اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 146486
تحميل: 8781

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146486 / تحميل: 8781
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأمّا العنصران المتغيّران فهما : نوع العمل ، ونوع الحقوق الخاصة التي يخلقها العمل فنحن نرى أنّ الأحكام التي شرّعت الحقوق الخاصة على أساس العمل ، يختلف بعضها عن البعض في نوع العمل الذي جعلته مصدراً للحقّ الخاص ، وفي نوع الحقوق الخاصة التي تنجم عن الأرض ، فالأرض لا تعتبر حيازتها عملاً ، بينما يعتبر العمل لحيازة الحجر في الصحراء سبباً كافياً لتملّكه كما ألمعناه إلى ذلك قبل لحظات ، وكذلك نرى الإحياء الذي يعتبر عملاً بالنسبة إلى الأرض والمعدن ، لا يؤدّي إلاّ إلى حقّ خاصٍ للفرد في رقبة الأرض والمعدن ، يكون الفرد

ـــــــــــــــ

(١) مضى تخريج هذه النصوص والأحكام .

٤٦١

بموجبه أولى من غيره بهما ، ولا يصبح مالكاً للأرض والمعدن نفسهما ، بينما نجد أنّ العمل لحيازة الحجر من الصحراء واغتراف الماء من النهر ، يكفي سبباً من الناحية الشرعية لا لاكتساب حقّ الأولوية في الحجر والماء فحسب ، بل لتملّكهما ملكية خاصة .

فهناك اختلاف بين الأحكام التي ربطت الحقوق الخاصة للفرد بعمله وجهده في تحديد نوع العمل الذي ينتج تلك الحقوق ، وفي تحديد طبيعة تلك الحقوق التي ترتكز على العمل ، ولأجل ذلك سوف يثير هذا الاختلاف عدّة أسئلة يجب الجواب عليها

فلماذا ـ مثلاً ـ كان العمل لحيازة الحجر والماء من النهر كافياً لاكتساب العامل حقّاً فيه ، ولم يكن هذا النوع من العمل في الأرض والمعدن ـ مثلاً ـ سبباً لأيّ حقّ خاص فيها ؟

وكيف ارتفع الحقّ الذي كسبه الفرد في الماء عن طريق حيازته من النهر إلى مستوى الملكية ، بينما لم يتح لمن أحيى أرضاً أو اكتشف منجماً أن يملك الأرض أو المنجم ، وإنما مُنح حقّ الأولوية في المرفق الطبيعي الذي أحياه ؟

ثمّ إذا كان العمل سبباً للحقوق الخاصة ، فما بال الفرد إذا وجد أرضاً عامرة بطبيعتها فاغتنم الفرصة الممنوحة لها طبيعياً وزرعها وأنفق على زراعتها جهداً لا يحصل على حقوق مماثلة لحقوق الإحياء ، مع أنّه قدّم على تربتها كثيراً من الجهود والأعمال ؟

وكيف أصبح إحياء الأرض المَيتَة سبباً لحقّ الفرد في رقبة الأرض ، ولم يصبح استغلال الأرض العامرة وزراعتها مبرراً لحقّ مماثل للفرد ؟

إنّ الجواب على كلّ هذه الأسئلة التي أثارها اختلاف أحكام الإسلام بشأن العمل وحقوقه ، لَيتوقّف على تحديد الجانب الثالث من النظرية الذي يشرح الأساس العام لتقييم العمل في النظرية ، ولكي نحدّد هذا الجانب ، يجب أن نجمع تلك الأحكام المختلفة بشأن العمل وحقوقه ، التي أثارت هذه الأسئلة ونضيف

٤٦٢

إليها سائر الأحكام المماثلة التي تشابهها ، ونكوّن منها بناءً عُلْوياً نصل عن طريقه إلى تحديد معالم النظرية بوضوح ، لأنّ مجموعة هذه الأحكام المختلفة تعكس في الحقيقة المعالم المحدَّدة للنظرية ، وسوف ننجز ذلك كلّه الآن .

٣ ـ تقييم العمل في النظرية :

البناء العُلْوي :

١ ـ إذا مارس الفرد أرضاً مَيتَة فأحياها كان له الحقّ فيها ، وعليه طَسقها ، يؤدّيه إلى الإمام ما لم يعفَ عنه ، كما جاء في مبسوط الشيخ الطوسي في كتاب الجهاد(١) ، وفقاً للنصوص الصحيحة الدالة على :أنّ من أحيى أرضاً فهو أحقّ بها وعليه طَسقها (٢) ، وبموجب الحقّ الذي يكسبه لا يجوز لآخر انتزاع الأرض منه ما دام قائماً بحقّها ، بالرغم من أنّه لا يملك رقبة الأرض نفسها .

٢ ـ إذا مارس الفرد أرضاً عامرة بطبيعتها فزرعها واستغلّها ، كان من حقّه الاحتفاظ بها ، ومنع الآخرين من مزاحمته في ذلك ما دام يمارس انتفاعه بالأرض ، ولا يحصل على حقّ أوسع من ذلك ، يخوّله احتكارها ومنع الآخرين عنها حتى في حالة عدم ممارسته للانتفاع ومن أجل هذا كان الحقّ الناتج عن استثمار أرض عامرة بطبيعتها يختلف عن الحقّ الناتج عن إحياء أرض مَيتَة ، فإنّ حقّ الإحياء يمنع أيّ فردٍ آخر من الاستيلاء عليها بدون إذن المحيي ما دامت

ـــــــــــــــ

(١) لاحظ : المبسوط .

(٢) راجع : وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ـ ٤١٥ ، الباب ٣ من كتاب إحياء المَوَات ، و ٩ : ٥٤٩ ، الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ١٣ .

٤٦٣

معالم الحياة باقية فيها ، سواء كان المحيي يمارس الانتفاع بالأرض فعلاً أم لا وأمّا الحقّ الذي يكسبه الفرد نتيجة لزراعته أرضاً حية بطبيعتها فهو لا يعدو أن يكون حقّ الأولوية بالأرض مادام يمارس انتفاعه بها ، فإذا كفّ عن ذلك ، كان لأيّ فردٍ آخر أن يستفيد من الفرصة الممنوحة طبيعياً للأرض ويقوم بدور الأوّل .

٣ ـ إذا حفر الفرد أرضاً لاكتشاف منجم فوصل إليه ، كان لآخر أن يستفيد من نفس المنجم إذا لم يزاحمه وذلك بأن يحفر في موضع آخر ـ مثلاً ـ ويصل إلى ما يريد من المواد المعدنية كما نصّ على هذا العلاّمة في القواعد قائلاً : ( ولو حفر فبلغ المعدن ، لم يكن له منع غيره من الحفر من ناحية أخرى ، فإذا وصل إلى ذلك العرق لم يكن له منعه )(١) .

٤ ـ يقول الشهيد الثاني في المسالك عن الأرض التي أحياها الفرد ثمّ خربت : ( إنّ هذه الأرض أصلها مباح ، فإذا تركها عادت إلى ما كانت عله وصارت مباحة ، كما لو أخذ من ماء دجلة ثمّ ردّه إليها وإنّ العلة في تملّك هذه الأرض الإحياء والعمارة ، فإذا زالت العلّة زال المعلول وهو المِلك )(٢) . ومعنى هذا : أنّ الأرض إذا أحياها الفرد تصبح حقّاً له ، ويبقى حقّه فيها ما دام إحياؤها متجسّداً فيها ، فإذا زال الإحياء سقط الحقّ .

٥ ـ وعلى هذا الضوء إذا حفر الفرد في أرض لاكتشاف منجم، أو عين ماء ، فوصل إليها ، ثمّ أهمل اكتشافه ، حتى طمّت الحفرة ، أو التحمت الأرض بسبب طبيعي ، فجاء شخص آخر فبدأ العمل من جديد حتى اكتشف المنجم ، كان له الحقّ

ـــــــــــــــ

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٢٧٢ .

(٢) مسالك الأفهام ١٢ : ٤٠٠ .

٤٦٤

في ذلك ، وليس للأول حقّ منعه (*) .

٦ ـ الحيازة بمجردها ليست سبباً للتملّك أو الحقّ في المصادر الطبيعية من الأرض ، والمنجم ، وعيون الماء ، وهي نوع من الحمى ، ولا حمى إلاّ لله وللرسول(١) .

٧ ـ الحيوانات النافرة المتمردةّ على الإنسان تملك بالقضاء على مقاومتها ، واصطيادها ولو لم يحزها الصائد بيده أو شبكته ؛ فلا يجب في تملّك الصيد الاستيلاء الفعلي فقد قال العلاّمة الحلّي في القواعد : ( إنّ أسباب مِلك الصيد أربعة : إبطال منعته ، وإثبات اليد عليه ، وإثخانه ، والوقوع فيما نصب آلة للصيد ، وكلّ من رمى صيداً لا يدَ لأحد عليه ، ولا أثر ملك فإنّه يملكه إذا صيّره غير ممتنع وإن لم يقبضه )(٢) .

وقال ابن قدامة : ( ولو رمى طائراً على شجرة في دار قوم فطرحه في دارهم فأخذوه ، فهو للرامي دونهم ؛ لأنّ مِلكه بإزالة امتناعه )(٣) .

ونفس الشيء صرّح به جعفر بن الحسن المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام(٤) .

٨ ـ من حفر بئراً حتى وصل إلى الماء ، كان أحقّ بمائها بقدر حاجته لشربه

ـــــــــــــــ

(*) راجع الملحق رقم ١١ .

(١) انظر السنن الكبرى ٦ : ١٤٦ ، والنهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٤٤٧ ، مادّة (حمى) .

(٢) قواعد الأحكام ٣ : ٣١٥ .

(٣) المغني ١١ : ٣٠ .

(٤) شرائع الإسلام ٣ : ٢٠٣ .

٤٦٥

وشِرب ماشيته وسقي زرعه ، فإذا فضل بعد ذلك وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج إليه ، كما نصّ على ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط(١) ، وقد مرّ بنا النصّ سابقاً .

٩ ـ إذا ملك شخص مالاً بالحيازة ثمّ أهمله وسيّبه ، زال حقّه فيه وعاد مباحاً طِلقاً كما كان قبل الحيازة ، وجاز لآخر تملّكه ؛ لأنّ إعراض المالك عن الانتفاع بملكه وتسييبه له يقطع صلته به ، كما جاء في حديث صحيحٍ لعبد الله بن سنان ، عن أهل البيت عليهم السلام أنّهم قالوا :( من أصاب مالاً أو بعيراً في فلاة من الأرض كلّت وتاهت وسيّبها صاحبها لمّا لم يتبعه ، فأخذها غيره فأقام عليها ، وأنفق نفقة حتى أحياها من الكَلال ومن الموات ، فهي له ولا سبيل له عليها ، إنّما هي مثل الشيء المباح ) (٢) والحديث وإن كان يدور حول بعير مسيّب ، ولكنّه حين عطف البعير على المال عرفنا أنّ القاعدة عامّة في كلّ الأحوال .

١٠ ـ لا يوجد للفرد حقّ في رقبة الأرض التي يرعى فيها غنمه ، ولا بتملّك المرعى بممارسته للرعي فيه ، وإنّما يكتسب حقّاً فيه بالإحياء فقط ولذا لا يجوز للشخص أن يبيع مرعاه إذا لم يكن قد اكتسب حقّاً فيه قبل ذلك بالإحياء أو الإرث من المحيي ونحو ذلك .

وقد جاء عن زيد بن إدريس أنّه سأل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وقال له : إنّ لنا ضياعاً ولها حدود ، ولنا الدواب وفيها مراعي ، وللرجل منّا غنم وإبل ويحتاج إلى تلك المراعي لإبله وغنمه ، أيحلّ له أن يحمي المراعي لحاجته إليها ?

ـــــــــــــــ

(١) راجع : المبسوط ٣ : ٢٨١ .

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٥٨ ، الباب ١٣ من أبواب اللقطة ، الحديث ٢ ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام

٤٦٦

فأجاب الإمام :( بأنّ الأرض إذا كانت أرضه فله أن يحمي ويصيّر ذلك إلى ما يحتاج إليه ) ثمّ سأله عن الرجل يبيع المراعي ، فقال له :( إذا كانت الأرض أرضه فلا بأس ) (١) . فإنّ هذا الجواب يدلّ على أنّ نفس عملية اتخاذ الأرض مرعى لا تُوجد حقّاً للراعي في الأرض يسوّغ له نقل هذا الحقّ إلى غيره بالبيع .

الاستنتاج :

في ضوء هذا البناء العُلْوي وإشعاعه الخاص من القاعدة المذهبية ، نستطيع أن ندرك معالم النظرية ، وبالتالي أن نجيب على الأسئلة التي قدّمناها سابقاً .

العمل الاقتصادي أساس الحقوق في النظرية :

فالنظرية تميّز بين نوعين من الأعمال :

أحدهما : الانتفاع والاستثمار .

والآخر : الاحتكار والاستئثار .

فأعمال الانتفاع والاستثمار ذات صفة اقتصادية بطبيعتها ، وأعمال الاحتكار والاستئثار تقوم على أساس القوّة ولا تحقّق انتفاعاً ولا استثماراً مباشراً .

ومصدر الحقوق الخاصة في النظرية هو العمل الذي ينتمي إلى النوع الأوّل ، كاحتطاب الخشب من الغابة ، ونقل الأحجار من الصحراء ، وإحياء الأرض المَيتَة وأمّا النوع الثاني من العمل فلا قيمة له ؛ لأنّه مظهر من مظاهر القوّة وليس نشاطاً اقتصادياً من نشاطات الانتفاع والاستثمار للطبيعة وثروتها والقوّة لا تكون مصدراً للحقوق الخاصة ولا مبرّراً كافياً لها وعلى هذا الأساس ألغت

ـــــــــــــــ

(١) المصدر السابق ١٧ : ٣٧١ ، الباب ٢٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث الأوّل ، مع اختلاف يسير .

٤٦٧

النظرية العامة العمل لحيازة الأرض والاستيلاء عليها ، ولم تُقم على أساسه أيّ حقٍّ من الحقوق الخاصة ؛ لأنّه في الحقيقة من أعمال القوّة ، لا من أعمال الانتفاع والاستثمار .

الحيازة ذات طابع مزدوج :

ونحن حين نقرّر هذا ، قد نواجه السؤال عن الفرق بين حيازة الأرض ، وحيازة الحجر بحمله من الصحراء ، والخشب باحتطابه من الغابة ، والماء باغترافه من النهر ، فإذا كانت الحيازة مظهر قوّة وليست ذات صفة اقتصادية كأعمال الانتفاع والاستثمار ، فكيف جاز للإسلام أن يفرّق بين حيازة الأرض وحيازة الخشب ، ويمنح الأخيرة حقوقاً خاصة ، بينما يلغي الأولى ويجرّدها من كلّ الحقوق ؟

وجواباً على هذا السؤال : أنّ التمييز بين أعمال الانتفاع والاستثمار وأعمال الاحتكار والاستثمار في النظرية الإسلامية ، لا يقوم على أساس شكل العمل ، بل قد يتّخذ الشكل الواحد للعمل طابع الانتفاع والاستثمار تارة وطابع الاحتكار والاستئثار تارة أخرى ، تبعاً لطبيعة المجال الذي يشتغل فيه العامل ، ونوع الثروة التي يمارسها ، فالحيازة ـ مثلاً ـ وإن كانت من الناحية الشكلية نوعاً واحداً من العمل ، ولكنّها تختلف في حساب النظرية العامة باختلاف نوع الثروة التي يسيطر عليها الفرد ؛ لأنّ حيازة الخشب بالاحتطاب ، والحجر بنقله من الصحراء ـ مثلاً ـ عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار وأمّا حيازة الأرض والاستيلاء على منجم أو على عين ماء فليس من تلك الأعمال ، بل هو مظهر من مظاهر القوّة والتحكّم في الآخرين .

ولكي نبرهن على ذلك ، يمكننا أن نفترض إنساناً يعيش بمفرده في مساحة

٤٦٨

كبيرة من الأرض ، غنيّة بالعيون والمناجم والثروات الطبيعية ، بعيداً عن المنافسة والمزاحمة ، وندرس سلوكه وما يمارسه من ألوان الحيازة .

إنّ إنساناً كهذا لن يفكّر في الاستيلاء على مساحة كبيرة من الأرض ، وما فيها من مناجم وعيون وحمايتها ؛ لأنّه لا يجد داعياً إلى هذا الحماية ، ولا فائدة يجنيها منها في حياته ، مادامت الأرض بخدمته في كلّ حين ، لا ينافسه فيها أحد ، وإنّما ينصرف مباشرة إلى إحياء جزء من الأرض يتناسب مع مستوى قدرته على الاستثمار .

ولكنّه بالرغم من أنّه لا يفكر في حيازة مساحات كبيرة من الأرض ، يمارس دائماً حيازة الماء بنقله إلى كوزه ، والحجر يحمله إلى كوخه ، والخشب يوقد عليه النار ؛ لأنّه لا يتاح له الانتفاع بهذه الأشياء في حياته إلاّ بحيازتها ، وإعدادها في متناول يده .

فحيازة الأرض وغيرها من مصادر الطبيعة لا معنى لها ـ إذن ـ عندما تنعدم المنافسة ، بل الإحياء وحده في هذا الحال هو العمل الذي يمارسه الفرد في الطبيعة لاستثمارها والانتفاع بها وإنّما تكتسب حيازة الأرض قيمتها عندما توجد المنافسة على الأرض ، وتشتدّ فينطلق كلّ فرد للاستيلاء على أوسع مساحة ممكنة من الأرض وحمايتها من الآخرين وهذا يعني أنّ حيازة الأرض وما إليها من مصادر الطبيعة ليست عملاً ذا صفة اقتصادية من أعمال الانتفاع والاستثمار ، وإنّما هي عملية تحصين لمورد طبيعي وحمايته من تدخّل الآخرين فيه .

وعلى العكس من ذلك حيازة الخشب والحجر والماء ، فإنّها ليست عمل قوّة ، وإنّما هي بطبيعتها عمل اقتصادي من أعمال الانتفاع والاستثمار ولهذا رأينا أنّ الإنسان المنفرد في حياته يمارس هذا اللون من الحيازة بالرغم من تحرّره عن كلّ دافع من دوافع القوّة واستعمال العنف

وهكذا نعرف أنّ حيازة الأشياء المنقولة من ثروات الطبيعة ليست مجرّد عمل من أعمال القوّة ، وإنّما هي في الأصل عمل

٤٦٩

من أعمال الانتفاع والاستثمار يمارسه الإنسان ولو لم يوجد لديه أيّ مبرر لاستعمال القوّة .

وعلى هذا الأساس نستطيع أن ندرج حيازة المصادر الطبيعية من أراضي ومناجم وعيون في أعمال الاحتكار والقوّة التي لا قيمة لها في النظرية ، وندرج حيازة الثروات التي تُنقل وتُحمل في أعمال الانتفاع والاستثمار ، التي هي المصدر الوحيد للحقوق الخاصة في الثروات الطبيعية .

ونخرج من ذلك بنتيجة ، وهي : أنّ الصفة الاقتصادية للعمل شرطٌ ضروري في إنتاجه للحقوق الخاصة ، فلا يكون العمل مصدراً لتملك المال ما لم يكن بطبيعته من أعمال الانتفاع والاستثمار .

النظرية تميز بين الأعمال ذات الصفة الاقتصادية :

ولنأخذ الآن أعمال الانتفاع والاستثمار التي تحمل الطابع الاقتصادي ؛ لندرس موقف النظرية من تقييمها ، ونوع الحقوق التي تقيمها على أساسها ولا نحتاج في هذا المجال إلى أكثر من تتبّع الفقرة الثانية والفقرة العاشرة من البناء العُلْوي السابق ، لنعرف أنّ الشريعة لا تمنح الفرد دائماً الحقّ والملكية في مصادر الثروة الطبيعية ، من أرض ومناجم وعيون ، بمجرد ممارسة الفرد فيها لعمل خاص من أعمال الانتفاع والاستثمار فنحن نرى مثلاً في الفقرة الثانية ، أنّ ممارسة الزراعة في أرض عامرة بطبيعتها لا يمنح الفرد الزارع من الحقّ فيها ، ما يمنحه الإحياء في أرض مَيتَة .

ونلاحظ في الفقرة العاشرة أيضاً ، أنّ الانتفاع بالأرض باتخاذها مرعى لا يعطي الراعي حقّاً في تمّلك الأرض ، مع أنّ استخدامه لها في الرعي عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار فهناك إذن فارق يجب اكتشافه ، بين إحياء الأرض

٤٧٠

وما إليه من أعمال ، وبين استثمار الأرض العامرة في الزراعة والرعي بالرغم من أنّ هذه الأعمال ، تبدو جميعاً ذات صفة اقتصادية وألواناً من الانتفاع والاستثمار لمصادر الثروة الطبيعية وباكتشاف ذلك الفارق نتقدّم مرحلة جديدة في تحديد النظرية العامة واستيعابها .

كيف تقوم الحقوق الخاصة على أساس العمل :

والحقيقة أنّ هذا الفارق يرتبط كلّ الارتباط بالمبرّرات التي آمنت بها النظرية لمنح الفرد حقوقاً خاصة في الثروة الطبيعية على أساس العمل .

فلكي نفهم باستيعاب الفرق نظرياً بين المجموعة التي عرضناها من أعمال الانتفاع والاستثمار ذات الصفة الاقتصادية ، يجب أن نعرف التكييف النظري للحقوق الخاصة التي ربطت بالعمل ، وكيف وإلى أيّ مدى يلعب العمل دوره الإيجابي في النظرية ؟ وما هو المبدأ الذي ينشىء العمل على أساسه حقوقاً خاصة للعامل في الثروة التي يمارسها بعمله ؟ فإذا عرفنا هذا المبدأ ، استطعنا في ضوئه أن نميّز بين تلك المجموعة من أعمال الانتفاع .

ويمكننا تلخيص هذا المبدأ على ضوء البناء العُلْوي الكامل للنظرية في الصيغة التالية : أنّ العامل يملك نتيجة عمله التي يخلقها بجهده وطاقته في المواد الطبيعية الخام وهذا المبدأ يسري على كلّ أعمال الانتفاع والاستثمار التي يمارسها الفرد في الطبيعة ومصادرها الخام من دون تمييز بين عملية إحياء الأرض المَيتَة ، أو كشف المنجم ، أو استنباط الماء ، أو زراعة الأرض العامرة بطبيعتها ، أو استخدامها في رعي الحيوانات وتربيتها ، كلّ ذلك عملٌ وكلُّ عمل مع مادة خام من حقّ العامل أن يقطف ثماره ويمتلك نتيجته .

ولكن حقّ العامل في امتلاك نتيجة عمله في مصدر طبيعي ، لا يعني أن جميع

٤٧١

هذه الأعمال تتّفق في نتائجها لكي تتّفق في نوع الحقوق التي تسفر عنها ، بل إنّها تختلف في نتائجها ، وعلى هذا الأساس تختلف في نوع الحقوق الخاصة التي تنشأ عنها ، فإحياء الأرض مثلاً عملية يمارسها الفرد في أرض مَيتَة لا تصلح لإنتاجٍ وانتفاعٍ ، فيزيل عن وجهها الصخور الصمّاء ويوفّر كلّ الشروط التي تجعلها قابلة للانتفاع أو الإنتاج ، ويحقّق عن طريق ذلك نتيجة مهمّة بسبب إحيائه للأرض لم تكن موجودة قبل الإحياء ، وليست هذه النتيجة وجود الأرض نفسها ؛ لأنّ عملية الإحياء لا تخلق الأرض ، وإنّما هي الفرصة التي خلقها الفرد بعمله وجهده ، فإنّ إحياء الأرض المَيتَة يؤدّي إلى خلق فرصة الانتفاع بالأرض واستثمارها إذ لم تكن هذه الفرصة متاحة قبل إحيائها ، وإنّما نتجت عن عملية الإحياء

والعامل يملك وفقاً للنظرية العامة هذه الفرصة بوصفها نتيجة لعمله وملكيّته للفرصة تؤدّي إلى منع الآخرين عن سرقة هذه الفرصة منه وتضييعها عليه ، بانتزاع الأرض منه ، والانتفاع بها بدلاً عنه ؛ لأنّهم بذلك يحرمونه من الفرصة التي خلقها بجهده في عملية الإحياء ، وملكها بعمل مشروع ولأجل ذلك يصبح الفرد بإحيائه الأرض أولى بها من غيره ، ليتاح له الانتفاع بالفرصة التي أنتجها ، وهذه الأولوية هي كلّ حقّه في الأرض وهكذا نعرف أنّ حقّ الفرد في الأرض التي أحياها مردّه نظرياً إلى عدم جواز سرقة الآخرين نتيجة عمله وتضييع الفرصة التي خلقها بعمله المشروع .

وإحياء المنجم أو عين الماء المستترة في أعماق الأرض ، كإحياء الأرض المَيتَة في هذا تماماً ، فإنّ العامل الذي يمارس عملية الإحياء يخلق فرصة الانتفاع بالمرفق الطبيعي الذي أحياه ، ويملك هذه الفرصة بوصفها ثمرة لجهده ، فلا يجوز لغيره تضييع الفرصة عليه وللعامل الحقّ في منع الآخرين إذا حاولوا انتزاع المِرفق منه ويعتبر هذا حقّاً في الأرض والمنجم والعين ، مع فوارق سوف ندرسها بعد لحظات .

٤٧٢

وأمّا ممارسة الفرد للزراعة ، في أرض عامرة بطبيعتها ، أو استخدام أرض لرعي الحيوانات ، فهذه الأعمال وإن كانت من أعمال الانتفاع والاستثمار في المصادر الطبيعية ، ولكنّها لا تبرّر وجود حقّ للزارع والراعي في الأرض ؛ لأنّه لم ينتج الأرض نفسها ، ولا فرصة عامة كالفرصة التي أنتجها إحياء الأرض المَيتَة صحيح أنّ الزارع أو الراعي أنتج زرعاً ، أو ربّي ثروة حيوانية ، عن طريق عمله في الأرض ، ولكن هذا يبرّر تملّكه للزرع الذي أنتجه ، أو للثروة الحيوانية التي تعَاهَدها ، ولا يبرّر تملّكه للأرض وحقّه فيها .

فالفرق إذن بين هذه الأعمال وعمليات الإحياء ، أنّ تلك العمليات تخلق فرصة للاستفادة من الأرض أو المنجم أو العين ، لم تكن قبل الإحياء فيملكها الفرد ، ويكتسب عن طريق تملّكه لهذه الفرصة حقّه في المصدر الذي أحياه وأمّا الأرض العامرة بطبيعتها ، أو الأرض الخضراء بطبيعتها التي يمارس فيها الفرد عملية الزرع أو الرعي ، فقد كانت فرصة الانتفاع بها في الزرع والرعي موجودة قبل ذلك ، ولم تنتج عن العمل الخاص ، وإنّما الشيء الذي نتج عن عمل الزارع ـ مثلاً ـ هو الزرع ، ولا شكّ أنّه من حقّه الخاص ؛ لأنّه نتيجة عمله .

وفي هذا الضوء نستطيع الآن أن نستنتج شرطاً جديداً في العمل الذي يتيح حقّاً خاصاً في المصادر الطبيعية فقد اكتشفنا آنفاًالشرط الأوّل ، وهو : أن يكون العمل ذا صفة اقتصادية ، ونستنتج الآنالشرط الثاني : وهو أن يخلق هذا العمل حالة أو فرصة معيّنة جديدة يملكها العامل ، ويكتسب عن طريقها حقّه في المصدر الطبيعي .

وإلى هذه الحقيقة كان الإمام الشافعي يشير حينما استدلّ على أنّ المعدن الباطن المستتر لا يُملك بالإحياء ، بأنّ المُحيا ما يتكرّر الانتفاع به بعد عمارته

٤٧٣

بالإحياء من غير إحداث عمارة ، وهذا لا يمكن في المعادن(١) . بمعنى أنّ الفرصة التي يخلقها الإحياء في المعدن محدودة فيكون الحقّ محدوداً تبعاً لذلك .

وهذا الاكتشاف للترابط بين حقّ العامل في المصدر الطبيعي ، والفرصة التي ينتجها العمل في ذلك المصدر ، يترتب عليه منطقياً أن يزول حقّ الفرد في المصدر إذا تلاشت تلك الفرصة التي أنتجها ؛ لأنّ حقّه في المصدر الطبيعي كان يقوم كما عرفنا على أساس تملكه لتلك الفرصة ، فإذا زالت سقط حقّه وهذا ما نجده تماماً في الفقرة الرابعة والخامسة من البناء العُلْوي الذي قدّمناه .

ولنأخذ الآن أعمال الإحياء هذه التي تمنح الفرد العامل حقّاً خاصاً في المصدر الطبيعي ، كإحياء الأرض واستخراج المنجم واستنباط العين ، لكي ندرس بدقّة موقف النظرية منها ونرى ما إذا كانت نفس هذه الأعمال تختلف في الحقوق التي تنتجها بعد أن درسنا الفرق بينها وبين سائر أعمال الانتفاع والاستثمار ، وعرفنا قبل ذلك الفرق بين أعمال الانتفاع والاستثمار بشكل عام ، وأعمال الاحتكار والاستئثار .

ونحن إذا استعرضنا من البناء العُلْوي المتقدّم الحقوق التي تقوم على أساس أعمال الإحياء ، وجدنا أنّها تختلف من عمل لآخر فالأرض التي أحياها الفرد لا يجوز لفردٍ آخر بدون إذنه استثمارها ، والتصرف فيها ، مادام الفرد الذي أحياها يتمتّع بحقّه في الأرض ، بينما نجد أنّ الفرد إذا استنبط عيناً ، كان له الحقّ في مائها بقدر حاجته ، وجاز للآخرين الاستفادة من العين فيما زاد على حاجة صاحبها .

ولهذا كان على النظرية أن تشرح السبب الذي أدّى إلى اختلاف حقّ العامل في أرضه التي أحياها ، عن حقّ العامل في العين التي استنبطها ، ولماذا سمح لأيّ

ـــــــــــــــ

(١) راجع : كتاب الأُمّ ٤ : ٤٣ .

٤٧٤

فردٍ بالاستفادة من ماء العين إذا زاد على حاجة صاحبها ولم يسمح لأحدٍ بزراعة الأرض التي أحياها العامل بدون إذنه ، ولو لم يستغلها العامل في الزراعة فعلاً ؟

والواقع أنّ الجواب على هذا جاهز في ضوء معلوماتنا التي اكتشفناها حتى الآن عن النظرية ، فإنّ العامل يملك قبل كلّ شيء نتيجة عمله ، وهي فرصة الاستفادة من المصدر الطبيعي ، وملكيّته لهذه الفرصة تحتّم على الآخرين الامتناع عن سرقتها منه وتضييعها عليه ، وبذلك يحصل على الحقّ الخاص في المصادر الذي أحياه وهذا كلّه يطَّرد في سائر المصادر ، دون فرق في ذلك بين الأرض والمنجم والعين فالحقوق التي تنتج عن إحياء تلك المصادر الطبيعية متساوية ، والسماح للغير بالاستفادة من عين الماء فيما زاد على حاجة العامل دون الأرض لا ينشأ من اختلاف الحقوق ، بل ينبع عن طبيعة تلك الأشياء ؛ فإنّ الفرصة التي يملكها الفرد نتيجة لحفره العين واكتشافه للماء ، لا تضيع عليه بمشاركة شخص آخر له في الانتفاع بالماء ، ما دامت العين غزيرة تفيض عن حاجته ، فالعين الثريّة بالماء لا تضيق عادة عن تزويد فردين بالماء وإشباع حاجتهما وبهذا يظل العامل محتفظاً بالفرصة التي خلقها دون أن يؤدّي انتفاع الآخر بالعين في شربه وشرب ماشيته إلى فوات تلك الفرصة منه .

وعلى العكس من ذلك الأرض التي يحييها الفرد ، ويخلق فيها فرصة الانتفاع بها عن طريق إحيائه لها ، فإنّ الأرض بطبيعتها لا تتسع لاستثمارين في وقت واحد ، فلو بادر شخص إلى أرض محياة واستثمرها لانتزع بذلك من العامل الذي أحياها الفرصة التي خلقها ؛ لأنّ الأرض إذا وظّفت في إنتاج زراعي لا يمكن أن تقوم بدور مماثل ، ولا أن تستغل لأغراض الإنتاج من قبل فرد آخر .

وهكذا نعرف أنّ الأرض المحياة لا يجوز لغير العامل الذي أحياها أن يستثمرها وينتفع بها ؛ لأنّه يضيع على العامل الفرصة التي يملكها بعمله فلكي

٤٧٥

يحتفظ العامل بهذه الفرصة لا يسمح لغيره باستثمار الأرض ، سواء كان العامل يفكّر في استغلال الفرصة فعلاً أو لا ؛ لأنّها على أيّ حال فرصته التي خلقها ، ومن حقّه الاحتفاظ بها ما دامت جهوده التي أنفقها لإحياء الأرض مجسّدة فيها وخلافاً لذلك يسمح في عيون الماء لغير العامل الذي اكتشفها أن يستفيد منها فيما زاد على حاجة العامل ؛ لأنّ ذلك لا يجرّد المكتشف من الفرصة التي خلقها ، لقدرة العين على تلبية طلبات العامل الذي اكتشفها ، وإشباع حاجة الآخرين في وقت واحد ، فاختلاف الأرض عن العين في طبيعتها وطريقة استغلالها هو السبب الذي يفسّر السماح للآخرين بالاستفادة من العين دون الأرض .

وأمّا المنجم المكتشف ، فقد أجاز الإسلام لأيّ فرد أن يستفيد منه بالطريقة التي لا تؤدّي إلى حرمان المكتشف من الفرصة التي خلقها وذلك بالحفر في موضع آخر من المنجم ، أو بالاستفادة من نفس الحفرة التي أنشأها المكتشف الأوّل ، إذا كانت واسعة تتيح للغير أن يستفيد منها دون أن ينتزع من المكتشف فرصة الانتفاع .

فالمقياس العام للسماح لغير العامل ، أو منعه عن الانتفاع بالمِرفق الطبيعي الذي أحياه العامل وخلق فيه فرصة الانتفاع ، هو : مدى تأثير ذلك على الفرصة التي خلقها العامل بإحيائه للمصدر الطبيعي .

أساس التملك في الثروات المنقولة :

وحتى الآن كنّا نحصر الحديث تقريباً بالعمل في المصادر الطبيعية كالأراضي والمناجم وعيون الماء ، ولا بدّ لكي نستوعب المحتوى الكامل للنظرية ، أن نفحص بتدقيق تطبيقات النظرية على غير المصادر الطبيعية من الثروات المنقولة ، وأوجه الفرق بينها وبين المصادر والمبرّرات النظرية لهذه الفروق .

٤٧٦

والشيء الوحيد الذي مرّ بنا عن موقف النظرية من الثروات المنقولة : أنّ حيازة هذه الثروات تعتبر نظرياً عملاً ذا صفة اقتصادية من أعمال الانتفاع والاستثمار ، خلافاً لحيازة المصدر الطبيعي التي تحمل طابع الاحتكار والاستئثار ولا تتسم بالصفة الاقتصادية .

وقد استخدمنا فرضية الإنسان المنفرد للتدليل بها على هذا الفرق بين حيازة المصادر الطبيعية وحيازة الثورات المنقولة .

فالاستيلاء ـ إذن ـ على كمّية من الماء أو من خشب الغابة أو أيّ ثروة طبيعية أخرى بالإمكان نقلها ، يعتبر قبل كلّ شيء عملاً من أعمال الانتفاع والاستثمار ولهذا تدخل حيازة الثروات المنقولة في حساب النظرية ، التي لا تعترف بعمل سوى أعمال الانتفاع ذات الصفة الاقتصادية .

ولكن الحيازة ليست هي العمل الوحيد الذي تعترف به النظرية ، وتقيمه في مجال الثروات المنقولة فهناك نوع آخر من العمل في هذا المجال يشبه أعمال الإحياء في المصادر الطبيعية ، وهو العمل لإيجاد فرصة الانتفاع بالثروة الطبيعية المنقولة ، إذا كانت تشتمل بطبيعتها على مقاومة للانتفاع بها ، كصيد الحيوان النافر ، فإنّ العمل الذي يشلّ به الصياد مقاومة الحيوان الذي يصطاده يخلق فرصة الانتفاع بذلك الحيوان بسبب القضاء على مقاومته ، كما يخلق العامل فرصة الانتفاع بالأرض الميتة عن طريق إحيائها والقضاء على مقاومتها وتذليل تربتها .

فالحيازة والعمل لإيجاد فرصة الانتفاع نوعان من العمل ، يحملان معاً الطابع الاقتصادي في مجال الثروات المنقولة ، ولكنّ العمل لإيجاد فرصة جديدة للانتفاع بالثروة ـ كالصيد ـ يمتاز عن الحيازة بدوره الايجابي في خلق هذه الفرصة ، إذ أنّ الحيازة ذات دور سلبي من هذه الناحية ؛ لأنّها بوصفها مجرّد عملية استيلاء على الثروة لا تخلق فيها فرصة جديدة للانتفاع بها بشكل عام فأنت حين تحوز

٤٧٧

حجراً من الطريق العام ، أو ماءً من البئر ، لا تخلق في الحجر والماء فرصة جديدة للانتفاع بهما بشكل عام لم تكن من قبل ؛ لأنّ الحجر أو الماء كان معروضاً للجميع ، ولم تزد على أن سيطرت عليه وادّخرته لحاجتك صحيح أنّك نقلت الحجر إلى بيتك والماء إلى آنيتك ، ولكن هذا لا يخلق فرصة لم تكن من قبل للانتفاع بالمال بشكل عام ؛ لأنّ هذا النقل إنّما يمهد لانتفاعك بالحجر أو الماء ، ولا يذلل عقبة عامة في هذا السبيل ، ولا يمنح المال صفة تجعل أكثر استعداداً أو لياقة للنفع بصورة عامة كإحياء الأرض الذي يقضي على مقاومة الأرض للانتفاع بها بشكل عام ، ويمنحها كفاءة جديدة للقيام بدورها العام في حياة الإنسان .

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقارن الصيد ، وما إليه من أعمال ، كخلق فرصة جديدة في الثروات المنقولة ، بعملية إحياء الأرض ؛ لأنّ الصيد والإحياء يتّفقان في خلق فرصة عامة لم تكن متاحة من قبل ونقارن حيازة الثروة المنقولة بعملية زراعة الأرض العامرة بطبيعتها ، فكما أنّ زراعة الأرض العامرة طبيعياً لا تخلق في الأرض فرصة جديدة ، وإنّما هي عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار ، كذلك حيازة الماء من العيون الطبيعية(١) .

وهذا التمييز بين حيازة الثروات المنقولة، وبين العمل فيها لإيجاد فرصة الانتفاع، كالصيد وما إليه من أعمال ، لا يعني انفصال هذين الأمرين أحدهما عن

ـــــــــــــــ

(١) يلاحظ هنا : أنّا لم نقارن بين حيازة الماء المباح وحيازة الأرض العامرة بطبيعتها ؛ وإنّما قارنّا بين حيازة الماء وزراعة الأرض العامرة ، وذلك لأنّ حيازة الأرض ليست عملاً من أعمال الانتفاع والاستثمار ـ كما مرّ سابقاً ـ أمّا حيازة الماء فهي من أعمال الانتفاع ذات الصفة الاقتصادية ، كزراعة الأرض العامرة بطبيعتها (المؤلّفقدس‌سره ) .

٤٧٨

الآخر دائماً ، فإنّ الحيازة كثيراً ما تقترن بخلق فرصة جديدة في الثروة ، فتندمج الحيازة مع خلق الفرصة الجديدة عملية واحدة كما قد يوجد كلّ منهما بصورة منفصلة عملياً عن الآخر .

فهناك من الثروات ما يحتوي على درجة من المقاومة الطبيعية للانتفاع به ، كالسمك في البحر والفائض من ماء النهر الذي يجري بطبيعته ليتلاشى في نهاية الشوط في أعماق البحر ، فإذا قضى الصياد على مقاومة السمك بإغرائه بدخول شبكته التي يصطاد بها ، فقد حازه وخلق فيه أيضاً فرصة الانتفاع ، نتيجة لمنعه من الهروب إلى البحر والتسلّل إليه .

وقد يمارس الفرد عملاً لخلق فرصة جديدة في الثروة والقضاء على مقاومتها الطبيعية ، دون أن تتّحقق خلال ذلك حيازة الثروة ، كما إذا رمى الصائد بحجر على طائر محلق في الجو ، فشلّ حركته ، واضطره إلى الهبوط في منطقة بعيدة عن موضع الصائد ، وأصبح في وضع لا يسمح له إلاّ بالمشي كالدواجن ، فالفرصة الجديدة للانتفاع قد أنجزت في هذه العملية عن طريق اصطياد الطائر والقضاء على مقاومته بقذف الحجر عليه ، ولكن الطير وهو يمشي بعيداً عن موضع الصائد لا يعتبر في حيازته وتحت يده ، وإنّما تتم حيازته له إذا تعقّبه الصائد وأخذه .

وقد يحوز الفرد ثروة دون أن يمارس عملاً لخلق فرصة جديدة فيها ، كما إذا كانت الثروة مستعدّة بطبيعتها للانتفاع بها ، ولا تشتمل على مقاومة تَحُول دون ذلك ، كحيازة الماء من العيون والحجر من الأرض .

٤٧٩

فالحيازة وخلق الفرصة لونان من العمل قد يندمجان في عملية واحدة وقد يفترقان ولنعبر عن اللون الثاني من العمل الذي يخلق الفرصة بالصيد ، بوصفه المثال البارز للعمل المنتج لفرصة جديدة في الثروات المنقولة .

ولكي ندرس هذين اللونين من العمل على صعيد النظرية ، سوف نتناول كلاً من الحيازة والصيد بصورة منفصلة عن الآخر ؛ لاكتشاف الأحكام المختصّة به ، وطبيعة الحقوق التي تنتج عن كلّ من العملين ، والأساس النظري لها .

دور الأعمال المنتجة في النظرية :

فالصيد إذا درسناه بصورة منفصلة عن الحيازة ، نجد أنّه عمل ينتج فرصة معيّنة فمن الطبيعي أن يمنح العامل حقّ تملك الفرصة التي نتجت عن عمله ، كما يملك العامل في الأرض فرصة الانتفاع التي نجمت عن إحيائه للأرض وفقاً للمبدأ الآنف الذكر في النظرية ، الذي يمنح كلّ عامل في الثروة الطبيعية الخام حقّ تملّك النتيجة التي يسفر عنها العمل وعن طريق تملك الصائد لهذه الفرصة ، يصبح له حقّ خاص في الطير الذي اصطاده واضطره إلى الهبوط والمشي على الأرض ، ولو لم يحزه ـ كما يدل عليه إطلاق النصوص التشريعية(*) ـ فلا يسمح لفرد آخر أن يبادر إلى الطير ويستولي عليه ، أو يغتنم فرصة اشتغال الصيّاد عن حيازته بمواصلة عملية الصيد مثلاً فيسبقه إليه ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى حرمان العامل من الفرصة التي خلقها بالصيد فحقّ الصيّاد في الطائر الذي اصطاده لا يتوقّف على حيازته له أو البدء في

ـــــــــــــــ

(*) راجع الملحق رقم ١٢ .

٤٨٠