اقتصادنا

اقتصادنا7%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152587 / تحميل: 9465
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وبالرغم من أن الله فتح أمامهم أبواب الرحمة ، ولو أردوا اغتنام الفرصة لاستطاعوا حتما إصلاح ماضيهم وحاضرهم ، ولكن لم يغتنم الظالمين من بني إسرائيل هذه الفرصة فحسب ، بل بدّلوا أمر الله ، وقالوا خلاف ما أمروا أن يقولوه :( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) .

وفي المآل نزل عليهم بسبب هذا الطغيان والظلم للنفس وللآخرين عذاب من السماء( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ مضمون هاتين الآيتين جاء أيضا ـ مع فارق بسيط ـ في سورة البقرة الآية (58) و (59) وقد أوردنا تفسيرا أكثرا تفصيلا هناك.

والفرق الوحيد بين هذه الآيات المبحوثة هنا ، وآيات سورة البقرة هو أنّه يقول هنا :( بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) ، وقال هناك :( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) ، ولعل الفارق بين هذين إنما هو لأجل أن الذنوب لها جانبان : أحدهما الجانب المرتبط بالله ، والجانب الآخر مرتبط بنفس الإنسان. وقد أشار القرآن إلى الجانب الأوّل في آية سورة البقرة بعبارة «الفسق» الذي مفهومه الخروج عن طاعة الله ، وإلى الثّاني في الآية الحاضرة بعبارة «الظلم».

ما هي «حطّة» وماذا تعني؟

الجدير بالذكر أن بني إسرائيل كانوا مكلّفين بأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم عند دخولهم بيت المقدس من أدران الذنوب بتوبة خالصة وواقعية تتلخص في كلمة «حطّة» وأن يطلبوا من الله المغفرة لكل تلك الجرائم التي ارتكبوها ، وبخاصّة ما آذوا به نبيّهم العظيم موسى بن عمران قبل ورودهم بيت المقدس.

وكلمة «حطّة» التي كانت ـ في الحقيقة ـ شعارهم عند دخولهم بيت المقدس ، هي صورة اختصارية لعبارة «مسألتنا حطّة» يعني نطلب منك يا ربّ أن تحطّ عنّا ذنوبنا بإنزال شآبيب الرحمة والعفو علينا ، لأنّ «حطّة» معناها إنزال

٢٦١

الشيء من علو وهذا الشعار شأنه شأن جميع الشعارات الأخرى لا يكفي فيه أن يكون مجرّد لقلقة لسان ، بل يجب أن يكون اللسان ترجمان الروح ومرآة الوجدان ، ولكنّهم ـ كما سيأتي في الآية اللاحقة ـ مسخوا كثيرا من تلك الشعارات حتى هذا الشعار التربوي ، وجعلوه وسيلة للهو والاستهزاء والسخرية.

* * *

٢٦٢

الآيات

( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) )

التّفسير

قصّة فيها عبرة :

في هذه الآيات يستعرض مشهدا آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث ، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أن الخطاب موجه فيها إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول له : اسأل يهود

٢٦٣

عصرك حول تلك الجماعة ، يعني جدّد هذه الخاطرة في أذهانهم عن طريق السؤال ليعتبروا بها ، ويجتنبوا المصير والعقاب الذي ينتظرهم بسبب طغيانهم وتعنتهم.

إنّ هذه القصّة ـ كما أشير إليها في الأحاديث الإسلامية ـ ترتبط بجماعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون عند ساحل أحد البحار (والظاهر أنّه ساحل البحر الأحمر المجاور لفلسطين) في ميناء يسمى بميناء «أيلة» (والذي يسمى الآن بميناء ايلات) وقد أمرهم الله تعالى على سبيل الاختبار والامتحان أن يعطّلوا صيد الأسماك في يوم السبت ، ولكنّهم خالفوا هذا التعليم ، فأصيبوا بعقوبة موجعة مؤلمة نقرأ شرحها في هذه الآيات.

في البداية تقول الآية :( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ) . أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.

ثمّ تقول : وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا ـ في يوم السبت ـ القانون الإلهي( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ) لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم ، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب ، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة ، ولكنّهم تجاهلوا هذا الأمر.

ثمّ يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبادة التالية :( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ) فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت ، بينما كانت تختفي في غيره من الأيّام.

و «السبت» في اللغة تعني تعطيل العمل للاستراحة ، وما نقرؤه في سورة النبأ( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) أشارة ـ كذلك ـ إلى هذا الموضوع ، وسمّى «يوم السبت» بهذا الاسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم ، ثمّ بقي هذا الاسم لهذا اليوم علما له.

ومن البديهي أنّ صيد الأسماك يشكّل لدى سكنة ساحل البحر مورد كسبهم وتغذيتهم ، وكأنّ الأسماك بسبب تعطيل عملية الصيد في يوم السبت صارت

٢٦٤

تحس بنوع من الأمن من ناحية الصيادين ، فكانت تظهر على سطح الماء أفواجا أفواجا ، بينما كانت تتوغل بعيدا في البحر في الأيّام الأخرى التي كان الصيّادون فيها يخرجون للصيد.

إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي ، كان وسيلة لامتحان واختبار هذه الجماعة ، لهذا يقول القرآن الكريم : وهكذا اختبرناهم بشيء يخالفونه ويعصون الأمر فيه( كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) إشارة إلى أنّ اختبارهم كان بما من شأنه أن يجذبهم ويدعوهم إلى نفسه ، وإلى المعصية والمخالفة ، وجميع الاختبارات كذلك ، لأن الاختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.

عند ما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الامتحان الكبير الذي كان متداخلا مع حياتهم تداخلا كاملا ، انقسموا إلى ثلاث فرق :

«الفريق الأوّل» وكانوا يشكّلون الأكثرية ، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإلهي.

«الفريق الثّاني» وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية ، وهم الذين قاموا ـ تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

«الفريق الثّالث» وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة ، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي الآية الثّانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين العصاة ، وبين الذين نهوهم عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول :( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ

٢٦٥

مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) (1) .

فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر : بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدي واجبنا تجاه الله تعالى ، وحتى لا نكون مسئولين تجاهه ، هذا مضافا إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم ، ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم( قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّ هؤلاء الواعظين كانوا يفعلون ذلك بهدفين : الأوّل : أنّهم كانوا يعظون العصاة حتى يكونوا معذورين عند الله.

والآخر : عسى أن يؤثروا في نفوس العصاة ، ويفهم من هذا الكلام أنّهم حتى مع عدم احتمال التأثير ، فإنّهم كانوا لا يحجمون عن الوعظ والنصيحة في حين أن المعروف هو أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطين باحتمال التأثير.

ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإلهية حتى مع عدم احتمال التأثير ، وذلك عند ما يكون عدم بيان الأحكام الإلهية ، وعدم إنكار المنكر سببا لتناسي وتنامي البدع ، وحينما يعدّ السكوت دليلا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.

إنّ هذه النقطة جديرة بالالتفات ، وهي أنّ الناهين عن المنكر كانوا يقولون : نحن نريد أن نكون معذورين عند (ربّكم) وكأنّ هذا إشارة إلى أنّكم أيضا مسئولون أمام الله ، وإنّ هذه الوظيفة ليست وظيفتنا فقط ، بل هي وظيفتكم تجاه ربّكم في الوقت ذاته.

__________________

(1) التعبير بـ «أمّة منهم» يكشف عن أن الفريق الثّاني كانوا أقلّ من العصاة ، لأنّه عبّر عنهم بلفظة «قوما» بدون كلمة منهم) وتقرأ في بعض الآيات أنّ عدد نفوس هذه المدينة كان ثمانين ألف وبضعة آلاف ، وقد ارتكب 70 ألفا منهم هذه المعصية (راجع تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 42).

٢٦٦

ثمّ إنّ الآية اللاحقة تقول : وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم ، وتناسوا الأمر الإلهي ، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر ، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم منهم بسبب فسقهم وعصيانهم( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (1) .

ولا شك أنّ هذا النسيان ليس نسيانا حقيقيا غير موجب للعذر ، بل هو نوع من عدم الاكتراث والاعتناء بأمر الله ، وكأنّه قد نسي بالمرّة.

ثمّ يشرح العقوبات هكذا :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (2) .

وواضح أن أمر «كونوا» هنا أمر تكويني مثل :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) .

* * *

بحوث

وهنا نقاط عديدة يجب الالتفات إليها :

1 ـ كيف ارتكبوا هذه المعصية؟

وأمّا كيف بدأت هذه الجماعة عملية التجاوز على هذا القانون الإلهي؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين.

__________________

(1) بئيس مشتقة من مادة «بأس» يعني الشديد.

(2) «عتوا» من مادة عتّو على وزن «غلوّ» بمعنى الامتناع عن طاعة أمر ، وما ذكره بعض المفسّرين من تفسيره بمعنى الامتناع فقط يخالف ما قاله أرباب اللغة.

(3) سورة يس ، 28.

٢٦٧

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّهم عمدوا في البداية إلى ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فقد أحدثوا أحواضا إلى جانب البحر ، وفتحوا لها أبوابا إلى البحر ، فكانوا يفتحون هذه الأبواب في يوم السبت فتقع فيها أسماك كثيرة مع ورود الماء إليها ، وعند الغروب حينما كانت الأسماك تريد العودة إلى البحر يوصدون تلك فتحبس الأسماك في تلك الأحواض ، ثمّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدها ، وأخذها من الأحواض ، وكانوا يقولون : إنّ الله أمرنا أن لا نصيد السمك ، ونحن لم نصد الأسماك إنّما حاصرناها فقط(1) .

ويقول بعض المفسّرين : إنّهم كانوا يرسلون كلاليبهم وصناراتهم وشباكهم في البحر يوم السبت ، ثمّ يسحبونها يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك ، وهكذا كانوا يصيدون السمك حتى في يوم السبت ولكن بصورة ما كرة.

ويظهر من بعض الرّوايات الأخرى أنّهم كانوا يصيدون السمك يوم السبت من دون مبالاة بالنهي الإلهي ، وليس بواسطة أية حيلة.

ولكن من الممكن أن تكون هذه الرّوايات صحيحة بأجمعها وذلك أنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية ، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر ، أو إلقاء الكلاليب والصنارات ، ثمّ لما صغرت هذه المعصية في نظرهم ، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السب وحرمته ، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجا وعلنا ، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جدا.

2 ـ من هم الذين نجوا؟

الظاهر من الآيات الحاضرة أنّ فريقا واحدا من الفرق الثلاثة (العصاة ، المتفرجون ، الناصحون) هو الذي نجى من العذاب الإلهي وهم افراد الفريق

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد 2 ، الصفحة 22 ، وقد روي هذا الكلام عن ابن عباس في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية.

٢٦٨

الثّالث.

وكما جاء في الرّوايات ، فإنّه عند ما رأى هذا الفريق أن عظاته ونصائحه لا تجدي مع العصاة انزعجوا وقالوا : سنخرج من المدينة ، فخرجوا إلى الصحراء ليلا ، واتفق أن أصاب العذاب الإلهي كلا الفريقين الآخرين.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ العصاة هم الذين أصيبوا بالعذاب فقط ، ونجى الساكتون أيضا ، فهو لا يتناسب مع ظاهر الآيات الحاضرة.

3 ـ هل أنّ كلا الفريقين عوقبوا بعقاب واحد

يظهر من الآيات الحاضرة أنّ عقوبة المسخ كانت مقتصرة على العصاة ، لأنّه تعالى يقول :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْه ) ولكن من جانب آخر يستفاد من الآيات الحاضرة ـ أيضا ـ أنّ الناصحين الواعظين فقط هم الذين نجوا من العقاب ، لأنّه تعالى يقول :( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) .

من مجموع هاتين الآيتين يتبيّن أنّ العقوبة نالت كلا الفريقين ، ولكن عقوبة المسخ اختصت بالعصاة فقط ، وأمّا عقوبة الآخرين فمن المحتمل أنّها كانت الهلاك والفناء ، بالرغم من أن العصاة أيضا هلكوا بعد مدّة من المسخ حسب ما جاء في هذا الصدد من الرّوايات.(1)

4 ـ هل المسخ كان جسمانيا أو روحانيا؟

«المسخ» أو بتعبير آخر «تغيير الشكل الإنساني إلى الصورة الحيوانية» ومن المسلّم أنّه حدث على خلاف العادة والطبيعة.

على أنّه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة ، وتغيير الشكل

__________________

(1) وإذا كان يستفاد من بعض الرّوايات خلاف هذا الموضوع ، فإنّه مضافا إلى أنّه لا يمكن الاعتماد عليه في مقابل ظاهر الآيات فإنّما ضعيفة من حيث السند أيضا ، ويحتمل أن يكون الراوي قد أخطأ في نقل الرواية.

٢٦٩

والصورة في الحيوانات إلى أشكال وصور أخرى ، وقد شكّلت أسس فرضية التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة.

ولكنّ الموارد التي شوهدت فيها ال «موتاسيون» والقفزة إنّما هي في صفات الحيوانات الجزئية ، لا الصفات الكليّة ، يعني أنّه لم يشاهد إلى الآن نوعا من أنواع الحيوان تغيّر على أثر ال «موتاسيون» إلى نوع آخر ، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوان ، ناهيك عن أنّ هذه التغييرات إنّما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل ، لا أن يحصل هذا التغيير في الحيوان يتولد من أمّه.

وعلى هذا الأساس ، يكون تغير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمرا خارقا للعادة.

ولكن تقدم أنّ هناك أمورا تحدث على خلاف العادة والطبيعة ، وهذه الأمور ربّما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، وأحيانا تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر من بعض الأشخاص ، وإن لم يكونوا أنبياء (وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعا).

وبناء على هذا ، وبعد القبول بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادة ، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر. ولا يكون ذلك مستحيلا تأباه العقول.

ووجود مثل هذه الخوارق للعادة ـ كما قلنا في مبحث إعجاز الأنبياء ـ لا هو استثناء وخرق لقانون العلية ، ولا هو خلاف العقل ، بل هو مجرّد كسر قضية «عاديّة طبيعيّة» في مثل هذه الموارد ، ولها نظائر رأيناها في الأشخاص غير العاديين(1) .

__________________

(1) لقد جمع أحد الكتّاب المعاصرين نماذج كثيرة ـ من مصادر موثوقة ـ لأشخاص من البشر أو حيوانات استثنائيّة ، ملفتة للنظر ومثيرة للعجب ، ومن جملة ذلك : إنسان يستطيع قراءة السطور بأصابعه ، أو امرأة وضعت مرتين في خلال شهرين ، وفي كل مرة ولدت ولدا ، أو طفلا كان قلبه خارج صدره ، أو امرأة لم تكن تعرف أنّها حامل حتى لحظة وضعها لوليدها ، وما شابه ذلك.

٢٧٠

بناء على هذا لا مانع من قبول «المسخ» على ما هو عليه في معناه الظاهري الوارد في الآية الحاضرة وبعض الآيات القرآنية الأخرى ، وأكثر المفسّرين قبلوا هذا التّفسير أيضا.

ولكن بعض المفسّرين ـ وهم الأقليّة ـ قالوا : إنّ المسخ هو «المسخ الروحاني» والانقلاب في الصفات الأخلاقية ، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين ، مثل الإقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة ، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. وهذا الاحتمال نقل عن أحد المفسّرين القدامى وهو مجاهد.

وما أخذه البعض على مسألة المسخ ، وأنّه خلاف التكامل ، وأنّه يوجب العودة والرجوع والتقهقر في الخلقة غير صحيح ، لأنّ قانون التكامل يرتبط بالذين يسيرون في طريق التكامل ، لا أولئك الذين انحرفوا عن مسيرة التكامل ، وخرجوا عن دائره هذا القانون.

فعلى سبيل المثال : الإنسان السليم ينمو نموا منتظما في أعوام الطفولة ، ولكنّه إذا حصلت في وجوده بعض النقائص ، فيمكن أن لا يتوقف الرشد والنمو فحسب ، بل يتقهقر ويفقد نموه الفكري والجسماني تدريجا.

ولكن يجب الانتباه على كل حال إلى أنّ المسخ والتبدل والتحول الجسماني يتناسب مع الأعمال التي قام بها الشخص ، يعني أنّ بعض العصاة يسلكون سبيل الطغيان تحت ضغط من دوافع الهوى والشهوة ، وجماعة أخرى تتلوث حياتهم بأدران الذنوب أثر التقليد الأعمى ، ولهذا يظهر المسخ في كل فريق من هذه الفرق بصورة متناسبة مع كيفية أعمالهم.

على أنّه قد جرى الحديث في الآيات الحاضرة فقط عن «القردة» ولم يجر أي حديث عن «الخنازير» ولكن في الآية (60) من سورة المائدة يدور الحديث حول جماعة مسخ بعضهم في صورتين (بعض قردة وبعض خنازير) وهذه الآية

٢٧١

حسبما قال بعض المفسّرين : نزلت حول أصحاب السبت ، فالكبار منهم الذين أطاعوا أمر الشهوة والبطن مسخوا خنازير ، والشباب المقلد لهم تقليدا أعمى وكانوا يشكلون الأكثرية مسخوا قردة.

ولكن على كل حال يجب الالتفات إلى أنّ الممسوخين ـ حسب الرّوايات ـ بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا ، ولم يتولد منهم نسل أبدا.

5 ـ المخالفة تحت غطاء الحيلة الشّرعية

إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت لا تتضمّن الإشارة إلى تحايل أصحاب السبت في صعيد المعصية ، ولكن ـ كما أسلفنا ـ أشار كثير من المفسّرين في شرح هذه الآيات إلى قصّة حفر الأحواض ، أو نصب الصنارات في البحر في يوم السبت ، ويشاهد هذا الموضوع نفسه في الرّوايات الإسلامية ، وبناء على هذا تكون العقوبة الإلهية التي جرت على هذا الفريق ـ بشدة ـ تكشف عن أن الوجه الحقيقي للذنب لا يتغير أبدا بانقلاب ظاهره ، وباستخدام ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فالحرام حرام سواء أتي به صريحا ، أو تحت لفافات كاذبة ، ومعاذير واهية.

إنّ الذين تصوروا أنّه يمكن بالتغيير الصوري تبديل عمل حرام إلى حلال يخدعون أنفسهم في الحقيقة ، ومن سوء الحظ أن هذا العمل رائج بين بعض الغفلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الدين وهذا هو الذي يشوّه وجه الدين في نظر الغرباء عن الدين ، ويكرّهه إليهم بشدّة.

إن العيب الأكبر الذي يتسم به هذا العمل ـ مضافا إلى تشويه صورة الدين ـ هو أن هذا العمل التحايلي يصغر الذنب في الأنظار ويقلّل من أهميته وخطورته وقبحه ، ويجرّئ الإنسان في مجال الذنب إلى درجة أنّه يتهيأ شيئا فشيئا لارتكاب الذنوب والمعاصي بصورة صريحة وعلينة. فنحن نقرأ في نهج البلاغة

٢٧٢

أنّ الإمام عليّاعليه‌السلام قال : «إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربّهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ(1) والسحت بالهدية ، والربا بالبيع» (الخطبة 156).

ويجب الانتباه إلى الدافع وراء أمثال هذه الحيل ، إمّا إلباس الباطن القبيح بلباس قشيب وإظهاره بمظهر حسن أمام الناس ، وإمّا خداع الضمير ، واكتساب طمأنينة نفسية كاذبة.

6 ـ أنواع الابتلاء الإلهي المختلفة

صحيح أنّ صيد السمك من البحر لسكان السواحل لم يكن مخالفة ، ولكن قد ينهي الله جماعة من الناس وبصورة مؤقّتة ، وبهدف الاختبار والامتحان عن مثل هذا العمل ، ليرى مدى تفانيهم ، ويختبر مدى إخلاصهم ، وهذا هو أحد أشكال الامتحان الإلهي.

هذا مضافا إلى أنّ يوم السبت كان عند اليهود يوما مقدسا ، وكانوا قد كلّفوا ـ احتراما لهذا اليوم بالتفرغ للعبادة وممارسة البرامج الدينية ـ والكف ـ عن الكسب والإشتغال بالأعمال اليومية ، ولكن سكان ميناء «أيلة» تجاهلوا كلّ هذه الاعتبارات والمسائل ، فعوقبوا معاقبة شديدة جعلت منهم ومن حياتهم المأساوية ومصيرهم المشؤوم درس وعبرة للأجيال اللاحقة.

* * *

__________________

(1) كان النبيذ عبارة عن وضع مقدار من التمر أو الشعير أو الزبيب في الماء ، عدّة أيّام ، ثمّ شربه وهذا وإن لم يكن حراما شرعا ، ولكنّه على أثر سخونة الهواء تتبدل المواد السكرية فيه إلى مواد كحولية خفيفة.

٢٧٣

الآيتان

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) )

التّفسير

تفرق اليهود وتشتتهم :

هذه الآيات إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر الله تعالى ، وسحقت الحق والعدل والصدق.

فيقول في البداية : واذكروا يوم أخبركم الله بأنّه سيسلّط على هذه الجماعة العاصية المتمردة فريقا يجعلها حليفة العذاب والأذى إلى يوم القيامة( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «تأذّن» و «أذّن» كلاهما بمعنى الإخبار والإعلام ، وكذا جاء بمعنى الحلف والقسم ، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية أنّ الله تعالى أقسم بأن يكون مثل

٢٧٤

هؤلاء الأشخاص في العذاب إلى يوم القيامة.

ويستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الاستقرار والطمأنينة أبدا ، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة ، فإنّها مع ذلك ستعيش حالة اضطراب دائم وقلق مستمر ، إلّا أن تغيّر ـ بصدق ـ سلوكها ، وتكفّ عن الظلم والفساد.

وفي ختام الآية يضيف تعالى قائلا :( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فبالنسبة إلى الكفار سريع العقاب ، وبالنسبة للمذنبين التائبين التائبين غفور رحيم.

وهذه الجملة تكشف عن أنّ الله قد ترك الباب مفتوحا أمامهم حتى لا يظن أحد أنّه قد كتب عليهم المصير المحتوم والشقاء الابدي الذي لا خلاص منه.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى تفرق اليهود في العالم فيقول :( وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ) فهم متفرقون منقسمون على أنفسهم بعضهم صالحون ، ولهذا عند ما سمعوا بنداء الإسلام وعرفوا دعوة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمنوا به ، وبعضهم لم يكونوا كذلك بل ألقوا الحق وراءهم ظهريا ، ولم يرتدعوا عن معصية في سبيل ضمان مصالحهم وحياتهم المادية.

ومرّة أخرى تتجلى هذه الحقيقة في هذه الآية وهي أنّ الإسلام لا يعادي العنصر اليهودي ، ولا يشجبهم لكونهم أتباع دين معيّن ، أو منتمين إلى عنصر وعرق معيّن ، بل يجعل أعمالهم هي مقياس تقييمهم.

ثمّ يضيف تعالى قائلا :( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

أي ربّما نكرمهم ونجعلهم في رفاه ونعمة حتى نثير فيهم روح الشكر ، ويعودوا إلى طريق الحق. وربّما نغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتى ينزلوا عن مركب الغرور والأنانية والتكبر ، ويقفوا على عجزهم ، لعلهم يستيقظون

٢٧٥

ويعودون إلى الله ، والهدف في كلتا الحالتين هو التربية والهداية والعودة إلى الحق.

وعلى هذا الأساس تشمل «الحسنات» كل نعمة ورفاه واستقرار ، كما تشمل «السيئات» كل نقمة وشدة ، وحصر هذين المفهومين في دائر ضيّقة معيّنة لا دليل عليه.

* * *

٢٧٦

الآيتان

( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) )

التّفسير

في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود ، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.

وفي البداية يقول تعالى :( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى ) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم ، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا ، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه ، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.

و «خلف» على وزن «حرف» يأتي غالبا في الأولاد غير الصالحين ـ كما

٢٧٧

ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين ، في حين أنّ «الخلف» على وزن «شرف» يأتي بمعنى الولد الصالح(1) .

ثمّ يضيف قائلا : وعند ما وقعوا بين مفترق طريقين : بين ضغط الوجدان من جهة ، والرغبات والمنافع المادية من جهة أخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا : لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواء من حلال أو حرام ، والله سيرحمنا ويغفر لنا( وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ) .

إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية ، ولكن هذه الندامة ـ كما يقول القرآن الكريم ـ لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم ، ولهذا يقول تعالى :( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) .

و «عرض» على وزن «غرض» يعني الشيء الذي لاثبات له ولا دوام ، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض ، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب ، فهو يقصد الإنسان يوما ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإنسان حسابه ولا يعود قادرا على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره ، يوما آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلّا الحسرة والتذكر المؤلم ، هذا مضافا إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساسا غير دائمة ، وغير ثابته(2) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الارتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية ، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.

ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك :( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا

__________________

(1) مجمع البيان ، وتفسير ابن الفتوح الرازي ، في ذيل الآية الحاضرة.

(2) يجب الانتباه ، إلى أن «عرض» على وزن «غرض» يختلف عن «عرض» على وزن (فرض) فالأول بمعنى كل رأس مال دنيوي ، والثاني بمعنى المال النقدي.

٢٧٨

يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ ) أي أنّهم أخذ عليهم الميثاق ـ بواسطة كتابهم السماوي التوراة ـ أن لا يفتروا على الله كذبا ، ولا يحرفوا كلماته ، ولا يقولوا إلّا الحق.

ثمّ يقول : لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإلهية ، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذارا ، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مرارا وفهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها ، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم( وَدَرَسُوا ما فِيهِ ) . و «الدرس» في اللغة يعني تكرار شيء ، وحيث أن الإنسان عند المطالعة ، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع ، لهذا أطلق عليه لفظ «الدرس» وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة «درس والاندراس» على انمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية ، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.

وفي ختام الآية يقول : إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأمور ، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعا( وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) .

ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟؟

وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقا يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإلهية وكتمانها فحسب ، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفا بحرف ، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم ، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم ، ويقول عنهم :( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) .

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من «الكتاب» وهل أنّه التوراة أو القرآن الكريم؟ بعض ذهب إلى الأوّل ، وبعض إلى الثّاني. والظاهر أنّه إشارة إلى فريق من بني إسرائيل الذين انفصلوا عن الضالين الظالمين ، وعاكسوهم فى سلوكهم وموقفهم. ولا شك أن التمسك بالتوراة والإنجيل وما فيهما من بشائر

٢٧٩

بظهور نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا ينفصل عن الإيمان بهذا النّبي.

إنّ في التعبير بـ «يمسّكون» الذي هو بمعنى الاعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر ، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والالتصاق بشيء لحفظه وصيانته ، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة ، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص ، ويسعى في حفظها وحراستها.

إنّ التمسك بالكتاب الإلهي ليس هو أن يمسك الإنسان بيده أوراقا من القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة ، ويجتهد في حفظ غلافه وورقه من التلف ، بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب ، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم.

إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية ، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإلهية ، وهذا التعبير يؤكّد ـ مرّة أخرى ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدين ليس مجرّد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة ، وبدار الآخرة ، بل هو برنامج للحياة البشرية ، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر ، وإجراء مبادئ العدل والسلام والرفاه والاستقرار ، وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة «الإصلاح» الواسعة المعنى.

وما نراه من التركيز على خصوص «الصلاة» من بين الأوامر والتعاليم الإلهية ، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإنسان بالله الذي يراه حاضرا وناظرا لجميع أعماله وبرامجه ، ومراقبا لجميع أفعاله وأقواله ، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وارتباط هذا الموضوع بإصلاح المجتمع الإنساني أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقد يكون نهي النبي عن : منع فضل الماء والكلأ(١) أوضح مثالٍ من النصوص على مدى تأثّر عملية الاستنباط من النصّ بالموقف النفسي للممارس فقد جاء في الرواية :( أنّ النبيّ قضى بين أهل المدينة في النخل : لا يُمنع نفع بئر وقضى بين أهل البادية : أنّه لا يُمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلأ ) (٢) وهذا النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلأ، يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام ثابت في كلّ زمانٍ ومكانٍ ، كالنهي عن الميسر والخمر كما يمكن أيضاً أن يعبّر عن إجراءٍ معيّن اتّخذه النبيّ بوصفه ولي الأمر المسئول عن رعاية مصالح المسلمين ، في حدود ولايته وصلاحياته ، فلا يكون حكماً شرعياً عاماً ، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدّرها وليّ الأمر .

وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النصّ وما يناظره من نصوص .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب كتاب إحياء المَوَات ، الحديث ٢ .

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب كتاب إحياء المَوَات ، الحديث ٣ ، مع اختلاف يسير .

٣٤١

وأمّا أولئك الذين يتّخذون موقفاً نفسياً تجاه النصّ بصورة مسبقة فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كلّ نصّ حكماً شرعياً عاماً ، وينظرون دائماً إلى النبيّ من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة ، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه وليّ الأمر ، فيفسّرون(١) النصّ الآنف الذكر على أساس أنّه حكم شرعي عام(٢) .

وهذا الموقف الخاص في تفسير النصّ لم ينبع من النصّ نفسه ، وإنّما نتج من اعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبيّ ، وطريقة تفكير معيّنة فيه درج عليها الممارس ، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائماً باعتباره مبلغاً ، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكماً ، وانطمست بالتالي ما تعبّر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة .

ضرورة الذاتية أحياناً:

ويجب أن نشير في النهاية إلى المجال الوحيد الذي يُسمح به للجانب الذاتي لدى محاولة تكوين الفكرة العامة المحدّدة عن الاقتصاد الإسلامي ، وهو مجال اختيار الصورة التي يُراد أخذها عن الاقتصاد في الإسلام ، من بين مجموع الصور التي تمثّل مختلف الاجتهادات الفقهية المشروعة ، فقد مرّ بنا أنّ اكتشاف المذهب الاقتصادي يتمّ خلال عملية اجتهاد في فهم النصوص وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في اطراد واحد ، وعرفنا أنّ الاجتهاد يختلف ويتنوّع تبعاً لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم للنصوص ، وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر ، وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنّونها

ـــــــــــــــ

(١) راجع مسالك الأفهام ١٢ : ٤٤٦ ، وجواهر الكلام ٣٨ : ١١٩ .

(٢) ويفرّعون على هذا الأساس : أنّ النهي ليس نهي تحريم ، وإنّما هو نهي كراهة ؛ لأنّهم يستبعدون أن يكون منع المالك لفضل مائه حراماً شراعاً ، في كلّ زمان ومكان!! (المؤلّف قدّس سرّه ) .

٣٤٢

كما عرفنا أيضاً أنّ الاجتهاد يتمتّع بصفة شرعية وطابع إسلامي ما دام يمارس وظيفته ويرسم الصورة ويحدّد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة ، ووفقاً للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها .

وينتج عن ذلك كلّه : ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الإسلامي ، ووجود صور عديدة له ، كلّها شرعي ، وكلّها إسلامي ومن الممكن حينئذٍ أن نتخيّر في كلّ مجال أقوى العناصر التي نجدها في تلك الصورة ، وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حرّيته ورأيه ، ويتحرّر عن وصفه مكتشفاً فحسب ، وإن كانت هذه الذاتية لا تعدو أن تكون اختياراً ، وليست إبداعاً ، فهي تحرّر في نطاق الاجتهادات المختلفة ، وليست تحرّراً كاملاً .

وقد مارس هذا الكتاب في بحوث سابقة ، وسيمارس في بحوث مقبلة ، هذا المجال الذاتي ، كما ألمعنا إلى ذلك في المقدمة(١) فليس كلّ ما يعرض من أحكام في هذا الكتاب ويتبنّى ويستدلّ عليه ، نتيجة لاجتهاد المؤلّف شخصياً بل قد يعرض في بعض النقاط لما لا يتّفق مع اجتهاده ، ما دام يعبر عن وجهة نظر اجتهادية أخرى تحمل الطابع الإسلامي والصفة الشرعية .

وأود أن أؤكّد ـ بهذه المناسبة ـ على : أنّ ممارسة هذا المجال الذاتي ، ومنح الممارس حقّاً في الاختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة قد يكون أحياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنّية لعلمية الاكتشاف التي يحاولها هذا الكتاب ، وليس أمراً جائزاً فحسب أو لوناً من الترف والتكاسل عن تحمّل أعباء ومشاقّ الاجتهاد في أحكام الشريعة فإنّ من المستحيل في بعض الحالات اكتشاف النظرية الإسلامية والقواعد المذهبية في الاقتصاد شاملةً كاملةً منسجمة مع بنائها العُلْوي وتفصيلاتها التشريعية وتفريعاتها الفقهية إلاّ على أساس المجال الذاتي للاختيار .

ـــــــــــــــ

(١) مقدّمة الطبعة الأولى .

٣٤٣

وأنا أقول هذا نتيجة لتجربة شخصية عشتها في فترة إعداد هذا الكتاب ، ولعلّ من الضروري أن أجلّيها هنا لأبرز إحدى المشاكل التي يعانيها البحث في الاقتصاد الإسلامي غالباً ، وطريقة تغلّب هذا الكتاب عليها بممارسة المجال الذاتي الآنف الذكر الذي منح لنفسه حقّ ممارسته .

فمن المتّفق عليه بين المسلمين اليوم : أنّ القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية ، بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتّع بصفة قطعية من أحكام الشريعة ، الخمسة في المئة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية .

والسبب في ذلك واضح ؛ لأنّ أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب والسنة ، أي : من النص التشريعي ، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كلّ نصّ على نقل أحد الرواة والمحدّثين ـ باستثناء النصوص القرآنية ومجموعة قليلة من نصوص السنّة التي ثبتت بالتواتر واليقين ـ ومهما حاولنا أن ندقّق في الراوي ووثاقته وأمانته في النقل فإنّنا لن نتأكّد بشكلٍ قاطع من صحّة النصّ ما دمنا لا نعرف مدى أمانة الرواة إلاّ تأريخياً ، لا بشكلٍ مباشر ، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدّم إلينا النصّ محرّفاً ، خصوصاً في الحالات التي لا يصل إلينا النصّ فيها إلاّ بعد أن يطوف بعدّة رواة ، ينقله كلّ واحد منهم إلى الآخر ، حتى يصل إلينا في نهاية الشوط وحتى لو تأكدنا أحياناً من صحّة النصّ ، وصدوره من النبيّ أو الإمام ، فإنّنا لن نفهمه إلاّ كما نعيشه الآن ، ولن نستطيع استيعاب جوّه وشروطه ، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقي عليه ضوءاً .

ولدى عرض النصّ على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها ، قد نخطئ أيضاً في طريقة التوفيق ، فنقدّم هذا النصّ على ذاك ، مع أنّ الآخر أصحّ في الواقع ، بل قد يكون للنصّ استثناء في نصّ آخر ولم يصل إلينا الاستثناء ، أو لم نلتفت إليه خلال ممارستنا للنصوص ، فنأخذ بالنصّ الأوّل مغفلين استثناءه الذي يفسّره ويخصِّصه .

فالاجتهاد إذن عملية معقّدة ، تواجه الشكوك من كلّ جانب ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد ، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع ، ما دام يحتمل خطأه في استناجها ؛ إمّا لعدم صحّة النصّ في الواقع وإن بدأ له صحيحاً ، أو لخطأ في فهمه ، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص ، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل عنها الممارس أو عاثت بها القرون .

٣٤٤

وهذا لا يعني بطبيعة الحال إلغاء عملية الاجتهاد أو عدم جوازها ، فإنّ الإسلام ـ بالرغم من الشكوك التي تكتنف هذه العملية ـ قد سمح بها ، وحدّد للمجتهد المدى الذي يجوز له أن يعتمد فيه على الظن ، ضمن قواعد تُشرح عادة في علم أصول الفقه ، وليس على المجتهد إثمٌ إذا اعتمد ظنّه في الحدود المسموح بها ، سواء أخطأ أو أصاب .

وعلى هذا الضوء يصبح من المعقول ومن المحتمل أن توجد لدى كلّ مجتهد مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي ، وإن كان معذوراً فيها ، ويصبح من المعقول أيضاً أن يكون واقع التشريع الإسلامي في مجموعة من المسائل التي يعالجها موزّعاً هنا وهناك بنسب متفاوتة في آراء المجتهدين ، فيكون هذا المجتهد على خطأ في مسألة وصواب في أخرى ، ويكون الآخر على العكس .

وأمام هذا الواقع الذي شرحناه عن عملية الاجتهاد والمجتهدين ، لا يملك الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي ، إلاّ أن ينطلق في اكتشافه من أحكام ثبتت باجتهاد ظنّي معيّن ليجتازها إلى ما هو أعمق وأشمل ، إلى نظريات الإسلام في الاقتصاد ومذهبه الاقتصادي .

ولكن علينا أن نتساءل : هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كلّ واحد من المجتهدين ـ بما يضمّ من أحكام ـ مذهباً اقتصادياً كاملاً ، وأُسساً موحّدة منسجمة مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها ؟

ونجيب على هذا السؤال بالنفي ؛ لأنّ الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الأحكام معرّض للخطأ ، وما دام كذلك فمن الجائز أن يضمّ اجتهاد المجتهد عنصراً تشريعياً غريباً على واقع الإسلام ، قد أخطأ المجتهد في استنتاجه ، أو يفقد عنصراً تشريعياً إسلامياً لم يوفّق المجتهد للظفر به في النصوص التي مارسها وقد تصبح مجموعة الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده متناقضة في أسسها بسبب هذا أو ذاك ، ويتعذّر عندئذٍ الوصول إلى رصيد نظري كامل يوحّد بينها ، أو تفسيرٍ مذهبيّ شامل يضعها جميعاً في اطرادٍ واحدٍ .

ولهذا يجب أن نفرّق بين واقع التشريع الإسلامي كما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معيّن خلال ممارسته للنصوص فنحن نؤمن بأنّ واقع التشريع الإسلامي في المجالات الاقتصادية ليس مرتجلاً ، ولا وليد نظرات متفاصلة ومنعزلة بعضها عن البعض ، بل إنّ التشريع الإسلامي في تلك المجالات يقوم على أساس موحّدٍ ، ورصيد مشترك من المفاهيم ، وينبع من نظريات الإسلام وعمومياته في شؤون الحياة الاقتصادية .

٣٤٥

وإيماننا بهذا هو الذي جعلنا نعتبر الأحكام بناءً علْوياً يجب تجاوزه إلى ما هو أعمق وأشمل ، وتخطيه إلى الأسس التي يقوم عليها هذا البناء العلْوي وينسجم معها ، ويعبّر عن عمومياتها في كلّ تفصيلاته وتفريعاته ، دون تناقض أو نشاز ولولا الإيمان بأنّ أحكام الشريعة تقوم على أسس موحّدة ، لما كان هناك مبرر لممارسة عملية اكتشاف للمذهب ، من وراء الأحكام التفصيلية في الشريعة .

كل هذا صحيح بالنسبة إلى واقع التشريع الإسلامي وأمّا بالنسبة إلى هذا الاجتهاد أو ذاك من اجتهادات المجتهدين ، فليس من الضروري أن تعكس الأحكام التي يضعها ذلك الاجتهاد مذهباً اقتصادياً كاملاً ، وأساساً نظرياً شاملاً ، ما دام من الممكن فيها أن تضمّ عنصراً غريباً أو تفقد عنصراً أصيلاً بسبب خطأ المجتهد .

وقد يؤدّي خطأ واحدٌ في مجموعة تلك الأحكام إلى قلب الحقائق في عملية الاكتشاف رأساً على عقب ، وبالتالي إلى استحالة الوصول إلى المذهب الاقتصادي عن طريق تلك الأحكام .

ولهذا قد يواجه الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي محنة ، هي محنة التناقض بين وصفه مكتشفاً للمذهب ، ووصفه مجتهداً في استنباط الأحكام وذلك فيما إذا افترضنا : أنّ المجموعة من الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده الخاص غير قادرة على الكشف عن المذهب الاقتصادي ، فالممارس في هذه الحالة بوصفه مجتهداً في استنباط تلك الأحكام ، مدفوع بطبيعة اجتهاده إلى اختيار تلك الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده ، لينطلق منها في اكتشافه للمذهب الاقتصادي ولكنّه بوصفه مكتشفاً للمذهب يجب عليه أن يختار مجموعة متّسقة من الأحكام ، منسجمة في اتّجاهاتها ومدلولاتها النظرية ، ليستطيع أن يكتّشف على أساسها المذهب وهو حين لا يجد هذه المجموعة المتّسقة في الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده الشخصي ، يجد نفسه مضطراً إلى اختيار نقطة انطلاق أخرى ، مناسبة لعملية الاكتشاف ولنجسّد المشكلة بصورة أوضح في المثال التالي :

مجتهد رأى أنّ النصوص تربط ملكية الثروات الطبيعية الخام بالعمل ، وتنفي تملّكها بأيّ طريقة أخرى سوى العمل ، ووجد لهذه النصوص استثناءً واحداً في نصّ يقرر في بعض المجالات : التملّك بطريقة أخرى غير العمل .

٣٤٦

إنّ هذا المجتهد سوف تبدو له نتائج النصوص ومعطياتها ـ حسب اجتهاده ـ قلقة غير متّسقة ومصدر هذا القلق وعدم الاتساق : النصّ الاستثنائي ، إذ لولاه لاستطاع أن يكشف على أساس مجموع النصوص الأخرى أنّ الملكية في الإسلام تقوم على أساس العمل فماذا يصنع هذا المجتهد ، وبم يتغلّب على التناقض بين موقفيه الاجتهادي والاكتشافي ؟

إنّ المجتهد الذي يواجه هذا التناقض يحتمل عادة تفسيرين لذلك القلق وعدم الاتساق بين الأحكام التي أدى إليها اجتهاده :

أحدهما : أنّ بعض النصوص التي مارسها غير صحيحة ، كالنصّ الاستثنائي في الفرضية التي افترضناها مثلاً ، بالرغم من توفّر الشروط التي أمر الإسلام باتباع كلّ نصّ تتوفّر فيه وعدم صحّة بعض النصوص أدّى إلى دخول عنصر تشريعي غريب في المجموعة التي يضمّها اجتهاده من أحكام ، وأدّى بالتالي إلى تنافر تلك الأحكام على الصعيد النظري وفي عملية الاكتشاف .

والتفسير الآخر : أنّ هذا التنافر المحسوس بين عناصر المجموعة سطحي ، وليس له واقع ؛ وإنّما نتج إحساس الممارس به عن عدم قدرته على الاهتداء إلى سرّ الوحدة بين تلك العناصر ، وتفسيرها النظري المشترك .

وهنا يختلف موقف الممارس بوصفه مجتهداً يستنبط الأحكام ، عن موقفه بوصفه مكتشفاً للمذهب الاقتصادي فهو باعتباره مجتهداً يستنبط الأحكام لا يمكنه أن يتخلّى في عمله عن الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده ، وإن بدت له متنافرة على الصعيد النظري ، مادام يحتمل أن يكون مرّد هذا التنافر إلى عجزه عن استكناه أسرارها وأُسسها المذهبية ولكن تمسّكه بتلك الأحكام لا يعني قطعيتها ، بل هي نتائج ظنّية ، ما دامت تقوم على أساس الاجتهاد الظنّي الذي يبرّر الأخذ بها ، بالرغم من احتمال الخطأ .

وأمّا حين يريد هذا الفقيه أن يتخطّى فقه الأحكام إلى فقه النظريّات ، ويمارس عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام ، فإنّ طبيعة العملية تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب أن ينطلق منها ، وتحتّم أن تكون نقطة الانطلاق مجموعة متّسقة ومنسجمة من الأحكام ، فإنّ استطاع أن يجد هذه المجموعة فيما يضمّه اجتهاده الشخصي من أحكام ، وينطلق منها في عملية الاكتشاف لفهم الأسس العامة للاقتصاد الإسلامي ، دون أن يُمنى بتناقض أو تنافر بين عناصر تلك المجموعة ، فهي فرصة ثمينة تتّحد فيها شخصية الممارس بوصفه فقيهاً يستنبط الأحكام ، مع شخصيته بوصفه مكتشفاً للنظريّات .

٣٤٧

وأمّا إذا لم يسعد بهذه الفرصة ، ولم يسعفه اجتهاده بنقطة الانطلاق المناسبة ، فإنّ هذا لن يؤثّر على تصميمه في العملية ، ولا على إيمانه بأنّ واقع التشريع الإسلامي يمكن أن يفسّر تفسيراً نظرياً متّسقاً شاملاً والسبيل الوحيد الذي يتحتّم على الممارس سلوكه في هذه الحالة أن يستعين بالأحكام التي أدّت إليها اجتهادات غيره من المجتهدين ؛ لأنّ في كلّ اجتهاد مجموعة من الأحكام تختلف إلى حدّ كبير عن المجاميع التي تشتمل عليها الاجتهادات الأخرى .

وليس من المنطقي أن نترقّب اكتشاف مذهب اقتصادي وراء كلّ مجموعة من تلك المجاميع ، وإنّما نؤمن بمذهب اقتصادي واحد ، تقوم على أساسه أحكام الشريعة الموجودة ، ضمن تلك المجاميع ، ففي حالة التنافر بين عناصر المجموعة الواحدة ، التي يتبّناها اجتهاد الممارس يتعيّن عليه في عملية الاكتشاف أن يزيل العناصر القلقة ، التي تؤدّي إلى التناقض على الصعيد النظري ، ويستبدلها بنتائج وأحكام في اجتهادات أخرى ، أكثر انسجاماً وتسهيلاً لعملية الاكتشاف ، ويكوّن مجموعة ملفقة من اجتهادات عديدة يتوفّر فيها الانسجام ، لينطلق منها ويخرج في النهاية باكتشاف الرصيد النظري لتلك المجموعة الملفّقة من الأحكام الشرعية .

وأقل ما يقال في تلك المجموعة : أنّها صورة من الممكن أن تكون صادقة كلّ الصدق في تصوير واقع التشريع الإسلامي وليس إمكان صدقها أبعد من إمكان صدق أي صورة أخرى من الصور الكثيرة ، التي يزخر بها الصعيد الفقهي الاجتهادي وهي بعد ذلك تحمل مبرّراتها الشرعية ؛ لأنّها تعبّر عن اجتهادات إسلامية مشروعة ، تدور كلّها في فلك الكتاب والسنّة ولأجل ذلك يصبح بالإمكان للمجتمع الإسلامي أن يختارها في مجال التطبيق من بين الصور الاجتهادية الكثيرة للشريعة ، التي يجب عليه أن يختار واحدة منها .

وهذا كلّ ما يمكن إنجازه في عملية الاكتشاف للاقتصاد الإسلامي عندما يعجز الاجتهاد الشخصي للممارس عن تكوين النقطة المناسبة للانطلاق ، بل إنّ هذا هو كلّ ما نحتاج إليه تقريباً بهذا الصدد وماذا نحتاج بعد أن نكتشف مذهباً اقتصادياً يتمتع بإمكان الصدق والدقّة في التصوير بدرجة لا تقلّ عن حظّ أيّ صورة اجتهادية أخرى ، وتتوفّر فيها مبرّرات النسب الإسلامي باعتبار انتسابها إلى مجتهدين أكفّاء ، وتحمل من الإسلام رخصة التطبيق في الحياة الإسلامية ؟!

٣٤٨

خداع الواقع التطبيقي :

قد دخل المذهب الاقتصادي في الإسلام حياة المجتمع بوصفه النظام السائد في عصر النبوّة ، وعاش على صعيد التطبيق مجسداً في واقع العلاقات الاقتصادية ، التي كانت قائمة بين أفراد المجتمع الإسلامي يومذاك ولأجل هذا يصبح من الممكن ـ خلال عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي ـ أن ندرسه ونبحث عنه على الصعيد التطبيقي ، كما ندرسه ونبحث عنه على الصعيد النظري فإنّ التطبيق يحدّد ملامح الاقتصاد الإسلامي وخصائصه كما تحدّد نصوص النظرية في مجالات التشريع ولكن النصوص التشريعية للنظرية أقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي ؛ لأنّ التطبيق نصّ تشريعي في ظرف معيّن قد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النصّ ، ولا أن يصوّر مغزاه الاجتماعي كاملاً ، فيختلف إلهام التطبيق ومعطاه التصوّري للنظرية عن المعُطى الفكري للنصوص التشريعية نفسها ومرّد هذا الاختلاف إلى خداع التطبيق لحواس الممارس الاكتشافية ، نتيجة لارتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة .

ويكفي مثالاً على هذا الخداع أنّ الممارس الذي يريد أن يتعرّف على طبيعة الاقتصاد الإسلامي من خلال التطبيق ، قد يوحي إليه التطبيق بأنّ الاقتصاد الإسلامي رأسمالي ، يؤمن بالحريّة الاقتصادية ، ويفسح المجال أمام الملكية الخاصة والنشاط الفردي الحرّ، كما ذهب إلى ذلك ـ بكلّ صراحة ـ بعض المفكّرين المسلمين ؛ حين تراءى لهم أفراد المجتمع الذين عاشوا تجربة الاقتصاد الإسلامي وهم أحرار في تصرفاتهم ، لا يحسّون بضغط أو تحديد ، ويتمتّعون بحقّ ملكية أيّ ثروة يتاح لهم الاستيلاء عليها من ثروات الطبيعة ، وبحقّ استثمارها

والتصرف فيها ، وليست الرأسمالية إلاّ هذا الانطلاق الحرّ الذي كان أفراد المجتمع الإسلامي يمارسونه في حياتهم الاقتصادية .

ويضيف البعض إلى ذلك : أنّ تطعيم الاقتصاد الإسلامي بعناصر لا رأسمالية والقول : بأنّ الإسلام اشتراكي في اقتصاده ، أو يحمل بذوراً اشتراكية ، ليس عملاً أميناً من الممارس ، وإنّما هو مواكبة للفكر الجديد الذي بدأ يسخط على الرأسمالية ويرفضها ، ويدعو إلى تطوير الإسلام بالشكل الذي يمكن أن يستساغ في مقاييس هذا الفكر الجديد .

٣٤٩

وأنا لا أنكر أنّ الفرد في مجتمع عصر النبوّة كان يمارس نشاطاً حرّاً ، ويملك حرّيته في المجال الاقتصادي إلى مدى مهم ، ولا أنكر أنّ هذا قد يعكس وجهاً رأسمالياً للاقتصاد الإسلامي ، ولكنّ هذا الوجه الذي نحسّه خلال النظر من بُعد إلى بعض جوانب التطبيق قد لا نحسّه مطلقاً خلال دراسة النظريّات على الصعيد النظري .

صحيح أنّ الفرد الذي كان يعيش عصر النبوّة يبدو لنا الآن أنّه كان يتمتّع بنصيب كبير من الحرّية ، التي قد لا يميّز الممارس أحياناً بينها وبين الحرّيات الرأسمالية ، ولكن هذا الوهم يتبدّد حين نردّ التطبيق إلى النظرية ، إلى النصوص التشريعية .

والسبب في هذه المفارقة بين النظرية والتطبيق ، بالرغم من أنّ كلاً منهما تعبير عن الآخر بشكلٍ من الأشكال ، يكمن في الظروف التي كان إنسان عصر التطبيق يعيشها ، ونوع الإمكانات التي كان يملكها ، فإنّ المضمون اللارأسمالي للنظرية في الاقتصاد الإسلامي كان مختفياً في مجال التطبيق إلى حدٍ ما ، بقدر ما كانت إمكانات الإنسان وقدرته على الطبيعة ضئيلة ، ويبرز المضمون اللارأسمالي باطّراد ، ويتّضح في مجال التطبيق الأمين للإسلام ، بقدر ما ترتفع تلك الإمكانات وتتّسع تلك القدرة فكلّما امتدت قدرة الإنسان ، وتنوّعت وسائله في السيطرة على الطبيعة ، انفتحت أمامه مجالات أرحب للعمل والتملّك والاستغلال ، واتضح أكثر فأكثر تناقض النظرية في الاقتصاد الإسلامي مع الرأسمالية ، وتجلى مضمونها اللارأسمالي من خلال الحلول التي يضعها الإسلام للمشاكل المستجدّة ، عبر القدرة المتنامية للإنسان على الطبيعة .

فإنسان عصر التطبيق كان يذهب ـ مثلاً ـ إلى منجم ملح أو غيره ، ويحمل ما يشاء من المواد المعدنية ، دون منع من النظرية التي كانت لها السيادة ، ولا معرّضة منها للملكية الخاصة لتلك المواد فماذا يمكن أن توحي به هذه الظاهرة في مجال التطبيق ، إذا فصلت عن دراسة النصّ التشريعي والفقهي بشكل عام ؟ إنها توحي بسيادة الحرّية الاقتصادية في المجتمع بدرجة تشبه الوضع الرأسمالي للحرّية في التملك والاستثمار .

٣٥٠

وأمّا إذا نظرنا إلى النظرية من خلال النصوص ، وجدنا أنّها توحي بشعور معاكس للشعور الذي أوحت به تلك الظاهرة في مجال التطبيق ؛ لأنّ النظرية في نصوصها تمنع أيّ فرد عن تملك المنابع المعدنية للملح أو النفط ، ولا تسمح له باستخراج ما يزيد على حاجته منها(١) وهذا نقيض صريح للرأسمالية التي تتبنّى مبدأ الملكية الخاصة ، وتفسح المجال أمام الفرد ليتملّك المنابع الطبيعية للثروة المعدنية ، واستغلالها استغلالاً رأسمالياً بقصد المزيد من الأرباح .

فهل يمكن لأحدٍ أن يطلق على اقتصاد لا يعترف بحرّية تملك منابع الملح والنفط ، ولا بأخذ المزيد من تلك المنابع ، ممّا يضيّق على الآخرين ويضيّع حقّهم في الانتفاع بالمنبع ، هل يمكن أن يطلق على هذا الاقتصاد اسم : الاقتصاد الرأسمالي ؟! أو أن يبعث في نفوسنا إحساساً باللون الرأسمالي للمذهب نظير ما بعثه التطبيق من إحساس بذلك في نفوس البعض ؟!

فيجب أن نعرف إذن : أنّ إنسان عصر التطبيق كان يستشعر الحرّية في مجالات العمل والاستغلال ، وحتى الاستفادة من منابع الملح والبترول مثلاً ، لأجل أنّه لم يكن يستطيع في الغالب ـ بحكم ظروف الطبيعة ، وانخفاض مستوى وسائله وبدائيتها ـ أن يعمل ويشتغل خارج الحدود المسموح بها من قبل النظرية فهو لا يتمكّن مثلاً أن يستخرج من المادة المعدنية كميات هائلة ـ كالكميات الهائلة التي تستخرج اليوم ـ ؛ لأنّه لم يكن مجهّزاً ضد الطبيعة بما جهز به الإنسان الحديث ، فلا يصطدم في واقع حياته بتحديد الكمّية التي يباح له استخراجها ؛ لأنّه مهما أراد أن يستخرج بوسائله البدائية ، فلن يستخرج في الغالب القدر الذي يضرّ بشِرْكَة الآخرين معه في الانتفاع بالمعدن وإنّما يبرز أثر النظرية بشكل صارخ ، وينعكس تناقضها مع التفكير الرأسمالي ، حين ترفع إمكانات الإنسان ، وتنمو قدرته على غزو الطبيعة ويصبح بإمكان أفراد قلائل أن يستغلّوا معدناً بكامله ، ويجدوا في أسواق العامل المترابطة والمفتوحة كلّها مجالاً لأعظم الأرباح .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٧ ، الباب ٥ من أبواب إحياء الموات ، الحديث٢ ، وراجع شرائع الإسلام ٣ : ٢٧٨ .

٣٥١

وكذلك أيضاً نرى مثل هذا تماماً في النظرية التي لا تسمح للفرد بأن يملك من الثروات الطبيعية والمواد الخام ـ كخشب الغابات مثلاً ـ إلاّ ما يباشر بنفسه حيازته وإنتاجه فإنّ هذه النظرية لا يمكن لإنسان عصر التطبيق أن يحسّ بها في حياته العملية إحساساً واضحاً عميقاً ما دام العمل في ذلك العصر يقوم بصورة عامة على أساس المباشرة وما بحكمها ، ولكن حين تتضخّم الكمية التي يمكن استخراجها وحيازتها تضخّماً هائلاً ، بسبب الأدوات والآلات مع كمية من النقد التي يمكن أن تسدّد منها أجور العمّال ، حين يتمّ كلّ ذلك ، يصبح في مستوى قدرة ذلك الفرد الاعتماد على العمل المأجور في استخراج وحيازة المواد الخام من ثروات الطبيعة .

وهذا ما تمّ فعلاً في الواقع المعاش ، إذ أصبح العمل المأجور والإنتاج الرأسمالي هو الأساس في استخراج وحيازة تلك المواد وعند هذا فقط يظهر بشكل بارز التناقض بين النظرية في الاقتصاد الإسلامي ، وبين الرأسمالية ، ويبدو لكلّ ممارس ـ ما لم يكن أعمى ـ : أنّ النظرية ليست ذات طبيعة رأسمالية ، وإلاّ فأيّ اقتصاد رأسمالي يحارب الأسلوب الرأسمالي في حيازة الثروات الطبيعية ؟‍‍‍!

وهكذا نجد أنّ إنسان عصر الإنتاج الرأسمالي الذي يملك الآلات التي تقطع كميات هائلة من خشب الغابات في ساعة ، وتوجد في محفظته النقود التي تغري المتعطّلين من العمّال بالعمل عنده ، واستخدام تلك الآلات في اقتطاع الخشب ، وتتوفّر لديه وسائط النقل التي تنقل تلك الكميات الضخمة إلى محلات البيع ، وتوجد بانتظاره الأسواق التي تهضم كلّ تلك الكميات إن هذا الفرد هو الذي سيشعر إذا عاش حياة إسلامية ، بمدى مناقضة النظرية في الإسلام لمبدأ الحرية الاقتصادية في الرأسمالية ، حينما لا تسمح له النظرية بإقامة مشروع رأسمالي لاقتطاع الخشب من الغابة ، وبيعه بأغلى الأثمان .

فالنظرية إذن لم تبرز وجهها من خلال التطبيق الذي عاشته ، والفرد الذي عاش تطبيقها لم يتجلّ له وجهها الكامل خلال المشاكل والعمليات التي مارسها في حياته ، وإنّما يبدو ذلك الوجه الكامل من خلال النصوص بصيغها العامة المحدّدة .

وأولئك الذين اعتقدوا بأنّ الاقتصاد الإسلامي رأسمالي يؤمن بالحرّيات الرأسمالية ، قد يكون لهم بعض العذر إذا كانوا قد استلهموا إحساسهم من خلال دراسة إنسان عصر التطبيق ، والقدر الذي كان يشعر به من الحرّية ، ولكنّ هذا إحساس خادع ؛ لأنّ إلهام التطبيق لا يكفي بدلاً عن معطيات النصوص التشريعية والفقهية نفسها ، التي تكتشف عن مضمون لا رأسمالي .

٣٥٢

وفي الواقع : أنّ الاعتقاد بوجود مضمون لا رأسمالي للنظرية الاقتصادية في الإسلام على ضوء ما قدمناه ليس نتيجة تطوير أو تطعيم أو عطاء ذاتي جديد للنظرية ، كما يقول أولئك المؤمنون برأسمالية الاقتصاد الإسلامي ، الذين يتّهمون الاتجاه إلى تفسير الاقتصاد الإسلامي اتجاهاً لا رأسمالياً ، ويقولون عنه : إنّه اتجاه منافق يحاول إدخال عناصر غريبة في الإسلام ، تملقاً للمدّ الفكري الحديث ، الذي شجب الرأسمالية في الحرّية والملكية .

ونحن نملك الدليل التأريخي على تفنيد هذا الاتهام ، وإثبات أمانة الاتجاه اللارأسمالي في تفسير الاقتصاد الإسلامي ، وهذا الدليل هو النصوص التشريعية والفقهية التي نجدها في مصادر قديمة يرجع تأريخها إلى ما قبل مئات السنين ، وقبل أن يوجد العالم الحديث والاشتراكية الحديثة بكلّ مذاهبها وأفكارها .

وحين نبرز الوجه اللارأسمالي للاقتصاد الإسلامي ، الذي يعرضه هذا الكتاب ، ونؤكّد على المفارقات بينه وبين المذهب الرأسمالي في الاقتصاد لا نريد بذلك أن نمنح الاقتصاد الإسلامي طابعاً اشتراكياً ، وندرجه في إطار المذاهب الاشتراكية بوصفها النقيض للرأسمالية ؛ لأنّ التناقض المستقطب القائم بين الرأسمالية والاشتراكية ، يسمح بافتراض قطب ثالث في هذا التناقض ، ويسمح للاقتصاد الإسلامي خاصة أن يحتلّ مركز القطب الثالث ، إذا أثبت من الخصائص والملامح والسمات ما يؤهّله لهذا الاستقطاب في معترك التناقض

وإنما يسمح التناقض بدخول قطب ثالث إلى الميدان لأنّ الاشتراكية ليست مجرّد نفي للرأسمالية ، حتى يكفي لكي تكون اشتراكياً أن ترفض الرأسمالية ، وإنّما هي مذهب إيجابيّ له أفكاره ومفاهيمه ونظريّاته وليس من الحتم أن تكون هذه الأفكار والمفاهيم والنظريّات صواباً إذا كانت الرأسمالية على خطأ ولا أن يكون الإسلام اشتراكياً إذا لم يكن رأسمالياً فليس من الأصالة والاستقلال والموضوعية في البحث ، ونحن نمارس عملية اكتشاف للاقتصاد الإسلامي ، أن نحصر هذه العملية ضمن نطاق التناقض الخاص بين الرأسمالية والاشتراكية ، ويندمج الاقتصاد الإسلامي بأحد القطبين المتناقضين ، فنسرع إلى وصفه بالاشتراكية إذا لم يكن رأسمالياً ، أو بالرأسمالية إذا لم يكن اشتراكياً .

٣٥٣

وسوف تتجلّى خلال البحوث المقبلة أصالة الاقتصاد الإسلامي ، ومناقضته للاشتراكية في موقفه من الملكيّة الخاصة واحترامه لها ، واعترافه ـ في حدود مستمدّة من نظرّيته العامة ـ بمشروعية الكسب الناتج عن ملكيّة مصدر من مصادر الإنتاج غير العمل بينما لا تعترف الاشتراكية بمشروعية الكسب الناتج عن ملكية أيّ مصدر من مصادر الإنتاج ، إلاّ العمل المباشر وهذا في الحقيقة هو التناقض بين النظرية الإسلامية والنظرية الاشتراكية في الاقتصاد وكلّ مظاهر التناقض بينهما إنّما تنبع من هذا المنطلق الذي سيتّضـح أكثر فأكثر حين نباشـر التفصيـلات ، ونضـع النقاط علـى الحـروف .

الكتاب الثاني ٢

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج

١ ـ الأحكام .

٢ ـ النظرية .

٣ ـ الملاحظات .

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج ١

الأحكام

توزيع الثروة على مستَوَيين .

مصادر الطبيعة للإنتاج

٣٥٤

توزيع الثروة على مستويين(١)

توزيع الثروة يتمّ على مستويين :

ـــــــــــــــ

(١) تتردّد في هذا الفصل عدّة مصطلحات ، يجب تحديد معناها منذ البدء :

أ ـ ( مبدأ الملكية المزدوجة ) وهو المبدأ الإسلامي في الملكية ، الذي يؤمن بأشكال ثلاثة لها وهي : الملكية الخاصة ، وملكية الدولة ، والملكية العامة .

ب ـ ( مِلكية الدولة ) : وتعني تملّك المنصب الإلهي في الدولة الإسلامية ، الذي يمارسه النبيّ أو الإمام ، للمال على نحوٍ يخوّل لولي الأمر التصرّف في رقبة المال نفسه وفقاً لما هو مسئول عنه من المصالح ، كـ : تملّكه للمعادن مثلاً .

ج ـ ( الملكية العامة ) : وهي تملّك الأمّة أو الناس جميعاً لمال من الأموال .

وكذلك تشمل الملكية العامة الأموال التي تكون رقبتها مِلكاً للدولة ولكن لا يسمح لها بالتصرف في رقبة المال نفسه ؛ لورود حقّ عام للأمة أو الناس جميعاً على المال يفرض الانتفاع به مع الاحتفاظ برقبته ، فالمركّب من ملكية الدولة والحقّ العام للأمّة أو للناس جميعاً في الاحتفاظ برقبة المال نطلق عليه اسم : ( الملكية العامة ) أيضاً ، وبهذا يعرف أنّ ملكية الدولة والملكية العامة كمصطلحين لهذا الكتاب يناظران تقريباً مصطلحي الأموال الخاصة للدولة والأموال العامة للدولة في لغة القانون الحديث د ـ ( ملكية الأمة ) : وهي نوع من الملكية العامة ، وتعني ملكية الأمة الإسلامية بمجموعها وامتدادها التأريخي لمال من الأموال ، كملكية الأمّة الإسلامية للأرض العامرة المفتوحة بالجهاد .

هـ ـ ( ملكية الناس ) : وهي أيضاً نوع من الملكية العامة ، ونطلق هذا الاسم على كلّ مالٍ لا يسمح لفردٍ أو جهةٍ خاصة بتملّكه ، ويسمح للجميع بالانتفاع به ، فما كان من هذا القبيل من الأموال نطلق عليه اسم : الملكية العامة للناس فالملكية العامة للناس في مصطلح هذا الكتاب تعني : أمراً سلبياً ، وهو عدم السماح للفرد أو الجهة الخاصة بتملّك المال وأمراً إيجابياً ، وهو : السماح للجميع بالانتفاع به ، وذلك كما في البحار والأنهار الطبيعية .

و ـ ( الملكية العامة ) أيضاً : وقد نطلق اسم الملكية العامة على ما يشمل الحقلين معاً ، حقل ملكية الدولة ، وحقل الملكية العامة المتقدّمين ؛ للتعبير بذلك عمّا يقابل الملكية الخاصة .

ز ـ ( الملكية الخاصة ) : ونعني بها حين نطلقها في هذا الكتاب ، اختصاص الفرد ـ أو أيّ جهة محدودة النطاق ـ بمال معيّن ، اختصاصاً يجعل له مبدئياً الحقّ في حرمان غيره من الانتفاع به ، بأيّ شكل من الأشكال ، ما لم توجد ضرورة وحالة استثنائية ، نظير ملكية الإنسان لِما يحتطبه من خشب الغابة أو يغترفه من ماء النهر .

ح ـ ( الحقّ الخاص ) : ونعني به حين نطلقه في هذا البحث : درجة من اختصاص الفرد بالمال تختلف عن الدرجة التي تعبّر عنها الملكية في مدلولها التحليل والتشريعي فالملكية : اختصاص مباشر بالمال والحق : اختصاص ناتج عن اختصاص آخر ، وتابع له في استمراره ومن الناحية التشريعية تؤدّي الملكية إلى إعطاء المالك حقّ حرمان غيره من الاستفادة بملكه ، بينما لا يؤدّي الحق الخاص إلى هذه النتيجة ، بل يبقى للغير الاستفادة من المال بشكل تنظّمه الشريعة ط ـ (الإباحة العامة ) : وهي حكم شرعي يُسمح بموجبه لأيّ فردٍ بالانتفاع بالمال وتملّكه ملكية خاصة والمال الذي تثبت فيه هذه الإباحة يعتبر من المباحات العامة ، كالطير في الجو ، والسمك في البحر (المؤلّفقدس‌سره )

٣٥٥

أحدهما : توزيع المصادر المادّية للإنتاج .

والآخر : توزيع الثروة المنتَجة .

فمصادر الإنتاج هي : الأرض ، والمواد الأولية ، والأدوات اللازمة لإنتاج السلع المختلفة ؛ لأنّ هذه الأمور جميعاً تساهم في الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو فيهما معاً .

وأمّاالثروة المنتجة فهي : السلع التي تنجز خلال عمل بشري مع الطبيعة ، وتنتج عن عملية تركيب بين تلك المصادر المادّية للإنتاج.

فهناك إذن ثروة أوليّة وهي : مصادر الإنتاج ، وثروة ثانوية وهي : ما يظفر به الإنسان عن طريق استخدام تلك المصادر ، من متاع وسلع .

والحديث عن التوزيع يجب أن يستوعب كلتا الثروتين : الثروة الأمّ ، والثروة البنت ، مصادر الإنتاج ، والسلع المنتجة .

ومن الواضح أن توزيع المصادر الأساسية للإنتاج يسبق عملية الإنتاج نفسها ؛ لأنّ الأفراد إنّما يمارسون نشاطهم الإنتاجي وفقاً للطريقة التي يقسّم بها المجتمع مصادر الإنتاج ، فتوزيع مصادر الإنتاج قبل الإنتاج وأمّا توزيع الثروة المنتَجة فهو مرتبط بعملية الإنتاج ، ومتوقّف عليها ؛ لأنّه يعالج النتائج التي يسفر عنها الإنتاج .

والاقتصاديون الرأسماليون ، حتى يدرسون في اقتصادهم السياسي قضايا التوزيع ضمن الإطار الرأسمالي لا ينظرون إلى الثروة الكلّية للمجتمع ، وما تضمّهمن مصادر إنتاج ، وإنما يدرسون توزيع الثروة المنتجة فحسب ، أيّ الدخل الأهلي لا مجموع الثروة الأهلية ويقصدون بالدخل الأهلي : مجموع السلع والخدمات المنتجة ، أو بتعبير أصرح : القيمة النقدية لمجموع المنتوج في بحر سنة مثلاً ، فبحث التوزيع في الاقتصاد السياسي هو بحث توزيع هذه القيمة النقدية على العناصر التي ساهمت في الإنتاج ، فيحدّد لكلّ من رأس المال ، والأرض ، والمنظّم ، والعامل ، نصيبه على شكل فائدة وريع ، وربح وأجور .

ولأجل ذلك كان من الطبيعي أن تسبق بحوث الإنتاج بحث التوزيع ؛ لأنّ التوزيع مادام يعني تقسيم القيمة النقدية للسلع المنتَجة على مصادر الإنتاج وعناصره ، فهو عملية تعقب الإنتاج ، إذ ما لم تنتج سلعة لا معنى لتوزيعها أو توزيع قيمتها. وعلى هذا الأساس نجد أنّ الاقتصاد السياسي يعتبر الإنتاج هو الموضوع الأوّل من مواضيع البحث ، فيدرس الإنتاج أوّلاً ، ثمّ يتناول قضايا التوزيع .

٣٥٦

وأمّا الإسلام فهو يعالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب أشمل ؛ لأنّه لا يكتفي بمعالجة توزيع الثروة المنتجة ، ولا يتهرّب من الجانب الأعمق للتوزيع ، أي : توزيع مصادر الإنتاج ، كما صنعت الرأسمالية المذهبية ، إذ تركت مصادر الإنتاج يسيطر عليها الأقوى دائماً ، تحت شعار الحرية الاقتصادية ، التي تخدم الأقوى وتمهّد له السبيل إلى احتكار الطبيعة ومرافقها ، بل إنّ الإسلام تدخّل تدخّلاً إيجابياً في توزيع الطبيعة ، وما تضمنه من مصادر إنتاج ، وقسّمها إلى عدّة أقسام ، لكلّ قسم طابعه المميّز من الملكية الخاصة ، أو الملكية العامة ، وملكية الدولة ، أو الإباحة العامة ووضع لهذا التقسيم قواعده ، كما وضع إلى صف ذلك أيضاً القواعد التي يقوم على أساسها توزيع الثروة المنتَجة ، وصمم التفصيلات في نطاق تلك القواعد .

ولهذا السبب تصبح نقطة الانطلاق ، أو المرحلة الأولى في الاقتصاد الإسلامي هي : التوزيع بدلاً من الإنتاج ، كما كان في الاقتصاد السياسي التقليدي ؛ لأنّ توزيع مصادر الإنتاج نفسها يسبق عملية الإنتاج ، وكل تنظيم يتّصل بنفس عملية الإنتاج أو السلع المنتجة يصبح في الدرجة الثانية .

وسوف نبدأ الآن بتحديد موقف الإسلام من توزيع المصادر الأساسية ، توزيع الطبيعة بما تضمّه من ثروات .

المصدر الأصيل للإنتاج :

وقبل أن نبدأ بالتفصيلات التي يتمّ توزيع المصادر الأساسية وفقاً لها ، يجب أن نحدّد هذه المصادر.

ففي الاقتصاد السياسي يذكر عادة أنّ مصادر الإنتاج هي :

١ ـ الطبيعة .

٢ ـ رأس المال .

٣ ـ العمل ، ويضمّ التنظيم الذي يمارسه المنظّم للمشروع .

غير أنّنا إذ نتحدّث عن توزيع المصادر في الإسلام وأشكال ملكيّتها لا بدّ لنا أن نستبعد من مجال البحث المصدرين الأخيرين ، وهما : رأس المال ، والعمل .

٣٥٧

أمّا رأس المال فهو في الحقيقة ثروة منتجة ، وليس مصدراً أساسياً للإنتاج ، لأنّه يعبّر اقتصادياً عن كلّ ثروة تمّ إنجازها وتبلورت خلال عمل بشري لكي تساهم من جديد في إنتاج ثروة أخرى فالآلة التي تنتج النسيج ليست ثروة طبيعية خالصة ، وإنّما هي مادّة طبيعية كيّفها العمل الإنساني خلال عملية إنتاج سابقة ونحن إنّما نبحث الآن في التفصيلات التي تنظم توزيع ما قبل الإنتاج ، أي توزيع الثروة التي منحها الله لمجتمع قبل أن يمارس نشاطاً اقتصادياً وعملاً إنتاجياً فيها ومادام رأس المال وليد إنتاج سابق ، فسوف يندرج توزيعه في بحث توزيع الثروة المنتجة ، بما تضمّه من سلع استهلاكية وإنتاجية .

وأمّا العمل فهو العنصر المعنوي من مصادر الإنتاج ، وليس ثروة مادّية تدخل في نطاق الملكية الخاصة أو العامة .

وعلى هذا الأساس تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الإنتاج موضوع درسنا الآن ؛ لأنّها تمثّل العنصر المادّي السابق على الإنتاج .

اختلاف المواقف المذهبية من توزيع الطبيعة :

والإسلام في علاجه لتوزيع الطبيعة يختلف عن الرأسمالية والماركسية في العموميات وفي التفاصيل فالرأسمالية تربط ملكية مصادر الإنتاج ، ومصير توزيعها ، بأفراد المجتمع أنفسهم ، وما يبذله كلّ واحد منهم من طاقات وقوى ـ داخل نطاق الحرية الاقتصادية الموفّرة للجميع ـ في سبيل الحصول على أكبر نصيب ممكن من تلك المصادر ، فتسمح لكلّ فردٍ بتملّك ما ساعده الحظّ وحالفه التوفيق على الظفر به ، من ثروات الطبيعة ومرافقها .

وأمّا الماركسية فهي ترى تبعاً لطريقتها العامة في تفسير التأريخ : أنّ ملكية مصادر الإنتاج تتّصل اتصالاً مباشراً بشكل الإنتاج السائد ، فكلّ شكل من أشكال الإنتاج هو الذي يقرّر ـ في مرحلته التأريخية ـ طريقة توزيع المصادر المادّية للإنتاج ، ونوع الأفراد الذين يجب أن يملكوها ويظلّ هذا التوزيع قائماً حتى يدخل التأريخ في مرحلة أخرى ، ويتّخذ الإنتاج شكلاً جديداً ، فيضيق هذا الشكل الجديد ذرعاً بنظام التوزيع السابق ويتعثّر به في طريق نموّه وتطوّره ، حتى يتمزّق نظام التوزيع القديم بعد تناقض مريرٍ مع شكل الإنتاج الحديث ، وينشأ توزيع جديد لمصادر الإنتاج ، يحقّق لشكل الإنتاج الحديث الشروط الاجتماعية التي تساعده على النموّ والتطوّر فتوزيع مصادر الإنتاج يقوم دائماً على أساس خدمة الإنتاج نفسه ، ويتكيّف وفقاً لمتطلّبات نموّه وارتقائه .

٣٥٨

ففي مرحلة الإنتاج الزراعي من التأريخ كان شكل الإنتاج يحتّم إقامة توزيع المصادر على أساس إقطاعي ، بينما تفرض المرحلة التأريخية للإنتاج الصناعي الآلي إعادة التوزيع من جديد على أساس امتلاك الطبقة الرأسمالية لكلّ مصادر الإنتاج ، وفي درجة معيّنة من نموّ الإنتاج الآلي يصبح من المحتوم تبديل الطبقة الرأسمالية بالطبقة العاملة ، وإعادة التوزيع على هذا الأساس .

والإسلام لا يتّفق في مفهومه عن توزيع ما قبل الإنتاج مع الرأسمالية ، ولا مع الماركسية فهو لا يؤمن بمفاهيم الرأسمالية عن الحرّية الاقتصادية ، كما مرّ بنا في بحث (مع الرأسمالية ) وكذلك لا يقرّ الصلة الحتمية ، التي تضعها الماركسية بين ملكية المصادر وشكل الإنتاج السائد ، كما رأينا في بحث (اقتصادنا في معالمه الرئيسية ) وهو لذلك يحدّ من حرّية تملّك الأفراد لمصادر الإنتاج ، ويفصل توزيع تلك المصادر عن شكل الإنتاج ؛ لأنّ المسألة في نظر الإسلام ليست مسألة أداة إنتاج تتطلّب نظاماً للتوزيع يلائم سيرها ونموّها ، لكي يتغيّر التوزيع كلّما استجدّت حاجة الإنتاج إلى تغيير ، وتوقف نموّه على توزيع جديد ، وإنّما هي مسألة إنسان له حاجات وميول يجب إشباعها في إطار يحافظ على إنسانيّته وينمّيها والإنسان هو الإنسان ، بحاجاته العامة وميوله الأصيلة ، سواء كان يحرث الأرض بيديه ، أو يستخدم قوى البخار والكهرباء ، ولذا يجب أن يتمّ توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج بشكل يكفل إشباع تلك الحاجات والميول ، ضمن إطار إنساني يتيح للإنسان أن ينمّي وجوده وإنسانيته داخل الإطار العام .

فكلّ فردٍ ـ بوصفه إنساناً خاصاً ـ له حاجات لا بدّ من إشباعها ، وقد أتاح الإسلام للأفراد إشباعها عن طريق الملكية الخاصة التي أقرّها ووضع لها أسبابها وشروطها .

وحين تقوم العلاقات بين الأفراد ، ويوجد المجتمع ، يكون لهذا المجتمع حاجاته العامة أيضاً التي تشمل كلّ فرد بوصفه جزءاً من المركب الاجتماعي ، وقد ضمن الإسلام للمجتمع إشباع هذه الحاجات ، عن طريق الملكية العامة لبعض مصادر الإنتاج .

وكثيراً ما لا يتمكّن بعض الأفراد من إشباع حاجاتهم عن طريق الملكية الخاصة فيُمنى هؤلاء بالحرمان ، ويختلّ التوازن العام ، وهنا يضع الإسلام الشكل الثالث للملكية ، ملكية الدولة ، ليقوم ولي الأمر بحفظ التوازن العام .

وهكذا يتمّ توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج ، بتقسيم هذه المصادر إلى حقول الملكية الخاصة ، والملكية العامة ، وملكية الدولة .

٣٥٩

مصادر الطبيعة للإنتاج :

ويمكننا تقسيم المصادر الطبيعية للإنتاج في العالم الإسلامي إلى عدّة أقسام :

١ ـ الأرض : وهي أهمّ ثروات الطبيعة ، التي لا يكاد الإنسان يستطيع بدونها أن يمارس أيّ لون من ألوان الإنتاج .

٢ ـ المواد الأولية التي تحويها الطبقة اليابسة من الأرض ، كالفحم والكبريت والبترول والذهب والحديد ، ومختلف أنواع المعادن .

٣ ـ المياه الطبيعية التي تعتبر شرطاً من شروط الحياة المادّية للإنسان ، وتلعب دوراً خطيراً في الإنتاج الزراعي والمواصلات .

٤ ـ بقية الثروات الطبيعية ، وهي محتويات البحار والأنهار من الثروات التي تستخرج بالغوص أو غيره، كاللآليء والمرجان ، والثروات الطبيعية التي تعيش على وجه الأرض من حيوان ونبات ، والثروات الطبيعية المنتشرة في الجو، كالطيور والأوكسجين ، والقوى الطبيعية المنبثّة في أرجاء الكون ، كقوة انحدار الشلالات من الماء التي يمكن تحويلها إلى تيّار كهربائي ، ينتقل بواسطة الأسلاك إلى أيّ نقطة ، وغير ذلك من ذخائر الطبيعة وثروتها .

[١] الأرض

طبّقت الشريعة على الأراضي التي تضمّها دار الإسلام الأشكال الثلاثة للملكية ، فحكمت على قسم منها بالملكية العامة ، وعلى قسم آخر بملكية الدولة ، وسمحت للملكية الخاصة بقسم ثالث .

وهي في تشريعاتها هذه تربط نوع ملكية الأرض بسبب دخولها في حوزة الإسلام ، والحالة التي كانت تسودها حين أصبحت أرضاً إسلامية فملكية الأرض في العراق تختلف عن ملكية الأرض في إندونيسيا ؛ لأنّ العراق وإندونيسيا يختلفان في طريقة انضمامها إلى دار الإسلام ، كما أنّ العراق نفسه ـ مثلاً ـ تختلف بعض أراضيه عن بعض في نوع الملكية ، تبعاً للحالة التي كانت تسود هذه الأرض وتلك عندما دشّن العراق حياته الإسلامية .

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741