اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 141727
تحميل: 8007

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141727 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد يكون نهي النبي عن : منع فضل الماء والكلأ(١) أوضح مثالٍ من النصوص على مدى تأثّر عملية الاستنباط من النصّ بالموقف النفسي للممارس فقد جاء في الرواية :( أنّ النبيّ قضى بين أهل المدينة في النخل : لا يُمنع نفع بئر وقضى بين أهل البادية : أنّه لا يُمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلأ ) (٢) وهذا النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلأ، يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام ثابت في كلّ زمانٍ ومكانٍ ، كالنهي عن الميسر والخمر كما يمكن أيضاً أن يعبّر عن إجراءٍ معيّن اتّخذه النبيّ بوصفه ولي الأمر المسئول عن رعاية مصالح المسلمين ، في حدود ولايته وصلاحياته ، فلا يكون حكماً شرعياً عاماً ، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدّرها وليّ الأمر .

وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النصّ وما يناظره من نصوص .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب كتاب إحياء المَوَات ، الحديث ٢ .

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب كتاب إحياء المَوَات ، الحديث ٣ ، مع اختلاف يسير .

٣٤١

وأمّا أولئك الذين يتّخذون موقفاً نفسياً تجاه النصّ بصورة مسبقة فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كلّ نصّ حكماً شرعياً عاماً ، وينظرون دائماً إلى النبيّ من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة ، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه وليّ الأمر ، فيفسّرون(١) النصّ الآنف الذكر على أساس أنّه حكم شرعي عام(٢) .

وهذا الموقف الخاص في تفسير النصّ لم ينبع من النصّ نفسه ، وإنّما نتج من اعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبيّ ، وطريقة تفكير معيّنة فيه درج عليها الممارس ، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائماً باعتباره مبلغاً ، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكماً ، وانطمست بالتالي ما تعبّر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة .

ضرورة الذاتية أحياناً:

ويجب أن نشير في النهاية إلى المجال الوحيد الذي يُسمح به للجانب الذاتي لدى محاولة تكوين الفكرة العامة المحدّدة عن الاقتصاد الإسلامي ، وهو مجال اختيار الصورة التي يُراد أخذها عن الاقتصاد في الإسلام ، من بين مجموع الصور التي تمثّل مختلف الاجتهادات الفقهية المشروعة ، فقد مرّ بنا أنّ اكتشاف المذهب الاقتصادي يتمّ خلال عملية اجتهاد في فهم النصوص وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في اطراد واحد ، وعرفنا أنّ الاجتهاد يختلف ويتنوّع تبعاً لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم للنصوص ، وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر ، وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنّونها

ـــــــــــــــ

(١) راجع مسالك الأفهام ١٢ : ٤٤٦ ، وجواهر الكلام ٣٨ : ١١٩ .

(٢) ويفرّعون على هذا الأساس : أنّ النهي ليس نهي تحريم ، وإنّما هو نهي كراهة ؛ لأنّهم يستبعدون أن يكون منع المالك لفضل مائه حراماً شراعاً ، في كلّ زمان ومكان!! (المؤلّف قدّس سرّه ) .

٣٤٢

كما عرفنا أيضاً أنّ الاجتهاد يتمتّع بصفة شرعية وطابع إسلامي ما دام يمارس وظيفته ويرسم الصورة ويحدّد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة ، ووفقاً للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها .

وينتج عن ذلك كلّه : ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الإسلامي ، ووجود صور عديدة له ، كلّها شرعي ، وكلّها إسلامي ومن الممكن حينئذٍ أن نتخيّر في كلّ مجال أقوى العناصر التي نجدها في تلك الصورة ، وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حرّيته ورأيه ، ويتحرّر عن وصفه مكتشفاً فحسب ، وإن كانت هذه الذاتية لا تعدو أن تكون اختياراً ، وليست إبداعاً ، فهي تحرّر في نطاق الاجتهادات المختلفة ، وليست تحرّراً كاملاً .

وقد مارس هذا الكتاب في بحوث سابقة ، وسيمارس في بحوث مقبلة ، هذا المجال الذاتي ، كما ألمعنا إلى ذلك في المقدمة(١) فليس كلّ ما يعرض من أحكام في هذا الكتاب ويتبنّى ويستدلّ عليه ، نتيجة لاجتهاد المؤلّف شخصياً بل قد يعرض في بعض النقاط لما لا يتّفق مع اجتهاده ، ما دام يعبر عن وجهة نظر اجتهادية أخرى تحمل الطابع الإسلامي والصفة الشرعية .

وأود أن أؤكّد ـ بهذه المناسبة ـ على : أنّ ممارسة هذا المجال الذاتي ، ومنح الممارس حقّاً في الاختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة قد يكون أحياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنّية لعلمية الاكتشاف التي يحاولها هذا الكتاب ، وليس أمراً جائزاً فحسب أو لوناً من الترف والتكاسل عن تحمّل أعباء ومشاقّ الاجتهاد في أحكام الشريعة فإنّ من المستحيل في بعض الحالات اكتشاف النظرية الإسلامية والقواعد المذهبية في الاقتصاد شاملةً كاملةً منسجمة مع بنائها العُلْوي وتفصيلاتها التشريعية وتفريعاتها الفقهية إلاّ على أساس المجال الذاتي للاختيار .

ـــــــــــــــ

(١) مقدّمة الطبعة الأولى .

٣٤٣

وأنا أقول هذا نتيجة لتجربة شخصية عشتها في فترة إعداد هذا الكتاب ، ولعلّ من الضروري أن أجلّيها هنا لأبرز إحدى المشاكل التي يعانيها البحث في الاقتصاد الإسلامي غالباً ، وطريقة تغلّب هذا الكتاب عليها بممارسة المجال الذاتي الآنف الذكر الذي منح لنفسه حقّ ممارسته .

فمن المتّفق عليه بين المسلمين اليوم : أنّ القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية ، بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتّع بصفة قطعية من أحكام الشريعة ، الخمسة في المئة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية .

والسبب في ذلك واضح ؛ لأنّ أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب والسنة ، أي : من النص التشريعي ، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كلّ نصّ على نقل أحد الرواة والمحدّثين ـ باستثناء النصوص القرآنية ومجموعة قليلة من نصوص السنّة التي ثبتت بالتواتر واليقين ـ ومهما حاولنا أن ندقّق في الراوي ووثاقته وأمانته في النقل فإنّنا لن نتأكّد بشكلٍ قاطع من صحّة النصّ ما دمنا لا نعرف مدى أمانة الرواة إلاّ تأريخياً ، لا بشكلٍ مباشر ، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدّم إلينا النصّ محرّفاً ، خصوصاً في الحالات التي لا يصل إلينا النصّ فيها إلاّ بعد أن يطوف بعدّة رواة ، ينقله كلّ واحد منهم إلى الآخر ، حتى يصل إلينا في نهاية الشوط وحتى لو تأكدنا أحياناً من صحّة النصّ ، وصدوره من النبيّ أو الإمام ، فإنّنا لن نفهمه إلاّ كما نعيشه الآن ، ولن نستطيع استيعاب جوّه وشروطه ، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقي عليه ضوءاً .

ولدى عرض النصّ على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها ، قد نخطئ أيضاً في طريقة التوفيق ، فنقدّم هذا النصّ على ذاك ، مع أنّ الآخر أصحّ في الواقع ، بل قد يكون للنصّ استثناء في نصّ آخر ولم يصل إلينا الاستثناء ، أو لم نلتفت إليه خلال ممارستنا للنصوص ، فنأخذ بالنصّ الأوّل مغفلين استثناءه الذي يفسّره ويخصِّصه .

فالاجتهاد إذن عملية معقّدة ، تواجه الشكوك من كلّ جانب ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد ، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع ، ما دام يحتمل خطأه في استناجها ؛ إمّا لعدم صحّة النصّ في الواقع وإن بدأ له صحيحاً ، أو لخطأ في فهمه ، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص ، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل عنها الممارس أو عاثت بها القرون .

٣٤٤

وهذا لا يعني بطبيعة الحال إلغاء عملية الاجتهاد أو عدم جوازها ، فإنّ الإسلام ـ بالرغم من الشكوك التي تكتنف هذه العملية ـ قد سمح بها ، وحدّد للمجتهد المدى الذي يجوز له أن يعتمد فيه على الظن ، ضمن قواعد تُشرح عادة في علم أصول الفقه ، وليس على المجتهد إثمٌ إذا اعتمد ظنّه في الحدود المسموح بها ، سواء أخطأ أو أصاب .

وعلى هذا الضوء يصبح من المعقول ومن المحتمل أن توجد لدى كلّ مجتهد مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي ، وإن كان معذوراً فيها ، ويصبح من المعقول أيضاً أن يكون واقع التشريع الإسلامي في مجموعة من المسائل التي يعالجها موزّعاً هنا وهناك بنسب متفاوتة في آراء المجتهدين ، فيكون هذا المجتهد على خطأ في مسألة وصواب في أخرى ، ويكون الآخر على العكس .

وأمام هذا الواقع الذي شرحناه عن عملية الاجتهاد والمجتهدين ، لا يملك الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي ، إلاّ أن ينطلق في اكتشافه من أحكام ثبتت باجتهاد ظنّي معيّن ليجتازها إلى ما هو أعمق وأشمل ، إلى نظريات الإسلام في الاقتصاد ومذهبه الاقتصادي .

ولكن علينا أن نتساءل : هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كلّ واحد من المجتهدين ـ بما يضمّ من أحكام ـ مذهباً اقتصادياً كاملاً ، وأُسساً موحّدة منسجمة مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها ؟

ونجيب على هذا السؤال بالنفي ؛ لأنّ الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الأحكام معرّض للخطأ ، وما دام كذلك فمن الجائز أن يضمّ اجتهاد المجتهد عنصراً تشريعياً غريباً على واقع الإسلام ، قد أخطأ المجتهد في استنتاجه ، أو يفقد عنصراً تشريعياً إسلامياً لم يوفّق المجتهد للظفر به في النصوص التي مارسها وقد تصبح مجموعة الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده متناقضة في أسسها بسبب هذا أو ذاك ، ويتعذّر عندئذٍ الوصول إلى رصيد نظري كامل يوحّد بينها ، أو تفسيرٍ مذهبيّ شامل يضعها جميعاً في اطرادٍ واحدٍ .

ولهذا يجب أن نفرّق بين واقع التشريع الإسلامي كما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معيّن خلال ممارسته للنصوص فنحن نؤمن بأنّ واقع التشريع الإسلامي في المجالات الاقتصادية ليس مرتجلاً ، ولا وليد نظرات متفاصلة ومنعزلة بعضها عن البعض ، بل إنّ التشريع الإسلامي في تلك المجالات يقوم على أساس موحّدٍ ، ورصيد مشترك من المفاهيم ، وينبع من نظريات الإسلام وعمومياته في شؤون الحياة الاقتصادية .

٣٤٥

وإيماننا بهذا هو الذي جعلنا نعتبر الأحكام بناءً علْوياً يجب تجاوزه إلى ما هو أعمق وأشمل ، وتخطيه إلى الأسس التي يقوم عليها هذا البناء العلْوي وينسجم معها ، ويعبّر عن عمومياتها في كلّ تفصيلاته وتفريعاته ، دون تناقض أو نشاز ولولا الإيمان بأنّ أحكام الشريعة تقوم على أسس موحّدة ، لما كان هناك مبرر لممارسة عملية اكتشاف للمذهب ، من وراء الأحكام التفصيلية في الشريعة .

كل هذا صحيح بالنسبة إلى واقع التشريع الإسلامي وأمّا بالنسبة إلى هذا الاجتهاد أو ذاك من اجتهادات المجتهدين ، فليس من الضروري أن تعكس الأحكام التي يضعها ذلك الاجتهاد مذهباً اقتصادياً كاملاً ، وأساساً نظرياً شاملاً ، ما دام من الممكن فيها أن تضمّ عنصراً غريباً أو تفقد عنصراً أصيلاً بسبب خطأ المجتهد .

وقد يؤدّي خطأ واحدٌ في مجموعة تلك الأحكام إلى قلب الحقائق في عملية الاكتشاف رأساً على عقب ، وبالتالي إلى استحالة الوصول إلى المذهب الاقتصادي عن طريق تلك الأحكام .

ولهذا قد يواجه الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي محنة ، هي محنة التناقض بين وصفه مكتشفاً للمذهب ، ووصفه مجتهداً في استنباط الأحكام وذلك فيما إذا افترضنا : أنّ المجموعة من الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده الخاص غير قادرة على الكشف عن المذهب الاقتصادي ، فالممارس في هذه الحالة بوصفه مجتهداً في استنباط تلك الأحكام ، مدفوع بطبيعة اجتهاده إلى اختيار تلك الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده ، لينطلق منها في اكتشافه للمذهب الاقتصادي ولكنّه بوصفه مكتشفاً للمذهب يجب عليه أن يختار مجموعة متّسقة من الأحكام ، منسجمة في اتّجاهاتها ومدلولاتها النظرية ، ليستطيع أن يكتّشف على أساسها المذهب وهو حين لا يجد هذه المجموعة المتّسقة في الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده الشخصي ، يجد نفسه مضطراً إلى اختيار نقطة انطلاق أخرى ، مناسبة لعملية الاكتشاف ولنجسّد المشكلة بصورة أوضح في المثال التالي :

مجتهد رأى أنّ النصوص تربط ملكية الثروات الطبيعية الخام بالعمل ، وتنفي تملّكها بأيّ طريقة أخرى سوى العمل ، ووجد لهذه النصوص استثناءً واحداً في نصّ يقرر في بعض المجالات : التملّك بطريقة أخرى غير العمل .

٣٤٦

إنّ هذا المجتهد سوف تبدو له نتائج النصوص ومعطياتها ـ حسب اجتهاده ـ قلقة غير متّسقة ومصدر هذا القلق وعدم الاتساق : النصّ الاستثنائي ، إذ لولاه لاستطاع أن يكشف على أساس مجموع النصوص الأخرى أنّ الملكية في الإسلام تقوم على أساس العمل فماذا يصنع هذا المجتهد ، وبم يتغلّب على التناقض بين موقفيه الاجتهادي والاكتشافي ؟

إنّ المجتهد الذي يواجه هذا التناقض يحتمل عادة تفسيرين لذلك القلق وعدم الاتساق بين الأحكام التي أدى إليها اجتهاده :

أحدهما : أنّ بعض النصوص التي مارسها غير صحيحة ، كالنصّ الاستثنائي في الفرضية التي افترضناها مثلاً ، بالرغم من توفّر الشروط التي أمر الإسلام باتباع كلّ نصّ تتوفّر فيه وعدم صحّة بعض النصوص أدّى إلى دخول عنصر تشريعي غريب في المجموعة التي يضمّها اجتهاده من أحكام ، وأدّى بالتالي إلى تنافر تلك الأحكام على الصعيد النظري وفي عملية الاكتشاف .

والتفسير الآخر : أنّ هذا التنافر المحسوس بين عناصر المجموعة سطحي ، وليس له واقع ؛ وإنّما نتج إحساس الممارس به عن عدم قدرته على الاهتداء إلى سرّ الوحدة بين تلك العناصر ، وتفسيرها النظري المشترك .

وهنا يختلف موقف الممارس بوصفه مجتهداً يستنبط الأحكام ، عن موقفه بوصفه مكتشفاً للمذهب الاقتصادي فهو باعتباره مجتهداً يستنبط الأحكام لا يمكنه أن يتخلّى في عمله عن الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده ، وإن بدت له متنافرة على الصعيد النظري ، مادام يحتمل أن يكون مرّد هذا التنافر إلى عجزه عن استكناه أسرارها وأُسسها المذهبية ولكن تمسّكه بتلك الأحكام لا يعني قطعيتها ، بل هي نتائج ظنّية ، ما دامت تقوم على أساس الاجتهاد الظنّي الذي يبرّر الأخذ بها ، بالرغم من احتمال الخطأ .

وأمّا حين يريد هذا الفقيه أن يتخطّى فقه الأحكام إلى فقه النظريّات ، ويمارس عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام ، فإنّ طبيعة العملية تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب أن ينطلق منها ، وتحتّم أن تكون نقطة الانطلاق مجموعة متّسقة ومنسجمة من الأحكام ، فإنّ استطاع أن يجد هذه المجموعة فيما يضمّه اجتهاده الشخصي من أحكام ، وينطلق منها في عملية الاكتشاف لفهم الأسس العامة للاقتصاد الإسلامي ، دون أن يُمنى بتناقض أو تنافر بين عناصر تلك المجموعة ، فهي فرصة ثمينة تتّحد فيها شخصية الممارس بوصفه فقيهاً يستنبط الأحكام ، مع شخصيته بوصفه مكتشفاً للنظريّات .

٣٤٧

وأمّا إذا لم يسعد بهذه الفرصة ، ولم يسعفه اجتهاده بنقطة الانطلاق المناسبة ، فإنّ هذا لن يؤثّر على تصميمه في العملية ، ولا على إيمانه بأنّ واقع التشريع الإسلامي يمكن أن يفسّر تفسيراً نظرياً متّسقاً شاملاً والسبيل الوحيد الذي يتحتّم على الممارس سلوكه في هذه الحالة أن يستعين بالأحكام التي أدّت إليها اجتهادات غيره من المجتهدين ؛ لأنّ في كلّ اجتهاد مجموعة من الأحكام تختلف إلى حدّ كبير عن المجاميع التي تشتمل عليها الاجتهادات الأخرى .

وليس من المنطقي أن نترقّب اكتشاف مذهب اقتصادي وراء كلّ مجموعة من تلك المجاميع ، وإنّما نؤمن بمذهب اقتصادي واحد ، تقوم على أساسه أحكام الشريعة الموجودة ، ضمن تلك المجاميع ، ففي حالة التنافر بين عناصر المجموعة الواحدة ، التي يتبّناها اجتهاد الممارس يتعيّن عليه في عملية الاكتشاف أن يزيل العناصر القلقة ، التي تؤدّي إلى التناقض على الصعيد النظري ، ويستبدلها بنتائج وأحكام في اجتهادات أخرى ، أكثر انسجاماً وتسهيلاً لعملية الاكتشاف ، ويكوّن مجموعة ملفقة من اجتهادات عديدة يتوفّر فيها الانسجام ، لينطلق منها ويخرج في النهاية باكتشاف الرصيد النظري لتلك المجموعة الملفّقة من الأحكام الشرعية .

وأقل ما يقال في تلك المجموعة : أنّها صورة من الممكن أن تكون صادقة كلّ الصدق في تصوير واقع التشريع الإسلامي وليس إمكان صدقها أبعد من إمكان صدق أي صورة أخرى من الصور الكثيرة ، التي يزخر بها الصعيد الفقهي الاجتهادي وهي بعد ذلك تحمل مبرّراتها الشرعية ؛ لأنّها تعبّر عن اجتهادات إسلامية مشروعة ، تدور كلّها في فلك الكتاب والسنّة ولأجل ذلك يصبح بالإمكان للمجتمع الإسلامي أن يختارها في مجال التطبيق من بين الصور الاجتهادية الكثيرة للشريعة ، التي يجب عليه أن يختار واحدة منها .

وهذا كلّ ما يمكن إنجازه في عملية الاكتشاف للاقتصاد الإسلامي عندما يعجز الاجتهاد الشخصي للممارس عن تكوين النقطة المناسبة للانطلاق ، بل إنّ هذا هو كلّ ما نحتاج إليه تقريباً بهذا الصدد وماذا نحتاج بعد أن نكتشف مذهباً اقتصادياً يتمتع بإمكان الصدق والدقّة في التصوير بدرجة لا تقلّ عن حظّ أيّ صورة اجتهادية أخرى ، وتتوفّر فيها مبرّرات النسب الإسلامي باعتبار انتسابها إلى مجتهدين أكفّاء ، وتحمل من الإسلام رخصة التطبيق في الحياة الإسلامية ؟!

٣٤٨

خداع الواقع التطبيقي :

قد دخل المذهب الاقتصادي في الإسلام حياة المجتمع بوصفه النظام السائد في عصر النبوّة ، وعاش على صعيد التطبيق مجسداً في واقع العلاقات الاقتصادية ، التي كانت قائمة بين أفراد المجتمع الإسلامي يومذاك ولأجل هذا يصبح من الممكن ـ خلال عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي ـ أن ندرسه ونبحث عنه على الصعيد التطبيقي ، كما ندرسه ونبحث عنه على الصعيد النظري فإنّ التطبيق يحدّد ملامح الاقتصاد الإسلامي وخصائصه كما تحدّد نصوص النظرية في مجالات التشريع ولكن النصوص التشريعية للنظرية أقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي ؛ لأنّ التطبيق نصّ تشريعي في ظرف معيّن قد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النصّ ، ولا أن يصوّر مغزاه الاجتماعي كاملاً ، فيختلف إلهام التطبيق ومعطاه التصوّري للنظرية عن المعُطى الفكري للنصوص التشريعية نفسها ومرّد هذا الاختلاف إلى خداع التطبيق لحواس الممارس الاكتشافية ، نتيجة لارتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة .

ويكفي مثالاً على هذا الخداع أنّ الممارس الذي يريد أن يتعرّف على طبيعة الاقتصاد الإسلامي من خلال التطبيق ، قد يوحي إليه التطبيق بأنّ الاقتصاد الإسلامي رأسمالي ، يؤمن بالحريّة الاقتصادية ، ويفسح المجال أمام الملكية الخاصة والنشاط الفردي الحرّ، كما ذهب إلى ذلك ـ بكلّ صراحة ـ بعض المفكّرين المسلمين ؛ حين تراءى لهم أفراد المجتمع الذين عاشوا تجربة الاقتصاد الإسلامي وهم أحرار في تصرفاتهم ، لا يحسّون بضغط أو تحديد ، ويتمتّعون بحقّ ملكية أيّ ثروة يتاح لهم الاستيلاء عليها من ثروات الطبيعة ، وبحقّ استثمارها

والتصرف فيها ، وليست الرأسمالية إلاّ هذا الانطلاق الحرّ الذي كان أفراد المجتمع الإسلامي يمارسونه في حياتهم الاقتصادية .

ويضيف البعض إلى ذلك : أنّ تطعيم الاقتصاد الإسلامي بعناصر لا رأسمالية والقول : بأنّ الإسلام اشتراكي في اقتصاده ، أو يحمل بذوراً اشتراكية ، ليس عملاً أميناً من الممارس ، وإنّما هو مواكبة للفكر الجديد الذي بدأ يسخط على الرأسمالية ويرفضها ، ويدعو إلى تطوير الإسلام بالشكل الذي يمكن أن يستساغ في مقاييس هذا الفكر الجديد .

٣٤٩

وأنا لا أنكر أنّ الفرد في مجتمع عصر النبوّة كان يمارس نشاطاً حرّاً ، ويملك حرّيته في المجال الاقتصادي إلى مدى مهم ، ولا أنكر أنّ هذا قد يعكس وجهاً رأسمالياً للاقتصاد الإسلامي ، ولكنّ هذا الوجه الذي نحسّه خلال النظر من بُعد إلى بعض جوانب التطبيق قد لا نحسّه مطلقاً خلال دراسة النظريّات على الصعيد النظري .

صحيح أنّ الفرد الذي كان يعيش عصر النبوّة يبدو لنا الآن أنّه كان يتمتّع بنصيب كبير من الحرّية ، التي قد لا يميّز الممارس أحياناً بينها وبين الحرّيات الرأسمالية ، ولكن هذا الوهم يتبدّد حين نردّ التطبيق إلى النظرية ، إلى النصوص التشريعية .

والسبب في هذه المفارقة بين النظرية والتطبيق ، بالرغم من أنّ كلاً منهما تعبير عن الآخر بشكلٍ من الأشكال ، يكمن في الظروف التي كان إنسان عصر التطبيق يعيشها ، ونوع الإمكانات التي كان يملكها ، فإنّ المضمون اللارأسمالي للنظرية في الاقتصاد الإسلامي كان مختفياً في مجال التطبيق إلى حدٍ ما ، بقدر ما كانت إمكانات الإنسان وقدرته على الطبيعة ضئيلة ، ويبرز المضمون اللارأسمالي باطّراد ، ويتّضح في مجال التطبيق الأمين للإسلام ، بقدر ما ترتفع تلك الإمكانات وتتّسع تلك القدرة فكلّما امتدت قدرة الإنسان ، وتنوّعت وسائله في السيطرة على الطبيعة ، انفتحت أمامه مجالات أرحب للعمل والتملّك والاستغلال ، واتضح أكثر فأكثر تناقض النظرية في الاقتصاد الإسلامي مع الرأسمالية ، وتجلى مضمونها اللارأسمالي من خلال الحلول التي يضعها الإسلام للمشاكل المستجدّة ، عبر القدرة المتنامية للإنسان على الطبيعة .

فإنسان عصر التطبيق كان يذهب ـ مثلاً ـ إلى منجم ملح أو غيره ، ويحمل ما يشاء من المواد المعدنية ، دون منع من النظرية التي كانت لها السيادة ، ولا معرّضة منها للملكية الخاصة لتلك المواد فماذا يمكن أن توحي به هذه الظاهرة في مجال التطبيق ، إذا فصلت عن دراسة النصّ التشريعي والفقهي بشكل عام ؟ إنها توحي بسيادة الحرّية الاقتصادية في المجتمع بدرجة تشبه الوضع الرأسمالي للحرّية في التملك والاستثمار .

٣٥٠

وأمّا إذا نظرنا إلى النظرية من خلال النصوص ، وجدنا أنّها توحي بشعور معاكس للشعور الذي أوحت به تلك الظاهرة في مجال التطبيق ؛ لأنّ النظرية في نصوصها تمنع أيّ فرد عن تملك المنابع المعدنية للملح أو النفط ، ولا تسمح له باستخراج ما يزيد على حاجته منها(١) وهذا نقيض صريح للرأسمالية التي تتبنّى مبدأ الملكية الخاصة ، وتفسح المجال أمام الفرد ليتملّك المنابع الطبيعية للثروة المعدنية ، واستغلالها استغلالاً رأسمالياً بقصد المزيد من الأرباح .

فهل يمكن لأحدٍ أن يطلق على اقتصاد لا يعترف بحرّية تملك منابع الملح والنفط ، ولا بأخذ المزيد من تلك المنابع ، ممّا يضيّق على الآخرين ويضيّع حقّهم في الانتفاع بالمنبع ، هل يمكن أن يطلق على هذا الاقتصاد اسم : الاقتصاد الرأسمالي ؟! أو أن يبعث في نفوسنا إحساساً باللون الرأسمالي للمذهب نظير ما بعثه التطبيق من إحساس بذلك في نفوس البعض ؟!

فيجب أن نعرف إذن : أنّ إنسان عصر التطبيق كان يستشعر الحرّية في مجالات العمل والاستغلال ، وحتى الاستفادة من منابع الملح والبترول مثلاً ، لأجل أنّه لم يكن يستطيع في الغالب ـ بحكم ظروف الطبيعة ، وانخفاض مستوى وسائله وبدائيتها ـ أن يعمل ويشتغل خارج الحدود المسموح بها من قبل النظرية فهو لا يتمكّن مثلاً أن يستخرج من المادة المعدنية كميات هائلة ـ كالكميات الهائلة التي تستخرج اليوم ـ ؛ لأنّه لم يكن مجهّزاً ضد الطبيعة بما جهز به الإنسان الحديث ، فلا يصطدم في واقع حياته بتحديد الكمّية التي يباح له استخراجها ؛ لأنّه مهما أراد أن يستخرج بوسائله البدائية ، فلن يستخرج في الغالب القدر الذي يضرّ بشِرْكَة الآخرين معه في الانتفاع بالمعدن وإنّما يبرز أثر النظرية بشكل صارخ ، وينعكس تناقضها مع التفكير الرأسمالي ، حين ترفع إمكانات الإنسان ، وتنمو قدرته على غزو الطبيعة ويصبح بإمكان أفراد قلائل أن يستغلّوا معدناً بكامله ، ويجدوا في أسواق العامل المترابطة والمفتوحة كلّها مجالاً لأعظم الأرباح .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٧ ، الباب ٥ من أبواب إحياء الموات ، الحديث٢ ، وراجع شرائع الإسلام ٣ : ٢٧٨ .

٣٥١

وكذلك أيضاً نرى مثل هذا تماماً في النظرية التي لا تسمح للفرد بأن يملك من الثروات الطبيعية والمواد الخام ـ كخشب الغابات مثلاً ـ إلاّ ما يباشر بنفسه حيازته وإنتاجه فإنّ هذه النظرية لا يمكن لإنسان عصر التطبيق أن يحسّ بها في حياته العملية إحساساً واضحاً عميقاً ما دام العمل في ذلك العصر يقوم بصورة عامة على أساس المباشرة وما بحكمها ، ولكن حين تتضخّم الكمية التي يمكن استخراجها وحيازتها تضخّماً هائلاً ، بسبب الأدوات والآلات مع كمية من النقد التي يمكن أن تسدّد منها أجور العمّال ، حين يتمّ كلّ ذلك ، يصبح في مستوى قدرة ذلك الفرد الاعتماد على العمل المأجور في استخراج وحيازة المواد الخام من ثروات الطبيعة .

وهذا ما تمّ فعلاً في الواقع المعاش ، إذ أصبح العمل المأجور والإنتاج الرأسمالي هو الأساس في استخراج وحيازة تلك المواد وعند هذا فقط يظهر بشكل بارز التناقض بين النظرية في الاقتصاد الإسلامي ، وبين الرأسمالية ، ويبدو لكلّ ممارس ـ ما لم يكن أعمى ـ : أنّ النظرية ليست ذات طبيعة رأسمالية ، وإلاّ فأيّ اقتصاد رأسمالي يحارب الأسلوب الرأسمالي في حيازة الثروات الطبيعية ؟‍‍‍!

وهكذا نجد أنّ إنسان عصر الإنتاج الرأسمالي الذي يملك الآلات التي تقطع كميات هائلة من خشب الغابات في ساعة ، وتوجد في محفظته النقود التي تغري المتعطّلين من العمّال بالعمل عنده ، واستخدام تلك الآلات في اقتطاع الخشب ، وتتوفّر لديه وسائط النقل التي تنقل تلك الكميات الضخمة إلى محلات البيع ، وتوجد بانتظاره الأسواق التي تهضم كلّ تلك الكميات إن هذا الفرد هو الذي سيشعر إذا عاش حياة إسلامية ، بمدى مناقضة النظرية في الإسلام لمبدأ الحرية الاقتصادية في الرأسمالية ، حينما لا تسمح له النظرية بإقامة مشروع رأسمالي لاقتطاع الخشب من الغابة ، وبيعه بأغلى الأثمان .

فالنظرية إذن لم تبرز وجهها من خلال التطبيق الذي عاشته ، والفرد الذي عاش تطبيقها لم يتجلّ له وجهها الكامل خلال المشاكل والعمليات التي مارسها في حياته ، وإنّما يبدو ذلك الوجه الكامل من خلال النصوص بصيغها العامة المحدّدة .

وأولئك الذين اعتقدوا بأنّ الاقتصاد الإسلامي رأسمالي يؤمن بالحرّيات الرأسمالية ، قد يكون لهم بعض العذر إذا كانوا قد استلهموا إحساسهم من خلال دراسة إنسان عصر التطبيق ، والقدر الذي كان يشعر به من الحرّية ، ولكنّ هذا إحساس خادع ؛ لأنّ إلهام التطبيق لا يكفي بدلاً عن معطيات النصوص التشريعية والفقهية نفسها ، التي تكتشف عن مضمون لا رأسمالي .

٣٥٢

وفي الواقع : أنّ الاعتقاد بوجود مضمون لا رأسمالي للنظرية الاقتصادية في الإسلام على ضوء ما قدمناه ليس نتيجة تطوير أو تطعيم أو عطاء ذاتي جديد للنظرية ، كما يقول أولئك المؤمنون برأسمالية الاقتصاد الإسلامي ، الذين يتّهمون الاتجاه إلى تفسير الاقتصاد الإسلامي اتجاهاً لا رأسمالياً ، ويقولون عنه : إنّه اتجاه منافق يحاول إدخال عناصر غريبة في الإسلام ، تملقاً للمدّ الفكري الحديث ، الذي شجب الرأسمالية في الحرّية والملكية .

ونحن نملك الدليل التأريخي على تفنيد هذا الاتهام ، وإثبات أمانة الاتجاه اللارأسمالي في تفسير الاقتصاد الإسلامي ، وهذا الدليل هو النصوص التشريعية والفقهية التي نجدها في مصادر قديمة يرجع تأريخها إلى ما قبل مئات السنين ، وقبل أن يوجد العالم الحديث والاشتراكية الحديثة بكلّ مذاهبها وأفكارها .

وحين نبرز الوجه اللارأسمالي للاقتصاد الإسلامي ، الذي يعرضه هذا الكتاب ، ونؤكّد على المفارقات بينه وبين المذهب الرأسمالي في الاقتصاد لا نريد بذلك أن نمنح الاقتصاد الإسلامي طابعاً اشتراكياً ، وندرجه في إطار المذاهب الاشتراكية بوصفها النقيض للرأسمالية ؛ لأنّ التناقض المستقطب القائم بين الرأسمالية والاشتراكية ، يسمح بافتراض قطب ثالث في هذا التناقض ، ويسمح للاقتصاد الإسلامي خاصة أن يحتلّ مركز القطب الثالث ، إذا أثبت من الخصائص والملامح والسمات ما يؤهّله لهذا الاستقطاب في معترك التناقض

وإنما يسمح التناقض بدخول قطب ثالث إلى الميدان لأنّ الاشتراكية ليست مجرّد نفي للرأسمالية ، حتى يكفي لكي تكون اشتراكياً أن ترفض الرأسمالية ، وإنّما هي مذهب إيجابيّ له أفكاره ومفاهيمه ونظريّاته وليس من الحتم أن تكون هذه الأفكار والمفاهيم والنظريّات صواباً إذا كانت الرأسمالية على خطأ ولا أن يكون الإسلام اشتراكياً إذا لم يكن رأسمالياً فليس من الأصالة والاستقلال والموضوعية في البحث ، ونحن نمارس عملية اكتشاف للاقتصاد الإسلامي ، أن نحصر هذه العملية ضمن نطاق التناقض الخاص بين الرأسمالية والاشتراكية ، ويندمج الاقتصاد الإسلامي بأحد القطبين المتناقضين ، فنسرع إلى وصفه بالاشتراكية إذا لم يكن رأسمالياً ، أو بالرأسمالية إذا لم يكن اشتراكياً .

٣٥٣

وسوف تتجلّى خلال البحوث المقبلة أصالة الاقتصاد الإسلامي ، ومناقضته للاشتراكية في موقفه من الملكيّة الخاصة واحترامه لها ، واعترافه ـ في حدود مستمدّة من نظرّيته العامة ـ بمشروعية الكسب الناتج عن ملكيّة مصدر من مصادر الإنتاج غير العمل بينما لا تعترف الاشتراكية بمشروعية الكسب الناتج عن ملكية أيّ مصدر من مصادر الإنتاج ، إلاّ العمل المباشر وهذا في الحقيقة هو التناقض بين النظرية الإسلامية والنظرية الاشتراكية في الاقتصاد وكلّ مظاهر التناقض بينهما إنّما تنبع من هذا المنطلق الذي سيتّضـح أكثر فأكثر حين نباشـر التفصيـلات ، ونضـع النقاط علـى الحـروف .

الكتاب الثاني ٢

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج

١ ـ الأحكام .

٢ ـ النظرية .

٣ ـ الملاحظات .

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج ١

الأحكام

توزيع الثروة على مستَوَيين .

مصادر الطبيعة للإنتاج

٣٥٤

توزيع الثروة على مستويين(١)

توزيع الثروة يتمّ على مستويين :

ـــــــــــــــ

(١) تتردّد في هذا الفصل عدّة مصطلحات ، يجب تحديد معناها منذ البدء :

أ ـ ( مبدأ الملكية المزدوجة ) وهو المبدأ الإسلامي في الملكية ، الذي يؤمن بأشكال ثلاثة لها وهي : الملكية الخاصة ، وملكية الدولة ، والملكية العامة .

ب ـ ( مِلكية الدولة ) : وتعني تملّك المنصب الإلهي في الدولة الإسلامية ، الذي يمارسه النبيّ أو الإمام ، للمال على نحوٍ يخوّل لولي الأمر التصرّف في رقبة المال نفسه وفقاً لما هو مسئول عنه من المصالح ، كـ : تملّكه للمعادن مثلاً .

ج ـ ( الملكية العامة ) : وهي تملّك الأمّة أو الناس جميعاً لمال من الأموال .

وكذلك تشمل الملكية العامة الأموال التي تكون رقبتها مِلكاً للدولة ولكن لا يسمح لها بالتصرف في رقبة المال نفسه ؛ لورود حقّ عام للأمة أو الناس جميعاً على المال يفرض الانتفاع به مع الاحتفاظ برقبته ، فالمركّب من ملكية الدولة والحقّ العام للأمّة أو للناس جميعاً في الاحتفاظ برقبة المال نطلق عليه اسم : ( الملكية العامة ) أيضاً ، وبهذا يعرف أنّ ملكية الدولة والملكية العامة كمصطلحين لهذا الكتاب يناظران تقريباً مصطلحي الأموال الخاصة للدولة والأموال العامة للدولة في لغة القانون الحديث د ـ ( ملكية الأمة ) : وهي نوع من الملكية العامة ، وتعني ملكية الأمة الإسلامية بمجموعها وامتدادها التأريخي لمال من الأموال ، كملكية الأمّة الإسلامية للأرض العامرة المفتوحة بالجهاد .

هـ ـ ( ملكية الناس ) : وهي أيضاً نوع من الملكية العامة ، ونطلق هذا الاسم على كلّ مالٍ لا يسمح لفردٍ أو جهةٍ خاصة بتملّكه ، ويسمح للجميع بالانتفاع به ، فما كان من هذا القبيل من الأموال نطلق عليه اسم : الملكية العامة للناس فالملكية العامة للناس في مصطلح هذا الكتاب تعني : أمراً سلبياً ، وهو عدم السماح للفرد أو الجهة الخاصة بتملّك المال وأمراً إيجابياً ، وهو : السماح للجميع بالانتفاع به ، وذلك كما في البحار والأنهار الطبيعية .

و ـ ( الملكية العامة ) أيضاً : وقد نطلق اسم الملكية العامة على ما يشمل الحقلين معاً ، حقل ملكية الدولة ، وحقل الملكية العامة المتقدّمين ؛ للتعبير بذلك عمّا يقابل الملكية الخاصة .

ز ـ ( الملكية الخاصة ) : ونعني بها حين نطلقها في هذا الكتاب ، اختصاص الفرد ـ أو أيّ جهة محدودة النطاق ـ بمال معيّن ، اختصاصاً يجعل له مبدئياً الحقّ في حرمان غيره من الانتفاع به ، بأيّ شكل من الأشكال ، ما لم توجد ضرورة وحالة استثنائية ، نظير ملكية الإنسان لِما يحتطبه من خشب الغابة أو يغترفه من ماء النهر .

ح ـ ( الحقّ الخاص ) : ونعني به حين نطلقه في هذا البحث : درجة من اختصاص الفرد بالمال تختلف عن الدرجة التي تعبّر عنها الملكية في مدلولها التحليل والتشريعي فالملكية : اختصاص مباشر بالمال والحق : اختصاص ناتج عن اختصاص آخر ، وتابع له في استمراره ومن الناحية التشريعية تؤدّي الملكية إلى إعطاء المالك حقّ حرمان غيره من الاستفادة بملكه ، بينما لا يؤدّي الحق الخاص إلى هذه النتيجة ، بل يبقى للغير الاستفادة من المال بشكل تنظّمه الشريعة ط ـ (الإباحة العامة ) : وهي حكم شرعي يُسمح بموجبه لأيّ فردٍ بالانتفاع بالمال وتملّكه ملكية خاصة والمال الذي تثبت فيه هذه الإباحة يعتبر من المباحات العامة ، كالطير في الجو ، والسمك في البحر (المؤلّفقدس‌سره )

٣٥٥

أحدهما : توزيع المصادر المادّية للإنتاج .

والآخر : توزيع الثروة المنتَجة .

فمصادر الإنتاج هي : الأرض ، والمواد الأولية ، والأدوات اللازمة لإنتاج السلع المختلفة ؛ لأنّ هذه الأمور جميعاً تساهم في الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو فيهما معاً .

وأمّاالثروة المنتجة فهي : السلع التي تنجز خلال عمل بشري مع الطبيعة ، وتنتج عن عملية تركيب بين تلك المصادر المادّية للإنتاج.

فهناك إذن ثروة أوليّة وهي : مصادر الإنتاج ، وثروة ثانوية وهي : ما يظفر به الإنسان عن طريق استخدام تلك المصادر ، من متاع وسلع .

والحديث عن التوزيع يجب أن يستوعب كلتا الثروتين : الثروة الأمّ ، والثروة البنت ، مصادر الإنتاج ، والسلع المنتجة .

ومن الواضح أن توزيع المصادر الأساسية للإنتاج يسبق عملية الإنتاج نفسها ؛ لأنّ الأفراد إنّما يمارسون نشاطهم الإنتاجي وفقاً للطريقة التي يقسّم بها المجتمع مصادر الإنتاج ، فتوزيع مصادر الإنتاج قبل الإنتاج وأمّا توزيع الثروة المنتَجة فهو مرتبط بعملية الإنتاج ، ومتوقّف عليها ؛ لأنّه يعالج النتائج التي يسفر عنها الإنتاج .

والاقتصاديون الرأسماليون ، حتى يدرسون في اقتصادهم السياسي قضايا التوزيع ضمن الإطار الرأسمالي لا ينظرون إلى الثروة الكلّية للمجتمع ، وما تضمّهمن مصادر إنتاج ، وإنما يدرسون توزيع الثروة المنتجة فحسب ، أيّ الدخل الأهلي لا مجموع الثروة الأهلية ويقصدون بالدخل الأهلي : مجموع السلع والخدمات المنتجة ، أو بتعبير أصرح : القيمة النقدية لمجموع المنتوج في بحر سنة مثلاً ، فبحث التوزيع في الاقتصاد السياسي هو بحث توزيع هذه القيمة النقدية على العناصر التي ساهمت في الإنتاج ، فيحدّد لكلّ من رأس المال ، والأرض ، والمنظّم ، والعامل ، نصيبه على شكل فائدة وريع ، وربح وأجور .

ولأجل ذلك كان من الطبيعي أن تسبق بحوث الإنتاج بحث التوزيع ؛ لأنّ التوزيع مادام يعني تقسيم القيمة النقدية للسلع المنتَجة على مصادر الإنتاج وعناصره ، فهو عملية تعقب الإنتاج ، إذ ما لم تنتج سلعة لا معنى لتوزيعها أو توزيع قيمتها. وعلى هذا الأساس نجد أنّ الاقتصاد السياسي يعتبر الإنتاج هو الموضوع الأوّل من مواضيع البحث ، فيدرس الإنتاج أوّلاً ، ثمّ يتناول قضايا التوزيع .

٣٥٦

وأمّا الإسلام فهو يعالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب أشمل ؛ لأنّه لا يكتفي بمعالجة توزيع الثروة المنتجة ، ولا يتهرّب من الجانب الأعمق للتوزيع ، أي : توزيع مصادر الإنتاج ، كما صنعت الرأسمالية المذهبية ، إذ تركت مصادر الإنتاج يسيطر عليها الأقوى دائماً ، تحت شعار الحرية الاقتصادية ، التي تخدم الأقوى وتمهّد له السبيل إلى احتكار الطبيعة ومرافقها ، بل إنّ الإسلام تدخّل تدخّلاً إيجابياً في توزيع الطبيعة ، وما تضمنه من مصادر إنتاج ، وقسّمها إلى عدّة أقسام ، لكلّ قسم طابعه المميّز من الملكية الخاصة ، أو الملكية العامة ، وملكية الدولة ، أو الإباحة العامة ووضع لهذا التقسيم قواعده ، كما وضع إلى صف ذلك أيضاً القواعد التي يقوم على أساسها توزيع الثروة المنتَجة ، وصمم التفصيلات في نطاق تلك القواعد .

ولهذا السبب تصبح نقطة الانطلاق ، أو المرحلة الأولى في الاقتصاد الإسلامي هي : التوزيع بدلاً من الإنتاج ، كما كان في الاقتصاد السياسي التقليدي ؛ لأنّ توزيع مصادر الإنتاج نفسها يسبق عملية الإنتاج ، وكل تنظيم يتّصل بنفس عملية الإنتاج أو السلع المنتجة يصبح في الدرجة الثانية .

وسوف نبدأ الآن بتحديد موقف الإسلام من توزيع المصادر الأساسية ، توزيع الطبيعة بما تضمّه من ثروات .

المصدر الأصيل للإنتاج :

وقبل أن نبدأ بالتفصيلات التي يتمّ توزيع المصادر الأساسية وفقاً لها ، يجب أن نحدّد هذه المصادر.

ففي الاقتصاد السياسي يذكر عادة أنّ مصادر الإنتاج هي :

١ ـ الطبيعة .

٢ ـ رأس المال .

٣ ـ العمل ، ويضمّ التنظيم الذي يمارسه المنظّم للمشروع .

غير أنّنا إذ نتحدّث عن توزيع المصادر في الإسلام وأشكال ملكيّتها لا بدّ لنا أن نستبعد من مجال البحث المصدرين الأخيرين ، وهما : رأس المال ، والعمل .

٣٥٧

أمّا رأس المال فهو في الحقيقة ثروة منتجة ، وليس مصدراً أساسياً للإنتاج ، لأنّه يعبّر اقتصادياً عن كلّ ثروة تمّ إنجازها وتبلورت خلال عمل بشري لكي تساهم من جديد في إنتاج ثروة أخرى فالآلة التي تنتج النسيج ليست ثروة طبيعية خالصة ، وإنّما هي مادّة طبيعية كيّفها العمل الإنساني خلال عملية إنتاج سابقة ونحن إنّما نبحث الآن في التفصيلات التي تنظم توزيع ما قبل الإنتاج ، أي توزيع الثروة التي منحها الله لمجتمع قبل أن يمارس نشاطاً اقتصادياً وعملاً إنتاجياً فيها ومادام رأس المال وليد إنتاج سابق ، فسوف يندرج توزيعه في بحث توزيع الثروة المنتجة ، بما تضمّه من سلع استهلاكية وإنتاجية .

وأمّا العمل فهو العنصر المعنوي من مصادر الإنتاج ، وليس ثروة مادّية تدخل في نطاق الملكية الخاصة أو العامة .

وعلى هذا الأساس تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الإنتاج موضوع درسنا الآن ؛ لأنّها تمثّل العنصر المادّي السابق على الإنتاج .

اختلاف المواقف المذهبية من توزيع الطبيعة :

والإسلام في علاجه لتوزيع الطبيعة يختلف عن الرأسمالية والماركسية في العموميات وفي التفاصيل فالرأسمالية تربط ملكية مصادر الإنتاج ، ومصير توزيعها ، بأفراد المجتمع أنفسهم ، وما يبذله كلّ واحد منهم من طاقات وقوى ـ داخل نطاق الحرية الاقتصادية الموفّرة للجميع ـ في سبيل الحصول على أكبر نصيب ممكن من تلك المصادر ، فتسمح لكلّ فردٍ بتملّك ما ساعده الحظّ وحالفه التوفيق على الظفر به ، من ثروات الطبيعة ومرافقها .

وأمّا الماركسية فهي ترى تبعاً لطريقتها العامة في تفسير التأريخ : أنّ ملكية مصادر الإنتاج تتّصل اتصالاً مباشراً بشكل الإنتاج السائد ، فكلّ شكل من أشكال الإنتاج هو الذي يقرّر ـ في مرحلته التأريخية ـ طريقة توزيع المصادر المادّية للإنتاج ، ونوع الأفراد الذين يجب أن يملكوها ويظلّ هذا التوزيع قائماً حتى يدخل التأريخ في مرحلة أخرى ، ويتّخذ الإنتاج شكلاً جديداً ، فيضيق هذا الشكل الجديد ذرعاً بنظام التوزيع السابق ويتعثّر به في طريق نموّه وتطوّره ، حتى يتمزّق نظام التوزيع القديم بعد تناقض مريرٍ مع شكل الإنتاج الحديث ، وينشأ توزيع جديد لمصادر الإنتاج ، يحقّق لشكل الإنتاج الحديث الشروط الاجتماعية التي تساعده على النموّ والتطوّر فتوزيع مصادر الإنتاج يقوم دائماً على أساس خدمة الإنتاج نفسه ، ويتكيّف وفقاً لمتطلّبات نموّه وارتقائه .

٣٥٨

ففي مرحلة الإنتاج الزراعي من التأريخ كان شكل الإنتاج يحتّم إقامة توزيع المصادر على أساس إقطاعي ، بينما تفرض المرحلة التأريخية للإنتاج الصناعي الآلي إعادة التوزيع من جديد على أساس امتلاك الطبقة الرأسمالية لكلّ مصادر الإنتاج ، وفي درجة معيّنة من نموّ الإنتاج الآلي يصبح من المحتوم تبديل الطبقة الرأسمالية بالطبقة العاملة ، وإعادة التوزيع على هذا الأساس .

والإسلام لا يتّفق في مفهومه عن توزيع ما قبل الإنتاج مع الرأسمالية ، ولا مع الماركسية فهو لا يؤمن بمفاهيم الرأسمالية عن الحرّية الاقتصادية ، كما مرّ بنا في بحث (مع الرأسمالية ) وكذلك لا يقرّ الصلة الحتمية ، التي تضعها الماركسية بين ملكية المصادر وشكل الإنتاج السائد ، كما رأينا في بحث (اقتصادنا في معالمه الرئيسية ) وهو لذلك يحدّ من حرّية تملّك الأفراد لمصادر الإنتاج ، ويفصل توزيع تلك المصادر عن شكل الإنتاج ؛ لأنّ المسألة في نظر الإسلام ليست مسألة أداة إنتاج تتطلّب نظاماً للتوزيع يلائم سيرها ونموّها ، لكي يتغيّر التوزيع كلّما استجدّت حاجة الإنتاج إلى تغيير ، وتوقف نموّه على توزيع جديد ، وإنّما هي مسألة إنسان له حاجات وميول يجب إشباعها في إطار يحافظ على إنسانيّته وينمّيها والإنسان هو الإنسان ، بحاجاته العامة وميوله الأصيلة ، سواء كان يحرث الأرض بيديه ، أو يستخدم قوى البخار والكهرباء ، ولذا يجب أن يتمّ توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج بشكل يكفل إشباع تلك الحاجات والميول ، ضمن إطار إنساني يتيح للإنسان أن ينمّي وجوده وإنسانيته داخل الإطار العام .

فكلّ فردٍ ـ بوصفه إنساناً خاصاً ـ له حاجات لا بدّ من إشباعها ، وقد أتاح الإسلام للأفراد إشباعها عن طريق الملكية الخاصة التي أقرّها ووضع لها أسبابها وشروطها .

وحين تقوم العلاقات بين الأفراد ، ويوجد المجتمع ، يكون لهذا المجتمع حاجاته العامة أيضاً التي تشمل كلّ فرد بوصفه جزءاً من المركب الاجتماعي ، وقد ضمن الإسلام للمجتمع إشباع هذه الحاجات ، عن طريق الملكية العامة لبعض مصادر الإنتاج .

وكثيراً ما لا يتمكّن بعض الأفراد من إشباع حاجاتهم عن طريق الملكية الخاصة فيُمنى هؤلاء بالحرمان ، ويختلّ التوازن العام ، وهنا يضع الإسلام الشكل الثالث للملكية ، ملكية الدولة ، ليقوم ولي الأمر بحفظ التوازن العام .

وهكذا يتمّ توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج ، بتقسيم هذه المصادر إلى حقول الملكية الخاصة ، والملكية العامة ، وملكية الدولة .

٣٥٩

مصادر الطبيعة للإنتاج :

ويمكننا تقسيم المصادر الطبيعية للإنتاج في العالم الإسلامي إلى عدّة أقسام :

١ ـ الأرض : وهي أهمّ ثروات الطبيعة ، التي لا يكاد الإنسان يستطيع بدونها أن يمارس أيّ لون من ألوان الإنتاج .

٢ ـ المواد الأولية التي تحويها الطبقة اليابسة من الأرض ، كالفحم والكبريت والبترول والذهب والحديد ، ومختلف أنواع المعادن .

٣ ـ المياه الطبيعية التي تعتبر شرطاً من شروط الحياة المادّية للإنسان ، وتلعب دوراً خطيراً في الإنتاج الزراعي والمواصلات .

٤ ـ بقية الثروات الطبيعية ، وهي محتويات البحار والأنهار من الثروات التي تستخرج بالغوص أو غيره، كاللآليء والمرجان ، والثروات الطبيعية التي تعيش على وجه الأرض من حيوان ونبات ، والثروات الطبيعية المنتشرة في الجو، كالطيور والأوكسجين ، والقوى الطبيعية المنبثّة في أرجاء الكون ، كقوة انحدار الشلالات من الماء التي يمكن تحويلها إلى تيّار كهربائي ، ينتقل بواسطة الأسلاك إلى أيّ نقطة ، وغير ذلك من ذخائر الطبيعة وثروتها .

[١] الأرض

طبّقت الشريعة على الأراضي التي تضمّها دار الإسلام الأشكال الثلاثة للملكية ، فحكمت على قسم منها بالملكية العامة ، وعلى قسم آخر بملكية الدولة ، وسمحت للملكية الخاصة بقسم ثالث .

وهي في تشريعاتها هذه تربط نوع ملكية الأرض بسبب دخولها في حوزة الإسلام ، والحالة التي كانت تسودها حين أصبحت أرضاً إسلامية فملكية الأرض في العراق تختلف عن ملكية الأرض في إندونيسيا ؛ لأنّ العراق وإندونيسيا يختلفان في طريقة انضمامها إلى دار الإسلام ، كما أنّ العراق نفسه ـ مثلاً ـ تختلف بعض أراضيه عن بعض في نوع الملكية ، تبعاً للحالة التي كانت تسود هذه الأرض وتلك عندما دشّن العراق حياته الإسلامية .

٣٦٠