية وما إليها من وسائل المعيشة التي كانت كلّ المجتمعات تعرفها.

يقولون : إنّ هذا الوعي ، أو هذا الانقلاب الاجتماعي ، بل هذا المدّ الإسلامي الهائل الذي امتدّ إلى تأريخ العام كلّه كان نتيجة للنموّ التجاري وللأوضاع التجارية فيمكّة ، التي كانت تتطلّب إنشاء دولة ثابتة وتدعيمها بكلّ متطلّباتها الاجتماعية والفكرية التي تُلائم الوضع التجاري السائد !!

وحقاً إنّه تفسير طريف أنّ يفسّر هذا التحوّل التأريخي الشامل في حياة الإنسانية كلّها بالظروف التجارية لبلدة من بلاد جزيرة العرب

ولا أدري كيف سمحت الظروف التجارية لمكّة بهذا الدور التأريخي الجبّار، دون غيرها من البلاد العالمية والعربية ، التي شهدت مَدَنِياتٍ أضخم وشروطاً مادّية أرقى ، وكانت تفوّق مكّة في ظروفها السياسية والاقتصادية ؟! أفَلم يكن من المحتوم في المنطق المادّي للتأريخ أن ينبثق التطوّر الاجتماعي الجديد من تلك البلاد ؟! فكيف استطاعت ظروف تجارية معيّنة في بلد كـ (مكّة ) أن تخلق تأريخاً إنسانياً جديداً ، بينما عجزت عن مثل ذلك ظروف مشابهة ، أو ظروف أكثر منها تطوّراً ونموّاً ؟

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٣٧ ، الباب ٩ من أبواب الدَّين والقرض ، الحديث ٥ والحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٢) نهج البلاغة : ٥٣٣ .

٢٨٨

فلئن كانت مكّة تتمتّع بظرفٍ تجاري مناسب لمرور التجارة بها بين اليمن وسوريا ، فقد كان الأنباط يتمتّعون بظروف تجارية مهمّة حين أنشأوا (بطرا ) كمحطّة للطرق التجارية ، وأنشأوا فيها مدنية من أرقى المدَنَيات العربية ، حتى امتد نفوذهم إلى ما يجاورهم من البلاد ، وأقاموا فيها حاميات للقوافل التجارية وأماكن لاستغلال المناجم ، وأصبحت مدينتهم ردحاً من الزمن المدينة الرئيسية للقوافل ومركزاً تجارياً مهمّاً ، وامتد نشاطهم التجاري إلى مناطق واسعة ، حتى وجدت آثار تجارتهم في (سلوقية ) وموانئ سورية والإسكندرية ، وكانوا يتاجرون بـ (الأفاويه )(١) من اليمن ، والحرير من الصين ، والحنّاء من عسقلان ، والزجاج وصبغ الأرجوان من صيدا وصور ، واللؤلؤ من الخليج الفارسي ، والخزف من روما ، وينتجون في بلادهم الذهب والفظّة والقار ، وزيت السمسم . وبالرغم من هذا المستوى التجاري والإنتاجي الذي لم تصل إليه مكّة ظلّت الأنباط في علاقاتها الاجتماعية كما هي تنتظر دور مكّة الرّباني في تطوير التأريخ

وهذه (الحِيرة ) التي شهدت على عهد المناذرة رُقيّاً كبيراً في الصناعة والتجارة ، فقد ازدهرت فيها صناعة الأنسجة والأسلحة والخزف وأواني الفخّار والنقوش ، واستطاع المناذرة أن يمدّوا نفوذهم التجاري إلى أواسط وجنوب وغربي الجزيرة العربية ، وكانوا يرسلون قوافل تجارية إلى الأسواق الرئيسية وهي تحمل منتوجات بلادهم

ـــــــــــــــ

(١) الأفاويه : التوابل ونوافح الطيب والزهر أو خصوص الأبيض منه القاموس المحيط ٤ : ٤١٦ و ٢ :٢١٠ ( لجنة التحقيق )

٢٨٩

والحضارة التدمريّة التي استمرّت عدّة قرون ، وازدهرت في ظلّها التجارة وقامت علاقاتها التجارية بمختلف دول العالم ، كالصين والهند وبابل والمدن الفينيقية وبلاد الجزيرة(١) .

والحضارات التي احتفل بها تأريخ اليمن منذ أقدم العهود(٢)

إنّ دراسة تلك الحضارات والمدنيات وظروفها التجارية والاقتصادية ، ومقارنتها بمكّة في واقعها الحضاري والمدني قبل الإسلام يبرهن على أنّ الانقلاب الإسلامي في العلاقات الاجتماعية والحياة الفكرية لم يكن مسألة شروط مادّية وظروف اقتصادية وتجارية ، وبالتالي : إنّ العلاقات الاجتماعية ـ بما فيها علاقات التوزيع ـ منفصلة عن شكل الإنتاج والوضع الاقتصادي للقوى المنتجة

أفليس من حقّ الإسلام بعد هذا كلّه أن يزيّف بكلّ اطمئنان وثقة تلك الحتمية التأريخية التي تربط كلّ أسلوب من أساليب التوزيع بأسلوب من أساليب الإنتاج ؟! ويعلن بالدليل المادّي المحسوس : أنّ النظام يقوم على أسس فكرية وروحية ، وليس على الطريقة المادّية في كسب حاجات الحياة .

ـــــــــــــــ

(١) راجع دائرة المعارف ٦ : ٧٩ ـ ٨١ .

(٢) الموسوعة العربية الميسّرة : ٩٥٦ ودائرة المعارف الإسلامية ١١ : ٢٠٦ .

٢٩٠

٦ ـ المشكلة الاقتصادية في نظر الإسلام وحلولها

ما هي المشكلة الاقتصادية ؟

تتّفق التيارات الفكرية في الحقل الاقتصادي جميعاً على : أنّ في الحياة الاقتصادية مشكلة يجب أن تعالج ، وتختلف بعد ذلك في تحديد طبيعة هذه المشكلة ، والطريقة العامة لعلاجها

فالرأسمالية تعتقد : أنّ المشكلة الاقتصادية الأساسية هي قلّة الموارد الطبيعية نسبياً ؛ نظراً إلى أنّ الطبيعة محدودة فلا يمكن أن يزاد في كمّية الأرض التي يعيش عليها الإنسان ، ولا في كمّية الثروات الطبيعية المتنوّعة المخبوءة فيها ، مع أنّ الحاجات الحياتية للإنسان تنمو باطّراد وفقاً لتقدّم المدينة وازدهارها ، الأمر الذي يجعل الطبيعة عاجزة عن تلبية جميع تلك الحاجات بالنسبة إلى الأفراد كافّة ، فيؤدّي ذلك إلى التزاحم بين الإفراد على إشباع حاجاتهم ، وتنشأ عن ذلك المشكلة الاقتصادية .

فالمشكلة الاقتصادية في رأي الرأسمالية هي : أنّ الموارد الطبيعية للثروة لا تستطيع أن تواكب المدنيّة ، وتضمن إشباع جميع ما يستجدّ خلال التطوّر المدني من حاجات ورغبات .

والماركسية ترى : أنّ المشكلة الاقتصادية دائماً هي مشكلة التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع فمتى تمّ الوفاق بين ذلك الشكل وهذه العلاقات ساد الاستقرار في الحياة الاقتصادية ، مهما كانت نوعية النظام الاجتماعي الناتج عن التوفيق بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع .

وأمّا الإسلام فهو لا يعتقد مع الرأسمالية : أنّ المشكلة مشكلة الطبيعة وقلّة مواردها ؛ لأنّه يرى أنّ الطبيعة قادرة على ضمان كلّ حاجات الحياة التي يؤدّي عدم إشباعها إلى مشكلة حقيقة في حياة الإنسان

كما لا يرى الإسلام أيضاً : أنّ المشكلة هي التناقض بين شكل الإنتاج وعلاقات التوزيع ، كما تقرّر الماركسية ، وإنّما المشكلة ـ قبل كلّ شيء ـ مشكلة الإنسان نفسه لا الطبيعة ، ولا أشكال الإنتاج .

٢٩١

وهذا ما يقرّره الإسلام في الفقرات القرآنية التالية :

( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) (١) .

فهذه الفقرات الكريمة تقرّر بوضوح : أنّ الله تعالى قد حشد للإنسان في هذا الكون الفسيح كلّ مصالحه ومنافعه ، ووفّر له الموارد الكافية لإمداده بحياته وحاجاته المادّية ، ولكنّ الإنسان هو الذي ضيّع على نفسه هذه الفرصة التي منحها الله له بظلمه وكفرانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) . فظلم الإنسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الإلهية ، هما السببان الأساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان

ويتجسّد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي : في سوء التوزيع ويتجسّد كفرانه للنعمة : في إهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها

فحين يمحى الظلم من العلاقات الاجتماعية للتوزيع ، وتجنّد طاقات الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها تزول المشكلة الحقيقة على الصعيد الاقتصادي .

ـــــــــــــــ

(١) سورة إبراهيم : ٣٢ ـ ٣٤ .

٢٩٢

وقد كفل الإسلام محو الظلم بما قدّمه من حلول لمسائل التوزيع والتداول ، وعالج الكفران بما وضعه للإنتاج من مفاهيم وأحكام وهذا ما سنشرحه فيما يلي بالمقدار الذي يتّصل بالسبب الأوّل من المشكلة الاجتماعية في نظر الإسلام وهو الظلم في مجالات التوزيع والتداول وأمّا موقف الإسلام من السبب الثاني ، وهو كفران النعمة ، فسوف نتناوله بالدرس في بحثٍ مقبلٍ(١) ، أعددناه لعرض موقف الإسلام من الإنتاج وأحكامه ومفاهيمه عنه .

جهاز التوزيع

فبالنسبة إلى مجالات التوزيع مُنيت الإنسانية على مرّ التأريخ بألوان من الظلم ؛ لقيام التوزيع تارةً : على أساس فرديٍّ بحت ، وأخرى : على أساس لا فردي خالص فكان الأوّل تعدّياً على حقوق الجماعة ، وكان الثاني بخساً لحقوق الفرد. وقد وضع الإسلام جهاز التوزيع للمجتمع الإسلامي بالشكل الذي تلتقي فيه حقوق الفرد بحقوق الجماعة فلم يَحُلْ بين الفرد وحقّه وإشباع ميوله الطبيعية ، كما لم يسلب الجماعة كرامتها ولم يهدّد حياتها ، وبذلك امتاز عن أجهزة التوزيع المختلفة التي جرّبها الإنسان على مرّ التأريخ

وجهاز التوزيع في الإسلام يتكوّن من أداتين رئيسيتين ، وهما : العمل والحاجة ولكلّ من الأداتين دورهما الفعّال في الحقل العام للثروة الاجتماعية وسوف نتناول كُلاً من الأداتين بالدرس ، لنعرف دورها الذي تؤدّيه في مجال التوزيع ، مع المقارنة بين مكانة العمل والحاجة في جهاز التوزيع الإسلامي للثروة ، ومكانتهما في التصاميم والنظريات الأخرى للتوزيع التي تقوم على أُسس شيوعية واشتراكية ورأسمالية .

ـــــــــــــــ

(١) سيأتي في مبحث : وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج .

٢٩٣

دور العمل في التوزيع :

لكي نعرف دور العمل في التوزيع يجب أن ندرس الصلة الاجتماعية بين العمل والثروة التي ينتجها فالعمل ينصبّ على مختلف المواد الطبيعية ؛ فيستخرج المعدن من الأرض ، ويقتطع الخشب من الأشجار ، ويغوص على اللؤلؤ في البحر ، ويصطاد طائراً من الجو إلى غير ذلك من الثروات والمواد التي يحصل عليها الإنسان من الطبيعة عن طريق العمل والسؤال الذي نعالجه بهذا الصدد هو : ماذا تكتسب المادة من طابع اجتماعي بسبب العمل ؟ وما هي علاقة العامل بالثروة التي حصل عليها عن طريق عمله ؟

فهناك الرأي القائل : بانقطاع الصلة الاجتماعية بين العمل والعامل وموضوعه ، فليس للعمل أو العامل من حقّ إلاّ في إشباع حاجته مهما كان عمله ؛ لأنّ العمل ليس إلاّ وظيفة اجتماعية يؤدّيها الفرد للمجتمع ، فيكافئه عليها المجتمع بضمان حاجاته

ويتّفق هذا الرأي مع وجهة نظر الاقتصاد الشيوعي ، فإنّ الاقتصاد الشيوعيينظر إلى المجتمع بوصفه كائناً كبيراً يذوب فيه الأفراد ، ويحتلّ كلّ فردٍ منه موضع الخليّة في الكائن العضوي الواحد وعلى أساس هذه النظرة التي تصهر الأفراد في البوتقة الاجتماعية الكبرى ، وتذيبهم في العملاق الكبير ، لا تبدو الأعمال التي يقوم بها أفراد المجتمع أعمالاً لأفراد ؛ لأنّ الأفراد قد ذابوا جميعاً ضمن الكائن الكبير فتنقطع بذلك صلة العامل بنتائج عمله ، ويصبح المجتمع هو العامل الحقيقي والمالك لنتاج عمل الأفراد جميعاً ، وليس للأفراد إلاّ إشباع حاجاتهم ، وفقاً للصيغة الشيوعية ـ التي مرّت بنا سابقاً في دراستنا للمادّية التأريخية ـ : ( من كلٍّ وفقاً لطاقته ، ولكلٍّ وفقاً لحاجته ) .

٢٩٤

فالأفراد في المجتمع الشيوعي يشبهون تماماً الأجزاء التي يتكوّن منها جهاز ميكانيكي ، فإنّ كلّ جزء في الجهاز له الحقّ في استهلاك ما يحتاجه من زيت ، وعليه القيام بوظيفته الخاصة ، وبذلك قد تستهلك الأجزاء الميكانيكية جميعاً حظوظاً متساوية من الزيت بالرغم من اختلاف وظائفها في أهميتها وتعقيدها وكذلك أفراد المجتمع يُعطى كلٌّ منهم في نظام التوزيع الشيوعي ( وفقاً لحاجته ) وإن اختلفوا في مدى مساهمتهم العملية في إنتاج الثروة فالشخص يعمل ولكنّه لا يملك ثمرة عمله ولا يختصّ بنتائجه ، وإنّما له الحقّ في إشباع حاجته سواء زاد ذلك على عمله أم قلّ عنه(١) .

وعلى هذا الأساس يصبح موقف العمل من التوزيع سلبياً فهو في ضوء المفهوم الشيوعي أداة إنتاج للسلع وليس أداة توزيع لها ، وإنّما الحاجة وحدها هي التي تقرّر الطريقة التي يتمّ بها توزيع السلع على أفراد المجتمع ، ولهذا يختلف أفراد المجتمع في حظّهم من التوزيع ، وفقاً لاختلاف حاجاتهم، لا لاختلاف أعمالهم

ـــــــــــــــ

(١) هذا في الاتجاهات الشيوعية غير الماركسية ، أمّا الماركسية فلها طريقتها الخاصة في تبرير ذلك على ضوء مفهومها التأريخي عن المرحلة الشيوعية ، راجع مبحث : مع الماركسية الشيوعية ، من هذا الكتاب ( المؤلّفقدس‌سره ) .

٢٩٥

وأمّا الاقتصاد الاشتراكي الماركسي ، فهو يحدّد صلة العامل بنتيجة عمله في ضوء مفهومه الخاص عن القيمة : فهو يرى أنّ العامل هو الذي يخلق القيمة التبادلية للمادة التي ينفق فيها عمله ، فلا قيمة للمادة بدون العمل البشري المتجسّد فيها وما دام العمل هو الينبوع الأساسي للقيمة ، فيجب أن يكون توزيع القيم المنتجة في مختلف فروع الثروة على أساس العمل ، فيملك كلّ عامل نتيجة عمله والمادة التي انفق عمله فيها ؛ لأنّها أصبحت ذات قيمة بسبب العمل ، وينتج عن ذلك : أنّ( لكلٍّ حسب عمله ) لا حسب حاجته ؛ لأنّ من حقّ كلّ عاملٍ أن يحصل على ما خَلق من قِيم ، ولمّا كان العمل هو الخلاّق الوحيد للقِيم ، فهو الأداة الوحيدة للتوزيع فبينما كانت أداة التوزيع في المجتمع الشيوعي هي الحاجة ، يصبح العمل أداة التوزيع الأساسية في المجتمع الاشتراكي .

وأمّا الإسلام فيختلف عن الاقتصاد الشيوعي والاشتراكي معاً فهو يخالف الشيوعية في قطعها الصلة بين عمل الفرد ونتائج عمله ، وتأكيدها على المجتمع بوصفه المالك الوحيد لنتائج أعمال الأفراد جميعاً ؛ لأنّ الإسلام لا ينظر إلى المجتمع بصفته كائناً كبيراً يختفي من وراء الأفراد ويحركها في هذا الاتجاه وذاك ، بل ليس المجتمع إلاّ الكثرة الكاثرة من الإفراد ، فالنظرة الواقعية إنّما تنصبّ على الأفراد بوصفهم بشراً يتحرّكون ويعملون ، فلا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تنقطع الصلة بين العامل ونتيجة عمله

ويختلف الإسلام أيضاً عن الاقتصاد الاشتراكي ، القائل : أنّ الفرد هو الذي يمنح المادة قيمتها التبادلية بعمله ، فالمواد الطبيعية كالخشب والمعادن وغير ذلك من ثروات الطبيعة لا تستمدّ قيمتها ـ في رأي الإسلام ـ من العمل ، بل قيمة كلّ مادّة حصيلة الرغبة الاجتماعية العامة في الحصول عليها ، كما أوضحنا ذلك في دراستنا للمادّية التأريخية .

٢٩٦

وإنّما العمل في نظر الإسلام سبب لملكية العامل لنتيجة عمله(١) ، وهذه الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل ، تعبير عن ميل طبيعي في الإنسان إلى تملّك نتائج عمله ، ومرّد هذا الميل إلى شعور كلّ فرد بالسيطرة على عمله ، فإنّ هذا الشعور يوحي طبيعياً بالميل إلى السيطرة على نتائج العمل ومكاسبه ، وبذلك تكون الملكية القائمة على أساس العمل حقاً للإنسان نابعاً من مشاعره الأصيلة وحتى المجتمعات التي تحدّثنا الشيوعية عن انعدام الملكيّة الخاصة فيها ، لا تدحض حقّ الملكية القائم على أساس العمل بوصفه تعبيراً عن ميل أصيل في الإنسان ، وإنّما تعني أنّ العمل في تلك المجتمعات كان يحمل طابعاً اشتراكياً ، فكانت الملكية القائمة على أساسه اشتراكية أيضاً فالحقيقة هي الحقيقة ، والميل الطبيعي إلى التملك على أساس العمل ثابت على أيّ حال ، وإن اختلفت نوعية الملكية لاختلاف شكل العمل من ناحية كونه فرديّاً أو اجتماعياً

فالعمل إذن أساس لتملك العامل في نظر الإسلام ، وعلى هذا الأساس فهو أداة رئيسية في جهاز التوزيع الإسلامي ؛ لأنّ كلّ عامل يحظى بالثروات الطبيعية التي يحصل عليها بالعمل ، ويمتلكها وفقاً لقاعدة :أنّ العمل سبب الملكية .

وهكذا نستطيع أن نستخلص في النهاية المواقف المذهبية المختلفة ، من الصلة الاجتماعية بين الفرد العامل ونتيجة عمله

فالقاعدة الشيوعية في هذا المجال : ( أنّ العمل سبب لتملّك المجتمع لا الفرد )

والقاعدة الاشتراكية : ( أنّ العمل سبب لقيمة المادة ، وبالتالي سبب تملّك العامل لها )

والقاعدة الإسلامية : ( أنّ العمل سبب لتملّك العامل للمادة ، وليس سبباً لقيمتها )

فالعامل حين يستخرج اللؤلؤ لا يمنحه بعمله هذا قيمته وإنّما يملكه بهذا العمل .

دور الحاجة في التوزيع :

إنّ العمل هو الأداة الرئيسية الأولى في جهاز التوزيع بوصفه أساساً للملكيّة كما عرفنا قبل لحظة والأداة الأخرى التي تساهم في عملية التوزيع مساهمة رئيسية هي الحاجة .

ـــــــــــــــ

(١) قال تعالى :( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ) سورة النساء : ٣٢ ، وانظر : بحار الأنوار ٦٦ : ٣١٣ ، ووسائل الشيعة ١٩ : ١٢٦ ـ ١٣٤ ، الباب ٢٣ من أبواب كتاب الإجارة ، باب : أنّ مَن تقبّل بعمل لم يجز أنّ يقبّل غيره بنقيصة إلاّ أن يعمل فيه شيئاً ، والباب ٢١ ، ٢٢ .

٢٩٧

والدور المشترك الذي يؤدّيه العمل والحاجة معاً في هذا المجال هو الذي يحدّد الشكل الأوّلي العام للتوزيع في المجتمع الإسلامي

ويمكننا لإيضاح هذا الدور المشترك الذي تساهم فيه الحاجة أن نقسّم أفراد المجتمع إلى ثلاث فئات : فإنّ المجتمع يحتوي عادة على :

فئةٍ : قادرة ـ بما تتمتّع به من مواهب وطاقات فكريّة وعملية ـ على توفير معيشتها في مستوى مرفّه غني

وفئةٍ أخرى : تستطيع أن تعمل ولكنّها لا تنتج في عملها إلاّ ما يشبع ضروراتها ويوفّر لها حاجاتها الأساسية .

وفئةٍ ثالثة : لا يمكنها أن تعمل لضعف بدني أو عاهة عقلية ، وما إلى ذلك من الأسباب التي تشلّ نشاط الإنسان ، وتقذف به خارج نطاق العمل والإنتاج

فعلى أساس الاقتصاد الإسلامي تعتمدالفئة الأولى في كسب نصيبها من التوزيع على العمل ، بوصفه أساساً للملكية وأداة رئيسية للتوزيع ، فيحصل كلّ فردٍ من هذه الفئة على حظّه من التوزيع وفقاً لإمكاناته الخاصة ، وإن زاد ذلك على حاجاته ما دام يستخدم إمكاناته في الحدود التي يضعها الاقتصاد الإسلامي للنشاطات الاقتصادية للأفراد فالحاجة ـ إذن ـ لا تعمل شيئاً بالنسبة إلى هذه الفئة ، وإنّما العمل هو أساس نصيبها من التوزيع .

وبينما تعتمد الفئة الأولى على العمل وحده ، يرتكز دخلالفئة الثالثة وكيانها الاقتصادي في الإسلام على أساس الحاجة وحدها ؛ لأنّ هذه الفئة عاجزة عن العمل ، فهي تحصل على نصيب من التوزيع يضمن حياتها كاملةً على أساس حاجتها ، وفقاً لمبادئ الكفالة العامة والتضامن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي

وأمّا الفئة الثانية : التي تعمل ولا تجني من عملها إلا الحدّ الأدنى من المعيشة ، فهي تعتمد في دخلها على العمل والحاجة معاً فالعمل يكفل لها معيشتها الضرورية ، والحاجة تدعو ـ وفقاً لمبادئ الكفالة والتضامن ـ إلى زيادة دخل هذه الفئة بأساليب وطرق محدّدة في الاقتصاد الإسلامي كما سيأتي ؛ ليتاح لأفراد هذه الفئة العيش بالدرجة العامة من الرّفاه

ومن خلال هذا نستطيع أن ندرك أوجه الاختلاف ببن دَور الحاجة في الاقتصاد الإسلامي بصفتها أداة توزيع ودَورها في المذاهب الاقتصادية الأخرى .

٢٩٨

الحاجة في نظر الإسلام والشيوعية :

تعتبر الحاجة في نظر الشيوعية ـ القائلة : أنّ من كلٍّ وفقاً لطاقته ، ولكلٍّ وفقاً لحاجته ـ وحدها هي المعيار الأساسي في توزيع الناتج على الأفراد العاملين في المجتمع ، فلا تسمح للعمل بإيجاد ملكية أوسع نطاقاً من حاجة العامل بينما يعترف الإسلام بالعمل بوصفه أداة للتوزيع إلى جانب الحاجة ، ويسند إليه دوراً إيجابياً في هذا المضمار ، وبذلك يفتح المجال في الحياة الاقتصادية لظهور كلّ الطاقات والمواهب ونموّها على أساس من التنافس والسباق ، ويدفع الأفراد الموهوبين إلى إنفاق كلّ إمكاناتهم في مضمار المدَنية والاقتصاد .

وعلى العكس من ذلك الشيوعية ؛ فإنّها بإقامتها للتوزيع على أساس حاجة العامل وحدها دون نوعية عمله ونشاطه تؤدّي إلى تجميد الدوافع الطبيعية في الإنسان الباعثة على الجدّ والنشاط ، فإنّ الذي يبعث الفرد على ذلك إنّما هو في الحقيقة مصلحته الخاصة ، فإذا جرّد العمل عن وصفه أداة توزيع واتّخذت الحاجة وحدها مقياساً لنصيب كلّ فرد ـ كما تصنع الشيوعية ـ كان في ذلك القضاء على أهمّ قوّة دافعة بالجهاز الاقتصادي إلى الأمام ، ومحرّكة له في اتجاه متصاعد .

الحاجة في نظر الإسلام والاشتراكية الماركسية :

تعتمد الاشتراكية ـ القائلة : من كلٍّ حسب طاقته ولكلّ حسب عمله ـ على العمل بصفته الجهاز الأساسي للتوزيع ، فلكلّ عامل الحقّ في نتيجة عمله مهما كانت هذه النتيجة ضئيلة أو كبيرة وبذلك يلغى دور الحاجة في التوزيع ، فلا يقف نصيب العامل عند حاجته إذا كان ينتج في عمله أكثر من حاجته ، كما لا يحظى العامل بما يشبع حاجته كاملة إذا قصر به عمله عن تقديم خدمة إنتاجية توازي ذلك ، فلكلّ فردٍّ ـ إذن ـ قيمة عمله مهما كانت حاجته ومهما حقّقه العمل من قيمة .

وهذا يختلف عن وجهة نظر الإسلام في الحاجة ، فإنّ لها في رأيه دوراً إيجابياً مهمّاً ؛ لأنّها وإن لم تكن سبباً لحرمان العامل الموهوب من ثمار عمله إذا زادت عن حاجته ، غير أنّها سببٌ فعّال في التوزيع بالنسبة إلى الفئة الثانية من فئات المجتمع ، التي استعرضناها قبل دقائق ، وهي الفئة التي لا تملك من القدرة الفكرية والجسدية إلاّ الدرجة التي تسمح لها بالحصول على الحدّ الأدنى من ضرورات الحياة ، فإنّ هذه الفئة على الأسس الاشتراكية الماركسية للاقتصاد يجب أن تقنع بثمار

٢٩٩

عملها الضئيلة ، وتستسيغ الفوارق الكبيرة بين مستوى معيشتها ومستوى المعيشة العام للفئة الأولى القادرة على كسب العيش المرفّه ؛ لأنّ العمل وحده هو الذي يمارس التوزيع في ظل الاشتراكية ، فلا يمكن للعامل أن يطمع بأكثر من العيش الذي يرشحه له عمله وأمّا في ظل الاقتصاد الإسلامي فالأمر يختلف ؛ لأنّ الإسلام لم يكتف بالعمل وحده لتنظيم جهاز التوزيع بين العاملين ، بل جعل للحاجة نصيباً من ذلك واعتبر عجز الفئة الثانية عن تحقيق المستوى العام للرفاه لوناً من الحاجة ، ووضع الأساليب والطرق المعِينة لمعالجة هذه الحاجة فالعامل الموهوب الطيّب الحظّ لن يحرم ممّا زاد على حاجته من نتاج عمله ، ولكن العامل الذي لم يمنح إلاّ الحد الأدنى من الطاقة العملية سوف يحصل على نصيب أكبر من نتاجه .

وهناك نقطة خلاف فكري أخرى بين الإسلام والاشتراكية الماركسية ، حول الفئة الثالثة من فئات المجتمع الثلاث ، التي حُرمت من العمل بسبب طبيعة تكوينها الفكري والجسدي والاختلاف بين الإسلام والاشتراكية الماركسية حول هذه الفئة المحرومة ينبع من تناقض مفاهيمها عن علاقات التوزيع .

وأنا لا أريد أن أتناول بهذا الصدد موقف العالم الاشتراكي اليوم من الفئة الثالثة ، ولا أحاول أن أكرر المزاعم القائلة : أنّ الفرد العاجز عن العمل محكوم عليه في المجتمعات الاشتراكية بالموت جوعاً ؛ لأنّني أريد أن أدرس المسألة من الوجهة النظرية لا التطبيقية ، ولا أريد أن أتحمل مسؤولية تلك المزاعم التي يرددها أعداء العالم الاشتراكي عنه .

فمن الناحية النظرية لا يمكن للاقتصاد الاشتراكي الماركسي أن يفسّر حقّ الفئة الثالثة في الحياة ويبرّر حصولها على نصيب من الناتج العام في عملية التوزيع ؛ لأنّ التوزيع لا يقوم في رأي الماركسية على أساس خُلقي ثابت ، وإنّما يحدّد وفقاً لحالة الصراع الطبقي في المجتمع التي يمليها شكل الإنتاج السائد ، ولذلك تؤمن الماركسية : أنّ الرقّ وموت الرقيق تحت السياط ، وحرمانه من ثمرات عمله ، كان شيئاً سائغاً في ظروف الصراع الطبقي بين السادة والعبيد

وعلى هذا الأساس الماركسي يجب أن يدرس حظّ الفئة الثالثة من التوزيع في ضوء مركزها الطبقي ، ما دامت حظوظ الأفراد في التوزيع تحدّد وفقاً لمراكزهم الطبقية في المعترك الاجتماعي

ولمّا كانت الفئة الثالثة مجرّدة عن ملكية وسائل الإنتاج وعن طاقة العمل المنتج ، فهي لا تندرج ضمن إحدى الطبقتين المتصارعتين : ( الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة ) ، ولا تشكل جزءاً من الطبقة العاملة في دور انتصار العمّال وإنشاء المجتمع الاشتراكي .

٣٠٠