اقتصادنا

اقتصادنا5%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152623 / تحميل: 9465
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

في نطاق الملكية الخاصة ، ولا ينزع عنها طابع ملكية الدولة ولا يمنع الإمام من فرض الخَراج والأجرة على الأرض وإنّما ينتج عن الإحياء حقّ للفرد الذي يسمح له بالانتفاع من الأرض ، ومنع الآخرين من مزاحمته ، كما مرّ بنا سابقاً

وأمّا السببان الأخيران ، فإنّهما يمنحان الفرد المسلم أو المصالح ملكية الأرض ، فتصبح بذلك مندرجة في نطاق الملكية الخاصة .

والاختصاص الشخصي للفرد بالأرض ـ سواء كان على مستوى حقّ أو على مستوى ملكية ـ ليس اختصاصاً مطلقاً من الناحية الزمنية ، بل هو اختصاص وتفويض محدود بقيام الفرد بمسؤولية تجاه الأرض ، فإذا أخلّ بمسؤوليّته بالصورة التي سوف توضحها الروايات الآتية سقط حقّه في الأرض ، ولم يجز له احتكارها وتحجيرها ، ومنع الآخرين من إعمارها واستثمارها وبذلك اتّخذ المفهوم القائل بأنّ الملكية وظيفة اجتماعية يمارسها الفرد أقوى تعبير في مجال الأرض و حقوق الأفراد فيها.

والدليل على ذلك من الشريعة عدّة نصوص تشريعية :

فقد جاء حديث أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، قال :( من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ، ممّا سقت السماء والأنهار ، ونصف العشر ممّا كان بالرِشا ، فيما عمّروه منها ، وما لم يعمّر منها أخذه الإمام فقبّله من يعمّره وكان للمسلمين ، وعلى المتقبّلين في حصصهم العشر أو نصف العشر ) (١) .

وورد في صحيح معاوية بن وهب : أنّ الإمام جعفرعليه‌السلام قال :( أيّما رجلٌ أتى خربة بائرة فاستخرجها ، وكرى أنهارها وعمرها ، فإنّ عليه فيها الصدقة

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ١٧٥ ، الباب ٧٢ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث الأوّل .

٤٠١

(الزكاة) ، فإن كانت لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخربها ، ثمّ جاء بعد يطلبها ، فإنّ الأرض لله ولمن عمرها ) (١) .

وفي صحيح الكابلي(٢) ، جاء النصّ عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام :( بأنّ من أحيى أرضاً مَيتَة من المسلمين فليعمرها ، وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي ، وله ما أكل منها فإن تركها أو أخربها فأخذها رجلٌ من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها ، فهو أحقّ بها من الذي تركها ، فليؤدّ خراجها إلى الإمام ) (٣)

ففي ضوء هذه النصوص نعرف : أنّ حقّ الفرد في الأرض الذي يخولّه منع غيره من استثمارها يزول بخراب الأرض وإهماله لها ، وامتناعه عن عِمارتها ، فلا يجوز له بعد إهمال الأرض على هذا الشكل أن يمنع غيره من السيطرة عليها واستثمارها ما دام مهملاً لها .

ولا فرق في ذلك بين الفرد الذي مارس إحياء الأرض وغيره ممّن حصل

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ، الباب ٢ من أبواب إحياء المَوات ، الحديث الأوّل .

(٢) المصدر السابق : الحديث ٢ .

(٣) ولا يمكن أن يعارض صحيحاً الكابلي ومعاوية بن وهب ، برواية الحلبي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : ( أنّه سأله عن الرجل يأتي الأرض الخربة ، فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها، ما عليه ؟ قال : الصدقة قلت : فإنّ كان يعرف صاحبها قال : فليؤدّ إليه حقّه ) .

وذلك ؛ لأنّ الجواب في رواية الحلبي لم يُفرض فيه إلاّ مجرّد كون الأرض خربة قد زال عمرانها ، هذا العنوان أعمّ من كون الخراب مستنداً إلى إهمال صاحب الأرض وامتناعه عن القيام بحقّها وحيث إنّ صحيحة معاوية بن وهب أُخذ في موضوعها أنّ صاحب الأرض السابق ترك الأرض وأخربها ، فهي أخصّ مطلقاً من رواية الحلّي ومقتضى التخصيص : أنّ علاقة صاحب الأرض بأرضه تزول بخراب الأرض وامتناعه عن أحيائها (المؤلّف قدّس سرّه) .

٤٠٢

على الأرض بأسباب أخرى ، فإنّه لا يسمح له باحتكار الأرض بعد خرابها وإهمالها ، مهما كان السبب في حصوله عليها إذا كانت الأرض من أراضي الدولة (الإمام) ، وأهملها الشخص الذي عمرها حتى أخرجها ، عادت بعد خرابها حرّة طليقة تطبّق عليها نفس الأحكام التي تطبّق على سائر الأراضي المَيتَة التي تملكها الدولة ، فيفسح المجال لإحيائها من جديد ، ويترتّب على إحيائها نفس الأحكام التي تترتّب على إحيائها الأوّل .

وللشهيد الثانيرحمه‌الله نصّ يوضح هذا المعنى في المسالك ، إذ كتب يقول :( إنّ هذه الأرض ـ أيّ الأرض التي أحياها الفرد ثمّ خربت ـ أصلها مباح ، فإذا تركها عادت إلى ما كانت عليه وصارت مباحة ، وأنّ العلّة في تملّك هذه الأرض الإحياء والعمارة ، فإذا زالت العلّة زال المعلول ) (١) .

ويريد بذلك : أنّ الحقّ الذي يحصل عليه الفرد في الأرض إنّما هو نتيجة للإحياء ومعلول له ، فيبقى حقّه ما دامت العلّة باقية والأرض عامرة ، فإذا زالت معالم الحياة عن الأرض سقط حقّه ؛ لزوال العلّة(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) مسالك الأفهام ١٢ : ٤٠٠ .

(٢) ويلاحظ : لدى مقارنة هذا النصّ الفقهي بالنصوص التشريعية التي مرّت بنا في رواية معاوية بن وهب ورواية الكابلي ، أنّ النصّ للشهيد واضح كلّ الوضوح في انقطاع صلة الفرد بالأرض نهائياً إذا خربت وزال عمرانها ؛ لأنّ العلّة إذا زالت زال المعلول ، وأمّا النصوص التشريعية السابقة فهي تسمح عند خراب الأرض وإهمال صاحبها لها بأحيائها من أيّ فرد آخر ، وتمنحه الأرض بدلاً عن صاحبها السابق ، ولكنّها لا تدلّ على انقطاع صلة صاحب الأرض بأرضه انقطاعاً نهائياً بسبب خرابها ، فمن الممكن في حدود المعطى التشريعي لهذه النصوص أن يفترض لصاحب الأرض حقّ فيها ، وعلاقة بها حتى بعد خرابها ، بدرجة يجعل له حقّ السبق إلى تجديد إحيائها إذا نافسه غيره على ذلك ، ويستمرّ هذا الحقّ ما لم يسبقه شخص آخر إلى إحياء الأرض ، فإنّ أحياها فردٌ آخر فعلاً حال إهمال صاحبها الأوّل ، انقطعت صلة الأرض بصاحبها القديم .

فعل أساس النصٍّ الفقهي للشهيد يزول حقّ الفرد في الأرض لدى خرابها بصورة كاملة .

وعلى أساس النصوص الأخرى ، يمكن أن نفترض بقاء علاقة الفرد الأوّل بأرضه ، وحقّه فيها بعد الخراب بدرجة ما ، وزوال حقّ الاحتكار فقط ، أي : حقّ منع الآخرين عن استثمار الأرض والانتفاع بها .

وينعكس الفرق عملياً بين هاتين الفرضيتين ، فيما إذا أهمل الفرد أرضه وخربت ، ثمّ مات قبل أحياء فردٌ آخر لها ، فإنّ الانطلاق مع رأي الشهيد يؤدّي إلى القول بعدم انتقال الأرض إلى الورثة ، لأنّ صاحبها انقطعت صلته بها نهائياً بعد خرابها ، فلا معنى لاندراجها في تركته التي تورث وأمّا على الأساس الثاني ، فالأرض تورث بمعنى أنّ الورثة يتمتعون بنفس الدرجة من الحقّ ، التي بقيت للميّت بعد خراب الأرض وسوف تتجه بحوث الكتاب المقبلة إلى تبني رأي الشهيد الثاني (المؤلّفقدس‌سره )

٤٠٣

وقد ذكر المحقّق الثاني في (جامع المقاصد)(١) ، أنّ زوال اختصاص المُحيي بالأرض بعد خرابها ، وجواز أخذ الغير لها ، واختصاصه بها ، هو المشهور بين الأصحاب والرأي الفقهي السائد في كلماتهم(٢) . وقال الإمام مالك ( ولو أنّ رجلاً أحيا أرضاً مَوَاتاً ثمّ أهملها بعدُ حتى تهدّمت آبارها وهلكت أشجارها ، وطال زمانها حتى عفت بحال ما وصفت لك

ـــــــــــــــ

(١) انظر جامع المقاصد ٧ : ١٧ .

(٢) ولا فرق في سقوط الاختصاص بسبب الخراب والإهمال بين أن يكون المهمل نفس المُحيي للأرض أو شخصاً آخر ، انتقلت إليه الأرض من المُحيي ، لإطلاق الدليل بالنحو الذي تقدّم وقد مال إلى ذلك المحقّقان الفقيهان صاحب الكفاية وصاحب المفاتيح (المؤلّف قدّس سرّه)

٤٠٤

وصارت إلى حالها الأوّل ثمّ أحياها آخر بعده كانت لمن أحياها بمنزلة الذي أحياها أوّل مرّة(١) .

وقال بعض فقهاء الأحناف بهذا أيضاً ، معلّلين ذلك : بأنّ الأوّل ملك استغلال الأرض لا رقبتها فإذا تركها كان الثاني أحقّ بها(٢) .

وإذا كانت الأرض التي أهملها صاحبها ، مندرجة في نطاق الملكية الخاصة ـ كالأراضي التي أسلم عليها أهلها طوعاً ـ فإنّ ملكية صاحبها لها ، لا تحول دون سقوط حقّه فيها ، بإهمالها الامتناع عن القيام بحقّها ، كما عرفنا ، وتعود ـ في رأي ابن البرّاج(٣) وابن حمزة(٤) وغيرهم(٥) ـ مِلكاً للمسلمين ، وتدخل في نطاق الملكية العامة .

وهكذا نعرف ، أنّ الاختصاص بالأرض ـ حقّاً أو مِلكاً ـ محدود بإنجاز الفرد لوظيفته الاجتماعية في الأرض فإذا أهملها وامتنع عن إعمارها حتى خربت ، انقطعت صلته بها وتحرّرت الأرض من قيوده وعادت مِلكاً طليقاً للدولة إن كانت مَوَاتاً بطبيعتها ، وأصبحت ملكاً عاماً للمسلمين إن كان الفرد الذي أهملها وسقط حقّه فيها قد ملكها بسبب شرعي ، كما في الأراضي التي أسلم عليها أهلها طوعاً(٦) .

ـــــــــــــــ

(١) المدوّنة الكبرى ٦ : ١٩٥ .

(٢) انظر : فتح القدير ٩ : ٤ .

(٣) المهذّب : ١ : ٨٢ .

(٤) الوسيلة : ١٣٢ .

(٥) مسالك الأفهام ٣ : ٥٨ .

(٦) تحرير الأحكام الشرعية ٢ : ١٦٩ ، ومسالك الأفهام ٣ : ٥٨ .

٤٠٥

نظرة الإسلام العامة إلى الأرض

في ضوء الأحكام المتنوّعة التي شرّعها الإسلام للأرض ، ووقفنا على تفصيلاتها ، يمكننا أن نستخلص النظرة العامة للإسلام إلى الأرض ، ومصيرها في ظلّ الإسلام الذي يمارس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تطبيقه ـ أو خليفته الشرعي ـ وسوف نحدّد الآن النظرة العامة للإسلام إلى الأرض فإذا استعرضنا بعد ذلك أحكام الإسلام التي تتّصل بسائر ثروات الطبيعة ومصادر الإنتاج الأساسية ، عُدنا إلى هذه النظرة الإسلامية العامة عن الأرض ، لنضعها في موضعها من نظرة أشمل وأوسع ، تشكّل الأساس والقاعدة المذهبية لتوزيع ما قبل الإنتاج .

لكي نستطيع تجلية الموقف ، وفحص المضمون الاقتصادي للنظرة الإسلامية في الأرض ، وعزله عن سائر العوامل والاعتبارات الأخرى ذات الصفة السياسية التي سنأتي على ذكرها بعد ذلك لكي يتأتّى لنا ذلك كلّه يحسن بنا أن ننطلق ـ في تحديد نظرة الإسلام العامة ـ من فرضية تساعدنا على إبراز المضمون الاقتصادي للنظرية ، مستقلاً عن الاعتبارات السياسية .

فلنفترض : أنّ جماعة من المسلمين قرّرت أن تستوطن منطقة من الأرض كانت لا تزال غير مستثمرة ، فأنشأت في تلك المنطقة مجتمعاً إسلامياً وأقامت علاقتها على أساس الإسلام ، ولنتصوّر أنّ الحاكم الشرعي ، النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو (الخليفة) يقوم بتنظيم تلك العلاقات ، وتجسيد الإسلام في ذلك المجتمع بكلّ خصائصه ومقوّماته الفكرية والحضارية والتشريعية فماذا سوف يكون موقف الحاكم والمجتمع من الأرض ؟ وكيف تنظّم مِلكيّتها ؟

والجواب على هذا السؤال جاهزٌ في ضوء التفصيلات التي قدّمناها ، فإن

٤٠٦

الأرض التي قدّر لها في فرضيتنا أن تصبح وطناً للمجتمع الإسلامي ، وتنمو على تربتها حضارة السماء ، قد افترضناها أرضاً طبيعية غير مستثمرة ، لم يتدّخل العنصر الإنساني فيها بعدُ ، ومعنى هذا أنّ هذه الأرض تواجه الإنسان وتدخل في حياته لأوّل مرّة في الفترة المنظورة من التأريخ .

ومن الطبيعي أن تنقسم هذه الأرض في الغالب إلى قسمين ، ففيها الأراضي التي وفرّت لها الطبيعةشروط الحياة والإنتاج من ماءٍ ودفءٍ ومرونة في التربة ، وما إلى ذلك ، فهي عامرة طبيعياً ، وفيها الأراضي التي لم تظفر بهذه المميّزات من الطبيعة ، بل هي بحاجة إلى جهد إنساني يوفّر لها تلك الشروط ، وهي الأرض المَيتَة في العرف الفقهي ، فالأرض التي افترضنا أنّها سوف تشهد ولادة المجتمع الإسلامي هي إذن : إمّا أرض عامرة طبيعياً ، وإمّا أرض مَيتَة ولا يوجد قسم ثالث .

والعامر طبيعياً من تلك الأرض مِلك للدولة ، أو بتعبير آخر : مِلك المنصب الذي يمارسه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفاؤه الشرعيون ، كما مرّ بنا وفقاً للنصوص التشريعية والفقهية ، حتى جاء في تذكرة العلامة الحلّي : أنّ إجماع العلماء قائم على ذلك(١) .

وكذلك أيضاً الأرض المَيتَة كما عرفنا سابقاً َ، وهو واضح أيضاً في النصوص التشريعية والفقهية حتى ذكر الشيخ الإمام المجدد الأنصاري في المكاسب : أنّ النصوص بذلك مستفيضة ، بل قيل : إنّها متواترة(٢) .

فالأرض كلّها إذن يُطبِّق عليها الإسلام ـ حين ينظر إليها في وضعها

ـــــــــــــــ

(١) تذكرة الفقهاء ( ط. الحجرية ) ٢ : ٤٠٢ .

(٢) المكاسب ٤ : ١٣ .

٤٠٧

الطبيعي ـ مبدأ ملكية الإمام ، وبالتالي ملكية ذات طابع عام .

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم النصوص التشريعية المنقولة عن أئمّة أهل البيت بأسانيد صحيحة ، التي تؤكّد أنّ الأرض كلّها ملك الإمام(١) ؛ فإنّها حين تقرّر ملكية الإمام للأرض ، تنظر إلى الأرض بوضعها الطبيعي كما تقدّم(٢) .

ولننظر الآن إلى ما يأذن به الإسلام لأفراد المجتمع ـ الذي افترضناه ـ من ألوان الاختصاص بالأرض وفي هذا المجال يجب أن نستبعد الحيازة والاستيلاء المجرد بوصفه مبرراً أصيلاً لاختصاص الفرد بالأرض التي يحوزها ويستولي عليها ، لأنّا لا نملك نصّاً صحيحاً يؤكّد ذلك في الشريعة ، كما ألمعنا سابقاً ، وإنّما الشيء الوحيد الذي عرفنا أنّه يبرّر الاختصاص شرعاً هو الإحياء ، أي : إنفاق الفرد جهداً خاصاً على أرض مَيتَة من أجل بعث الحياة فيها فإنّ ممارسة هذا العمل ، أو العمليات التمهيدية له ، تعتبر في الشريعة سبباً للاختصاص ولكنّه بالرغم

ـــــــــــــــ

(١) منها في وسائل الشيعة ٩ : ٥٤٨ ، الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ١٢ ، و ٥٣٠ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ١٩ .

(٢) وبهذا نعرف : أنّ في الإمكان تفسير مِلكية الإمام للأرض كلّها ـ في هذه النصوص ـ على أساس كونها حكماً شرعياً وملكية اعتبارية ، ما دامت منصبّة على الوضع الطبيعي للأرض من حيث هي ، ولا تتعارض مع تملّك غير الإمام لشيءٍ من الأرض بأسباب شرعية طارئة على الوضع الطبيعي للأرض ، من إحياء أو غيره فلا ضرورة لتأويل الملكية في تلك النصوص واعتبارها أمراً معنوياً لا حكماً شرعياً ، مع أن هذا التأويل يعارض سياق تلك النصوص بوضوح ؛ فلاحظ رواية الكابلي كيف قرّرت أنّ الأرض كلّها ملك الإمام ، وانتهت من ذلك إلى القول بأنّ للإمام حقّ الطَّسق على أن يُحيي شيئاً من الأرض ، فإنّ فرض الطَّسق أو الأجرة للإمام ، تفريعاً على ملكيّته يدلّ بوضوح على أنّ الملكية هنا بمعناها التشريعي ، الذي تترتب عليه هذه الآثار لا بمعنى آخرٍ روحيٍّ بحت (المؤلّف قدّس سرّه)

٤٠٨

من ذلك لا يكون سبباً لتملّك الفرد رقبة الأرض ملكية خاصة تخرج بها عن مبدأها الأوّل ، وإنّما ينتج حقّاً للفرد ، يصبح بموجبه أولى بالانتفاع بالأرض التي أحياها من غيره ، بسبب الجهود التي بذلها في الأرض ، ويظلّ للإمام ملكية الرقبة ، وحقّ فرض الضريبة على المُحيي ، وفقاً للنصّ الفقهي الذي كتبه الشيخ الفقيه الكبير محمّد بن الحسن الطوسي ، حين قال في فصل الجهاد من كتاب المبسوط :( فأمّا الموات فإنّها لا تُغنم ، وهي للإمام ، فإن أحياها أحدٌ كان أولى بالتصرّف فيها ، ويكون للإمام طَّسقها ) (١) وقد مرّ بنا النصّ سابقاً .

ويستمر الحقّ الذي يمنح للفرد بالإحياء ما دام عمله مجسّداً في الأرض ، فإذا استهلك عمله واحتاجت الأرض إلى جهد جديد للحفاظ على عمرانها ، فلا يمكن للفرد أن يحتفظ بحقّه إلاّ بمواصلة إعمارها وتقديم الجهود اللازمة لذلك ، أمّا إذا أهملها وامتنع عن عمرانها حتى خربت ، سقط حقّه فيها .

نستطيع الآن أن نستوعب الصورة كاملة ، وأن نحدّد النظرة العامة : فالأرض بطبيعتها ملك الإمام ، ولا يملك الفرد رقبتها ، ولا يصلح أيّ اختصاص فرديّ بها إلاّ على أساس ما ينفقه الشخص على الأرض من عمل لأجل إعدادها واستثمارها وهذا الاختصاص أو الحقّ الذي يكسبه الفرد نتيجة لعمله فيها لا يمنع الإمام عن فرض الطَّسق أو الضريبة على الأرض المحياة لتساهم الإنسانية الصالحة كلّها في الاستفادة منها ، ولا يتعارض هذا مع العفو عن الطَّسق أو الضريبة أحياناً لظروف استثنائية ، كما جاء في أخبار التحليل(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) المبسوط ٢ : ٢٩ .

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٤٣ ، الباب الرابع من أبواب الأنفال .

٤٠٩

هذه هي نظرة الإسلام نحو الأرض ، كما تبدو لنا ـ حتى الآن ـ قبل إبراز العنصر السياسي منها وفي الواقع أنّها جديرة بحلّ التناقض القائم بين أنصار مِلكية الأرض وخصومها ، فإنّ ملكية الأرض من القضايا الاجتماعية ، التي لعبت دوراً مهماً في التفكير البشري تبعاً لأهمّيتها ، بوصفها ظاهرة عاشت في حياة الإنسان منذ آلاف السنين .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الظاهرة ولدت في تأريخ الإنسان أو اتسعت بعد اكتشافه للزراعة واعتماده في حياته عليها إذ وجد الإنسان المزارع نفسه بحاجة إلى الاستقرار في أرضٍ خاصة مدّة من الزمان ، لِما يتطلّبه هذا الإنتاج من وقت فكان من الطبيعي أن يرتبط إلى حدٍّ ما بمساحة معيّنة من الأرض ، ويمارس فيها عمله ، ويقيم له فيها مأوى ومسكناً يسكنه قريباً من زرعه ؛ ليكون قادراً على مراقبته والمحافظة عليه وفي النهاية وجد الإنسان المزارع ـ أيّ مزارع ـ نفسه مشدوداً إلى مساحة من الأرض ومرتبطاً بها بعدّة روابط تـنبع كلّها أخيراً من عمله الذي أنفقه على الأرض ، وجهده الذي اختلط بتربتها وكلّ ذرّة من ذرّاتها ، فكان من أثر ذلك أن نشأت فكرة الاختصاص ؛ لأنّها كانت تعكسمن ناحية : هذا الارتباط الذي يجده المزارع بينه وبين عمله المنفصل الذي جسده في الأرض ومزجه بوجودها ومنناحية أخرى : كانت فكرة الاختصاص تحقّق الاستقرار ، وتسفر عن تقسيم الأرض على أساس الكفاءة ، إذ يحتفظ كلّ فرد بالمساحة التي عمل فيها ، وأثبت كفاءته إلى درجة ما في استثمارها .

وعلى هذا الأساس نرجّح أن تكون الحقوق الخاصة في الأرض نشأت تأريخياً ـ في أكبر الظنّ ـ نتيجة للعمل ، واتّخذت هذه الحقوق على مرّ الزمن شكل الملكية .

٤١٠

مع خصوم ملكية الأرض :

والشكوك التي تثار عادة من خصوم ملكية الأرض حولها ، تتّجه تارّةً : إلى اتّهام واقعها التأريخي وجذورها الممتدّة في أعماق الزمن وتذهب تارّة أُخرى : إلى أكثر من ذلك ، فتدين نفس فكرة الملكية وحقّ الفرد في الأرض بمجافاتها لمبادئ العدالة الاجتماعية .

أمّا اتهام واقع ملكية الأرض ، والسند التأريخي لهذه الملكية فينصبّ في الغالب على أسباب القوّة والسيطرة التي تقول عنها التهمة : إنّها لعبت دورها الرئيسي على مرّ التأريخ في توزيع الأرض توزيعاً غير عادل ، ومنح الأفراد حقوقاً خاصة فيها ، وإذا كانت القوّة والاغتصاب وعوامل العنف ، هي المبرّرات الواقعية والسند التأريخي لملكية الأرض ، والحقوق الخاصة التي شهدها تأريخ الإنسان فمن الطبيعي أن تُشجب هذه الحقوق وتعتبر ملكية الأرض في التأريخ لوناً من السرقة .

ونحن لا ننكر عوامل القوة والاغتصاب، ودورها في التأريخ ، ولكنّ هذه العوامل لا تفسّر ظهور ملكية الأرض وحقوقها الخاصة في التأريخ ، إذ يجب ـ لكي تستولي على الأرض بالعنف والاغتصاب ـ أن يكون هناك من تَغتصب منه الأرض وتَطرده بالقوّة لتضمّها إلى أراضيك وهذا يفترض مسبقاً أن تكون تلك الأرض التي تعرّضت للاغتصاب والعنف ، قد دخلت في حيازة شخص أو أشخاص قبل ذلك ، وأصبح لهم حقّ فيها .

وحين نريد أن نفسّر هذا الحقّ السابق على عمليات الاغتصاب ، يجب أن ندع جانباً التفسير بالقوّة والعنف ، لنفتّش عن سببه ، في نوع العلاقة التي كانت قائمة بين الأرض وأصحاب الحقّ فيها.

٤١١

ومنناحية أخرى : أنّ هذا الشخص الغاصب ، الذي نفترض أنّه كان يستولي على الأرض بالقوّة لم يكن على الأكثر شخصاً طريداً لا مأوى له ولا أرض ، بل هو ـ في أقرب صورة إلى القبول ـ شخص استطاع أن يعمل في مساحة من الأرض ويستثمرها ، واتّسعت إمكاناته بالتدرج ، فأخذ يفكّر في الاستيلاء بالعنف على مساحات جديدة من الأرض فهناك إذن قبل العنف والقوّة العمل المثمر والحقّ القائم على أساس العمل والاستثمار .

وأقرب الأشياء إلى القبول ، حين نتصوّر طائفة بدائية تسكن في أرض وتدخل الحياة الزراعية أن يشغل كلّ فرد فيها مساحة من تلك الأرض تبعاً لإمكاناته ويعمل لاستثمارها ومن خلال هذا التقسيم الذي يبدأ بوصفه تقسيماً للعمل ـ إذ لا يتاح لجميع المزارعين المساهمة في كلّ شِبر ـ تنشأ الحقوق الخاصّة للأفراد ، ويصبح لكلّ فردٍ حقّه في الأرض ، التي أجهدته وامتّصت عمله وأتعابه وتظهر بعد ذلك عوامل العنف والقوّة ، حين يأخذ الأكثر قدرة وقوّة يغزو أراضي الآخرين ويستولي على مزارعهم .

ولسنا نريد بهذا أن نبرّر الحقوق والملكيات الخاصة للأرض التي مرّت في تأريخ الإنسان ، وإنّما نستهدف القول : بأنّ الإحياء ـ العمل في الأرض ـ هو في أكبر الظنّ السبب الأوّل الوحيد الذي اعترفت به المجتمعات الفطرية ، بوصفه مصدراً لحقّ الفرد في الأرض ، التي أحياها وعمل فيها ، والأسباب الأخرى كلّها عوامل ثانوية ولّدتها الظروف والتعقيدات التي كانت تبتعد بالمجتمعات الأولى عن وضعها الفطري وإلهامها الطبيعي .

وقد فقد السبب الأوّل اعتباره تأريخياً بالتدريج خلال نمو هذه العوامل الثانوية ، وتزايد سيطرة الهوى على الفطرة ، حتى امتلأ تأريخ الملكية الخاصة للأرض بألوان من الظلم والاحتكار ، وضاقت الأرض على جماهير الناس بقدر

٤١٢

ما اتسعت للمحظوظين منهم .

والإسلام ـ كما رأينا ـ قد أعاد إلى هذا السبب الفطري اعتباره ، إذ جعل الإحياء المصدر الوحيد لاكتساب الحقّ من الأرض ، وشجب الأسباب الأخرى كلّها وبهذا أحيى الإسلام سنة الفطرة التي كاد الإنسان المصطَنع أن يطمس معالمها .

هذا فيما يتّصل باتهام السند التأريخي لملكية الأرض ولكن الاتهام الأوسع والأخطر من ذلك هو : اتهام نفس فكرة الملكية والحقّ الخاص بالأرض بالذات وبشكلٍ مطلق ، كما تؤكّد عليه بعض الاتّجاهات المذهبية الحديثة ، أو نصف الحديثة ـ إن صحّ هذا التعبير ـ كالاشتراكية الزراعية ، وغالباً ما نسمع بهذا الصدد : أنّ الأرض ثروة طبيعية لم يصنعها إنسان ، وإنّما هي هبة من هبات الله ، فلا يجوز لأحدٍ أن يستأثر بها دون الآخرين .

ومهما قيل في هذا الصدد ، فإنّ الصورة الإسلامية ـ التي قدمناها في مستهل هذا الحديث ـ سوف تبقى فوق كلّ تهمة منطقية ؛ لأنّنا رأينا أنّ الأرض ـ منظوراً إليها بوضعها الطبيعي الذي هي عليه حين تسلّمت الإنسانية هذه الهبة من الله تعالى ـ ليست مِلكاً أو حقّاً لأيّ فردٍ من الأفراد ، وإنّما هي ملك الإمام ـباعتبار المنصب لا الشخص ـ ولا تزول ـ بموجب النظرية الاقتصادية للإسلام عن الأرض ـ ملكية الإمام لها ، ولا تصبح الأرض مِلكاً للفرد بالعنف والاستيلاء ، بل وحتى بالإحياء ، وإنّما يعتبر الإحياء مصدراً لحقّ الفرد في الأرض ، فإذا بادر شخص بصورة مشروعة إلى إحياء مساحة من الأرض وأنفق فيها جهوده ، كان من الظلم أن يساوى في الحقوق بينه وبين سائر الأفراد الذي لم يمنحوا تلك الأرض شيئاً من جهودهم ، بل وجب اعتباره أولى من غيره بالأرض والانتفاع بها .

فالإسلام يمنح العامل في الأرض حقّاً يجعله أولى من غيره ، ويسمح من

٤١٣

الناحية النظرية للإمام بفرض الضريبة أو الطَّسق عليه ؛ لتساهم الإنسانية الصالحة كلّها في الاستفادة من الأرض ، عن طريق الانتفاع بهذا الطَّسق .

ولمّا كان الحقّ في نظر الإسلام يقوم على أساس العمل الذي أنفقه الفرد على الأرض ، فهو يزول ـ بطبيعة الحال ـ إذا استهلكت الأرض ذلك العمل وتطلّبت المزيد من الجهد لمواصلة نشاطها وإنتاجها ، فامتنع صاحب الأرض من عمرانها وأهملها حتى خربت ، والأرض ـ في هذه الحالة ـ تنقطع صلتها بالفرد الذي كان يمارسها لزوال المبرّر الشرعي الذي كان يستمدّ منه حقّه الخاص فيها ، وهو عمله المتجسّد في عمران الأرض وحياتها .

العنصر السياسي في ملكية الأرض :

والآن وقد استوعبنا النظرية الاقتصادية للإسلام نحو الأرض ، يتحتّم علينا أن نبرّز العنصر السياسي ، الذي يكمن في نظرة الإسلام العامة إلى الأرض ، فإنّ الإسلام قد اعترف إلى جانب الإحياء ، الذي هو عمل اقتصادي بطبيعة بالعمل السياسي والعمل السياسي الذي يتجسّد في الأرض ويمنح العامل حقّاً فيها ، هو العمل الذي يتمّ بموجبه ضمّ الأرض إلى حوزة الإسلام ، وجعلها مساهمة بالفعل في الحياة الإسلامية وتوفير إمكاناتها المادّية .

وفي الواقع أنّ مساهمة الأرض فعلاً في الحياة الإسلامية وتوفير إمكاناتها المادّية تنشأ :

تارّة : عن سبب اقتصادي ، وهو عملية الإحياء التي ينفقها الفرد على أرض داخلة في حوزة الإسلام لتدّب فيها الحياة وتساهم في الإنتاج .

كما تنشأتارّة أخرى : عن سبب سياسي ، وهو العمل الذي يتمّ بموجبه ضَمّ أرض حيّة عامرة إلى حوزة الإسلام وكلّ من العملين له اعتباره الخاص في الإسلام .

وهذا العمل الذي ينتج ضمّ أرض حيّة عامرة إلى حوزة الإسلام على نوعين ؛ لأنّ الأرض :

٤١٤

تارّة : تفتح فتحاً جهادياً وعلى يد جيش الدعوة .

وأخرى : يسلم عليها أهلها طوعاً .

فإنّ كان ضمّ الأرض إلى حوزة الإسلام ومساهمتها في الحياة الإسلامية نتيجة للفتح ، فالعمل السياسي هنا يعتبر عمل الأمّة لا عمل فرد من الأفراد ، ولذلك تكون الأمّة هي صاحبة الأرض ، ويطبّق على الأرض ـ لأجل ذلك ـ مبدأ الملكية العامة .

وإن كان ضمّ الأرض العامرة وإسهامها في الحياة الإسلامية عن طريق إسلام أهلها عليها ، كان العمل السياسي هنا عمل الأفراد لا عمل الأمّة ولأجل ذلك اعترف الإسلام هنا بحقّهم في الأرض العامرة التي أسلموا عليها ، وسمح لهم بالاحتفاظ بها .

وهكذا نعرف : أنّ العمل السياسي يقوم بدورٍ في النظرة الإسلامية العامة إلى الأرض ، ولكنّه لا ينتزع طابع اللافردية في الملكية إذا كان عملاً جماعياً ، تشترك فيه الأمّة بمختلف ألوان الاشتراك كالفتح ، بل تصبح الأرض عندئذٍ مِلكاً عاماً للأمّة والملكية العامة للأمّة تتفق في الجوهر والمغزى الاجتماعي مع ملكية الدولة ، وإنّ كانت ملكية الدولة أرحب منها وأوسع ؛ لأنّ ملكية الأمّة بالرغم من كونها عامّة داخل نطاق الأمّة ، لكنّها خاصة بالأمّة على أيّ حال ، ولا يجوز استخدامها إلاّ في مصالحها العامة وأمّا ملكية الدولة ، فيمكن للإمام استثمارها في نطاق أوسع فالعمل السياسي الجماعي بالنسبة إلى الأراضي العامرة التي فتحها المسلمون ، أنتج وضعها في نطاق إسلامي ، بدلاً عن نطاق إنساني أوسع ، ولم يخرجها عن طابع اللافردية في الملكية على أيّ حال ، وإنّما تخرج الأرض عن هذا الطابع ، وتخضع لمبدأ الملكية الخاصة ، حين يكون العمل السياسي عملاً فردياً ، كإسلام الأفراد على أراضيهم طوعاً .

٤١٥

وفي هذه الضوء نعرف : أنّ المجال الأساسي للملكية الخاصة لرقبة الأرض في التشريع الإسلامي هو ذلك القسم من الأرض الذي كان ملكاً لأصحابه ، وفقاً لأنظمة عاشوها قبل الإسلام ، ثمّ استجابوا للدعوة ودخلوا في الإسلام طوعاً أو صالحوا ، فإنّ الشريعة تحترم ملكيّاتهم ، وتقرّهم على أموالهم(١) .

وأمّا في غير هذا المجال ، فالأرض تعتبر مِلكاً للإمام ولا تعترف الشريعة بتمّلك الفرد لرقبتها ، وإنّما يمكن للفرد الحصول على حقّ خاص فيها عن طريق الأعمار والاستثمار ، كما مرّ في رأي الشيخ الطوسي وهذا الحقّ وإن كان لا يختلف عملياً في واقعنا المعاش عن الملكية ، ولكنّه يختلف عنها نظرياً ؛ لأنّ الفرد ما دام لا يملك رقبة الأرض ، ولا ينتزعها من نطاق ملكية الإمام ، فللإمام أن يفرض عليه الخَراج ، كما قرّره الشيخ الطوسي وإن كنّا غير مسئولين فعلاً عن هذا الخَراج من الناحية العملية ؛ لأجل أخبار التحليل التي رفعته بصور استثنائية مع اعترافها به نظرياً .

فالشريعة على الصعيد النظري ـ إذن ـ لم تعترف بالملكية الخاصة لرقبة الأرض إلاّ في حدود احترامها للملكيات الثابتة في الأرض قبل دخولها في حوزة الإسلام طوعاً وصلحاً .

ويمكننا بسهولة أن نجد المبرّرات السياسية لهذا الاعتراف ، إذا ربطناه باعتبارات الدعوة ومصلحتها الرئيسية ، بدلاً عن ربطه بالمضمون الاقتصادي للنظرة الإسلامية ؛ لأنّ أولئك الذين أسلموا على أراضيهم طوعاً ، أو دخلوا في حوزة الإسلام صلحاً ، كان من الضروري أن تترك المساحات التي عمروها في أيديهم ، وأن لا يطالبوا بتقديمها إلى دولة الدعوة ، التي دخلوا فيها أو انضمّوا إلى

ـــــــــــــــ

(١) انظر : جواهر الكلام ٢١ : ١٧١ ـ ١٧٥ .

٤١٦

سلطانها ، وإلاّ لشكّل ذلك عقبة كبيرة في وجه الدعوة وامتدادها في مختلف مراحلها .

وبالرغم من إعطاء الإسلام لهؤلاء حقّ الملكية الخاصة ، فإنّه لم يمنحها بشكل مطلق ؛ وإنّما حدّدها باستمرار هؤلاء الأفراد في استثمار أراضيهم ، والعمل لإسهامها في الحياة الإسلامية وأمّا إذا أهملوا الأرض حتى خربت فإنّ عدداً من الفقهاء كابن البرّاج وابن حمزة يرى أنّها تعود عندئذٍ مِلكاً للأمّة(١) .

نظرة الإسلام في ضوء جديد :

ويمكننا أن نتجاوز ما وصلنا إليه من استنتاجات حتى الآن عن نظرة الإسلام التشريعية إلى الأرض لنضع هذه النظرة في إطار أكثر اتساقاً على ضوء بعض المواقف الفقهية الخاصة من النصوص ويتمثل ذلك في المحاولة التالية :

إنّنا لاحظنا قبل لحظات أنّ الأرض حينما ينظر إليها ضمن وضعها الطبيعي ، وبصورة مستقلّة عن الاعتبارات السياسية ، تعتبر إسلامياً مِلكاً للدولة ؛ لأنّها إمّا مَيتَة بطبيعتها أو حيّة ، وكِلا القسمين مِلك للإمام كما رأينا أنّ الفرد بممارسة الإحياء للأرض المَيتَة يكتسب حقّاً خاصاً يجعله أولى بها من الآخرين ما دامت حيّة ، وبممارسته للانتفاع بالأرض العامرة يكتسب حقّاً يجعله أولى بالانتفاع بها ما دام مواصلاً لذلك .

والآن نريد أن نجد ما إذا كانت هناك تعديلات يجب إدخالها على هذه الصورة التشريعية وما هي حدود هذه التعديلات ، وذلك ضمن النقاط التالية :

ـــــــــــــــ

(١) المهذّب ١ : ١٨٢ ، والوسيلة : ١٣٢ .

٤١٧

أوّلاً : الأرض المفتوحة عَنوة العامرة حين الفتح .

وقد تقدم أنّ هذه الأرض يُحكم بأنّها مِلك عام للمسلمين ، ولهذا قلنا : إنّها تدخل في نطاق الملكية العامّة للأمّة لا في نطاق ملكية الدولة ولكن يمكن أن نقول بهذا الصدد : إنّ هذه الأرض إذا نظرنا إليها قبل الفتح نجد أنّها أرض مَيتَة قد أحياها كافر فتكون رقبتها على ضوء ما تقدّم ملكاً للإمام أو الدولة ، وللكافر المُحيي لها أو لمن انتقلت إليه من المحيي حقّ الإحياء ، والروايات الواردة عن الأئمّة (عليهم السلام) بشأن الأرض المفتوحة وأنّها للمسلمين لا يفهم منها سوى أنّ ما كان للكافر من حقّ في الأرض ينتقل بالفتح إلى الأمّة ويصبح حقّاً عامّاً ، ولا تدلّ على أنّ حقّ الإمام يسقط بالفتح ؛ لأنّ المسلمين إنّما يغنمون من أعدائهم لا من إمامهم ، وعلى هذا فسوف تظلّ رقبة الأرض مِلكاً للإمام ويتحوّل ما فيها من حقّ خاص إلى حقّ عام للأمّة .

ثانياً : الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً .

وقد تقدّم أنّ هذه الأرض ملك خاص لأصحابها ، غير أنّ بالإمكان القول بأنّ الروايات الواردة لبيان حكم هذه الأرض كانت متجهة إلى الأمر بتركها في أيدي أصحابها في مقابل ما يصنع بالأرض المفتوحة من تجريد أصحابها من حقوقهم فيها ، فما يترك لمن أسلم طوعاً هو نفس ما ينتزع من حقّ ممّن قهر عَنوة وهذا هو الحقّ الخاص دون ملكية رقبة الأرض .

وبكلمة أخرى : أنّ الأرض قبل إسلام أهلها عليها طوعاً كانت ملِكاً للدولة بحكم دليل الأنفال وكان لصاحبها حقّ خاص فيها هو حقّ الإحياء ، والإسلام يحقن ما له من حقوق لا أنّه يمنحه من الحقوق ما لم يكن له ، وعليه فيظلّ محتفظاً بحق الإحياء مع بقاء الأرض مِلكاً للدولة ، ولذا وجدنا أنّه إذا أخلّ بواجبة وأهمل الأرض ولم يعمرها كان على الإمام أن يبادر إلى الاستيلاء عليها

٤١٨

واستثمارها ؛ لأنّ رقبتها لا تزال ضمن نطاق مِلكية الدولة .

ثالثاً : الأرض التي صولح أهلها على أن تكون لهم .

وهنا في الحقيقة عقد تنقل الدولة بموجبه ملكية هذه الأرض إلى المصالحين في مقابل امتيازات معيّنة تكسبها ، كالجزية مثلاً ، وقد سبق أنّ الأراضي التي تملكها الدولة تعتبر من الأموال الخاصة للدولة التي يمكن لها أن تتصرّف فيها بمعاوضة ونحوها ولكن عقد الصلح هذا عقد سياسي بطبيعته وليس عقد معاوضة ، فهو لا يعني حقّاً إسقاط ملكية الدولة أو النبيّ والإمام لرقبة الأرض ونقلها إليهم ، وإنّما يعني رفع اليد عن أرضهم وتركها لهم في مقابل امتيازات معيّنة ، ووجوب الوفاء بهذا العقد يحتّم على الإمام ألاّ يفرض عليهم أُجرة في مقابل انتفاعهم بالأرض ، وهذا غير نقل ملكية الرقبة ، فالمصالحة على أن تكون الأرض لهم تعني المدلول العَملي لهذه العبارة ، لا المدلول التشريعي ؛ لأنّ المدلول العَملي هو كلّ ما يهمّ الكفّار المصالحين ، فهي نظير عقد الذمّة الذي هو عقد سياسي تتنازل فيه الدولة عن جِباية الزكاة والخمس من الذمّي في مقابل إعطاء الجِزية ، فإنّ هذا لا يعني سقوط الزكاة عن الكافر من الوجهة التشريعية ، وإنّما يعني إلزام الدولة بأن لا تمارس جباية هذه الضريبة وإن كانت ثابتة تشريعاً .

فإذا تمّ كلّ ما تقدّم أمكن القول : بأنّ الأرض كلّها ملك الدولة أو المنصب الذي يمثّله النبيّ أو الإمام ، ولا استثناء لذلك إطلاقاً ، وعلى هذا الضوء نفهم قول الإمام علي في رواية أبي خالد الكابلي ، عن محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام ، عنهعليه‌السلام :( والأرض كلّها لنا ، فمن أحيى أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ، الباب الثالث من إحياء الموات ، الحديث ٢ .

٤١٩

فالمبدأ في الأرض هو ملكية الدولة ، وإلى جانب هذا المبدأ يوجد حقّ الإحياء ، وهو الحقّ الذي يجعل المُحيي أو من انتقلت إليه الأرض من المُحيي أولى بالأرض من غيره ، وهذا الحقّ يكسبه الفرد إذا مارس الإحياء في حالة عدم منع الإمام منه سواء كان مسلماً أو كافراً ، ويكون حقّاً خاصّاً ، غير أنّه إذا كان كافراً واحتلّ المسلمون أرضه عَنوة في حرب جهاد تحوّل هذا الحقّ الخاص إلى حقّ عام ، وأصبح قائماً بالأمّة الإسلامية ككلّ .

وإذا لوحظ أنّ الأرض الخَراجية لا يجوز للإمام إخراجها عن كونها خَراجية ببيع رقبتها أو هبتها ، أمكن القول : بأنّ هذا الحقّ العام وإن كان لا يقطع صلة الدولة برقبة الأرض وملكيّتها لها ، ولكنّه يحوّل الأرض من الأموال الخاصة للدولة إلى الأموال العامّة لها التي لا بدّ أن تستثمرها في المصالح المقرّرة لها مع الاحتفاظ بها وهذا ما يؤكّده التعبير عن الأرض الخَراجية بأنّها موقوفة(١) ، ولأجل ذلك سوف نعبّر بالملكية العامة عن كلّ حالة من هذا القبيل تمييزاً لها عن حالات مِلكية الدولة البحتة ، وهي حالات كون الرقبة مِلكاً للدولة مع عدم وجود حقّ عام من هذا النوع .

ـــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام ٤ : ١٣٠ ، ذيل الحديث ٣٦٦ .

٤٢٠

[٢ـ ] المواد الأوّلية في الأرض

تأتي المواد الأولية ، التي تحويها الطبقة اليابسة في الأرض ، والثروات المعدنية الموجودة فيها بعد الأرض مباشرة في الأهمّية ، وخطورة الدور الذي تمارسه في حياة الإنسان الإنتاجية والاقتصادية ؛ لأنّ كلّ ما يتمتّع به الإنسان في الحقيقة من سلعٍ وطيّبات مادّية ، مردّها في النهاية إلى الأرض ، وما تزخر به من مواد وثروات معدنية ، ولذلك كانت جل فروع الصناعة تعتمد وتتوقّف على الصناعات الاستخراجية ، التي يمارس الإنسان فيها الحصول على تلك المواد والمعادن .

ويقسم الفقهاء عادة المعادن إلى قسمين : وهما المعادن الظاهرة ، والمعادن الباطنة .

فالمعادن الظاهرة هي : المواد التي لا تحتاج إلى مزيد عمل وتطوير لكي تبدو على حقيقتها ، ويتجلّى جوهرها المعدني ، كالملح والنِفط مثلاً فنحن إذا نفذنا إلى آبار النِفط ، فسوف نجد المعدن بوجهه الحقيقي ، ولن نحتاج إلى جهد في تحويله إلى نِفط ، وإن كنّا بحاجة إلى جهود كبيرة في الوصول إلى آبار النِفط واكتشافها ، وفي تصفية النِفط بعد ذلك .

فالمعدن الظاهر في العرف الفقهي ليس هو ما يبدو من معنى اللفظ لغةً ، أي : الظاهر الذي لا يحتاج إلى حفرٍ ومؤنةٍ في التوصّل إليه ، بل هو كلّ معدن تكون طبيعته المعدنية بارزة ، سواء احتاج الإنسان إلى حفر وجهد كبير للوصول إلى آباره وعيونه في أعماق الطبيعة ، أو وجده بيسر وسهولة على سطح الأرض(١) .

ـــــــــــــــ

(١) الروضة البهية ٤ : ٦٥ ، جواهر الكلام ٣٨ : ١٠٠ ـ ١٠١ .

٤٢١

وأمّا المعادن الباطنية فهي : كلّ معدنٍ احتاج في إبراز خصائصه المعدنية إلى عمل وتطوير ، كالحديد والذهب(١) فإنّ مناجم الحديد والذهب لا تحتوي على حديد أو ذهب ناجز ، ينتظر أن يصل الإنسان إلى أعماقه ليأخذ منه ما شاء ، وإنما تضمّ تلك المناجم مواداً يجب أن ينفق عليها كثير من الجهد والعمل لكي تصبح حديداً وذهباً ، كما يفهمه بائعو الحديد والذهب .

فظهور المعدن وبطونه في المصطلح الفقهي ، يرتبطان بطبيعة المادّة ودرجة أنجاز الطبيعة لها ، لا بمكانها ووجودها قريباً من سطح الأرض ، أو في أعماقها وأغوارها .

وقد قال العلاّمة الحلّي في التذكرة ، لإيضاح هذا المصطلح الفقهي الذي شرحناه :( إنّ المراد بالظاهر : ما يبدو جوهرها من غير عمل ، وإنّما السعي والعمل لتحصيله إمّا سهلاً أو متعباً ، ولا يفتقر إلى إظهار ، كالملح ، والنفط ، والقار ، والقطران ، والموميا ، والكبريت ، وأحجار الرحى ، والبرمة ، والكحل ، والياقوت ، ومقالع الطين ، وأشباهها والمعادن الباطنة هي : التي لا تظهر إلاّ بالعمل ، ولا يوصل إليها إلاّ بعد المعالجة والمؤونة عليها ، كمعادن الذهب ، والفضّة ، والحديد ، والنحاس ، والرصاص ) (٢) .

المعادن الظاهرة :

أمّا المعادن الظاهرة ـ كالملح والنِفط ـ فالرأي الفقهي السائد فيها هو :

أنّها من المشتركات العامّة بين كلّ الناس(٣) فلا يعترف الإسلام لأحدٍ بالاختصاص

ـــــــــــــــ

(١) انظر : جواهر الكلام ٣٨ : ١١٠ .

(٢) تذكرة الفقهاء ( ط. الحجرية) ٢ : ٤٠٣ .

(٣) الروضة البهية ٤ : ٦٥ .

٤٢٢

بها وتملُّكِها ملكيةً خاصة ؛ لأنّها مندرجة عنده ضمن نطاق الملكية العامة ، وخاضعة لهذا المبدأ ، وإنّما يسمح للأفراد بالحصول على قدر حاجتهم من تلك الثروة المعدنية دون أن يستأثروا بها ، أو يتملّكوا ينابيعها الطبيعية .

وعلى هذا الأساس يصبح للدولة وحده ـ أو للإمام بوصفه وليّ أمر الناس الذين يملكون تلك الثروات الطبيعية مِلكية عامّة ـ أن يستثمرها بقدر ما توفّره الشروط المادّية للإنتاج والاستخراج من إمكانات ، ويضع ثمارها في خدمة الناس .

وأمّا المشاريع الخاصة التي يحتكر فيها الأفراد استثمار المعادن ، فتُمنع مَنعاً باتاً ولو مارست تلك المشاريع العمل والحفر للوصول إلى المعدن ، واكتشافه في أعماق الأرض لم يكن لها حقّ تملّك المعدن ، وإخراجه عن نطاق الملكية العامة ، وإنّما يسمح لكلّ مشروع فردي بالحصول على قدر حاجة الفرد الخاصة ، من تلك المادّة المعدنية .

وقد قال العلاّمة الحلّي في التذكرة ـ توضيحاً لهذا المبدأ التشريعي في المعادن الظاهرة ، بعد أن استعرض أمثلة كثيرة له ـ : ( إنّ هذه المعادن لا يملكها أحد بالإحياء والعمارة ، وإن أراد بها (النيل) إجماعا )(١) ويعني بـ (النيل) : الطبقة التي تحتوي على المعدن من الأرض أي : إن الفرد لا يسمح له بتملّك تلك المعادن ولو حفر حتى وصل إلى آبار النفط ، أي : إلى الطبقة المعدنية في أعماق الأرض .

وقال أيضاً في القواعد ـ عند الحديث عن المعادن ـ ما يلي :( المعادن وهي قسمان : ظاهرة وباطنة ، أمّا الظاهرة وهي التي لا تفتقر في الوصلة إليها إلى مؤونة ، كالملح والنِفط والكبريت والقار والموميا والكحل والبرام والياقوت ...

ـــــــــــــــ

(١) تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ٤٠٣ .

٤٢٣

الأقرب اشتراك المسلمين فيها ، فحينئذٍ لا تملك بالإحياء ولا يختصّ بها المحجّر ، ولا يجوز إقطاعها ، ولا يختص المقطع بها والسابق إلى موضع منه لا يُزعج قبل قضاء وطره فإن تسابق اثنان أقرع مع تعذر الجمع ، ويحتمل القسمة ، وتقديم الأحوج ) (١) .

وقد نصّت على مبدأ الملكية العامة ، وعدم السماح بالملكية الخاصة للمعادن الظاهرة ، كثير من المصادر الفقهية : كالمبسوط(٢) ، والمهذب(٣) ، والسرائر(٤) ، والتحرير(٥) ، والدروس(٦) ، واللمعة(٧) ، والروضة(٨) .

وجاء في جامع الشرائع والإيضاح :( أنّه لو قام الفرد لأخذ الزيادة عن حاجته مُنع ) (٩) .

وفي المبسوط ، والسرائر ، والشرائع ، والإرشاد ، واللمعة ، ما يؤكّد هذا المنع ، إذ جاء في هذه المصادر : أنّ من سبق أخذ قدر حاجته(١٠) .

ـــــــــــــــ

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٢٧١

(٢) المبسوط ٢ : ٢٧٤ .

(٣) المهذّب ٢ : ٣٣ .

(٤) السرائر ٢ : ٣٨٣ .

(٥) تحرير الأحكام الشرعية ٢ : ١٣١ .

(٦) الدروس الشرعية ٣ : ٦٧ .

(٧) اللمعة الدمشقية : ٢٤٣

(٨) الروضة البهية ٤ : ٦٥ .

(٩) الجامع للشرائع : ٣٧٥ ، وإيضاح الفوائد ٢ : ٢٣٧ .

(١٠) انظر : المبسوط ٣ : ٢٧٥ ، والسرائر ٢ :٣٨٣ ، وشرائع الإسلام ٣ : ٢٢٢ ، وإرشاد الأذهان ١ :٣٤٩ ، واللمعة الدمشقية : ٢٤٣ .

٤٢٤

وقال العلاّمة في التذكرة :( إنّ هذا هو رأي أكثر أصحابنا ، ولم يبيّنوا لنا حاجة يومه أو سنته ) (١) .

ويريد بذلك، أنّ الفقهاء منعوا من أخذ الزائد على قدر الحاجة ، ولم يحدّدوا الحاجة التي تسوّغ الأخذ ، هل هي حاجة اليوم أو السنة ؟ وفي هذا تبلغ الشريعة قمّة الصراحة في التأكيد على عدم جواز الاستغلال الفردي لتلك الثروات الطبيعية .

وجاء في متن نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج :أنّ المعدن الظاهر ـ وهو وهو ما يخرج بلا علاج كنِفط وكبريت ـ لا يملك ولا يثبت فيه اختصاص بتحجير ولا إقطاع ، فإن ضاق نَيله قدّم السابق بقدر حاجته ؛ فإنّ طلب زيادة ، فالأصحّ إزعاجه (٢) .

وقال الشافعي يوضح حكم المعادن الظاهرة : وأصل المعادن صنفان : ما كان ظاهراً كالملح في الجبال ، تنتابه الناس فهذا لا يصلح لأحدٍ أن يقطعه بحال ، الناس فيه شرع ، وهكذا النهر والماء الظاهر والنبات فيما لا يملك لأحدٍ ، وقد سأل الأبيض بن حمّال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن يقطعه ملح مأرب فأقطعه إياه أو أراده فقيل له : إنّه كالماء العدّ فقال :فلا إذن : قال : ومثل هذا كلّ عين ظاهرة كنِفط أو قير أو كبريت أو موميا أو حجارة ظاهرة في غير ذلك أحد فهو كالماء والكلأ الناس فيه سواء(٣) .

وقال الماوردي في الأحكام السلطانية يتحدّث عن المعادن الظاهرة : فأمّا

ـــــــــــــــ

(١) تذكرة الفقهاء (ط.الحجرية) ٢ : ٤٠٣ .

(٢) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ٥ : ٣٤٩ ، ومغني المحتاج ٢ : ٣٧٢ .

(٣) الأمّ ٤ : ٤٢ ، ونقل الحديث ابن داود في سننه ٣ : ١٧٤ ، الحديث ٣٠٦٤ .

٤٢٥

الظاهرة فهي ما كان جوهرها المستودع فيها بارزاً كمعادن الكحل والملح والقار والنِفط وهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه فإنّ اقطعت هذه المعادن الظاهرة لم يكن لإقطاعها حكم وكان المقطع وغيره فيها سواء وجميع من ورد إليها أسوة مشتركون فيها فإن منعهم المقطع منها كان بالمنع متعدّياً(١) .

فالمعادن الظاهرة في ضوء ما قدّمناه من النصوص الفقهية خاضعة لمبدأ الملكية العامة. والملكية العامة هنا تختلف عن الملكية العامة لأراضي الفتح العامرة ، التي سبق الحديث عنها ، لأنّ الملكية العامة لتلك الأرض كانت نتيجة لعمل سياسي قامت به الأمّة وهو الفتح، فلم تكن لتنفتح لأكثر من ذلك ، فهي ملكية عامة للأمّة الإسلامية.

وأمّا المعادن هنا فالناس فيها جميعاً سواء ، بموجب كثير من المصادر الفقهية التي جاء التعبير فيها بكلمة الناس بدلاً عن كلمة المسلمين ، كما في المبسوط ، والمهذّب ، والوسيلة ، والسرائر ، والأمّ إذ لا دليل في رأي أصحاب هذه المصادر على اختصاص المسلمين بالمعادن ، فهي إذن ملك عام للمسلمين ولكلّ من يعيش في كنفهم .

المعادن الباطنة :

وأمّا المعادن الباطنة : وهي في العرف الفقهي ـ كما عرفنا ـ كلّ معدن لا ينجز بشكله الكامل إلاّ بالعمل ، كالذهب الذي لا يصبح ذهباً إلاّ بالعمل والتطوير فهذه بدورها أيضاً نوعان ؛ لأنّ المادّة المعدنية من هذا القبيل قد توجد قريباً من سطح الأرض ، وقد توجد في أعماقها بشكل لا يمكن الوصول إليها بدون حفرٍ وجهدٍ كبير .

ـــــــــــــــ

(١) الأحكام السلطانية ١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ و ٢ : ١٩٧ .

٤٢٦

المعادن الباطنة القريبة من سطح الأرض :

أمّا مّا كان من المعادن الباطنة قريباً من سطح الأرض ، فهو كالمعادن الظاهرة التي مرّت بنا أحكامها الآن .

قال العلاّمة الحلّي في التذكرة : ( فالمعادن الباطنة إمّا أن تكون ظاهرة ـ أي قريبة من سطح الأرض أو في متناول اليد ـ أو لا ، فإن كانت ظاهرة لم تملك بالإحياء أيضاً ، كما تقدّم في المعادن الظاهرة )(١) .

والشيء نفسه ذكره ابن قُدامة حيث كتب يقول : ( إنّ المعادن الظاهرة وهي التي يوصل ما فيها من غير مؤونة ينتابها الناس وينتفعون بها لا تملك بالإحياء ولا يجوز إقطاعها لأحد من الناس ولا احتجازها دون المسلمين فإما المعادن الباطنة وهي التي لا يوصف إليها إلاّ بالعمل والمؤونة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والبلور والفيروزج فإذا كانت ظاهرة لم تملك أيضاً بالإحياء )(٢) .

فالإسلام لا يسمح في المواد المعدنية التي تقع قريباً من سطح الأرض بتملّكها ، وهي في مكانها ملكية خاصة ، وإنّما يأذن لكلّ فرد أن يمتلك الكمّية التي يأخذها ويجوزها من تلك المواد ، على أن لا يتجاوز الكمّية حداً معقولاً ، ولا تبلغ الدرجة التي يصبح استيلاء الفرد عليها وحيازته لها سبباً للضرر

ـــــــــــــــ

(١) تذكرة الفقهاء (ط.الحجرية) ٢ :٤٠٣ .

(٢) المغني ٦ : ١٥٦ ـ ١٥٧ .

٤٢٧

الاجتماعي والضيق على الآخرين ، كما نصّ على ذلك الفقيه الإصفهاني في الوسيلة(١) لأنّنا لا نملك نصاً صحيحاً من الشريعة ، يدل على أنّ الحيازة ـ دائماً وفي جميع الأحوال ـ تكون سبباً لملكية الثروة المعدنية المحازة ، مهما كان قدر تلك الثروة ، ومدى أثر حيازتها على الآخرين وإنّما الشيء الوحيد الذي نعلمه هو : أّنّ الناس كانوا قد اعتادوا في عصر التشريع على إشباع حاجاتهم من المواد المعدنية التي توجد على سطح الأرض أو قريباً منه ، بحيازة كمّيات من تلك المواد لسدّ حاجاتهم وكانت الكمّيات ضئيلة بطبيعة الحال ، تبعاً لانخفاض إمكاناتهم الاستخراجية والإنتاجية وهذه العادة التي سمحت بها الشريعة وقتئذٍ ، لا يمكن أن تصبح دليلاً على سماح الشريعة بتملّك الفرد لما يحوزه من الكمّيات وإن اختلفت حيازته في الكمّ ـ أي في قدر المادة المُحازة ـ وفي الكيف ـ أي أثر الحيازة على الآخرين ـ عن الحيازة التي جرت عليها عادة الناس في عصر التشريع .

وحتى الآن ، وفي حدود المعادن الظاهرة ـ بالمعنى الفقهي ـ والمعادن الباطنة القريبة من سطح الأرض نجد أن الفقهاء لم يسمحوا بالملكية الخاصة لرقبة المعدن ، وإنّما أجازوا للفرد أن يأخذ من تلك المعادن ، القدر المعقول من حاجته ، وبذلك ترك مجال استثمار هذه الثروات الطبيعية في نطاق أوسع بدلاً عن ممارسة المشاريع الفردية الخاصة لها على سبيل الاحتكار .

المعادن الباطنة المستترة :

وأمّا المعادن الباطنة ، التي تختفي في أعماق الأرض فهي تتطلّب نوعين من الجهود :

ـــــــــــــــ

(١) وسيلة النجاة : ٢ : ٣١٨ .

٤٢٨

أحدهما : جهد التفتيش والحفر للوصول إلى طبقاتها في أغوار الأرض .

والآخر : الجهد الذي يبذل على نفس المادة لتطويرها وإبراز خصائصها المعدنية ، وذلك كمعادن الذهب والحديد ولنطلق على هذه الفئة من المعادن اسم : (المعادن الباطنة المستَتِرة) .

وهذه المعادن الباطنة المستترة تتقاذفها عدّة نظريات في الفقه الإسلامي ، فهناك من يرى أنّها ملك الدولة ، أو الإمام باعتبار المنصب لا الشخص ، كالكليني(١) والقمّي(٢) ، والمفيد(٣) ، والديلمي(٤) ، القاضي(٥) ، وغيرهم إيماناً منهم بأنّ المعادن من الأنفال ، والأنفال ملك الدولة وهناك من يرى أنّها من المشتركات العامة التي يملكها الناس جميعاً ملكية عامة ، كما نقل عن الإمام الشافعي وعن كثير من العلماء الحنابلة .

وقد ذكر الماوردي الفقيه الشافعي : أنّه أحد القولين في المسألة ، إذ كتب يقول : وأمّا المعادن الباطنة فهي ما كان جوهرها مستكناً فيما لا يوصل إليه إلاّ بالعمل كمعادن الذهب والفضّة والصفر والحديد ، فهذه وما أشبهها معادن باطنة سواء احتاج المأخوذ منها إلى سبك وتخليص أو لم يحتج وفي جواز إقطاعها قولان : أحدهما : لا يجوز كالمعادن الظاهرة وكل الناس فيها شرع(٦) .

ـــــــــــــــ

(١) الأصول من الكافي ١ : ٥٣٨ .

(٢) تفسير القمّي ١ : ٢٥٤ .

(٣) المقنعة : ٢٧٨ .

(٤) المراسم : ١٤٠ .

(٥) المهذب ٢ : ٣٤ .

(٦) الأحكام السلطانية ١ : ٢٣٦ و ٢ : ١٩٧ .

٤٢٩

كما يبدو من ابن قدامة الفقيه الحنبلي أنّ المعادن الباطنية المستترة هي من المشتركات العامة أيضاً في ظاهر المذهب الحنبلي وظاهر مذهب الشافعي ، فلا فرق بينها وبين المعادن الظاهرة أو الباطنة غير المستقرّة من هذه الناحية(١) .

وليس من المهم فعلاً ـ بالنسبة إلى عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي التي نمارسها ـ أن ندرس الشكل التشريعي لملكية هذه المعادن ، وهل هو شكل الملكية العامة أو ملكية الدولة ، أو أيّ شكل آخر ؟ مادام من المسلّم به أنّ هذه المعادن بحسب وضعها الطبيعي ذات طابع اجتماعي عام ، ولا يختصّ بها فردٌ دون فرد فتبقى دراسة نوع الملكية بحثاً شكلياً ، لا يتّصل بأهدافنا فعلاً وإنّما المهم الجدير بالبحث أن نعرف ما إذا كان الإسلام يسمح بخروج معدن الذهب والفضة مثلاً عن حقل الثروات العامة ، ويمنح الفرد الذي حفر الأرض المعدنية واكتشف المادة ملكية المعدن الذي اكتشفه .

ونحن قد رأينا في المعادن الظاهرة ، والمعادن الباطنة التي تقرّب من سطح الأرض ، أنّ الشريعة ـ في رأي جمهور الفقهاء ـ لم تسمح بتملّكها ملكية خاصة ، وإنّما أجازت لكلّ فرد أن يأخذ من مواردها المعدنية وفقاً لحاجته ، دون إضرار بالآخرين فمن الضروري أن نعرف موقف الشريعة من المعادن الباطنة المستترة ، ونتبيّن مدى اتّفاقه أو اختلافه ، مع موقفها من المعادن الأخرى .

فالمسألة إذن هي : هل يمكن للفرد أن يملك مناجم الذهب والحديد ملكية خاصة ، باكتشافها عن طريق الحفر ، أو لا ؟

ويجيب كثير من الفقهاء على هذا السؤال بالإيجاب ، فهم يرون أنّ المعدن

ـــــــــــــــ

(١) لاحظ : المغني ٦ : ١٥٧ .

٤٣٠

يملك بالاكتشاف خلال عمليات الحفر(١) .

ويستندون في ذلك إلى أن اكتشاف المعدن بالحفر لون من ألوان الإحياء ، والموارد الطبيعية تملك بالإحياء كما أنّه أسلوب للحيازة ، والحيازة تعتبر سبباً لتملّك ثروات الطبيعة على اختلافها .

ونحن حين ندرس هذا الرأي من الناحية المذهبية ، يجب أن لا نفصله عن التحفّظات التي أحيط بها ، والحدود التي فرضت فيه على ملكية المعدن حين سمح بها لمن يكتشفه .

فملكية المعدن التي يظفر بها المكتشف ـ على هذا الرأي ـ لا تمتدّ في أعماق الأرض ، إلى عروق المادة المعدنية وجذورها .

وإنّما تشمل المادة التي كشف عنها الحفر ، كما أنّها لا تمتدّ أفقياً خارج حدود الحفرة التي أنشأها المكتشف ، إلاّ بالقدر الذي يتوقّف عليه ممارسته لاستخراج المادة من الحفرة ، وهو ما يسمّى فقهياً بحريم المعدن(٢) .

ومن الواضح أنّ هذه الأبعاد للملكية محدودة وضيقة إلى حدٍّ كبير ، وتسمح لأيّ فرد آخر أن يمارس عمليات الحفر في موضع آخر من نفس ذلك المعدن ، ولو كان يمتصّ في الحقيقة نفس الينابيع والجذور التي يمتصها المكتشف الأوّل ؛ لأنّ الأوّل لا يملك العروق والينابيع .

وهذا التحديد في ملكية المعدن الباطن لدى القائلين بها ، واضح في عدّة نصوص فقهية ، فقد قال العلاّمة الحلّي في القواعد : ( ولو حفر فبلغ المعدن ، لم يكن له منع غيره من الحفر من ناحية أخرى فإذا وصل ـ الغير ـ إلى العرق لم يكن له

ـــــــــــــــ

(١) لاحظ : الروضة البهية ٤ : ٦٦ ، وجواهر الكلام ٣٨ : ١١٠ .

(٢) انظر : جواهر الكلام ٣٨ : ١١٠ ـ ١١٣ .

٤٣١

ـ أيّ للحافر الأوّل ـ منعه ؛ لأنّه يملك المكان الذي حفره وحريمه )(١) .

وقال في التذكرة ـ وهو يحدّد نطاق الملكية ـ : ( وإذا اتسع الحفر ولم يوجد النيل إلاّ في الوسط ، أو بعض الأطراف لم يقتصر الملك على محل النيل ، بل كما يملكه يملك ما حواليه ، ما يليق بحريمه ، وهو قدر ما تقف الأعوان والدواب .

ومن جواز ذلك الحفر ـ أي من حَفر في موضع آخر ـ لم يمنع ، وإن وصل إلى العرق ، سواء قلنا أنّ المعدن يُملك بحفره أو لم نقل ؛ لأنّه لو كان يملك فإنّما يملك المكان الذي حفره ، وأمّا العرق الذي في الأرض فلا يملكه )(٢) .

وهذه النصوص تحدّد الملكية ضمن حدود الحفرة وما حواليها بالقدر الذي يتيح ممارسة استخراج المادة منها ولا تعترف بامتدادها ، عمودياً وأفقياً ، أكثر من ذلك .

ونحن إذا جمعنا إلى هذا التحديد الذي يقرّره القائلون بملكية المعدن من الفقهاء مبدأ عدم جواز التعطيل ، الذي يمنع الأفراد الممارسين للحفر وعملية الكشف من تجميد المعدن وتعطيله ، ويحكم بانتزاعه منهم إذا هجروه وعطلوه .

إذا جمعنا بين كلّ هذه التحفظات ، وجدنا القول بالملكية الذي يسمح للفرد بتملّك المعدن ضمن تلك الحدود ، في قوّة إنكار الملكية الخاصة للمناجم ، من ناحية النتائج الحاسمة ، والأضواء التي يلقيها على البحث النظري في الاقتصاد الإسلامي ؛ لأنّ الفرد بحكم تلك التحفّظات ، لا يسمح له إلاّ بتملّك المادة المعدنية الواقعة في حدود حفرياته فقط ، ويواجه منذ البدء في العمل تهديداً بانتزاع المعدن منه إذا حَجَر المنجم وقطع العمل ، وجمّد الثروة المعدنية .

ـــــــــــــــ

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٢٧٢ .

(٢) تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ٤٠٤ .

٤٣٢

وهذا النوع من الملكية يختلف بكلّ وضوح عن ملكية المرافق الطبيعية في المذهب الرأسمالي ؛ لأنّ هذا النوع من الملكية لا يتجاوز كثيراً عن كونه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل بين الناس ، ولا يمكن أن يؤدّي إلى إنشاء مشاريع فردية احتكارية ، كالمشاريع التي تسود المجتمع الرأسمالي ، ولا يمكن أن يكون أداة للسيطرة على مرافق الطبيعة ، واحتكار المناجم وما تضمّ من ثروات .

وخلافاً للقول بالملكية يوجد اتجاه فقهي آخر ، ينكر تملّك الفرد للمعدن ضمن تلك الحدود التي اعترف بها الفقهاء ، القائلون بالملكية .

وقد جاء في متن نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج قوله : ( والمعدن الباطن وهو : ما لا يخرج إلاّ بعلاج كذهب وفضة وحديد ونحاس لا يملك بالحفر والعمل في الأظهر )(١) .

وجاء في المغني لابن قُدامة الفقيه الحنبلي قوله عن المعادن : ( وإن لم تكن ظاهرة فحفرها إنسان وأظهرها لم تملك بذلك ، في ظاهر المذهب وظاهر مذهب الشافعي )(٢) .

ويستمدّ هذا الاتّجاه الفقهي مبرّرات الإنكار ، من مناقشة أدلّة الملكية ومستمسكات القائلين بها فهو لا يقرّ هؤلاء على أنّ المكتشف للمعدن يملكه ، على أساس إحيائه للمعدن بالاكتشاف ، أو على أساس حيازته له وسيطرته عليه ؛ لأنّ الإحياء لم يثبت في الشريعة حقّ خاص على أساسه إلاّ في الأرض ؛ للنصّ التشريعي القائل :( من أحيى أرضاً فهي له ) والمعدن ليس أرضاً حتى يشمله النصّ ، بدليل أنّ الفقهاء حين بحثوا أحكام أراضي الفتح العامرة وقالوا : أنّها

ـــــــــــــــ

(١) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ٥ : ٣٥١ ، ومغني المحتاج ٢ : ٣٧٢ .

(٢) المغني ٦ : ١٥٧ .

٤٣٣

ملك عام للمسلمين ، لم يلحقوا معادن تلك الأراضي بها في هذه الملكية ، معترفين بأنّ المعدن ليس أرضاً(١) .

كما أنّ الحيازة لا يوجد دليل في الشريعة ، على أنّها سبب لتملّك المصادر الطبيعية

وعلى ضوء هذا الاتجاه الفقهي لا يتاح للفرد أن يملك شيئاً من المنجم مادام في موضعه الطبيعي ، وإنّما يملك المادة التي يستخرجها خاصة وهذا لا يعني أنّ علاقته بالمنجم لا تختلف من الناحية التشريعية عن علاقة أيّ فردٍ آخر ، بل هو بالرغم من أنّه لا يملك المعدن يعتبر تشريعياً أولى من غيره بالاستفادة من المعدن ، وممارسة العمل فيه عن طريق الحفرة التي حفرها لاكتشافه ؛ لأنّه هو الذي خلق فرصة الاستفادة من المعدن عن طريق تلك الحفرة التي انفق عليها جهده وعمله ، ونفذ منها إلى المواد المعدنية في أعماق الأرض فمن حقّه أن يمنع الآخرين عن استغلال الحفرة في الحدود التي تزاحمه ، ولا يجوز لأيّ فردٍ آخر استخدام تلك الحفرة في سبيل الحصول على مواد معدنية بشكل يزاحم صاحب الحفرة .

وفي ضوء ما مرّ بنا من نصوص فقهية ونظريّات عن المناجم ، يمكننا أن نستخلص : أنّ المناجم ـ في الرأي الفقهي السائد ـ من المشتركات العامة ، فهي تخضع لمبدأ الملكية العامة ، ولا يسمح للفرد بتملّك عروقها وينابيعها المتوغّلة في الأرض وأمّا تملّك الفرد للمادة المعدنية في الأرض بالقدر الذي تمتدّ إليه أبعاد الحفرة عمودياً وأفقياً فهو موضع خلاف ، بين رأي فقهي سائد ، واتجاه فقهي

ـــــــــــــــ

(١) انظر : جواهر الكلام ٣٨ : ١١٤ .

٤٣٤

آخر ففي الرأي السائد فقهياً : يمنح الفرد حقّ تملّك المعدن في تلك الحدود إذا كان المعدن باطناً مستتراً وفي الاتجاه الفقهي المعاكس : يعطى الفرد حقّ تملّك ما يستخرجه من المادة المعدنية فحسب ، ويعتبر أولى بالاستفادة من المعدن ، واستخدام حفرته في هذا السبيل من أيّ شخص آخر .

هل تُملك المعادن تبعاً للأرض ؟

كنّا نريد بالمعادن حتى الآن : المناجم التي توجد في أرض حرّة لا يختصّ بها أحد من الأفراد وقد أسفر البحث عن النتيجة التي استخلصناها قبل لحظة ، ويجب أن نلاحظ الآن أنّ هذه النتيجة هل تستوعب المناجم التي توجد في أرض يختصّ بها فرد معيّن ، أو أنّ هذه المناجم تصبح ملكاً لذلك الفرد ؛ باعتبار وجودها في أرضه ؟

والحقيقة : أنّا لا نجد مانعاً من تطبيق النتيجة التي أسفر عنها البحث على هذه المناجم ـ ما لم يوجد إجماع تعبّدي ـ ، لأنّ وجودها في أرض فرد معيّن ليس سبباً كافياً ، من الناحية الفقهية ، لتملّك ذلك الفرد لها ؛ لأنّنا عرفنا في بحث سابق : أنّ اختصاص الفرد بالأرض لا يَنشأ إلاّ من أحد سببين : وهما الإحياء ، ودخول الأرض في دار الإسلام بإسلام أهلها عليها طوعاً فالإحياء يُنتج حقّاً للمحيي في الأرض التي أحياها ، وإسلام الشخص على أرضه طوعاً يجعل الأرض ملكاً له وكلّ من هذين السببين لا يمتدّ أثره إلى المناجم الموجودة في أعماق الأرض ، وإنّما يقتصر أثره على الأرض نفسها ، وفقاً للدليل الشرعي الوارد بشأن كلّ منهما فالدليل الشرعي بالنسبة إلى الإحياء هو النصّ التشريعي القائل :( أنّ من أحياء أرضاً فهي له وهو أحقّ بها ، وعليه طَسقها ) . ومن الواضح أن هذا النصّ يمنح المُحيي حقّاً في الأرض التي أحياها ، لا فيما تضمّ الأرض من ثروات لا تزال في الأعماق .

٤٣٥

وأمّا الدليل الشرعي على ملكية الفرد للأرض التي أسلم عليها أهلها طوعاً فهو : أنّ الإسلام يحقن الدم والمال ، فمن أسلم حُقن دمه وسلمت أمواله التي كان يملكها قبل الإسلام وهذا المبدأ ينطبق على الأرض نفسها ، ولا ينطبق على المناجم التي تضمّها ؛ لأنّ الشخص الذي أسلم لم يكن قبل إسلامه يملك تلك المناجم فتحفظ له

وبكلمة أخرى : أنّ مبدأ حقن الدم والمال بالإسلام لا يشرّع ملكية جديدة ، وإنّما يحفظ للشخص بسبب دخوله في الإسلام ما كان يملكه من أموال قبل ذلك وليست المناجم من تلك الأموال ليملكها بالإسلام ، وإنّما يحفظ له إسلامه أرضه التي كانت له سابقاً ، فيظلّ مالكاً لها بعد الإسلام ، ولا تنتزع منه .

ولا يوجد في الشريعة نصّ على أنّ ملكية الأرض تمتدّ إلى كلّ ما فيها من ثروات .

وهكذا نعرف : أن بالإمكان فقهياً ـ إذا لم يوجد إجماع تعبدي ـ القول : بأنّ المناجم التي توجد في الأراضي المملوكة أو المختصة ليست ملكاً لأصحاب الأراضي ، وإن وجب لدى استثمارها أن يلاحظ حقّ صاحب الأرض في أرضه ؛ لأنّ إحياء تلك المناجم واستخراجها يتوقّف على التصرّف في الأرض .

ويبدو أنّ الإمام مالك ذهب إلى هذا القول وأفتى بأنّ المعدن الذي يظهر في أرض مملوكة لشخص لا يكون تابعاً للأرض ، بل هو للإمام فقد جاء في مواهب الجليل ما يلي : ( قال ابن بشير : وإن وُجد في أرض مملوكة لمالك معيّن ففيها ثلاثة أقوال :

٤٣٦

أحدها : أنّه للإمام .

والثاني : لمالك الأرض

والثالث : إن كان عينا للإمام ، وإن كان غير ذلك من الجواهر فلمالك الأرض .

وقال اللخمي : اختلف في معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص ، تظهر في ملك الرجل ، فقال مالك : الأمر فيها للإمام يقطعه لمن رآه )(١) .

الإقطاع في الإسلام :

توجد في مصطلحات الشريعة الإسلامية ـ فيما يتّصل بالأراضي والمعادن ـ كلمة : (الإقطاع ) فنحن نجد في كلام كثير من الفقهاء القول : بأنّ للإمام إقطاع هذه الأرض ، أو هذا المعدن على خلاف بينهم في الحدود المسموح بها من الإقطاع للإمام .

وكلمة : (الإقطاع ) أُشرطت في تأريخ القرون الوسطى ـ وبخاصة في تأريخ أوروبا ـ بمفاهيم ونظم معيّنة ، حتى أصبحت نتيجة لذلك تثير في الذهن لدى استماعها كلّ تلك المفاهيم والنظم التي كانت تحدّد علاقات المزارع بصاحب الأرض وتنظّم حقوقهما ، في العصور التي ساد فيها نظام الإقطاع في أوروبا ، ومناطق مختلفة من العالم .

وفي الواقع : أنّ هذه الإثارة والإشراط باعتبارهما نتاجاً لغوياً لحضارات ومذاهب اجتماعية لم يعشها الإسلام ولم يعرفه ـ سواء عرفها المسلمون في بعض أجزاء الوطن الإسلامي ؛ حينما فقدوا أصالتهم وقاعدتهم واندمجوا في

ـــــــــــــــ

(١) مواهب الجليل ٢ : ٣٣٥ .

٤٣٧

تيارات العالم الكافر أو لا ـ فمن غير المعقول أن نحمّل الكلمة الإسلامية هذا النتاج اللغوي الغريب عنها .

ونحن لا نريد ولا يهمّنا الحديث عن رواسب الكلمة التأريخية ، والتركة التي تحمّلتها نتيجة لعصور معيّنة من التأريخ الإسلامي ؛ لأنّنا لسنا بصدد المقارنة بين مدلولين للكلمة ، بل لا نجد مبرّراً لهذه المقارنة إطلاقاً ، بين مفهوم الإقطاع في الإسلام ومفهومه الذي تعكسه النظم الإقطاعية على اللفظ ، لانقطاع الصلة بين المفهومين نظرياً ، كانفصال أحدهما عن الآخر تأريخياً وإنّما نستهدف في هذا البحث شرح الكلمة من وجهة نظر الفقه الإسلامي ؛ من أجل تحديد الصورة الكاملة لأحكام الشريعة في التوزيع ، التي تتحدّد وتتبلور خلال عملية الاكتشاف ، التي نمارسها في هذا الكتاب .

فالإقطاع كما يحدده الشيخ الطوسي في المبسوط ، وابن قُدامة في المغني ، والماوردي في أحكامه ، والعلاّمة الحلّي ، هو في الحقيقة : منح الإمام لشخص من الأشخاص حقّ العمل في مصدر من مصادر الثروة الطبيعية ، التي يعتبر العمل فيها سبباً لتملّكها أو اكتساب حقّ خاص فيها(١) .

ـــــــــــــــ

(١) فقد كتب الطوسي يقول : ( إذا أقطع السلطان رجلاً من الرعية قطعة من المَوَات صار أحقّ به من غيره بإقطاع السلطان إياه بلا خلاف ، وكذلك إذا تحجّر أرضاً من الموات ، والتحجير أن يؤثّر فيها أثراً لم يبلغ به حدّ الإحياء ، مثل : أن ينضب فيها المروز ، أو يحوط عليها حائطاً ، وما أشبه ذلك من آثار الإحياء ، فإنّه يكون أحقّ بها من غيره ، فإقطاع السلطان بمنزلة التحجير ) المبسوط للشيخ الطوسي ٣ : ٢٧٣ .

وكتب ابن قُدامة يقول : ( إنّ من أقطعه الإمام شيئاً من المَوَات لم يملكه بذلك ، لكن يصير أحقّ به كالمتحجّر للشارع في الإحياء ) المغني ٥ : ٤٧٣ وكتب الماوردي يقول : ( فمن خصّه الإمام به وصار بالإقطاع أحقّ الناس به لم يستقر ملكه عليه قبل الإحياء ) الأحكام السلطانية ٢ : ١٩١ .

وقال العلاّمة الحلّي : (فائدة الإقطاع تصيِّر المُقطَع أحقّ بإحيائه ) تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ٤١١ (المؤلّفقدس‌سره )

٤٣٨

ولكي نستوعب هذا التعريف يجب أن نعرف : أنّ جميع مصادر الثروة الطبيعية الخام(١) في الإسلام لا يجوز للفرد العمل فيها وإحياؤها ما لم يسمح الإمام أو الدولة بذلك ، سماحاً خاصاً أو عاماً(٢) ، كما سيأتي ـ في فصل مقبل ـ عند دراسة مبدأ تدخّل الدولة ، الذي يتيح لها الإشراف على الإنتاج ، وتوزيع العمل والفرص بشكل سليم فمن الطبيعي للإمام على أساس هذا المبدأ أن يقوم باستثمار تلك المصادر بممارسة ذلك مباشرة ، أو بإيجاد مشاريع جماعية ، أو بمنح فرص استثمارها للأفراد ، تبعاً للشروط الموضوعية والإمكانات الإنتاجية التي تتوفّر في المجتمع من ناحية ، ومتطلبات العدالة الاجتماعية من وجهة نظر الإسلام من ناحية أخرى .

فبالنسبة إلى معدن خام ـ مثلاً ـ كالذهب قد يرى من الأفضل أن تمارس الدولة استخراجه ، وإعداد الكمّيات المستخرجة في خدمة الناس وقد يجد الإمام ذلك غير ممكن عملياًً ، لعدم توفّر إمكانات الإنتاج المادّية ، لاستخراج الكمّيات الضخمة من قبل الدولة ابتداءً ، فيرجح إنتاج الأسلوب الآخر ، بالسماح للأفراد أو الجماعات بإحياء منجم الذهب واستخراجه ، لتفاهة الكمّيات التي يمكن استخراجها وهكذا يقرّر الإمام أسلوب استثمار الخام من المصادر

ـــــــــــــــ

(١) أي : الموات التي لم تستثمر بعد

(٢) جواهر الكلام ١٦ : ١٣٣ ـ ١٣٤ و ٣٨ : ١١ .

٤٣٩

الطبيعية ، وسياسة الإنتاج العامة ، في ضوء الواقع الموضوعي والمثل المتبنى للعدالة .

وفي هذا الضوء نستطيع أن نفهم دور الإقطاع ومصطلحه الفقهي ، فهو أسلوب من أساليب استثمار المواد الخام ، يتّخذه الإمام حين يرى أنّ السماح للأفراد باستثمار تلك الثروات أفضل الأساليب للاستفادة منها في ظرف معيّن فإقطاع الإمام منجم الذهب لشخص معناه السماح له بإحياء ذلك المنجم واستخراج المادّة منه ولذلك لا يجوز للإمام إقطاع الفرد ما يزيد على طاقته ويعجز عن استثماره ، كما نصّ على ذلك العلاّمة الحلّي في (التحرير )(١) ، و(التذكرة )(٢) ، وفقهاء شافعيون وحنابلة(٣) ؛ لأنّ الإقطاع الإسلامي هو السماح للفرد باستثمار الثروة المقْطَعة ، والعمل عليها ، فإذا لم يكن الفرد قادراً على العمل لم يكن الإقطاع مشروعاً فهذا التحديد من الإقطاع يعكس بوضوح طبيعة الإقطاع ، بوصفه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل واستثمار الطبيعة .

ولم يعتبر الإسلام الإقطاع سبباً لتملّك الفرد المقطع المصدر الطبيعي الذي أقطعه الإمام إياه ؛ لأنّ هذا ممّا يحرفه عن وصفه أسلوباً من أساليب الاستثمار ، وتقسيم الطاقات العملية وإنّما جعل للفرد المُقطَع حقّاً في استثمار المصدر الطبيعي ، وهذا الحقّ يعني أنّ له العمل في ذلك المصدر ولا يجوز لغيره انتزاعه منه والعمل فيه بدلاً عنه ، كما صرح بذلك العلاّمة الحلّي في (القواعد ) ، قائلاً : بأنّ

ـــــــــــــــ

(١) تحرير الأحكام الشرعية ٢: ١٣١ .

(٢) تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢: ٤١١ .

(٣) راجع : نهاية المحتاج ٥ : ٣٤١ ، ومغني المحتاج ٢ : ٣٦٨ ، والمغني ٦ : ١٦٦ .

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741