اقتصادنا

اقتصادنا7%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152629 / تحميل: 9465
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

قوله تعالى: ( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) قيد للتكذيب، و فسّروا اليقين بالموت لكونه ممّا لا شكّ فيه فالمعنى و كنّا في الدنيا نكذّب بيوم الجزاء حتّى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنّا نكذّب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقّيّة يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخيّة حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) تقدّم في بحث الشفاعة أنّ في الآية دلالة على أنّ هناك شافعين يشفعون فيشفّعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنّهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٨١

( سورة المدّثّر الآيات 49 - 56)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( 52 ) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

( بيان‏)

في معنى الاستنتاج ممّا تقدّم من الوعيد و الوعد اُورد في صورة التعجّب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفّرهم عن الحقّ الصريح كأنّه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحقّ و يتذكّروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلّا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كلّ امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلّا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثمّ يعرض عليهم التذكرة عرضاً فهم على خيرة من القبول و الردّ فإن شاؤا قبلوا و إن شاؤا ردّوا، لكن عليهم أن يعلموا أنّهم غير مستقلّين في مشيّتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلّا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتّة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) تفريع على ما تقدّم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و( لَهُمْ ) متعلّق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و( مُعْرِضِينَ ) حال من ضمير( لَهُمْ ) و( عَنِ التَّذْكِرَةِ ) متعلّق بمعرضين.

١٨٢

و المعنى: فإذا كان كذلك فأيّ شي‏ء كان - عرض - للمشركين الّذين يكذّبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدّقوا و يؤمنوا لكنّهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشيّة و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسّر بكلّ من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنّهم حمر وحشيّة نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) المراد بالصحف المنشّرة الكتاب السماويّ المشتمل على الدعوة الحقّة.

و في الكلام إضراب عمّا ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرّد النفرة بل يريد كلّ امرئ منهم أن ينزّل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنّهم إنّما يقبلون دعوته و لا يردّونها لو دعا كلّ واحد منهم بإنزال كتاب سماويّ إليه مستقلّاً و أمّا الدعوة من طريق الرّسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقّة مؤيّدة بالآيات البيّنة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) الأنعام: 124، و في معنى قول الاُمم لرسلهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) على ما قرّرنا من حجّتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إنّ الآية في معنى قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي حكاه الله في قوله:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: 93.

و يدفعه أنّ مدلول الآية أن ينزل على كلّ واحد منهم صحف منشّرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

١٨٣

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماويّ على كلّ واحد منهم فإنّ دعوة الرسالة مؤيّدة بآيات بيّنة و حجج قاطعة لا تدع ريباً لمرتاب فالحجّة تامّة قائمة على الرسول و غيره على حدّ سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كلّ واحد من الناس المدعوّين صحفاً منشّرة.

على أنّ الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحيّة النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و قوله:( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) إضراب عن قوله:( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و المراد أنّ اقتراحهم نزول كتاب على كلّ امرئ منهم قول ظاهريّ منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقيّ لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنّهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجّة بظهور الآيات البيّنات.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماويّ لكلّ امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتاباً كذلك إنّ القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعدّ للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أي فمن شاء اتّعظ به فإنّما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) دفع لما يمكن أن يتوهّموه من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أنّ الأمر إليهم و أنّهم

١٨٤

مستقلّون في إرادتهم و ما يترتّب عليها من أفعالهم فإن لم يشاؤا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصّل من الدفع أنّ حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكّرهم إن تذكّروا و إن كان فعلاً اختياريّاً صادراً عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشيّة الإلهيّة متعلّقة به بما هو اختياريّ بمعنى أنّ الله تعالى يريد بإرادة تكوينيّة أن يفعل الإنسان الفعل الفلانيّ بإرادته و اختياره فالفعل اختياريّ ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلّق الإرادة الإلهيّة ضروريّ التحقّق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقّق.

و قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل لأن يتّقى منه لأنّ له الولاية المطلقة على كلّ شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتّقاه لأنّه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) صالحة لتعليل ما تقدّم من الدعوة في قوله:( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) و هو ظاهر، و لتعليل قوله:( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلّين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمرّدهم و استكبارهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) و ذلك أنّهم قالوا: يا محمّد قد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفّارته.

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: يسألك قومك سنّة بني إسرائيل

١٨٥

في الذنوب فإن شاؤا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنّا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره ذلك لقومه.

أقول: و القصّة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدّيّ عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمّد صادقاً فليصبح تحت رأس كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصّة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: إلى فلان بن فلان من ربّ العالمين يصبح عند رأس كلّ رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدّمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: قد قال قائلون من الناس لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سرّك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصّة يأمرنا باتّباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأنّ الآية في معنى قوله تعالى:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) الآية و قد تقدّم ما فيه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: هو أهل أن يتّقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال الله عزّوجلّ: أنا أهل أن اُتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئاً و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئاً أن اُدخله الجنّة.

١٨٦

و قال: إنّ الله تبارك و تعالى أقسم بعزّته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن دينار قال: سمعت أباهريرة و ابن عمر و ابن عبّاس يقولون: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: يقول الله: أنا أهل أن اُتّقى فلا يُجعل معي شريك فإذا اتّقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٧

( سورة القيامة مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة القيامة الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لَا وَزَرَ ( 11 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

( بيان‏)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أوّلاً ثمّ تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان اُخرى، و ينبئ أنّ المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون( لا أُقْسِمُ ) كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنّه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد اُقسم بيوم

١٨٨

القيامة و لا اُقسم بالنفس اللوّامة.

و المراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانيّة أعمّ من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنّها تلوم الإنسان يوم القيامة أمّا الكافرة فإنّها تلومه على كفره و فجوره، و أمّا المؤمنة فإنّها تلومه على قلّة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الّتي تلومه يوم القيامة على ما قدّمت من كفر و معصية قال تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) يونس: 54.

و لكلّ من الأقوال وجه.

و جواب القسم محذوف يدلّ عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثنّ، و إنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: 187 و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه: 15 و قال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) النبأ: 1.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) الحسبان الظنّ، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) أي بلى نجمعها( و قادِرِينَ ) حال من فاعل مدخول بلى المقدّر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورها الّتي هي عليها بحسب خلقنا الأوّل.

و تخصيص البنان بالذكر - لعلّه - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيّات التركيب و العدد تترتّب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة الّتي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافاً إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط الّتي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ.

١٨٩

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئاً واحداً من غير تفريق كخفّ البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئاً واحداً فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدّد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدّم أرجح.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال الراغب: الفجر شقّ الشي‏ء شقّاً واسعاً. قال: و الفجور شقّ ستر الديانة يقال: فجر فجوراً فهو فاجر و جمعه فجّار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيّاً، و ضمير( أَمامَهُ ) للإنسان.

و قوله:( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) تعليل سادّ مسدّ معلّله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و( بَلْ ) إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

و المعنى: أنّه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذّب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه اُخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرّر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرّات.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) الظاهر أنّه بيان لقوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فيفيد التعليل و أنّ السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و اُنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البيّنة و قيام الحجج القاطعة أن يتّخذ حذره و يتجهّز بالإيمان و التقوى و يتهيّأ للقاء اليوم قريباً كان أو بعيداً فكلّ ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيّان يوم القيامة؟ فليس إلّا سؤال مكذّب مستهزئ.

قوله تعالى: ( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) ذكر

١٩٠

جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيّره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي أين موضع الفرار، و قوله:( أَيْنَ الْمَفَرُّ ) مع ظهور السلطنة الإلهيّة له و علمه بأن لا مفرّ و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفرّ إذا وقع في شدّة أو هدّدته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذباً قال تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23، و قال:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: 18.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا وَزَرَ ) ردع عن طلبهم المفرّ، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ‏ ) و هو متعلّق بقوله:( الْمُسْتَقَرُّ ) يفيد الحصر فلا مستقرّ إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

و ذلك أنّ الإنسان سائر إليه تعالى كما قال:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: 8 و قال:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فهو ملاقي ربّه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أمّا الحجاب الّذي يشير إليه قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15 فسياق الآيتين يعطي أنّ المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقرّه إليه رجوع أمر ما يستقرّ فيه من سعادة أو شقاوة و جنّة أو نار إلى مشيّته تعالى فمن شاء جعله في الجنّة و هم المتّقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) المائدة: 40.

١٩١

و يمكن أن يراد به أنّ استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88.

قوله تعالى: ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ) المراد بما قدّم و أخّر ما عمله من حسنة أو سيّئة في أوّل عمره و آخره أو ما قدّمه على موته من حسنة أو سيّئة و ما أخّر من سنّة حسنة سنّها أو سنّة سيّئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيّئات.

و قيل: المراد بما قدّم ما عمله من حسنة أو سيّئة فيثاب على الأوّل و يعاقب على الثاني، و بما أخّر ما تركه من حسنة أو سيّئة فيعاقب على الأوّل و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدّم من المعاصي و ما أخّر من الطاعات، و قيل، ما قدّم من طاعة الله و أخّر من حقّه فضيّعه، و قيل: ما قدّم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) إضراب عن قوله،( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ‏ ) إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطنيّ و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجّة كما في قوله تعالى،( ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) إسراء: 102 و الإنسان نفسه حجّة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلّم يداه و رجلاه، قال تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36، و قال( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) حم السجدة: 20. و قال،( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65.

و قوله:( وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

١٩٢

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال: نفس آدم الّتي عصت فلامها الله عزّوجلّ.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه، في قوله:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، في قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إنّي لأتعشّى مع أبي عبداللهعليه‌السلام و تلا هذه الآية( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) ، ثمّ قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداها إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً و يستر سيّئاً؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.

أقول: و رواه في اُصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العبّاس عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن العيّاشيّ عن زرارة قال، سألت أباعبداللهعليه‌السلام ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال،( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) هو أعلم بما يطيق.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضاً.

١٩٣

( سورة القيامة الآيات 16 - 40)

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 ) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ( 33 ) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 35 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 39 ) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ( 40 )

( بيان‏)

تتمّة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و اُخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أنّ هذا

١٩٤

المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثمّ الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يترك سدىً فالّذي خلقه أوّلاً قادر على أن يحييه ثانياً و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ - إلى قوله -ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمّن أدباً إلهيّاً كلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرّك به لسانه و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرّد للإنصات فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) الخطاب فيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الضميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مرّ في معنى قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) القرآن ههنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتّبع

١٩٥

قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهناً بالإنصات و التوجّه التامّ إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتّبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتكرار حتّى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثمّ للتأخير الرتبيّ لأنّ البيان مترتّب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثمّ إنّ علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغيّر و الزوال حتّى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرّك لسانه عند الوحي بما اُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و اُمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي فضمير( لا تُحَرِّكْ بِهِ‏ ) للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله،( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد

١٩٦

لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثمّ إنّ علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بِهِ) ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ( لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) أي بالعلم به( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخّصاً و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) إنّ هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الروايات أنّ للقرآن نزولاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأنّ خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) اعتراضيّ غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله:( كَلَّا ) ردع عن قوله السابق:( يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) و قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا -( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها

١٩٧

حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله:( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهلّلة ظاهرة المسرّة و البشاشة قال تعالى:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، و قال:( وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الدهر: 11.

و قوله:( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و( إِلى‏ رَبِّها ) متعلّق بناظرة قدّم عليها لإفادة الحصر أو الأهمّيّة.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّيّ المتعلّق بالعين الجسمانيّة المادّيّة الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقّه تعالى بل المراد النظر القلبيّ و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمةعليهم‌السلام و قد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: 143، و قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجّهة إلى ربّهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطّع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفاً من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلّا و الرحمة الإلهيّة شاملة لهم( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) النمل: 89 و لا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنّة و لا يتنعّمون بشي‏ء من نعيمها إلّا و هم يشاهدون ربّهم به لأنّهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئاً إلّا من حيث إنّه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنّها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اُورد على القول بأنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) على( ناظِرَةٌ ) يفيد الحصر و الاختصاص، أنّ من الضروريّ أنّهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنّة.

و الجواب أنّهم لمّا لم يحجبوا عن ربّهم كان نظرهم إلى كلّ ما ينظرون إليه إنّما هو بما أنّه آية، و الآية بما أنّها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين

١٩٨

الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلّا إلى ربّهم.

و أمّا ما اُجيب به عنه أنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) لرعاية الفواصل و لو سلّم أنّه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعدّ نظراً، و لو سلّم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلّف التقييد من غير مقيّد على أنّه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنّة إلى ربّهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فسّر البسور بشدّة العبوس و الظنّ بالعلم و( فاقِرَةٌ ) صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنّه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم اُنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظنّ خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع و الظنّ بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ردع عن حبّهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنّه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربّكم و فاعل( بَلَغَتِ ) محذوف يدلّ عليه السياق كما في قوله تعالى:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه

١٩٩

الأحوال أنّه مفارقته للعاجلة الّتي كان يحبّها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ظاهره أنّ المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدّة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدّة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدّة هول المطّلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد اُخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كلّ من المعاني.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنّه الرجوع إليه، و عبّر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسيّر من يوم موته و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) حتّى يرد على ربّه يوم القيامة و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و لو كان تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربّك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربّك و هو الجنّة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنّه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) إلخ، و المراد بالتصديق المنفيّ تصديق الدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفيّة التوجّه العباديّ إليه تعالى بالصلاة الّتي هي عمود الدين.

و التمطّي - على ما في المجمع - تمدّد البدن من الكسل و أصله أن يلوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

ويدل على ذلك أيضاً : ما ورد في كتاب الأموال لأبي عبيد، عن ابن طاووس ، عن أبيه : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( عادي الأرض لله ولرسوله ، ثمّ هي لكم ) (١) فقد حكم هذا النص بملكية الرسول لعادي الأرض ، والجملة الأخيرة :( ثمّ هي لكم ) تقرّر حقّ الإحياء الذي سنشير إليه فيما بعد .

وقد جاء في كتاب الأموال : أنّ عادي الأرض هي كلّ أرض كان لها ساكن في آباد الدهر ، فلم يبقَ منها أنيس ، فصار حكمها إلى الإمام وكذلك كلّ أرض مَوَات لم يحيها أحد ، ولم يملكها مسلك ولا معاهد(٢) .

وفي كتاب الأموال أيضاً ، عن ابن عبّاس : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قدم المدينة جعلوا له كلّ أرض لا يبلغها الماء يصنع بها ما يشاء(٣) . وهذا النصّ لا يؤكّد مبدأ ملكية الدولة للأراضي المَوَات البعيدة عن الماء فحسب ، بل يؤكّد ممارسة النبيّ السيطرة الفعلية على الأراضي المَوَات ، الأمر الذي تعتبر تطبيقاً عملياً لمبدأ ملكية الدولة لها ، فقد ورد في كتاب الإمام الشافعي أنّه ( لمّا قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة أقطع الناس الدور ، فقال حيٌّ من بني زهرة ـ يقال لهم : بنو عبد بن زهرة ـ : نكب عنّا ابن أمّ عبد فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فلم ابتعثني الله إذا ؟! إنّ الله لا يقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيهم

ـــــــــــــــ

(١) الأموال : ٣٤٧ ، الحديث ٦٧٦ ، ومستدرك الوسائل ١٧ : ١١٢ ، الباب الأوّل من أبواب كتاب إحياء المَوَات ، الحديث ٥ .

(٢) الأموال : ٣٥٤ ، الحديث ٦٩٢ .

(٣) المصدر السابق : ٣٥٨ ، الحديث ٦٩٥ .

٣٨١

حقّه) (١) وقد علّق الشافعي على ذلك قائلاً :( وفي هذا دلالة على أنّ ما قارب العامر وكان بين ظهرانيه ، وما لم يقارب من المَوَات ، سواء ؛ في أنّه لا مالك له فعلى السلطان إقطاعه ممّن سأله من المسلمين ) (٢) .

فالأرضان ـ العامرة والمَوَات من أراضي الفتح ـ طبّق عليهما شكلان تشريعيان من أشكال المِلكية ، وهما : المِلكية العامة للأرض العامرة ، ومِلكية الدولة للمَوَات .

نتيجة اختلاف شَكلَي المِلكية :

وهاتان الملكيتان ـ الملكية العامة للأمّة ، وملكية الدولة ـ وإن اتفقتا في المغزى الاجتماعي إلاّ أنّهما يعتبران شكلين تشريعيين مختلفين ؛ لأنّ المالك في أحد الشكلين هو الأمّة ، والمالك في الشكل الآخر هو المنصب ، الذي يباشر حكم تلك الأمّة من قبل الله وينعكس الفرق بين الشكلين في الأمور التالية :

أوّلاً : طريقة استثمار كلّ من المِلكيتين والدور الذي تؤدّيه للمساهمة في بناء المجتمع الإسلامي ، فالأراضي والثروات التي تملك ملكية عامة لمجموع الأمّة يجب على وليّ الأمر استثمارها للمساهمة في إشباع حاجات مجموع الأمّة ، وتحقيق مصالحها العامة التي ترتبط بها ككلّ ؛ نحو إنشاء المستشفيات ، وتوفير وتهيئة مستلزمات التعليم ، وغير ذلك من المؤسّسات الاجتماعية العامة التي تخدم مجموع الأمّة .

ولا يجوز استخدام الملكية العامة لمصلحة جزء معيّن من الأمّة ، ما لم ترتبط مصلحته بمصلحة المجموع ، فلا يسمح بإيجاد رؤوس أموال ـ مثلاً ـ لبعض الفقراء

ـــــــــــــــ

(١) و(٢) الأُمّ ٤ : ٥٠ .

٣٨٢

من ثمار تلك الملكية ما لم يصبح ذلك مصلحة وحاجة لمجموع الأمّة ، كما إذا توقّف حفظ التوازن الاجتماعي على الاستفادة من الملكية العامة في هذا السبيل وكذلك لا يسمح بالصرف من ريع الملكية العامة للأمّة على النواحي التي يعتبر وليّ الأمر مسئولاً عنها من حياة المواطنين الذين في المجتمع الإسلامي وأمّا أملاك الدولة فهي كما يمكن أن تستثمر في مجال المصالح العامة لمجموع الأمّة كذلك يمكن استثمارها لمصلحة معيّنة مشروعة(١) ، كإيجاد رؤوس أموال منها لمن هو بحاجة إلى ذلك من أفراد المجتمع الإسلامي ، أو أيّ مصلحة أخرى من المصالح التي يعتبر وليّ الأمر مسئولاً عنها .

ثانياً: أنّ الملكية العامة لا تسمح بظهور حقّ خاص للفرد ، فقد رأينا فيما سبق أنّ الأرض المفتوحة عنوة والتي تعود ملكيتها للأمّة لا يكسب الفرد فيها حقّاً خاصاً ولو مارس عليها عملية الأحياء ، خلافاً لملك الدولة فإنّ الفرد قد يكتسب في ممتلكاتها حقّاً خاصاً على أساس العمل بالقدر الذي تأذن به الدولة ، فمن يُحيي أرضاً مَيتَة للدولة بإذن من الإمام يكتسب حقّاً خاصاً فيها وإن لم يملك رقبتها ، وإنّما هو حقّ يجعله أولى من الآخرين بها مع بقاء رقبتها ملكاً للدولة على ما يأتي .

ثالث : أنّ ما يدخل في نطاق الملكية العامة للأمّة لا يجوز لولي الأمر بوصفه ولياً للأمر نقل ملكيته إلى الأفراد ببيع أو هبة ونحو ذلك ، خلافاً لما يدخل في نطاق ملكية الدولة فإنّه يجوز فيه ذلك وفقاً لما يقدّره الإمام من المصلحة العامة(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٣ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث الأوّل .

(٢) جواهر الكلام ٣٨ : ١٧ ، ٥٤ ، ٦١ .

٣٨٣

وهذا الفارق بين المِلكِيَتين يقرّب هذين المصطلحين الفقهيين نحو مصطلحي الأموال الخاصة للدولة والأموال العامة لها في لغة القانون الحديث(١) ، فما نطلق عليه اسم ملكية الدولة يوازي من هذه الناحية ما يعبر عنه قانونياً بالأموال الخاصة للدولة ، بينما يناظر الملكية العامّة للأمّة ما يطلق عليه القانون اسم الأموال العامة للدولة غير أنّ مصطلح الملكية العامة للأمّة يتميّز عن مصطلح الأموال العامة للدولة بأنّه يستبطن النصّ على أنّ الأموال العامة التي يشملها هي ملك الأمّة ودور الدولة فيها دور الحارس الأمين ، بينما ينسجم التعبير القانوني بالأموال العامة للدولة مع هذا كما ينسجم مع كونها ملكاً للدولة نفسها .

دور الإحياء في الأراضي المَيتَة :

وكما تختلف الأرض المَيتَة والأرض العامرة في شكل الملكية ، كذلك تختلفان أيضاً من ناحية الحقوق التي يسمح للأفراد باكتسابها في الأرض

فالشريعة لا تمنح الفرد حقّاً خاصاً في رقبة الأرض العامرة حال الفتح ، ولو جدد عمرانها بعد خراب ، كما مر بنا سابقاً .

وأمّا الأرض المَيتَة عند الفتح ، فقد سمحت الشريعة للأفراد بممارسة إحيائها وإعمارها ، ومنحتهم حقّاً خاصاً فيها ، على أساس ما يبذلون من جهد في سبيل إحياء الأرض وعمارتها وفي الروايات ما يقرّر هذه الحقيقة ، إذ جاء عن أهل البيت أنّ :( من أحيا أرضاً فهي له وهو أحقّ بها ) (٢) وورود في صحيح

ـــــــــــــــ

(١) راجع معجم الاقتصاد : ٣٤١ ـ ٣٤٢ ، مادّة : ( أموال عامّة ) ، والمِلكية في النظام الاشتراكي : ٣٨٨ .

(٢) عوالي اللآلئ ٣ : ٢٥٩ ، مع اختلاف .

٣٨٤

البخاري عن عائشة : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( من أعمر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحقّ ) (١) .

وعلى هذا الأساس نعرف : أنّ الملكيّة العامة للأرض في الشريعة لا تنسجم مع الحقّ الخاص للفرد ، فلا يحصل الفرد علي حقّ خاص في أرض الملكية العامة ، مهما قدّم لها من خدمات أو جدّد عمرانها بعد الخراب ، بينما نجد ملكية الدولة للأرض تنسجم مع اكتساب الأفراد حقّاً خاصاً فيها .

والمصدر الأساسي للحقوق الخاصة في أراضي الدولة هو الأحياء والتعمير فممارسة هذا العمل أو البدء بالعمليات التمهيدية له يمنح الممارس حقّاً خاصاً في الأرض ، وبدون ذلك لا تعترف الشريعة بالحقّ الخاص إطلاقاً(*) بوصفه عملية مستقلّة منفصلة عن الإحياء لا تكون سبباً لاكتساب حقّ خاص في الأرض ، وقد جاء في الرواية عن عمر بن الخطاب أنّه قال : ليس لأحدٍ أن يتحجّر(٢) .

والسؤال المهم فقهياً بهذا الشأن ، يرتبط بطبيعة الحقّ الذي يستمدّه الفرد من عملية الإحياء : فما هو هذا الحقّ الذي يحصل عليه الفرد ، نتيجة لعمله في الأرض المَيتَة وإحيائها ؟

هذا هو السؤال الذي يجب علينا أن نجيب عليه ، في ضوء مجموع النصوص التي تناولت عملية الإحياء ، وشرحت أحكامها الشرعية .

وجواب الكثير من الفقهاء على هذا السؤال : أنّ مردّ الحقّ الذي يستمدّه

ـــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٤٠ ، باب مَن أحيا أرضاً مَواتاَ .

(*) راجع الملحق رقم ٣ .

(٢) الأُمّ ٤ : ٤٦ .

٣٨٥

الفرد من إحياء الأرض إلى تملّكه لها مِلكية خاصة ، فتخرج الأرض بسبب الإحياء عن نطاق ملكية الدولة إلى نطاق الملكية الخاصة ، ويملك الفرد الأرض التي أحياها نتيجة لعمله المنفق عليها ، الذي بعث فيها الحياة(١) .

وهناك رأي فقهي آخر يبدو أكثر انسجاماً مع النصوص التشريعية ، يقول : إنّ عملية الإحياء لا تغيّر من شكل مِلكية الأرض ، بل تظلّ الأرض مِلكاً للإمام أو لمنصب الإمامة ، ولا يسمح للفرد بتملّك رقبتها وإن أحياها ، وإنّما يكتسب بالإحياء حقّاً في الأرض دون مستوى الملكية ، ويخولّ له بموجب هذا الحقّ استثمار الأرض والاستفادة منها ، ومنع غيره مِمَن لم يشاركه جهده وعمله من مزاحمته وانتزاع الأرض منه ما دام قائماً بواجبها

وهذا القدر من الحقّ لا يعفيه من واجباته تجاه منصب الإمامة بوصفه المالك الشرعي لرقبة الأرض ، فللإمام أن يفرض عليه الأُجرة أو الطَّسق ـ كما جاء في الحديث(٢) ـ بالقدر الذي يتناسب مع المنافع التي يجنيها الفرد من الأرض التي أحياها .

وقد أخذ بهذا الرأي الفقيه الكبير الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي في بحوث الجهاد من كتابه المبسوط في الفقه ، إذ ذكر : أنّ الفرد لا يملك رقبة الأرض بالإحياء وإنّما يملك التصرّف ، بشرط أن يؤدّي إلى الإمام ما يلزمه عليها وإليكم نصّ عبارته .

( فأمّا المَوَات فإنّها لا تُغنم وهي للإمام خاصة ، فإن أحياها أحدٌ من المسلمين كان أولى بالتصرّف فيها ، ويكون للإمام طَسْقها ) (٣) .

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ٣٨ : ٩

(٢) سيأتي في الصفحة القادمة .

(٣) المبسوط ٢ : ٢٩ .

٣٨٦

ونفس الرأي نجده في بلغة المحقّق الفقيه السيد محمّد بحر العلوم ، إذ مال إلى :

( منع إفادة الإحياء التملّك المجّاني ، من دون أن يكون فيه حقّ ، فيكون للإمام فيه بحسب ما يقاطع المحيي عليها في زمان حضوره وبسط يده ، ومع عدمه فله أجرة المثل ولا ينافي ذلك نسبة الملكية إلى المحيي في أخبار الأحياء ـ أي في قولهم :( من أحيى أرضاً فهي له ) ـ وإن هي إلاّ جارية مجرى كلام الملاّكين للفلاحين في العرف العام ، عند تحريضهم على تعمير الملك : من عمّرها أو حفر أنهارها وكرى سواقيها فهي له ، الدّالة على أحقّيته من غيره ، وتقدّمه على من سواه ، لا على نفي الملكية من نفسه ، وسلب الملكية عن شخصه فالحصة الراجعة إلى الملاّك ـ المعبّر عنها بالملاّكة ـ مستحقة له غير منفيّة عنه ، وإن أضاف الملك إليهم عند الترخيص والإذن العمومي ) (١) .

وهذا الرأي الفقهي الذي يقرّره الشيخ الطوسي والفقيه بحر العلوم ، يستند إلى عدّة نصوص ثابتة بطرقٍ صحيحةٍ عن أئمّة أهل البيت ، علي وآله (عليهم السلام) ، فقد جاء في بعضها :( مَن أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طَسْقها ) (٢) وجاء في بعضها الآخر :( مَن أحيى من الأرض من المسلمين فليعمّرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام ، وله ما أكل منها ) (٣) .

فالأرض في ضوء هذه النصوص لا تصبح مِلكاً خاصّاً لمن أحياها وإلاّ لَمَا صحّ أن يكلّف بدفع أُجرة عن الأرض للدولة ، وإنّما تبقى رقبة الأرض مِلكاً للإمام ، ويتمتّع الفرد بحقّ في رقبة الأرض يمكّنه من الانتفاع بها ومنع الآخرين

ـــــــــــــــ

(١) بلغة الفقيه ١ : ٢٧٤ .

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٤٩ ، الباب الرابع من أبواب الأنفال ، الحديث ١٣ .

(٣) تهذيب الأحكام ٧ : ١٥٢ ، الحديث ٢٣ .

٣٨٧

عن انتزاعها منه وللإمام في مقابل ذلك فرض الطَّسق عليه(*) .

وهذا الرأي الفقهي الذي يعطي لملكية الإمام مدلولها الواقعي ، ويسمح له بفرض الطَّسق على أراضي الدولة لا نجده لدى فقهاء من شيعة أهل البيت ـ كالشيخ الطوسي فحسب ، بل إنّ له بذوراً وصيغاً متنوّعة في مختلف المذاهب الفقهية في الإسلام ، فقد ذهب أحمد بن حنبل إلى أنّ الغامر الميّت من أرض السواد يعتبر أرضاً خراجية أيضاً ، وللدولة فرض الخراج عليه بوصفه مِلكاً لعامة المسلمين ، واستند في ذلك إلى ما صنعه عمر من مسح العامر والغامر من أرض السواد ووضع الخراج عليهما معاً(١) . وبعض الفقهاء جعل مَوَات المفتوح عَنوة مطلقاً للمسلمين(٢) .

وذكر الماوردي عن أبي حنيفة وأبي يوسف : أنّ الفرد إذا أحيا أرضاً من المَوَات وساق إليها ماء الخراج كانت أرض خراج ، وكان للدولة فرض الخراج عليها(٣) ، ويريدان بماء الخراج الأنهار التي فتحت عنوة كدجلة والفرات والنيل ، فكل أرض مَيتَة تُحيا بماء الخراج تصبح خراجية وداخلة في نطاق ولاية الدولة على وضع الخراج ، وإن لم تكن الأرض نفسها مفتوحة عَنوة وجاء في كتاب الأموال لأبي عبيد أنّ أبا حنيفة كان يقول : أرض الخراج هي كلّ أرض بلغها ماء الخراج(٤) .

ـــــــــــــــ

(*) راجع الملحق رقم ٤ .

(١)الأحكام السلطانية ١ : ١٦٦ .

(٢) انظر مستمسك العروة الوثقى : ٩ : ٥٩٩ .

(٣) الأحكام السلطانية ١ : ٢١١ ، الهامش رقم ٢

(٤) الأموال : ٩٢ .

٣٨٨

وأمّا محمّد بن الحسن الشيباني فقد اعترف بدوره أيضاً بمبدأ فرض الخراج على ما يُحيى من الأرض المَوَات ، ولكنّه اختار تفصيلاً آخر غير ما سبق عن أبي حنيفة وأبي يوسف ، فقد قال : إن كانت الأرض المحياة على أنهار حفرتها الأعاجم فهي أرض خراج ، وإن كانت على أنهار أجراها الله عز وجل فهي أرض عشر(١) .

وعلى أيّ حال فإنّ مبدأ فرض الخراج على الأرض المحياة تجده بصورة أو أخرى في اتجاهات فقهية مختلفة .

ونلاحظ أنّ كلمات الفقهاء غير الأماميين هذه لم تصل إلى الدرجة التي بلغتها فتوى الشيخ الطوسي وعدد آخر من فقهاء الإمامية ؛ لأنّها لم تتجاوز بصورة صريحة عن كونها تعبيرات متفاوتة عن حدود الأرض الخراجية وأنّها تشمل قسماً من الأراضي المَوَات كمَوَات السواد أو المَوَات التي تُحيى بماء الخراج ، غير أنّها على أيّ حال تجعلنا نجدُ مبدأ فرض الخراج على الأرض المحياة بصورة أو أخرى في اتجاهات فقهية مختلفة ، ولا يوجد ما يمنع عن اعتباره مبرّراً مبدئياً في الشريعة الإسلامية لفرض الخراج من الإمام على الأراضي المحياة .

ومن المواقف الفقهية الملتقية إلى درجة كبيرة مع رأي الشيخ الطوسي وغيره من علماء الإمامية موقف لبعض فقهاء المذهب الحنفي كأبي القاسم البلخي وغيره ممن تكلّم عن الأرض التي أحياها شخص ثمّ خربت فاستأنف أحياءها شخص آخر ، إذ قالوا : بأنّ الثاني أحقّ بها ؛ لأنّ الأوّل ملك استغلالها لا رقبتها ، فإذا تركها كان الثاني أحقّ بها(٢) . وهذا الكلام وإن كان لا ينصّ على ملكية الدولة

ـــــــــــــــ

(١) الأحكام السلطانية ١ : ٢١١ ، الهامش رقم ٢ .

(٢) راجع شرح فتح القدير ٩ : ٤ ، وشرح العناية على الهداية ، في هامش الصفحة نفسها .

٣٨٩

للأرض المَيتَة وحقّها في فرض الخراج على ما يحيى منها ، ولكنّه يلتقي مع موقف الشيخ الطوسي وغيره من علماء الإمامية في القول : بأنّ الأرض المَيتَة لا تُملك ملكية خاصة ولا تدخل رقبتها في نطاق ملكية المستولي عليها ولو مارس فيها عملية الإحياء والاستثمار(*) .

ونحن حين نقتبس من فقه الشيخ الطوسي مبدأ ملكية الإمام ، بهذا المعنى الذي يسمح له بفرض الخراج على ما يحيى من الأراضي المَيتَة إنّما ندرس الموقف على الصعيد النظري فحسب ، إذ توجد من الناحية النظرية ـ كما عرفنا ـ مبررات لاستنباط هذا المبدأ من النصوص التشريعية .

وأمّا على صعيد التطبيق فلم يؤخذ بهذا المبدأ عملياً في الإسلام ، بل جمّد في المجال التطبيقي ورفع بصورة استثنائية عن بعض الأشخاص وفي بعض الأزمنة ، كما تدلّ عليه أخبار التحليل(١) وتجميد المبدأ هذا على صعيد التطبيق وفي السيرة النبوية المقدسة لا يمكن أن يعتبر دليلاً على عدم صحته نظرياً ؛ فإنّ من حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العفو عن الطَّسق ، وممارسته لهذا الحقّ لا تعني عدم السماح لإمام متأخّر بالعمل بهذا المبدأ أو تطبيقه ، حين تزول الظروف التي كانت تمنع عن ذلك كما أنّ النصوص التي ترفع مفعول هذا المبدأ عن بعض الأشخاص بصورة استثنائية لا تمنع عن اعتباره قاعدة يمكن الأخذ بها في غير مجالات استثنائها ، التي شرحتها أخبار التحليل .

وما دمنا في دراستنا هذه نحاول التعرّف على النظرية الاقتصادية في الإسلام فمن حقّنا أن نستوعب في دراستنا هذا المبدأ ما دام له أساسٌ إسلامي

ـــــــــــــــ

(*) راجع الملحق رقم ٥ .

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٤٣ ، الباب ٤ من أبواب الأنفال .

٣٩٠

من الناحية النظرية ، فهو جزء من الصورة الكاملة التي تعبّر عن النظرية الإسلامية في المجال الذي ندرسه سواء أخذ نصيبه من التطبيق أو اضطرّت ظروف قاهرة أو مصلحيّة لإهماله .

وعلى ضوء ما قدمناه ، يتبيّن الفرق بين المزارع الذي يعمل في قطاع الملكية العامة ، والمزارع الذي يعمل في قطاع ملكية الدولة ؛ فإنّهما وإن كانا معاً لا يملكان رقبة الأرض ، ولكنّهما يختلفان في مدى علاقتهما بالأرض ، فالمزارع الأوّل ليس إلاّ مستأجر فحسب ـ كما أكدّ الفقيه المحقق الإصفهاني في تعليقه على المكاسب(١) ـ فمن حقّ الإمام أن ينتزع منه الأرض ويعطيها لفردٍ آخر متى انتهت مدّة الإجارة ، وأمّا المزارع الثاني فهو يتمتّع بحقّ في الأرض يخوّله الانتفاع بها ، ويمنع الآخرين من انتزاعها منه ، ما دام قائماً بحقّها وعمارتها .

وعملية الإحياء في قطاع الدولة حرّة يجوز لكلّ فرد ممارستها دون إذن خاص من وليّ الأمر ؛ لأنّ النصوص الآنفة الذكر أذنت لجميع الأفراد بالإحياء دون تخصيص ، فيعتبر هذا الإذن نافذ المفعول ما لم ترَ الدولة في بعض الأحايين المصلحة في المنع وهناك في الفقهاء من يرى أنّ الإحياء لا يجوز ولا يمنح حقّاً ما لم يكن بإذن خاص من ولي الأمر ، ولا يكفي الإذن الصادر من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله :( من أعمر أرضاً فهو أحقّ بها ) (٢) ، لأنّ هذا الإذن صدر من النبيّ بوصفه حاكما ورئيساً للدولة الإسلامية ، لا باعتباره نبياً ، فلا يمتدّ مفعوله مع الزمن ، بل ينتهي بانتهاء حكمه .

ـــــــــــــــ

(١) حاشية المكاسب ٣ : ٢١ ، ٤٩ .

(٢) صحيح البخاري ٣ : ١٤٠ ، من أحيا أرضاً مَوَاتاً .

٣٩١

وعلى أي حال فلا شكّ أنّ لولي الأمر أنّ يمنع عن إحياء بعض أراضي الدولة ، وأن يحدّد الكميّة التي يباح لكلّ فردٍ إحياؤها من تلك الأراضي إذا اقتضت المصلحة العامّة ذلك .

ونخلص من أحكام الأراضي الموات إلى النقاط الآتية :

أوّلاً : أنّها تعتبر ملكاً للدولة .

ثانياً : أنّ إحياءها من قبل الأفراد جائز مبدئياً ما لم يمنع عنه ولي الأمر .

ثالثاً : أنّ الفرد إذا أحيا أرضاً للدولة وعمّرها ، كان له الحقّ فيها الذي يخوّله الانتفاع بها ، ويمنع الآخرين من مزاحمته فيها ، دون أن تصبح الأرض ملكاً خاصاً له

رابعاً : للإمام أن يتقاضى من الفرد المحيي للأرض خراجاً ؛ لأنّ رقبة الأرض ملكه ، ويفرض هذا الخراج وفقاً للمصلحة العامة والتوازن الاجتماعي وللإمام أيضاً أن يعفو عن الخراج في ظروف معيّنة ولاعتبارات استثنائية نجد ذلك في السيرة النبوية المقدسة(١) .

وعلى ضوء ما تقدّم يمكننا أن نميّز بوضوح بين الحقّ الخاص الذي ذكرنا أنّ الفرد يكسبه بالإحياء ، وبين الملكية الخاصة لرقبة الأرض التي نفينا حصولها بالإحياء ويمكن تلخيص أهم ما يميّز هذا الحقّ عن ملكيّة رقبة الأرض فيما يلي :

أوّلاً : أنّ هذا الحقّ يسمح للدولة بأخذ الأجرة من الفرد صاحب الحقّ لقاء انتفاعه بالأرض ؛ لأنّ رقبتها تظلّ ملكاً للدولة ، بينما لا مبرّر لهذه الأجرة في حالة

ـــــــــــــــ

(١) انظر : المبسوط للشيخ الطوسي ٢ : ٢٩ ، ووسائل الشيعة ٩ : ٥٢٣ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ١ و٢ ، والسيرة النبوية ٣ : ٣٥٢ .

٣٩٢

قيام ملكية خاصة لرقبة الأرض .

ثانياً : أنّ هذا الحقّ حقّ الأولية من الآخرين ، بمعنى أنّ المحيي أولى بالأرض التي أحياها ممّن لم يُحيها ، ولا يعني ذلك أنّه أولى بها من الإمام نفسه المالك الشرعي للأرض ، فهو حقّ نسبيي يتمتّع به المحيي أمام الآخرين لا أمام المالك نفسه ، ولهذا كان من حقّ الإمام أن ينتزعها منه وفقاً لمّا يقدّره من المصلحة العامة ، كما تشير إلى ذلك رواية الكابلي(١) .

ثالثاً : قد يقال : إنّ هذا الحقّ يختلف عن الملكية موضوعاً ، فإنّ الملكية الخاصة لرقبة الأرض موضوعها الأرض نفسها ، وأمّا هذا الحقّ فهو حقّ الإحياء(٢) ، وبهذه المناسبة يكون حقّاً في حياة الأرض التي أوجدها المحيي فيها لا في الأرض نفسها ، ويترتب على ذلك أن هذه الحياة إذا زالت وعادت الأرض مَيتَة سقط هذا الحق بصورة طبيعية ؛ إذ ينتفي موضوعه ، أمّا الملكية المتعلّقة برقبة الأرض فيحتاج سقوطها إلى دليل ؛ لأنّ موضوعها لا يزال ثابتاً

ج ـ الأرض العامرة طبيعياً حال الفتح :

يرى كثير من الفقهاء : أنّ الأراضي العامرة طبيعياً ـ بما فيها الأراضي العامرة طبيعياً حال الفتح ـ كالغابات وأمثالها تشترك مع الأراضي المَوَات التي مر الحديث عنها قبل لحظة في الشكل التشريعي للملكية ، فهم يرون أنّها ملك للإمام(٣) ، ويستندون في ذلك إلى النصّ التشريعي المأثور عن الأئمّة عليهم السلام الذي

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ، الباب الثالث من أبواب إحياء المَوَات ، الحديث ٢ .

(٢) انظر المبسوط ٣ : ٢٩ ، وجواهر الكلام ٣٨ : ١٠ .

(٣) انظر : جواهر الكلام ٣٨ : ١٩

٣٩٣

يقرر أنّ :( كلّ أرضٍ لا ربَّ لها هي للإمام ) (١) . فإن هذا النصّ يعطي للإمام ملكية كلّ أرض ليس لها صاحب ، والغابات وأمثالها من هذا القبيل ؛ لأنّ الأرض لا يكون لها صاحب إلاّ بسبب الإحياء ، والغابات حيّة طبيعياً دون تدّخل إنسان معيّن في ذلك ، فهي لا صاحب لها في الشريعة ، بل تندرج في نطاق الأراضي التي لا ربّ لها ، وتخضع بالتالي لمبدأ ملكية الدولة .

وقد يلاحظ على هذا الرأي أنّ تطبيق مبدأ ملكية الدولة (الإمام) على الغابات ونظائرها من الأراضي العامرة بطبيعتها ، إنّما يصحّ في الغابات التي دخلت دار الإسلام بدون حرب ؛ لأنّها لا ربّ لها وأمّا الغابات والأراضي العامرة بطبيعتها ، التي تفتح عَنوة وتنتزع من أيدي الكفار فهي ملك عام للمسلمين ؛ لأنّها تندرج في النصوص التشريعية التي أعطت المسلمين ملكية الأرض المفتوحة عَنوة وإذا دخلت الغابات في نطاق الملكية العامة بموجب هذه النصوص ، أصبحت أرضاً لها صاحب ، وصاحبها هو مجموع الأمّة ، ولا يوجد مبرّر بعد ذلك لإدراجها ضمن الأراضي التي لا ربَّ لها ، لكي يستوعبها النصّ القائل :( كلّ أرضٍ لا ربّ لها للإمام ) .

وبتعبير آخر : أنّ نصوص الأراضي الخَراجية بإطلاقها حاكمة(٢) على نصوص الأرض التي لا ربّ لها ، وهذا الحكومة تتوقّف على أن يكون موضوع نصوص

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٤ ، الباب الأول من أبواب الأنفال ، الحديث ٤ ، ٢٠ ، ٢٨ .

(٢) الحكومة مصطلح أصولي يقصد به : أحد الدليلين وتقديمه على الدليل الآخر ، كما في : ( لا رِبا بين الوالد وولده ) الحاكم على دليل حرمة الرِّبا ونكتة التقديم هي : أنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم ، وهذا النظر ظاهر في أنّ المتكلِّم قد أعدّه لتفسير كلامه الآخر فيكون قرينة راجع دروس في علم الأصول ٢ : ٥٣٧ (لجنة التحقيق)

٣٩٤

الأرض الخَراجية :( ما أخذ بالسيف ممّا كان تحت استيلاء الكفار ) ، لا خصوص ما أخذ ممّا كان ملكاً للكفار ؛ إذ على التقدير الثاني لا يكون موضوعها شاملاً للغابات بخلافه على الأوّل كما هو واضح كما تتوقّف الحكومة أيضاً على أن يكون عدم المالك المأخوذ في نصّ مالكيّة الإمام ملحوظاً حدوثاً وبقاءً والظاهر من النصوص التي تجعل الأرض التي لا ربّ لها مُلكاً للإمام أنها تتناول كلّ أرضٍ ليس لها مالك بطبيعتها ، فيكفي عدم المالك حدوثاً لكي تكون مِلكاً للإمام .

فالصحيح أنّ الأرض العامرة بطبيعتها ملك للدولة ، دون فرق بين ما كان منها مفتوحاً عَنوة وما لم يكن كذلك .

وعلى هذا الأساس لا يتكوّن للفرد حقّ خاص في رقبة الأرض المفتوحة عَنوة من الغابات وما إليها ، كما لا يتكون الحقّ الخاص في رقبة الأرض الخَراجية العامرة بالإحياء قبل الفتح وقد يقال : أنّ الأرض العامرة بطبيعتها تُمتلك على أساس الحيازة ، بمعنى أنّ الحيازة تقوم في الأراضي العامرة طبيعياً بنفس الدور الذي يقوم به الإحياء في الأراضي المَيتَة بطبيعتها ، ويستند هذا القول في إثبات الملكيـة بسبب الحيازة إلى الأخبار الدالة على أنّ من حاز مَلَك(١) .

ويلاحظ على هذا القول :

أوّلاً : أنّ بعض هذه الأخبار(٢) ضعيف السند ، ولهذا لا حجية له ، ومنها :

ـــــــــــــــ

(١) المكاسب ٤ : ١٦ .

(٢) كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من سبق إلى ما لا يسبقه إليه أحدٌ فهو أحقّ به ) ، فإنّه حديث مرسل ، راجع مستدرك وسائل الشيعة ١٧ : ١١١ ، الباب الأوّل من أبواب إحياء المَوَات ، الحديث ٤ (لجنة التحقيق)

٣٩٥

ما لا يدلّ على هذا القول لأنّه مسوق لبيان أماريّة اليد ، وجعل الحيازة أمارة ظاهرية على الملكيّة لا سبباً لها ومنها ما كان وارداً في موارد خاصة كقوله :( لليد ما أخذت وللعين ما رأت ) (١) الوارد في الصيد .

وثانياً : أنّ أخبار الحيازة ـ لو سلّمت ـ مختصةٌ بالمُباحات الأوّلية ممّا لا يكون مملوكاً شرعاً لجهةٍ أو فرد ، فلا تشمل المقام ، إذ المفروض أنّ الغابة ملك الأمّة أو الإمام .

وانطلاقاً مع هذا يجب أن يطبّق على المفتوح عَنوة من الغابات والأراضي العامرة بطبيعتها نفس الأحكام التي تطبق على أراضي الفتح التي كانت عامرة بالإحياء والجهد البشري(*) .

٢ ـ الأرض المسلمة بالدعوة :

الأراضي المسلمة بالدعوة : هي كلّ أرض دخل أهلها في الإسلام ، واستجابوا للدعوة دون أن يخوضوا معركة مسلّحة ضدّها(٢) ، كأرض المدينة المنوّرة ، وإندونيسيا ، وعدّة نقاط متفرّقة في العالم الإسلامي .

وتنقسم الأراضي المسلمة بالدعوة ـ كما تنقسم الأراضي المسلمة بالفتح ـ إلى أرضٍ عامرةٍ قد أحياها أهلها وأسلموا عليها طوعاً ، وأرض عامرة طبيعياً كالغابات ، وأرض دخلت في الإسلام طوعاً وهي مَيتَة .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٣٩١ ، الباب ٣٨ ، من أبواب الصيد ، الحديث الأوّل ، مع اختلاف يسير .

(*) راجع الملحق رقم ٦

(٢) انظر : جواهر الكلام ٢١ : ١٧٥ .

٣٩٦

أمّا المَوَات من الأرض المسلمة بالدعوة فهي كالمَوَات من أراضي الفتح ، يطبّق عليها مبدأ ملكية الدولة ، وجميع الأحكام التي مرّت بنا في مَوَات الفتح ؛ لأنّ الأرض المَيتَة بشكلٍ عامّ تعتبر من الأنفال ، والأنفال مِلك الدولة .

وكذلك الأرض العامرة طبيعياً المنضمّة إلى حوزة الإسلام بالاستجابة السلميّة ، فهي مِلك للدولة أيضاً ، تطبيقاً للمبدأ الفقهي القائل :( كلّ أرضٍ لا ربّ لها هي من الأنفال ) (١) .

ولكنّ الفرق بين هذين القسمين ، المَيتَة والعامرة طبيعياً ـ بالرغم من كونهما معاً ملكاً للدولة ـ ، هو أنّ الفرد يمكنه أن يكتسب حقّاً خاصاً في الأرض المَيتَة عن طريق إحيائها ، وتثبت له من الأحكام ما مرّ من تفصيلات تشريعية عن عملية الإحياء التي يمارسها الفرد في المَيْتِ من أراضي الفتح ، وأمّا الأراضي العامرة بطبيعتها التي دخلت في دار الإسلام طوعاً ، فلا سبيل إلى اكتساب الفرد حقّاً فيها بسبب الإحياء ؛ لأنّها عامرة وحيّة بطبيعتها ، وإنّما يباح للأفراد الانتفاع بتلك الأرض وإذا مارس الفرد انتفاعه فلا تنتزع الأرض منه لحساب فردٍ آخر ما دام يمارس الأوّل انتفاعه ، إذ لا ترجيح لفردٍ على فردٍ ، ويسمح للآخر بالانتفاع في حدود لا تزاحم انتفاع الأوّل ، أو فيما إذا كفّ الأوّل عن انتفاعه بالأرض واستثماره لها(٢) .

وأمّا الأرض العامرة التي أسلم عليها أهلها طوعاً فهي لهم ؛ لأنّ الإسلام يمنح المسلم على أرضه وماله طوعاً ، جميع الحقوق التي كان يتمتّع بها في الأرض والمال قبل إسلامه فيتمتع أصحاب الأرض المسلمون طوعاً بالحقّ في الاحتفاظ

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٤ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ٤ .

(٢) انظر : الروضة البهيّة ٤ : ٤٦ .

٣٩٧

بأرضهم ، وتملكها ملكية خاصة ، ولا خراج عليهم كما كانوا قبل الدخول في الإسلام تماماً(*) .

وعلى أيّ حال : فلا شكّ أنّ لوليّ الأمر أن يمنع عن إحياء بعض أراضي الدولة ، وأن يحدّد الكمّية التي يباح لكلّ فرد أحياؤها من تلك الأراضي ، إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك .

٣ ـ أرض الصلح :

وهي الأرض التي هجم عليها المسلمون لفتحها فلم يسلم أهلها ، ولا قاوموا الدعوة بشكل مسلّح ، وإنّما ظلّوا على دينهم ، ورضوا أن يعيشوا في كنف الدولة الإسلامية مسالمين فالأرض تصبح أرض صلح في العرف الفقهي ، ويجب تطبيق ما تمّ عليه الصلح بشأنها ، فإذا كان عقد الصلح ينصّ على أنّ الأرض لأهلها فهي على هذا الأساس تعتبر مِلكاً لهم ، وليس لمجموع الأمّة حقّ فيها ، وإذا تمّ الصلح على تمّلك الأمّة للأرض مِلكية عامة وجب التقيّد بذلك ، وخضعت الأرض لمبدأ الملكية العامة وفرض عليها الخَراج(١) .

ولا يجوز الخروج عن مقرّرات عقد الصلح ؛ فقد جاء في كتاب الأموال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( إنّكم لعلكم تقاتلون قوماً فيتّقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ، ويصالحونكم على صلح ، فلا تأخذوا منهم فوق ذلك ؛ فإنّه لا يحلّ لكم ) (٢) . وورد في سُنن أبي داود عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ألاَ مَن ظلم معاهداً أو نقصه ، أو كلّفه فوق طاقته ، أو أَخذ منه شيئاً بغير طِيب نفسه ، فأنا حجيجه يوم القيامة ) (٣) .

ـــــــــــــــ

(*) راجع الملحق رقم ٧ .

(١) انظر : الروضة البهية ٤ : ٤٨ .

(٢) الأموال : ١٨٩ ، الحديث ٣٨٨ .

(٣) سنن أبي داود ٣ : ١٧٠ ، الحديث ٣٠٥٢ .

٣٩٨

وأمّا مَوَات أرض الصلح ، فالقاعدة فيها هي مِلكية الدعوة كمَوَات الأراضي المفتوحة ، ومَوَات الأراضي المسلمة بالدعوة وكذلك أيضاً الغابات من أراضي الصلح وما إليها من الأراضي العامرة طبيعياً ، ما لم يكن قد أدرجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عقد الصلح ، فتطبّق عليها حينئذٍ مقتضيات العقد(١) .

٤ ـ أراضي أخرى للدولة :

وتوجد أنواع أخرى من الأرض تخضع لمبدأ ملكية الدولة ، كالأراضي التي سلّمها أهلها للدولة الإسلامية دون هجوم من المسلمين تسليماً ابتدائياً فإنّ هذه الأراضي من الأنفال التي تختص بها الدولة ، أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام بتعبير آخر(٢) ، كما قرّره القرآن الكريم في قوله تعالى :( وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣) .

وقد نصّ الماوردي على أنّ هذه الأراضي التي يتمّ انجلاء الكفّار عنها خوفاً ، تصير بالاستيلاء عليها وقفاً(٤) ، وهذا يعني دخولها في نطاق الملكية العامة .

ومن أراضي الدولة أيضاً الأرض التي باد أهلها وانقرضوا ، كما جاء في حديث حمّاد بن عيسى عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام :( أنّ للإمام الأنفال ،

ـــــــــــــــ

(١) انظر : جواهر الكلام ٢١ : ١٧١ .

(٢) المصدر السابق ١٦ : ١١٦ .

(٣) سورة الحشر : ٦ .

(٤) الأحكام السلطانية ٢ : ١٣٧ .

٣٩٩

والأنفال ، كلّ أرض بادَ أهلها إلخ ) (١) .

وكذلك أيضاً الأراضي المستجدة في دار الإسلام ، كما إذا ظهرت جزيرة في البحر أو النهر مثلاً ، فإنّها تندرج في نطاق ملكية الدولة ، تطبيقاً للقاعدة الفقهية القائلة ، أنّ كلّ أرض لا ربّ لها هي للإمام(٢) .

وذكر الخرشي في شرحه على المختصر الجليل : أنّ الأرض إذا كانت غير مملوكة لأحد كالفيافي أو ما انجلى عنها أهله ،ا فحكمها أنّها للإمام اتفاقاً ، قال البعض : يريد أهل المذهب ما انجلى منها أهلها الكفّار ، وأمّا المسلمون فلا يسقط ملكهم عن أراضيهم بانجلائهم(٣) .

الحدّ من السلطة الخاصة على الأرض :

يمكننا أن نستخلص من التفصيلات السابقة : أنّ اختصاص الفرد بالأرض والحقّ الشخصي فيها ينشأ من أحد أسباب ثلاثة :

١ـ أحياء الفرد لشيء من أراضي الدولة .

٢ـ إسلام أهل البلاد واستجابتهم للدعوة طوعاً .

٣ـ دخول الأرض في دار الإسلام بعقد صلحٍ ينصّ على منح الأرض للمصالحين .

ويختلف السبب الأوّل عن الأخيرين ، في نوع العلاقة الخاصة التي تنجم عنه فالسبب الأوّل ، وهو إحياء الفرد لشيء من أراضي الدولة، لا يدرج الأرض

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٤ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ٤ .

(٢) انظر : جواهر الكلام ١٦ : ١١٦ .

(٣) الخُرَشي على مختصر سيدي خليل ٢ : ٢٠٨ ، زكاة المعدن .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741