اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 141685
تحميل: 8007

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141685 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وإذا كان الأفراد العاجزون بطبيعتهم عن العمل منفصلين عن الصراع الطبقي بين الرأسماليين والعمال ، وبالتالي عن الطبقة العاملة التي تسيطر على وسائل الإنتاج في المرحلة الاشتراكية ، فلا يوجد أيّ تفسير علمي على الطريقة الماركسية يبرّر نصيب هؤلاء من التوزيع ، وحقّهم في الحياة وفي الثروة التي سيطرت عليها الطبقة العاملة ، ما داموا خارج نطاق الصراع الطبقي ، وهكذا لا تستطيع الماركسية أن تبرّر بطريقتها الخاصة ضمان حياة الفئة الثالثة ومعيشتها في المرحلة الاشتراكية .

وأمّا الإسلام فهو لا يحدّد عملية التوزيع على أساس الصراع الطبقي في المجتمع، وإنّما يحدّدها في ضوء المثل الأعلى للمجتمع السعيد ، وعلى أساس من القيم الخُلُقية الثابتة التي تفرض توزيع الثروة بالشكل الذي يضمن تحقيق تلك القيم وإيجاد ذلك المُثل ، وتقليص آلام الحرمان بأكبر درجة ممكنة

وعملية التوزيع التي ترتكز على هذه المفاهيم تتّسع بطبيعة الحال للفئة الثالثة بوصفها جزءاً من المجتمع الإنساني الذي يجب أن توزّع فيه الثروة بشكل يقلّص آلام الحرمان إلى أبعد حدٍّ ممكن ؛ تحقيقاً للمثل الأعلى للمجتمع السعيد ، وللقيم الخُلُقية التي يقيم الإسلام العلاقات الاجتماعية عليها ويصبح من الطبيعي عندئذٍ أن تعتبر حاجة هذه الفئة المحرومة سبباً كافياً لحقّها في الحياة ، وأداة من أدوات التوزيع :( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (١) .

الحاجة في نظر الإسلام والرأسمالية :

وأمّا الاقتصاد الرأسمالي بشكله الصريح فهو على النقيض من الإسلام تماماً في موقفه من الحاجة ، فإنّ الحاجة في المجتمع الرأسمالي ليست من الأدوات الإيجابية للتوزيع ، وإنّما هي أداة ذات صفة مناقضة ودور إيجابي معاكس لدورها في المجتمع الإسلامي فهي كلّما اشتدت عند الأفراد انخفض نصيبهم من التوزيع ، حتى يؤدّي الانخفاض في نهاية الأمر إلى انسحاب عددٍ كبيرٍ منهم عن مجال العمل والتوزيع ؛ والسبب في ذلك : أنّ انتشار الحاجة وشدّتها يعني : وجود كثرة من القوى العاملة المعروضة في السوق الرأسمالية تزيد عن الكمّية التي يطلبها أرباب الأعمال ، ونظراً إلى أنّ الطاقة الإنسانية سلعة رأسمالية تتحكّم في مصيرها قوانين العرض والطلب ، كما تتحكّم في سائر سلع السوق ، فمن الطبيعي أن ينخفض أجر العمل تبعاً لزيادة العرض على الطلب ، ويستمر الانخفاض وفقاً لهذه الزيادة ، وحين ترفض السوق الرأسمالية امتصاص كلّ الكمّية المعروضة من القوى العاملة ، ويُمنى عدد كبير من ذوي الحاجة بالبطالة ، نتيجة لذلك يتحتّم على هذا العدد الكبير أن يفعل المستحيل في سبيل أن يبقى حياً ، أو يتحمّل آلام الحرمان والموت جوعاً

ـــــــــــــــ

(١) سورة المعارج : ٢٤ ـ ٢٥ .

٣٠١

وهكذا فإنّ الحاجة لا تعني شيئاً إيجابياً في التوزيع الرأسمالي ، وإنّما تعني وفرة في المعروض من القوى العاملة ، وليس أمام كلّ سلعة تُمنى بزيادة العرض على الطلب إلاّ أن ينخفض ثمنها ويجمد إنتاجها حتى تستهلك ، وتصحّح النسبة بين العرض والطلب .

فالحاجة في المجتمع الرأسمالي تعني : انسحاب الفرد من مجال التوزيع وليست أداةً للتوزيع

الملكية الخاصة :

حينما قرر الإسلام : أنّ العمل سبب للملكية وفقاً للميل الطبيعي في الإنسان إلى تملك نتائج عمله ، واتخذ من العمل على هذا الأساس أداة رئيسية للتوزيع ، انتهى من ذلك إلى أمرين :

أحدهما : السماح بظهور الملكية الخاصة على الصعيد الاقتصادي فإنّ العمل إذا كان أساساً للملكية فمن الطبيعي أن توجد للعامل ملكية خاصة للسلع التي تدخّل في إيجادها وجعلها مالاً ، مثل : المزروعات والمنسوجات وما شاكلها

ونحن حين نقرر : أنّ تملك الإنسان العامل للأموال التي أنتجها تعبير عن ميل طبيعي فيه نعني بذلك : أن في الإنسان ميلاً طبيعياً إلى الاختصاص بنتائج عمله عن الآخرين ، الأمر الذي يُعبّر عنه في المدلول الاجتماعي : بالتملّك وأمّا نوعية الحقوق التي تترتّب على هذا الاختصاص فلا تقرّر وِفقاً لميلٍ طبيعي ، وإنّما يقرّرها النظام الاجتماعي وِفقاً لما يتبنّاه من أفكار ومصالح فمثلاً : هل من حقّ العامل الذي تملّك السلعة بالعمل أن يبذّر بها ما دامت مالاً خاصاً به ؟ أو هل من حقّه أن يستبدلها بسلعة أخرى ، أو أن يتّجر بها وينمّي ثروته عن طريق جعلها رأس مال تجاري أو ربوي ؟

إنّ الجواب على هذه الأسئلة وما شاكلها يقرّره النظام الاجتماعي الذي يحدّد للملكية الخاصة حقوقها ، ولا يتّصل بالفطرة والغريزة

ولأجل هذا تدخّل الإسلام في تحديد حقوق الاختصاص هذه ، فأنكر بعضها واعترف بالبعض الآخر ، وِفقاً للمُثل والقِيم التي تبنّاها فقد أنكر مثلاً حقّ المالك في التبذير بماله أو الإسراف به في مجال الإنفاق ، وأقرّ حقّه في الاستمتاع به دون تبذير أو إسراف ، وأنكر حقّ المالك في تنمية أمواله التي يملكه عن طريق الرِّبا ، وأجاز له تنميتها عن طريق التجارة ضمن حدود وشروط خاصة وتبعاً لنظرياته العامة في التوزيع ، التي سوف ندرسها في الفصول المقبلة إن شاء الله .

٣٠٢

[ تحديد الملكية الخاصة : ]

والأمر الآخر الذي يستنتج من قاعدة ( أنّ العمل سبب الملكية ) : هو تحديد مجال الملكية الخاصة وِفقاً لمقتضيات هذه القاعدة فإنّ العمل إذا كان هو الأساس الرئيسي للملكية الخاصة فيجب أن يقتصر نطاق الملكية الخاصة على الأموال التي يمكن للعمل أن يتدخّل في إيجادها أو تركيبها ، دون الأموال التي ليس للعمل فيها أدنى تأثير

وعلى هذا الأساس تنقسم الأموال بحسب طبيعة تكوينها وإعدادها إلى ثروات خاصة وعامة .

فالثروات الخاصة : كلّ مال يتكوّن أو يتكيف طبقاً للعمل البشري الخاص المنفق عليه ، كالمزروعات والمنسوجات ، والثروات التي أنفق عملٌ في سبيل استخراجها من الأرض والبحر أو اقتناصها من الجو ، فإنّ العمل البشري يتدخّل هنا : إمّا في تكوين نفس المال كعمل الزراع بالنسبة إلى الناتج الزراعي ، وإمّا في تكييف وجوده وإعداده بالصورة التي تسمح بالاستفادة منه ، كالعمل المبذول في استخراج الكهرباء من القوى المنتشرة في الطبيعة ، أو إخراج الماء أو البترول من الأرض فالطاقة الكهربائية والكميات المستخرجة من الماء أو البترول ليست مخلوقة للعمل البشري ، ولكن العمل هو الذي كيّفها وأعدّها بالصورة التي تسمح بالاستفادة منها .

وهذه الثروات التي يدخل العمل البشري في حسابها هي المجال المحدد في الإسلام للملكية الخاصة ، أي : النطاق الذي سمح الإسلام بظهور الملكية الخاصة فيه ؛ لأنّ العمل أساس الملكية ، وما دامت تلك الأموال ممتزجة بالعمل البشري فللعامل أن يتملّكها ، ويستعمل حقوق التملّك من استمتاع واتّجار وغيرهما .

وأمّا الثروات العامة فهي : كلّ مالٍ لم تتدخّل اليد البشرية فيه كالأرض ، فإنّها مالٌ لم تصنعه اليد البشرية والإنسان وإن كان يتدخّل أحياناً في تكييف الأرض بالكيفية التي تجعلها صالحة للزراعة والاستثمار ، غير أنّ هذا التكييف محدود مهما فرض أمده ، فإنّ عمر الأرض أطول منه ، فهو لا يعدو أن يكون تكييفاً لفترة محدودة من عمر الأرض وتشابه الأرض في ذلك رقبة المعادن والثروات الطبيعية الكامنة فيها ، فإنّ مادّة هذه المعادن الكامنة في الأرض ليست مدينة للعمل البشري في تكوينها أو تكييفها ، وإنّما يتدخّل العمل في الكمّيات المستخرجة منها ، التي ينفق جهد في سبيل إخراجها وفصلها عن بقية المواد الأرضية .

٣٠٣

وهذه الثروات العامة بحسب طبيعتها ـ أو عنوانها الأولي كما يقول الفقهاء ـ ليست مملوكة ملكية خاصة لفرد من الأفراد ؛ لأنّ أساس الملكية الخاصة هو العمل ، فالأموال التي لا يمتزج بها العمل لا تدخل في المجال المحدّد للملكية الخاصة ، وإنّما هي أموال مباحة إباحة عامة أو مملوكة ملكية عامة

فالأرض مثلاً ـ بوصفها مالاً لا تدخّل للعمل البشري فيه ـ لا تملك ملكية خاصة والعمل الذي يبذل في إحياء الأرض وإعدادها لَمّا كان تكييفاً مؤقّتاً بمدّة محدودة أقصر من عمر الأرض فهو لا يدرج الأرض في مجال الملكية الخاصة ، وإنّما يجعل للعامل حقاً في الأرض يسمح له بالانتفاع بها ، ومنع الآخرين من مزاحمته في ذلك ، لأنّه يمتاز عليهم بما أنفق على الأرض من طاقة فمن الظلم أن يساوي بين الأيدي التي عملت وتعبت وبين أيدٍ أخرى لم تعمل في الأرض ولم تتعب في سبيلها فلأجل ذلك ميز العامل بحقٍّ في الأرض دون أن يسمح له بتملّكها ، ويستمر هذا الحقّ مادامت الأرض متكيّفة وفقاً لعمله ، فإذا أهمل الأرض سقط حقّه الخاص

وهكذا يتّضح أنّ القاعدة العامة هي : أنّ الملكية الخاصة لا تظهر إلاّ في الأموال التي امتزجت في تكوينها وتكييفها بالعمل البشري ، دون الأموال والثروات الطبيعية التي لم تمتزج بالعمل ، لأنّ سبب الملكية الخاصة هو العمل ، فما لم يكن المال مندرجاً ضمن نطاق العمل البشري لا يدخل في مجال الملكية الخاصة .

وللقاعدة بالرغم من ذلك استثناءاتها ؛ لاعتبارات تتعلّق بمصلحة الدعوة الإسلامية ، كما سنشير إليه فيما يأتي .

الملكية أداة ثانوية للتوزيع :

ويأتي بعد العمل والحاجة دور الملكية بوصفها أداة ثانوية للتوزيع وذلك أنّ الإسلام حين سمح بظهور الملكية الخاصة على أساس العمل خالف الرأسمالية والماركسية معاً في الحقوق التي منحها للمالك ، والمجالات التي فسح له بممارستها فلم يسمح له باستخدام ماله في تنمية ثروته سماحاً مطلقاً دون تحديد ، كما صنعت الرأسمالية فأجازت كلّ ألوان الربح ولم يغلق عليه فرصة الربح نهائياً ، كما تفعل الماركسية إذ تحرّم الربح والاستثمار الفردي للمال بمختلف أشكاله ، وإنّما وقف الإسلام موقفاً وسطاً ؛ فحرّم بعض ألوان الربح كالربح الرَّبوي ، وسمح ببعض آخر كالربح التجاري.

٣٠٤

وهو في تحريمه لبعض ألوان الربح يعبّر عن خلافه الأساسي مع الرأسمالية في الحرية الاقتصادية ، التي مرّ بنا نقدها في بحث (مع الرأسمالية ) ، بوصفها أساساً للتفكير المذهبي الرأسمالي وسوف ندرس في بحوث مقبلة بعض ألوان الربح المحرم في الإسلام، كالربح الربوي، ووجهة نظر الإسلام، في إلغائه(١) .

كما أنّ الإسلام في سماحه بالربح التجاري يعبّر عن خلافه الأساسي مع الماركسية ، في مفهومها عن القيمة والقيمة الفائضة ، وطريقتها الخاصة في تفسير الأرباح الرأسمالية ، كما مرّ بنا في دراستنا للمادّية التأريخية

وباعتراف الإسلام بالربح التجاري أصبحت الملكية بنفسها أداة لتنمية المال ، عن طريق الاتجار وفقاً للشروط والحدود الشرعية ، وبالتالي أداة ثانوية للتوزيع ، محدودة بحدود من القيم المعنوية والمصالح الاجتماعية التي يتبنّاها الإسلام

هذه هي الصورة الإسلامية للتوزيع ، نستخلصها ممّا سبق ضمن هذه السطور :

ـ العمل أداة رئيسية للتوزيع بوصفه أساساً للملكية ، فمن يعمل في حقل الطبيعة يقطف ثمار عمله ويتملّكها .

ـ الحاجة أداة رئيسية للتوزيع بوصفها تعبيراً عن حقّ إنساني ثابت في الحياة الكريمة ، وبهذا تُكفل الحاجات في المجتمع الإسلامي ويضمن إشباعها

ـ الملكية أداة ثانوية للتوزيع عن طريق النشاطات التجارية التي سمح بها الإسلام ضمن شروط خاصة لا تتعارض مع المبادئ الإسلامية للعدالة الاجتماعية ، التي ضمن الإسلام تحقيقها كما سيأتي في شرح التفاصيل .

ـــــــــــــــ

(١) سيأتي في مبحث : القانون العام لمكافأة المصادر المادّية للإنتاج .

٣٠٥

التداول

التداول (المبادلة ) أحد الأركان الأساسية في الحياة الاقتصادية ، وهو لا يقلّ أهمية عن الإنتاج والتوزيع ، وإن كان متأخراً عنهما تأريخياً فإنّ الوجود التأريخي للإنتاج والتوزيع يقترن دائماً بالوجود الاجتماعي للإنسان ، فمتى وجد مجتمع إنساني فمن الضروري ـ ليواصل حياته ويكسب معيشته ـ أن يمارس لوناً من ألوان الإنتاج ، وأن يوزّع الثروة المنتجة على أفراده بأيّ شكلٍ من أشكال التوزيع التي يتّفق عليها ، فلا حياة اجتماعية للإنسان دون إنتاج وتوزيع .

وأمّا المبادلة فليس من الضروري أن توجد في حياة المجتمع منذ البدء ؛ لأنّ المجتمعات في بداية تكوينها تعيش على الأغلب لوناً من الاقتصاد البدائي المقفل ، الذي يعني : قيام كلّ عائلة في المجتمع بإنتاج كلّ ما تحتاج إليه دون الاستعانة بمجهودات الآخرين وهذا اللون من الاقتصاد المقفل لا يفسح مجالاً للمبادلة ، مادام كلّ منتوج يستوعب بإنتاجه كل حاجاته البسيطة ويكتفي بما ينتجه من سلع ، وإنّما تبدأ المبادلة دورها الفعّال على الصعيد الاقتصادي ، حين تتنوّع حاجات الإنسان وتنمو وتتعدّد السلع التي يحتاجها في حياته ، ويصبح كلّ فرد عاجزاً بمفرده عن إنتاج كلّ ما يحتاجه من تلك السلع بأنواعها وأشكالها المختلفة ، فيضطر المجتمع إلى تقسيم العمل بين أفراده ، ويأخذ كلّ مُنتِجٍ ـ أو فِئة من المُنتجِين ـ بالتخصّص في إنتاج سلعة معيّنة من السلع المختلفة التي يحسن إنتاجها أكثر من غيرها ، ويشبع حاجاته الأخرى بمبادلة الفائض من السلع التي ينتجها بما يحتاجه من السلع التي ينتجها الآخرون ، فتبدأ المبادلة في الحياة الاقتصادية بوصفها وسيلة لإشباع حاجات المُنتجِين ، بدلاً عن تكليف كلّ منتج بإشباع حاجاته كلّها بإنتاجه المباشر

وهكذا تنشأ المبادلة تيسيراً للحياة ، وتجاوباً مع اتساع الحاجات واتجاه الإنتاج إلى التخصّص والتطوّر .

وعلى هذا الأساس نعرف :

أنّ المبادلة في الحقيقة تعمل في الحياة الاقتصادية للمجتمع بوصفها واسطة بين الإنتاج والاستهلاك، أو بتعبير آخر بين المنتجين والمستهلكين فالمنتج يجد دائماً عن طريق المبادلة المستهلك الذي يحتاج إلى السلعة التي ينتجها ، وهذا المستهلك بدوره ينتج سلعة من نوع آخر ويحصل في المبادلة على المستهلك الذي يشتريها .

٣٠٦

ولكن ظُلم الإنسان ـ كما يعبّر القرآن الكريم(١) ـ الذي حرم الإنسانية من بركات الحياة وخيراتها ، وتدخّلٌ في مجال التوزيع على حساب هذا الحقّ أو ذاك سرى أيضاً إلى المبادلة حتى طوّرها وصيّرها أداة استغلال وتعقيد ، لا أداة إشباع للحاجات وتيسير للحياة ، وواسطة بين الإنتاج والادخار لا بين الإنتاج والاستهلاك فنشأ عن الوضع الظالم للمبادلة من المآسي وألوان الاستغلال نظير ما نشأ عن الأوضاع الظالمة للتوزيع في مجتمعات الرقّ والإقطاع ، أو في مجتمعات الرأسمالية والشيوعية .

ولكي نشرح وجهة نظر الإسلام عن المبادلة لا بدّ لنا أن نعرف رأي الإسلام في السبب الأساسي الذي جعل من المبادلة أداة ظالمة للاستغلال ، وما هي النتائج التي تمخّض عنها ، ثمّ ندرس الحلول التي تقدّم بها الإسلام للمشكلة ، وكيف أعطى للمبادلة صيغتها العادلة وقوانينها التي تواكب أغراضها الرشيدة في الحياة ؟

[ أشكال المبادلة : ]

وقبل كلّ شيء يجب أنْ نلاحظ أنّ للمبادلة شكلين :

أحدهما: المبادلة على أساس المقايضة

والآخر: المبادلة على أساس النقد .

فالمبادلة على أساس المقايضة مبادلة سلعة بأخرى ، وهذا الشكل هو أسبق أشكال المبادلة تأريخياً ، فقد كان كلّ منتج ـ في المجتمعات الآخذة بالتخصّص وتقسيم العمل ـ يحصل على السلع التي لا ينتجها نظير الفائض من السلعة التي اختص بإنتاجها فمن ينتج مئة كيلو من الحنطة يحتفظ بنصف المبلغ مثلاً لإشباع حاجته ، ويستبدل خمسين كيلو من الحنطة بمبلغ معيّن من القطن الذي ينتجه غيره.

ـــــــــــــــ

(١) قال تعالى :( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) سورة إبراهيم : ٣٤ .

٣٠٧

ولكن هذا الشكل من المبادلة (المقايضة ) ، لم يستطع أن يُيَسّر التداول في الحياة الاقتصادية ، بل أخذ يزداد صعوبة وتعقيداً على مرّ الزمن كلّما ازداد التخصّص وتنوّعت الحاجات ؛ لأنّ المقايضة تضطر منتج الحنطة أن يجد حاجته من القطن عند شخص يرغب في الحصول على الحنطة ، وأمّا إذا كان صاحب القطن بحاجة إلى فاكهة لا إلى حنطة وليس لدى صاحب الحنطة فاكهة فسوف يتعذّر على صاحب الحنطة أن يحصل على حاجته من القطن وهكذا تتولّد الصعوبات من نُدرة التوافق بين حاجة المشتري وحاجة البائع .

أضف إلى ذلك صعوبة التوافق بين قيم الأشياء المعدّة للمبادلة فمن كان يملك فرساً لا يستطيع أن يحصل عن طريقها على دجاجة ، لأنّ قيمة الدجاجة أقلّ من قيمة الفرس ، وهو غير مستعدّ بطبيعة الحال للحصول على دجاجة واحدة نظير فرس كاملة ، ولا هي قابلة للقسمة حتى يحصل على دجاجة نظير جزء منها .

وكذلك أيضاً كانت عمليات المبادلة تواجه مشكلة أخرى ، هي : صعوبة تقدير قيم الأشياء المعدّة للمبادلة ، إذ لا بدّ لقياس قيمة الشيء الواحد من مقارنته بباقي الأشياء الأخرى حتى تعرف قيمته بالنسبة إليها جميعاً .

لهذه الأسباب بدأت المجتمعات التي تعتمد على المبادلة تفكّر في تعديل المقايضة بشكل يعالج تلك المشاكل ، فنشأت فكرة استعمال النقد بوصفه أداة للمبادلة بدلاً عن السلعة نفسها وظهر على هذا الأساس الشكل الثاني للمبادلة ، أي : المبادلة على أساس النقد فأصبح النقد وكيلاًُ عن السلعة التي كان يضطرّ المشتري إلى تقديمها للبائع في المقايضة ، فبدلاً عن تكليف صاحب الحنطة ـ في مثالنا ـ بتقديم الفاكهة إلى صاحب القطن نظير القطن الذي يشتريه منه ، يصبح بإمكانه أن يبيع حنطته نظير نقدٍ ، ثمّ يشتري بالنقد القطن الذي يرغب فيه ، وصاحب القطن بدوره يشترى الفاكهة التي يطلبها بما حصل عليه من نقود

[ آثار وكالة النقد عن السلعة في التداول : ]

ووكالة النقد عن السلعة في عمليات التداول كفلت حلّ المشاكل التي نجمت عن المقايضة وتذليل صعوباتها .

فصعوبة التوافق بين حاجة المشتري وحاجة البائع زالت ؛ إذ لم يعد من الضروري للمشتري أن يقدّم إلى البائع السلعة التي يحتاجها ، وإنّما يكفي أن يقدّم له النقد الذي يمكّنه من شراء تلك السلعة من منتجيها بعد ذلك .

٣٠٨

وصعوبة التوافق بين قيم الأشياء قد ذُلّلت ؛ لأنّ قيمة كلّ سلعة أصبحت تقدّر بالنسبة للنقود وهي قابلة للقسمة

كما أصبح من الميسور تقدير قيم الأشياء بسهولة ؛ لأنّها تقدّر كلّها بالنسبة لسلعة واحدة وهي النقد ، بوصفه المقياس العام للقيمة .

وكلّ هذه التسهيلات نتجت من وكالة النقد عن السلعة في مجالات التداول

وهذا هو الجانب المضيء المشرق من وكالة النقد عن السلعة الذي يشرح : كيف تؤدّي الوكالة وظيفتها الاجتماعية التي خُلقت لأجلها ، وهي تيسير عمليات التداول .

ولكن هذه الوكالة لم تقف عند هذا الحدّ على مرّ الزمن ، بل أخذت تلعب دوراً خطيراً في الحياة الاقتصادية ، حتى تمخّض ذلك عن صعاب ومشاكل لا تقلّ عن مشاكل المقايضة وصعابها ، غير أنّ تلك مشاكل طبيعية ، وأمّا المشاكل الجديدة التي نتجت عن وكالة النقد فهي مشاكل إنسانية تعبّر عن ألوان الظلم والاستغلال التي مهّدت لها وكالة النقد عن السلعة في مجالات التداول ولكي نعرف ذلك يجب أن نلاحظ التطوّرات التي حصلت في عمليات المبادلة نتيجة لتبدّل شكلها وقيامها على أساس النقد بدلاً عن قيامها على أساس المقايضة المباشرة .

ففي المبادلة القائمة على أساس المقايضة لم يكن يوجد حدّ فاصل بين البائع والمشتري ، فقد كان كلّ من المتعاقدين بائعاً ومشترياً في نفس الوقت ؛ لأنّه يدفع سلعة إلى صاحبه ويتسلّم نظيرها سلعة أيضاً ولهذا كانت المقايضة تشبع بصورة مباشرة حاجة المتعاقدين معاً ، فيخرجان من عملية التداول وقد حصل كلّ منهما على السلعة التي يحتاجها في استهلاكه أو إنتاجه ، كالحنطة أو المحراث وفي هذا الضوء نعرف : أنّ الشخص في عصر المقايضة لم يكن يتاح له أن يتقمّص شخصية البائع دون أن يكون مشترياً في نفس الوقت ، فلا بيع بدون شراء والبائع يدفع بإحدى يديه سلعته إلى المشتري بوصفه بائعاً ليستلّم منه بيده الأخرى سلعة جديدة بوصفه مشترياً والبيع والشراء مزدوجان في عملية واحدة

٣٠٩

وأمّا في المبادلات القائمة على أساس النقد فالأمر يختلف اختلافاً كبيراً ؛ لأنّ النقد يضع حدّاً فاصلاً بين البائع والمشتري ، فالبائع هو صاحب السلعة والمشتري هو الذي يبذل نقداً إزاء تلك السلعة والبائع الذي يبيع حنطة ليحصل على قطن ، بينما كان يستطيع أن يبيع حنطة ويحصل على حاجته من القطن في مبادلة واحدة على أساس المقايضة يصبح مضطراً الآن إلى القيام بمبادلتين ليحصل على طلبته ، يقوم في إحداهما بدور البائع فيبيع حنطته بنقدٍ معيّن ، ويقوم في الأخرى بدور المشتري فيشتري قطناً بذلك النقد وهذا يعني فصل البيع عن الشراء ، بينما كانا مزدوجين في المقايضة

وفصل البيع عن الشراء في عمليات المبادلة القائمة على أساس النقد ، فسح المجال لتأخير الشراء عن البيع ، فالبائع لم يعد مضطرّاً لكي يبيع حنطته أن يشتري من الآخر ما ينتجه من القطن ، بل يمكنه أن يبيع حنطته نظير نقدٍ معيّن ويحتفظ بالنقد لنفسه ويؤجّل شراء القطن إلى وقت آخر

وهذه الفرصة الجديدة التي وجدها البائعون بخدمتهم ـ فرصة تأخير الشراء عن البيع ـ غيّرت الطابع العام للبيوع والمبادلات فبينما كان البيع في عصر المقايضة يُستهدف منه دائماً شراء سلعة من السلع التي يحتاجها البائع ، أصبح للبيع في عصر النقد هدفٌ جديد فالبائع يتخلّص من سلعته في المبادلة لا ليظفر بسلعة أخرى ، بل ليحصل على مزيد من النقد بوصفه الوكيل العام عن السلع الذي يجعل بإمكانه شراء أيّ سلعة شاء في كلّ حين .

وهكذا تحوّل البيع للشراء إلى البيع لامتصاص النقود ، ونشأت عن ذلك ظاهرة اكتناز المال وتجميده مجسداً في تلك النقود ؛ لأنّ النقد ـ ونعني بوجه خاص النقود المعدنية والورقية ـ يمتاز على سائر السلع ؛ فإنّ أيّة سلعة أخرى لم يكن يجدي اكتنازها ؛ لأنّ أكثر السلع تنقص قيمتها على مرّ الزمن وقد يتطلّب الاحتفاظ بها وبجدتها إلى نفقات عديدة ، ومن ناحية أخرى : قد لا يتيّسر لمالك تلك السلعة المكتنزة الظفر بما يطلبه المكتنز من سلع أخرى في وقت الحاجة ، فلا يكون في اكتنازها ضمان الحصول على شتى الطلبات في كلّ حين

وعلى العكس من ذلك كلّه النقد ؛ فإنّه قابل للبقاء والادّخار ، ولا يكلّف اكتنازه شيئاً من النفقات ، كما أنّه بوصفه الوكيل العام عن السلع يضمن للمكتنز قدرته على شراء أيّ سلعة شاء في كلّ وقت

٣١٠

وهكذا توفّرت دواعي الاكتناز لدى المجتمعات التي بدأت المبادلة فيها تقوم على أساس النقود ، وعلى أساس النقود الذهبية والفضية بوجه خاص .

ونجم عن ذلك : أن تخلّت المبادلة عن وظيفتها الصالحة في الحياة الاقتصادية كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك ، وأصبحت واسطة بين الإنتاج والادخار فالبائع ينتج ويبيع ويبادل منتوجه بنقد ليدّخر هذا النقد ويضمه إلى ثروته المكتنزة ، والمشتري يقدّم النقد إلى البائع ليحصل على السلعة التي يبيعها ، ثمّ لا يتمكّن هو بعد ذلك أن يبيع منتوجه بدوره ؛ لأنّ البائع اكتنز النقد وسحبه من مجال التداول

ونتج عن ذلك أيضاً اختلال كبير في التوازن بين كمّية العرض وكمّية الطلب : ذلك أنّ العرض والطلب كانا يميلان إلى التساوي في عصر المقايضة ؛ لأنّ كلّ مُنتِج كان يُنتج لإشباع حاجاته واستبدال الفائض عن حاجته بسلع أخرى يحتاجها في حياته من غير النوع الذي ينتجه فالمنتوج دائماً يوازي حاجته ، أي : أنّ العرض دائماً يجد طلباً مساوياً له ، وبذلك تتّجه أثمان السوق إلى درجتها الطبيعية ، التي تعبّر عن القيم الحقيقية للسلع وأهمّيتها الواقعية في حياة المستهلكين .

وبعد أن بدأ عصر النقد وسيطر النقد على التجارة ، واتّجه الإنتاج والبيع اتجاهاً جديداً حتى أصبح الإنتاج والبيع لأجل اكتناز النقد وتنمية الملك لا لأجل إشباع الحاجة ، عند ذلك يختلّ طبعاً التوازن بين العرض والطلب ، وتلعب دواعي الاحتكار دورها الخطير في تعميق هذا التناقض بين العرض والطلب ، حتى أنّ المحتكر قد يخلق طلباً كاذباً فيشتري كلّ أفراد السلعة من السوق لا لحاجته إليها بل ليرفع ثمنها ، أو يعرض السلعة بأثمان دون كلفتها ؛ بقصد إلجاء المنتجين والبائعين الآخرين إلى الانسحاب من ميدان التنافس وإعلان الإفلاس وهكذا تتّخذ الأثمان وضعاً غير طبيعي ، ويصبح السوق تحت سيطرة الاحتكار ، ويتهاوى آلاف البائعين والمنتجين الصغار كلّ حين بين أيدي المحتكرين الكبار الذين سيطروا على السوق

٣١١

ثمّ ماذا بعد ذلك ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! ليس بعد ذلك إلاّ أن نرى الأقوياء في الحقل الاقتصادي يغتنمون هذه الفرص التي أتاحها لهم النقد ، فيتجهون نحو الاكتناز بكلّ قواهم ، نحو البيع لأجل الادخار ، فيظلّون ينتجون ويبيعون ليسحبوا النقد المتداول في المجتمع إلى كنوزهم ، ويمتصّوه بالتدريج ، ويعطّلوا وظيفة المبادلة كواسطة بين الإنتاج والاستهلاك ، ويضطرّوا الكثرة الكاثرة إلى مهاوي البؤس والفقر ، وبالتالي يتوقّف الاستهلاك ؛ نظراً إلى انخفاض المستوى الاقتصادي للجمهور وعجزهم عن الشراء كما تتعطّل حركة الإنتاج ؛ لأنّ انعدام القدرة الشرائية عند المستهلكين أو انخفاضها يجرّد الإنتاج من أرباحه ، ويعمّ الكساد شُعب الحياة الاقتصادية كلّها

ولا تقف مشاكل النقد عند هذا الحدّ ، بل إنّ النقد قد أدّى إلى مشكلة قد تكون أخطر من المشاكل التي عرضناها فلم يقتصر النقد على أن يكون أداة اكتناز ، بل أصبح أداة تنمية للمال عن طريق الفائدة التي يتقاضاها الدائنون من مدينيهم ، أو يتقاضاها أصحاب الأموال من المصارف الرأسمالية التي يودعون أموالهم فيها وهكذا أصبح الاكتناز في البيئة الرأسمالية سبباً لتنمية الثروة بدلاً عن الإنتاج ، وانسحبت بذلك رؤوس أموال كثيرة من حقل الإنتاج إلى صناديق الادخار في المصارف ، وأصبح التاجر لا يقدم على مشروع من مشاريع الإنتاج والتجارة إلاّ إذا اطمأن إلى أنّ الربح الذي يدرّه المشروع عادة أكثر من الفائدة التي يمكن أن يحصل عليها عن طريق إقراض ماله ، أو إبداعه في المصارف .

وأخذت الأموال على أساس الفائدة الرَّبوية تتسرب إلى الصيارفة منذ بداية العصر الرأسمالي ، حيث أخذ هؤلاء يجذبون الكمّيات المكتنزة من النقد عند مختلف الأفراد عن طريق إغرائهم بالفائدة السنوية التي يتقاضاها زبائن المصرف عن أموالهم التي يودعونها فيه ، فتجمّعت تلك الكمّيات المختلفة في كنوز الصيارفة بدلاً عن استخدامها في الإنتاج المثمر ، وقامت على أساس هذا التجمع المصارف والبيوت المالية الكبيرة التي امتلكت زمام الثروة في البلاد ، وقضت على أيّ مظهر من مظاهر التوازن في الحياة الاقتصادية

٣١٢

[ الموقف الإسلامي من مشاكل التداول بالنقد : ]

هذا عرض سريع لمشاكل التداول أو المبادلة ، وهو يوضح بجلاء أنّ هذه المشاكل قد نبعت كلّها من النقد وسوء استخدامه في مجال التداول ، إذ اتُّخذ أداة اكتناز وبالتالي أداة تنمية للمِلك .

وقد يلقي هذا ضوءاً على ما جاء في الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :( الدنانير الصفر والدراهم البيض مُهلِكاكُم كما أهلكا مَن كان قَبْلَكُم ) (١) .

وعلى أي حال فقد عالج الإسلام هذه المشاكل النابعة من النقد ، واستطاع أن يعيد إلى التداول وضعه الطبيعي ودوره الوسيط بين الإنتاج والاستهلاك وتتلخص النقاط الرئيسية في الموقف الإسلامي من مشاكل التداول فيما يلي :

أولاً : منع الإسلام من اكتناز النقد ، وذلك عن طريق فرض ضريبة الزكاة على النقد المجمّد بصورة تتكرّر في كلّ عام ، حتى تستوعب النقد المكتنز كلّه تقريباً إذا طال اكتنازه عدّة سنين (٢) ولهذا يعتبر القرآن اكتناز الذهب والفضة جريمة يعاقب عليها بالنار ؛ لأنّ الاكتناز يعني بطبيعة الحال التخلّف عن أداء الضريبة الواجبة شرعاً ؛ لأنّ هذه الضريبة لدى أدائها لا تفسح مجالاً أمام النقد للتجمّع والاكتناز ، فلا غروّ إذا هدّد القرآن الذين يكنزون الذهب والفضة وتوعّدهم بالنار قائلاً :

ـــــــــــــــ

(١) الأصول من الكافي ٢ :٣١٦ ، الحديث٦ ، مع اختلاف في اللفظ .

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ١٦٦ ، الباب ١٣ من أبواب زكاة النقدَين مع الشرائط في كلّ سنة وإن بقي المال بعينه ، الحديث الأوّل .

٣١٣

( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) (١) .

وعن هذا الطريق ضمن الإسلام بقاء المال في مجالات الإنتاج والتبادل والاستهلاك ، وحال دون تسلّله إلى صناديق الاكتناز والادّخار .

وثانياً : حرّم الإسلام الرِّبا تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه(٢) ، وبذلك قضي على الفائدة ونتائجها الخطيرة في مجال التوزيع ، وما تؤدّي إليه من إخلال بالتوازن الاقتصادي العام ، وانتزع من النقد دوره بوصفه أداة تنمية للملك مستقلّة بذاتها ، وردّه إلى دوره الطبيعي الذي يباشره بوصفه وكيلاً عاماً عن السلع ، وأداة لقياس قيمتها وتسهيل تداولها

وقد يظنّ كثير ممّن عاش التجربة الرأسمالية وأَلِف ألوانها وأشكالها : أنّ القضاء على الفائدة يعني القضاء على البنوك والمصارف ، وتعطيل أجهزة الحياة الاقتصادية وشلّ كلّ أعصابها وأوردتها التي تموّنها تلك البنوك والمصارف ولكنّ هذا الظن إنّما ينشأ عند هؤلاء نتيجة للجهل بواقع الدور الذي تؤدّيه البنوك والمصارف في الحياة الاقتصادية ، وبواقع الصورة الإسلامية للتنظيم الاقتصادي الكفيل بعلاج سائر المشاكل التي تنجم عن القضاء على الفائدة ، وهذا ما سندرسه بتفصيلٍ في بحثٍ مقبل

وثالثاً : أعطى لولي الأمر صلاحيات تجعل له الحقّ في الرقابة الكاملة على سير التداول والإشراف على الأسواق ، للحيلولة دون أيّ تصرّف يؤدّي إلى الضرر وزعزعة الحياة الاقتصادية ، أو يمهّد للتحكّم الفردي غير المشروع في السوق وفي مجال التداول وسوف نشرح هذه النقاط وندرسها بصورة موسّعة في البحوث المقبلة من الكتاب ، التي نعرض فيها لتفاصيل الاقتصاد الإسلامي

ـــــــــــــــ

(١) سورة التوبة : ٣٤ ـ ٣٥ .

(٢) قال الله تعالى :( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) ، سورة البقرة : ٢٧٥ ووسائل الشيعة ١٨ : ١١٧ ، الباب الأوّل من أبواب الرِّبا

٣١٤

الكتاب الثاني

المقدّمة

عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج

نظرية توزيع ما بعد الإنتاج

نظرية الإنتاج

مسئولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي

الملاحق

[ مقدمّة الكتاب الثاني : ](١)

هذا الكتاب هو الحلقة الثالثة من السلسة التي بدأناها بـ (فلسفتنا ) والكتاب الثاني من (اقتصادنا ) ويحتوي على محاولة لاكتشاف مذهب اقتصادي إسلامي في ضوء تشريعات الإسلام ومفاهيمه التي ترتبط بالحقول الاقتصادية ؛ ولأجل ذلك كانت المحاولة تعبّر عن عمليتين إحداهما تقوّم أساس الأخرى :

الأولى : عملية تجميع عدد من التشريعات والمفاهيم التي يمكنها أن تلقي ضوءاً على عملية اكتشاف المذهب .

والأخرى : عملية تفسير تلك المجموعة من التشريعات والمفاهيم تفسيراً نظرياً موحّداً يبرز المحتوى المذهبي للاقتصاد الإسلامي وقد تحمّل الكتاب أعباء العملية الثانية ، بينما آثر بالنسبة للعملية الأولى أن يقوم بدور تجميع الأحكام ، وانتقاء التشريعات التي تساعد على إنجاح العملية الثانية ، دون أن يشترط في الأحكام إلي ينتقيها أن تكون متبنّاة شخصياً من الناحية الفقهية ؛ ولهذا فإنّ الأحكام التي يعرضها الكتاب ليست كلّها ممّا أتبنّاه فقهياً ، بل إنّ فيه أحكاماً لا أتبنّاها بالرغم من إسهامها بأدوار مهمّة في بحوث هذا الكتاب وحصولها على عناية خاصة في ملاحقه .

ـــــــــــــــ

(١) لم ترد هذه المقدّمة إلاّ في طبعة دار الفكر للكتاب .

٣١٥

ولأجل ذلك كان لزاماً عليّ أن أوضح هذه النقطة ؛ لئلا يعتبر ذكر حكمٍ من الأحكام في هذا الكتاب والتأكيد عليه دليلاً على أنّي أقول به فقهياً وأتبنّاه ، وأن أذكر المصادر التي استقى الكتاب منها أحكام الأراضي والمعادن والمياه والمعاملات وما إليها وأترك تفصيل الحديث عن هذه النقطة ، وعن الأسباب التي دعت الكتاب إلى الوقوف من العملية الأولى هذا الموقف إلى الفصل الأوّل من هذا الكتاب .

وبهذا الصدد يمكن ذكر المصادر الثلاثة التالية بوصفها الأساس لمجموعة الأحكام والتشريعات التي استعرضها الكتاب :

١ ـ الآراء الفقهية لعلمائنا الأبرار ، وقد استقى الكتاب من هذه المصادر الغالبية العظمى من الأحكام والتي استضاء بها في عملية الاكتشاف ، فإنّ كلّ واحد من تلك الأحكام تقريباً لا يعدم فقيهاً أو أكثر ممّن يتبنّاه ويفتي به .

٢ ـ الآراء الفقهية التي يتبنّاها الكاتب ويؤمن بصحّتها .

٣ ـ وجهات نظر فقهية يمكن الأخذ بها من الناحية الفنيّة على الصعيد البحث العلمي ، وإن كنّا لا نتبنّى نتائجها فقهياً للأسباب النفسيّة التي قد تمنع الباحث أحياناً عن تبني نتائج بحثه أو لاحتمال وجود أدلّة لبّية .

وللكتاب مصطلحات حدّدت في ( ص٤٧٩ ـ٤٨١ ) فيجب أن تُلاحظ وتُفهم على ضوئها البحوث الآتية عن الملكية الخاصة وملكية الدولة والملكية العامة والإباحة العامة وما إليها .

وقد اقتصر الكتاب وفقاً لمنهجه في البحث ـ كما سترون ـ على شرح الأحكام التي تتّصل بعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي وتدخل في بنائه العلْوي ولهذا فإنّ عدداً من أحكام الملكية ونقلها وتنميتها لم يشرح في الكتاب ؛ لعدم الحاجة إليه في عملية الاكتشاف ، وتحتّم علينا لأجل ذلك أن نتناوله بالدرس والتوضيح في فرصة مقبلة بإذن الله تعالى .

كما أنّ عدداً من الآراء ووجهات النظر الفقهية التي نستعرضها في بحوث الكتاب لم تشرح في نفس الكتاب على أساليب البحث العلمي ـ بالرغم من حاجتها إلى ذلك ـ حرصاً على تيسير بحوث الكتاب ووحدتها في الأسلوب والصياغة ولهذا آثرنا دراسة تلك الآراء الفقهية بصورة علمية في الملاحق التي أردفناها بالكتاب ، واستخدمنا فيها الأساليب وطريقة التعبير الخاصة بالبحث الفقهي التي لا يتاح لغير المتخصّصين في البحوث الفقهية استيعابها بصورة كاملة .

٣١٦

وأخيراً فإنّي أرجو أن تكون هذه المحاولة المتواضعة التي مارسها هذا الكتاب منطلقاً لبحوث كثيرة أوسع وأكثر نجاحاً في الكشف عن المذهب الاقتصادي للإسلام ، واستلهام الشريعة الإسلامية أسرارها الكبرى في كلّ ميادين الحياة .

محمّد باقر الصدر

النجف الأشرف

٣١٧

الكتاب الثاني ١

عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي

المذهب الاقتصادي والإسلام

عملية اكتشاف وعملية تكوين

المذهب الاقتصادي

[ مفهوم المذهب الاقتصادي : ]

من الأفضل قبل كلّ شيء ـ ما دمنا نحاول دراسة مذهب اقتصادي معيّن ـ أن نتّفق منذ البدء على المفهوم الذي نعنيه من كلمة (المذهب ) بالضبط ، لِنَتَبيَّن في بداية الطريق معالم الهدف ونوعية المضمون ، الذي يجب على أيّ بحثٍ في المذهب الاقتصادي أن يجليه ويحدّده فماذا تعنيه كلمة المذهب ؟ وما هو الفارق بين المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد ؟ وما هي المجالات التي تعالج مذهبياً ؟

وعلى أساس الجواب على هذه الأسئلة الذي يحدّد معالم المذهب الاقتصادي بشكل عام ، سوف نحدد طبيعة البحث الذي نمارسه في المذهب الاقتصادي الإسلامي .

وبهذا الصدد يجب أن نستذكر ما قلناه عن مفهومي المذهب والعلم في بحثٍ سابق(١) ، فقد جاء فيه : أنّ المذهب الاقتصادي للمجتمع عبارة عن الطريقة التي يفضّل المجتمع إتباعها في حياته الاقتصادية وحلّ مشاكلها العملية ، وعلم الاقتصاد هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكّم فيها .

ـــــــــــــــ

(١) في الكتاب الأوّل من اقتصادنا ، ( مقدّمة الطبعة الأولى )

٣١٨

وهذا القدر من التمييز بين المذهب والعلم وإن كان يشير إلى الفارق الجوهري بينهما ، ولكنّه لم يعد يكفي في الوقت الذي نحاول أن نكتشف مذهباً اقتصادياً معيّناً بالذات ، أو أن نكوّن عنه فكرة محدّدة فقد استخدمنا ذلك التمييز الأساسي بين المذهب والعلم لنتيح للقارئ أن يعرف نوعية الاقتصاد الإسلامي الذي ندرسه ، ويدرك في ضوء ذلك التمييز أنّ الاقتصاد الإسلامي مذهب وليس علماً ، لأنّه الطريقة التي يفضّل الإسلام إتباعها في الحياة الاقتصادية ، وليس تفسيراً يشرح فيه الإسلام أحداث الحياة الاقتصادية وقوانينها .

ولتحقيق هذا الغرض والتأكيد على الطابع المذهبي للاقتصاد الإسلامي كان يكفي أن نقول عن المذهب : أنّه طريقة وعن العلم : أنّه تفسير لنعرف أنّ الاقتصاد الإسلامي مذهب لا علم .

حسناً ، ولكنّا الآن يجب أن نعرف عن المذهب الاقتصادي أكثر من هذا ، لنستطيع أن نضبط في ضوء مفهومنا عنه المجالات التي يعمل فيها ، ثمّ نفحص كلّ ما يتّصل من الإسلام بتلك المجالات .

ففي أيّ حقل يعمل المذهب الاقتصادي ؟ وإلى أيّ مدى يمتدّ ؟ وما هي الصفة العامة التي نجدها في كلّ فكرٍ اقتصادي مذهبي ، لنجعل من تلك الصفة علامة فارقة للأفكار المذهبية في الإسلام ، التي نحاول جمعها وتنسيقها في اطراد واحد ؟

إنّ هذه الأسئلة تتطلّب أن نعطي للمذهب المتميّز عن العلم مفهوماً محدّداً قادراً على الجواب عن كلّ هذه الأسئلة ، ولا يكفي بهذا الصدد القول : بأنّ المذهب مجرّد طريقة .

[ مجالات علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي : ]

إنّ هناك من يعتبر مجال المذهب مقتصراً على توزيع الثروة فحسب ، فلا علاقة للمذهب بالإنتاج، لأن عملية إنتاج الحنطة أو النسيج مثلاً تتحكم فيها القوانين العلمية، ومستوى المعرفة البشرية بعناصر الإنتاج وخصائصها وقواها، ولا تختلف عملية إنتاج الحنطة أو النسيج باختلاف طبيعة المذهب الاقتصادي. فعلم الاقتصاد هو: علم قوانين الإنتاج. والمذهب الاقتصادي هو: فن توزيع الثروة. وكل بحث يتعلق بالإنتاج وتحسينه وإيجاد وسائله وتحسينها فهو من علم الاقتصاد، وذو صفة عالمية لا تتفاوت فيه الأمم تبعاً لاختلاف مبادئها ومفاهيمها الاجتماعية، ولا يختص به مبدأ دون مبدأ. وكل بحث يبين الثروة وتملكها والتصرف فيها فهو بحث مذهبي، ومن النظام الاقتصادي وليس من علم الاقتصاد ولا يرتبط به، وإنما يرتبط بإحدى وجهات النظر في الحياة التي تتبناها المذاهب المختلفة من رأسمالية واشتراكية وإسلام.

٣١٩

وهذا الفصل بين العلم والمذهب_ علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي_ على أساس اختلاف المجال الذي يمارسه أحدهما عن مجال الآخر. ينطوي على خطأ كبير، لأنه يؤدي إلى اعتبار الصفة المذهبية والصفة العلمية نتيجتين لنوعية المجال المدروس. فإذا كان البحث في الإنتاج فهو بحث علمي، وإذا كان في التوزيع فهو بحث مذهبي. مع أن العلم والمذهب مختلفان في طريقة البحث وأهدافه، لا في موضوعه ومجالاته. فالبحث المذهبي يظل مذهبياً ومحافظاً على طابعه ما دام يلتزم طريقته وأهدافه الخاصة، ولو تناول الإنتاج نفسه. كما أن البحث العلمي لا يفقد طبيعته العلمية إذا تكلم عن التوزيع ودرسه بالطريقة والأهداف التي تتناسب مع العلم.

ولأجل ذلك نجد أنّ فكرة التخطيط المركزي للإنتاج ـ التي تتيح للدولة الحقّ في وضع سياسة الإنتاج والإشراف عليه ـ هي إحدى النظريات المذهبية المهمّة ، التي تعتبر من مقوّمات بعض المذاهب أو الأنظمة الاشتراكية ، أو ذات الاتجاه الاشتراكي ، مع أنّنا نعلم أنّ التخطيط المركزي للإنتاج والسماح لهيئة عُليا ـ كالدولة ـ بممارسة هذا التخطيط لا يعني تملّك تلك الهيئة لوسائل الإنتاج ، ولا يتّصل بمسألة توزيع هذه الوسائل على الأفراد .

ففكرة التخطيط المركزي للإنتاج ـ إذن ـ فكرة مذهبية ، تتّصل بالمذهب الاقتصادي وليست بحثاً علمياً ، بالرغم من أنّها تعالج الإنتاج لا التوزيع .

وعلى العكس قد نجد كثيراً من الأفكار التي تعالج قضايا التوزيع تندرج في علم الاقتصاد بالرغم من صلتها بالتوزيع دون الإنتاج فـ (ريكاردو ) حين كان يقرّر مثلاً : أنّ نصيب العمّال من الثروة المُنتَجة ، الذي يتمثّل فيما يتقاضونه من أجور ، لا يزيد بحالٍ من الأحوال عن القدر الذي يتيح لهم معيشة الكفاف لم يكن يقصد بذلك أن يقرّر شيئاً مذهبياً ولا أن يطلب من الحكومات فرضه نظاماً اقتصادياً للأجور ، كنظام الملكية الخاصة والحرّية الاقتصادية ، وإنّما كان يحاول أن يشرح الواقع الذي يعيشه العمّال والنتيجة الحتمية لهذا الواقع ، بالرغم من عدم تبّني الدولة لفرض حدٍ أعلى من الأجور ، وإيمانها بالحرية الاقتصادية بوصفها دولة رأسمالية .

٣٢٠