اقتصادنا

اقتصادنا5%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152586 / تحميل: 9465
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

الانتفاع به فعلاً ، بل مجرّد الفرصة التي خلقها بعمله يخوّله الحقّ فيه ؛ لأنّ هذه الفرصة ملك للعامل الذي خلقها ، سواء فكّر فعلاً في الانتفاع بصيده وبادر إلى حيازته أو لا .

وبهذا كان الصياد نظير العامل الذي يحيي الأرض ، فكما لا يجوز لفرد آخر أن يستثمر الأرض ويزرعها ، ولو لم يمارس المحيي الانتفاع بها فعلاً ، كذلك لا يصحّ لغير العامل الذي ذللّ الصيد وقضى على مقاومته أخذ الصيد ما دام الصياد محتفظاً بحقّه ، ولو لم يبادر إلى حيازته فعلاً .

ولكنّ الطير الذي شلّت حركته نتيجة لاصطياده ، إذا استطاع قبل أن يبادر الصيّاد إلى حيازته أن يسترجع قواه ، أو يتغلّب على الصدمة ، ويحلّق في الجوّ من جديد ، زال عنه حقّ الصيّاد ؛ لأنّ هذا الحقّ كان يعتمد على تملك العامل للفرصة التي أنتجها بالصيد ، وهذه الفرصة تتلاشى بهروب الطائر في الجوّ ، فلا يبقى للصائد حقّ في الطير(*) . وهو في هذا يشبه أيضاً العامل الذي يُحيي الأرض ويكتسب حقّه فيها على هذا الأساس ، إذ يفقد حقّه في الأرض إذا انطفأت فيها الحياة ورجعت مَوَاتاً من جديد ؛ والسبب نظريّاً واحدٌ في الحالتين ، وهو أنّ حقّ الفرد في الثروة يرتبط بتملّكه للفرصة التي تنتج عن عمله ، فإذا زالت تلك الفرصة وانعدم أثر ذلك العمل زال حقّه في الثروة .

فالصيد في أحكامه إذن حين ينظر إليه بصورة مستقلّة عن الحيازة يشابه إحياء المصادر الطبيعية وهذا التشابه ينبع ـ كما رأينا ـ من وحدة التفسير النظري لحقّ العامل في صيده ، وحقّ العامل في الأرض الميّتة التي أحياها .

ـــــــــــــــ

(*) راجع : الملحق رقم ١٣ وجواهر الكلام ٣٦ : ٢٠٩ .

٤٨١

دور الحيازة للثروات المنقولة :

وأمّا الحيازة ، فهي تختلف عن الصيد المجرّد في أحكامها ، ولهذا نجد أنّ الفرد إذا ملك طيراً بالحيازة ودخل في حوزته ، أصبح من حقّه استرجاعه إذا طار وامتنع فاصطاده آخر ، وليس للآخر الاحتفاظ به ، بل يجب عليه ردّه إلى من كان الطير في حوزته(١) ؛ لأنّ الحقّ المستند إلى الحيازة حقّ مباشر ، بمعنى : أنّ الحيازة سبب مباشر لتملّك الطير ، وليس تملّك الطير مرتبطاً بتملّك فرصة معيّنة ليزول بزوالها .

وهذا هو الفرق بين الحيازة وغيرها من العمليات التي مرّت بنا ، فالصيد كان سبباً لامتلاك الصائد للفرصة التي أنتجها ، وقام على هذا الأساس حقّه في الطير ، والإحياء كان سبباً لامتلاك العامل للفرصة التي نجمت عن الإحياء ونتيجة لذلك حصل على حقّه في المِرفَق الذي أحياه ، وأمّا حيازة الثروات المنقولة فهي بمجردها سبب أصيل ومباشر لتملّك الثروة .

وهذا الفرق بين الحيازة وغيرها من الأعمال ،يحتّم علينا مواجهة السؤال التالي على الصعيد النظري : إذا كان حقّ الفرد في المصدر الطبيعي الذي أحياه ، أو في الصيد الذي اصطاده ، يقوم على أساس امتلاكه نتيجة عمله ، وهي فرصة الانتفاع بذلك المصدر ، فعلى أيّ أساس يقوم حقّ الفرد في الحجر الذي يلقاه في الطريق ، فيأخذه لنفسه ؟ أو حقّه في الماء الراكد الذي يحوزه من بحيرة طبيعية ؟ مع أن حيازته هذه للحجر أو للماء لم تنتج فرصة عامة جديدة في المال ، كما ينتج الصيد وإحياء الأرض .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : جواهر الكلام ٣٦ : ٢٠٢ ـ ٢٠٤ .

٤٨٢

والجواب على هذا السؤال : أنّ حقّ الفرد هذا لا يَستَمد مبرّره من تملّك الفرد لفرصة نتجت عن عمله ، وإنّما يبرّره انتفاع الفرد بذلك المال ، فكما أنّ من حقّ كلّ عامل أن يمتلك الفرصة التي ينتجها عمله ، كذلك من حقّه أن ينتفع بالفرصة التي هيأتها له الطبيعة بعناية الله تعالى فالماء ـ مثلاً ـ إذا كان في أعماق الأرض وكشفه الفرد بالحفر ، فقد خلق فرصة الانتفاع به وأصبح جديراً بامتلاك هذه الفرصة وأمّا إذا كان الماء مجتمعاً طبيعياً على سطح الأرض ، وكانت فرصة الانتفاع به ناجزة بدون جهد من الإنسان ، فلا بدّ أن يتاح لكلّ فردٍ أن يمارس انتفاعه بذلك الماء ، ما دامت الطبيعة قد كفتهم العمل ومنحتهم فرصة الانتفاع .

فإذا افترضنا فردا اغترف بإنائه من الماء المجتمع طبيعياً على وجه الأرض ، فقد مارس عملاً من أعمال الانتفاع والاستثمار، في مفهوم النظرية كما مر بنا في مستهلّ البحث وما دام من حقّ كلّ فردٍ أن ينتفع بالثروة التي تقدّمها الطبيعة بين يدي الإنسان ، فمن الطبيعي أن يسمح للفرد بحيازة الماء المكشوف على وجه الأرض من مصادره الطبيعية ، لأنّها عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار وليست عملاً من أعمال الاحتكار والقوّة .

وإذا احتفظ الفرد بالماء الذي حازه كان له ذلك ، ولا يجوز لآخر أن ينازعه فيه ، أو ينتزعه منه وينتفع به ؛ لأنّ النظرية ترى حيازة الماء وما إليه من الثروات المنقولة عملاً من أعمال الانتفاع ، فما دامت الحيازة مستمرّة فالانتفاع مستمرٌ إذن من قبل الحائز ، وما دام الحائز مواصلا لانتفاعه بالثروة ، فلا مبرّر لتقديم فردٍ آخر عليه في الانتفاع بها إذا أراد .

وهكذا يظلّ الفرد متمتّعاً بحقّه في الثروة المنقولة التي حازها ، ما دامت

٤٨٣

الحيازة مستمرّة حقيقة أو حكماً(١) . فإذا تنازل الفرد عن حيازته بإهمال المال والإعراض عنه ، انقطع انتفاعه به ، وسقط بسبب ذلك حقّه في المال ، وأصبح لأيّ فردٍ آخر الاستيلاء عليه والانتفاع به .

وهكذا يتّضح أنّ حقّ الفرد في الماء الذي حازه من البحيرة ، أو الحجر الذي أخذه من الطريق العام ، لا يستند إلى تملّكه لفرصة عامة ناجمة عن عمله ، وإنّما يقوم على أساس ممارسة الفرد للانتفاع بتلك الثروة الطبيعية عن طريق حيازته لها .

وفي هذا الضوء نستطيع أن نضيف إلى المبدأ المتقدّم في النظرية ، القائل :إنّ كلّ عامل يملك نتيجة عمله . مبدأ جديداً ، وهو :أنّ ممارسة الفرد للانتفاع بثروة طبيعية ، يجعل له حقّاً فيها مادام مواصلاً لانتفاعه بتلك الثروة .

ولمّا كانت الحيازة في مجال الثروات المنقولة عملاً من أعمال الانتفاع ، فيستوعبها هذا المبدأ ويقيم على أساسها حقّاً للفرد في الثروة التي حازها .

تعميم المبدأ النظري للحيازة :

وهذا المبدأ لا ينطبق على الثروات المنقولة فحسب ، بل ينطبق على

ـــــــــــــــ

(١) نريد باستمرار الحيازة حكماً : الحالات التي تنقطع فيها الحيازة لسبب اضطراري ، كالنسيان والضياع والاغتصاب ، ونحو ذلك ، فإنّ الشريعة تعتبر الحيازة وممارسة الانتفاع مستمرّة حكماً ، ولذا تأمر بإرجاع المال الضائع أو المغتصب إلى حوزة صاحبه ، ومردّ هذا الاعتبار في الحقيقة إلى التأكيد على العنصر الاختياري ، وسلب الأثر عن حالات الاضطرار في مختلف مجالات التشريع (المؤلّفقدس‌سره )

٤٨٤

المصادر الطبيعية أيضاً ، إذا مارسها الفرد بعمل من أعمال الانتفاع ، كما إذا زرع أرضاً عامرة بطبيعتها ، فإن زراعته لها عمل من أعمال الانتفاع ، فيكسب على أساس ذلك حقّاً في الأرض يمنع الآخرين من مزاحمته ، وانتزاع الأرض منه ، مادام يواصل انتفاعه بها ، ولكن ليس معنى هذا أنّ مجرّد حيازة الأرض مثلاً تكفي لاكتساب هذا الحقّ فيه ، كحيازة الماء ؛ لأنّ حيازة الأرض ليست من أعمال الانتفاع والاستثمار ، وإنّما ينتفع بالأرض العامرة عن طريق زراعتها مثلاً ، فإذا باشر العامل الزراعة في أرض عامرة بطبيعتها ، وواصل هذا النوع من الانتفاع بها ، لم يجز لآخر انتزاع الأرض منه مادام العامل مستمراً في زراعتها ؛ لأنّ الآخر ليس أولى بها ممّن ينتفع بها فعلاً وأمّا إذا ترك العامل زراعتها والانتفاع بها ، فلا يبقى له الحقّ في الاحتفاظ بها ، ويجوز عندئذٍ لفردٍ آخر ممارستها في عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار .

ونلاحظ في حال ترك الفرد الانتفاع بالأرض الفرق بين المبدأين ، فحقّ الفرد الذي يقوم على أساس مواصلة الانتفاع بثروة طبيعية يزول بمجرّد ترك الفرد للانتفاع بالأرض وعدم مواصلته ، بينما يظلّ الحقّ القائم على أساس تملّك العامل للفرصة التي يخلقها ثابتاً ، ما دامت الفرصة باقية وجهود العامل مجسّدة في الأرض ، ولو لم يكن يمارس الانتفاع بالأرض فعلاً .

تلخيص النتائج النظرية :

يمكننا أن نستنتج الآن من دراسة النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج مبدأين أساسين في هذه النظرية :

أحدهما : أنّ العامل الذي يمارس شيئاً من ثروات الطبيعة الخام يملك نتيجة عمله ، وهي الفرصة العامة للانتفاع بتلك الثروة ، ونتيجة لتملك العامل هذه الفرصة

٤٨٥

يكون له الحقّ في نفس المال تبعاً لما تفرضه ملكيته للفرصة التي أنتجها عمله ويرتبط حقّه في المال بملكية هذه الفرصة ، فإذا انعدمت وزالت الفرصة التي خلقها سقط حقّه في المال .

والمبدأ الآخر : أنّ ممارسة الانتفاع بأيّ ثروة طبيعية تمنح الفرد الممارس حقّاً ، يمنع الآخرين عن انتزاع الثروة منه مادام يواصل استفادته منها ويمارس أعمال الانتفاع والاستثمار ؛ لأنّ غيره ليس أولى منه بالثروة التي يمارسها لتنتزع منه وتعطى للغير .

وعلى أساس المبدأ الأوّل تقوم الأحكام التي نظّمت الحقوق في عمليات الإحياء والصيد وعلى أساس المبدأ الثاني ترتكز أحكام الحيازة للثروات المنقولة ، التي وفرّت الطبيعة فرصة الانتفاع بها للإنسان .

فخلق فرصة جديدة في ثروة طبيعية ، والانتفاع المستمر بثروة توفّرت فيها الفرصة طبيعياً ، هما المصدران الأساسيان للحقّ الخاص في الثروات الطبيعية

والطابع المشترك لهذين المصدرين هو الصفة الاقتصادية ، فإنّ كُلاً من خلق فرصة جديدة ، أو الانتفاع بثروة على أساس الفرصة المتاحة طبيعياً ، يعتبر ذا صفة اقتصادية ، وليس من أعمال القوّة والاستئثار .

٤٨٦

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج

الملاحَظـات

١ ـ دراسة مقارنة للنظرية الإسلامية

٢ ـ ظاهرة الطَّسق وتفسيرها نظرياً

٣ ـ التفسير الخُلُقي للملكية في الإسلام

٤ ـ التحديد الزمني للحقوق الخاصة

٤٨٧

١ ـ دراسة مقارنة للنظرية الإسلامية .

رأينا أنّ الشريعة تسمح للأفراد باكتساب الحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية ضمن الحدود التي تقرّرها النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج ، والتصميم النظري لهذه الحقوق يختلف عن تصميمها في النظريات الرأسمالية والماركسية .

ففي المذهب الرأسمالي يسمح لكلّ فرد بتملّك المصادر الطبيعية على أساس مبدأ الحرّية الاقتصادية ، فكلّ ثروة يسيطر عليها الفرد يمكنه أن يعتبرها ملكاً له ، ما لم يتعارض ذلك مع حرّية التملّك الممنوحة للآخرين فالمجال المسموح به من الملكية الخاصة لكلّ فردٍ لا يحدّده إلاّ صيانة حقّ الأفراد الآخرين في حرّية التملّك وهكذا يستمدّ الفرد مبرّر ملكيّته من كونه حرّاً ، وغير مزاحم للآخرين في حرّياتهم .

وأمّا النظرية العامة للتوزيع التي درسناها فلا تعترف بحرّية التملّك بمفهومها الرأسمالي ، وإنّما تعتبر حقّ الفرد في المصدر الطبيعي الخام مرتبطاً بتملّكه لنتيجة عمله ، أو انتفاعه المباشر المستمرّ بذلك المصدر ، ولهذا يزول الحقّ إذا فقد كِلا هذين الأساسين .

٤٨٨

فالحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية تعتبر رأسمالياً مظهراً من مظاهر حرّية الإنسان التي يتمتّع بها في ظلّ النظام الرأسمالي ، بينما هي في الإسلام مظهر من مظاهر نشاط الإنسان وممارسته لأعمال الانتفاع والاستثمار .

وأمّا الماركسية فهي تؤمن بإلغاء كلّ لون من ألوان الملكية الخاصة للمصادر الطبيعية ، وسائر وسائل الإنتاج ، وتدعو إلى تحرير تلك الوسائل من الحقوق الخاصة ، إذ لم يعدّ لها مبرّر منذ دخل التأريخ المرحلة المحدّدة التي دقّت الصناعة الآلية أجراسها في عصر الإنسان الرأسمالي الحديث .

وإيمان الماركسية بضرورة هذا الإلغاء لا يعني ـ من الناحية النظرية التحليلية ـ أنّ الملكية الخاصة لا مبرّر لها في المفهوم الماركسي إطلاقاً ، وإنّما يعبّر عن إيمانها مذهبياً بأنّ الملكية الخاصة قد استنفدت كلّ أغراضها في حركة التأريخ ، ولم يبقَ لها مجال في تيار التأريخ الحديث ، بعد أن فقدت مبرّراتها وأصبحت قوّة معاكسة للتيّار .

ولكي نقارن بين النظرية الماركسية والإسلام ، يجب أن نعرف ما هي المبرّرات في النظرية الماركسية للملكيّة الخاصة ، وكيف فقدت في عصر الإنتاج الرأسمالي هذه المبرّرات ؟(١)

ـــــــــــــــ

(١) نريد هنا بالنظرية الماركسية ، النظرية الاقتصادية للمذهب الماركسي لا نظرية ماركس في تفسير التأريخ وتحليله ؛ فإنّ الملكية تدرّس تارّة بوصفها ظاهرة تأريخية ، وهي بهذا الوصف تبرّر ماركسياً على أساس نظرية ماركس في التأريخ ، بظروف التناقض الطبقي وشكل الإنتاج ونوع القوى المنتجة وتدرس الملكية الخاصة تارّة أخرى على أساس اقتصادي بحت لاكتشاف مبرّراتها التشريعية لا المبرّر التأريخي لوجودها وفي هذه المرّة يجب التفتيش عن مبرّراتها الماركسية في نظرية ماركس في القيمة والعمل والقيمة الفائضة (المؤلّفقدس‌سره )

٤٨٩

إنّ الماركسية ترى : أنّ جميع الثروات الطبيعية الخام ليس لها بطبيعتها قيمة تبادلية ، وإنّما لها منافع استعمالية كثيرة ؛ لأنّ القيمة التبادلية لا توجد في ثروة إلاّ نتيجة لعمل بشري متجسّد فيها فالعمل هو الذي يخلق القيمة التبادلية في الأشياء ، والثروات الخام في وضعها الطبيعي لم تندمج مع عمل إنساني محدّد فلا قيمة لها من الناحية التبادلية. وبهذا تربط الماركسية بين القيمة التبادلية والعمل ، وتقرّر أنّ العامل الذي يمارس مصدراً طبيعياً ، أو ثروة من ثروات الطبيعة ، يمنح المال الذي يمارسه قيمة تبادلية بقدر كمّية العمل الذي ينفقه عليه .

وكما تربط الماركسية بين العمل والقيمة التبادلية ، تربط أيضاً بين القيمة التبادلية والملكية ، فتمنح الفرد الذي يخلق بعمله قيمة تبادلية في المال حقّ ملكية ذلك المال والتمتع بتلك القيمة التي خلقها فيه فتملّك الفرد للثروة يستمدّ مبرّره النظري في الماركسية من وصفه خالقاً للقيمة التبادلية في تلك الثروة ، نتيجة لما بذله عليها من عمل وهكذا يصبح للفرد على أساس النظرية هذه حقّ تملّك المصدر الطبيعي ووسائل الإنتاج الطبيعية ، إذا استطاع أن ينفق عليها شيئاً من الجهد ، ويمنحها قيمة تبادلية معيّنة وهذه الملكية تبدو في الحقيقة على ضوء النظرية الماركسية ملكية للنتيجة التي يسفر عنها العمل ، لا للمصدر الطبيعي منفصلاً عن تلك النتيجة ، ولكن هذه النتيجة التي يملكها العامل ليست هي فرصة الانتفاع بوصفها حالة ناتجة عن العمل ، كما رأينا في النظرية العامة للإسلام في توزيع ما قبل الإنتاج ، بل هي القيمة التبادلية التي تنشأ عن العمل في رأي الماركسية فالعامل يمنح المصدر الطبيعي قيمة معيّنة ، ويتملّك هذه القيمة التي أسبغها على المال .

وتعلية على هذا الأساس الماركسي لتبرير الملكية الخاصة تقرّر الماركسية : أنّ هذه الملكية تظلّ مشروعة ما لم تدخل في عصر الإنتاج الرأسمالي ، الذي يدفع فيه المالكون المصادر والوسائل التي يملكونها إلى من لا يملكون شيئاً ، ليعملوا فيها بأجور ويسلّموا الأرباح إلى مالكي تلك المصادر والوسائل ، فإنّ هذه الأرباح سوف تعادل قيمتها خلال زمن قصير نسبياً القيمة التبادلية للمصادر والوسائل وبذلك يكون المالك قد استوفى كلّ حقّه في تلك المصادر والوسائل ؛ لأنّ حقّه كان مرتبطاً بالقيمة التي نتجت عن عمله في تلك المصادر ، مادام قد حصل على هذه القيمة مجسدة في الأرباح التي تقاضاها ، فقد انقطعت بذلك صلته بالمصادر والوسائل التي كان يملكها وهكذا تفقد الملكية الخاصة مبرّراتها ، وتصبح غير مشروعة في النظرية الماركسية ، بدخول عصر الإنتاج الرأسمالي أو العمل المأجور .

٤٩٠

وعلى هذا الأساس الذي يربط ملكية العامل بالقيمة التبادلية ، تفسح الماركسية لعامل آخر ـ إذا مارس الثروة ـ أن يملك القيمة الجديدة التي تنتج عن عمله ، فإذا ذهب فرد إلى الغابة واقتطع من أخشابها وأنفق على الخشب جهداً حتى جعله لوحاً ، ثمّ جاء آخر فجعل من اللوح سريراً ، أصبح كلّ منهما مالكاً بقدر القيمة التبادلية التي أنتجها عمله ولهذا تعتبر الماركسية الأجير في النظام الرأسمالي هو المالك لكلّ القيمة التبادلية التي تكتسبها المادّة عن طريق عمله ، ويكون اقتطاع مالك المادة جزءاً من هذه القيمة باسم الأرباح سرقة من الأجير .

فالقيمة مرتبطة بالعمل ، والملكية إنّما هي في حدود القيمة التي تنتج عن عمل المالك .

هذه هي المبررات الماركسية للملكية الخاصة، التي يمكن تلخيصها في القضيتين التاليتين :

١ ـ القيمة التبادلية مرتبطة بالعمل وناتجة عنه .

٢ ـ وملكية العامل مرتبطة بالقيمة التبادلية التي يخلقها عمله .

ونحن نختلف عن الماركسية في كلتا القضيتين .

أمّا القضية الأولى التي تربط القيمة التبادلية بالعمل ، وتجعل منه المقياس الأساسي الوحيد لها ، فقد درسناها بكلّ تفصيل في بحوثنا مع الماركسية من هذا الكتاب ، واستطعنا أن نبرهن على أنّ القيمة التبادلية لا تنبع بصورة أساسية من العمل وبذلك تنهار جميع اللبنات الفوقية التي شادتها الماركسية على أساس هذه القضية(١) .

وأمّا القضية الأخرى التي تربط ملكية الفرد بالقيمة التبادلية التي تتولّد عن العمل ، فهي تتعارض مع اتجاه النظرية العامة للإسلام في توزيع ما قبل الإنتاج ؛ لأنّ الحقوق الخاصة للأفراد في المصادر الطبيعية وإن كانت تقوم في الإسلام على أساس امتلاك الفرد نتيجة عمله ، ولكن نتيجة العمل التي يمتلكها العامل الذي أحيى قطعة من الأرض خلال عمل أسبوع مثلاً ليست هي القيمة التبادلية التي ينتجها عمل أسبوع كما ترى الماركسية ، بل النتيجة التي يملكها العامل في الأرض التي أحياها هي فرصة الانتفاع بتلك الأرض، وعن طريق تملّك هذه الفرصة ينشأ حقّه الخاص في الأرض نفسها ، وما دامت هذه الفرصة قائمة يعتبر حقّه في الأرض ثابتاً ، ولا يجوز لآخر أن يتملّك الأرض بإنفاق عمل جديد عليها ولو ضاعف العمل الجديد قيمتها التبادلية ؛ لأنّ فرصة الانتفاع بالأرض ملك الأوّل ولا يجوز مزاحمته فيها .

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الكتاب الأوّل ، مبحث القيمة أساس العمل .

٤٩١

وهذا هو الفارق الأساسي من الناحية النظرية بين الأساس الماركسي الخاص في المصدر الطبيعي ، وبين الأساس الإسلامي فمردّ الحقّ الخاص على الأساس الأوّل إلى امتلاك العامل القيمة التبادلية التي اكتسبتها الأرض من عمله فحسب ، ومردّه على الأساس الثاني إلى امتلاك العامل الفرصة الحقيقية التي أنتجها العمل في الأرض .

فالمبدأ القائل : إنّ الحقوق الخاصة في المصادر الطبيعية تقوم على أساس العمل ، وأنّ العامل يتملّك النتيجة الواقعية لعمله ، يعكس النظرية الإسلامية .

والمبدأ القائل : إنّ القيمة التبادلية لمصادر الطبيعة تقوم على أساس العمل ، وملكية العامل تحدّدها القيمة التبادلية التي خلقها ، يعكس النظرية الماركسية .

والفرق الرئيسي بين هذين المبدأين هو مصدر كلّ الاختلافات التي سوف نجدها بين الإسلام والماركسية في توزيع ما بعد الإنتاج .

٢ ـ ظاهرة الطَّسق وتفسيرها نظرياً :

نجد في البناء العُلْوي الذي ينظم توزيع ما قبل الإنتاج في الإسلام ، ظاهرة خاصة قد يبدو أنّها تميز الأرض عن غيرها من المصادر الطبيعية ، فلا بد من دراستها بصورة خاصة ، وتفسيرها في ضوء النظرية العامة للتوزيع ، أو ربطها بنظرية أخرى من المذهب الاقتصادي في الإسلام .

وهذه الظاهرة هي (الطَّسق ) ، الذي سمحت الشريعة للإمام بأخذه من الفرد إذا أحيى أرضاً وانتفع بها فقد جاء في الحديث الصحيح(١) ، وفي بعض النصوص

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ـ ٤١٥ ، الباب ٣ من أبواب إحياء المَوَات ، الحديث ٢ .

٤٩٢

الفقهية للشيخ الطوسي: أنّ للفرد أن يحيي أرضاً مَيتَة وعليهطَسقها (=أُجرتها ) يؤدّيه للإمام(١) .

فما هو المبرّر النظري لهذا الطَّسق ؟ ولماذا اختصت به الأرض دون غيرها من منابع الثروة فلم يكلف الذين يحيون المنابع الأخرى بدفع شيء من غلتها ؟

والحقيقة أنّ هذا الطَّسق الذي سمح للإمام بفرضه على الأرض الميتة عند إحياء الفرد لها يمكن تكييفه مذهبياً وتفسيره من الناحية النظرية على أساسين :

الأوّل: على أساس النظرية العامة في التوزيع نفسها ، فنحن إذا لاحظنا أنّ الطَّسق أجرة يتقاضاها الإمام على الأرض بوصفها من الأنفال ، وعرفنا إضافة إلى ذلك أنّ الأنفال يستخدمها الإمام في مصالح الجماعة كما سيأتي في بحث مقبل ، وقارنا بين إلزام صاحب الأرض بالطَّسق ، وإلزام صاحب العين والمنجم بالسماح للآخرين بما زاد على حاجته من العين وما لا يتعارض مع حقه في المنجم ، إذا جمعنا كلّ ذلك ، تكامل لدينا بناء عُلْوي من التشريع يسمح لنا باستنتاج مبدأ جديد في النظرية ، يمنح الجماعة حقاً عاماً في الاستفادة من مصادر الطبيعة ؛ لأنّها موضوعة في خدمة الإنسانية بشكل عام( خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (٢) . وهذا الحق العام للجماعة لا يزول باكتساب المصادر الطبيعية طابع الحقوق الخاصة ، وإنّما تحدّد الشريعة طريقة استفادة الجماعة من هذا الحقّ بالشكل الذي لا يتعارض مع تلك الحقوق الخاصة .

ففي المناجم والعيون التي يحييها الأفراد يتاح للجميع الاستفادة منها بشكل مباشر ، لأنّ لكلّ فرد أن يستفيد من عروق المنجم إذا حفر من موضع آخر ، كما أنّ له أن يستقي من عين الماء إذا زادت على

ـــــــــــــــ

(١) راجع : المبسوط ٢ : ٢٩ .

(٢) سورة البقرة : ٢٩ .

٤٩٣

حاجة مستنبطها. وأمّا الأرض فلمّا كانت بطبيعتها لا تسمح لانتفاع فردين بها في وقت واحد ، فقد شُرع الطَّسق الذي ينفقه الإمام على مصالح الجماعة ليتاح للآخرين الاستفادة عن هذا الطريق ، بعد أن حال الحقّ الخاص لصاحب الأرض الذي أحياها عن انتفاع الآخرين بتلك الأرض انتفاعاً مباشراً.

الثاني : أنّ نفسرالطَّسق بصورة منفصلة عن النظرية العامة للتوزيع ، وذلك على أساس أنّه ضريبة تتقاضاها الدولة لصالح العدالة الاجتماعية ؛ لأنّنا سوف نرى عند دراسة الأنفال ووظيفتها في الاقتصاد الإسلامي أنّ من أهم أغراض الأنفال في الشريعة الضمان الاجتماعي وحماية التوازن العام وما دامالطَّسق يعتبر تشريعياً من الأنفال فمن المعقول أن يعتبر ضريبة نابعة من النظرية العامة في العدالة الاجتماعية وما تضمّ من مبادئ الضمان والتوازن العام وإنّما اختصّت الأرض بهذه الضريبة الضخمة لأهميّتها ولخطورة دورها في الحياة الاقتصادية ، فَشُرِّعت هذه الضريبة وقاية للمجتمع الإسلامي من أعراض الملكيّة الخاصة للأرض ، التي منيت بها المجتمعات غير الإسلامية ، ومقاومة لمآسي الريع العقاري التي ضجّ بها تأريخ الأنظمة البشرية ، ودوره في إشاعة الفروق والتناقضات وتعميقها ويشابه الطَّسق على هذا الأساس الخمس الذي فرض ضريبة على ما يستخرج من المعدن.

وفي النهاية وقد قدّمنا هذين التفسيرين النظريين لـ: ( الطَّسق ) ، يمكننا أن نردّ أحدهما إلى الآخر في نظرة أشمل وأوسع ، فنفسّر الطَّسق بأنّه ضريبة سمح للإمام بفرضها لأغراض الضمان والتوازن وحماية الأفراد الضعفاء في الجماعة ، ونفسر هذه الأغراض نفسها وحتميّة تنفيذها على الأفراد الأقوياء بما للجماعة من حقّ عام مسبق في مصادر الطبيعة ، يجعل لها على الأفراد الذين يحيون تلك المصادر ويستثمرونها الحقّ في حماية مصالحها وإنقاذ ضعفائها .

٤٩٤

٣ ـ التفسير الخُلُقي للملكية في الإسلام :

كنّا ندرس الملكية والحقوق الخاصة حتى الآن على ضوء النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج ، فالبحث كان يقوم على أساس المذهب الاقتصادي وفي خلال البحث استطعنا أن نقدّم للملكية والحقوق الخاصة تفسيراً نظرياً يعكس وجهة نظر المذهب الاقتصادي في الإسلام ونريد الآن أن نقدّم للملكية تفسيرها الخُلُقي في الإسلام وأريد بالتفسير الخُلُقي للملكية الخاصة : استعراض التصوّرات المعنوية التي أعطاها الإسلام عن الملكية ودورها وأهدافها ، وعمل لإشاعتها بين الأفراد لتصبح قوى موجّهة للسلوك ، ومؤثّرة على تصرّفات الأفراد التي تتّصل بملكيّاتهم وحقوقهم الخاصة .

وقبل أن نأخذ بالتفصيلات في التفسير الخُلقي للملكية ، يجب أن نميّز بكلّ وضوح بينه وبين التفسير المذهبي للملكية الذي عالجناه فيما تقدّم من وجهة نظر اقتصادية ولكي يتاح لنا هذا التمييز يمكننا أن نستعير من تفصيلات التفسير الخُلُقي الآتية مفهوم الخلافة ؛ لنقارن بينه وبين النظرية العامة في التوزيع التي فسّرنا الحقوق الخاصة على أساسها من وجهة نظر المذهب الاقتصادي .

فالخلافة تُضفي طابع الوكالة على الملكية الخاصة ، وتجعل من المالك أميناً على الثروة ووكيلاً عليها من قبل الله تعالى الذي يملك الكون وجميع ما يضمّ من ثروات وهذا التصوّر الإسلامي الخاص لجوهر الملكية متى تركّز وسيطر على ذهنية المالك المسلم ، أصبح قوّة موجّهة في مجال السلوك ، وقيداً صارماً يفرض على المالك التزام التعليمات والحدود المرسومة من قبل الله عزّ وجلّ ، كما يلتزم الوكيل الخليفة دائماً بإرادة الموكِّل والمستخلِف .

٤٩٥

ونحن إذا فحصنا هذا المفهوم ، وجدنا أنّه لا يفسّر مبرّرات الملكية الخاصة من وجهة نظر مذهبية في الاقتصاد ؛ لأنّ الملكية الخاصة سواء كانت خلافة أم أيّ شيء آخر تثير السؤال عن مبرّراتها المذهبية التي تفسّرها ، فلماذا جعلت هذه الخلافة والوكالة لهذا الفرد دون سواه ؟ ومجرّد كونها وكالة ليس جواباً كافياً على هذا السؤال ، وإنّما نجد الجواب عليه في التفسير الاقتصادي للملكية الخاصة على أسس معيّنة ، كأساس العمل وصلة العامل بنتائج عمله .

وهكذا نعرف أنّ إسباغ طابع الوكالة والخلافة على الملكية الخاصة ـ مثلاً ـ لا يكفي لصوغ نظرية عامة في التوزيع ؛ لأنّه لا يفسّر هذه الظاهرة تفسيراً اقتصادياً ، وإنّما يخلق هذا الطابع نظرة خاصة إلى الملكية تقوم على أساس أنّها مجرّد وكالة أو خِلافة وهذه النظرة إذا نشأت وسادت وأصبحت عامة لدى أفراد المجتمع الإسلامي ، أصبح لها من القوّة ما يحدّد سلوك الأفراد ، ويعدّل من الانعكاسات النفسية للملكية ويطوّر من المشاعر التي توحي بها الثروة إلى نفوس الأغنياء وبذلك يصبّ مفهوم الخلافة قوّة محرّكة موجّهة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية .

فالتفسير الخُلقي للملكية إذن يبرّر تلك التصوّرات عن الملكية التي يتلقّاها كلّ مسلم عادة من الإسلام ، ويتكيّف بها نفسيّاً وروحياً ، ويحدّد مشاعره ونشاطه وفقاً لها .

وأساس هذه التصوّرات هو مفهوم الخلافة الذي أشرنا إليه ، فالمال مال الله وهو المالك الحقيقي ، والناس خلفاؤه في الأرض وأمناؤه عليها وعلى ما فيها من أموال وثروات قال الله تعالى :( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاّ مَقْتاً ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) سورة فاطر : ٣٩ .

٤٩٦

والله تعالى هو الذي منح الإنسان هذه الخلافة ، ولو شاء لانتزعها منه( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ ) (١) .

وطبيعة الخلافة تفرض على الإنسان أن يتلقى تعليماته بشأن الثروة المستخلف عليها ممّن منحه تلك الخلافة قال الله تعالى :( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (٢) ، كما أنّ من نتائج هذه الخلافة أن يكون الإنسان مسئولا بين يدي من استخلفه خاضعاً لرقابته في كلّ تصرفاته وأعماله ، قال الله تعالى :( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (٣) .

والخلافة في الأصل هي للجماعة كلّها ؛ لأنّ هذه الخلافة عبّرت عن نفسها عملياً في إعداد الله تعالى لثروات الكون ووضعها في خدمة الإنسان والإنسان هنا هو العام الذي يشمل الأفراد جميعاً ، ولذا قال تعالى :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (٤) .

وأشكال الملكية بما فيها الملكية والحقوق الخاصة إنّما هي أساليب تتيح للجماعة ـ بإتباعها ـ أداء رسالتها في أعمار الكون واستثماره قال الله تعالى :( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) (٥) ، فالملكية والحقوق الخاصة التي منحت لبعض دون بعض فاختلفت

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأنعام : ١٣٣ .

(٢) سورة الحديد : ٧ .

(٣) سورة يونس : ١٤ .

(٤) سورة البقرة : ٢٩ .

(٥) سورة الأنعام : ١٦٥ .

٤٩٧

بذلك درجاتهم في الخلافة ، هي ضرب من الامتحان لمواهب الجماعة ومدى قدرتها على حمل الأعباء ، وقوّة دافعة لها على إنجاز مهامّ الخلافة ، والسباق في هذا المضمار وهكذا تصبح الملكية الخاصة في هذا الضوء أسلوباً من أساليب قيام الجماعة بمهمّتها في الخلافة ، وتتّخذ طابع الوظيفة الاجتماعية كمظهر من مظاهر الخلافة العامة ، لا طابع الحقّ المطلق والسيطرة الأصيلة ، وقد جاء عن الإمام الصادق أنّه قال :( إنّما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حيث وجّهها الله ، ولم يعطِِكموها لتكنزوها ) (١) .

ولما كانت الخلافة في الأصل للجماعة ، وكانت الملكية الخاصة أسلوباً لإنجاز الجماعة أهداف هذه الخلافة ورسالتها ، فلا تنقطع صلة الجماعة ولا تزول مسؤوليتها عن المال لمجرّد تملّك الفرد له ، بل يجب على الجماعة أن تحمي المال من سفه المالك إذا لم يكن رشيداً ؛ لأنّ السفيه لا يستطيع أن يقوم بدور صالح في الخلافة ولذا قال الله تعالى :( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ) (٢) ، ووجّه الخطاب إلى الجماعة ؛ لأنّ الخلافة في الأصل لها ، ونهاها عن تسليم أموال السفهاء إليهم ، وأمرها بحماية هذه الأموال والإنفاق منها على أصحابها ، وبالرغم من أنّه يتحدّث إلى الجماعة عن أموال السفهاء ، فقد أضاف الأموال إلى الجماعة نفسها فقال :( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ ) .

وفي هذا إشعار بأنّ الخلافة في الأصل للجماعة ، وأنّ الأموال أموالها بالخلافة ، وإن كانت أموالاً للأفراد بالملكية الخاصة

ـــــــــــــــ

(١) الفروع من الكافي ٤ : ٣٢ ، الحديث ٥ .

(٢) سورة النساء : ٥ .

٤٩٨

وقد عقبّت الآية على هذا الإشعار بالإشارة إلى أهداف الخلافة ورسالتها ، فوصفت الأموال قائلة :( أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ) ، فالأموال قد جعله الله للجماعة ، يعني : أنّه استخلف الجماعة عليها ، لا ليبذروها أو يجمّدوها ، وإنّما ليقوموا بحقّها ويستثمروها ويحافظوا عليه ، فإذا لم يتحقّق ذلك عن طريق الفرد ، فلتقم الجماعة بمسؤوليتها(١) .

وعلى هذا الأساس يستشعر الفرد المسؤولية في تصرّفاته المالية أمام الله تعالى ؛ لأنّه هو المالك الحقيقي لجميع الأموال ، كما يحسّ بالمسؤولية أمام الجماعة أيضاً ؛ لأنّ الخلافة لها بالأصل ، والملكية للمال إنّما هي مظهر من مظاهر تلك الخلافة وأساليبها ، ولهذا كان من حقّ الجماعة أن تحجر عليه إذا لم يكن أهلاً للتصرّف في ماله ، لصغرٍ أو سفهٍ(٢) ، وأن تمنعه عن التصرّف في ماله بشكل يؤدّي إلى ضرر بليغ بسواه(٣) ، وكذلك أن تضرب على يده ، إذا جعل من ماله مادّة للفساد والإفساد ، كما ضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يد سمرة ابن جندب وأمر بقطع نخلته الخاصّة ورميها ؛ حين اتّخذها مادّة فساد ، وقال له :( إنّك رجلٌ مُضار ) (٤) .

وحين أعطى الإسلام للملكية الخاصة مفهوم الخلافة ، جرّدها عن كلّ الامتيازات المعنوية التي اقترنت بوجودها على مرّ الزمن ، ولم يسمح للمسلم بأن

ـــــــــــــــ

(١) اتبعنا هنا في فهم الآية أحد الوجوه المحتملة التي ذكرها المفسّرون في تفسيرها. (المؤلّف قدّس سرّه) راجع : الميزان في تفسير القرآن ٤ : ١٧٠

(٢) راجع جواهر الكلام ٢٦ : ٣ ـ ٤ و ٤٨ و ٥٢ .

(٣) راجع : رسائل فقهية للشيخ الأنصاري (رسالة نفي الضرر) : ١٢٢ ، والعناوين ١ : ٣٣٢ وما بعدها .

(٤) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٩ ، الباب١٢ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٣ ، ٤ .

٤٩٩

ينظر إليها بوصفها مقياساً للاحترام والتقدير في المجتمع الإسلامي ، ولا أن يقرنها بنوع من القيمة الاجتماعية في العلاقات المتبادلة ، حتى جاء في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا أن :( مَن لقي فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني ، لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عليه غَضبان ) (١) ، وندّد القرآن الكريم تنديداً رائعاً بالأفراد الذين يقيسون احترامهم للآخرين وعنايتهم بهم بمقاييس الثروة والغني ، فقال : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (٢) ، وبهذا أعاد الإسلام الملكية إلى وضعها الطبيعي وحقلها الأصيل بوصفها لوناً من ألوان الخلافة ، وصمّمها ضمن الإطار الإسلامي العام بشكل لا يسمح لها بأن تعكس وجودها على غير ميدانها الخاص ، أو تخلق مقاييس مادّية للاحترام والتقدير ؛ لأنّها خلافة وليست حقّاً ذاتياً .

وفي الصور الرائعة التي يتحدّث فيها القرآن الكريم عن مشاعر الملكيّة الخاصة وانعكاساتها في النفس البشرية ما يكشف بوضوح عن إيمان الإسلام بأنّ مشاعر الامتياز ومحاولات التمديد للملكية الخاصة إلى غير مجالها الأصيل تنبع في النهاية من الخطأ في مفهوم الملكية واعتبارها حقّاً ذاتياً لا خلافة لها مسؤولياتها ومنافعها .

ولعل من أروع تلك الصور قصّة الرجلين اللذين أغنى الله أحدهما واستخلفه على جنّتين من جنّات الطبيعة :( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٦٤ ، الباب ٣٦ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل .

(٢) سورة عبس : ١ ـ ١٠ .

٥٠٠

مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) (١) ، إيماناً منه بأنّ ملكيّته تبرّر هذا اللون من التعالي والتسامي الذي واجه به صاحبه ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ً ) (٢) ؛ لأنّه كان يهيئ بهذا الانحراف في فهم وظيفة ملكيّته وطبيعتها عوامل فنائها ودمارها ( قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * َمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ) (٣) ، واستشعرت أنّها خلافةٌ أمدّك الله بها لتقوم بواجباتها ، لَما أحسست بالتسامي والتعالي ، ولا خالجتك مشاعر الكبرياء والزهو ( إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) (٤) .

وبهذا التقليص من وجود الملكية الخاصة وضغطها في مجالها الأصيل على أساس مفهوم الخلافة ، تحوّلت الملكية في الإسلام إلى أداة لا غاية ، فالمسلم الذي اندمج كيانه الروحي والنفسي مع الإسلام ينظر إلى الملكية باعتبارها وسيلة لتحقيق الهدف من الخلافة العامة وإشباع حاجات الإنسانية المتنوّعة ، وليست غاية بذاتها تطلب بوصفها تجميعاً وتكديساً شَرِها لا يرتوي ولا يشبع .

ـــــــــــــــ

(١) سورة الكهف : ٣٤ .

(٢) سورة الكهف : ٣٥ .

(٣) سورة الكهف : ٣٥ ـ ٣٩ .

(٤) سورة الكهف : ٣٩ ـ ٤٢ .

٥٠١

وقد جاء في تصوير هذه النظرة الطريقية إلى الملكيّة ـ النظرة إليها بما هي أداة ـ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :( ليس لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت ، ولبست فأبليت ، وتصدّقت فأبقيت ) (١) .

وقال في نصٍّ آخر :( يقول العبد مالي مالي ، وإنّما له من ماله ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو أعطى فاقتنى ، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ) (٢) .

وقد قاوم الإسلام النظرة الغائية إلى الملكية ـ النظرة إليها بما هي غاية ـ لا بالتعديل من مفهومها وتجريدها عن امتيازاتها في غير مجالها الأصيل فحسب ، بل قام إلى صفّ ذلك بعمل إيجابي لمقاومة تلك النظرة ، ففتح بين يدي الفرد المسلم أفقاً أرحب من المجال المحدود والمنطق المادّي العاجل ، وخطا أطول من الشوط القصير للملكية الخاصة الذي ينتهي بالموت ، وبشّر المسلم بمكاسب من نوع آخر : أكثر بقاءً ، وأقوى إغراء ، وأعظم نفعاً لمن آمن بها وعلى أساس تلك المكاسب الأخروية الباقية قد تصبح الملكية الخاصة أحياناً حرماناً وخسارة ، إذا حالت دون الظفر بتلك المكاسب ، كما قد يصبح التنازل عن الملكية عملية رابحة إذا أدّت إلى تعويض أضخم من مكاسب الحياة الآخرة وواضحٌ أنّ الإيمان بهذا التعويض ، وبالمنطلق الأوسع والمدى الأرحب للمكاسب والأرباح ، يقوم بدور إيجابي كبير في إطفاء البواعث الأنانية للملكية ، وتطوير النظرة الغائية إلى نظرة طريقيّة قال الله تعالى :

( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (٣) ، ( وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا

ـــــــــــــــ

(١) كنز العمال ٦ : ٣٥٨ ، الحديث ١٦٠٤٦ ، مع اختلاف يسير .

(٢) المصدر السابق : الحديث ١٦٠٤٥ ، مع اختلاف يسير .

(٣) سورة سبأ : ٣٩ .

٥٠٢

تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) (١) ،( وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٢) ،( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ) (٣) ،( وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِين ) (٤) .

وقد قارن القرآن الكريم بين النظرة المنفتحة للأرباح والخسائر التي لا تقيسها بمقاييس الحسّ العاجل فحسب ، وبين النظرة الرأسمالية الضيّقة التي لا تملك سوى هذه المقاييس فيتهدّدها شبح الفقر دائماً ، وتفزع بمجرد التفكير في تسخير الملكية الخاصة لأغراض أعم وأوسع من دوافع الشَّرَه والأنانية ؛ لأنّّ شبح الفقر المرعب والخسارة يبدو لها من وراء هذا اللون من التفكير ونسب القرآن هذه النظرة الرأسمالية الضيقة إلى الشيطان ، فقال :( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٥) .

٤ ـ التحديد الزمني للحقوق الخاصة

النظرية العامة في التوزيع التي قرّرت الحقوق الخاصة بالطريقة التي عرفناها تفرض على هذه الحقوق تحديداً زمنياً بشكل عام ، فكلّ ملكيّة وحقّ في الإسلام ، فهو محدّد زمنياً بحياة المالك ولم يسمح له بالامتداد بشكل مطلق ، ولهذا

ـــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ٢٧٢ .

(٢) سورة البقرة : ١١٠ .

(٣) سورة آل عمران : ٣٠ .

(٤) سورة آل عمران : ١١٥ .

(٥) سورة البقرة : ٢٦٨

٥٠٣

لا يملك الفرد في الإسلام الحقّ في تقرير مصير الثروة التي يملكها بعد وفاته ، وإنّما يقرّر مصيرها القانون ابتداءً ضمن أحكام الميراث والتشريعات التي تنظّم توزيع التركة بين الأقرباء ، وفي هذا يختلف الإسلام عن المجتمعات الرأسمالية التي تؤمن عادة بامتداد سلطة المالك على أمواله إلى أبعد مدى ، وتفوّض إليه الحقّ في تقرير مستقبل الثروة بعد وفاته ومنحها لمن يشاء بالطريقة التي تحلو له .

وهذا التحديد الزمني للحقوق الخاصة هو في الحقيقة من نتائج النظرية العامة في توزيع ما قبل الإنتاج ، التي هي الأساس لتشريع تلك الحقوق الخاصة ، فقد عرفنا سابقاً في ضوء النظرية أنّ الحقوق الخاصة ترتكز على أساسين :

أحدهما : خلق الفرد فرصة الانتفاع بمصدر طبيعي بالإحياء ، فيملك هذه الفرصة بوصفها نتيجة لعمله ، وعن طريقها يوجد له حقّ في المال لا يسمح لآخر بانتزاع تلك الفرصة .

والآخر : الانتفاع المتواصل بثروة معيّنة ، فإنّه يعطي المنتفع حقّ الأولوية بتلك الثروة من غيره ما دام منتفعاً بها وهذان الأساسان لا يظّلان ثابتين بعد الوفاة ، ففرصة الانتفاع التي يملكها من أحيى أرضاً مَيتَة ـ مثلاً ـ تتلاشى بوفاته طبعاً ؛ إذ تنعدم فرصة الانتفاع بالنسبة إليه نهائياً ، ولا تكون استفادة فرد آخر منها سرقة لها منه ما دامت قد ضاعت عليه الفرصة طبيعياً بوفاته ، وكذلك الانتفاع المستمرّ بالموت ، وتفقد بذلك الحقوق الخاصة مبرّراتها التي تقرّرها النظرية العامة .

فالتحديد الزمني للحقوق والملكيات الخاصة وفقاً لأحكام الشريعة في الميراث جزء من بناء المذهب الاقتصادي ، ومرتبط بالنظرية العامة في التوزيع .

وهذا التحديد الزمني يعبّر عن الجانب السلبي من أحكام الميراث ، الذي يقرّر انقطاع صلة المالك بثروته عند الموت وأمّا الجانب الإيجابي من أحكام

٥٠٤

الميراث الذي يحدّد المالكين الجدد ، وينظّم طريقة توزيع الثروة عليهم ، فهو ليس نتيجة للنظرية العامة في توزيع ما قبل الإنتاج ، وإنّما يرتبط بنظريّات أخرى من الاقتصاد الإسلامي كما سنرى في بحوث مقبلة .

والإسلام حين حدّد الملكية الخاصة تحديداً زمنياً بحياة المالك ، ومنعه من الوصية بماله والتحكّم بمصير ثروته بعد وفاته ، استثنى من ذلك ثلث التركة ، فسمح للمالك بأن يقرّر بنفسه مصير ثلث ماله(١) ، وهذا لا يتعارض مع الحقيقة التي عرفناها عن التحديد الزمني وارتباطه بالنظرية العامة ؛ لأنّ النصوص التشريعية التي دلّت على السماح للمالك بالثلث من التركة تشير بوضوح إلى أنّ هذا السماح ذو صفة استثنائية ، يقوم على أساس مصالح معيّنة ، فقد جاء في الحديث عن علي بن يقطين : أنّه سأل الإمام موسىعليه‌السلام ما للرجل من ماله عند موته ؟ فأجابه :( الثلث والثلث كثير ) (٢) . وجاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام :( أنّ الوصية بالربع والخمس أفضل من الوصية بالثلث ) (٣) . وورد في الحديث أيضاً :( أنّ الله تعالى يقول لابن آدم : قد تَطَوَّلت عليك بثلاثة : سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما واروك ، وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدّم خيراً ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدّم خيراً ) (٤) .

فالثلث في ضوء هذه الأحاديث حقّ يرجح للمالك عدم استخدامه ويستكثر عليه ، ويعتبر منحة قد تفضّل بها الله على عبده عند موته ، وليس امتداداً

ـــــــــــــــ

(١) راجع : جواهر الكلام ٢٦ : ٥٩ .

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ٢٧٤ ، الباب ١٠ من كتاب الوصايا ، الحديث ٨ .

(٣) المصدر السابق : ٢٦٩ ، الباب ٩ من كتاب الوصايا ، الحديث ٢ .

(٤) المصدر السابق : ٢٦٣ ، الباب ٤ من كتاب الوصايا ، الحديث ٤ .

٥٠٥

طبيعياً لحقوقه التي كسبها حال الحياة فكلّ ذلك يشير إلى أنّ السماح بالثلث للميّت حكم استثنائي ، وفي هذا اعتراف ضمني بالحقيقة التي قدّمناها عن التحديد الزمني وارتباطه بالنظرية العامة .

وقد استهدفت الشريعة من تشريع هذا الحكم الاستثنائي الحصول على مكاسب جديدة للعدالة الاجتماعية ؛ لأنّه يتيح للفرد وهو يودع دنياه كلّها ويستقبل عالماً جديداً أن يستفيد من ثروته لعالمه الجديد ، والغالب في لحظات الانتقال الحاسمة من حياة الفرد المسلم أن تنطفئ فيها شعلة الدوافع المادّية والشهوات الموقوتة ، الأمر الذي يساعد الإنسان على التفكير في ألوان جديدة من الإنفاق تتّصل بمستقبله وحياته المنتظرة التي يتأهّب للانتقال إليها وهذه الألوان الجديدة هي التي أطلق عليها في الحديث السابق اسم (الخير ) وعوتب الفرد الذي لم يستفد من حقّه في الوصية على عدم تحقيقه للغرض الذي من أجله منح ذلك الحقّ .

وقد حثَّ الإسلام ـ في نفس الوقت الذي سمح فيه بالثلث ـ على استغلال الفرد لفرصته الأخيرة هذه في سبيل حماية مستقبله وآخرته ؛ بتخصيص الثلث لمختلف سبل الخير والمصالح العامّة التي تساهم في تدعيم العدالة الاجتماعية(١) .

فالتحديد الزمني للملكية هو القاعدة إذن ، والسماح بالثلث استثناء فرضته أغراض ترتبط بجوانب أخرى من الاقتصاد الإسلامي .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٧١ ، الباب ١٠ من كتاب الوصايا .

٥٠٦

الكتاب الثاني ٣

نظرية التوزيع ما بعد الإنتاج

١ ـ الأساس النظري للتوزيع على عناصر الإنتاج

٢ ـ أوجه الفرق بين النظرية الإسلامية والماركسية

٣ ـ القانون العام لمكافأة المصادر المادّية للإنتاج

٤ ـ الملاحظات

٥٠٧

١ ـ الأساس النظري للتوزيع على عناصر الإنتاج(١)

البناء العُلْوي :

١ ـ ذكر المحقّق الحلّي في كتاب الوكالة من الشرائع : أنّ الاحتطاب وما إليه من ألوان العمل في الطبيعة لا تصحّ فيه الوكالة ، فلو وكّل فرد شخصاً آخر في الاحتطاب له من أخشاب الغابة مثلاً ، كانت الوكالة باطلة ، فلا يملك الموكِّل الخشب الذي احتطبه العامل ؛ لأنّ الاحتطاب وغيره من ألوان العمل في الطبيعة لا ينتج أثراً أو حقّاً خاصاً لشخص ما لم يمارس العمل بنفسه ، وينفق جهداً مباشراً في عمليات الاحتطاب والاحتشاش ونحوهما فقد تعلّق غرض الشارع ـ على حدّ تعبير المحقّق ـ بإيقاع هذه الأعمال من المكلّف مباشرة .

ـــــــــــــــ

(١) كنّا في نظرية توزيع ما قبل الإنتاج نحاول أن نحدّد الحقوق التي يكسبها الأفراد في الثروات الطبيعية الخام بوصفها مظهراً من مظاهر توزيعها ، ولمّا كانت هذه الحقوق نتيجة للعمل اتّجه البحث إلى تحديد دور العمل في تلك الثروات الطبيعية ، والثروة الطبيعية التي يطوّرها العمل هي بهذا الاعتبار تندرج في ثروة ما بعد الإنتاج ، ولأجل هذا تداخل البحثان ـ بحث توزيع ما قبل الإنتاج وبحث توزيع ما بعد الإنتاج ـ بصورة جزئية ، وكان لا بدّ من هذا التداخل ؛ حفاظاً على الوضوح في إعطاء الأفكار عن كلٍّ من حَقلَي التوزيع (المؤلّفقدس‌سره )

٥٠٨

وإليكم نصّ كلامه : ( وأمّا ما لا تدخل النيابة فيه ،فضابطه : ما تعلّق قصد الشارع بإيقاعه من المكلّف مباشرة كالطهارة والصلاة الواجبة ما دام حيّاً ، والصوم ، والاعتكاف ، والحجّ الواجب مع القدرة ، والأيمان ، والنذر ، والغصب ، والقسم بين الزوجات ؛ لأنّه يتضمّن استمتاعاً ، والظهار واللعان ، وقضاء العدّة ، والجناية ، والالتقاط والاحتطاب والاحتشاش )(١) .

٢ ـ وجاء في الوكالة من كتاب التذكرة للعلاّمة الحلّي : ( أنّ في صحّة التوكيل في المباحات ، كالاصطياد والاحتطاب والاحتشاش ، وإحياء الموات ، وحيازة الماء وشبهه ، إشكالاً ونقل القوم بعدم صحّة ذلك إلى بعض فقهاء الشافعية )(٢) .

٣ ـ وفي كتاب القواعد : ( أنّ في التوكيل بإثبات اليد على المباحات ، كالالتقاط والاصطياد والاحتشاش والاحتطاب ، نظرٌ )(٣) .

٤ ـ وقد شاركت في هذا النظر عدّة مصادر فقهية أخرى ، كالتحرير والإرشاد والإيضاح(٤) وغيرها.

٥ ـ ولم تكتف عدّة مصادر فقهية أخرى بالنظر والإشكال ، بل أعلنت بصراحة عن عدم جواز الوكالة وِفاقاً للشرائع كالجامع(٥) في الفقه ، وكذلك السرائر(٦) أيضاً بالنسبة إلى الاصطياد ، كما نُقل عن الشيخ الطوسي في كتاب

ـــــــــــــــ

(١) شرائع الإسلام ٢ : ١٩٥ .

(٢) تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ١١٨ .

(٣) قواعد الأحكام ٢ : ٣٥٥ .

(٤) لاحظ : تحرير الأحكام الشرعية ٣ : ٢٧ ، وإرشاد الأذهان ١ : ٤١٦ ، وإيضاح الفوائد ٢ : ٣٣٩ ، ومفتاح الكرامة ٧ : ٥٥٩ .

(٥) راجع : الجامع للشرائع : ٣١٩ .

(٦) السرائر ٢ : ٨٥ .

٥٠٩

المبسوط ـ في بعض نسخه ـ المنع عن التوكيل في الإحياء(١) . ونقل عنه أيضاً المنع من التوكيل في الاحتطاب والاحتشاش(٢) .

وقال أبو حنيفة ـ بصدد الاستدلال على أنّ الشركة لا تصحّ في اكتساب المباح كالاحتشاش ـ : لأنّ الشركة مقتضاها الوكالة ، ولا تصحّ الوكالة في هذه الأشياء ؛ لأنّ من أخذها ملكها(٣) .

٦ ـ وربط العلاّمة الحلّي بين الوكالة والإجارة ، فذكر أنّ الوكالة في تلك الأعمال إذا كانت غير مُنتجة ، فالإجارة مثلها أيضاً ، فكما لا يملك الموكِّل ما يحصل عليه الوكيل في الاحتطاب والاصطياد وإحياء الموات ، كذلك لا يملك المستأجر مكاسب عمل الأجير في الطبيعة(*) . والنصّ في كتاب التذكرة ، إذ كتب يقول : إن جوّزنا التوكيل فيه جوّزنا الإجارة عليه فإذا استأجر ليحتطب أو يستقي الماء أو يحيي الأرض ، جاز وكان ذلك للمستأجر وإن قلنا بالمنع هناك ، منعنا هنا ، فيقع الفعل للأجير)(٤) .

وقد أكدّ المحقّق الإصفهاني في كتاب الإجارة : أنّ الإجارة لا أثر لها في تملّك المستأجر ـ أي باذل الأُجرة ـ لِما يحوزه الأجير ويحصل عليه بعمله في الطبيعة ، فإذا حاز الأجير لنفسه ملك المال المُحاز ، ولم يكن للمستأجر شيء )(٥) .

والشيء نفسه ذهب إليه الشهيد الثاني في مسالكه ، إذ كتب يقول : ( وبقي

ـــــــــــــــ

(١) نقله عنه مفتاح الكرامة ٧ : ٥٦٠ ، وراجع : المبسوط ٢ : ٣٦٣ .

(٢) نقله عن العلاّمة في مختلف الشيعة ٦ : ٢٠ .

(٣) لاحظ : المغني ٥ : ١١١ .

(*) راجع الملحق رقم ١٤ .

(٤) تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ١١٨ .

(٥) كتاب الإجارة (للشيخ محمّد حسين الإصفهاني ) : ١٢٠ ـ ١٢٢ .

٥١٠

في المسألة بحث آخر ، وهو : أنّه على القول بصحة الإجارة على أحد القولين ( أي : الإجارة للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاصطياد ) إنّما يقع الملك للمستأجر مع نية الأجير الملك له ، أمّا مع نيّة الملك لنفسه فيجب أن يقع له ؛ لحصول الشرط على جميع الأقوال ، واستحقاق المستأجر منافعه تلك المدّة لا ينافي ذلك)(١) .

٧ ـ ذكر العلاّمة الحلّي في القواعد : ( أنّ الإنسان لو صاد أو احتطب أو احتشّ وحاز بنيّة أنّه له ولغيره ، لم تؤثّر تلك النيّة ، وكان بأجمعه له )(٢) .

٨ ـ وفي مفتاح الكرامة : ( أنّ الشيخ الطوسي والمحقّق والعلامّة حكموا جميعاً بأنّ الشخص إذا حاز ثروة طبيعية بنيّة أنّه له ولغيره كانت كلّها له )(٣) .

٩ ـ وجاء في قواعد العلاّمة : ( أنّ الشخص لو دفع شبكة للصائد بحصّة ، فالصيد للصائد وعليه أجرة الشبكة )(٤) . وأكدت ذلك عدّة مصادر فقهية أخرى كالمبسوط والمهذّب والجامع والشرائع )(٥) .

١٠ ـ وقال المحقّق الحلّي في الشرائع : ( الاصطياد بالآلة المغصوبة حرام ولا يحرم الصيد ويملكه الصائد دون صاحب الآلة وعليه أجرة مثلها )(٦) .

وقد علّق المحقّق النجفي في الجواهر على الحكم المذكور بتملّك الصائد للصيد دون صاحب الآلة ، قائلاً : ( لأنّ الصيد من المباحات التي تُملك بالمباشرة

ـــــــــــــــ

(١) مسالك الأفهام ٤ : ٣٣٩ .

(٢) قواعد الأحكام ٢ : ٣٣٠ .

(٣) مفتاح الكرامة ٧ : ٤٢٠ .

(٤) قواعد الأحكام ٢ : ٣٣٣ .

(٥) المبسوط ٣ : ١٦٨ ، المهذّب ١ : ٤٦١ ، والجامع للشرائع : ٣١٧ ، وشرائع الإسلام ٢ : ١٣٩ .

(٦) شرائع الإسلام ٣ : ٢٠٣ .

٥١١

المتحقّقة من الغاصب وإن حرم استعماله للآلة نعم ، عليه ـ أي الصائد ـ أجرة مثلها للمالك ، كباقي الأعيان المغصوبة ، بل لو لم يصد بها كان عليه الأجر لفوات المنفعة تحت يده)(١) .

وجاء نظير ذلك في المبسوط للفقيه الحنفي السرخسي ، إذ كتب يقول : ( وإذا دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أنّ ما صاد بها من شيء فهو بينهما فصاد بها سمكاً كثيراً ، فجميع ذلك للذي صاد لأنّ الآخذ هو المكتسب دون الآلة فيكون الكسب له ، وقد استعمل فيه آلة الغير بشرط العوض لصاحب الآلة وهو مجهول ، فيكون له أجر مثله على الصيّاد )(٢) ، وهذا يعني أنّ الآلة ليس لها حصّة في السلعة المنتجة .

١١ ـ وللشيخ الطوسي في الشركة من كتاب المبسوط هذا النصّ الآتي : ( إذا أذن رجلٌ لرجلٍ أن يصطاد له صيداً فاصطاد الصيد بنيّة أن يكون للآمر دونه ، فلمن يكون هذا الصيد ؟ قيل فيه : إنّ ذلك بمنزلة الماء المباح إذا استقاه السقّاء بنية أن يكون بينهم ، وإنّ الثمن يكون له ـ أي : للسقّاء ـ دون شريكه ، فهاهنا يكون الصيد للصيّاد دون الآمر ؛ لأنّه انفرد بالحيازة وقيل : إنّه يكون للآمر ؛ لأنّه اصطاده بنيّته فاعتبرت النيّة والأوّل أصحّ )(٣) .

١٢ ـ ذكر المحقّق الحلّي في الشرائع : إنّ إنساناً لو دفع دابّة ـ مثلاً ـ وآخر راوية إلى سقّاء على الاشتراك الحاصل ، لم تنعقد الشركة ، فكان ما يحصل حينئذٍ للسقّاء ، وعليه مثل أجرة الدابّة والراوية )(٤) .

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ٦٥ ، ٦٦ .

(٢) المبسوط ( للسرخسي) ٢٢ : ٣٤ .

(٣) المبسوط ٢ : ٣٦٤ .

(٤) شرائع الإسلام ٢ : ١٣٢ ـ ١٣٣ مع اختلاف يسير .

٥١٢

والشيء نفسه ذكره العلامة الحلّي في القواعد(١) .

و جاءت المسألة نفسها في كتاب المغني لابن قدامة ، ونقل عن القاضي والشافعي نفس الحكم المذكور ، وهو : أنّ ما يحصل للسقّاء ، وعليه لصاحبه أجرة المثل(٢) .

وكذلك نصّ على الحكم المذكور الشيخ الطوسي ، مشيراً في مقابل ذلك إلى القول باقتسام الربح أثلاثاً بين صاحب الدابّة وصاحب الراوية والسقّاء مع عدم ارتضائه(٣) .

وهذا يعني أنّ وسائل الإنتاج التي استخدمها السقّاء ليس لها نصيب في منتوج العملية ، وإنّما لها أجرة المِثل على العامل .

من النظرية :

كل هذا البناء العُلْوي يكشف عن الحقيقة الأساسية في النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج ، وبالتالي عن خلافات جوهرية بين النظرية الإسلامية ، والنظرية العامة للتوزيع في الاقتصاد المذهبي للرأسمالية .

وقد يكون من الأفضل بدلاً عن البدء في استنتاج النظريّة من البناء العُلْوي المتقدّم ، أن نكوّن فكرة قبل ذلك عن طبيعة نظرية توزيع ما بعد الإنتاج ، وصورة عامّة عن طريق تقديم نموذج لها من المذهب الرأسمالي ، لكي نعرف نوع المجال الذي لا بدّ لنظرية مذهبية في توزيع ما بعد الإنتاج أن تمارسه .

ـــــــــــــــ

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٣٢٩ .

(٢) المغني (لابن قدامة ) ٥ : ١٢٠ .

(٣) المبسوط ٢ : ٣٤٦ .

٥١٣

وبعد تقديم النظرية في إطارها الرأسمالي نستعرض النظرية الإسلامية في توزيع ما بعد الإنتاج كما نؤمن بها ، حتى إذا أعطينا الصورة المحدّدة لها وأبرزنا بوضوح الفوارق بين النظريّتين ، عدنا إلى البناء العُلْوي المتقدّم ؛ لندعم افتراضنا للنظرية الإسلامية ، ونشرح طريقة استنتاجنا لها من ذلك البناء الذي تنعكس فيه معالمها الأساسية ، وهكذا سوف يكون البحث على مراحل ثلاث :

١ ـ نموذج للنظرية من الاقتصاد الرأسمالي :

تحلّل عملية الإنتاج عادة في المذهب الرأسمالي التقليدي إلى عناصرها الأصلية المتشابكة في العملية وتقوم الفكرة العامة في توزيع الثروة المنتجة على أساس اشتراك تلك العناصر في الثروة التي أنتجتها ، فلكلّ عنصر نصيبه من الإنتاج وفقاً لدوره في العملية .

وعلى هذا الأساس تقسِّم الرأسمالية الثروة المنتجة أو القيمة النقدية لهذه الثروة إلى حصص أربع ، وهي :

١ ـ الفائدة .

٢ ـ الأجور .

٣ ـ الريع .

٤ ـ الربح

فالأجور هي نصيب العمل الإنساني ، أو الإنسان العامل بوصفه عنصراً مهمّاً في عملية الإنتاج الرأسمالي والفائدة هي نصيب رأس المال المسلف ، والربح هو نصيب رأس المال المشترِك فعلاً في الإنتاج والريع يعبّر عن حصة الطبيعة أو حصّة الأرض بتعبير أخص .

وجرت عدّة تعديلات على هذه الطريقة الرأسمالية في التوزيع من الناحية

٥١٤

الشكلية ، فأدرج الربح والأجر في فئة واحدة ؛ اعتقاداً بأنّ الربح في الحقيقة نوع من الأجر على عمل خاص ، وهو عمل التنظيم الذي يباشره صاحب المشروع بتهيئة عناصر الإنتاج المختلفة من رأس مال وطبيعة عمل ، وتوفيقه بينها وتنظيمها في عملية الإنتاج .

ومن ناحية أخرى أعطت النظرية الحديثة في التوزيع للريع مفهوماً أوسع يتعدّى به حدود الأرض ، ويكشف عن ألوان عديدة من الريع في مختلف المجالات كما رجّح البعض أخذ رأس المال بمعنى شامل يضمّ جميع القوى الطبيعية بما فيها الأرض .

وبالرغم من التعديلات الشكلية فإنّ النظرة الجوهرية في التوزيع الرأسمالي ظلّت ثابتة خلال جميع التعديلات ، ولم تتغيّر من الناحية المذهبية وهذه النظرة هي ملاحظة جميع عناصر الإنتاج على مستوى واحد ، وإعطاء كلّ واحد من تلك العناصر نصيبه من الثروة المنتجة ، بوصفه مساهماً في العملية ، وفي حدود مشاركته لسائر العناصر في إنجاز تلك الثروة وإنتاجها ، فالعامل يحصل على الأجر بنفس الطريقة وعلى أساس نفس النظرة المذهبية التي يحصل رأس المال بموجبها على فائدة مثلاً ؛ لأنّ كلاً منهما في العرف الرأسمالي عامل إنتاج وقوّة مساهمة في التركيب العضوي للعملية ، فمن الطبيعي أن توزّع المنتجات على عناصر إنتاجها بنسب تقرّرها قوانين العرض والطلب ، وما إليها من القوى التي تتحكّم في التوزيع .

٢ ـ النظرية الإسلامية ومقارنتها بالرأسمالية :

وأمّا الإسلام فهو يرفض هذه النظرة الجوهرية في المذهب الرأسمالي رفضاً تامّاً ، ويختلف عنها اختلافاً أساسياً ؛ لأنّه لا يضع عناصر الإنتاج المتعدّدة

٥١٥

على مستوى واحد ، ولا ينظر إليها بصورة متكافئة ليقرّ توزيع الثروة المنتجة على تلك العناصر بالنسب التي تقرّرها قوانين العرض والطلب كما تصنع الرأسمالية ، بل إنّ النظرية الإسلامية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج تعتبر أنّ الثروة التي تنتج من الطبيعة الخام ملك للإنسان المنتج وحده ـ العامل ـ ، وأمّا وسائل الإنتاج المادّية التي يستخدمها الإنسان في عملية الإنتاج من أرض ورأس مال ومختلف الأدوات والآلات فلا نصيب لها من الثروة المنتجة نفسها ، وإنّما هي وسائل تقدّم للإنسان خدمات في تذليل الطبيعة وإخضاعها لأغراض الإنتاج ، فإذا كانت تلك الوسائل مِلكاً لفردٍ آخر غير العامل المنتج ، كان على الإنسان المنتج أن يكافئ الفرد الذي يملك تلك الوسائل على الخدمات التي جناها المنتج عن طريق تلك الوسائل ، فالمال الذي يعطى لصاحب الأرض ، أو لمالك الأداة ، أو صاحب الآلة التي تساهم في أعمال الإنتاج ، لا يعبّر عن نصيب الأرض والأداة والآلة نفسها في المنتوج بوصفها عنصراً من عناصر إنتاجه ، وإنّما يعني مكافأة لمالكي تلك الوسائل على الخدمات التي قدّموها بالسماح للعامل المنتج باستخدام وسائلهم ، وأمّا إذا لم يكن للوسائل مالك معيّن سوى الإنسان المنتج فلا معنى للمكافأة ؛ لأنّها عندئذ منحة الطبيعة لا منحة إنسان آخر .

فالإنسان المنتج في النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج هو المالك الأصيل للثروة المنتجة من الطبيعة الخام ، ولاحظّ لعناصر الإنتاج المادّية في تلك الثروة ، وإنّما يعتبر الإنسان المنتج مديناً لأصحاب الوسائل التي يستخدمها في إنتاجه فيكلّف بإبراء ذمّته ومكافأتهم على الخدمات التي قدّمتها وسائلهم ، فنصيب الوسائل المادّية المساهمة في عملية الإنتاج يحمل طابع المكافأة على خدمة ، ويعبّر عن دين في ذمّة الإنسان المنتج ، ولا يعني التسوية بين الوسيلة المادّية والعمل الإنساني أو الشركة بينهما في الثروة الناتجة على أساس موحّد .

٥١٦

ومن خلال مواصلتنا لاكتشاف النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج ، سنعرف المبرّر النظري لتلك المكافأة التي يظفر بها أصحاب الوسائل المادّية من الإنسان المنتج لقاء استخدامه للوسائل التي يملكونها في عملية الإنتاج .

فالفارق كبير بين النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج والنظرية الرأسمالية بهذا الشأن .

ومردّ هذا الفرق إلى اختلاف النظريتين الرأسمالية والإسلامية في تحديد مركز الإنسان ودوره في عملية الإنتاج ، فإنّ دور الإنسان في النظرة الرأسمالية هو دور الوسيلة التي تخدم الإنتاج لا الغاية التي يخدمها الإنتاج ، فهو في صفّ سائر القوى المساهمة في الإنتاج من طبيعة ورأس مال ، ولهذا يتلّقى الإنسان المنتج نصيبه من ثروة الطبيعة ، بوصفه مساهماً في الإنتاج وخادماً له ، ويصبح الأساس النظري للتوزيع على الإنسان العامل والوسائل المادّية التي تساهم معه في عملية الإنتاج واحداً .

وأمّا مركز الإنسان في النظرة الإسلامية فهو مركز الغاية لا الوسيلة ، فليس هو في مستوى سائر الوسائل المادّية لتوزيع الثروة المنتجة بين الإنسان وتلك الوسائل جميعاً على نسق واحد ، بل إنّ الوسائل المادّية تعتبر خادمة للإنسان في إنجاز عملية الإنتاج ؛ لأنّ عملية الإنتاج نفسها إنّما هي لأجل الإنسان وبذلك يختلف نصيب الإنسان المنتج عن نصيب الوسائل المادّية في الأساس النظري ، فالوسائل المادّية إذا كانت ملكاً لغير العامل وقدّمها صاحبها لخدمة الإنتاج كان من حقّه على الإنسان المنتج أن يكافئه على خدمته ، فالمكافأة هنا دَين على ذمّة المنتج يسدّده لقاء خدمة ، ولا تعني نظرياً مشاركة الوسيلة المادّية في الثروة المنتجة .

٥١٧

وهكذا يفرض مركز الوسائل المادّية ـ في النظرة الإسلامية ـ عليها تتقاضى مكافأتها من الإنسان المنتج بوصفها خادمة له ، لا من الثروة المنتجة بوصفها مساهمة في إنتاجها ، كما يفرض مركز الإنسان في عملية الإنتاج بوصفه الغاية لها أن يكون وحده صاحب الحقّ في الثروة الطبيعية التي أعدّها الله تعالى لخدمة الإنسان .

ومن أهم الظواهر التي يعكسها هذا الفرق الجوهري بين النظريّتين ـ الإسلامية والرأسمالية ـ موقف المذهبين من الإنتاج الرأسمالي في مجالات الثروة الطبيعية الخام ، فالرأسمالية المذهبية تسمح لرأس المال بممارسة هذا اللون من الإنتاج ، فيكون بمقدور رأس المال أن يستأجر عمّالاً لاحتطاب الخشب من أشجار الغابة أو استخراج البترول من آباره ، ويسدّد إليهم أجورهم ـ وهي كلّ نصيب العامل في النظرية الرأسمالية للتوزيع ـ ويصبح رأس المال بذلك مالكاً لجميع ما يحصل عليه الإجراء من أخشاب أو معادن طبيعية ، ومن حقّه بيعها بالثمن الذي يحلو له .

وأمّا النظرية الإسلامية للتوزيع فلا مجال فيها لهذا النوع من الإنتاج(١) ؛ لأنّ رأس المال لا يظفر بشيء عن طريق تسخير الإجراء لاحتطاب الخشب واستخراج المعدن وتوفير الأدوات اللازمة لهم ، مادامت النظرية الإسلامية تجعل

ـــــــــــــــ

(١) لمّا عرفنا في البناء العُلْوي من منع المحقّق الحلّي في الشرائع عن التوكيل في الاحتطاب وما إليه من حيازة المباحات ، ومنع الشيخ الطوسي على ما حكي عن بعض نسخ المبسوط من التوكيل في إحياء الأرض ، وتأكيد المحقّق الإصفهاني في كتاب الإجارة على أنّ المستأجر لا يملك بسبب عقد الإجارة ما يحوزه أجيره من الثروات الطبيعية (المؤلّفقدس‌سره )

٥١٨

مباشرة العمل شرطاً في تملّك الثروة الطبيعية ، وتمنح العامل وحده حقّ ملكية الخشب الذي يحتطبه والمعدن الذي يستخرجه وبذلك يقضي على تملّك الثروات الطبيعية الخام عن طريق العمل المأجور ، وتختفي سيطرة رأس المال على تلك الثروات التي يمتلكها في ظلّ المذهب الرأسمالي لمجرّد قدرته على دفع الأجور للعامل وتوفير الأدوات اللازمة له ، وتحلّ محلّها سيطرة الإنسان على ثروات الطبيعة .

واختفاء طريقة الإنتاج الرأسمالي هذا في مجال الثروات الطبيعية الخام ليس حادثاً عرضياً أو ظاهرة عابرة وفارقاً جانبياً بين النظرية الإسلامية والمذهب الرأسمالي ، وإنّما يعبّر بشكلٍ واضح وعلى أساس نظري ـ كما عرفنا ـ عن التناقض المستقطب بينهما ، وأصالة المضمون النظري للاقتصاد الإسلامي .

٣ ـ استنتاج النظرية من البناء العُلْوي :

عرضنا حتى الآن النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج ونحن نفترضها افتراضاً ، بالقدر الذي تتطلّبه المقارنة بينها وبين النظرية الرأسمالية في أساسها النظري لتوزيع الثروة على عناصر الإنتاج .

ولا بدّ لكي نبرهن على صحة تصوّرنا للنظرية أن نعود الآن إلى البناء العُلْوي المتقدّم في مستهلّ البحث ، لنستنبط منه الجانب الذي افترضناه من النظرية الإسلامية ، ونبرز مدلوله المذهبي ومدى انسجامه مع الصورة التي قدّمناها .

إنّ الأحكام التي استعرضناها في البناء العُلْوي تقرّر :

أولاً : أنّ الموكّل لا يجوز له أن يقطف ثمرات عمل الوكيل في ثروات الطبيعة الخام ، فلو وكّل فرداً في الاحتطاب له من خشب الغابة مثلاً ، لم يجز له أن

٥١٩

يمتلك الخشب الذي يظفر به وكيله ما دام لم يباشر بنفسه العمل والاحتطاب ؛ لأنّ الملكية التي تنتج عن العمل هي من نصيب العامل وحده وهذا واضح من الفقرات الثمانية الأولى في البناء العُلْوي .

وثانياً : أنّ عقد الإجارة كعقد الوكالة ، فكما لا يملك الموكِّل الثروات التي يظفر بها وكيله من الطبيعة ، كذلك لا يملك المستأجِر الثروات الطبيعية التي يحوزها أجيره لمجرّد أنّه سدد الأجر اللازم له ؛ لأنّ تلك الثروات لا تملك إلاّ بالعمل المباشر وهذا واضح من الفقرة السادسة .

وثالثاً : أنّ الإنسان المنتج الذي يمارس ثروات الطبيعة إذا استخدم في عمله أداة أو آلة إنتاج يملكها غيره ، لم يكن للأداة نصيب من الثروة التي يحصل عليها من الطبيعة ، وإنّما يصبح الإنسان المنتج مديناً لصاحب الأداة بمكافأة على الخدمة التي أسداها له خلال عملية الإنتاج ، وأمّا المنتج فهو ملك العامل كلّه وهذا واضح في الفقرة ٩ و ١٠ و ١٢ .

وهذه النقاط الثلاث تكفي لاكتشاف النظرية العامّة لتوزيع ما بعد الإنتاج التي يقوم على أساسها البناء العُلْوي لتلك الأحكام كلّها ، كما أنّها تكفي أيضاً للتدليل على صحة اكتشافنا للنظرية وإعطائها نفس المضمون والملامح التي حدّدناها .

فالإنسان المنتِج يملك الثروة المنتَجة من الطبيعة الخام لا بوصفه مساهماً في الإنتاج وخادماً له ، بل لأجل أنّه هو الغرض الذي يخدمه الإنتاج ، ولذلك فهو يستأثر بكلّ الثروة المنتَجة، ولا تشاركه فيها القوى والوسائل الأخرى التي خدمت الإنتاج وساهمت فيه .

وأمّا تلك الوسائل المادّية فلها أجرها على خدماتها من الإنسان العامل

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741