اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 146475
تحميل: 8781

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146475 / تحميل: 8781
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الانتفاع به فعلاً ، بل مجرّد الفرصة التي خلقها بعمله يخوّله الحقّ فيه ؛ لأنّ هذه الفرصة ملك للعامل الذي خلقها ، سواء فكّر فعلاً في الانتفاع بصيده وبادر إلى حيازته أو لا .

وبهذا كان الصياد نظير العامل الذي يحيي الأرض ، فكما لا يجوز لفرد آخر أن يستثمر الأرض ويزرعها ، ولو لم يمارس المحيي الانتفاع بها فعلاً ، كذلك لا يصحّ لغير العامل الذي ذللّ الصيد وقضى على مقاومته أخذ الصيد ما دام الصياد محتفظاً بحقّه ، ولو لم يبادر إلى حيازته فعلاً .

ولكنّ الطير الذي شلّت حركته نتيجة لاصطياده ، إذا استطاع قبل أن يبادر الصيّاد إلى حيازته أن يسترجع قواه ، أو يتغلّب على الصدمة ، ويحلّق في الجوّ من جديد ، زال عنه حقّ الصيّاد ؛ لأنّ هذا الحقّ كان يعتمد على تملك العامل للفرصة التي أنتجها بالصيد ، وهذه الفرصة تتلاشى بهروب الطائر في الجوّ ، فلا يبقى للصائد حقّ في الطير(*) . وهو في هذا يشبه أيضاً العامل الذي يُحيي الأرض ويكتسب حقّه فيها على هذا الأساس ، إذ يفقد حقّه في الأرض إذا انطفأت فيها الحياة ورجعت مَوَاتاً من جديد ؛ والسبب نظريّاً واحدٌ في الحالتين ، وهو أنّ حقّ الفرد في الثروة يرتبط بتملّكه للفرصة التي تنتج عن عمله ، فإذا زالت تلك الفرصة وانعدم أثر ذلك العمل زال حقّه في الثروة .

فالصيد في أحكامه إذن حين ينظر إليه بصورة مستقلّة عن الحيازة يشابه إحياء المصادر الطبيعية وهذا التشابه ينبع ـ كما رأينا ـ من وحدة التفسير النظري لحقّ العامل في صيده ، وحقّ العامل في الأرض الميّتة التي أحياها .

ـــــــــــــــ

(*) راجع : الملحق رقم ١٣ وجواهر الكلام ٣٦ : ٢٠٩ .

٤٨١

دور الحيازة للثروات المنقولة :

وأمّا الحيازة ، فهي تختلف عن الصيد المجرّد في أحكامها ، ولهذا نجد أنّ الفرد إذا ملك طيراً بالحيازة ودخل في حوزته ، أصبح من حقّه استرجاعه إذا طار وامتنع فاصطاده آخر ، وليس للآخر الاحتفاظ به ، بل يجب عليه ردّه إلى من كان الطير في حوزته(١) ؛ لأنّ الحقّ المستند إلى الحيازة حقّ مباشر ، بمعنى : أنّ الحيازة سبب مباشر لتملّك الطير ، وليس تملّك الطير مرتبطاً بتملّك فرصة معيّنة ليزول بزوالها .

وهذا هو الفرق بين الحيازة وغيرها من العمليات التي مرّت بنا ، فالصيد كان سبباً لامتلاك الصائد للفرصة التي أنتجها ، وقام على هذا الأساس حقّه في الطير ، والإحياء كان سبباً لامتلاك العامل للفرصة التي نجمت عن الإحياء ونتيجة لذلك حصل على حقّه في المِرفَق الذي أحياه ، وأمّا حيازة الثروات المنقولة فهي بمجردها سبب أصيل ومباشر لتملّك الثروة .

وهذا الفرق بين الحيازة وغيرها من الأعمال ،يحتّم علينا مواجهة السؤال التالي على الصعيد النظري : إذا كان حقّ الفرد في المصدر الطبيعي الذي أحياه ، أو في الصيد الذي اصطاده ، يقوم على أساس امتلاكه نتيجة عمله ، وهي فرصة الانتفاع بذلك المصدر ، فعلى أيّ أساس يقوم حقّ الفرد في الحجر الذي يلقاه في الطريق ، فيأخذه لنفسه ؟ أو حقّه في الماء الراكد الذي يحوزه من بحيرة طبيعية ؟ مع أن حيازته هذه للحجر أو للماء لم تنتج فرصة عامة جديدة في المال ، كما ينتج الصيد وإحياء الأرض .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : جواهر الكلام ٣٦ : ٢٠٢ ـ ٢٠٤ .

٤٨٢

والجواب على هذا السؤال : أنّ حقّ الفرد هذا لا يَستَمد مبرّره من تملّك الفرد لفرصة نتجت عن عمله ، وإنّما يبرّره انتفاع الفرد بذلك المال ، فكما أنّ من حقّ كلّ عامل أن يمتلك الفرصة التي ينتجها عمله ، كذلك من حقّه أن ينتفع بالفرصة التي هيأتها له الطبيعة بعناية الله تعالى فالماء ـ مثلاً ـ إذا كان في أعماق الأرض وكشفه الفرد بالحفر ، فقد خلق فرصة الانتفاع به وأصبح جديراً بامتلاك هذه الفرصة وأمّا إذا كان الماء مجتمعاً طبيعياً على سطح الأرض ، وكانت فرصة الانتفاع به ناجزة بدون جهد من الإنسان ، فلا بدّ أن يتاح لكلّ فردٍ أن يمارس انتفاعه بذلك الماء ، ما دامت الطبيعة قد كفتهم العمل ومنحتهم فرصة الانتفاع .

فإذا افترضنا فردا اغترف بإنائه من الماء المجتمع طبيعياً على وجه الأرض ، فقد مارس عملاً من أعمال الانتفاع والاستثمار، في مفهوم النظرية كما مر بنا في مستهلّ البحث وما دام من حقّ كلّ فردٍ أن ينتفع بالثروة التي تقدّمها الطبيعة بين يدي الإنسان ، فمن الطبيعي أن يسمح للفرد بحيازة الماء المكشوف على وجه الأرض من مصادره الطبيعية ، لأنّها عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار وليست عملاً من أعمال الاحتكار والقوّة .

وإذا احتفظ الفرد بالماء الذي حازه كان له ذلك ، ولا يجوز لآخر أن ينازعه فيه ، أو ينتزعه منه وينتفع به ؛ لأنّ النظرية ترى حيازة الماء وما إليه من الثروات المنقولة عملاً من أعمال الانتفاع ، فما دامت الحيازة مستمرّة فالانتفاع مستمرٌ إذن من قبل الحائز ، وما دام الحائز مواصلا لانتفاعه بالثروة ، فلا مبرّر لتقديم فردٍ آخر عليه في الانتفاع بها إذا أراد .

وهكذا يظلّ الفرد متمتّعاً بحقّه في الثروة المنقولة التي حازها ، ما دامت

٤٨٣

الحيازة مستمرّة حقيقة أو حكماً(١) . فإذا تنازل الفرد عن حيازته بإهمال المال والإعراض عنه ، انقطع انتفاعه به ، وسقط بسبب ذلك حقّه في المال ، وأصبح لأيّ فردٍ آخر الاستيلاء عليه والانتفاع به .

وهكذا يتّضح أنّ حقّ الفرد في الماء الذي حازه من البحيرة ، أو الحجر الذي أخذه من الطريق العام ، لا يستند إلى تملّكه لفرصة عامة ناجمة عن عمله ، وإنّما يقوم على أساس ممارسة الفرد للانتفاع بتلك الثروة الطبيعية عن طريق حيازته لها .

وفي هذا الضوء نستطيع أن نضيف إلى المبدأ المتقدّم في النظرية ، القائل :إنّ كلّ عامل يملك نتيجة عمله . مبدأ جديداً ، وهو :أنّ ممارسة الفرد للانتفاع بثروة طبيعية ، يجعل له حقّاً فيها مادام مواصلاً لانتفاعه بتلك الثروة .

ولمّا كانت الحيازة في مجال الثروات المنقولة عملاً من أعمال الانتفاع ، فيستوعبها هذا المبدأ ويقيم على أساسها حقّاً للفرد في الثروة التي حازها .

تعميم المبدأ النظري للحيازة :

وهذا المبدأ لا ينطبق على الثروات المنقولة فحسب ، بل ينطبق على

ـــــــــــــــ

(١) نريد باستمرار الحيازة حكماً : الحالات التي تنقطع فيها الحيازة لسبب اضطراري ، كالنسيان والضياع والاغتصاب ، ونحو ذلك ، فإنّ الشريعة تعتبر الحيازة وممارسة الانتفاع مستمرّة حكماً ، ولذا تأمر بإرجاع المال الضائع أو المغتصب إلى حوزة صاحبه ، ومردّ هذا الاعتبار في الحقيقة إلى التأكيد على العنصر الاختياري ، وسلب الأثر عن حالات الاضطرار في مختلف مجالات التشريع (المؤلّفقدس‌سره )

٤٨٤

المصادر الطبيعية أيضاً ، إذا مارسها الفرد بعمل من أعمال الانتفاع ، كما إذا زرع أرضاً عامرة بطبيعتها ، فإن زراعته لها عمل من أعمال الانتفاع ، فيكسب على أساس ذلك حقّاً في الأرض يمنع الآخرين من مزاحمته ، وانتزاع الأرض منه ، مادام يواصل انتفاعه بها ، ولكن ليس معنى هذا أنّ مجرّد حيازة الأرض مثلاً تكفي لاكتساب هذا الحقّ فيه ، كحيازة الماء ؛ لأنّ حيازة الأرض ليست من أعمال الانتفاع والاستثمار ، وإنّما ينتفع بالأرض العامرة عن طريق زراعتها مثلاً ، فإذا باشر العامل الزراعة في أرض عامرة بطبيعتها ، وواصل هذا النوع من الانتفاع بها ، لم يجز لآخر انتزاع الأرض منه مادام العامل مستمراً في زراعتها ؛ لأنّ الآخر ليس أولى بها ممّن ينتفع بها فعلاً وأمّا إذا ترك العامل زراعتها والانتفاع بها ، فلا يبقى له الحقّ في الاحتفاظ بها ، ويجوز عندئذٍ لفردٍ آخر ممارستها في عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار .

ونلاحظ في حال ترك الفرد الانتفاع بالأرض الفرق بين المبدأين ، فحقّ الفرد الذي يقوم على أساس مواصلة الانتفاع بثروة طبيعية يزول بمجرّد ترك الفرد للانتفاع بالأرض وعدم مواصلته ، بينما يظلّ الحقّ القائم على أساس تملّك العامل للفرصة التي يخلقها ثابتاً ، ما دامت الفرصة باقية وجهود العامل مجسّدة في الأرض ، ولو لم يكن يمارس الانتفاع بالأرض فعلاً .

تلخيص النتائج النظرية :

يمكننا أن نستنتج الآن من دراسة النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج مبدأين أساسين في هذه النظرية :

أحدهما : أنّ العامل الذي يمارس شيئاً من ثروات الطبيعة الخام يملك نتيجة عمله ، وهي الفرصة العامة للانتفاع بتلك الثروة ، ونتيجة لتملك العامل هذه الفرصة

٤٨٥

يكون له الحقّ في نفس المال تبعاً لما تفرضه ملكيته للفرصة التي أنتجها عمله ويرتبط حقّه في المال بملكية هذه الفرصة ، فإذا انعدمت وزالت الفرصة التي خلقها سقط حقّه في المال .

والمبدأ الآخر : أنّ ممارسة الانتفاع بأيّ ثروة طبيعية تمنح الفرد الممارس حقّاً ، يمنع الآخرين عن انتزاع الثروة منه مادام يواصل استفادته منها ويمارس أعمال الانتفاع والاستثمار ؛ لأنّ غيره ليس أولى منه بالثروة التي يمارسها لتنتزع منه وتعطى للغير .

وعلى أساس المبدأ الأوّل تقوم الأحكام التي نظّمت الحقوق في عمليات الإحياء والصيد وعلى أساس المبدأ الثاني ترتكز أحكام الحيازة للثروات المنقولة ، التي وفرّت الطبيعة فرصة الانتفاع بها للإنسان .

فخلق فرصة جديدة في ثروة طبيعية ، والانتفاع المستمر بثروة توفّرت فيها الفرصة طبيعياً ، هما المصدران الأساسيان للحقّ الخاص في الثروات الطبيعية

والطابع المشترك لهذين المصدرين هو الصفة الاقتصادية ، فإنّ كُلاً من خلق فرصة جديدة ، أو الانتفاع بثروة على أساس الفرصة المتاحة طبيعياً ، يعتبر ذا صفة اقتصادية ، وليس من أعمال القوّة والاستئثار .

٤٨٦

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج

الملاحَظـات

١ ـ دراسة مقارنة للنظرية الإسلامية

٢ ـ ظاهرة الطَّسق وتفسيرها نظرياً

٣ ـ التفسير الخُلُقي للملكية في الإسلام

٤ ـ التحديد الزمني للحقوق الخاصة

٤٨٧

١ ـ دراسة مقارنة للنظرية الإسلامية .

رأينا أنّ الشريعة تسمح للأفراد باكتساب الحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية ضمن الحدود التي تقرّرها النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج ، والتصميم النظري لهذه الحقوق يختلف عن تصميمها في النظريات الرأسمالية والماركسية .

ففي المذهب الرأسمالي يسمح لكلّ فرد بتملّك المصادر الطبيعية على أساس مبدأ الحرّية الاقتصادية ، فكلّ ثروة يسيطر عليها الفرد يمكنه أن يعتبرها ملكاً له ، ما لم يتعارض ذلك مع حرّية التملّك الممنوحة للآخرين فالمجال المسموح به من الملكية الخاصة لكلّ فردٍ لا يحدّده إلاّ صيانة حقّ الأفراد الآخرين في حرّية التملّك وهكذا يستمدّ الفرد مبرّر ملكيّته من كونه حرّاً ، وغير مزاحم للآخرين في حرّياتهم .

وأمّا النظرية العامة للتوزيع التي درسناها فلا تعترف بحرّية التملّك بمفهومها الرأسمالي ، وإنّما تعتبر حقّ الفرد في المصدر الطبيعي الخام مرتبطاً بتملّكه لنتيجة عمله ، أو انتفاعه المباشر المستمرّ بذلك المصدر ، ولهذا يزول الحقّ إذا فقد كِلا هذين الأساسين .

٤٨٨

فالحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية تعتبر رأسمالياً مظهراً من مظاهر حرّية الإنسان التي يتمتّع بها في ظلّ النظام الرأسمالي ، بينما هي في الإسلام مظهر من مظاهر نشاط الإنسان وممارسته لأعمال الانتفاع والاستثمار .

وأمّا الماركسية فهي تؤمن بإلغاء كلّ لون من ألوان الملكية الخاصة للمصادر الطبيعية ، وسائر وسائل الإنتاج ، وتدعو إلى تحرير تلك الوسائل من الحقوق الخاصة ، إذ لم يعدّ لها مبرّر منذ دخل التأريخ المرحلة المحدّدة التي دقّت الصناعة الآلية أجراسها في عصر الإنسان الرأسمالي الحديث .

وإيمان الماركسية بضرورة هذا الإلغاء لا يعني ـ من الناحية النظرية التحليلية ـ أنّ الملكية الخاصة لا مبرّر لها في المفهوم الماركسي إطلاقاً ، وإنّما يعبّر عن إيمانها مذهبياً بأنّ الملكية الخاصة قد استنفدت كلّ أغراضها في حركة التأريخ ، ولم يبقَ لها مجال في تيار التأريخ الحديث ، بعد أن فقدت مبرّراتها وأصبحت قوّة معاكسة للتيّار .

ولكي نقارن بين النظرية الماركسية والإسلام ، يجب أن نعرف ما هي المبرّرات في النظرية الماركسية للملكيّة الخاصة ، وكيف فقدت في عصر الإنتاج الرأسمالي هذه المبرّرات ؟(١)

ـــــــــــــــ

(١) نريد هنا بالنظرية الماركسية ، النظرية الاقتصادية للمذهب الماركسي لا نظرية ماركس في تفسير التأريخ وتحليله ؛ فإنّ الملكية تدرّس تارّة بوصفها ظاهرة تأريخية ، وهي بهذا الوصف تبرّر ماركسياً على أساس نظرية ماركس في التأريخ ، بظروف التناقض الطبقي وشكل الإنتاج ونوع القوى المنتجة وتدرس الملكية الخاصة تارّة أخرى على أساس اقتصادي بحت لاكتشاف مبرّراتها التشريعية لا المبرّر التأريخي لوجودها وفي هذه المرّة يجب التفتيش عن مبرّراتها الماركسية في نظرية ماركس في القيمة والعمل والقيمة الفائضة (المؤلّفقدس‌سره )

٤٨٩

إنّ الماركسية ترى : أنّ جميع الثروات الطبيعية الخام ليس لها بطبيعتها قيمة تبادلية ، وإنّما لها منافع استعمالية كثيرة ؛ لأنّ القيمة التبادلية لا توجد في ثروة إلاّ نتيجة لعمل بشري متجسّد فيها فالعمل هو الذي يخلق القيمة التبادلية في الأشياء ، والثروات الخام في وضعها الطبيعي لم تندمج مع عمل إنساني محدّد فلا قيمة لها من الناحية التبادلية. وبهذا تربط الماركسية بين القيمة التبادلية والعمل ، وتقرّر أنّ العامل الذي يمارس مصدراً طبيعياً ، أو ثروة من ثروات الطبيعة ، يمنح المال الذي يمارسه قيمة تبادلية بقدر كمّية العمل الذي ينفقه عليه .

وكما تربط الماركسية بين العمل والقيمة التبادلية ، تربط أيضاً بين القيمة التبادلية والملكية ، فتمنح الفرد الذي يخلق بعمله قيمة تبادلية في المال حقّ ملكية ذلك المال والتمتع بتلك القيمة التي خلقها فيه فتملّك الفرد للثروة يستمدّ مبرّره النظري في الماركسية من وصفه خالقاً للقيمة التبادلية في تلك الثروة ، نتيجة لما بذله عليها من عمل وهكذا يصبح للفرد على أساس النظرية هذه حقّ تملّك المصدر الطبيعي ووسائل الإنتاج الطبيعية ، إذا استطاع أن ينفق عليها شيئاً من الجهد ، ويمنحها قيمة تبادلية معيّنة وهذه الملكية تبدو في الحقيقة على ضوء النظرية الماركسية ملكية للنتيجة التي يسفر عنها العمل ، لا للمصدر الطبيعي منفصلاً عن تلك النتيجة ، ولكن هذه النتيجة التي يملكها العامل ليست هي فرصة الانتفاع بوصفها حالة ناتجة عن العمل ، كما رأينا في النظرية العامة للإسلام في توزيع ما قبل الإنتاج ، بل هي القيمة التبادلية التي تنشأ عن العمل في رأي الماركسية فالعامل يمنح المصدر الطبيعي قيمة معيّنة ، ويتملّك هذه القيمة التي أسبغها على المال .

وتعلية على هذا الأساس الماركسي لتبرير الملكية الخاصة تقرّر الماركسية : أنّ هذه الملكية تظلّ مشروعة ما لم تدخل في عصر الإنتاج الرأسمالي ، الذي يدفع فيه المالكون المصادر والوسائل التي يملكونها إلى من لا يملكون شيئاً ، ليعملوا فيها بأجور ويسلّموا الأرباح إلى مالكي تلك المصادر والوسائل ، فإنّ هذه الأرباح سوف تعادل قيمتها خلال زمن قصير نسبياً القيمة التبادلية للمصادر والوسائل وبذلك يكون المالك قد استوفى كلّ حقّه في تلك المصادر والوسائل ؛ لأنّ حقّه كان مرتبطاً بالقيمة التي نتجت عن عمله في تلك المصادر ، مادام قد حصل على هذه القيمة مجسدة في الأرباح التي تقاضاها ، فقد انقطعت بذلك صلته بالمصادر والوسائل التي كان يملكها وهكذا تفقد الملكية الخاصة مبرّراتها ، وتصبح غير مشروعة في النظرية الماركسية ، بدخول عصر الإنتاج الرأسمالي أو العمل المأجور .

٤٩٠

وعلى هذا الأساس الذي يربط ملكية العامل بالقيمة التبادلية ، تفسح الماركسية لعامل آخر ـ إذا مارس الثروة ـ أن يملك القيمة الجديدة التي تنتج عن عمله ، فإذا ذهب فرد إلى الغابة واقتطع من أخشابها وأنفق على الخشب جهداً حتى جعله لوحاً ، ثمّ جاء آخر فجعل من اللوح سريراً ، أصبح كلّ منهما مالكاً بقدر القيمة التبادلية التي أنتجها عمله ولهذا تعتبر الماركسية الأجير في النظام الرأسمالي هو المالك لكلّ القيمة التبادلية التي تكتسبها المادّة عن طريق عمله ، ويكون اقتطاع مالك المادة جزءاً من هذه القيمة باسم الأرباح سرقة من الأجير .

فالقيمة مرتبطة بالعمل ، والملكية إنّما هي في حدود القيمة التي تنتج عن عمل المالك .

هذه هي المبررات الماركسية للملكية الخاصة، التي يمكن تلخيصها في القضيتين التاليتين :

١ ـ القيمة التبادلية مرتبطة بالعمل وناتجة عنه .

٢ ـ وملكية العامل مرتبطة بالقيمة التبادلية التي يخلقها عمله .

ونحن نختلف عن الماركسية في كلتا القضيتين .

أمّا القضية الأولى التي تربط القيمة التبادلية بالعمل ، وتجعل منه المقياس الأساسي الوحيد لها ، فقد درسناها بكلّ تفصيل في بحوثنا مع الماركسية من هذا الكتاب ، واستطعنا أن نبرهن على أنّ القيمة التبادلية لا تنبع بصورة أساسية من العمل وبذلك تنهار جميع اللبنات الفوقية التي شادتها الماركسية على أساس هذه القضية(١) .

وأمّا القضية الأخرى التي تربط ملكية الفرد بالقيمة التبادلية التي تتولّد عن العمل ، فهي تتعارض مع اتجاه النظرية العامة للإسلام في توزيع ما قبل الإنتاج ؛ لأنّ الحقوق الخاصة للأفراد في المصادر الطبيعية وإن كانت تقوم في الإسلام على أساس امتلاك الفرد نتيجة عمله ، ولكن نتيجة العمل التي يمتلكها العامل الذي أحيى قطعة من الأرض خلال عمل أسبوع مثلاً ليست هي القيمة التبادلية التي ينتجها عمل أسبوع كما ترى الماركسية ، بل النتيجة التي يملكها العامل في الأرض التي أحياها هي فرصة الانتفاع بتلك الأرض، وعن طريق تملّك هذه الفرصة ينشأ حقّه الخاص في الأرض نفسها ، وما دامت هذه الفرصة قائمة يعتبر حقّه في الأرض ثابتاً ، ولا يجوز لآخر أن يتملّك الأرض بإنفاق عمل جديد عليها ولو ضاعف العمل الجديد قيمتها التبادلية ؛ لأنّ فرصة الانتفاع بالأرض ملك الأوّل ولا يجوز مزاحمته فيها .

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الكتاب الأوّل ، مبحث القيمة أساس العمل .

٤٩١

وهذا هو الفارق الأساسي من الناحية النظرية بين الأساس الماركسي الخاص في المصدر الطبيعي ، وبين الأساس الإسلامي فمردّ الحقّ الخاص على الأساس الأوّل إلى امتلاك العامل القيمة التبادلية التي اكتسبتها الأرض من عمله فحسب ، ومردّه على الأساس الثاني إلى امتلاك العامل الفرصة الحقيقية التي أنتجها العمل في الأرض .

فالمبدأ القائل : إنّ الحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية تقوم على أساس العمل ، وأنّ العامل يتملّك النتيجة الواقعية لعمله ، يعكس النظرية الإسلامية .

والمبدأ القائل : إنّ القيمة التبادلية لمصادر الطبيعة تقوم على أساس العمل ، وملكية العامل تحدّدها القيمة التبادلية التي خلقها ، يعكس النظرية الماركسية .

والفرق الرئيسي بين هذين المبدأين هو مصدر كلّ الاختلافات التي سوف نجدها بين الإسلام والماركسية في توزيع ما بعد الإنتاج .

٢ ـ ظاهرة الطَّسق وتفسيرها نظرياً :

نجد في البناء العُلْوي الذي ينظم توزيع ما قبل الإنتاج في الإسلام ، ظاهرة خاصة قد يبدو أنّها تميز الأرض عن غيرها من المصادر الطبيعية ، فلا بد من دراستها بصورة خاصة ، وتفسيرها في ضوء النظرية العامة للتوزيع ، أو ربطها بنظرية أخرى من المذهب الاقتصادي في الإسلام .

وهذه الظاهرة هي (الطَّسق ) ، الذي سمحت الشريعة للإمام بأخذه من الفرد إذا أحيى أرضاً وانتفع بها فقد جاء في الحديث الصحيح(١) ، وفي بعض النصوص

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ـ ٤١٥ ، الباب ٣ من أبواب إحياء المَوَات ، الحديث ٢ .

٤٩٢

الفقهية للشيخ الطوسي: أنّ للفرد أن يحيي أرضاً مَيتَة وعليهطَسقها (=أُجرتها ) يؤدّيه للإمام(١) .

فما هو المبرّر النظري لهذا الطَّسق ؟ ولماذا اختصت به الأرض دون غيرها من منابع الثروة فلم يكلف الذين يحيون المنابع الأخرى بدفع شيء من غلتها ؟

والحقيقة أنّ هذا الطَّسق الذي سمح للإمام بفرضه على الأرض الميتة عند إحياء الفرد لها يمكن تكييفه مذهبياً وتفسيره من الناحية النظرية على أساسين :

الأوّل: على أساس النظرية العامة في التوزيع نفسها ، فنحن إذا لاحظنا أنّ الطَّسق أجرة يتقاضاها الإمام على الأرض بوصفها من الأنفال ، وعرفنا إضافة إلى ذلك أنّ الأنفال يستخدمها الإمام في مصالح الجماعة كما سيأتي في بحث مقبل ، وقارنا بين إلزام صاحب الأرض بالطَّسق ، وإلزام صاحب العين والمنجم بالسماح للآخرين بما زاد على حاجته من العين وما لا يتعارض مع حقه في المنجم ، إذا جمعنا كلّ ذلك ، تكامل لدينا بناء عُلْوي من التشريع يسمح لنا باستنتاج مبدأ جديد في النظرية ، يمنح الجماعة حقاً عاماً في الاستفادة من مصادر الطبيعة ؛ لأنّها موضوعة في خدمة الإنسانية بشكل عام( خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (٢) . وهذا الحق العام للجماعة لا يزول باكتساب المصادر الطبيعية طابع الحقوق الخاصة ، وإنّما تحدّد الشريعة طريقة استفادة الجماعة من هذا الحقّ بالشكل الذي لا يتعارض مع تلك الحقوق الخاصة .

ففي المناجم والعيون التي يحييها الأفراد يتاح للجميع الاستفادة منها بشكل مباشر ، لأنّ لكلّ فرد أن يستفيد من عروق المنجم إذا حفر من موضع آخر ، كما أنّ له أن يستقي من عين الماء إذا زادت على

ـــــــــــــــ

(١) راجع : المبسوط ٢ : ٢٩ .

(٢) سورة البقرة : ٢٩ .

٤٩٣

حاجة مستنبطها. وأمّا الأرض فلمّا كانت بطبيعتها لا تسمح لانتفاع فردين بها في وقت واحد ، فقد شُرع الطَّسق الذي ينفقه الإمام على مصالح الجماعة ليتاح للآخرين الاستفادة عن هذا الطريق ، بعد أن حال الحقّ الخاص لصاحب الأرض الذي أحياها عن انتفاع الآخرين بتلك الأرض انتفاعاً مباشراً.

الثاني : أنّ نفسرالطَّسق بصورة منفصلة عن النظرية العامة للتوزيع ، وذلك على أساس أنّه ضريبة تتقاضاها الدولة لصالح العدالة الاجتماعية ؛ لأنّنا سوف نرى عند دراسة الأنفال ووظيفتها في الاقتصاد الإسلامي أنّ من أهم أغراض الأنفال في الشريعة الضمان الاجتماعي وحماية التوازن العام وما دامالطَّسق يعتبر تشريعياً من الأنفال فمن المعقول أن يعتبر ضريبة نابعة من النظرية العامة في العدالة الاجتماعية وما تضمّ من مبادئ الضمان والتوازن العام وإنّما اختصّت الأرض بهذه الضريبة الضخمة لأهميّتها ولخطورة دورها في الحياة الاقتصادية ، فَشُرِّعت هذه الضريبة وقاية للمجتمع الإسلامي من أعراض الملكيّة الخاصة للأرض ، التي منيت بها المجتمعات غير الإسلامية ، ومقاومة لمآسي الريع العقاري التي ضجّ بها تأريخ الأنظمة البشرية ، ودوره في إشاعة الفروق والتناقضات وتعميقها ويشابه الطَّسق على هذا الأساس الخمس الذي فرض ضريبة على ما يستخرج من المعدن.

وفي النهاية وقد قدّمنا هذين التفسيرين النظريين لـ: ( الطَّسق ) ، يمكننا أن نردّ أحدهما إلى الآخر في نظرة أشمل وأوسع ، فنفسّر الطَّسق بأنّه ضريبة سمح للإمام بفرضها لأغراض الضمان والتوازن وحماية الأفراد الضعفاء في الجماعة ، ونفسر هذه الأغراض نفسها وحتميّة تنفيذها على الأفراد الأقوياء بما للجماعة من حقّ عام مسبق في مصادر الطبيعة ، يجعل لها على الأفراد الذين يحيون تلك المصادر ويستثمرونها الحقّ في حماية مصالحها وإنقاذ ضعفائها .

٤٩٤

٣ ـ التفسير الخُلُقي للملكية في الإسلام :

كنّا ندرس الملكية والحقوق الخاصة حتى الآن على ضوء النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج ، فالبحث كان يقوم على أساس المذهب الاقتصادي وفي خلال البحث استطعنا أن نقدّم للملكية والحقوق الخاصة تفسيراً نظرياً يعكس وجهة نظر المذهب الاقتصادي في الإسلام ونريد الآن أن نقدّم للملكية تفسيرها الخُلُقي في الإسلام وأريد بالتفسير الخُلُقي للملكية الخاصة : استعراض التصوّرات المعنوية التي أعطاها الإسلام عن الملكية ودورها وأهدافها ، وعمل لإشاعتها بين الأفراد لتصبح قوى موجّهة للسلوك ، ومؤثّرة على تصرّفات الأفراد التي تتّصل بملكيّاتهم وحقوقهم الخاصة .

وقبل أن نأخذ بالتفصيلات في التفسير الخُلقي للملكية ، يجب أن نميّز بكلّ وضوح بينه وبين التفسير المذهبي للملكية الذي عالجناه فيما تقدّم من وجهة نظر اقتصادية ولكي يتاح لنا هذا التمييز يمكننا أن نستعير من تفصيلات التفسير الخُلُقي الآتية مفهوم الخلافة ؛ لنقارن بينه وبين النظرية العامة في التوزيع التي فسّرنا الحقوق الخاصة على أساسها من وجهة نظر المذهب الاقتصادي .

فالخلافة تُضفي طابع الوكالة على الملكية الخاصة ، وتجعل من المالك أميناً على الثروة ووكيلاً عليها من قبل الله تعالى الذي يملك الكون وجميع ما يضمّ من ثروات وهذا التصوّر الإسلامي الخاص لجوهر الملكية متى تركّز وسيطر على ذهنية المالك المسلم ، أصبح قوّة موجّهة في مجال السلوك ، وقيداً صارماً يفرض على المالك التزام التعليمات والحدود المرسومة من قبل الله عزّ وجلّ ، كما يلتزم الوكيل الخليفة دائماً بإرادة الموكِّل والمستخلِف .

٤٩٥

ونحن إذا فحصنا هذا المفهوم ، وجدنا أنّه لا يفسّر مبرّرات الملكية الخاصة من وجهة نظر مذهبية في الاقتصاد ؛ لأنّ الملكية الخاصة سواء كانت خلافة أم أيّ شيء آخر تثير السؤال عن مبرّراتها المذهبية التي تفسّرها ، فلماذا جعلت هذه الخلافة والوكالة لهذا الفرد دون سواه ؟ ومجرّد كونها وكالة ليس جواباً كافياً على هذا السؤال ، وإنّما نجد الجواب عليه في التفسير الاقتصادي للملكية الخاصة على أسس معيّنة ، كأساس العمل وصلة العامل بنتائج عمله .

وهكذا نعرف أنّ إسباغ طابع الوكالة والخلافة على الملكية الخاصة ـ مثلاً ـ لا يكفي لصوغ نظرية عامة في التوزيع ؛ لأنّه لا يفسّر هذه الظاهرة تفسيراً اقتصادياً ، وإنّما يخلق هذا الطابع نظرة خاصة إلى الملكية تقوم على أساس أنّها مجرّد وكالة أو خِلافة وهذه النظرة إذا نشأت وسادت وأصبحت عامة لدى أفراد المجتمع الإسلامي ، أصبح لها من القوّة ما يحدّد سلوك الأفراد ، ويعدّل من الانعكاسات النفسية للملكية ويطوّر من المشاعر التي توحي بها الثروة إلى نفوس الأغنياء وبذلك يصبّ مفهوم الخلافة قوّة محرّكة موجّهة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية .

فالتفسير الخُلقي للملكية إذن يبرّر تلك التصوّرات عن الملكية التي يتلقّاها كلّ مسلم عادة من الإسلام ، ويتكيّف بها نفسيّاً وروحياً ، ويحدّد مشاعره ونشاطه وفقاً لها .

وأساس هذه التصوّرات هو مفهوم الخلافة الذي أشرنا إليه ، فالمال مال الله وهو المالك الحقيقي ، والناس خلفاؤه في الأرض وأمناؤه عليها وعلى ما فيها من أموال وثروات قال الله تعالى :( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاّ مَقْتاً ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) سورة فاطر : ٣٩ .

٤٩٦

والله تعالى هو الذي منح الإنسان هذه الخلافة ، ولو شاء لانتزعها منه( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ ) (١) .

وطبيعة الخلافة تفرض على الإنسان أن يتلقى تعليماته بشأن الثروة المستخلف عليها ممّن منحه تلك الخلافة قال الله تعالى :( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (٢) ، كما أنّ من نتائج هذه الخلافة أن يكون الإنسان مسئولا بين يدي من استخلفه خاضعاً لرقابته في كلّ تصرفاته وأعماله ، قال الله تعالى :( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (٣) .

والخلافة في الأصل هي للجماعة كلّها ؛ لأنّ هذه الخلافة عبّرت عن نفسها عملياً في إعداد الله تعالى لثروات الكون ووضعها في خدمة الإنسان والإنسان هنا هو العام الذي يشمل الأفراد جميعاً ، ولذا قال تعالى :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (٤) .

وأشكال الملكية بما فيها الملكية والحقوق الخاصة إنّما هي أساليب تتيح للجماعة ـ بإتباعها ـ أداء رسالتها في أعمار الكون واستثماره قال الله تعالى :( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) (٥) ، فالملكية والحقوق الخاصة التي منحت لبعض دون بعض فاختلفت

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأنعام : ١٣٣ .

(٢) سورة الحديد : ٧ .

(٣) سورة يونس : ١٤ .

(٤) سورة البقرة : ٢٩ .

(٥) سورة الأنعام : ١٦٥ .

٤٩٧

بذلك درجاتهم في الخلافة ، هي ضرب من الامتحان لمواهب الجماعة ومدى قدرتها على حمل الأعباء ، وقوّة دافعة لها على إنجاز مهامّ الخلافة ، والسباق في هذا المضمار وهكذا تصبح الملكية الخاصة في هذا الضوء أسلوباً من أساليب قيام الجماعة بمهمّتها في الخلافة ، وتتّخذ طابع الوظيفة الاجتماعية كمظهر من مظاهر الخلافة العامة ، لا طابع الحقّ المطلق والسيطرة الأصيلة ، وقد جاء عن الإمام الصادق أنّه قال :( إنّما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حيث وجّهها الله ، ولم يعطِِكموها لتكنزوها ) (١) .

ولما كانت الخلافة في الأصل للجماعة ، وكانت الملكية الخاصة أسلوباً لإنجاز الجماعة أهداف هذه الخلافة ورسالتها ، فلا تنقطع صلة الجماعة ولا تزول مسؤوليتها عن المال لمجرّد تملّك الفرد له ، بل يجب على الجماعة أن تحمي المال من سفه المالك إذا لم يكن رشيداً ؛ لأنّ السفيه لا يستطيع أن يقوم بدور صالح في الخلافة ولذا قال الله تعالى :( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ) (٢) ، ووجّه الخطاب إلى الجماعة ؛ لأنّ الخلافة في الأصل لها ، ونهاها عن تسليم أموال السفهاء إليهم ، وأمرها بحماية هذه الأموال والإنفاق منها على أصحابها ، وبالرغم من أنّه يتحدّث إلى الجماعة عن أموال السفهاء ، فقد أضاف الأموال إلى الجماعة نفسها فقال :( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ ) .

وفي هذا إشعار بأنّ الخلافة في الأصل للجماعة ، وأنّ الأموال أموالها بالخلافة ، وإن كانت أموالاً للأفراد بالملكية الخاصة

ـــــــــــــــ

(١) الفروع من الكافي ٤ : ٣٢ ، الحديث ٥ .

(٢) سورة النساء : ٥ .

٤٩٨

وقد عقبّت الآية على هذا الإشعار بالإشارة إلى أهداف الخلافة ورسالتها ، فوصفت الأموال قائلة :( أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ) ، فالأموال قد جعله الله للجماعة ، يعني : أنّه استخلف الجماعة عليها ، لا ليبذروها أو يجمّدوها ، وإنّما ليقوموا بحقّها ويستثمروها ويحافظوا عليه ، فإذا لم يتحقّق ذلك عن طريق الفرد ، فلتقم الجماعة بمسؤوليتها(١) .

وعلى هذا الأساس يستشعر الفرد المسؤولية في تصرّفاته المالية أمام الله تعالى ؛ لأنّه هو المالك الحقيقي لجميع الأموال ، كما يحسّ بالمسؤولية أمام الجماعة أيضاً ؛ لأنّ الخلافة لها بالأصل ، والملكية للمال إنّما هي مظهر من مظاهر تلك الخلافة وأساليبها ، ولهذا كان من حقّ الجماعة أن تحجر عليه إذا لم يكن أهلاً للتصرّف في ماله ، لصغرٍ أو سفهٍ(٢) ، وأن تمنعه عن التصرّف في ماله بشكل يؤدّي إلى ضرر بليغ بسواه(٣) ، وكذلك أن تضرب على يده ، إذا جعل من ماله مادّة للفساد والإفساد ، كما ضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يد سمرة ابن جندب وأمر بقطع نخلته الخاصّة ورميها ؛ حين اتّخذها مادّة فساد ، وقال له :( إنّك رجلٌ مُضار ) (٤) .

وحين أعطى الإسلام للملكية الخاصة مفهوم الخلافة ، جرّدها عن كلّ الامتيازات المعنوية التي اقترنت بوجودها على مرّ الزمن ، ولم يسمح للمسلم بأن

ـــــــــــــــ

(١) اتبعنا هنا في فهم الآية أحد الوجوه المحتملة التي ذكرها المفسّرون في تفسيرها. (المؤلّف قدّس سرّه) راجع : الميزان في تفسير القرآن ٤ : ١٧٠

(٢) راجع جواهر الكلام ٢٦ : ٣ ـ ٤ و ٤٨ و ٥٢ .

(٣) راجع : رسائل فقهية للشيخ الأنصاري (رسالة نفي الضرر) : ١٢٢ ، والعناوين ١ : ٣٣٢ وما بعدها .

(٤) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٩ ، الباب١٢ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٣ ، ٤ .

٤٩٩

ينظر إليها بوصفها مقياساً للاحترام والتقدير في المجتمع الإسلامي ، ولا أن يقرنها بنوع من القيمة الاجتماعية في العلاقات المتبادلة ، حتى جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا أن :( مَن لقي فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني ، لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عليه غَضبان ) (١) ، وندّد القرآن الكريم تنديداً رائعاً بالأفراد الذين يقيسون احترامهم للآخرين وعنايتهم بهم بمقاييس الثروة والغني ، فقال : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) ، وبهذا أعاد الإسلام الملكية إلى وضعها الطبيعي وحقلها الأصيل بوصفها لوناً من ألوان الخلافة ، وصمّمها ضمن الإطار الإسلامي العام بشكل لا يسمح لها بأن تعكس وجودها على غير ميدانها الخاص ، أو تخلق مقاييس مادّية للاحترام والتقدير ؛ لأنّها خلافة وليست حقّاً ذاتياً .

وفي الصور الرائعة التي يتحدّث فيها القرآن الكريم عن مشاعر الملكيّة الخاصة وانعكاساتها في النفس البشرية ما يكشف بوضوح عن إيمان الإسلام بأنّ مشاعر الامتياز ومحاولات التمديد للملكية الخاصة إلى غير مجالها الأصيل تنبع في النهاية من الخطأ في مفهوم الملكية واعتبارها حقّاً ذاتياً لا خلافة لها مسؤولياتها ومنافعها .

ولعل من أروع تلك الصور قصّة الرجلين اللذين أغنى الله أحدهما واستخلفه على جنّتين من جنّات الطبيعة :( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٦٤ ، الباب ٣٦ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل .

(٢) سورة عبس : ١ ـ ١٠ .

٥٠٠