اقتصادنا

اقتصادنا7%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152708 / تحميل: 9473
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الإقطاع يفيد الاختصاص .(١) ، وكذلك الشيخ الطوسي في (المبسوط ) إذ كتب يقول : ( إذا أقطع السلطان رجلاً من الرعية قطعة من المَوَات ، صار أحقّ بها من غيره بإقطاع السلطان ، بلا خلاف )(٢) .

وقال الحطّاب في مواهب الجليل ، يتحدّث عن إقطاع الإمام للمعدن : حيث يكون نظر المعدن للإمام فإنّه ينظر فيه بالأصلح جباية وإقطاعاً إنّما يَقطَعه انتفاعاً لا تمليكاً ، فلا يجوز بيعه من أقطعه ولا يورث عمّن أقطعه ؛ لأنّ ما لا يملك لا يورث ، وفي إرث نيل أدرك قول(٣) .

فالإقطاع إذن ليس عملية تمليك ، وإنّما هو حقّ يمنحه الإمام للفرد في مصدر طبيعي خام ، فيجعله أولى من غيره باستثمار الجزء الذي حُدد له من الأرض أو المعدن ، تبعاً لقدرته وإمكاناته .

ومن الواضح أنّ منح هذا الحقّ ضروري ؛ مادام الإقطاع كما عرفنا أسلوباً من أساليب تقسيم الطاقات والقوى العامة ، على المصادر الطبيعية بقصد استثمارها ؛ لأنّ الإقطاع لا يمكن أن يقوم بدوره هذا وينجز تقسيم القوى العاملة على المصادر الطبيعية وفقاً لمخطط عام ما لم يتمتّع كلّ فردٍ بحقّ استثمار ما أقطع من تلك المصادر ، يكون بموجبه أولى من غيره بإحيائه والعمل فيه فمردّ هذا الحقّ إلى ضمان ضبط التقسيم ، وإنجاح الإقطاع بوصفه أسلوباً لاستثمار المصادر الطبيعية ، وتقسيمها بين القوى العاملة على أساس الكفاءة .

وهكذا نجد أنّ الفرد من حين إقطاع الإمام له أرضاً أو شيئاً من المعدن

ـــــــــــــــ

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٢٦٩ .

(٢) المبسوط ٣ : ٢٧٣ .

(٣) مواهب الجليل ٢ : ٣٣٦ .

٤٤١

وحتى يمارس العمل ـ أي في فترة الاستعداد وتهيئة الشروط اللازمة التي تتخلّل بين الإقطاع والبدء في العمل ـ ليس له أيّ حقّ سوى العمل في تلك المساحة المحدّدة من الأرض ، أو ذلك الجزء المعيّن من المنجم الذي يسمح له بالإحياء والاستثمار ، ويمنع الآخرين من مزاحمته في ذلك ؛ لئلا يضطرب الأسلوب الذي اتّبعه الإمام في استثمار المصادر الطبيعية ، وتقسيم الطاقات عليها وفقاً لكفايتها .

وهذه الفترة التي تتخلّل بين الإقطاع والبدء في العمل ، يجب أن لا تطول ؛ لأنّ الإقطاع لم يكن معناه تمليك الفرد أرضاً أو معدناً ، وإنّما هو تقسيم للعمل الكلّي على المصادر الطبيعية على أساس الكفاءة فليس من حقّ الفرد المقطَع أن يؤجّل موعد العمل دون مبرّر ؛ لأنّ مسامحته في البدء بالعمل تعيق عن إنجاح الإقطاع بوصفه استثماراً للمصادر على أساس تقسيم العمل ، كما كانت مزاحمة الغير له في العمل ـ بعد أن وظّف من قبل الدولة ـ باستثمار ذلك الجزء الخاص الذي تمّ إقطاعه له معيقة أيضاً عن أداء الإقطاع لدوره الإسلامي .

ولهذا نجد الشيخ الطوسي في المبسوط يقول عن الفرد المقطَع : ( إنّ أخّر الإحياء ، قال له السلطان : إمّا أن تُحييها أو تخلّي بينها وبين غيرك حتى يُحييها فإن ذكر عذراً في التأخير واستأجل في ذلك أجلّه السلطان ، وإن لم يكن له عذر في ذلك ، وخيره السلطان بين الأمرين فلم يفعل ، أخرجها من يده )(١) .

وجاء في مفتاح الكرامة : ( أنّه لو اعتذر بالإعسار فطلب الإمهال إلى اليسار ، لم يُجب إلى طلبه ؛ لأنّه لعدم الأمد يستلزم التطويل ، فيفضي إلى

ـــــــــــــــ

(١) المبسوط ٣ : ٢٧٣ .

٤٤٢

التعطيل ) (١) .

وقال الإمام الشافعي : ومن أُقطَع أرضاً أو تحجّرها فلم يعمرها ، رأيت للسلطان أن يقول له : إن أحييتها وإلاّ خلّينا بينها وبين من يُحييها فإن تأجّله رأيت أن يفعل(٢) .

وجاء في الرواية عن الحرث بن بلال بن الحرث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقطع بلال بن الحرث العقيق ، فلمّا ولي عمر بن الخطاب قال : ما أقطعك لتحتجنه ، فأقطعه الناس(٣) .

هذا هو كل دور الإقطاع وأثره في الفترة المتخلّلة بينه وبين العمل ، وهي الفترة التي يؤثّر فيها الإقطاع من الناحية التشريعية أثره وهذا الأثر لا يتجاوز ـ كما عرفنا ـ حقّ العمل الذي يجعل من الإقطاع أسلوباً تستعمله الدولة في بعض الظروف لاستثمار المصادر الطبيعية ، وتقسيم الطاقات العاملة على تلك المصادر تبعاً لمدى كفاءتها .

وأمّا بعد ممارسة الفرد للعمل في الأرض أو المعدن ، فإنّ الإقطاع لا يبقى له أثر من الناحية التشريعية ، بل يحلّ العمل محلّه ، فيصبح للفرد من الحقّ في الأرض أو المعدن ما تقرّره طبيعة العمل ، وفقاً للتفصيلات التي مرّت بنا .

وهذه الحقيقة عن الإقطاع التي تبرزه بوصفه أسلوباً إسلامياً لتقسيم العمل ، نجد ما يبرهن عليها إضافة إلى ما سبق ، من نصوص وأحكام في التحديد الذي وضعته الشريعة للإقطاع ، فقد حدّد الإقطاع المسموح به في الشريعة بـ : المصادر

ـــــــــــــــ

(١) مفتاح الكرامة ٧ : ٤٧ ، مع تصرّف يسير في العبارة .

(٢) الأمّ ، مختصر المزني : ١٣١ .

(٣) المغني ٦ : ١٦٩ ، والأموال ٣٤٨ ، الحديث ٦٧٩، مع اختلاف .

٤٤٣

الطبيعية التي من شأن العمل فيها أن يمنح العامل حقّاً أو لوناً من الاختصاص بها ، وهي المَوَات في العرف الفقهي فلا يجوز إقطاع المرافق الطبيعية التي لا يتولّد فيها عن العمل أيّ حقّ أو اختصاص ؛ كما نصّ على ذلك الشيخ الطوسي في (المبسوط ) ، ممثّلاً لهذا النوع من المرافق بـ : المواضع الواسعة في الطرقات(١) . فإن المنع عن إقطاع هذا النوع من المرافق وتحديد الإقطاع بالموات خاصة ، يدلّ بكلّ وضوح على الحقيقة التي تبيّنّاها ، ويثبت : أنّ وظيفة الإقطاع من الناحية التشريعية ليست إلاّ إعطاء حقّ العمل في مصدر طبيعي معيّن لغرض خاصّ بوصفه أسلوباً من أساليب تقسيم العمل على المصادر الطبيعية التي هي بحاجة إلى إحياء وعمل وأمّا حقّ الفرد في نفس المصدر الطبيعي فيقوم على أساس العمل لا الإقطاع

فإذا كان المصدر الطبيعي من المرافق التي ليست بحاجة إلى إحياء وعمل ، ولا يؤدّي فيها العمل إلى حقّ خاص للعامل ، فلا يجوز الإقطاع ؛ لأنّ الإقطاع بالنسبة إلى هذه المرافق يفقد معناه الإسلامي لأنّها ليست بحاجة إلى عمل ، ولا أثر للعمل فيها حتى يمنح حقّ العمل فيها لفرد من الأفراد بل يعود الإقطاع بالنسبة إلى هذه المرافق مظهراً من مظاهر احتكار الطبيعة واستغلالها ، وهذا لا يتّفق مع المفهوم الإسلامي للإقطاع ووظيفته الأصيلة ، ولهذا منعت منه الشريعة ، وحددت الإقطاع الجائز بذلك النوع من المصادر الطبيعية التي هي بحاجة إلى عمل .

الإقطاع في الأرض الخَراجية :

بقي شيء آخر قد يطلق عليه اسم : (الإقطاع) في العرف الفقهي ، وليس هو إقطاعا في الحقيقة ، وإنّما هو تسديد لأجرة على خدمة .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : المبسوط ٣ : ٢٧٦ .

٤٤٤

وموضع هذا الإقطاع هو الأرض الخَراجية ، التي تعتبر مِلكاً للأمّة ، إذ قد يتّفق للحاكم أن يمنح فرداً شيئاً من الأرض الخَراجية ، ويسمح له بالسيطرة على خراجها .

وهذا التصرّف من الحاكم وإن عبّر في مدلوله التأريخي أحياناً ـ وبدون حقّ ـ عن عملية تمليك سافرة لرقبة الأرض ، ولكنّه في مدلوله الفقهي وحدوده المشروعة لا يعني شيئاً من ذلك ، وإنّما يعتبر أسلوباً في تسديد الأجور والمكافآت التي تلتزم الدولة بدفعها إلى الأفراد ، نظير ما يقدّمون من أعمال وخدمات عامة .

ولكي نعرف ذلك يجب أن نستذكر أنّ الخَراج ـ وهو المال الذي تتقاضاه الدولة من المزارعين ـ يعتبر مِلكاً للأمّة ، تبعاً لملكية الأرض نفسها ولهذا يجب على الدولة أن تصرف أموال الخَراج في المصالح العامّة للأمّة ، كما نصّ على ذلك الفقهاء(١) ، ممثِّلين لتلك المصالح بمؤنة الولاة والقضاة وبناء المساجد والقناطر ، وغير ذلك ؛ لأنّ الولاة والقضاة يقدّمون خدمة للأمّة ، فيجب أن تقوم الأمّة بمؤنتهم ، كما أنّ المساجد والقناطر من المرافق العامة التي ترتبط بحياة الناس جميعاً ، فيجوز إنشاؤها من أموال الأمّة وحقوقها في الخراج .

وواضح أنّ قيام الدولة بمؤنة الوالي والقاضي ، أو مكافأة أيّ فردٍ قدّم خدمة عامّة لمجموع الأمّة ، قد يكون بإعطاء الدولة له من بيت المال مباشرة ، وقد يكون أيضاً بالسماح له بالحصول مباشرة على ريع بعض أملاك الأمّة والدولة تتبع عادةً الأسلوب الثاني ، إذا كانت لا تتمتّع بإدارة مركزية قوية .

ـــــــــــــــ

(١) كالشيخ الطوسي في المبسوط ٢ : ٣٤ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ٤٧٧ ، والعلاّمة الحلّي في منتهى المطلب (ط. الحجرية) ٢ : ٩٦٣ .

٤٤٥

ففي المجتمع الإسلامي قد تسدّد أجور ونفقات الأفراد الذي يقدّمون خدمات عامّة للأمّة بصورة نقدية ، كما قد يتفق ـ تبعاً لظروف الإدارة في الدولة الإسلامية ـ أن تسدّد تلك الأجور والنفقات عن طريق منح الدولة للفرد الحقّ في السيطرة على خَراج أرض محدودة من أراضي الأمّة وأخذه من المزارع مباشرة ، باعتباره أجرة للفرد على الخدمة التي يقدّمها للأمّة ، فيطلق على هذا اسم : (الإقطاع) ولكنّه ليس إقطاعاً في الحقيقة ؛ وإنّما هو تكليف للفرد بأن يتقاضى أجره من خَراج مساحة معيّنة من الأرض ، يحصل عليه عن طريق الاتصال بالمزارع .

فالفرد المقطَع يملك الخَراج بوصفه أجرة على خدمةٍ عامة قدّمها للأمّة ، ولا يملك الأرض ولا يوجد له أيّ حقّ أصيل في رقبتها ولا في منافعها ، ولا تخرج بذلك الأرض عن كونها مِلكاً للمسلمين ، ولا عن وصفها أرضاً خَراجية كما نصّ على ذلك المحقّق الفقيه السيد محمّد بحر العلوم في (بلغته) وهو يحدّد هذا النوع من الإقطاع ـ أي : إقطاع الأرض الخَراجية ـ فقد كتب يقول : ( إنّ هذا الإقطاع لا يُخرج الأرض عن كونها خَراجية ؛ لأنّ معناه كون خَراجها للفرد المقطَع ، لا خروجها عن الخَراجية )(١) .

الحمى في الإسلام :

(الحُمى ) مفهوم قديم عند العرب ، يعبِّر عن المساحات الشاسعة من مَوات الأرض ، يحتكرها الأفراد والأقوياء لأنفسهم ، ولا يسمحون للآخرين بالاستفادة

ـــــــــــــــ

(١) بلغة الفقيه ١ : ٢٤٩ .

٤٤٦

منها ، ويعتبرونها وكلّ ما تضمّ من طاقاتٍ وثرواتٍ مِلكاً خالصاً لهم ، بسبب استيلائهم عليها ، وقدرتهم على منع الآخرين من الانتفاع بها وقد جاء في كتاب الجواهر للمحقّق النجفي : ( أنّ هؤلاء كان من عادة أحدهم في الجاهلية ، إذا انتجع بلداً مخصباً ، أن يستعوي كلباً على جبل أو سهل ، ثمّ يعلن تملّكه لمجموع المساحة التي امتد إليها صوت الكلب من سائر الجهات وحمايته لها من الآخرين ، ولذلك يطلق عليها اسم : (الحمى ) )(١) .

وقال الشافعي في كتابه ـ بعد أن نقل بسنده عن الصعب : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا حمي إلاّ لله ورسوله ) (٢) ـ: ( كان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلداً مخصباً أوفى بكلبٍ على جبل إن كان به ، أو نشز إن لم يكن جبل ، ثمّ استعواه وأوقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء ، فحيث بلغ صوته حماه من كلّ ناحية فيرعى مع العامة فيما سواه ويمنع هذا من غيره لضعفاء سائمته ، وما أراد قرنه معها فيرعى معها ، فترى أنّ قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ولا حمى إلاّ لله ورسوله) لا حمى على هذا المعنى الخاص وأنّ قوله : (لله كلّ محميّ وغيره ورسوله) إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان يحمي لصلاح عامّة المسلمين لا لما يحمي له غيره من حاجة نفسه ) (٣) .

ومن الطبيعي أن ينكر الإسلام الحمى ؛ لأنّ الحقّ الخاص فيه يقوم على أساس السيطرة ، لا على أساس العمل ولهذا لا يسمح بذلك لأحدٍ من المسلمين ، وجاء النصّ يؤكّد شجب هذا الأسلوب من التملّك والاحتكار للمصادر الطبيعية ،

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ٣٨ : ٦٢ .

(٢) سنن أبي داود ٣ : ١٨٠ ، الحديث ٣٠٨٣ .

(٣) الأمّ ٤ : ٤٧ .

٤٤٧

ويقول :( لا حمى إلاّ لله ولرسوله ) . وورد في بعض الروايات :( أنّ شخصاً سأل الإمام الصادق عليه‌السلام عن الرجل المسلم تكون له الضيعة فيها جبل ممّا يباع ، يأتيه أخوه المسلم وله غنم قد احتاج إلى جبل ، يحلّ به أن يبيعه الجبل كما يبيع من غيره ، أو يمنعه منه إن طلبه بغير ثمن ؟ وكيف حاله فيه وما يأخذ ؟ فقال : لا يجوز له بيع جبله من أخيه) ) (١) .

فمجرّد وقوع مصدر طبيعي في سيطرة فرد ، لا يعتبر في الإسلام سبباً لإيجاد حقّ للفرد في ذلك المصدر والحمى الوحيد الذي سمح به الإسلام هو حمى الرسول ، فقد حمى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعض المواضع من مَوَات الأرض لمصالح عامة ، كالبقيع إذ خصّصه لإبل الصدقة ، ونِعم الجزية ، وخيل المجاهدين(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٧٢ ، الحديث ٢٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث ٢ .

(٢) انظر : جواهر الكلام ٣٨ : ٦١ ـ ٦٢ .

٤٤٨

[٣ ـ] المياه الطبيعية

مصادر المياه الطبيعية على قسمين :

أحدهما : المصادر المكشوفة التي أعدّها الله للإنسان على سطح الأرض ، كالبحار والأنهار ، والعيون الطبيعية

والآخر : المصادر المكنوزة في أعماق الطبيعة ، التي يتوقّف وصول الإنسان إليها على جهد وعمل ، كمياه الآبار التي يحفرها الإنسان ليصل إلى ينابيع الماء .

فالقسم الأوّل : من المياه يعتبر من المشتركات العامّة بين الناس(١) ، والمشتركات هي : الثروات الطبيعية التي لا يأذن الإسلام لفرد خاص بتملّكها وإنّما يسمح للأفراد جميعاً بالاستفادة منها مع احتفاظ أصل المال ورقبته بصفة الاشتراك والعموم ، فالبحر أو النهر الطبيعي من الماء لا يملكه أحد مِلكيّة خاصة ، ويباح للجميع الانتفاع به ، وعلى هذا الأساس نعرف أنّ المصادر الطبيعية المكشوفة للمياه تخضع لمبدأ الملكية العامة(٢) .

وإذا حاز الشخص منها كمّية في أيّ ظرف مهما كان نوعه ، ملك الكمّية التي حازها ، فلو اغترف من النهر بإناء ، أو سحب منه بآلة ، أو حفر حفيرة بشكلٍ مشروع وأوصلها بالنهر ، أصبح الماء الذي غرفه الإناء ، أو سحبته الآلة أو اجتذبته

ـــــــــــــــ

(١) انظر : الروضة البهية ٤ : ٦٤ ، وجواهر الكلام ٣٨ : ١٢٤ .

(٢) وهناك رأيٌ فقهي مشهور يستثني من تلك المصادر ما كان نابعاً في أرض تختصّ بفرد خاص راجع بهذا الصدد ملحق رقم ٨ (المؤلّفقدس‌سره )

٤٤٩

الحفيرة مِلكاً بالحيازة ، وبدون الحيازة والعمل لا يملك من الماء شيئاً ، كما أكّد على ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط ، إذ قال : أنّ المباح من ماء البحر والنهر الكبير ، مثل دجلة والفرات ومثل العيون النابعة في موات السهل والجبل ، فكلّ هذا مباح ، ولكلّ واحد أن يستعمل منه ما أراد وكيف شاء بلا خلاف ، لخبر ابن عبّاس المتقدّم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الناس شركاء في ثلاث : الماء ، والنار ، والكلأ ) (١) ،وإن زاد هذا الماء فدخل إلى أملاك الناس واجتمع فيها لم يملكوه(٢) .

فالعمل إذن هو : أساس تملّك ما يسيطر عليه الشخص من مياه تلك المصادر وأمّا دخول شيء من تلك المياه في سيطرة الشخص ، بتسرب الماء من النهر إلى منطقته دون عمل منه ، فلا يبرّر تملّكه له ، بل يبقى الماء على إباحته العامة ، ما لم يُبذل عمل في حيازته .

وأمّا القسم الثاني من المصادر الطبيعية للماء : وهو ما كان مكنوزاً ومستتراً في باطن الأرض ، فلا يختصّ به أحد ما لم يعمل للوصول إليه ، والحفر لأجل كشفه ، فإذا كشفه إنسان بالعمل والحفر ، أصبح له حقّ في العين المكتشفة ، يجيز له الاستفادة منها ، ويمنع الآخرين من مزاحمته(٣) ؛ لأنّه هو الذي خلق بعمله فرصة الانتفاع بتلك العين ، فمن حقّه أن ينتفع بهذه الفرصة ، وليس للآخر ممّن لم يشاركه جهده في خلقها أن يزاحمه في الاستفادة منها ، ولذلك يصبح أولى بالعين من غيره ، ويملك ما يتجدّد من مائها ؛ لأنّه لون من ألوان الحيازة ، ولكنّه لا يملك

ـــــــــــــــ

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ١١٤ ، الباب ٤ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٢ .

(٢) المبسوط ٣ : ٢٨٢ .

(٣) انظر : الروضة البهية ٤ : ٦٤ .

٤٥٠

نفس العين الموجودة في أعماق الطبيعة قبل عمله(*) ، ولذا كان يجب عليه إذا أشبع حاجته من الماء بذل الزائد للآخرين ، ولا يجوز له أن يطالبهم بمال عِوضاً عن شربهم وسقي حيواناتهم ؛ لأنّ المادة لا تزال من المشتركات العامة ، وإنّما حصل للمكتشف بعمله حقّ الأولوية بها ، فإذا أشبع حاجته كان للآخرين الانتفاع بها ، فقد جاء في حديث أبي بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام : (أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهي عن النطاف والأربعاء ، وقال : لا تبعه ، ولكن أعره جارك ، أو أخاك ) (١) .

والأربعاء : أن يسنّي مسنّاة فيحمل الماء فيسقي به الأرض ثمّ يستغني عنهوالنطاف : أن يكون له الشرب فيستغني عنه وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضاً أنّه قال :( النطاف : شرب الماء ليس لك إذا استغنيت عنه أن تبعه جارك ، تدعه له والأربعاء : المسنّاة تكون بين القوم فيستغني عنها صاحبها ، قال : يدعها لجاره ، ولا يبيعها إياه ) (**) .

والشيخ الطوسي في المبسوط يقرّر أيضاً ما ذكرناه ، فيوضح : أنّ علاقة الفرد بعين الماء علاقة حقّ لا ملكٍ ، بالرغم من أنّه يملك في رأيه البئر ، أي : الحفرة التي حفرها وتوصّل عن طريقها إلى الماء : فقد قال : ( إنّ في كلّ موضع قلنا أنّه يملك البئر ، فإنّه أحقّ من مائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه ، فإذا فضل بعد ذلك شيء ، وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج إليه لشربه وشرب ماشيته فأمّا الماء الذي حازه وجمعه في حِبّه ، أو جرّته ، أو كُوزه ، أو بركته ، أو بئره ـ أي : حفرة غير ذات مادّة ـ أو مصنعه ، أو غير ذلك ، فإنّه لا يجب عليه بذل

ـــــــــــــــ

(*) راجع الملحق رقم ٩ .

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٥ ، الباب ٧ من أبواب إحياء الموات ، الحديث الأوّل

(**) راجع الملحق رقم ١٠ .

٤٥١

شيء منه ، وإن كان فضلاً عن حاجته ، بلا خلاف ؛ لأنّه لا مادّة له ) (١) .

فالمادة ـ إذن ـ بوصفها مصدراً طبيعياً لا يمكن للفرد أن يمنع عنها الآخرين في الحدود التي لا تتعارض مع حقّه ؛ لأنّه لا يملك المادة على هذا الرأي وإنّما هو أحقّ بها نتيجة لخلقه الفرصة التي أتاحت الانتفاع بتلك المادة ، فما لا يتعارض مع حقّه في الانتفاع بالمادة يجب السماح به للآخرين .

ـــــــــــــــ

(١) المبسوط ٣ : ٢٨١ .

٤٥٢

بقيّه الثروات الطبيعّية

وأمّا الثروات الطبيعية الأخرى فتعتبر من المباحات العامة .

والمباحات العامة هي : الثروات التي يباح للأفراد الانتفاع بها ، وتملّك رقبتها ، فالإباحة في المباحات العامة إباحة تملّك لا مجرد إباحة انتفاع .

وقد أقام الإسلام الملكية الخاصة للمباحات العامّة علي أساس العمل لحيازتها على اختلاف ألوانه ، فالعمل لحيازة الطير هو الصيد ، والعمل لحيازة الخشب هو الاحتطاب ، والعمل لحيازة اللؤلؤ والمرجان هو الغوص في أعماق البحار مثلاً ، والعمل لحيازة الطاقة الكهربائية الكامنة في قوّة انحدار الشلالات هو بتحويل هذه القوّة إلى سيّال كهربائي وهكذا تُملك الثروات المباحة بإنفاق العمل الذي تتطلّبه حيازتها .

ولا تملك هذا الثروات ملكيّة خاصة بدون العمل ، فلا يكفي دخولها في حدود سيطرة الإنسان لتصبح مِلكاً له ما لم ينفق عملاً إيجابياً في حيازتها ، فقد جاء في التذكرة للعلاّمة الحلّي هذا النصّ : ( لو زاد الماء المباح فدخل شيء منه مِلك إنسان ، قال الشيخ : لا يملكه كما لو وقع في ملك الغير مطر أو ثلج ومكث في ملكه ، أو فرّخ طائر في بستانه ، أو توحّل ضبي في أرضه ، أو وقعت سمكة في سفينته ، لم يملكه بذلك ، بل بالأخذ والحيازة )(١) .

وجاء في كتاب القواعد للعلاّمة في أحكام الصيد : أنّ الصيد لا يتملّك بتوحّله في أرضه ، ولا بتعشيشه في داره ،

ـــــــــــــــ

(١) تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ٤٠٦ .

٤٥٣

ولا بوثوب السمكة إلى سفينة .

وهذا هو أصحّ القوالين عند الفقهاء الشافعيّين ، كما نقله العلاّمة عنهم في التذكرة(١) .

ـــــــــــــــ

(١) وذلك في تفاصيل النصّ المتقدّم .

٤٥٤

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج ٢

النظريّة

الجانب السلبي من النظرية

الجانب الإيجابي من النظرية

تقييم العمل في النظرية

٤٥٥

[ تمهيد : ]

انتهينا الآن من تحديد صورة دقيقة لبناء عُلْوي شامل من التشريع الإسلامي يضم مجموعة مهمّة من الأحكام ، التي تمّ وفقاً لها توزيع ما قبل الإنتاج ، وتنظيم حقوق الأفراد والمجتمع والدولة في الثروات الطبيعية التي يزخر بها الكون .

وباستيعاب هذا البناء العُلْوي من التصميم الإسلامي نكون قد قطعنا نصف المسافة في طريق اكتشاف النظرية ، وبقي علينا البحث الأساسي من الناحية المذهبية الذي يجب أن نكشف فيه القواعد والنظرّيات العامة ، التي يقوم على أساسها البناء العُلْوي ، ويرتكز عليها ذلك الحشد من الأحكام التي مرّت بنا ، وهذا هو النصف الثاني من عملية الاكتشاف التي تنطلق من البناء العُلْوي إلى القاعدة ، ومن التفصيلات التشريعية إلى العموميات النظرية .

وقد اتبعنا دائماً في عرض تلك التشريعات والأحكام والتعبير عنها طريقةً تعكس باستمرار ووضوح الترابط النظري الوثيق بين هذه الأحكام ، الأمر الذي سوف يساهم في هذه المرحلة الجديدة من عملية الاكتشاف ، ويساعد على

٤٥٦

استخدام تلك الأحكام في المهمّة المذهبية التي نحاولها الآن وسوف نجزّئ النظرية المذهبية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج وندرسها على مراحل ، ونتناول في كلّ مرحلة جانباً منها ، ونجمع من البحوث السابقة النصوص التشريعية والفقهية ، والأحكام، التي تكشف عن ذلك الجانب وتبرهن عليه .

وبعد أن نستوعب الجوانب المختلفة للنظرية ، في ضوء الأبنية العُلْوية التي يختصّ كلّ واحدٍ منها بأحد تلك الجوانب ، نجمع في النهاية خيوط النظرية كلّها في مركّب واحد ، ونعطيها صيغتها العامة.

١ ـ الجانب السلبي من النظرية :

ولنبدأ بالجانب السلبي من النظرية ومحتوى هذا الجانب ـ كما سنعرف ـ الإيمان بعدم وجود ملكيّات وحقوق خاصة ابتدائية في الثروة الطبيعية الخام بدون عمل .

بناؤه العُلْوي :

١ ـ ألغى الإسلام الحمى ، وقال :( لا حمى إلاّ لله وللرسول ) (١) ، وبذلك نفيَ أيّ حقّ خاص للفرد في الأرض بمجرّد السيطرة عليها ، وحمايتها بالقوّة .

٢ ـ إذا أقطع ولى الأمر أرضاً لفردٍ ، اكتسب الفرد بسبب ذلك حقّ العمل في تلك الأرض ، دون أن يمنحه الإقطاع حقّاً في ملكية الأرض ، أو أيّ حقّ آخر فيها ، ما لم يعمل وينفق جهده على تربتها .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : السنن الكبرى ٦ : ١٤٦ ، والنهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٤٤٧ مادّة : (حمى) .

٤٥٧

٣ ـ لا تملك الينابيع والجذور العميقة للمنجم مِلكية خاصة ، ولا يوجد لأيّ فرد حقّ خاص فيها ، كما أوضحالعلاّمة الحلّي ذلك فيالتذكرة قائلاً : ( وأمّا العرق الذي في الأرض فلا يملكه بذلك ، ومن وصل إليه من جهة أخرى فله أخذه ) .

٤ ـ المياه الطبيعية المكشوفة كالبحار والأنهار ، لا تملك ملكية خاصة لأحد ، ولا يوجد لفرد حقّ خاص فيها قال الشيخ الطوسي في المبسوط : ( ماء البحر والنهر والعيون النابعة في موات السهل والجبل ، كلّ هذا مباح ، ولكلّ واحد أنّ يستعمل منه ما أراد كيف شاء ، لخبر ابن عبّاس عن النبيّ :الناس شركاء في ثلاث : الماء والنار والكلأ ) .

٥ ـ إذا زاد الماء الطبيعي فدخل أملاك الناس واجتمع دون أن يحوزوه بعمل خاص لم يملكوه ، كما قال الشيخ في المبسوط .

٦ ـ إذا لم ينفق الفرد جهداً في الصيد ، بل دخل الحيوان في سيطرته لم يملكه ، ففي قواعد العلاّمة الحلّي يقول : ( لا يملك الصيد بدخوله في أرضه ولا بوثوب السمكة إلى السفينة ) .

٧ ـ وكذلك الحال في الثروات الطبيعية الأخرى ، فإنّ دخولها في سيطرة الشخص دون عمل لا يبرّر تملّكها ، ولذا جاء في التذكرة : ( أنّ الشخص لا يملك الثلج الذي يتساقط في حوزته بمجرّد سقوطه على أرضه )(١) .

ـــــــــــــــ

(١) مضى ما يتعلّق باستخراج هذه النصوص والأقوال في البحوث السابقة .

٤٥٨

الاستنتاج :

من هذه الأحكام ونظائرها في المجموعة التي مرّت بنا من التشريع الإسلامي ، نستطيع أن نعرف أنّ الفرد لا يوجد له بصورة ابتدائية حقّ خاص في الثروة الطبيعية يمتاز به عن الآخرين على الصعيد التشريعي ، ما لم يكن ذلك انعكاساً لعمل خاص فيها يميّزه عن غيره في واقع الحياة ، فلا يختصّ الفرد بأرض إذا لم يحيها ، ولا بمعدن إذا لم يكشف عنه ، ولا بعين ماء إذا لم يستنبطها ولا بالحيوانات النافرة إلاّ إذا صادها ، ولا بثروة على وجه الأرض أو في السماء إلاّ إذا حازها ، وأنفق جهده في ذلك .

ونحن نرى ـ من خلال هذه الأمثلة ـ أنّ العمل الذي اعتبر في النظرية الأساس الوحيد لاكتساب الحقوق الخاصة بصورة ابتدائية في ثروات الطبيعة يختلف مفهومه النظري ، حسب اختلاف طبيعة الثروة ونوعها ، فما يعتبر عملاً بالنسبة إلى بعض الثروات الطبيعية ، وسبباً كافياً لقيام الحقوق الخاصة على أساسه ، لا يعتبر كذلك بالنسبة إلى نوع آخر من الثروة فالحجر في الصحراء يمكنك أن تمتلكه بالحيازة ، فالحيازة بالنسبة إلى الحجر عمل تعترف به النظرية ، وتسمح بقيام الحقوق الخاصة على أساسه ، ولكنّها لا تعترف بالحيازة بوصفها عملا ، ولا تسمح بقيام الحقوق الخاصة على أساسها ، في الأرض المَيتَة والمنجم والينابيع الطبيعية للماء ، فلا يكفي لكي تختص بأرض أو منجم أو عين ماء في أعماق الأرض أن تسيطر على تلك الثروات وتضمها إلى حوزتك ، بل لا بدّ لك في سبيل اكتساب حقوق خاصة فيها أن تجسّد جهودك في الأرض والمنجم والعين فتحيي الأرض وتكشف المنجم وتستنبط الماء وسوف نحدد في النواحي الإيجابية من النظرية مفهومها عن العمل

٤٥٩

والمقياس الذي تتّبعه في منح صفة العمل للجهود المتنوّعة التي يمارسها الإنسان في حقول الطبيعة وثرواتها وحين نستوعب ذلك المقياس نستطيع أن ندرك حينئذٍ لماذا كانت حيازة الحجر سبباً كافياً لتملّكه ، ولم تكن حيازة الأرض عملاً ، ولا مبرّراً لاكتساب أيّ حقّ خاص في تلك الأرض .

٢ ـ الجانب الإيجابي من النظرية :

والجانب الإيجابي من النظرية يوازي جانبها السلبي ويكمّله ، فهو يؤمن بأنّ العمل أساس مشروع لاكتساب الحقوق والمِلكّيات الخاصة في الثروات الطبيعية فرفض أيّ حقّ ابتدائي في الثروات الطبيعية منفصل عن العمل هو الصيغة السلبية للنظرية والإيمان بالحق الخاص فيها على أساس العمل هو الصيغة الإيجابية الموازية.

بناؤه العُلْوي :

١ ـ( من أحيى أرضاً فهي له ) ، كما جاء في الحديث .

٢ ـ من حفر معدناً حتى كشفه كان أحقّ به ، ومَلَك الكمية التي كشفت عنها الحفرة ، وما إليها من مواد .

٣ ـ من كشف بالحفر عيناً طبيعية للماء فهو أحقّ بها .

٤ ـ إذا حاز الفرد الحيوان النافر بالصيد ، والخشب بالاحتطاب ، والحجر الطبيعي بحمله ، والماء من النهر باغترافه في آنية وغيرها مَلَكه بالحيازة ؛ كما نصّعلى ذلك الفقهاء جميعاً (١) .

الاستنتاج :

كل هذه الأحكام تشترك في ظاهرة واحدة ، وهي :أنّ العمل مصدر للحقوق والملكيات الخاصة في الثروات الطبيعية ، التي تكتنف الإنسان من كلّ جانب، وبالرغم من أنّ هذه الظاهرة التشريعية نجدها في كلّ تلك الأحكام ، فإنّنا بالتدقيق فيها ، وفي نصوصها التشريعية وأدلّتها ، يمكننا أن نكتشف عنصراً ثابتاً في هذه الظاهرة ، وعنصرين متغيّرين يختلفان باختلاف أنواع الثروة وأقسامها ، فالعنصر الثابت هو : ربط الحقوق الخاصة للفرد في الثروات الطبيعية الخام بالعمل ، فما لم يقدّم عملاً لا يحصل على شيء ، وإذا اندمج مع ثروة طبيعية في عملية من العمليات ، استطاع أن يظفر بحقّ خاص فيها ، فالعلاقة بين العمل والحقوق الخاصة بشكل عام ، هي المضمون المشترك لكلّ تلك الأحكام والعنصر الثابت فيها .

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741