اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 141691
تحميل: 8007

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141691 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) (١) ، إيماناً منه بأنّ ملكيّته تبرّر هذا اللون من التعالي والتسامي الذي واجه به صاحبه ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ً ) (٢) ؛ لأنّه كان يهيئ بهذا الانحراف في فهم وظيفة ملكيّته وطبيعتها عوامل فنائها ودمارها ( قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * َمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ) (٣) ، واستشعرت أنّها خلافةٌ أمدّك الله بها لتقوم بواجباتها ، لَما أحسست بالتسامي والتعالي ، ولا خالجتك مشاعر الكبرياء والزهو ( إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) (٤) .

وبهذا التقليص من وجود الملكية الخاصة وضغطها في مجالها الأصيل على أساس مفهوم الخلافة ، تحوّلت الملكية في الإسلام إلى أداة لا غاية ، فالمسلم الذي اندمج كيانه الروحي والنفسي مع الإسلام ينظر إلى الملكية باعتبارها وسيلة لتحقيق الهدف من الخلافة العامة وإشباع حاجات الإنسانية المتنوّعة ، وليست غاية بذاتها تطلب بوصفها تجميعاً وتكديساً شَرِها لا يرتوي ولا يشبع .

ـــــــــــــــ

(١) سورة الكهف : ٣٤ .

(٢) سورة الكهف : ٣٥ .

(٣) سورة الكهف : ٣٥ ـ ٣٩ .

(٤) سورة الكهف : ٣٩ ـ ٤٢ .

٥٠١

وقد جاء في تصوير هذه النظرة الطريقية إلى الملكيّة ـ النظرة إليها بما هي أداة ـ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :( ليس لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت ، ولبست فأبليت ، وتصدّقت فأبقيت ) (١) .

وقال في نصٍّ آخر :( يقول العبد مالي مالي ، وإنّما له من ماله ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو أعطى فاقتنى ، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ) (٢) .

وقد قاوم الإسلام النظرة الغائية إلى الملكية ـ النظرة إليها بما هي غاية ـ لا بالتعديل من مفهومها وتجريدها عن امتيازاتها في غير مجالها الأصيل فحسب ، بل قام إلى صفّ ذلك بعمل إيجابي لمقاومة تلك النظرة ، ففتح بين يدي الفرد المسلم أفقاً أرحب من المجال المحدود والمنطق المادّي العاجل ، وخطا أطول من الشوط القصير للملكية الخاصة الذي ينتهي بالموت ، وبشّر المسلم بمكاسب من نوع آخر : أكثر بقاءً ، وأقوى إغراء ، وأعظم نفعاً لمن آمن بها وعلى أساس تلك المكاسب الأخروية الباقية قد تصبح الملكية الخاصة أحياناً حرماناً وخسارة ، إذا حالت دون الظفر بتلك المكاسب ، كما قد يصبح التنازل عن الملكية عملية رابحة إذا أدّت إلى تعويض أضخم من مكاسب الحياة الآخرة وواضحٌ أنّ الإيمان بهذا التعويض ، وبالمنطلق الأوسع والمدى الأرحب للمكاسب والأرباح ، يقوم بدور إيجابي كبير في إطفاء البواعث الأنانية للملكية ، وتطوير النظرة الغائية إلى نظرة طريقيّة قال الله تعالى :

( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (٣) ، ( وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا

ـــــــــــــــ

(١) كنز العمال ٦ : ٣٥٨ ، الحديث ١٦٠٤٦ ، مع اختلاف يسير .

(٢) المصدر السابق : الحديث ١٦٠٤٥ ، مع اختلاف يسير .

(٣) سورة سبأ : ٣٩ .

٥٠٢

تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) (١) ،( وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٢) ،( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ) (٣) ،( وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِين ) (٤) .

وقد قارن القرآن الكريم بين النظرة المنفتحة للأرباح والخسائر التي لا تقيسها بمقاييس الحسّ العاجل فحسب ، وبين النظرة الرأسمالية الضيّقة التي لا تملك سوى هذه المقاييس فيتهدّدها شبح الفقر دائماً ، وتفزع بمجرد التفكير في تسخير الملكية الخاصة لأغراض أعم وأوسع من دوافع الشَّرَه والأنانية ؛ لأنّّ شبح الفقر المرعب والخسارة يبدو لها من وراء هذا اللون من التفكير ونسب القرآن هذه النظرة الرأسمالية الضيقة إلى الشيطان ، فقال :( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٥) .

٤ ـ التحديد الزمني للحقوق الخاصة

النظرية العامة في التوزيع التي قرّرت الحقوق الخاصة بالطريقة التي عرفناها تفرض على هذه الحقوق تحديداً زمنياً بشكل عام ، فكلّ ملكيّة وحقّ في الإسلام ، فهو محدّد زمنياً بحياة المالك ولم يسمح له بالامتداد بشكل مطلق ، ولهذا

ـــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ٢٧٢ .

(٢) سورة البقرة : ١١٠ .

(٣) سورة آل عمران : ٣٠ .

(٤) سورة آل عمران : ١١٥ .

(٥) سورة البقرة : ٢٦٨

٥٠٣

لا يملك الفرد في الإسلام الحقّ في تقرير مصير الثروة التي يملكها بعد وفاته ، وإنّما يقرّر مصيرها القانون ابتداءً ضمن أحكام الميراث والتشريعات التي تنظّم توزيع التركة بين الأقرباء ، وفي هذا يختلف الإسلام عن المجتمعات الرأسمالية التي تؤمن عادة بامتداد سلطة المالك على أمواله إلى أبعد مدى ، وتفوّض إليه الحقّ في تقرير مستقبل الثروة بعد وفاته ومنحها لمن يشاء بالطريقة التي تحلو له .

وهذا التحديد الزمني للحقوق الخاصة هو في الحقيقة من نتائج النظرية العامة في توزيع ما قبل الإنتاج ، التي هي الأساس لتشريع تلك الحقوق الخاصة ، فقد عرفنا سابقاً في ضوء النظرية أنّ الحقوق الخاصة ترتكز على أساسين :

أحدهما : خلق الفرد فرصة الانتفاع بمصدر طبيعي بالإحياء ، فيملك هذه الفرصة بوصفها نتيجة لعمله ، وعن طريقها يوجد له حقّ في المال لا يسمح لآخر بانتزاع تلك الفرصة .

والآخر : الانتفاع المتواصل بثروة معيّنة ، فإنّه يعطي المنتفع حقّ الأولوية بتلك الثروة من غيره ما دام منتفعاً بها وهذان الأساسان لا يظّلان ثابتين بعد الوفاة ، ففرصة الانتفاع التي يملكها من أحيى أرضاً مَيتَة ـ مثلاً ـ تتلاشى بوفاته طبعاً ؛ إذ تنعدم فرصة الانتفاع بالنسبة إليه نهائياً ، ولا تكون استفادة فرد آخر منها سرقة لها منه ما دامت قد ضاعت عليه الفرصة طبيعياً بوفاته ، وكذلك الانتفاع المستمرّ بالموت ، وتفقد بذلك الحقوق الخاصة مبرّراتها التي تقرّرها النظرية العامة .

فالتحديد الزمني للحقوق والملكيات الخاصة وفقاً لأحكام الشريعة في الميراث جزء من بناء المذهب الاقتصادي ، ومرتبط بالنظرية العامة في التوزيع .

وهذا التحديد الزمني يعبّر عن الجانب السلبي من أحكام الميراث ، الذي يقرّر انقطاع صلة المالك بثروته عند الموت وأمّا الجانب الإيجابي من أحكام

٥٠٤

الميراث الذي يحدّد المالكين الجدد ، وينظّم طريقة توزيع الثروة عليهم ، فهو ليس نتيجة للنظرية العامة في توزيع ما قبل الإنتاج ، وإنّما يرتبط بنظريّات أخرى من الاقتصاد الإسلامي كما سنرى في بحوث مقبلة .

والإسلام حين حدّد الملكية الخاصة تحديداً زمنياً بحياة المالك ، ومنعه من الوصية بماله والتحكّم بمصير ثروته بعد وفاته ، استثنى من ذلك ثلث التركة ، فسمح للمالك بأن يقرّر بنفسه مصير ثلث ماله(١) ، وهذا لا يتعارض مع الحقيقة التي عرفناها عن التحديد الزمني وارتباطه بالنظرية العامة ؛ لأنّ النصوص التشريعية التي دلّت على السماح للمالك بالثلث من التركة تشير بوضوح إلى أنّ هذا السماح ذو صفة استثنائية ، يقوم على أساس مصالح معيّنة ، فقد جاء في الحديث عن علي بن يقطين : أنّه سأل الإمام موسىعليه‌السلام ما للرجل من ماله عند موته ؟ فأجابه :( الثلث والثلث كثير ) (٢) . وجاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام :( أنّ الوصية بالربع والخمس أفضل من الوصية بالثلث ) (٣) . وورد في الحديث أيضاً :( أنّ الله تعالى يقول لابن آدم : قد تَطَوَّلت عليك بثلاثة : سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما واروك ، وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدّم خيراً ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدّم خيراً ) (٤) .

فالثلث في ضوء هذه الأحاديث حقّ يرجح للمالك عدم استخدامه ويستكثر عليه ، ويعتبر منحة قد تفضّل بها الله على عبده عند موته ، وليس امتداداً

ـــــــــــــــ

(١) راجع : جواهر الكلام ٢٦ : ٥٩ .

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ٢٧٤ ، الباب ١٠ من كتاب الوصايا ، الحديث ٨ .

(٣) المصدر السابق : ٢٦٩ ، الباب ٩ من كتاب الوصايا ، الحديث ٢ .

(٤) المصدر السابق : ٢٦٣ ، الباب ٤ من كتاب الوصايا ، الحديث ٤ .

٥٠٥

طبيعياً لحقوقه التي كسبها حال الحياة فكلّ ذلك يشير إلى أنّ السماح بالثلث للميّت حكم استثنائي ، وفي هذا اعتراف ضمني بالحقيقة التي قدّمناها عن التحديد الزمني وارتباطه بالنظرية العامة .

وقد استهدفت الشريعة من تشريع هذا الحكم الاستثنائي الحصول على مكاسب جديدة للعدالة الاجتماعية ؛ لأنّه يتيح للفرد وهو يودع دنياه كلّها ويستقبل عالماً جديداً أن يستفيد من ثروته لعالمه الجديد ، والغالب في لحظات الانتقال الحاسمة من حياة الفرد المسلم أن تنطفئ فيها شعلة الدوافع المادّية والشهوات الموقوتة ، الأمر الذي يساعد الإنسان على التفكير في ألوان جديدة من الإنفاق تتّصل بمستقبله وحياته المنتظرة التي يتأهّب للانتقال إليها وهذه الألوان الجديدة هي التي أطلق عليها في الحديث السابق اسم (الخير ) وعوتب الفرد الذي لم يستفد من حقّه في الوصية على عدم تحقيقه للغرض الذي من أجله منح ذلك الحقّ .

وقد حثَّ الإسلام ـ في نفس الوقت الذي سمح فيه بالثلث ـ على استغلال الفرد لفرصته الأخيرة هذه في سبيل حماية مستقبله وآخرته ؛ بتخصيص الثلث لمختلف سبل الخير والمصالح العامّة التي تساهم في تدعيم العدالة الاجتماعية(١) .

فالتحديد الزمني للملكية هو القاعدة إذن ، والسماح بالثلث استثناء فرضته أغراض ترتبط بجوانب أخرى من الاقتصاد الإسلامي .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٧١ ، الباب ١٠ من كتاب الوصايا .

٥٠٦

الكتاب الثاني ٣

نظرية التوزيع ما بعد الإنتاج

١ ـ الأساس النظري للتوزيع على عناصر الإنتاج

٢ ـ أوجه الفرق بين النظرية الإسلامية والماركسية

٣ ـ القانون العام لمكافأة المصادر المادّية للإنتاج

٤ ـ الملاحظات

٥٠٧

١ ـ الأساس النظري للتوزيع على عناصر الإنتاج(١)

البناء العُلْوي :

١ ـ ذكر المحقّق الحلّي في كتاب الوكالة من الشرائع : أنّ الاحتطاب وما إليه من ألوان العمل في الطبيعة لا تصحّ فيه الوكالة ، فلو وكّل فرد شخصاً آخر في الاحتطاب له من أخشاب الغابة مثلاً ، كانت الوكالة باطلة ، فلا يملك الموكِّل الخشب الذي احتطبه العامل ؛ لأنّ الاحتطاب وغيره من ألوان العمل في الطبيعة لا ينتج أثراً أو حقّاً خاصاً لشخص ما لم يمارس العمل بنفسه ، وينفق جهداً مباشراً في عمليات الاحتطاب والاحتشاش ونحوهما فقد تعلّق غرض الشارع ـ على حدّ تعبير المحقّق ـ بإيقاع هذه الأعمال من المكلّف مباشرة .

ـــــــــــــــ

(١) كنّا في نظرية توزيع ما قبل الإنتاج نحاول أن نحدّد الحقوق التي يكسبها الأفراد في الثروات الطبيعية الخام بوصفها مظهراً من مظاهر توزيعها ، ولمّا كانت هذه الحقوق نتيجة للعمل اتّجه البحث إلى تحديد دور العمل في تلك الثروات الطبيعية ، والثروة الطبيعية التي يطوّرها العمل هي بهذا الاعتبار تندرج في ثروة ما بعد الإنتاج ، ولأجل هذا تداخل البحثان ـ بحث توزيع ما قبل الإنتاج وبحث توزيع ما بعد الإنتاج ـ بصورة جزئية ، وكان لا بدّ من هذا التداخل ؛ حفاظاً على الوضوح في إعطاء الأفكار عن كلٍّ من حَقلَي التوزيع (المؤلّفقدس‌سره )

٥٠٨

وإليكم نصّ كلامه : ( وأمّا ما لا تدخل النيابة فيه ،فضابطه : ما تعلّق قصد الشارع بإيقاعه من المكلّف مباشرة كالطهارة والصلاة الواجبة ما دام حيّاً ، والصوم ، والاعتكاف ، والحجّ الواجب مع القدرة ، والأيمان ، والنذر ، والغصب ، والقسم بين الزوجات ؛ لأنّه يتضمّن استمتاعاً ، والظهار واللعان ، وقضاء العدّة ، والجناية ، والالتقاط والاحتطاب والاحتشاش )(١) .

٢ ـ وجاء في الوكالة من كتاب التذكرة للعلاّمة الحلّي : ( أنّ في صحّة التوكيل في المباحات ، كالاصطياد والاحتطاب والاحتشاش ، وإحياء الموات ، وحيازة الماء وشبهه ، إشكالاً ونقل القوم بعدم صحّة ذلك إلى بعض فقهاء الشافعية )(٢) .

٣ ـ وفي كتاب القواعد : ( أنّ في التوكيل بإثبات اليد على المباحات ، كالالتقاط والاصطياد والاحتشاش والاحتطاب ، نظرٌ )(٣) .

٤ ـ وقد شاركت في هذا النظر عدّة مصادر فقهية أخرى ، كالتحرير والإرشاد والإيضاح(٤) وغيرها.

٥ ـ ولم تكتف عدّة مصادر فقهية أخرى بالنظر والإشكال ، بل أعلنت بصراحة عن عدم جواز الوكالة وِفاقاً للشرائع كالجامع(٥) في الفقه ، وكذلك السرائر(٦) أيضاً بالنسبة إلى الاصطياد ، كما نُقل عن الشيخ الطوسي في كتاب

ـــــــــــــــ

(١) شرائع الإسلام ٢ : ١٩٥ .

(٢) تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ١١٨ .

(٣) قواعد الأحكام ٢ : ٣٥٥ .

(٤) لاحظ : تحرير الأحكام الشرعية ٣ : ٢٧ ، وإرشاد الأذهان ١ : ٤١٦ ، وإيضاح الفوائد ٢ : ٣٣٩ ، ومفتاح الكرامة ٧ : ٥٥٩ .

(٥) راجع : الجامع للشرائع : ٣١٩ .

(٦) السرائر ٢ : ٨٥ .

٥٠٩

المبسوط ـ في بعض نسخه ـ المنع عن التوكيل في الإحياء(١) . ونقل عنه أيضاً المنع من التوكيل في الاحتطاب والاحتشاش(٢) .

وقال أبو حنيفة ـ بصدد الاستدلال على أنّ الشركة لا تصحّ في اكتساب المباح كالاحتشاش ـ : لأنّ الشركة مقتضاها الوكالة ، ولا تصحّ الوكالة في هذه الأشياء ؛ لأنّ من أخذها ملكها(٣) .

٦ ـ وربط العلاّمة الحلّي بين الوكالة والإجارة ، فذكر أنّ الوكالة في تلك الأعمال إذا كانت غير مُنتجة ، فالإجارة مثلها أيضاً ، فكما لا يملك الموكِّل ما يحصل عليه الوكيل في الاحتطاب والاصطياد وإحياء الموات ، كذلك لا يملك المستأجر مكاسب عمل الأجير في الطبيعة(*) . والنصّ في كتاب التذكرة ، إذ كتب يقول : إن جوّزنا التوكيل فيه جوّزنا الإجارة عليه فإذا استأجر ليحتطب أو يستقي الماء أو يحيي الأرض ، جاز وكان ذلك للمستأجر وإن قلنا بالمنع هناك ، منعنا هنا ، فيقع الفعل للأجير)(٤) .

وقد أكدّ المحقّق الإصفهاني في كتاب الإجارة : أنّ الإجارة لا أثر لها في تملّك المستأجر ـ أي باذل الأُجرة ـ لِما يحوزه الأجير ويحصل عليه بعمله في الطبيعة ، فإذا حاز الأجير لنفسه ملك المال المُحاز ، ولم يكن للمستأجر شيء )(٥) .

والشيء نفسه ذهب إليه الشهيد الثاني في مسالكه ، إذ كتب يقول : ( وبقي

ـــــــــــــــ

(١) نقله عنه مفتاح الكرامة ٧ : ٥٦٠ ، وراجع : المبسوط ٢ : ٣٦٣ .

(٢) نقله عن العلاّمة في مختلف الشيعة ٦ : ٢٠ .

(٣) لاحظ : المغني ٥ : ١١١ .

(*) راجع الملحق رقم ١٤ .

(٤) تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ١١٨ .

(٥) كتاب الإجارة (للشيخ محمّد حسين الإصفهاني ) : ١٢٠ ـ ١٢٢ .

٥١٠

في المسألة بحث آخر ، وهو : أنّه على القول بصحة الإجارة على أحد القولين ( أي : الإجارة للاحتطاب أو الاحتشاش أو الاصطياد ) إنّما يقع الملك للمستأجر مع نية الأجير الملك له ، أمّا مع نيّة الملك لنفسه فيجب أن يقع له ؛ لحصول الشرط على جميع الأقوال ، واستحقاق المستأجر منافعه تلك المدّة لا ينافي ذلك)(١) .

٧ ـ ذكر العلاّمة الحلّي في القواعد : ( أنّ الإنسان لو صاد أو احتطب أو احتشّ وحاز بنيّة أنّه له ولغيره ، لم تؤثّر تلك النيّة ، وكان بأجمعه له )(٢) .

٨ ـ وفي مفتاح الكرامة : ( أنّ الشيخ الطوسي والمحقّق والعلامّة حكموا جميعاً بأنّ الشخص إذا حاز ثروة طبيعية بنيّة أنّه له ولغيره كانت كلّها له )(٣) .

٩ ـ وجاء في قواعد العلاّمة : ( أنّ الشخص لو دفع شبكة للصائد بحصّة ، فالصيد للصائد وعليه أجرة الشبكة )(٤) . وأكدت ذلك عدّة مصادر فقهية أخرى كالمبسوط والمهذّب والجامع والشرائع )(٥) .

١٠ ـ وقال المحقّق الحلّي في الشرائع : ( الاصطياد بالآلة المغصوبة حرام ولا يحرم الصيد ويملكه الصائد دون صاحب الآلة وعليه أجرة مثلها )(٦) .

وقد علّق المحقّق النجفي في الجواهر على الحكم المذكور بتملّك الصائد للصيد دون صاحب الآلة ، قائلاً : ( لأنّ الصيد من المباحات التي تُملك بالمباشرة

ـــــــــــــــ

(١) مسالك الأفهام ٤ : ٣٣٩ .

(٢) قواعد الأحكام ٢ : ٣٣٠ .

(٣) مفتاح الكرامة ٧ : ٤٢٠ .

(٤) قواعد الأحكام ٢ : ٣٣٣ .

(٥) المبسوط ٣ : ١٦٨ ، المهذّب ١ : ٤٦١ ، والجامع للشرائع : ٣١٧ ، وشرائع الإسلام ٢ : ١٣٩ .

(٦) شرائع الإسلام ٣ : ٢٠٣ .

٥١١

المتحقّقة من الغاصب وإن حرم استعماله للآلة نعم ، عليه ـ أي الصائد ـ أجرة مثلها للمالك ، كباقي الأعيان المغصوبة ، بل لو لم يصد بها كان عليه الأجر لفوات المنفعة تحت يده)(١) .

وجاء نظير ذلك في المبسوط للفقيه الحنفي السرخسي ، إذ كتب يقول : ( وإذا دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أنّ ما صاد بها من شيء فهو بينهما فصاد بها سمكاً كثيراً ، فجميع ذلك للذي صاد لأنّ الآخذ هو المكتسب دون الآلة فيكون الكسب له ، وقد استعمل فيه آلة الغير بشرط العوض لصاحب الآلة وهو مجهول ، فيكون له أجر مثله على الصيّاد )(٢) ، وهذا يعني أنّ الآلة ليس لها حصّة في السلعة المنتجة .

١١ ـ وللشيخ الطوسي في الشركة من كتاب المبسوط هذا النصّ الآتي : ( إذا أذن رجلٌ لرجلٍ أن يصطاد له صيداً فاصطاد الصيد بنيّة أن يكون للآمر دونه ، فلمن يكون هذا الصيد ؟ قيل فيه : إنّ ذلك بمنزلة الماء المباح إذا استقاه السقّاء بنية أن يكون بينهم ، وإنّ الثمن يكون له ـ أي : للسقّاء ـ دون شريكه ، فهاهنا يكون الصيد للصيّاد دون الآمر ؛ لأنّه انفرد بالحيازة وقيل : إنّه يكون للآمر ؛ لأنّه اصطاده بنيّته فاعتبرت النيّة والأوّل أصحّ )(٣) .

١٢ ـ ذكر المحقّق الحلّي في الشرائع : إنّ إنساناً لو دفع دابّة ـ مثلاً ـ وآخر راوية إلى سقّاء على الاشتراك الحاصل ، لم تنعقد الشركة ، فكان ما يحصل حينئذٍ للسقّاء ، وعليه مثل أجرة الدابّة والراوية )(٤) .

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ٦٥ ، ٦٦ .

(٢) المبسوط ( للسرخسي) ٢٢ : ٣٤ .

(٣) المبسوط ٢ : ٣٦٤ .

(٤) شرائع الإسلام ٢ : ١٣٢ ـ ١٣٣ مع اختلاف يسير .

٥١٢

والشيء نفسه ذكره العلامة الحلّي في القواعد(١) .

و جاءت المسألة نفسها في كتاب المغني لابن قدامة ، ونقل عن القاضي والشافعي نفس الحكم المذكور ، وهو : أنّ ما يحصل للسقّاء ، وعليه لصاحبه أجرة المثل(٢) .

وكذلك نصّ على الحكم المذكور الشيخ الطوسي ، مشيراً في مقابل ذلك إلى القول باقتسام الربح أثلاثاً بين صاحب الدابّة وصاحب الراوية والسقّاء مع عدم ارتضائه(٣) .

وهذا يعني أنّ وسائل الإنتاج التي استخدمها السقّاء ليس لها نصيب في منتوج العملية ، وإنّما لها أجرة المِثل على العامل .

من النظرية :

كل هذا البناء العُلْوي يكشف عن الحقيقة الأساسية في النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج ، وبالتالي عن خلافات جوهرية بين النظرية الإسلامية ، والنظرية العامة للتوزيع في الاقتصاد المذهبي للرأسمالية .

وقد يكون من الأفضل بدلاً عن البدء في استنتاج النظريّة من البناء العُلْوي المتقدّم ، أن نكوّن فكرة قبل ذلك عن طبيعة نظرية توزيع ما بعد الإنتاج ، وصورة عامّة عن طريق تقديم نموذج لها من المذهب الرأسمالي ، لكي نعرف نوع المجال الذي لا بدّ لنظرية مذهبية في توزيع ما بعد الإنتاج أن تمارسه .

ـــــــــــــــ

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٣٢٩ .

(٢) المغني (لابن قدامة ) ٥ : ١٢٠ .

(٣) المبسوط ٢ : ٣٤٦ .

٥١٣

وبعد تقديم النظرية في إطارها الرأسمالي نستعرض النظرية الإسلامية في توزيع ما بعد الإنتاج كما نؤمن بها ، حتى إذا أعطينا الصورة المحدّدة لها وأبرزنا بوضوح الفوارق بين النظريّتين ، عدنا إلى البناء العُلْوي المتقدّم ؛ لندعم افتراضنا للنظرية الإسلامية ، ونشرح طريقة استنتاجنا لها من ذلك البناء الذي تنعكس فيه معالمها الأساسية ، وهكذا سوف يكون البحث على مراحل ثلاث :

١ ـ نموذج للنظرية من الاقتصاد الرأسمالي :

تحلّل عملية الإنتاج عادة في المذهب الرأسمالي التقليدي إلى عناصرها الأصلية المتشابكة في العملية وتقوم الفكرة العامة في توزيع الثروة المنتجة على أساس اشتراك تلك العناصر في الثروة التي أنتجتها ، فلكلّ عنصر نصيبه من الإنتاج وفقاً لدوره في العملية .

وعلى هذا الأساس تقسِّم الرأسمالية الثروة المنتجة أو القيمة النقدية لهذه الثروة إلى حصص أربع ، وهي :

١ ـ الفائدة .

٢ ـ الأجور .

٣ ـ الريع .

٤ ـ الربح

فالأجور هي نصيب العمل الإنساني ، أو الإنسان العامل بوصفه عنصراً مهمّاً في عملية الإنتاج الرأسمالي والفائدة هي نصيب رأس المال المسلف ، والربح هو نصيب رأس المال المشترِك فعلاً في الإنتاج والريع يعبّر عن حصة الطبيعة أو حصّة الأرض بتعبير أخص .

وجرت عدّة تعديلات على هذه الطريقة الرأسمالية في التوزيع من الناحية

٥١٤

الشكلية ، فأدرج الربح والأجر في فئة واحدة ؛ اعتقاداً بأنّ الربح في الحقيقة نوع من الأجر على عمل خاص ، وهو عمل التنظيم الذي يباشره صاحب المشروع بتهيئة عناصر الإنتاج المختلفة من رأس مال وطبيعة عمل ، وتوفيقه بينها وتنظيمها في عملية الإنتاج .

ومن ناحية أخرى أعطت النظرية الحديثة في التوزيع للريع مفهوماً أوسع يتعدّى به حدود الأرض ، ويكشف عن ألوان عديدة من الريع في مختلف المجالات كما رجّح البعض أخذ رأس المال بمعنى شامل يضمّ جميع القوى الطبيعية بما فيها الأرض .

وبالرغم من التعديلات الشكلية فإنّ النظرة الجوهرية في التوزيع الرأسمالي ظلّت ثابتة خلال جميع التعديلات ، ولم تتغيّر من الناحية المذهبية وهذه النظرة هي ملاحظة جميع عناصر الإنتاج على مستوى واحد ، وإعطاء كلّ واحد من تلك العناصر نصيبه من الثروة المنتجة ، بوصفه مساهماً في العملية ، وفي حدود مشاركته لسائر العناصر في إنجاز تلك الثروة وإنتاجها ، فالعامل يحصل على الأجر بنفس الطريقة وعلى أساس نفس النظرة المذهبية التي يحصل رأس المال بموجبها على فائدة مثلاً ؛ لأنّ كلاً منهما في العرف الرأسمالي عامل إنتاج وقوّة مساهمة في التركيب العضوي للعملية ، فمن الطبيعي أن توزّع المنتجات على عناصر إنتاجها بنسب تقرّرها قوانين العرض والطلب ، وما إليها من القوى التي تتحكّم في التوزيع .

٢ ـ النظرية الإسلامية ومقارنتها بالرأسمالية :

وأمّا الإسلام فهو يرفض هذه النظرة الجوهرية في المذهب الرأسمالي رفضاً تامّاً ، ويختلف عنها اختلافاً أساسياً ؛ لأنّه لا يضع عناصر الإنتاج المتعدّدة

٥١٥

على مستوى واحد ، ولا ينظر إليها بصورة متكافئة ليقرّ توزيع الثروة المنتجة على تلك العناصر بالنسب التي تقرّرها قوانين العرض والطلب كما تصنع الرأسمالية ، بل إنّ النظرية الإسلامية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج تعتبر أنّ الثروة التي تنتج من الطبيعة الخام ملك للإنسان المنتج وحده ـ العامل ـ ، وأمّا وسائل الإنتاج المادّية التي يستخدمها الإنسان في عملية الإنتاج من أرض ورأس مال ومختلف الأدوات والآلات فلا نصيب لها من الثروة المنتجة نفسها ، وإنّما هي وسائل تقدّم للإنسان خدمات في تذليل الطبيعة وإخضاعها لأغراض الإنتاج ، فإذا كانت تلك الوسائل مِلكاً لفردٍ آخر غير العامل المنتج ، كان على الإنسان المنتج أن يكافئ الفرد الذي يملك تلك الوسائل على الخدمات التي جناها المنتج عن طريق تلك الوسائل ، فالمال الذي يعطى لصاحب الأرض ، أو لمالك الأداة ، أو صاحب الآلة التي تساهم في أعمال الإنتاج ، لا يعبّر عن نصيب الأرض والأداة والآلة نفسها في المنتوج بوصفها عنصراً من عناصر إنتاجه ، وإنّما يعني مكافأة لمالكي تلك الوسائل على الخدمات التي قدّموها بالسماح للعامل المنتج باستخدام وسائلهم ، وأمّا إذا لم يكن للوسائل مالك معيّن سوى الإنسان المنتج فلا معنى للمكافأة ؛ لأنّها عندئذ منحة الطبيعة لا منحة إنسان آخر .

فالإنسان المنتج في النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج هو المالك الأصيل للثروة المنتجة من الطبيعة الخام ، ولاحظّ لعناصر الإنتاج المادّية في تلك الثروة ، وإنّما يعتبر الإنسان المنتج مديناً لأصحاب الوسائل التي يستخدمها في إنتاجه فيكلّف بإبراء ذمّته ومكافأتهم على الخدمات التي قدّمتها وسائلهم ، فنصيب الوسائل المادّية المساهمة في عملية الإنتاج يحمل طابع المكافأة على خدمة ، ويعبّر عن دين في ذمّة الإنسان المنتج ، ولا يعني التسوية بين الوسيلة المادّية والعمل الإنساني أو الشركة بينهما في الثروة الناتجة على أساس موحّد .

٥١٦

ومن خلال مواصلتنا لاكتشاف النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج ، سنعرف المبرّر النظري لتلك المكافأة التي يظفر بها أصحاب الوسائل المادّية من الإنسان المنتج لقاء استخدامه للوسائل التي يملكونها في عملية الإنتاج .

فالفارق كبير بين النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج والنظرية الرأسمالية بهذا الشأن .

ومردّ هذا الفرق إلى اختلاف النظريتين الرأسمالية والإسلامية في تحديد مركز الإنسان ودوره في عملية الإنتاج ، فإنّ دور الإنسان في النظرة الرأسمالية هو دور الوسيلة التي تخدم الإنتاج لا الغاية التي يخدمها الإنتاج ، فهو في صفّ سائر القوى المساهمة في الإنتاج من طبيعة ورأس مال ، ولهذا يتلّقى الإنسان المنتج نصيبه من ثروة الطبيعة ، بوصفه مساهماً في الإنتاج وخادماً له ، ويصبح الأساس النظري للتوزيع على الإنسان العامل والوسائل المادّية التي تساهم معه في عملية الإنتاج واحداً .

وأمّا مركز الإنسان في النظرة الإسلامية فهو مركز الغاية لا الوسيلة ، فليس هو في مستوى سائر الوسائل المادّية لتوزيع الثروة المنتجة بين الإنسان وتلك الوسائل جميعاً على نسق واحد ، بل إنّ الوسائل المادّية تعتبر خادمة للإنسان في إنجاز عملية الإنتاج ؛ لأنّ عملية الإنتاج نفسها إنّما هي لأجل الإنسان وبذلك يختلف نصيب الإنسان المنتج عن نصيب الوسائل المادّية في الأساس النظري ، فالوسائل المادّية إذا كانت ملكاً لغير العامل وقدّمها صاحبها لخدمة الإنتاج كان من حقّه على الإنسان المنتج أن يكافئه على خدمته ، فالمكافأة هنا دَين على ذمّة المنتج يسدّده لقاء خدمة ، ولا تعني نظرياً مشاركة الوسيلة المادّية في الثروة المنتجة .

٥١٧

وهكذا يفرض مركز الوسائل المادّية ـ في النظرة الإسلامية ـ عليها تتقاضى مكافأتها من الإنسان المنتج بوصفها خادمة له ، لا من الثروة المنتجة بوصفها مساهمة في إنتاجها ، كما يفرض مركز الإنسان في عملية الإنتاج بوصفه الغاية لها أن يكون وحده صاحب الحقّ في الثروة الطبيعية التي أعدّها الله تعالى لخدمة الإنسان .

ومن أهم الظواهر التي يعكسها هذا الفرق الجوهري بين النظريّتين ـ الإسلامية والرأسمالية ـ موقف المذهبين من الإنتاج الرأسمالي في مجالات الثروة الطبيعية الخام ، فالرأسمالية المذهبية تسمح لرأس المال بممارسة هذا اللون من الإنتاج ، فيكون بمقدور رأس المال أن يستأجر عمّالاً لاحتطاب الخشب من أشجار الغابة أو استخراج البترول من آباره ، ويسدّد إليهم أجورهم ـ وهي كلّ نصيب العامل في النظرية الرأسمالية للتوزيع ـ ويصبح رأس المال بذلك مالكاً لجميع ما يحصل عليه الإجراء من أخشاب أو معادن طبيعية ، ومن حقّه بيعها بالثمن الذي يحلو له .

وأمّا النظرية الإسلامية للتوزيع فلا مجال فيها لهذا النوع من الإنتاج(١) ؛ لأنّ رأس المال لا يظفر بشيء عن طريق تسخير الإجراء لاحتطاب الخشب واستخراج المعدن وتوفير الأدوات اللازمة لهم ، مادامت النظرية الإسلامية تجعل

ـــــــــــــــ

(١) لمّا عرفنا في البناء العُلْوي من منع المحقّق الحلّي في الشرائع عن التوكيل في الاحتطاب وما إليه من حيازة المباحات ، ومنع الشيخ الطوسي على ما حكي عن بعض نسخ المبسوط من التوكيل في إحياء الأرض ، وتأكيد المحقّق الإصفهاني في كتاب الإجارة على أنّ المستأجر لا يملك بسبب عقد الإجارة ما يحوزه أجيره من الثروات الطبيعية (المؤلّفقدس‌سره )

٥١٨

مباشرة العمل شرطاً في تملّك الثروة الطبيعية ، وتمنح العامل وحده حقّ ملكية الخشب الذي يحتطبه والمعدن الذي يستخرجه وبذلك يقضي على تملّك الثروات الطبيعية الخام عن طريق العمل المأجور ، وتختفي سيطرة رأس المال على تلك الثروات التي يمتلكها في ظلّ المذهب الرأسمالي لمجرّد قدرته على دفع الأجور للعامل وتوفير الأدوات اللازمة له ، وتحلّ محلّها سيطرة الإنسان على ثروات الطبيعة .

واختفاء طريقة الإنتاج الرأسمالي هذا في مجال الثروات الطبيعية الخام ليس حادثاً عرضياً أو ظاهرة عابرة وفارقاً جانبياً بين النظرية الإسلامية والمذهب الرأسمالي ، وإنّما يعبّر بشكلٍ واضح وعلى أساس نظري ـ كما عرفنا ـ عن التناقض المستقطب بينهما ، وأصالة المضمون النظري للاقتصاد الإسلامي .

٣ ـ استنتاج النظرية من البناء العُلْوي :

عرضنا حتى الآن النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج ونحن نفترضها افتراضاً ، بالقدر الذي تتطلّبه المقارنة بينها وبين النظرية الرأسمالية في أساسها النظري لتوزيع الثروة على عناصر الإنتاج .

ولا بدّ لكي نبرهن على صحة تصوّرنا للنظرية أن نعود الآن إلى البناء العُلْوي المتقدّم في مستهلّ البحث ، لنستنبط منه الجانب الذي افترضناه من النظرية الإسلامية ، ونبرز مدلوله المذهبي ومدى انسجامه مع الصورة التي قدّمناها .

إنّ الأحكام التي استعرضناها في البناء العُلْوي تقرّر :

أولاً : أنّ الموكّل لا يجوز له أن يقطف ثمرات عمل الوكيل في ثروات الطبيعة الخام ، فلو وكّل فرداً في الاحتطاب له من خشب الغابة مثلاً ، لم يجز له أن

٥١٩

يمتلك الخشب الذي يظفر به وكيله ما دام لم يباشر بنفسه العمل والاحتطاب ؛ لأنّ الملكية التي تنتج عن العمل هي من نصيب العامل وحده وهذا واضح من الفقرات الثمانية الأولى في البناء العُلْوي .

وثانياً : أنّ عقد الإجارة كعقد الوكالة ، فكما لا يملك الموكِّل الثروات التي يظفر بها وكيله من الطبيعة ، كذلك لا يملك المستأجِر الثروات الطبيعية التي يحوزها أجيره لمجرّد أنّه سدد الأجر اللازم له ؛ لأنّ تلك الثروات لا تملك إلاّ بالعمل المباشر وهذا واضح من الفقرة السادسة .

وثالثاً : أنّ الإنسان المنتج الذي يمارس ثروات الطبيعة إذا استخدم في عمله أداة أو آلة إنتاج يملكها غيره ، لم يكن للأداة نصيب من الثروة التي يحصل عليها من الطبيعة ، وإنّما يصبح الإنسان المنتج مديناً لصاحب الأداة بمكافأة على الخدمة التي أسداها له خلال عملية الإنتاج ، وأمّا المنتج فهو ملك العامل كلّه وهذا واضح في الفقرة ٩ و ١٠ و ١٢ .

وهذه النقاط الثلاث تكفي لاكتشاف النظرية العامّة لتوزيع ما بعد الإنتاج التي يقوم على أساسها البناء العُلْوي لتلك الأحكام كلّها ، كما أنّها تكفي أيضاً للتدليل على صحة اكتشافنا للنظرية وإعطائها نفس المضمون والملامح التي حدّدناها .

فالإنسان المنتِج يملك الثروة المنتَجة من الطبيعة الخام لا بوصفه مساهماً في الإنتاج وخادماً له ، بل لأجل أنّه هو الغرض الذي يخدمه الإنتاج ، ولذلك فهو يستأثر بكلّ الثروة المنتَجة، ولا تشاركه فيها القوى والوسائل الأخرى التي خدمت الإنتاج وساهمت فيه .

وأمّا تلك الوسائل المادّية فلها أجرها على خدماتها من الإنسان العامل

٥٢٠