اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 141708
تحميل: 8007

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141708 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

[ أقسام الأراضي الإسلامية ]

ولكي ندخل في التفصيلات نقسّم الأرض الإسلامية إلى أقسام ، ونتحدّث عن كلّ قسم منها ونوع الملكية فيه :

١ ـ الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح

الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح هي : كلّ أرض دخلت دار الإسلام نتيجة للجهاد المسلّح في سبيل الدعوة ، كأراضي العراق ومصر وإيران وسورية وأجزاء كثيرة من العالم الإسلامي .

وهذه الأراضي ليست جميعاً سواء في حالتها لحظة الفتح الإسلامي ، فقد كان فيها العامر الذي تجسّدت فيه جهود بشرية سابقة قد بذلت في سبيل استثمار الأرض للزراعة ، أو غيرها من المنافع البشرية وكان فيها العامر طبيعياً ، دون تدخّل مباشر من الإنسان كالغابات الغنيّة بأشجارها التي استمدّت غناها من الطبيعة لا من إنسان يوم الفتح كما كان فيها أيضاً الأرض المهملة ، التي لم يمتدّ إليها الأعمار البشري حتى عصر الفتح ، ولا الأعمار الطبيعي، ولذا تسمّى ميتة في العرف الفقهي ؛ لأنّها لا تنبض بالحياة ولا تزخر بأيّ نشاط

فهذه أنواع ثلاثة للأرض مختلفة تبعاً لحالتها وقت دخولها في تأريخ الإسلام .

وقد حكم الإسلام على بعض هذه الأنواع بملكية العامة ، وعلى بعضها الآخر بملكية الدولة ، كما سنرى .

أ ـ الأرض العامرة بشرياً وقت الفتح :

إذا كانت الأرض عامرة بشرياً وقت اندماجها في تأريخ الإسلام ، وداخلة في حيازة الإنسان ونطاق استثماره فهي ملك عام للمسلمين جميعاً ، من وُجِد منهم ومن يُوجد ، أي : أنّ الأمة الإسلامية بامتدادها التأريخي هي التي تملك هذه الأرض ، دون أيّ امتياز لمسلمٍ على آخر في هذه الملكية العامة ولا يسمح للفرد بتملّك رقبة الأرض ملكية خاصة .

وقد نقل المحقق النجفي في الجواهر ـ عن عدّة مصادر فقهية كالغنية(١)

ـــــــــــــــ

(١) غنية النزوع : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ .

٣٦١

والخلاف(١) والتذكرة(٢) ـ : أنّ فقهاء الأمامية مجمعون على هذا الحكم ، ومتّفقون على تطبيق مبدأ الملكية العامة على الأرض المعمورة حال الفتح(٣) كما نقل الماوردي(٤) عن الإمام مالك : القول بأنّ الأرض المفتوحة تكون وقفاً على المسلمين منذ فتحها ، بدون حاجة إلى إنشاء صيغة الوقف عليها من ولي الأمر ، ولا يجوز تقسيمها بين الغانمين وهو تعبير آخر عن الملكية العامة للأمّة .

أدلّة الملكية العامة وظواهرها :

ونصوص الشريعة وتطبيقاتها واضحة في تقرير مبدأ الملكية العامة لهذا النوع من الأرض كما يظهر من الروايات التالية :

١ ـ في الحديث عن الحلبي قال: ( سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق عن السواد ما منزلته ؟ فقال : هو لجميع المسلمين ، لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ، ولمن لم يُخلق بعد فقلنا : الشراء من الدهّاقين ؟ فقال : لا يصلح إلاّ أن يشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها . قلنا : فإن أخذها منه ؟ قال : يرّد إليه رأس ماله وله ما أكل من غلّتها بما عمل ) (٥) .

٢ ـ وفي حديث عن أبي الربيع الشامي عن الإمام جعفر الصادق قال :

( لا تشتروا من أرض السواد شيئاً إلاّ من كانت له ذمّة ، فإنّما هو فيء للمسلمين ) (٦) .

ـــــــــــــــ

(١) الخلاف ٥ : ٥٣٤ ، المسألة ٢٣ .

(٢) تذكرة الفقهاء ٩ : ١٨٣ .

(٣) جواهر الكلام ٢١ : ١٥٧ .

(٤) الأحكام السلطانية ٢ : ١٣٧ .

(٥) الاستبصار ٣ : ١٠٩ ، الحديث الأوّل .

(٦) المصدر المتقدّم : الحديث ٢ وفيه : ( لا تشتر )

٣٦٢

وأرض السواد في العرف السائد يومذاك هي : الجزء العامر من أراضي العراق التي فتحها المسلمون في حرب جهادية وإنّما أطلق المسلمون هذا الاسم على الأرض العراقية ؛ لأنّهم حين خرجوا من أرضهم القاحلة في جزيرة العرب يحملون الدعوة إلى العالم ، ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار في أراضي العراق ، فسمّوا خضرة العراق سواداً ؛ لأنّهم كانوا يجمعون بين الخضرة والسواد في الاسم(١) .

٣ ـ وفي خبر حمّاد : أنّ الإمام موسى بن جعفر قال :( وليس لمن قاتل شيء من الأرضين ولا ما غلبوا عليه ، إلاّ ما احتوى عليه العسكر ، والأرض التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوتة متروكة في يدي من يعمّرها ويحييها ويقوم عليها على ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحقّ ؛ النصف والثلث والثلثين على قدر ما يكون لهم صالحاً ولا يضرّهم ) (٢) .

ويعني بذلك أنّ ولي الأمر يدع الأراضي المفتوحة عنوة إلى القادرين على استثمارها من أفراد المجتمع الإسلامي ، ويتقاضى منهم أجرة على الأرض ؛ لأنّها ملك مجموع الأمّة ، فحينما ينتفع الزارعون باستثمارها يجب عليهم تقديم ثمن انتفاعهم إلى الأمّة وهذا الثمن أو الأجرة هو الذي أطلق عليه في الخبر اسم :الخراج

٤ ـ وجاء في الحديث : أنّأبا بردة سأل الإمام جعفر عن شراء الأرض من أرض الخراج ، فقال :( ومن يبيع ذلك وهي أرض المسلمين ؟! ) (٣) .

ـــــــــــــــ

(١) راجع لسان العرب ٤ : ١٢٠ ، مادّة ( خضر ) .

(٢) الروع من الكافي ٥: ٤٤ ـ ٤٥ ، الحديث ٤

(٣) الاستبصار ٣ : ١٠٩ ، الحديث ٤ .

٣٦٣

وأرض الخراج تعبير فقهيٌّ عن الأرض التي نتحدّث عنها ؛ لأنّ الأرض التي تفتح وهي عامرة يفرض عليها خراج ، كما مرّ في الخبر السابق ، وتسمّى لأجل ذلك: أرضاً خراجية .

٥ ـ وفي رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام وهو يشرح أقسام الأرض وأحكامها :( وما أُخذ بالسيف فذلك إلى الإمام ، يقبّله بالذي يرى ) (١) .

٦ ـ وفي تأريخ الفتوح الإسلامية : أن الخلفية الثاني طولب بتقسيم الأرض المفتوحة بين المحاربين من الجيش الإسلامي على أساس مبدأ الملكية الخاصة ، فاستشار الصحابة ، فأشار عليهعليّ عليه‌السلام بعدم التقسيم(٢) وقال له معاذ بن جبل :

( إنّك إن قسّمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ، ثمّ يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد ، أو المرأة ، ثمّ يأتي من بعدهم قوم يسدّون من الإسلام مسدّاً وهم لا يجدون شيئاً ، فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم )(٣) .

 فقضىعمر بتطبيق مبدأ الملكية العامة ، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص:

( أمّا بعد فقد بلغني كتابك أنّ الناس قد سألوا أن تقسّم بينهم غنائمهم وما أفاء الله عليهم ، فانظر ما أجلبوا به عليك في العسكر من كراع أو مال ، فاقسمه بين من حضر من المسلمين ، واترك الأرضين والأنهار لعمّالها ؛ ليكون ذلك في أُعطيات المسلمين ؛ فإنا لو قسّمناها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء )(٤) .

ـــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام ٤ : ١١٩ ، باب الخراج وعمارة الأرضيين ، الحديث ٢ ، وفيه : ( للإمام ) .

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ : ١٥١ .

(٣) فتوح البلدان ١ : ١٧٩ ، الحديث ٤٠٨ .

(٤) السير الكبير ٣ : ١٠٣٩ .

٣٦٤

وقد ذهب جماعة في تفسير إجراءات الخلفية الثاني إلى القول : بأنّ السواد ملك لأهله ـ كما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد(١) ـ لأنّه حين ردّه عليهم عمر صارت لهم رقاب الأرض ، وتعيّن حقّ المسلمين في الخراج ، فالملكية العامة تعلّقت بالخراج لا برقبة الأرض

وقد قال بعض المفكّرين الإسلاميين المعاصرين ، ممّن أخذ بهذا التفسير : إنّ هذا تأميم للخراج وليس تأميماً للأرض .

ولكنّ الحقيقة : أنّ قيام إجراءات عمر على أساس الإيمان بمبدأ الملكية العامة ، وتطبيقه على رقبة الأرض ، كان واضحاً كلّ الوضوح ، ولم يكن ترك الأرض لأهلها اعترافاً منه بحقّهم في ملكيّتها الخاصة ، وإنّما دفعها إليهم مزارعة أو إجارة ، ليعملوا في أراضي المسلمين وينتفعوا بها ، نظير خراج يقدّمونه إليهم .

والدليل على ذلك ما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد :من أنّ عتبة ابن فرقد اشترى أرضاً على شاطئ الفرات ، ليتّخذ فيها قضباً ، فذكر ذلك لعمر فقال : ممّن اشتريتها ؟ قال : من أربابها فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال : هؤلاء أهلها ، فهل اشتريت منهم شيئاً ؟ قال : لا ، قال : فارددها على من اشتريتها منه ، وخذ مالك (٢) .

٧ ـ وعن أبي عون الثقفي في كتاب الأموال، أنّه قال : أسلم دهقان على عهد عليعليه‌السلام ، فقام الإمام عليه الصلاة والسلام وقال :( أما أنت فلا جزية عليك ، وأما أرضك فلنا ) (٣) .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : الأموال : ٧٢ ، الحديث ١٤٦ .

(٢) الأموال : ٩٩ ، الحديث ١٩٦ .

(٣) الأموال : ١٠٣ ، الحديث ٢٠٦ .

٣٦٥

٨ ـ وفي البخاري عن عبد الله قال :( أعطى النبي خيبراً ليهودٍ أن يعملوها ويزرعوها ، ولهم شطر ما يخرج منها ) (١) وهذا الحديث يشعّ بتطبيق رسول الله صلى الله عليه وآله لمبدأ الملكية العامة على خيبر ، بوصفها مفتوحة في الجهاد ، بالرغم من وجود روايات معارضة(٢) ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد قسّم الأرض بين المحاربين خاصة على أساس مبدأ الملكية الخاصة بدلاً عن تطبيق مبدأ الملكية العامة ، لَمَا دخل مع اليهود في عقد مزارعة بوصفه حاكماً ، فإنّ دخوله بهذا الوصف في العقد يشير إلى أنّ الأرض كان أمرها موكولاً إلى الدولة لا إلى الإفراد الغانمين أنفسهم .

وقد ذكر بعض المفكّرين الإسلاميين : أنّ حادثة معاملة خيبر هذه دليل قطعي على أنّ من حقّ الدولة أن تمتلك أموال الأفراد ، الأمر الذي يقرر جواز التأميم في الإسلام ؛ لأنّ القاعدة العامة في الفيء تقسيمه على المقاتلين ، فالاحتفاظ به للدولة دون تقسيم على مستحقّيه تخويل للدولة في أن تضع يدها على حقوق رعاياها متى رأت في ذلك مصلحة تقتضيها سعادة المجموع ، فصح إذن : أنّ للدولة حقّ تأميم الملكيّات الخاصة .

ولكنّ الحقيقة أنّ احتفاظ الدولة بالأراضي المفتوحة ، وعدم تقسيمها بين المقاتلين كما تقسّم سائر الغنائم ، ليس تطبيقاً لمبدأ التأميم ؛ وإنّما هو تطبيق لمبدأ الملكيّة العامة ، فإنّ الأرض المفتوحة لم تشرع فيها الملكية الخاصة ، وتقسيم الفيء : (الغنيمة ) مبدأ وضعه الشارع في الغنائم المنقولة فقط فالملكية العامة للأرض المفتوحة ـ إذن ـ طابعٌ أصيلٌ لها في التشريع الإسلامي ، وليست تأميماً وتشريعاً ثانوياً بعد تقرير مبدأ الملكية الخاصة .

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ أكثر النصوص التي قدّمناها تقرّر : أنّ رقبة الأرض ـ أي : نفس الأرض ـ ملك لمجموع الأمّة يتولّى الإمام رعايتها بوصفه وليّ الأمر ، ويتقاضى من المنتفعين بها خراجاً خاصاً ، يقدّمه المزارعون أجرة على انتفاعهم بالأرض والأمّة هي التي تملك الخراج ؛ لأنّها ما دامت تملك رقبة الأرض فمن الطبيعي أن تملك منافعها وخراجها أيضاً .

ـــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٣٨ ، باب المزارعة مع اليهود .

(٢) سيأتي عن قريب البحث عنها .

٣٦٦

مناقشة لأدلّة الملكية الخاصة :

وفي الباحثين الإسلاميين ـ معاصرين وغير معاصرين ـ من يتّجه إلى القول بخضوع الأرض المفتوحة عنوة لمبدأ التقسيم بين المقاتلين على أساس الملكية الخاصة ، كما تقسّم سائر الغنائم بينهم(١) .

ويعتمد هؤلاء فقهياً على أمرين :

أحدهما : آية الغنيمة .

والآخر : ما هو المأثور من سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تقسيم غنائم خيبر .

أمّا آية الغنيمة فهي قوله في سورة الأنفال :( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (٢) .

وهي في رأي هؤلاء تقتضي بظاهرها : أنّ كلّ ما غُنم يخمّس ، وبالتالي يقسّم الباقي منه على الغانمين دون فرقٍ بين الأرض وغيرها من الغنائم ولكنّ الحقيقة أنّ قصارى ما تدلّ عليه الآية الكريمة هو وجوب اقتطاع خمس الغنيمة بوصفها ضريبة تتقاضاها الدولة لصالح ذي القربى والمساكين والأيتام وابن السبيل ولنفترض أنّ هذه الضريبة تقتطع من الأرض أيضاً ، فإنّ ذلك لا يشرح بحالٍ من الأحوال مصير الأخماس الأربعة الأخرى ، ولا نوع الملكية التي يجب أن تطبّق عليها ؛ لأنّ الخمس ـ باعتباره ضريبة لصالح فئات معيّنة من الفقراء وأشباههم ـ كما يمكن أن يفرض لحساب هذه الفئات على ما يملكه المحاربون ملكية خاصة من الغنائم المنقولة ، كذلك يمكن أن يفرض لحساب تلك الفئات أيضاً ، على ما تملكه الأمّة ملكية عامة من الأرض المفتوحة فلا توجد إطلاقاً صلة بين التخميس والتقسيم فقد يخضع مال لمبدأ التخميس ولكن ليس من الضروري أن يقسّم بين المحاربين على أساس الملكية الخاصة ، فآية التخميس لا تدلّ على التقسيم بين المحاربين إذن .

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ٢١ : ١٥٧ ، نقل ذلك عن بعض أهل السنّة .

(٢) سورة الأنفال : ٤١ .

٣٦٧

وبكلمة أخرى : أنّ الغنيمة التي تتحدّث عنها آية الغنيمة إمّا أن تكون بمعنى الغنيمة الحربيّة ، أي : ما تمّ الاستيلاء عليه بالحرب ، وإمّا أن تكون بمعنى الغنيمة الشرعية ، أي : ما تملّكه الإنسان بحكم الشارع من أموال ، فإذا فسّرنا الكلمة بالمعنى الأوّل فليس في الآية الكريمة أيّ دلالةٍ على أنّ غير الخمس من الغنيمة يعتبر ملكاً للمحاربين في كلّ الحالات ، وإذا فسّرنا الكلمة بالمعنى الثاني كانت الآية بنفسها تفترض ملكية المخاطبين للمال كموضوع لها ، فكأنّها قالت : إذا ملكتم مالاً فالخمس ثابت فيه وفي هذه الحالة لا يمكن أن تعتبر الآية دليلاً على ملكية المحاربين للغنيمة ؛ لأنّها لا تحقّق موضوعها ولا تثبت شرطها .

وأمّا المأثور من سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تقسيم غنائم خيبر ، فهو الدليل الثاني الذي استند إليه هؤلاء المؤمنون بتقسيم الأرض بين المحاربين خاصة(١) ، اعتقاداً منهم بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طبّق على أراضي خيبر مبدأ الملكية الخاصة ، وقسّمها بين المحاربين الذين فتحوها .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : سنن أبي داود ٣ : ١٦٠ ، الحديث ٣٠١٥ .

٣٦٨

ولكنّا نشك في صواب هذا الاعتقاد كلّ الشك ، حتى لو افترضنا صحّة الروايات التأريخية التي تحدّثت عن تقسيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبراً على المقاتلين ؛ لأنّ التأريخ العام الذي ينقل هذا يحدثنا عن ظواهر أخرى في سيرته الرائدة تساهم في فهم القواعد التي طبّقها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على غنائم خيبر .

فهناك ظاهرة احتفاظ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجزء كبير من خيبر لمصالح الدولة والأمّة ، فقد جاء في سنن أبي داود ، عن سهل بن أبي حشمة :( أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم خيبر نصفين ، نصفاً لنوائبه وحاجاته ، ونصفاً بين المسلمين ، قسّمها بينهم على ثمانية عشر سهماً ) (١) .

وعن بشير بن يسار مولى الأنصار، عن رجال من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا ظهر على خيبر قسّمها على ستّة وثلاثين سهماً ، جمع كلّ سهم مئة سهم ، فكان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمسلمين النصف من ذلك ، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس )(٢) .

وعن ابن يسار أنّه قال :( لمّا أفاء الله على نبيّه خيبر ، قسّمها على ستّة وثلاثين سهماً ، جمع كلّ سهم مئة سهم ، فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به : (الوطيحة) و(الكتيبة) وما أحيز معهما ، وعزل النصف فقسّمه بين المسلمين : (الشقّ) و ( النطأة ) وما أحيز معهما ، وكان سهم رسول الله فيما أحيز معهما ) (٣) .

وهناك ظاهرة أخرى ، وهي : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمارس بنفسه السيطرة على أراضي خيبر ، بالرغم من تقسيم جزء منها على الأفراد ، إذ باشر الاتّفاق مع اليهود على مزارعة الأرض ، ونصّ على أنّ له الخيار في إخراجهم متى شاء .

ـــــــــــــــ

(١) سنن أبي داود ٣ : ١٥٩ ، الحديث ٣٠١٠ .

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٣٠١٢ .

(٣) المصدر السابق : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، الحديث ٣٠١٣ .

٣٦٩

فقد جاء في سنن أبي داود :( أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يُجلي اليهود عن خيبر ، فقالوا : يا محمّد دعنا نعمل في هذه الأرض ، ولنا الشطر ما بدا لك ، ولكم الشطر ) (١) .

وفي سنن أبي داود أيضاً عن عبد الله بن عمر :( أنّ عمر قال : أيّها الناس إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عامل يهود خيبر على أنّا نخرجهم إذا شئنا ، فمن كان له مال فليلحق به ، فإنّي مخرج يهود خيبر ، فأخرجهم ) (٢) .

وعن عبد الله بن عمر أيضاً أنّه قال :( لمّا افتتحت خيبر سألتْ يهودٌ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن يقرّهم على أن يعملوا على النصف ممّا خرج منها ، فقال رسول الله : أقرّكم فيها على ذلك ما شئنا ، فكانوا على ذلك ، وكان التمر يقسم على السهمان في نصف خيبر ، ويأخذ رسول الله الخمس ) (٣) .

ونقل أبو عبيد في كتاب الأموال عن ابن عبّاس أنّه قال :( دفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر ـ أرضها ونخلها ـ إلى أهلها مقاسمةً على النصف ) (٤) .

ونحن إذا جمعنا بين هاتين الظاهرتين من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بين احتفاظه بجزءٍ كبيرٍ من خيبر لمصالح المسلمين وشؤون الدولة ، وبين ممارسته بوصفه

ـــــــــــــــ

(١) سنن أبي داود ٣ : ١٥٧ ، الحديث ٣٠٠٦ .

(٢) المصدر السابق : ١٥٨ ، الحديث ٣٠٠٧

(٣) المصدر السابق ، الحديث ٣٠٠٨ .

(٤) الأموال : ٩٧ ، الحديث ١٩١ .

٣٧٠

ولي الأمر لشؤون الجزء الآخر أيضاً ، الذي نفترض أنّه قد قسّمه بين المقاتلين إذا جمعنا بين ذلك كلّه ، نستطيع أن نضع للسيرة النبوية تفسيراً ينسجم مع النصوص التشريعية السابقة ، التي تقرّر مبدأ الملكية العامة في الأرض المفتوحة ، فإنّ من الممكن أن يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طبّق على أرض خيبر مبدأ الملكية العامة ، الذي يقتضي تملّك الأمّة لرقبة الأرض ، ويحتّم لزوم استخدامها في مصالح الأمّة وحاجاتها العامة .

والحاجات العامة للأمّة يومئذٍ كانت من نوعين :أحدهما : تيسير نفقات الحكومة ، التي تنفقها خلال ممارستها لواجبها في المجتمع الإسلامي .والآخر: إيجاد التوازن الاجتماعي ورفع المستوى العام ، الذي كان متردّياً إلى درجة قالت السيدة عائشة في وصفه :( إنّا لم نشبع من التمر حتى فتح الله خيبر ) (١) .

فإنّ هذه الدرجة من التردّي التي تقف حائلاً دون تقدّم المجتمع الفتي ، وتحقيق مثله في الحياة ، يعتبر علاجها حاجة عامة للأمة .

وقد حقّقت السيرة النبوية إشباع كلا النوعين من الحاجات العامّة للأمّة ؛فالنوع الأوّل ضمن النبيّ إشباعه بالنصف الذي حدّثتنا الروايات السابقة عن تخصيصه للنوائب والوفود ونحو ذلكوالنوع الثاني من الحاجات عولج عن طريق تخصيص ريع النصف الآخر من أرض خيبر لمجموعة كبيرة من المسلمين ؛ ليساعد ذلك على تجنيد الطاقات العامة في المجتمع الإسلامي ، وفسح المجال

ـــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ١٠ : ٤٦٩ ، الحديث ٣٠١٣٢ وفيه ( عن عائشة قالت : لمّا فتح الله علينا خيبر قلت : يا رسول الله ، الآن نشبع من التمر ) ! .

٣٧١

أمامها لمستوى أرفع فلم يكن يعني تقسيم نصف خيبر على عدد كبير من المسلمين منحهم ملكية رقبة الأرض ، وإخضاعها لمبدأ الملكية الخاصة ، وإنّما هو تقسيم للأرض باعتبار ريعها ومنافعها مع بقاء رقبتها ملكاً عاماً .

وهذا هو الذي يفسّر لنا مباشرة ولي الأمر للتصرفات التي تتّصل بأرض خيبر ، بما فيها سهام الأفراد ؛ لأنّ رقبة الأرض ما دامت ملكاً للأمّة فيجب أن يكون وليّها هو الذي يتولّى شؤونها .

كما يفسّر لنا شمول التقسيم لبعض الأفراد ، ممّن لم يساهم في معركة خيبر ، كما نصّ على ذلك عدد من المحدّثين والمؤرّخين(١) ، فإنّ هذا يعزّز موقفنا في تفسير هذا التقسيم على أساس محاولة إيجاد التوازن في المجتمع بدلاً عن تفسيره بوصفه تطبيقاً لمبدأ توزيع الغنيمة على المقاتلين الذي لا يسمح بمشاركة غيرهم .

وتوجد آية أخرى استدل بها بعض القائلين بالملكية الخاصة ، وهي قوله تعالى :( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا ) (٢) .

على أساس أنّ الآية اعتبرت الأرض ميراثاً للجماعة التي خاطبتهم وهم المؤمنون المعاصرون لنزول الآية ، وهذا ينفي ملكيّتها للأمّة على امتدادها ، وقد ساوت الآية بين الأرض والأموال وساقتها مساقاً واحداً وهذا يعني أنّ الوارث للأموال هو الوارث للأرض ، ومن الواضح أنّ الأموال تختص بالمقاتلين فكذلك الأرض .

ونلاحظ بهذا الصدد : أنّ الآية الكريمة قد عطفت على أرضهم وأموالهم أرضاً وصفتها بأنّها لم يطأها المسلمون والمقصود بهذه الأرض : إمّا الأرض التي لم يوجف عليها بخيل ولا رِكاب وفرّ أهلها خوفاً من المسلمين ، وأمّا الأرض التي

ـــــــــــــــ

(١) راجع الكامل في التأريخ ٣ : ٢٢٤ .

(٢) سورة الأحزاب : ٢٧ .

٣٧٢

كانت من المقدر أن تفتح بعد ذلك ، كأراضي الفرس والروم ، كما قيل في كتب التفسير(١) .

فإذا أخذنا بالفرضية الأولى في تفسير هذه الفقرة ـ كما هو الظاهر ؛ لأنّ الآية تدلّ على أنّها قد تمّ توريثها فعلاً للمسلمين ـ كانت تعبيراً عن نوع من الأنفال الذي ترجع ملكية إلى الله ورسوله لا إلى المسلمين ، وهذا يشكّل قرينة على أنّ المقصود بإرث المسلمين لتلك الأشياء انتقال السيطرة والاستيلاء إليهم لا انتقال الملكية بالمعنى الشرعي ، فلا تكون في الآية دلالة على نوع الملكية للأرض.

وإذ أخذنا بالفرضية الثانية في تفسير تلك الفقرة ، كانت قرينة على أنّ الآية ليست متجهة نحو المعاصرين نزولها فحسب ، بل نحو الأمّة على امتدادها ؛ لأنّ فتح الأراضي في المعارك المستقبلة قد لا يشهده المعاصرون بوصفهم أفراداً وإنّما يشهدونه بوصفهم تعبيراً عن الأمّة الممتدّة تأريخياً ، فيتناسب توريث الأرض في الآية الكريمة عندئذٍ مع الملكية العامة للمسلمين .

وأمّا الاستناد إلى وحدة السياق لإثبات أنّ من ملكوا الأرض هم بعينهم من ملكوا الأموال ـ أي : المقاتلين خاصة ـ فهو غير صحيح ؛ لأنّه يؤدّي إلى جعل الآية خطاباً للمقاتلين خاصة ، مع أنّ ظاهر الآية الكريمة الاتجاه نحو الجماعة المسلمة المعاصرة كلّها ، فلا بدّ من إعطاء التوريث معنى غير التمليك بالمعنى الحرفي الذي يختصّ بالمقاتلين في الأموال المغتَنَمة ، وهو إمّا السيطرة أو دخول ملكية تلك الأشياء في حوزتهم سواء اتّخذت شكل الملكية الخاصة أو العامة ، فتكون الآية الكريمةفي قوّة قولنا : ومكّنكم من أرضهم وأموالهم ،أو قولنا : وضممنا ملكية أرضهم وأموالهم إلى حوزتكم . فلا تكون في الآية دلالة على أنّ المالك بالمعنى الحرفي للكلمة واحد في الأموال وفي الأراضي .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : مجمع البيان ٤ : ٣٥١ ، والكشّاف ٣ : ٥٣٤ .

٣٧٣

والنتيجة التي نخرج بها من كلّ ذلك هي : أنّ الأرض المفتوحة مملوكة بالملكية العامة للمسلمين ، إذا كانت عامة حال الفتح(*) وهي باعتبارها ملكاً عاماً للأمّة ووقفاً على مصالحها العامة لا تخضع لأحكام الإرث ، ولا ينتقل ما يملكه الفرد المسلم منه ـ بوصفه فرداً من الأمّة ـ إلى ورثته ، بل لكلّ مسلم الحقّ فيها بوصفه مسلماً فحسب .

وكما لا تورث الأرض الخراجية لا تباع أيضاً ؛ لأنّ الوقف لا يجوز بيعهفقد قال الشيخ الطوسي في المبسوط : إنّه لا يصح التصرف ببيع فيها وشراء ، ولا هبةٍ ، ولا معاوضة ، ولا تمليك ، ولا إجارة ولا إرث (١) .

وقال مالك : ( لا تقسّم الأرض ؛ وتكون وقفاً يصرف خراجها في مصالح المسلمين ، من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد ، وغير ذلك من سُبل الخير ) (٢) .

وحين تسلّم الأرض إلى المزارعين لاستثمارها ، لا يكتسب المزارع حقّاً شخصياً ثابتاً في رقبة الأرض ، وإنّما هو مستأجر يزرع الأرض ويدفع الأجرة أو الخراج ، وفقاً للشروط المتّفق عليها في العقد وإذا انتهت المدّة المقرّرة انقطعت صلته بالأرض ، ولم يجز له استثمارها والتصرّف فيها إلاّ بتجديد العقد ، والاتفاق مع وليّ الأمر مرّة أخرى .

ـــــــــــــــ

(*) راجع الملحق رقم ١.

(١)المبسوط ٢ : ٣٤ .

(٢) بداية المجتهد ١ : ٤٠١ .

٣٧٤

وقد أكدّ ذلك بكلّ وضوح الفقيه الأصفهاني في تعليقه على المكاسب ،نافياً اكتساب الفرد أيّ حقّ شخصيٍّ في الأرض الخراجية ، زائداً على حدود إذن ولي الأمر في عقد الإجارة الذي يسمح له بالانتفاع بالأرض واستثمارها ، نظير أجرة خلال مدّة محدّدة (١) .

وإذا أهملت الأرض الخراجية حتى خربت وزالت عمارتها ، لم تفقد بذلك صفة الملكية العامة للأمّة ولذلك لا يسمح لفرد بإحيائها إلاّ بإذن من ولي الأمر ، ولا ينتج عن إحياء الفرد لها حقّ خاص في رقبة الأرض ، لأنّ الحقّ الخاص بسبب الأحياء إنّما يوجد في أراضي الدولة التي سنتحدّث عنها فيما يأتي ، لا في الأرض الخراجية التي تملكها الأمّة ملكية عامة كما صرح بذلك المحقّق صاحب البُلغة في كتابه(٢) .

فالمساحات التي لحقها الخراب من الأراضي الخراجية ، تظلّ خراجية وملكاً للمسلمين ، ولا تصبح ملكاً خاصاً للفرد ، بسبب إحيائه وأعماره لها .

ويمكننا أن نستخلص من هذا العرض : أنّ كلّ أرض تُضمّ إلى دار الإسلام بالجهاد ، وهي عامرة بجهود بشرية سابقة على الفتح تطبق عليها الأحكام الشرعية الآتية :

أوّلا : تكون ملكاً عاماً للأمّة ، ولا يباح لأيّ فرد تملّكها والاختصاص بها(٣) .

ثانياً : يعتبر لكلّ مسلم حقّ في الأرض ، بوصفه جزءاً من الأمّة ، ولا يتلقّى نصيب أقربائه بالوراثة(٤) .

ـــــــــــــــ

(١) حاشية المكاسب ٣ : ١٩ ـ ٢٠ .

(٢) بلغة الفقيه ١ : ٣٥٠ وما بعدها

(٣) و (٤) جواهر الكلام ٣٨ : ١٧ .

٣٧٥

ثالثاً : لا يجوز للأفراد إجراء عقد على نفس الأرض ، من بيع وهبة ونحوها(١) .

رابعاً : يعتبر وليّ الأمر هو المسئول عن رعاية الأرض واستثمارها ، وفرض الخراج عليها عند تسليمها للمزارعين(٢) .

خامساً : الخراج الذي يدفعه المزارع إلى ولي الأمر ، يتبع الأرض في نوع الملكية فهو ملك للأمّة كالأرض نفسها(٣) .

سادساًً : تنقطع صلة المستأجر بالأرض عن انتهاء مدّة الإجارة ، ولا يجوز له احتكار الأرض بعد ذلك .

سابعا ً: أنّ الأرض الخراجية إذا زال عنها العمران وأصبحت مواتاً لا تخرج عن وصفها مِلكاً عاماً ، ولا يجوز للفرد تملّكها عن طريق إحيائها وإعادة عمرانها من جديد(٤)

ثامناً : يعتبر عمران الأرض حال الفتح الإسلامي بجهود أصحابها السابقين شرطاً أساسياً للملكية العامة والأحكام الآنفة الذكر ، فما لم تكن معمورة بجهد بشري معيّن ، لا يحكم عليها بهذه الأحكام .

وعلى هذا الأساس ، نصبح اليوم في مجال التطبيق بحاجة إلى معلومات تأريخية واسعة عن الأراضي الإسلامية ، ومدى عمرانها ، لنستطيع أن نميّز في ضوئها المواضع التي كانت عامرة وقت الفتح ، عن غيرها من المواضع المغمورة

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ٣٨ : ١٧ .

(٢) إرشاد الأذهان ١ : ٣٤٧ ـ ٣٤٨ .

(٣) جواهر الكلام ٢١ : ١٦٦ .

(٤) جواهر الكلام ٣٨ : ١٨ .

٣٧٦

ونظراً إلى صعوبة توفر المعلومات الحاسمة بهذا الصدد اكتفى كثير من الفقهاء بالظنّ ، فكلّ أرض يغلب على الظنّ أنّها كانت معمورة حال الفتح الإسلامي تعتبر ملكاً للمسلمين(١) .

ولنذكر على سبيل المثال محاولات بعض الفقهاء لتحديد نطاق الأرض الخراجية المملوكة ملكية عامة من أراضي العراق ، التي فتحت في العقد الثاني من الهجرة : فقد جاء في كتاب (المنتهى )للعلامة الحلّي :

( أنّ أرض السواد هي الأرض المفتوحة من الفرس ، التي فتحها عمر بن الخطاب ، وهي سواد العراق وحدّه في العرض : من مقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية ، المتصل بالعذيب من أرض العرب ومن تخوم الموصل طولاً إلى ساحل البحر ببلاد عبادان ، من شرقي دجلة وأمّا الغربي الذي يليه البصرة فإنّما هو إسلامي ، مثل شط عمرو بن العاص وهذه الأرض ( أي : الحدود التي حدّدها ) فتحت عنوة فتحها عمر بن الخطاب ، ثمّ بعث إليها بعد فتحها ثلاثة أنفس : عمار بن ياسر على صلاتهم أميراً، وابن مسعود قاضياً ووالياً على بيت المال ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض وفرض لهم في كلّ يوم شاة ، شطرها مع السواقط لعمار ، وشطرها للآخرين ، وقال : ما أرى قرية تؤخذ منها كلّ يوم شاة إلاّ سرع خرابها .

ومسح عثمان أرض الخراج ، واختلفوا في مبلغها فقال المسّاح : اثنان وثلاثون ألف ألف جريب. وقال أبو عبيدة: ستة وثلاثون ألف ألف جريب )(٢) .

وجاء في كتاب الأحكام السلطانية لأبي يعلى (٣) : ( أنّ حدّ السواد طولاً : من حديثة الموصل إلى عبادان وعرضاً من عذيب القادسية إلى حلوان يكون طوله (١٦٠) فرسخاً وعرضه (٨٠) فرسخاً ، إلاّ قريّات ـ قد سمّاها أحمد ، وذكرها أبو عبيد : الحيرة ، ويانقيا ، وأرض بني صلوبا ، وقرية أخرى ـ كانوا صلحاً .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : مسالك الأفهام ١٢ : ٢٩٣ .

(٢) منتهى المطلب (ط. حجرية) ٢ : ٩٣٧ .

(٣) الأحكام السلطانية ٢ : ١٧٣ .

٣٧٧

وروى أبو بكر بإسناده عن عمر أنّه كتب : ( أنّ الله عزّ وجلّ فتح ما بين العذيب إلى حلوان ) .

وأمّا العراق فهو في العرض مستوعب لعرض السواد عرفاً ، ويقصر عن طوله في العرض ؛ لأنّ أوّله في شرقي دجلة : (العلث ) وعن غربيها (حربي ) ، ثمّ يمتدّ إلى آخر أعمال البصرة من جزيرة عبادان ، فيكون طوله (١٢٥) فرسخاً يقصر عن طول السواد بـ (٣٥) فرسخاً ، وعرضه (٨٠) فرسخاً كالسواد .

قال قدامة بن جعفر : يكون ذلك مكسّراً : عشرة آلاف فرسخ ، وطول الفرسخ : (١٢) ألف ذراع بالذراع المرسلة ويكون بذارع المساحة : تسعة آلاف ذراع ، فيكون ذلك إذا ضرب في مثله ، وهو تكسير فرسخ في فرسخ (٢٢) ألف جريب و(٥٠٠) جريب ، فإذا ضرب ذلك في عدد الفراسخ وهي (١٠٠٠٠) فرسخاً بلغ مئتي ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف جريب ، يسقط منها بالتخمين : مواضع التلال ، والآكام ، والسباخ ، والآجام ، ومدارس الطرق والمحاج ، ومجاري الأنهار ، وعراص المدن والقرى ، ومواضع الأرحاء والبحيرات ، والقناطر ، والشاذروانات والبيادر ومطارح القصب وأتانين الآجر وغير ذلك ، وهو : ٧٥ ألف ألف جريب يصير الباقي من مساحة العراق مئة ألف ألف جريب وخمسين ألف ألف جريب ، يراح منها النصف ويكون النصف مزروعاً ، مع ما في الجميع من النخل والكرم والأشجار وإذا أضفت إلى ما ذكره قدامة في مساحة العراق ما زاد عليها من بقية السواد ، وهو(٣٥) فرسخاً كانت

٣٧٨

الزيادة على تلك المساحة قدر ربعها ، فيصير ذلك مساحة جميع ما يصلح للزرع والغرس من أرض السواد وقد يتعطّل منه بالعوارض والحوادث ما لا ينحصر ) .

ب ـ الأرض المَيتَة حال الفتح :

وإذا لم تكن الأرض عامرة حين دخولها في الإسلام لا بشرياً ولا طبيعياً فهي ملك للإمام ـ وهذا ما نصطلح عليه باسم : ملكية الدولة ـ وليست داخلة ضمن نطاق الملكية الخاصة ، وبذلك كانت تتّفق مع الأرض الخراجية في عدم الخضوع لمبدأ الملكية الخاصة ، ولكنّها تختلف عنها مع ذلك في شكل الملكية ؛ فالأرض العامرة حال الفتح تعتبر حين ضمها إلى حوزة الإسلام ملكاً عامّاً للأمة ، والأرض المَيتَة تعتبر حين دخولها في دار الإسلام ملكاً للدولة .

الدليل على ملكية الدولة للأرض المَيتَة :

والدليل التشريعي على ملكية الدولة للأرض المَيتَة حين الفتح هو : أنّها من الأنفال ، كما جاء في الحديث(١) والأنفال عبارة : عن مجموعة من الثروات التي حكمت الشريعة بملكية الدولة لها في قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (٢) وقد روى الشيخ الطوسي في التهذيب بشأن نزول هذه الآية : أنّ بعض الأفراد سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعطيهم شيئاً من الأنفال ، فنزلت الآية تؤكد مبدأ ملكية الدولة ، وترفض تقسيم الأنفال بين الأفراد على

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٤ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ٤ .

(٢) سورة الأنفال : ١.

٣٧٩

أساس الملكية الخاصة (١) .

وتملّك الرسول للأنفال يعبّر عن تملك المنصب الإلهي في الدولة لها ، ولهذا تستمر ملكية الدولة للأنفال وتمتد بامتداد الإمامة من بعده ، كما ورد في الحديث عن عليعليه‌السلام : أنّه قال :( إنّ للقائم بأمور المسلمين الأنفال التي كانت لرسول الله ، قال الله عزّ وجلّ : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ) ، فما كان لله ولرسوله فهو للإمام ) (٢) فإذا كانت الأنفال ملكاً للدولة ـ كما يقرّره القرآن الكريم ـ وكانت الأرض غير العامرة حال الفتح من الأنفال فمن الطبيعي أن تندرج هذه الأرض في نطاق ملكية الدولة وعلى هذا الأساس ورد عن الصادقعليه‌السلام ، بصدد تحديد ملكية الدولة (الإمام) :أنّ المَوَات كلّها هي له ، وهو قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ـ أن تعطيهم منه ـ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ) (٣) .

وممّا قد يشير إلى ملكية الدولة للأراضي المَوَات أيضاً ، ما ورد في الحديث : من أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( ليس للمرء إلاّ ما طابت به نفس إمامه ) (٤) . وقد استدلّ أبو حنيفة بهذا الحديث على أنّ المَوَات لا يجوز إحياؤها والاختصاص بها دون إذن الإمام(٥) ، وهذا يتفق تماماً مع ملكية الإمام للمَوَات ، أو مِلكيّة الدولة بتعبير آخر(*) .

ـــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام ٤ : ١٢٦ ، باب تمييز أهل الخمس ، الحديث ٥ .

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٣٠ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ١٩ .

(٣) المصدر السابق : ٥٢٩ ، الحديث ١٧ .

(٤) كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق ٢ : ١٢٦ ، والمبسوط ٢٣ : ١٦٧ .

(٥) راجع المحلّى ٨ : ٢٣٤ .

(*) راجع : الملحق رقم ٢ .

٣٨٠