اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 146456
تحميل: 8781

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146456 / تحميل: 8781
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اقتصادنا

محمد حسين الزين

١

صدر، محمد باقر، ١٩٣١ ـ ١٩٧٩م. Sadr, Muhammd, Bagir

اقتصادنا / تأليف محمد باقر الصدر؛ تحقيق المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر. قم: پژوهشگاه علمى تخصصى شهيد صدر، ١٤٢٤ ق. ـ ٢٠٠٤م = ١٣٨٢.

٩١٢ ص ـ (تراث الشهيد الصدر؛ ٣) ISBN ٩٦٤-٥٨٦٠-٢٦-١

عربى.

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتاب حاضر تحت عنوان كنگره بين المللى آيت الله العظمى شهيد صدرقدس‌سره منتشر شده است.

چاب قبلى: الحوزه العلميه قم ، مكتب الإعلام الإسلامى، مركز النشر، ١٣٧٥.

كتابنامه: ص٩٠٠ ـ ٩١٢؛ همچنين به صورت زيرنويس.

١. اسلام واقتصاد. ٢. اقتصاد تطبيقى. الف. پژوهشگاه علمى تخصص شهيد صدر ب. كنگره بين المللى آيت الله العظمى شهيد صدرقدس‌سره . (نخستين ١٣٧٩: تهران).

٧ الف ٤ ص / ٢ / ٢٣٠ BP ٤٨٣٣ / ٢٩٧ ١٣٨٢

كتابخانه ملّى إيران ٣٤١٢١ ـ ٨٢م

٢

كلمة المؤتمر :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين .

منذ منتصف القرن العشرين ، وبعد ليل طويل نشر أجنحته السوداء على سماء الأُمّة الإسلامية لعدّة قرون ، فلفّها في ظلام حالك من التخلّف والانحطاط والجمود ، بدأت بشائر الحياة الجديدة تلوح في أُفق الأُمّة ، وانطلق الكيان الإسلامي العملاق ـ الذي بات يرزح تحت قيود المستكبرين والظالمين مدى قرون ـ يستعيد قواه حتى انتصب حيّاً فاعلاً قويّاً شامخاً بانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران تحت قيادة الإمام الخمينيقدس‌سره يقضّ مضاجع المستكبرين ، ويبدّد أحلام الطامعين والمستعمرين .

ولئن أضحت الأُمّة الإسلاميّة مدينة في حياتها الجديدة على مستوى التطبيق للإمام الخمينيقدس‌سره فهي بدون شك مدينة في حياتها الجديدة على المستوى الفكري والنظري للإمام الشهيد الصدرقدس‌سره ، فقد كان المنظّر الرائد بلا منازع للنهضة الجديدة ؛ إذ استطاع من خلال كتاباته وأفكاره التي تميّزت بالجِدة والإبداع من جهة ، والعمق والشمول من جهة أُخرى ، أن يمهّد السبيل للأُمّة ويشقّ لها الطريق نحو نهضة فكرية إسلاميّة شاملة ، وسط ركام هائل من التيّارات الفكرية المستوردة التي تنافست في الهيمنة على مصادر القرار الفكري والثقافي في المجتمعات الإسلاميّة ، وتزاحمت للسيطرة على عقول مفكّريها وقلوب أبنائها المثقّفين .

لقد استطاع الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدرقدس‌سره بكفاءةٍ عديمة النظير أن ينازل بفكره الإسلامي البديع عمالقة الحضارة المادّية الحديثة ونوابغها الفكريّين ، وأن يكشف للعقول المتحرّرة عن قيود التبعيّة الفكريّة والتقليد الأعمى زيف الفكر الإلحادي ، وخواء الحضارة المادّية في أُسسها العقائديّة، ودعائمها النظريّة، وأن يثبت فاعليّة الفكر الإسلامي وقدرته العديمة النظري على حلّ مشاكل المجتمع الإنساني المعاصر، والاضطلاع بمهمّة إدارة الحياة الجديدة بما يضمن للبشريّة السعادة والعدل والخير والرفاه .

٣

ثمّ إنّ الإبداع الفكري الذي حقّقته مدرسة الإمام الشهيد الصدر لم ينحصر في إطار معيّن ، فقد طال الفكر الإسلامي في مجاله العام ، وفي مجالاته الاختصاصيّة الحديثة كالاقتصاد الإسلامي والفلسفة المقارنة والمنطق الجديد ، وشمل الفكر الإسلامي الكلاسيكي أيضاً ، كالفقه والأُصول والفلسفة والمنطق والكلام والتفسير والتأريخ ، فأحدث في كل فرع من هذه الفروع ثورةً فكريّة نقلت البحث العلمي فيه إلى مرحلة جديدة متميّزة سواء في المنهج أو المضمون .

ورغم مضيّ عقدين على استشهاد الإمام الصدر ، ما زالت مراكز العلم ومعاهد البحث والتحقيق تستلهم فكره وعلمه ، وما زالت الساحة الفكريّة تشعر بأمسّ الحاجة إلى آثاره العلميّة وإبداعاته في مختلف مجالات البحث والتحقيق العلمي .

ومن هنا كان في طليعة أعمال المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر إحياء تراثه العلمي والفكري بشكل يتناسب مع شأن هذا التراث القيّم .

وتدور هذه المهمّة الخطيرة ـ مع وجود الكمّ الكبير من التراث المطبوع للشهيد الصدر ـ في محورين :

أحدهما : ترجمته إلى ما تيسّر من اللغات الحيّة بدقّة وأمانة عاليتين .

والآخر : إعادة تحقيقه للتوصّل إلى النصّ الأصلي للمؤلّف منزّهاً من الأخطاء التي وقعت فيه بأنواعها من التصرّف والتلاعب والسقط نتيجة كثرة الطبعات وعدم دقّة المتصدّين لها وأمانتهم ، ثمّ طبعه من جديد بمواصفات راقية.

ونظراً إلى أنّ التَّرِكة الفكرية الزاخرة للسيّد الشهيد الصدرقدس‌سره شملت العلوم والاختصاصات المتنوّعة للمعارف الإسلامية وبمختلف المستويات الفكريّة ، لذلك أوكل المؤتمر العالمي للشهيد الصدر مهمّة التحقيق فيها إلى لجنة علمية تحت إشراف علماء متخصّصين في شتّى فروع الفكر الإسلامي من تلامذته وغيرهم ، وقد وُفّقت اللجنة في عرض هذا التراث بمستوى رفيع من الإتقان والأمانة العلميّة ، ولخّصت منهجيّة عملها بالخطوات التالية :

١ ـ مقابلة النسخ والطبعات المختلفة .

٢ ـ تصحيح الأخطاء السارية من الطبعات الأُولى أو المستجدة في الطبعات اللاحقة ، ومعالجة موارد السقط والتصرّف

٤

٣ ـ تقطيع النصوص وتقويمها دون أدنى تغيير في الأُسلوب والمحتوى ، أمّا الموارد النادرة التي تستدعي إضافة كلمة أو أكثر لاستقامة المعنى فيوضع المضاف بين معقوفتين .

٤ ـ تنظيم العناوين السابقة ، وإضافة عناوين أُخرى بين معقوفتين .

٥ ـ استخراج المصادر التي استند إليها السيّد الشهيد بتسجيل أقربها غلى مرامه وأكثرها مطابقة مع النصّ ؛ ذلك لأنّ المؤلّف يستخدم النقل بالمعنى ـ في عددٍ من كتبه وآثاره ـ معتمداً على ما اختزنته ذاكرته من معلومات أو على نوع من التلفيق بين مطالب عديدة في مواضع متفرّقة من المصدر المنقول عنه ، وربّما يكون بعض المصادر مترجماً وله عدّة ترجمات ؛ ولهذا تُعدّ هذه المرحلة من أشقّ المراحل .

٦ ـ إضافة بعض الملاحظات في الهامش للتنبيه على اختلاف النسخ أو تصحيح النصّ أو غير ذلك ، وتُختم هوامش السيّد الشهيد بعبارة (المؤلّفقدس‌سره ) تمييزاً لها عن هوامش التحقيق .

وكقاعدة عامّة ـ لها استثناءات في بعض المؤلّفات ـ يُحال الابتعاد عن وضع الهوامش التي تتولّى عرض مطالب إضافيّة أو شرح وبيان فكرةٍ ما أو تقييمها ودعمها بالأدلّة أو نقدها وردّها .

٧ ـ تزويد كلّ كتاب بفهرس موضوعاته ، وإلحاق بعض المؤلّفات بثبت خاص لفهرس المصادر الواردة فيها .

وقد بسطت الجهود التحقيقيّة ذراعيها على كلّ ما أمكن العثور عليه من نتاجات هذا العالم الجليل ، فشملت كتبه ، وما جاد به قلمه مقدمةً أو خاتمةً لكتب غيره ثمّ طُبع مستقلاًّ في مرحلة متأخرة ، ومقالاته المنشورة في مجلاّت فكريّة وثقافيّة مختلفة ، ومحاضراته ودروسه في موضوعات شتّى ، وتعليقاته على بعض الكتب الفقهيّة ، ونتاجاته المتفرّقة الأُخرى ، ثمّ نُظّمت بطريقة فنّية وأُعيد طبعها في مجلّدات أنيقة متناسقة .

والكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم ( اقتصادنا ) كتبه السيّد الشهيد تلبيةً للضرورة الإسلاميّة والحاجة المُلحّة التي برزت في الساحة بعد الغزو الفكري الذي شنّته الحضارة الغربيّة والشرقيّة على الأُمّة الإسلامية ، فوُجد في أبنائها من يأخذ بتلك الأفكار والقيم ويتأثّر بها بحرارة وشغف ، فتصدّى الإمام الصدر في كتابه هذا ـ مضافاً غلى بعض كتاباته الأُخرى ـ لنسف أُسس المدرستين الرأسمالية والماركسيّة ومناقشة مذهبيهما بدقّة علميّة عالية ، وعرض النظريّة الاقتصاديّة في الإسلام .

٥

كانت هذه المحاولة هي البداية الراسخة في مجال التأسيس العلمي للاقتصاد الإسلامي .

يقول الأُستاذ الدكتور محمّد المبارك وهو بصدد الحديث عن الدراسات التي أُنجزت في ميدان الاقتصاد الإسلامي :

( ٤ ـ اقتصادنا للبحّاثة الإسلامي المفكّر السيّد محمّد باقر الصدر ، وهو أوّل محاولة علميّة فريدة من نوعها لاستخراج نظريّة الإسلام الاقتصاديّة من أحكام الشريعة من خلال استعراضها استعراضاً تفصيليّاً بطريقةٍ جمع فيها بين الأصالة الفقهيّة ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته ، وقد جعل المؤلّف كتابه في جزأين كبيرين ، خصّص أوّلهما لعرض المذهبين الرأسمالي والماركسي ومناقشتهما ونقدهما نقداً علميّاً ، والثاني لاستخراج معالم النظريّة الإسلاميّة في الاقتصاد )(١) .

وعلى الرغم من كون هذه المبادرة تأسيسيّة وبدائيّة على حدّ تعبير السيّد الشهيد إلاّ أنّها ظلّت ـ وإلى يومنا هذا ـ أحدث دراسة في مجال الاقتصاد الإسلامي بعد مرور أكثر من أربعة عقود على كتابتها ، وهي ما زالت تنتظر العقول

ـــــــــــــــ

(١) نظام الإسلام ، الاقتصاد ، مبادئ وقواعد : ١٧.

٦

المفكّرة والطاقات الإسلاميّة لمواصلة الطريق الذي فتحه السيّد الشهيد الصدر وإتمام مشروعه في الكشف عن سائر جوانب نظريّة الإسلام في الاقتصاد .

وفي مجال تحقيق المؤتمر للكتاب لا بدّ من التذكير بالنقاط التاليّة :

١ ـ قُسّم الكتاب إلى قسمين : الكتاب الأوّل والكتاب الثاني ؛ وذلك لورود هذا التعبير مراراً في كلام السيّد المؤلّف عن الكتاب .

٢ ـ تمّت المقابلة الدقيقة بين الطبعات المختلفة للكتاب ، فكانت هناك أخطاء تسرّبت إلى بعض الطبعات بادرت اللجنة إلى تصحيحها ، وحصل تقديم وتأخير خاطئين في بعض المقاطع ، فأُعيد ترتيبه الصحيح ، كما أخذت اللجنة بعين الاعتبار ما أضافه السيّد المؤلّف من كلام في أثناء البحث ، ومن تعديلات لفظيّة طفيفة في الطبعات المتأخّرة ، واكتُشفت من خلال هذه المقابلة أُمور مهمّة أُخرى سيتمّ الحديث عنها في النقاط التالية .

٣ ـ يبدو أنّ السيّد المؤلّفقدس‌سره لم يوثّق الأحكام الفقهيّة غالباً في الطبعات الأُولى للكتاب إلاّ بآراء فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وقلّما يعرض الفتاوى السنّية في هذا المجال وقد اغتنم فرصةً بعد ذلك في الطبعات اللاحقة ، فأكثر من تأييد الأحكام الفقهيّة بفتاوى من كبار علماء السنّة أيضاً(١) .

ـــــــــــــــ

(١) ولعلّ هذه الخطوة من المؤلّف كانت علاجاً للملاحظة التي أبداها الأُستاذ محمّد المبارك على منهجيّة الكتاب. إذ قال: (وحبّذا لو أنّ المؤلّف لم يقتصر في الآراء الفقهيّة التي استند إليها على المذهب الجعفري وحده كما فعل غالباً وجعله شاملاً للمذاهب الفقهيّة الأُخرى ، إذن لكانت الصورة أكمل وأتمّ ، وإن كان هذا لا ينقص من قيمة الكتاب باعتباره معبّراً عن النظريّة الإسلاميّة ؛ لاشتراك المذاهب كلّها في هذه الآراء اشتراكاً يكاد يكون تامّاً ، ولكنّ توسيع الإطار له دلالته البعيدة وأثره المفيد ) ( نظام الإسلام ، الاقتصاد ، مبادئ وقواعد عامّة : ١٧ ) .

٧

وبدهيٌ أنّ اللجنة أثبتت هذه الإضافات ـ كسائرها ـ في تحقيقها للكتاب .

٤ ـ كتب المؤلّف مقدّمةً للكتاب الثاني طُبعت في بعض الطبعات(١) ، ولم تثبّت في الطبعات المتأخّرة ، ولم تعرف اللجنة سبب ذلك والمقدّمة تحتوي على ما يتعلّق بمنهجيّة المؤلّف في بحوث الكتاب الثاني من إشارات مهمّة ذُكر بعضها في مقدّمة الطبعة الأُولى ، ولكنّها على الرغم من ذلك تشتمل على فوائد قيّمة أُخرى دعت اللجنة لإدراجها في هذه الطبعة المحقّقة .

٥ ـ اضطربت الطبعات المختلفة للكتاب في ضبط ملاحقه ، فحذف بعضها وحصل اشتباه في تحديد مواقع سائرها فحقّقت اللجنّة النظر في ذلك ، وأثبتت المحذوف منها ، وأعادت المثبتة إلى مواقعها الصحيحة .

كما أنّ هناك ملحقاً ظفرت اللجنة به يعود موضوعه إلى( مبحث الجُعالة في كتاب اقتصادنا ) لم يطبع ضمن الكتاب في كلّ طبعاته ، فأدرجته في هذه الطبعة حرصاً على إتمام الفائدة .

٦ ـ قامت اللجنة بمحاولة واسعة لاستخراج النصوص المنقولة في الكتاب من مصادرها ، سواء في عرض الاقتصاد الماركسي والرأسمالي أو في شرح الاقتصاد الإسلامي ، كما أنّها أحالت القرّاء الراغبين في تحقيق البحوث إلى المصادر المناسبة الموضّحة للبحث .

وأدرجت اللجنّة أسماء المصادر ـ بما فيها المصادر الحديثيّة والفقهيّة ـ

ـــــــــــــــ

(١) راجع طبعة دار الفكر سنة ١٩٧٣م.

٨

كاملة لكي تحدّد وتعرف حتّى لدى غير المختصّين (١) .

ولا يفوتنا أن نشيد بالموقف النبيل لورثة السيّد الشهيد كافّة ، سيّما نجله البارّ (سماحة الحجّة السيّد جعفر الصدر حفظه الله) في دعم المؤتمر وإعطائهم الإذن الخاصّ في نشر وإحياء التراث العلمي للشهيد الصدرقدس‌سره .

وأخيراً نرى لزاماً علينا أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى اللجنة المشرفة على تحقيق تراث الإمام الشهيد ، والعلماء والباحثين كافّة الذين ساهموا في إعداد هذا التراث وعرضه بالأُسلوب العلمي اللائق ، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يتقبّل جهدهم ، وأن يمنّ عليهم وعلينا جميعهاً بالأجر والثواب ، إنّه سمع مجيب .

ـــــــــــــــ

(١) وبهذا عولجت الملاحظة الثانية التي سجّلها الأُستاذ محمّد المبارك على الكتاب ، حيث قال: ( وثمّة أمر آخر ، فإنّ المؤلّف ـ حفظه الله ـ حين يذكر مصادره ومراجعه يذكرها بأسمائها المختصرة المعروفة عند أهل المذهب ، كأن يذكر كتاب التحرير أو الإرشاد أو الإيضاح... ) ( نظام الإسلام ، الاقتصاد ، مبادئ وقواعد عامّة : ١٧ ) .

المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدرقدس‌سره

أمانة الهيئة العلميّة

٩

[ مقدّمة الطبعة الثانية ]

بسم الله الرحمن الرحيم

يسرّني أن أقدّم للطبعة الثانية لكتاب (اقتصادنا ) وقد ازددت إيماناً واقتناعاً بأنّ الأمّة قد بدأت فعلاً تنفتح على رسالتها الحقيقية التي يمثلّها الإسلام ، وتدرك بالرغم من ألوان التَضليل الاستعماري أنّ الإسلام هو طريق الخلاص ، وأنّ النظام الإسلامي هو الإطار الطبيعي الذي يجب أن تحقّق حياتها و تفجّر طاقاتها ضمنه و تنشئ كيانها على أساسه.

وقد كان بودّي أن تتاح لي فرصة للتوسّع في بعض مواضيع الكتاب ، وتسليط المزيد من الأضواء على عدد من النقاط التي تناولها ، ولكنّي إذ لا أجد الآن مجالاً للحديث عن بحوث الكتاب فلن أدع هذه المناسبة دون كلمة عن موضوع الكتاب ذاته ، وصلة هذا الموضوع الخطير بحياة الأمّة ومشاكلها وأهمّيتها المتنامية على مرّ الزمن على الصعيد الإسلامي والصعيد البشري على السواء

فالأمّة على الصعيد الإسلامي وهي تعيش جهادها الشامل ضدّ تخلّفها وانهيارها ، وتحاول التحرّك السياسي والاجتماعي نحو وجود أفضل وكيان أرسخ واقتصاد أغنى وأرفه ، سوف لن تجد أمامها عقيب سلسلة من محاولات الخطأ والصواب إلاّ طريقاً واحداً للتحرّك ، وهو التحرّك في الخط الإسلامي ، ولن تجد إطاراً تضع ضمنه حلولها لمشاكل التخلّف الاقتصادي سوى إطار النظام الاقتصادي في الإسلام

والإنسانية على الصعيد البشري ، وهي تقاسي أشدّ ألوان القلق والتذبذب بين تيّارين عالَميَّين ملغّمين بقنابل الذرّة والصواريخ ووسائل الدمار ، لن تجد لها خلاصاً إلاّ على الباب الوحيد الذي بقي مفتوحاً من أبواب السماء ، وهو الإسلام ولنأخذ في هذه المقدّمة الصعيد الإسلامي بالحديث .

١٠

على الصعيد الإسلامي :

حينما أخذ العالم الإسلامي ينفتح على حياة الإنسان الأوروبي ويذعن لإمامته الفكرية وقيادته لموكب الحضارة بدلاً عن إيمانه برسالته الأصيلة وقيمومَتها على الحياة البشرية ، بدأ يدرك دوره في الحياة ضمن إطار التقسيم التقليدي لبلاد العالم الذي درج عليه الإنسان الأوروبي ، حين قسّم العالم على أساس المستوى الاقتصادي للبلد وقدرته المنتجة إلى : بلاد راقية اقتصادياً ، وبلاد فقيرة أو متخلّفة اقتصادياً وكانت بلاد العالم الإسلامي كلّها من القسم الثاني ، الذي كان يجب عليه ، في منطق الإنسان الأوروبي ، أن يعترف بإمامة البلاد الراقية ويفسح المجال لها لكي تنفُث روحها فيه ، وتخطط له طريق الارتفاع

وهكذا دشّن العالم الإسلامي حياته مع الحضارة الغربية بوصفه مجموعة من البلاد الفقيرة اقتصادياً ، ووعى مشكلته على أساس أنّها هي التخلّف الاقتصادي عن مستوي البلاد المتقدّمة الذي أتاح لها تقدّمها الاقتصادي زعامة العالم ، ولقّنته تلك البلاد المتقدمة أنّ الأسلوب الوحيد للتغلّب على هذه المشكلة والالتحاق بركب البلاد المتقدّمة ، هو اتّخاذ حياة الإنسان الأوروبي تجربة رائدة وقائدة وترسّم خطوات هذه التجربة لبناء اقتصاد كاملٍ شاملٍ قادرٍ على الارتفاع بالبلاد الإسلامية المتخلّفة إلى مستوى الشعوب الأوروبية الحديثة

وقد عبّرت التبعية في العالم الإسلامي لتجربة الإنسان الأوروبي الرائد للحضارة الحديثة عن نفسها بأشكالٍ ثلاثة مترتبة زمنياً ، ولا تزال ـ هذه الأشكال الثلاثة ـ متعاصرة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي .

الأوّل : التبعية السياسية التي تمثّلت في ممارسة الشعوب الأوروبية الراقية اقتصادياً حكم الشعوب المتخلّفة بصورة مباشرة .

الثاني : التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلّة من الناحية السياسية في البلاد المتخلّفة ، وعبّرت عن نفسها في فسح المجال للاقتصاد الأوروبي لكي يلعب على مسرح تلك البلاد بأشكال مختلفة ويستثمر موادها الأولية ويملأ فراغاتها برؤوس أموال أجنبية ، ويحتكر عدداً من مرافق الحياة الاقتصادية فيها بحجّة تمرين أبناء البلاد المتخلّفين على تحمّل أعباء التطوير الاقتصادي لبلادهم .

١١

الثالث : التبعية في المنهج التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم الإسلامي ، حاولت أن تستقل سياسياً وتتخلّص من سيطرة الاقتصاد الأوروبي اقتصادياً وأخذت تفكّر في الاعتماد على قدرتها الذاتية في تطوير اقتصادها والتغلّب على تخلّفها ، غير أنّها لم تستطع أن تخرج في فهمها لطبيعة المشكلة التي يجسدها تخلّفها الاقتصادي عن إطار الفهم الأوروبي لها فوجدت نفسها مدعوة لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الإنسان الأوروبي في بنائه الشامخ لاقتصاده الحديث

وبالرغم من اختلافات نظرية كبيرة نشأت بين تلك التجارب خلال رسم المنهج و تطبيقه ، فإنّ هذه الاختلافات لم تكن دائماً إلاّ اختلافاً حول اختيار الشكل العام للمنهج من بين الأشكال المتعدّدة التي اتّخذها المنهج في تجربة الإنسان الأوروبي الحديث ، فاختيار المنهج الذي سلكته التجربة الرائدة للإنسان الأوروبي الحديث كان موضع وفاق ؛ لأنّه ضريبة الأمانة الفكرية للحضارة الغربية ، وإنما الخلاف في تحديد شكل واحد من أشكالها

وتواجه التجارب الحديثة للبناء الاقتصادي في العالم الإسلامي ـ عادة ـ شكلين لتجربة البناء الاقتصادي في الحضارة الغربية الحديثة ، وهما : الاقتصاد الحرّ القائم على أساس رأسمالي ، والاقتصاد المخطط القائم على أساس اشتراكي فإنّ كلاًّ من هذين الشكلين قد عاش تجربة ضخمة في بناء الاقتصاد الأوروبي الحديث .

والصيغة التي طرحت للبحث على مستوي التطبيق في العالم الإسلامي على الأكثر : ما هو الشكل الأجدر بالأتباع من هذين الشكلين ، وأقدر على إنجاح كفاح الأمة ضدّ تخلّفها الاقتصادي وبناء اقتصاد رفيع على مستوى العصر ؟

و كان الاتّجاه الأقدم حدوثاً في العالم الإسلامي يميل إلى اختيار الشكل الأوّل للتنمية وبناء الاقتصاد الداخلة للبلاد ، أي : الاقتصاد الحر القائم على أساس رأسمالي ؛ نتيجة لأنّ المحور الرأسمالي للاقتصاد الأوروبي كان أسرع المحورين للنفوذ إلى العالم الإسلامي واستقطابه كمراكز نفوذ

١٢

وعبر صراع الأمّة سياسياً مع الاستعمار ومحاولتها التحرّر من نفوذ المحور الرأسمالي ، وجدت بعض التجارب الحاكمة أنّ النقيض الأوروبي للمحور الرأسمالي هو المحور الاشتراكي ، فنشأ اتجاه آخر يميل إلى اختيار الشكل الثاني للتنمية ، أي : التخطيط القائم على أساس اشتراكي ؛ نتيجة للتوفيق بين الإيمان بالإنسان الأوروبي كرائد للبلاد المتخلّفة ، وواقع الصراع مع الكيان السياسي للرأسمالية ، فما دامت تبعية البلاد المتخلّفة للبلاد الراقية اقتصادي تفرض عليها الإيمان بالتجربة الأوروبية كرائد ، وما دام الجناح الرأسمالي من هذه التجربة يصطدم مع عواطف المعركة ضدّ الواقع الاستعماري المعاش ، فليؤخذ بالتخطيط الاشتراكي بوصفه الشكل الآخر للتجربة الرائدة .

ولكلّ من الاتجاهين أدلّته التي يبرّر بها وجهة نظره ؛ فالاتجاه الأوّل يبرّر عادة التقدّم العظيم الذي حصلت عليه الدول الأوروبية الرأسمالية ، وما أحرزته من مستويات في الإنتاج والتصنيع نتيجة لانتهاج الاقتصاد الحرّ كأُسلوب للتنمية ، و يضيف إلى ذلك : أنّ بإمكان البلاد المتخلفة إذا انتهجت نفس الأسلوب وعاشت نفس التجربة أن تختصر الطريق وتقفز في زمن أقصر إلى المستوى المطلوب من التنمية الاقتصادية ؛ لأنّها سوف تستفيد من خبرات التجربة الرأسمالية للإنسان الأوروبي وتستخدم كل القدرات العلمية الناجزة التي كلّفت الإنسان الأوروبي مئات السنين حتى ظفر بها

والاتجاه الثاني يفسّر اختياره للاقتصاد المخطّط على أساس اشتراكي بدلاً عن الاقتصاد الحرّ بأنّ الاقتصاد الحرّ إن كان قد استطاع أن يحقّق للدول الأوروبية الرائدة في العالم الرأسمالي مكاسب كبيرة وتقدّماً مستمراً في التكنيك والإنتاج ونمواً متزايداً للثروة الداخلية للبلاد ، فليس بالإمكان أن يؤدّي دوراً مماثلاً للبلاد المتخلّفة اليوم ؛ لأنّ البلاد المتخلّفة تواجه اليوم تحدّياً اقتصادياً هائلاً يمثّله التقدّم العظيم الذي أحرزته دول الغرب ، وتقابل إمكانات هائلة منافسة لا حدّ لها على الصعيد الاقتصادي ، بينما لم تكن الدول المتقدّمة فعلاً تواجه هذا التحدّي الهائل ، وتقابل هذه الإمكانات المنافسة حين بدأت عملية التنمية الاقتصادية وشنّت حربها ضدّ أوضاع التخلّف الاقتصادي ، واتخذت من الاقتصاد الحرّ منهجاً وأسلوباً ، فلا بدّ للبلاد المتخلّفة اليوم من تعبئة كلّ القوى والطاقات لعملية التنمية الاقتصادية بصورة سريعة ومنظّمة في نفس الوقت ، وذلك عن طريق الاقتصاد المخطّط القائم على أساس اشتراكي .

١٣

ويعتمد كلّ من الاتجاهين في تفسيره لِما يمنى به من فشل في مجال التطبيق على الظروف المصطنعة التي يخلقها المستعمرون في المنطقة لكي يعرقلوا فيه عمليات النمو ، ولا يسمح لنفسه على أساس ذلك أن يفكّر حين الإحساس بالفشل في أيّ منهج بديلٍ للشكلين التقليديّين اللذين اتخذتهما التجربة الأوروبية الحديثة في الغرب والشرق ، بالرغم من وجود بديل جاهز لا يزال يعيش نظرياً وعقائدياً في حياة الأمّة وإن كان منعزلاً عن مجال التطبيق ، وهو المنهج الإسلامي والنظام الاقتصادي في الإسلام

و أنا لا أريد هنا أن أقارن بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي من وجهة نظر اقتصادية مذهبية ؛ فإنّ هذا ما أتركه للكتاب نفسه ، فقد قام كتاب( اقتصادنا ) بدراسة مقارنة بهذا الصدد ، وإنّما أريد أن أُقارن بين الاقتصاد الأوروبي بكلا جناحيه الرأسمالي والاشتراكي والاقتصاد الإسلامي من ناحية قدرة كل منهما على المساهمة في معركة العالم الإسلامي ضدّ التخلّف الاقتصادي ، ومدى قابلية كلّ واحد من هذه المناهج ليكون إطاراً لعملية التنمية الاقتصادية

ونحن حين نخرج من نطاق المقارنة بين هذه المناهج الاقتصادية في محتواه الفكري والمذهبي إلى المقارنة بينها في قابليتها التطبيقية لإعطاء إطار للتنمية الاقتصادية ، يجب أن لا نقيم مقارنتنا على أساس المعطيات النظرية لكلّ واحد من تلك المناهج فحسب ، بل لا بدّ أن نلاحظ بدقّة الظروف الموضوعية للأمّة وتركيبها النفسي والتأريخي ؛ لأنّ الأمّة هي مجال التطبيق لتلك المناهج فمن الضروري أن يُدرس المجال المفروض للتطبيق وخصائصه وشروطه بعناية ليلاحظ ما يقدّر لكلّ منهج من فاعلية لدى التطبيق كما أنّ فاعلية الاقتصاد الحرّ الرأسمالي أو التخطيط الاشتراكي في تجربة الإنسان الأوروبي لا تعني حتماً أنّ هذه الفاعلية نتيجة للمنهج الاقتصادي فحسب لكي تتوفّر متى اتبع نفس المنهج ، بل قد تكون الفاعلية ناتجة عن المنهج باعتباره جزءاً من كلّ مترابط وحلقة من تأريخ ، فإذا عزل المنهج عن إطاره وتأريخه لم تكن له تلك الفاعلية ولا تلك الثمار

١٤

ومن خلال دراسة مقارنة للمذاهب الاقتصادية المتعددة وإمكانات نجاحها عملياً في العالم الإسلامي يجب إبراز حقيقة أساسية يرتبط بها تقدير الموقف إلى درجة كبيرة ، وهي أنّ حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي ليست مجرّد حاجة إلى أطار من أطر التنظيم الاجتماعي تتبنّاه الدولة فحسب لكي يمكن أن توضع التنمية ضمن هذا الإطار أو ذاك بمجرد تبنّي الدولة له والتزامها به ، بل لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضدّ التخلّف أن تؤدّي دورها المطلوب إلاّ إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمّة ضمنه ، وقامت على أساس يتفاعل معها فحركة الأمّة كلّها شرط أساسي لإنجاح أيّ تنمية وأيّ معركة شاملة ضدّ التخلّف ؛ لأنّ حركتها تعبير عن نموّها ونموّ إرادتها وانطلاق مواهبها الداخلية ، وحيث لا تنمو الأمّة لا يمكن أن تُمارس عملية تنمية ، فالتنمية للثروة الخارجية والنموّ الداخلي للأمّة يجب أن يسيرا في خطّ واحد

و تجربة الإنسان الأوروبي الحديث هي بالذات تعبير تأريخي واضح عن هذه الحقيقة ؛ فإنّ مناهج الاقتصاد الأوروبي كإطارات لعملية التنمية لم تسجّل نجاحها الباهر على المستوى المادّي في تأريخ أوروبا الحديث إلاّ بسبب تفاعل الشعوب الأوروبية مع تلك المناهج وحركتها في كلّ حقول الحياة وفقاً لاتجاه تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي المتناهي خلال تأريخ طويل لهذا الاندماج والتفاعل

فحين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عامّاً للتنمية الاقتصادية داخل العالم الإسلامي يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساساً ونفتش في ضوئها عن مركّب حضاري قادر على تحريك الأمّة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضدّ التخلّف ، ولا بدّ حينئذٍ أن نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأمّة ونفسيتها وتأريخها وتعقيداتها المختلفة

ومن الخطأ ما يرتكبه كثير من الاقتصاديين الذين يدرسون اقتصاد البلاد المتخلّفة وينقلون إليها المناهج الأوروبية للتنمية دون أن يأخذوا بعين الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوب تلك البلاد مع هذه المناهج ، ومدى قدرة هذه المناهج المنقولة على الالتحام مع الأمّة .

١٥

فهناك مثلاً الشعور النفسي الخاص الذي تعيشه الأمّة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار الذي يتّسم بالشكّ والاتهام والخوف نتيجة لتأريخ مرير طويل من الاستغلال والصراع ، فإنّ هذا الشعور خلق نوعاً من الانكماش لدى الأمّة عن المعطيات التنظيمية للإنسان الأوروبي ، وشيئاً من القلق تجاه الأنظمة المستمدّة من الأوضاع الاجتماعية في بلاد المستعمرين وحساسية شديدة ضدّه ، وهذه الحساسية تجعل تلك الأنظمة ، حتى لو كانت صالحة ومستقلّة عن الاستعمار من الناحية السياسية ، غير قادرة على تفجير طاقات الأمّة وقيادتها في معركة البناء فلا بدّ للأمّة ـ إذن ـ بحكم ظروفها النفسية التي خلقها عصر الاستعمار وانكماشها تجاه ما يتّصل به أن تقيم نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعيٍّ ومعالم حضارية لا تمتّ إلى بلاد المستعمرين بنسب

وهذه الحقيقة الواضحة هي التي جعلت عدداً من التكتلات السياسية في العالم الإسلامي تفكّر في اتخاذ القومية فلسفة وقاعدة للحضارة وأساساً للتنظيم الاجتماعي ؛ حرصاً منها على تقديم شعارات منفصلة عن الكيان الفكري للاستعمار انفصالاً كاملاً ، غير أنّ القومية ليست إلاّ رابطة تأريخية ولغوية ، وليست فلسفة ذات مبادئ ولا عقيدة ذات أُسس ، بل حيادية بطبيعتها تجاه تخلّف الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والعقائدية والدينية، وهي لذلك بحاجة إلى الأخذ بوجهة نظر معيّنة تجاه الكون والحياة ، وفلسفة خاصة تصوغ على أساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي .

ويبدو أنّ كثيراً من الحركات القومية أحسّت بذلك أيضاً ، وأدركت أنّ القومية كمادة خام بحاجة إلى الأخذ بفلسفة اجتماعية ونظام اجتماعي معيّن ، وحاولت أن توفّق بين ذلك وبين أصالة الشعار الذي ترفعه وانفصاله عن الإنسان الأوروبي ، فنادت بالاشتراكية العربية ، نادت بالاشتراكية لأنّها أدركت أنّ القومية وحدها لا تكفي بل هي بحاجة إلى نظام ، ونادت بها في إطار عربي تفادياً لحساسية الأمّة ضدّ أيّ شعار أو فلسفة مرتبطين بعالم المستعمرين ، فحاولت عن طريق توصيف الاشتراكية بالعربية تغطية الأجنبي المتمثّل في الاشتراكية من الناحية التأريخية والفكرية ، وهي تغطية فاشلة لا تنجح في استغفال حساسية الأمّة ؛ لأنّ هذا الإطار القَلِق ليس إلاّ مجرّد تأطير ظاهري وشكليّ للمضمون الأجنبي الذي تمثّله الاشتراكية ، وإلاّ فأيّ دور يلعبه هذا الإطار في مجال التنظيم الاشتراكي ؟! وأيّ تطوير للعامل العربي في المواقف ؟! وما معنى أنّ العربية ، كلغةٍ وتأريخ أو دم وجنس ، تطوّر فلسفة معينة للتنظيم الاجتماعي ؟! بل كلّ ما وقع في المجال التطبيقي نتيجة للعامل العربي .

١٦

إنّ هذا العامل أصبح يعني في مجال التطبيق استثناء ما يتنافى من الاشتراكية مع التقاليد السائدة في المجتمع العربي ، والتي لم تحن الظروف الموضوعية لتغييرها ، كالنزعات الروحية بما فيها الإيمان بالله ، فالإطار العربي ـ إذن ـ لا يعطي الاشتراكية روحاً جديدة تختلف عن وضعها الفكري والعقائدي المُعاش في بلاد المستعمرين ، وإنّما يراد به التعبير عن استثناءات معيّنة ، وقد تكون موقوتة ، والاستثناء لا يغيّر جوهر القضية والمحتوى الحقيقي للشعار ، ولا يمكن لدعاة الاشتراكية العربية أن يميّزوا الفوارق الأصيلة بين اشتراكية عربية واشتراكية فارسية واشتراكية تركية ، ولا أن يفسّروا كيف تختلف الاشتراكية بمجرّد إعطائها هذا الإطار القومي أو ذاك ، لأن الواقع أنّ المضمون والجوهر لا يختلف وإنّما هذه الأطر تعبّر عن استثناءات قد تختلف من شعب إلى آخر تبعاً لنوعية التقاليد السائدة في تلك الشعوب

وبالرغم من أنّ دعاة الاشتراكية العربية قد فشلوا في تقديم مضمون حقيقي جديد لهذه الاشتراكية عن طريق تأطيرها بالإطار العربي ، فإنّهم أكّدوا بموقفهم هذا تلك الحقيقة التي قلناها ، وهي أنّ الأمّة بحكم حساسيتها الناتجة عن عصر الاستعمار لا يمكن بناء نهضتها الحديثة إلاّ على أساس قاعدة أصيلة لا ترتبط في ذهن الأمّة ببلاد المستعمرين أنفسهم

وهنا يبرز فارق كبير بين مناهج الاقتصاد الأوروبي التي ترتبط في ذهن الأمّة بإنسان القارّة المستعمرة ، مهما وضعت لها من إطارات ، وبين المنهج الإسلامي الذي يرتبط في ذهن الأمّة بتأريخها وأمجادها الذاتية ويعبّر عن أصالتها ولا يحمل أيّ طابع لبلاد المستعمرين ، فإنّ شعور الأمّة بأنّ الإسلام هو تعبيرها الذاتي وعنوان شخصيتها التأريخية ومفتاح أمجادها السابقة يعتبر عاملاً ضخماً جداً لإنجاح المعركة ضدّ التخلّف وفي سبيل التنمية ، إذا استمد لها المنهج من الإسلام واتخذ من النظام الإسلامي إطاراً للانطلاق

وإلى جانب الشعور المعقّد للأمّة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار وكلّ المناهج المرتبطة ببلاد المستعمرين يوجد هناك تعقيد آخر يشكّل صعوبة كبيرة أيضاً في طريق نجاح المناهج الحديثة للاقتصاد الأوروبي إذا طبّقت في العالم الإسلامي ، وهو التناقض بين هذه المناهج والعقيدة الدينية التي يعيشها المسلمون

١٧

وهنا لا أريد أن أتحدث عن هذا التناقض لكي أقارن بين وجهة النظر الدينية ووجهة النظر التي تتبنّاها تلك المناهج وأحاول أن أفضّل الأُولى على الثانية ـ أي : إنّي لا أريد أن أبحث هذا التناقض بحثاً عقائدياً مذهبياً ـ وإنّما أحاول إبراز هذا التناقض بين مناهج الإنسان الأوروبي والعقيدة الدينية للإنسان المسلم بوصفها قوّة تعيش داخل العالم الإسلامي بقطع النظر عن أيّ تقييم له ، فإنّ هذه القوّة مهما قدّرنا لها من تفكّك وانحلال نتيجة لعمل الاستعمار ضدّها في العالم الإسلامي لا يزال لها أثرها الكبير في توجيه السلوك وخلق المشاعر وتحديد النظرة نحو الأشياء .

وقد عرفنا قبل لحظات أنّ عملية التنمية الاقتصادية ليست عملية تمارسها الدولة وتتبنّاها وتشرّع لها فحسب ، وإنّما هي عملية يجب أن تشترك فيها ـ وتساهم بلون وآخر ـ الأمّة كلّها فإذا كانت الأمّة تحسّ بتناقض بين الإطار المفروض للتنمية وبين عقيدة لا تزال تعتزّ بها وتحافظ على بعض وجهات نظرها في الحياة فسوف تحجّم بدرجةٍ تفاعلها مع تلك العقيدة عن العطاء لعملية التنمية والاندماج في إطارها المفروض

وخلافاً لذلك لا يواجه النظام الإسلامي هذا التعقيد ، ولا يُمنى بتناقض من ذلك القبيل ، بل إنّه إذا وُضع موضع التطبيق سوف يجد في العقيدة الدينية سنداً كبيراً له وعاملاً مساعداً على إنجاح التنمية الموضوعة في إطاره ؛ لأنّ أساس النظام الإسلامي أحكام الشريعة الإسلامية ، وهي أحكام يؤمن المسلمون عادة بقدسيتها وحرمتها ووجوب تنفيذها بحكم عقيدتهم الإسلامية وإيمانهم بأنّ الإسلام دين نزل من السماء على خاتم النبيّينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما من ريب في أنّ من أهمّ العوامل في نجاح المناهج التي تتّخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وإيمانهم بحقّها في التنفيذ والتطبيق

وهب أنّ تجربة للتنمية الاقتصادية على أساس مناهج الاقتصاد الأوروبي استطاعت أن تقضي على العقيدة الدينية وقوّتها السلبية تجاه تلك المناهج ، فإنّ هذا لا يكفي للقضاء على كل البناء العُلْوي الذي قام على أساس تلك العقيدة عبر تأريخ طويل امتد أكثر من أربعة عشر قرناً ، وساهم على درجة كبيرة في تكوين الإطار النفسي والفكري للإنسان داخل العالم الإسلامي كما أنّ القضاء على العقيدة الدينية لا يعني إيجاد الأرضية الأوروبية لتلك المناهج التي نجحت على يد الإنسان الأوروبي ؛ لأنّها وجدت الأرضية الصالحة لها والقادرة على التفاعل معها .

١٨

فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم الإسلامي ، وهناك أخلاقية الاقتصاد الأوروبي التي واكبت الحضارة الغربية الحديثة ونسجت لها روحها العامة ومهّدت لنجاحها على الصعيد الاقتصادي

والأخلاقيتان تختلفان اختلافاً جوهرياً في الاتجاه والنظرة والتقييم ، وبقدر ما تصلح أخلاقية الإنسان الغربي الحديث لمناهج الاقتصاد الأوروبي تتعارض أخلاقية إنسان العالم الإسلامي معها ، وهي أخلاقية راسخة لا يمكن استئصال جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية .

والتخطيط ـ أيّ تخطيط للمعركة ضدّ التخلف ـ كما يجب أن يدخل في حسابه مقاومة الطبيعة في البلد الذي يراد التخطيط له [و] درجة تمرّدها على عمليات الإنتاج ، كذلك يجب أن يدخل في حسابه مقاومة العنصر البشري ومدى انسجامه مع هذا المخطّط أو ذاك .

إنّ الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء ، وحتى المسيحية ـ بوصفها الدين الذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين ـ لم تستطع أن تتغلّب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوروبي ، بل بدلاً عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسّده في كائن أرضي

وليست المحاولات العلمية للتفتيش عن نسب الإنسان في فصائل الحيوان وتفسير إنسانيته على أساس التكييف الموضوعي من الأرض والبيئة التي يعيش فيها أو المحاولات العلمية لتفسير الصرح الإنساني كلّه على أساس القوى المنتجة التي تمثّل الأرض وما فيها من إمكانات ـ ليست هذه المحاولات إلاّ كمحاولة استنزال الإله إلى الأرض في مدلولها النفسي وارتباطها الأخلاقي بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبي إلى الأرض ، وإن اختلفت تلك المحاولات في أساليبها وطابعها العلمي أو الأسطوري .

وهذه النظرة إلى الأرض أتاحت للإنسان الأوروبي أن ينشئ قيماً للمادة والثروة والتملّك تنسجم مع تلك النظرة .

وقد استطاعت هذه القيم التي ترسّخت عبر الزمن في الإنسان الأوروبي أن تعبّر عن نفسها في مذاهب اللذّة والمنفعة التي اكتسحت التفكير الفلسفي الأخلاقي في أوروبا ؛ فإنّ لهذه المذاهب بوصفها نتاجاً فكرياً أوروبياً سجّلَ نجاحاً كبيراً إلى الصعيد الفكري الأوروبي لها مغزاها النفسي ودلالتها على المزاج العام للنفس الأوروبية

١٩

وقد لعبت هذه التقييمات الخاصة للمادة والثروة والتملّك دوراً كبير في تفجير الطاقات المختزنة في كلّ فرد من الأمّة ووضع أهداف لعملية التنمية تتفق مع تلك التقييمات وهكذا سرت في كل أوصال الأمّة حركة دائبة نشيطة مع مطلع الاقتصاد الأوروبي الحديث لا تعرف الملل أو الارتواء من المادة وخيراتها وتملّك تلك الخيرات .

كما أنّ انقطاع الصلة الحقيقة للإنسان الأوروبي بالله تعالى ونظرته إلى الأرض بدلاً عن النظرة إلى السماء انتزع من ذهنه أي فكرة حقيقية عن قيمومة رفيعة من جهة أعلى أو تحديدات تفرض عليه من خارج نطاق ذاته ، وهيّأه ذلك نفسياً وفكرياً للإيمان بحقّه في الحرّية ، وغمره بفيض من الشعور بالاستقلال والفردية ، الأمر الذي استطاعت بعد هذا أن تترجمه إلى اللغة الفلسفية أو تعبّر عنه على الصعيد الفلسفي فلسفة كبرى في تأريخ أوروبا الحديثة ، وهي الوجودية ؛ إذ توّجت تلك المشاعر التي غمرت الإنسان الأوروبي الحديث بالصيغة الفلسفية ، فوجد فيها إنسان أوروبا الحديث أماله وأحاسيسه

وقد قامت الحرّية بدور رئيسي في الاقتصاد الأوروبي ، وأمكن لعملية التنمية أن تستفيد من الشعور الراسخ لدى الإنسان الأوروبي بالحرّية والاستقلال والفردية في نجاح الاقتصاد الحرّ بوصفه وسيلة تتفق مع الميول الراسخة في نفوس الشعوب الأوروبية وأفكارها ، وحتى حينما طرح الاقتصاد الأوروبي منهجاً اشتراكياً حاول فيه أن ينطلق من الشعور بالفردية والأنانية أيضاً مع تحويلها من فرديّة شخص إلى فردية طبقية .

وكلّنا نعلم أنّ الشعور العميق بالحرّية كان يوفّر شرطاً أساسيا لكثير من النشاطات التي ساهمت في عملية التنمية وهو انعدام الشعور بالمسؤولية الأخلاقية الذي لم تكن تلك النشاطات لتتمّ بدونه .

والحرّية نفسها كانت أداة لانفتاح الإنسان الأوروبي على مفهوم الصراع ؛ لأنّها جعلت لكلّ إنسان أن ينطلق دون أن يحده في انطلاقه شيء سوى وجود الشخص الآخر الذي يقف في الطرف المقابل كمحدّد له ، فكان كلّ فرد يشكّل بوجوده النفي لحرّية الشخص الآخر

٢٠