اقتصادنا

اقتصادنا5%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152214 / تحميل: 9434
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

الذي يمارس الإنتاج ؛ لأنّها تعتبر خادمة له وليست في مستواه(١) .

وهكذا نحصل باستخدام البناء العُلْوي المتقدّم على الأساس الإسلامي لتوزيع ما بعد الإنتاج ، ونبرهن في ضوئه على صدق الصورة التي قدّمناها عن النظرية الإسلامية عند مقارنتها بالنظرية الرأسمالية .

ولنواصل الآن اكتشافنا ، ولنأخذ بدراسة جانب آخر من النظرية وإبرازه عن طريق مقارنتها بالماركسية وتحديد أوجه الفرق بينهما .

ـــــــــــــــ

(١) ويكفينا في الحصول على هذه النتائج من الناحية النظرية ، بناء البحث على أساس النقطتين الأخيرتين من النقاط الثلاث التي لخصنا فيها مدلول البناء العُلْوي ، فحتى إذا لم نعترف بالنقطة الأولى كان البناء النظري الذي شيّدناه صحيحاً ، فلنفترض أنّ الوكيل إذا أنتج لموكّله شيئاً من ثروات الطبيعة الخام ، لم يملك تلك الثروة التي أنتجها ، بل ملكها الموكِّل ـ وهذا ما أرجّحه بوصفي الفقهي (راجع ملحق رقم ١٥) فإنّ هذا لا يتعارض مع المبدأ القائل : إنّ الإنسان المنتج هو وحده صاحب الحقّ في الثروة التي ينتجها ؛ لأنّ الإنسان المنتج هنا يتنازل بنفسه عن هذا الحقّ ويمنح الثروة شخصاً آخر ، حين يقصد الحصول على الثروة التي ينتجها إنّما يرتبط بالنقطة القائلة من البناء العُلْوي : بأن وسيلة الإنتاج المادّية لا تشارك العامل في الثروة المنتَجة ، وبالنقطة الأخرى التي تقول : إنّ الرأسمالي ليس له أن يمتلك الثروة التي يحوزها العامل لمجرد شراء العمل منه وتجهيزه بالمعدّات اللازمة للإنتاج .

وهكذا يتّضح الفرق جوهرياً بين فكرة تملّك الموكّل الثروة التي يحوزها وكيله ، وبين فكرة تملّك الفرد الثروة التي يحوزها أجيره ، فإنّ الفكرة الثانية رأسمالية بطبيعتها ؛ لأنّها تمنح رأس المال النقدي والإنتاجي الحقّ المباشر في تملّك الثروة بدلاً عن العمل الإنساني ، وعلى عكس ذلك الفكرة الأولى التي تعترف للعامل بحقّه في الثروة ، وتعتبر وكالته عن فرد آخر في احتطاب الخشب من الغابة مثلاً تعبيراً ضمنياً عن منح العامل ملكية الخشب الفردَ الآخر ، وتنازله له عن الثروة (المؤلّفقدس‌سره ) .

٥٢١

٢ ـ أوجه الفرق بين النظرية الإسلامية والماركسية

البناء العُلْوي :

١ ـ في كتاب الإجارة من الشرائع كتب المحقّق الحلّي يقول : إذا دفع سلعة إلى غيره ليعمل له فيها عملاً ، فإن كان من عادته أن يستأجر لذلك العمل ، كالغسّال والقصّار ، فله أجرة مثل عمله ، وإن لم يكن له ـ أي : للعامل ـ عادة وكان العمل ممّا له أجرة ، فللعامل المطالبة ؛ لأنّه أبصر بنيّته ، وإذا لم يكن ممّا له أجرة بالعادة لم يلتفت إلى مدعيها(١) .

وعلّق الشُرّاح على ذلك : أنّ العامل إذا عرف من نيّته التبرّع لم يجز له المطالبة بالأجرة(٢) .

٢ ـ في كتاب الغصب من الجواهر ذكر المحقّق النجفي : أنّ شخصاً ( إذا غصب حبّا فزرعه أو بيضاً فاستفرخه ، فالأكثر يرون أنّه للمغصوب منه ، بل عن الناصرية نفي الخلاف ، بل عن السرائر الإجماع عليه وهو أشبه بأصول المذهب والقواعد ) .

ـــــــــــــــ

(١) شرائع الإسلام ٢ : ١٨٨

(٢) راجع : جواهر الكلام ٢٧ : ٣٣٥ .

٥٢٢

وذكر قولاً فقهياً آخر يزعم : أنّ الزرع والفرخ للغاصب ؛ لأنّ البذر والبيض الذي كان يملكه المغصوب منه يعتبر متلاشياً ومضمحلاً ، فيكون الزرع والفرخ شيئاً جديداً يملكه الغاصب بعمله فيهما(١) .

وإلى هذا القول ذهب المرغيناني ، حيث قال : ( وإذا تغيّرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها ، زال الملك المغصوب منه عنها ومَلَكها الغاصب )(٢) .

وقال السرخسي : ( وإن غصب حنطة فزرعها ، ثمّ جاء صاحبها وقد أدرك الزرع أو هو بقل ، فعليه حنطة مثل حنطته ولا سبيل له على الزرع عندنا وعند الشافعي : الزرع له ؛ لأنّه متولّد من مِلكه )(٣) .

٣ ـ وفي نفس الكتاب(٤) جاء : أنّ شخصاً ( إذ غصب أرضاً فزرعها أو غرسها ، فالزرع ونماؤه للزارع بلا خلاف أجده ، بل في التنقيح(٥) أنعقد الإجماع عليه وعلى الزارع أجرة الأرض ) .

وقد أكّدت ذلك عدّة أحاديث ، ففي رواية عقبة بن خالد ، أنّه سأل الإمام الصادق : ( عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير إذنه ، حتى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال : زرعت بغير إذني فزرعك لي ، وعلي ما أنفقت أله ذلك أم لا ؟ فقال الإمام : للزارع زرعه ، ولصاحب الأرض كِراء أرضه )(٦) .

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ٣٧ : ١٩٨ .

(٢) راجع شرح فتح القدير ٨ : ٢٥٩ .

(٣) المبسوط ١١ : ٩٤ .

(٤) جواهر الكلام ٣٧ : ٢٠٢ .

(٥) التنقيح الرائع لمختصر الشرائع ٤ : ٧٧ .

(٦) وسائل الشيعة ٢٥ : ٣٨٧ ، الباب ٢ من أبواب كتاب الغصب ، الحديث الأوّل .

٥٢٣

وقال ابن قدامة : ( وإن غصب أرضاً فغرسها فأثمرت فأدركها ربّها ، بعد أخذ الغاصب ثمرتها ، فهي له ، وإن أدركها والثمرة فيها فكذلك ؛ لأنّها ثمرة شجره فكانت له كما لو كانت في أرضه )(١) .

٤ ـ جاء في كتاب المزارعة من الجواهر : ( أنّه في كلّ موضع يحكم فيه ببطلان المزارعة يجب لصاحب الأرض أجرة المثل ، ويكون الزرع مِلكاً للعامل نفسه إن كان البذر من العامل ، وأمّا إذا كان البذر من صاحب الأرض فالزرع له أيضاً ـ أي : لصاحب الأرض ـ وعليه أجرة مثل العامل والعوامل ـ أي : وسائل الإنتاج ـ ، ولو كان البذر منهم ـ أي : من العامل وصاحب الأرض ـ فالحاصل بينهما على النسبة )(٢) .

ويستخلص من هذا التفصيل : أنّ الزرع يملكه صاحب البذر سواء كان هو الزارع أم صاحب الأرض ؛ لأنّ البذر هو الذي يكوّن المادة الأساسية للزرع ، وفي حالة كون البذر من الزارع لا يوجد للأرض حقّ في الزرع وإنّما تجب الأجرة لصاحب الأرض على العامل الزارع الذي استخدم أرضه في زراعة بذره .

ويستفاد الشيء نفسه أيضاً من فقه المبسوط للسرخسي ، إذ ربط ملكية صاحب الأرض للنماء كلّه في حالة بطلان عقد المزارعة بأنّه نماء بذره ، فصاحب الأرض يملك الحاصل بوصفه مالكاً للبذر لا بوصفه مالكاً للأرض )(٣) .

وقد صرّح الشيخ الطوسي في حالة المزارعة الفاسدة بأنّ الزرع لصاحب البذر ؛ مُعلّلا ذلك : بأنّ الزرع هو نفس البذر غير أنّه نما وزاد ويرجع صاحب .

ـــــــــــــــ

(١) المغني ٥ : ٣٩٤ .

(٢) جواهر الكلام ٢٧ : ٤٧ .

(٣) راجع : المبسوط ٢٣ : ١١٦ .

٥٢٤

الأرض على الزارع بمثل أجرة أرضه(١) .

٥ ـ وفي كتاب المساقاة من الجواهر أنّه في كلّ موضع تفسد فيه المساقاة فللعامل أجرة المثل والثمرة لصاحب الأصل ؛ لأنّ النماء يتبع الأصل في المِلكية(٢) .

وبيان ذلك : أنّ شخصاً إذا كان يملك أشجاراً تحتاج إلى السقي والملاحظة لتؤتي ثمارها ، فيمكنه دفع تلك الأشجار إلى عامل والارتباط معه بعقد ، يتعهّد فيه العامل برعايتها وسقايتها ويصبح في مقابل ذلك شريكاً لصاحب الأشجار في الثمرة بنسبة تحدد في العقد ويطلق على هذا النوع من الإنفاق بين صاحب الأشجار والعامل ـ فقهيّاً ـ اسم : المساقاة وينصّ الفقهاء على وجوب تقيّد الطرفين المتعاقدين بمحتوى العقد ، إذا توفّرت فيه الشروط بشكل كامل ، وأمّا إذا فقد العقد أحد مقوّماته وشروطه ، فلا يكون له أثر من الناحية الشرعية ، وفي هذه الحالة يقرّر النصّ الفقهي الذي قدّمناه : أنّ الثمرة في حال بطلان العقد تكون كلّها مِلكاً لصاحب الأشجار ، وليس للعامل إلاّ الأجرة المناسبة ، التي يطلق عليهما فقهياً اسم : أجرة المثل ؛ جزاءً له على خدماته وجهوده التي بذلها في استثمار الأشجار .

٦ ـ عقد المضاربة هو عقد خاص يتّفق فيه العامل مع صاحب العامل على الاتّجار بماله ومشاركته في الأرباح ، فإذا لم يستوف العقد عناصر صحّته لأيّ اعتبار من الاعتبارات يصبح الربح كلّه للمالك ، كما نصّ على ذلك الفقهاء في الجواهر وغيرها ، وليس للعامل إلاّ الأجرة المناسبة في بعض الحالات(٣) .

ـــــــــــــــ

(١) المبسوط ٢ : ٣٥٩ .

(٢) جواهر الكلام ٢٧ : ٧٦ .

(٣) راجع المبسوط ٣ : ١٧١ ، وجواهر الكلام ٢٦ : ٣٣٨ ، ومفتاح الكرامة ٧ : ٤٣٧ ، والمبسوط (للسرخسي) ٢٢ : ٢٢ .

٥٢٥

من النظرية :

كشفنا حتى الآن عن النظرية العامة لتوزيع ما بعد الإنتاج في الإسلام ، بالقدر الذي تطلّبته المقارنة بينها وبين النظرية الرأسمالية في الأساس النظري للتوزيع ونريد الآن أن نواصل اكتشافنا لمعالم النظرية الإسلامية ومميّزاتها من خلال مقارنتها بالنظرية الماركسية لتوزيع ما بعد الإنتاج وتحديد أوجه الفرق بين النظريتين .

وسوف نبد ـ كما صنعنا في المرحلة السابقة ـ بإعطاء الصورة وإبراز أوجه الفرق بين النظريتين كما نؤمن بها قبل أن نتناول البناء العُلْوي بالبحث ، حتى إذا أتيح لنا أن نتصوّر بوضوح جوانب الاختلاف والمدلول المذهبي لهذا الاختلاف ، عدنا إلى فحص البناء العُلْوي لنستخرج منه الأدلّة التي تدعم تصوّرنا وتدلّ فقهياً على صوابه .

١ ـ ظاهرة ثبات الملكية في النظرية :

ونستطيع أن نلخّص الفرق بين النظرية الإسلامية والنظرية الماركسية في نقطتين جوهريتين :

وإحدى هاتين النقطتين هي : أنّ النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج إنّما تمنح الإنسان العامل كلّ الثروة التي أنتجها إذا كانت المادة الأساسية التي مارسها العامل في عملية الإنتاج ثروة طبيعية لا يملكها فرد آخر ، كالخشب الذي يقتطعه العامل من أشجار الغابة ، أو الأسماك والطيور في البحر والجو التي يصطادها الصائد من الطبيعة ، أو المواد المعدنية التي يستخرجها المنتج من مناجمها ، أو الأرض المَيتَة التي يحييها الزارع ويعدّها للإنتاج ، أو عين الماء التي

٥٢٦

يستنبطها الشخص من أعماق الأرض ، فإنّ كلّ هذه الثروات ليست في وضعها الطبيعي مِلكاً لأحد ، فعملية الإنتاج تعطي الإنسان المنتج حقّاً خاصاً فيها ، ولا تشترك معه الوسائل المادّية للإنتاج في تملّك تلك الثروات كما عرفنا سابقاً .

وأمّا إذا كانت المادة الأساسية التي مارسها الإنسان في عملية الإنتاج مِلكاً أو حقّاً لفردٍ آخر نتيجة لأحد الأسس التي عرضناها في النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج ، فهذا يعني أنّ المادة قد تمّ تملّكها أو الاختصاص بها في توزيع سابق ، فلا مجال لمنحها على أساس الإنتاج الجديد للإنسان العامل ، ولا لأيّ عامل من العوامل التي استخدمها في العملية ، فمن غزل ونسج كمّية من الصوف الذي يملكه الراعي ، ليس له الحق في امتلاك الصوف الذي نسجه ، أو مشاركة الراعي في ملكيّته على أساس عمله الذي أنفقه فيه ، بل يعتبر النسيج كلّه مِلكاً للراعي ؛ ما دام هو الذي يملك مادّته الأساسية وهي الصوف ، فملكية الراعي للصوف الذي أنتجه لا تزول ولا تتضاءل بإنفاق عمل جديد من فرد آخر في غزل الصوف ونسجه وهذا ما نطلق عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية .

والماركسية على عكس ذلك ، فهي ترى : أنّ العامل الذي يتسلّم المواد من الرأسمالي وينفق جهده عليها يملك من المادة بمقدار ما منحها بعمله من قيمة تبادلية جديدة ، ولأجل هذا كان العامل في رأي الماركسية صاحب الحقّ الشرعي في السلعة المنتجة باستثناء قيمة المادة التي تسلّمها العامل من الرأسمالي قبل عملية الإنتاج .

ومردّ هذا الاختلاف يبن الماركسية والإسلام إلى ربط الماركسي بين الملكية والقيمة التبادلية من ناحية ، وربطها بين القيمة التبادلية والعمل من ناحية أخرى ، فأنّ الماركسية تعتقد ـ من الناحية العلمية ـ أنّ القيمة التبادلية وليدة

٥٢٧

العمل(١) ، وتفسّر ـ من الناحية المذهبية ـ ملكية العامل للمادّة التي يمارسها على أساس القيمة التبادلية التي ينتجها عمله في المادة ونتيجة لذلك يصبح من حقّ أيّ عامل إذا منح المادّة قيمة جديدة أن يملك هذه القيمة التي جسّدها في المادة .

وخلافاً للماركسية يفصل الإسلام بين الملكية والقيمة التبادلية ، ولا يمنح العامل حقّ الملكية في المادة على أساس القيمة الجديدة التي أعطاها العامل للمادة ، وإنّما يضع العمل أساساً مباشراً للملكية كما مرّ بنا في بحث نظرية توزيع ما قبل الإنتاج ، فإذا ملك فردٌ المادة على أساس العمل وكان الأساس لا يزال قائماً ، فلا يسمح لشخص آخر أن يحصل على ملكية جديدة في المادة وإن منحها بعمله قيمة جديدة .

وهكذا نستطيع أن نلخّص النظرية الإسلامية كما يلي : أنّ المادة التي يمارسها الإنسان المنتج إذا لم تكن مملوكة سابقاً فالثروة المنتجة كلّها للإنسان وجميع القوى الأخرى المساهمة في الإنتاج تعتبر خادمة للإنسان وتتلقى المكافأة منه ، لا شريكة في الناتج على أساس مساهمتها في صف واحد مع الإنسان ، وأمّا إذا كانت المادّة مملوكة سابقاً لفردٍ خاص فهي ملكه مهما طرأ عليها من تطوير طبقاً لظاهرة الثبات كما رأينا في مثال الصفوف .

وقد يخيّل للبعض أنّ هذه الملكية ـ أي : تملّك صاحب الصوف لنسيج صوفه واحتفاظ مالك المادة بملكيته لها مهما طرأ عليها من تطوير نتيجة لعمل غيره فيه ـ تعني أنّ الثروة المنتجة يستأثر بها رأس المال والقوى المادّية في الإنتاج نظراً إلى أنّ مادة السلعة المنتجة ـ وهي الصوف في مثالنا ـ تعتبر من الناحية

ـــــــــــــــ

(١) لتوضيح ذلك راجع : الكتاب الأوّل : دراسة نقدية للمادّية التأريخية [في مبحث] : (٤ ـ العوامل الطبيعية والماركسية)

٥٢٨

الاقتصادية نوعاً من رأس المال في عملية الغزل والنسيج ؛ لأنّ المادّة الخام لكلّ سلعة منتجة تشكل نوعاً من رأس المال في عملية إنتاجها ولكنّ تفسير ظاهرة الثبات على أساس رأسمالي خطأ ؛ لأنّ منح مالك الصوف ملكية النسيج الذي نسجه العامل من صوفه لا يقوم على أساس الطابع الرأسمالي للصوف ، ولا يعني أنّ رأس المال يكون له الحقّ في امتلاك السلعة المنتَجة ـ النسيج ـ بوصفه مساهماً أو أساساً في عملية إنتاج النسيج .

فإنّ الصوف وإن كان رأس مال في عملية إنتاج الغزل والنسيج بوصفه المادّة الخام لهذا الإنتاج ولكن الأدوات التي تستخدم في غزله ونسجه هي الأخرى أيضاً تحمل الطابع الرأسمالي وتساهم في العملية بوصفها نوعاً آخر من رأس المال ، مع أنّها لا تمنح صاحبها ملكية الثروة المنتجة ، ولا يسمح لمالك تلك الأدوات أن يشارك مالك الصوف في ملكية ، النسيج ، وهذا يبرهن على أنّ النظرية الإسلامية حين تحتفظ للراعي بملكية الصوف بعد إنتاج العامل منه نسيجاً لا تستهدف بذلك أن تخصّ رأس المال وحده بالحقّ في تملّك الثروة المنتجة ، بدليل أنّها لا تعطي هذا الحقّ لرأس المال المتمثّل في الأدوات والآلات ، وإنّما يعبّر ذلك عن احترام النظرية للملكية الخاصة التي كانت ثابتة للمادّة قبل الغزل والنسج .

فالنظرية ترى أن مجرّد تطوير المال لا يخرجه عن كونه ملكاً لصاحبه الأوّل وأن أدّى هذا التطوير إلى خلق قيمة جديدة فيه وهذا ما أطلقنا عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية .

فرأس المال والقوى المادّية المساهمة في الإنتاج لا تمنح في النظرية الإسلامية الحقّ في الثروة المنتجة بوصفها رأس مال وقوى مساهمة في الإنتاج ؛ لأنّها بهذا الوصف لا ينظر إليها إلا باعتبارها خادمة للإنسان الذي هو المحور الرئيس في عملية الإنتاج ، وتتلقى بهذا الاعتبار مكافأتها منه ، وإنّما يظفر الراعي

٥٢٩

الذي يملك الصوف في مثالنا بحقّ ملكية النسيج لأجل أنّ النسيج هو نفس الصوف الذي كان يملكه الراعي ، لا بما الصوف رأس مال من عملية إنتاج النسيج .

٢ ـ فصل النظرية للمكية عن القيمة التبادلية :

وأمّا النقطة الأخرى التي تختلف فيها النظرية الإسلامية عن النظرية الماركسية فهي : أنّ الماركسية التي تعطي كلّ فرد الحقّ في الملكية بقدر ما جسّده في الثروة من قيمة تبادلية ، تؤمن ـ على أساس ربطها بين الملكية والقيمة التبادلية ـ بأنّ مالك القوى والوسائل المادّية في الإنتاج يتمتّع بنصيب في الثروة المنتجة ؛ لأنّ تلك القوى والوسائل تدخل في تكوين قيمة السلعة المنتَجة بقدر ما يستهلك منها خلال عملية الإنتاجّ ، فيصبح مالك الأداة المستهلكة مالكاً في الثروة المنتجة التي استهلكت الأداة لحسابها بقدر ما ساهمت أداته في تكوين قيمة تلك الثروة .

وأمّا الإسلام فهو كما عرفنا يفصل الملكية عن القيمة التبادلية ، فحتى إذا افترضنا علمياً أنّ أداة الإنتاج تدخل في تكوين قيمة المنتَج بقدر استهلاكها ، فلا يعني هذا بالضرورة أن يمنح مالك الأداة حقّ الملكية في الثروة المنتَجة ؛ لأنّ الأداة لا ينظر إليها في النظرية الإسلامية دائماً إلاّ خادمة للإنسان في عملية الإنتاج ، ولا يقوم حقّها إلاّ على هذا الأساس ، وهذا كلّه من نتائج الفصل بين الملكية والقيمة التبادلية ، فالقوى المادّية التي تساهم في الإنتاج تتلقّى دائماً ـ على أساس هذا الفصل ـ جزاءها من الإنسان بوصفها خادمة له ، لا من نفس الثروة المنتَجة بوصفها داخلة في تكوين قيمتها التبادلية .

٥٣٠

استنتاج النظرية من البناء العُلْوي :

والآن بعد أن استعرضنا أوجه الفرق بين النظرتين الإسلامية والماركسية كما نتصوّرها ونفترضها ، يمكننا أن نضع أصابعنا بتحديد على أدلّة هذه الفروق ومبرّراتها من البناء العُلْوي الذي قدّمناه ، كما هي طريقتنا في اكتشاف النظرية من صرحها التشريعي الفوقي .

إنّ كلّ الفقرات التي سبقت في البناء العُلْوي تشترك في ظاهرة واحدة ، وهي : أنّ المادة التي تدخل في عملية الإنتاج ملك لفرد معيّن قبل ذلك ، ولأجل هذا تؤكّد الفقرات جميعاً على بقاء المادّة بعد تطويرها في عملية الإنتاج مِلكاً لصاحبها السابق .

فالسلعة التي يدفعها صاحبها إلى أجير لكي يعمل فيها ويطوّرها في الفقرة الأولى تظلّ ملكاً له وليس للأجير أن يملكها بسبب عمله وإن طوّرها وخلق فيها قيمة جديدة ؛ لأنّها مملوكة بملكية سابقة .

والعامل الذي يغتصب أرض غيره فيزرعها ببذره يمتلك الزرع الناتج كما نصّت عليه الفقرة الثالثة ، ولا نصيب لصاحب الأرض في الزرع ، وذلك لأنّ الزارع هو المالك للبذر والبذر هو العنصر الأساسي من المادّة التي تطوّرت خلال الإنتاج الزراعي إلى زرع وأمّا الأرض فهي بوصفها قوّة مادّية مساهمة في الإنتاج تعتبر في النظرية الإسلامية خادمة للإنسان الزارع ، فعليه مكافأته ـ أي : مكافأة صاحبه ـ فالإسلام يفرّق إذن بين البذر والأرض ، فيمنح حقّ ملكية الزرع لصاحب البذر دون صاحب الأرض ، بالرغم من أنّ كلاً منهما رأس مال بالمعنى الاقتصادي ، وقوّة مادّية مساهمة في الإنتاج ، وهذا يكشف بوضوح عن الحقيقة التي قرّرناها سابقاً وهي أنّ صاحب المادّة الخام التي يمارسها الإنتاج

٥٣١

ويطوّرها إنّما يملك تلك المادة بعد تطويرها ؛ لأنّها هي نفس المادة التي كان يملكها ، لا لأنّ المادة الخام تحمل الطابع الرأسمالي في عملية الإنتاج ، وإلاّ لَما ميّز الإسلام بين البذر والأرض وحَرَم صاحب الأرض من ملكية الزرع بينما منحها لصاحب البذر ، بالرغم من اشتراك البذر والأرض في الطابع الرأسمالي بالمعنى العام لرأس المال الذي يشمل كلّ القوى المادّية للإنتاج .

والفقرة الرابعة والخامسة تتّفقان معاً على تقرير المبدأ الذي قرّرته الفقرة الثالثة ، وهو أنّ ملكية الزرع أو الثمرة تمنح لمن يملك المادّة التي تطوّرت خلال الإنتاج إلى زرع أو ثمرة ، ولا تمنح لصاحب الأرض ولا لمالك أيّ قوّة أخرى من القوى التي تساهم في عملية الإنتاج الزراعي وتحمل الطابع الرأسمالي في العملية .

والفقرة الأخيرة تمنح ملكية الربح لصاحب المال إذا بطل عقد المضاربة ، ولا تسمح للعامل بتملّكه أو الاشتراك في ملكيّته ؛ لأنّ هذا الربح وإن كان ـ في الغالب ـ نتيجة للجهد الذي يبذله العامل في شراء السلعة وإعدادها بين يدي المستهلكين بشكل يتيح بيعها بثمن أكبر ، ولكن هذا الجهد ليس إلاّ نظير جهد العامل في غزل الصوف الذي يملكه الراعي أو نسجه لا أثر له في النظرية ما دامت المادّة ـ مال المضاربة أو الصوف ـ مملوكة بملكية سابقة .

بقي علينا أن نشير إلى الفقرة الثانية من البناء العُلْوي بصورة خاصة ، وهي الفقرة التي تتّحدث عن الشخص إذا غصب من آخر بيضاً فاستغلّه في الإنتاج الحيواني أو بذراً فاستثمره في الإنتاج الزراعي ، فإنّ الفقرة تنصّ على أنّ الرأي السائد فقهياً هو : أنّ الناتج ـ الفرخ أو الزرع ـ ملك لصاحب البيض والبذر ، وتشير إلى رأي فقهي آخر ، يقول : أنّ الغاصب الذي مارس عملية الإنتاج هو الذي يملك الناتج .

٥٣٢

وقد رأينا في تلك الفقرة التي استعرضت هذين الرأيين أنّ مردّهما فقهياً إلى الاختلاف بين الفقهاء في تحديد نوع العلاقة بين البيض والطائر الذي خرج من أحشائه وكذلك بين البذر والزرع الذي نتج عنه فمن يؤمن بوحدتهما وإنّ الفرق بينهما فرق درجة ، كالفرق بين ألواح الخشب والسرير المتكوّن منها ، يأخذ بالرأي الأوّل ويعتبر الشخص الذي اغتصب منه بيضه وبذره هو المالك للناتج .

ومن يرى أنّ المادة ـ البيض والبذر ـ قد تلاشت في عملية الإنتاج ، وأنّ الناتج شيء جديد في تصوّر العرف العام قام على أنقاض المادّة الأولى بسبب عمل الغاصب وجهده الذي بذله خلال عملية الإنتاج ، فالمالك للناتج في رأيه هو الغاصب ؛ لأنّه شيء جديد لم يملكه صاحب البيض والبذر قبل ذلك ، فمن حقّ العامل ـ وإن كان غاصب ـ أن يمتلكه على أساس عمله .

وليس المهم هنا حلّ هذا التناقض فقهياً بين هذين الرأيين وتمحيص وجهات النظر فيهما ، وإنّما نستهدف الاستفادة من مدلوله النظري في موقفنا المذهبي من النظرية ؛ لأنّ هذا النزاع الفقهي يكشف بوضوح أكثر عن الحقيقة التي كشف عنها فقرات أخرى في البناء العُلْوي ، وهي أنّ منح صاحب الصوف ملكية النسيج وصاحب كلّ مادة ملكية تلك المادة بعد ممارستها في عملية الإنتاج لا يقوم على أساس أنّ الصوف والمادة الأولية نوع من رأس المال في عملية الغزل والنسيج وإنّما يقوم على أساس ظاهرة الثبات في الملكية التي تقرّر أنّ من يملك مادّة يظلّ محتفظاً بملكية لها مادامت المادة قائمة والمبرّرات الإسلامية للملكية باقية ، فإنّ الفقهاء حين اختلفوا في ملكية الناتج من البيض أو البذر ربطوا موقفهم الفقهي من ذلك بوجهة نظرهم في طبيعة الصلة بين المادة والنتيجة وهذا يعني أنّ مَن مَنَحَ المغصوب منه ملكية الناتج لم يقل بذلك على أساس مفهوم رأسمالي ، ولم يرجّح ملكية صاحب البيض والبذر لأنّه هو المالك لرأس المال أو

٥٣٣

النوع منه في عملية الإنتاج ؛ إذ لو كان هذا هو الأساس في الترجيح لَما اختلفت النتيجة الفقهية في رأي الفقهاء تبعاً لوحدة المادة والنتيجة وتعدّدهما ؛ لأنّ المادة رأس مال في عملية الإنتاج على كلّ حال ، سواء استهلكت خلال العملية أم تجسّدت في المنتوج الذي أسفر عنه العمل ، فكان لزاماً على الفقهاء من وجهة نظر الرأسمالية أن يمنحوا مالك المادة ـ البيض أو البذر ـ حقّ ملكية الناتج مهما كانت العلاقة بينه وبين المادة ، ولكنّهم خلافاً لوجهة النظر هذه لم يمنحوا مالك المادة ـ كالبذر مثل ـ حقّ ملكية الزرع إلاّ إذا ثبت في العرف العام أنّ المنتوج هو نفس المادة في حالة معيّنة من التطوّر .

وهذا يقرّر بوضوح أنّ منح ملكية السلعة المنتجة لمالك المادة لا العامل يقوم على أساس ما أطلقنا عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية ولا يستمدّ مبرّره الإسلامي من وجهة النظر الرأسمالية التي تقول : إنّ السلعة المنتجة يملكها رأس المال ، وإنّ العامل أجير لدى رأس المال يتقاضى أجره على عمله منه .

وهكذا ندرك بوضوح مدى الفرق النظري بين التفسير الإسلامي لمنح صاحب المادة الأولية في الإنتاج ملكية الثروة المنتجة، وبين تفسيرها على أساس وجهة نظر رأسمالية.

٥٣٤

٣ ـ القانون العام لمكافأة المصادر المادّية للإنتاج

البناء العُلْوي :

١ ـ يجوز للإنسان المنتج أن يستأجر إحدى أدوات الإنتاج وآلاته من غيره ليستخدمها في عمليّاته ويدفع إلى مالك الأداة مكافأة يتّفق عليها معه ، وتعتبر هذه المكافأة أجرة لمالك الأداة على الدور الذي لعبته في عملية الإنتاج ودَيناً في ذمّة الإنسان المنتج يجب عليه تسديده ، بقطع النظر عن مدى ونوع المكاسب التي يحصل عليها في عملية الإنتاج ، وهذا كلّه ممّا اتفق عليه الفقهاء(١) .

٢ ـ كما يجوز استئجار أداة من أدوات الإنتاج كمحراث أو معمل نسيج ، كذلك يجوز للإنسان المنتِج أن يستأجر أرضاً بأجرة معيّنة من صاحبها الذي يختصّ بها اختصاص حقٍّ أو ملكيّة فإذا كنت مزارعاً ـ مثلاً ـ أمكنك أن تستخدم أرض غيرك بالاتفاق معه ، وتدفع له نظير ذلك أجرة مكافأة له على الخدمة التي قدّمتها أرضُه في عملية الإنتاج .

وهذا الحكم يتّفق عليه أكثر الفقهاء المسلمين ، ولا خلاف فيه إلاّ مِن بعض

ـــــــــــــــ

(١) راجع المبسوط ٣: ٢٣٠ ، ومفتاح الكرامة ٧ : ٨٢ .

٥٣٥

الصحابة (١) ، وعدد قليل من المفكّرين الإسلاميين الذين أنكروا جواز إجارة الأرض ، استناداً إلى روايات عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوف ندرسها في بحث مقبل إن شاء الله تعالى ، ونوضح عدم تناقضها مع الرأي الفقهي السائد .

وكذلك يجوز للإنسان أيضاً أن يستأجر عاملاً لخياطة الثوب وغزل الصوف وبيع الكتاب وشراء صفقة تجارية ، فإذا أنجز الأجير المهمّة التي كلّف بها وجب على من استأجره دفع الأجرة المحدّدة له .

٣ ـ شرع الإسلام عقد المزارعة كأسلوب لتنظيم شركة معيّنة بين صاحب الأرض والزارع ، يتعهّد بموجبه الزارع بزرع الأرض ويقاسم صاحب الأرض الناتج الذي يسفر عنه العمل ويحدّد نصيب كلّ منهما بنسبة مئوية من مجموع الناتج .

ولنأخذ فكرتنا عن عقد المزارعة من نصٍّ للشيخ الطوسي في كتاب الخلاف شرَح فيه مفهوم المزارعة وحدودها المشروعة ، إذ كتب يقول : ( يجوز أن يعطي ـ صاحب الأرض ـ الأرضَ غيره ببعض ما يخرج منها ، بأن يكون منه الأرض والبذر، ومن المتقبّل(٢) القيام بها بالزراعة والسقي ومراعاتها )(٣) .

ففي هذا الضوء نعرف أنّ عقد المزارعة شِركة بين عنصرين :

أحدهما : العمل من العامل الزارعوالآخر : الأرض والبذر من صاحب الأرض وعلى أساس هذا التحديد الذي كتبه الشيخ الطوسي ، يصبح من غير المشروع إنجاز عقد المزارعة بمجرّد تقديم صاحب الأرض لأرضه ، وتكليف

ـــــــــــــــ

(١) راجع الخلاف ٣ : ٥١٦ ـ ٥١٧ ، المسألة ٢ والمغني ٥ : ٥٩٦ .

(٢) المتقبّل : هو العامل الذي يستخدم أرض غيره (المؤلّف قدّس سرّه)

(٣) الخلاف ٣ : ٤٧٦ .

٥٣٦

العامل بالعمل والبذر معاً ؛ لأنّ مساهمة صاحب الأرض بالبذر أخذت شرطاً أساسياً لعد المزارعة في النصّ السابق ، وإذا تمّ ما يقرّره هذا النصّ بشأن البذر ، فعلى ضوئه يمكننا أن نفهم ما جاء عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النهي عن المخابرة ، لأنّ المخابرة(١) هي نوع من المزارعة يكلّف فيه صاحب الأرض بتسليم الأرض دون البذر وهكذا نعرف من حدود النصّ الذي كتبه الشيخ الطوسي : أنّ تعهّد صاحب الأرض بدفع البذر للعامل يعتبر عنصراً أساسياً في عقد المزارعة ، ولا يصحّ العقد بدون ذلك(٢) .

وهذا ما ذهب إليه جملة من الفقهاء أيضاً فقد كتب ابن قدامة يقول : ( ظاهر المذهب أنّ المزارعة إنّما تصحّ إذا كان البذر من ربّ الأرض والعمل من العامل ، نصّ عليه أحمد في رواية جماعة ، واختاره عامّة الأصحاب وهو مذهب ابن سيرين والشافعي وإسحاق )(٣) .

٤ ـ المساقاة عقد آخر يشابه عقد المزارعة ، وهو لون من الاتفاق بين شخصين : أحدهما يملك أشجاراً وأغصاناً ، والآخر قادر على ممارسة سقيها حتى تؤتي ثمارها ويتعهّد العامل في هذا العقد بسقي تلك الأشجار والأغصان حتى تُثمر ، وفي مقابل ذلك يشارك المالك في الثمار بنسبة مئوية تحدّد ضمن العقد وقد أجاز الإسلام هذا العقد ، كما جاء في كثير من النصوص الفقهية(٤) .

ـــــــــــــــ

(١) راجع : سُنن أبي داود ٣ : ٢٦٢ ، كتاب البيوع ، باب المخابرة ، الحديث ٢٤٠٧ .

(٢) راجع : المبسوط ٣ : ٢٥٣ .

(٣) المغني ٥ : ٥٨٩ .

(٤) راجع المبسوط ٣ : ٢٠٧ والروضة البهية ٢ : ٥٠٧ .

٥٣٧

٥ ـ ولا تنحصر مسؤولية صاحب الأرض بتقديم الأرض فحسب ، بل إنّ عليه أيضاً الإنفاق على تسميد الأرض إذا احتاجت إلى ذلك ، فقد قال العلاّمة الحلّي في القواعد : ( لو احتاجت الأرض إلى التسميد فعلى المالك شراؤه وعلى العامل تفريقه )(١) . وأكّدت ذلك عدّة مصادر فقهية ، كالتذكرة والتحرير وجامع المقاصد(٢) .

٦ ـ المضاربة عقد مشروع في الإسلام ، يتّفق فيه العامل مع صاحب المال على الاتّجار بأمواله والمشاركة في الأرباح بنسبة مئوية ، فإذا استطاع العامل أن يظفر بأرباح في تجارته قسّمها بينه وبين صاحب المال وِفقاً لما تمّ عليه الاتفاق في العقد ، وأمّا إذا مُني بخسارة فإنّ المالك هو الذي يتحمّلها وحده ، ويكفي العامل بضياع جهوده وأتعابه دون نتيجة ، ولا يجوز للمالك أن يحمّل العامل هذه الخسارة وإذا ضمن العامل الخسارة في حالة من الحالات ، لم يكن لصاحب المال شيء من الربح(٣) ، كما جاء في الحديث عن علي عليه الصلاة والسلام :( من ضمّن تاجراً فليس له إلاّ رأس ماله ، وليس له من الربح شيء ) (٤) .

وفي حديث آخر :( من ضمّن مضاربة ـ أي : جعل العامل المضارب ضامناً لرأس المال ـفليس له إلاّ رأس المال ، وليس له من الربح شيء ) (٥)

ـــــــــــــــ

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٣١٩ .

(٢) تحرير الأحكام الشرعية ١ : ٢٥٩ ، وجامع المقاصد ٧ : ٣٣١ ، ولم نعثر على التصريح بذلك في التذكرة .

(٣) راجع : المبسوط ٣ : ١٦٧ .

(٤) وسائل الشيعة ١٩ : ٢٢ ، الباب ١٤ من أبواب كتاب المضاربة ، الحديث الأول .

(٥) وسائل الشيعة ١٩ : ٢٣ ، الباب ٤ من أبواب كتاب المضاربة ، الحديث ٢ .

٥٣٨

فتوفر عنصر المخاطرة بالنسبة إلى صاحب المال وعدم ضمان العامل لماله ، شرط أساسي في صحّة عقد المضاربة ، وبدونه تصبح العملية قرضاً لا مضاربة ويكون الربح كلّه للعامل .

ولا يجوز للعامل بعد الاتفاق مع صاحب المال على أساس المضاربة أن يظفر بعامل آخر يكتفي بنسبة مئوية أقل من الربح فيدفع إليه المال ليتّجر به ويحصل في النهاية على التفاوت بين النسبتين دون عمل منه ، كما إذا كان متّفقاً مع صاحب المال على مناصفة الأرباح ، واكتفى منه العامل الآخر بالربع ، فإنّه سوف يفوز بربع الأرباح عن هذا الطريق دون أن يتكلّف جهداً .

وقد كتب المحقّق الحلي ـ في فصل المضاربة من كتاب الشرائع ـ يحرم ذلك قائلاً: ( إذا قارض ـ أي : ضارب ـ العامل غيره ، فإن كان بإذنه ـ بإذن المالك ـ وشرط الربح بين العامل الثاني والمالك صحّ ، ولو شرط لنفسه شيئاً من الربح لم يصح ، لأنّه لا عمل له )(١) .

وجاء في الحديث : أنّ الإمامعليه‌السلام سُئل عن رجل أخذ مالاً مضاربة : أيحلُ له أن يعينه غيره بأقلّ ممّا أخذ ؟ قال :لا (٢) .

وجاء في كتاب المغني لابن قدامة بهذا الصدد ما يلي : ( وإن أَذِن ربّ المال في دفع المال مضاربة جاز ذلك فإذا دفعه إلى آخر ولم يشترط لنفسه شيئاً من الربح كان صحيحاً ، وإن شرط لنفسه شيئاً من الربح لم يصح ؛ لأنّه ليس من جهة مال ولا عمل ، والربح إنّما يُستحق بواحد منهما )(٣) .

ـــــــــــــــ

(١) شرائع الإسلام ٢ : ١٤٣ .

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ٢٩ ، الباب ١٤ من أبواب كتاب المضاربة ، الحديث الأوّل .

(٣) المغني ٥ : ١٦١ .

٥٣٩

٧ ـ الرِّبا في القرض حرام في الإسلام ، وهو : أن تقرض غيرك مالاً إلى موعد بفائدة يدفعها المدين عند تسليم المال في الموعد المتّفق عليه فلا يجوز القرض إلاّ مجرّداً عن الفائدة ، وليس للدائن إلاّ استرجاع ماله الأصيل دون زيادة ، مهما كانت ضئيلة وهذا الحكم يعتبر في درجة وضوحه إسلامياً في مصافّ الضروريات من التشريع الإسلامي .

ويكفي في التدليل عليه ، الآيات الكريمة التالية :

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (١) ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) (٢) .

٨ ـ والجملة القرآنية الأخيرة التي تحصر حقّ الدائن في رأس المال الذي أقرضه ، ولا تسمح له إذا تاب ، إلاّ باسترجاع ماله الأصيل ، دليل واضح على المنع من القرض بفائدة ، وتحريم الفائدة بمختلف ألوانها مهما كانت تافهة أو ضئيلة ، لأنّها تعتبر على أيّ حال ظلماً في المفهوم القرآني من الدائن للمدين وفقهاء الأمامية متّفقون جميعاً على هذا الحكم كما يظهر من مراجعة جميع مصادرهم الفقهية(٣) .

ـــــــــــــــ

(١) البقرة : ٢٧٥ .

(٢) البقرة ٢٧٨ ـ ٢٧٩ .

(٣) راجع : جواهر الكلام ٢٥ : ٥ ـ ١٤ ، الحدائق الناظرة ٢٠ : ١١٠ ـ ١٢٣ .

٥٤٠

وقد نقل الجُزيري عن الفقهاء المالكيين أنّه : يحرم على المقرض أن يشترط في القرض شرطاً يجرّ منفعة كما نقل عن الفقهاء الشافعيين : أنّ القرض يفسد بشرط يجرّ منفعة للمقرِض وكذلك نقل عن الحنابلة قولهم : بعدم جواز اشتراط ما يجرّ منفعة للمقرِض في عقد القرض(١) .

وقال ابن قدامة : ( إنّ شَرط في القرض أن يؤجّره داره أو يبيعه شيئاً أو أن يقرض المقترض مرّة أخرى لم يجز وروى البخاري عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قدِمت المدينة فأتيت عبد الله بن سلام ـ وذكر حديث ـ وفيه ، ثمّ قال لي : إنّك بأرض فيها الرِّبا فاشٍ ، فإذا كان لك على رجل دَين فأهدى إليك حمل تين أو حمل شعير أو حمل قت ، فلا تأخذه ؛ فإنّه رِبا )(٢) .

٩ ـ وجاء في الحديث النبوي :( إنّ شرَّ المكاسب [ كسب ] الرِّبا ) (٣) . ومن أكله :( ملأ الله بطنه من نار جهنم بقدر ما أكل ، وإن اكتسب مالاً لم يقبل الله شيئاً من عمله ، ولم يزل في لعنة الله والملائكة ، ما كان عنده قيراط ) (٤) .

١٠ ـ الجُعالة صحيحة في الشريعة وهي : الالتزام من الشخص بمكافأة على عمل سائغ مقصود كما إذا قال : من فتّش عن كتابي الضائع فله دينار ، ومن خاط ثوبي فله درهم فالدينار أو الدرهم ، عوض التزم مالك الكتاب أو الثوب بدفعه إلى من يحقّق عملاً خاصاً يتصل بماله ولا يجب أن يكون العوض محدّداً كدرهم ودينار ، بل يجوز للإنسان أن يجعل عوضاً غير محدّد بطبيعته ، فيقول : من

ـــــــــــــــ

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ٢ : ٣٤٢ ـ ٣٤٥ .

(٢) المغني ٤ : ٣٦١ .

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٢ ، الباب الأول من أبواب الرِّبا ، الحديث ١٣ .

(٤) المصدر السابق : الحديث ١٥ ، مع اختلاف .

٥٤١

زرع أرضي هذه ، فله نصف النتاج ، ومن ردّ علىّ قلمي الضائع فهو شريكي في نصفه ، كما نصّ على ذلك العلاّمة الحلّي في التذكرة ، وابنه في الإيضاح ، والشهيد في المسالك ، والمحقّق النجفي في الجواهر(١) .

والفرق من الناحية الفقهية بين الجُعالة والإجارة هو أنّك إذا استأجرت شخصاً بأجرة لخياطة ثوبك مثلاً ، أصبحت بموجب عقد الإجارة مالكاً لمنفعة معيّنة من منافع الأجير ، وهي منفعة عمله في خياطة الثوب ، كما يملك الأجير الأجرة التي نصّ عليه العقد وأمّا إذا جعلت درهماً لمن يخيط ثوبك ، فلا تملك شيئاً من عمل الخياطة ، كما لا يملك الخياط شيئاً على ذمّتك ، ما لم يباشر العمل ، فإذا أنجز الخياطة كان له عليك الدرهم الذي جعلته مكافأة على الخياطة .

١١ ـ المضاربة التي سبق الحديث عنها في الفقرة السادسة محدّدة تشريعياً في نطاق العمليات التجارية بالبيع والشراء ، فكلّ من يملك سلعة أو نقوداً يتاح له الاتفاق مع عامل معيّن على الاتّجار بماله وبيع سلعته ، أو شراء سلعة بنقوده ثمّ بيعها ، والاشتراك مع العامل في الأرباح ، بنسبة مئوية كما ذكرناه في الفقرة السادسة .

وأمّا في غير النطاق التجاري الذي تحدّده فقهياً عمليات البيع والشراء فلا تصحّ المضاربة ، فمن يملك أداة إنتاج مثلاً ليس له أن ينشئ عقد مضاربة مع العامل على أساسها وإذا دفعها إلى العامل ليستثمرها ، فليس من حقّه أن يفرض لنفسه نصيباً من الأرباح التي تسفر عنها عملية الإنتاج ، ولا نسبة مئوية في الناتج ولأجل هذا كتب المحقّق الحلّي في كتاب المضاربة من الشرائع يقول : إنّ

ـــــــــــــــ

(١) راجع : تذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ٢٨٧ ، إيضاح الفوائد ٢ : ١٦٣ ومسالك الأفهام ١١ : ١٥٣ ـ ١٥٤ وجواهر الكلام ٣٥ : ١٩٥ .

٥٤٢

المالك لو دفع إلى العامل آلة الصيد بحصّة ثلث مثلاً فاصطاد العامل ، لم يكن مضاربة وكان الصيد للصائد الذي حازة ، وليس لصاحب الآلة شيء منه ، وإنّما على الصائد الأجرة لقاء انتفاعه بالآلة(١) .

ونصّ على الحكم نفسه الفقيه الحنفي السرخسي إذ كتب يقول : ( وإذ دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن يكون ما صاد بها من شيء فهو بينهما فصاد بها سمكاً كثيراً ، فجميع ذلك للذي صاد ؛ لأنّ الآخذ هو المكتسب دون الآلة فيكون الكسب له ، وقد استعمل فيه آلة الغير بشرط العوض لصاحب الآلة وهو مجهول فيكون له أجر مثله على الصيّاد )(٢) .

وبهذا نعرف أنّ مجرّد الاشتراك في عملية إنتاج ، بأداة من الأدوات ، لا يبرّر اشتراك مالك الأداة في الأرباح ، وإنّما يسمح للمالك بمشاركة العامل في الربح ، إذا قدّم سلعة أو نقوداً وكلّفه بالاتّجار بها عن طريق البيع والشراء على أساس الاشتراك في الأرباح .

وكما لم يسمح بقيام المضاربة والمشاركة في الأرباح على أساس أداة الإنتاج ، كذلك لم يسمح بقيام عقد المزارعة ـ وهو العقد الذي مرّ بنا في الفقرة الثالثة ـ على هذا الأساس أيضاً فلا يجوز لشخص أن يشارك الإنسان العامل في منتوجه الزراعي لمجرّد تقديم أدوات الإنتاج إليه ، من محراث وبقر وآلات ، وإنّما تتاح هذه المشاركة لمن يسهم بالأرض والبذر معاً ، كما عرفنا من نصٍّ للشيخ الطوسي سبق ذكره .

١٢ ـ لا يجوز للإنسان أن يستأجر أرضاً أو أداة إنتاج ، بأجرة معيّنة ، ثمّ يؤجّرها بأكثر من ذلك ما لم يعمل في الأرض أو الأداة عملاً يبرّر حصوله على الزيادة فإذا كنت قد استأجرت أرضاً بعشرة دنانير ، فلا يجوز لك أن تدفعها إلى شخص وتتقاضى منه عوضاً أضخم من تلك الأجرة التي سدّدتها لصاحب الأرض ، ما لم تنفق على الأرض وإصلاحها وإعداد تربتها جهداً يبرّر الفارق الذي تكسبه .

ـــــــــــــــ

(١) شرائع الإسلام ٢ : ١٣٩ ، مع تصرّف في العبارة .

(٢) المبسوط [ للسرخسي ] ٢٢ : ٣٤ .

٥٤٣

وقد نصّ على هذا الحكم بصورة وأخرى جماعة من كبار الفقهاء ، كالسيد المرتضى والحلبي والصدوق وابن البرّاج والشيخ المفيد والشيخ الطوسي(١) ، وفقاً لأحاديث كثيرة وردت بهذا الصدد ، ننقل فيما يلي بعضها :

( أ ) حديث سليمان بن خالد ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال :( إنّي لأكره أن أستأجر الرحى وحدها ثمّ أؤاجرها بأكثر ممّا استأجرتها ، إلاّ أن أحدث فيها حدثاً ) (٢) .

(ب) عن الحلبي ، قال : قلت للصادقعليه‌السلام :أتقبّل الأرض بالثلث أو الربع ، فاقبّلها بالنصف ؟ قال : لا بأس . قلت : فأتقبّلها بألف درهم ، واقبّلها بألفين ؟ قال : لا يجوز قلت : لِمَ ؟ قال : لأنّ هذا مضمون وذاك غير مضمون (٣) .(٤)

ـــــــــــــــ

(١) راجع الانتصار : ٤٧٥ ، والكافي في الفقه : ٢٤٦ ، والمقنع : ٣٩١ ، والمهذّب ٢ : ١١ ، والمقنعة : ٦٤٠ ، والنهاية ٤٤٥ ، وجواهر الكلام ٢٧ : ٢٢٣ .

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ١٢٤ ، الباب ٢٠ من أبواب كتاب الإجارة ، الحديث الأوّل ولاحظ سائر الروايات الأخرى في الصفحات التالية لذلك الموضع (المؤلّف قدّس سرّه)

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، الباب ٢١ من أبواب كتاب الإجارة ، الحديث الأوّل .

(٤) خلاصة التفصيل الذي يعرضه هذا النصّ والنصّ التالي هو : التفرقة بين حالتي الإجارة والمزارعة : ففي حالة الإجارة عندما يستأجر الفرد بمئة دينار مثلاً ، لا يجوز له أن يؤجّرها بأكثر من مئة ، ما لم يكن قد عمل في الأرض وفي حالة المزارعة عندما يتّفق العامل مع صاحب الأرض والبذر على زرع أرضه والاشتراك معه في الناتج بنسبة خمسين بالمئة مثلاً يجوز للعامل بعد ذلك أن يعطي الأرض لعامل آخر يباشر زراعتها ، على أن يدفع له ثلاثين بالمئة مثلاً ، ويحتفظ في النتيجة بعشرين بالمئة .

وقد حاول النصّ أن يفسّر هذا الفرق بين حالتي الإجارة والمزارعة ، فذكر في تبرير ذلك : ( أنّ هذا مضمون وذلك غير مضمون ) والنصّ يريد بهذا التعليل : أنّ المستأجر الثاني للأرض الذي يستأجرها ممّن كان قد استأجرها قبله ـ أي : من المستأجر الأوّل ـ يضمن في عقد الإجارة المستأجر الأوّل الأجرة المتّفق عليها ، فهي مضمونة بنفس العقد وأمّا المزارع الذي يتسلّم الأرض من المستأجر بموجب عقد مزارعة ليعمل فيها فهو لا يضمن في عقد المزارعة شيئاً للمستأجر الأوّل فما يحصل عليه المستأجر الأوّل نتيجة لعقد المزارعة ليس مضموناً له في نفس عقد المزارعة فكأنّ النصّ أراد أن يقول : إنّ التفاوت الذي يحصل عليه المستأجر الأوّل حين يؤجّر الأرض بأكثر ممّا استأجرها به مضمون له بنفس عقد الإجارة ، فلا بدّ من أن يسبق العقد عملٌ يبرّر هذا المكسب المضمون ؛ لأنّ الشريعة لا تُقرّ مكسباً مضموناً إلاّ في مقابل عمل وأمّا التفاوت الذي يحصل عليه المستأجر إذا زارع على الأرض بالنصف مثلاً ، فهو ليس مضموناً له بنفس عقد المزارعة ، فلا يجب أن يسبق عقد المزارعة عمل للمستأجر الأوّل في الأرض يبرّر هذا المكسب (المؤلّفقدس‌سره )

٥٤٤

(ج) حديث إسحاق بن عمار ، عن الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال :( إذا تقبّلت أرضاً بذهب أو فضّة ، فلا تقبّلها بأكثر من ذلك ، وإن تقبّلتها بالنصف والثلث ، فلك أن تقبّلها بأكثر ممّا تقبّلتها به ؛ لأنّ الذهب والفضّة مضمونان ) (١) .

(د) عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي ، قال : سألت جعفر بن محمّد

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ١٢٧ ، الباب ٢١ من أبواب كتاب الإجارة ، الحديث ٢

٥٤٥

الصادقعليه‌السلام عن الرجل ، استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى ، ثمّ آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر وله في الأرض بعد ذلك فضل ، أيصلح له ذلك ؟ قال :( نعم ، إذا حفر لهم نهراً أو عمل شيئاً يعينهم بذلك ، فله ذلك) (١) قال: وسألته عن الرجل استأجر أرضاً من

ـــــــــــــــ

(١) وتوضيح هذا النصّ : أنّ الشخص إذا كان قد استأجر أرضاً بمئة درهم ، ودفعها إلى زارع ليزرعها على أساس المشاركة في الناتج بنسبة مئوية ولنفرضها النصف ، وزاد النصف على مئة درهم ، لم يجز للمستأجر أن يأخذ الزيادة ما لم يتفق عملاً في الأرض كحفر النهر ونحوه .

وقد لاحظ كثير من الفقهاء : أنّ هذا النصّ يؤدّي إلى إلغاء الفرق بين المزارعة والإجارة فكما لا يجوز للمستأجر إيجار الأرض بأقلّ والاستفادة من الفارق بين الأجرتين بدون عمل ، كذلك لا يجوز له ـ بموجب هذا النصّ ـ أن يحصل على الفارق نتيجة لعقد مزارعة أيضاً .

ولأجل ذلك كان هذا النصّ يتعارض في رأيهم ، مع النصّين السابقين ، إذ أكدا على الفرق بين المزارعة والإجارة ، وأنّ الفارق الناتج عن تفاوت أجرتين لا يجوز بغير عمل وأمّا الفارق الناتج عن تفاوت نسبتين مئويتين في مزارعتين فهو جائز .

ولكن الواقع هو أنّ النصوص متّسقة ولا تناقض بينها وتوضيح ذلك بأساليب البحث الفقهي : أنّ النصّين السابقين يعالجان ناحية معيّنة ، وهي التفاوت بين اتفاق المستأجر مع المالك واتفاقه مع عامله ، والربح الذي يحصل عليه المستأجر الوسيط بين المالك والعامل المباشر نتيجة لهذا التفاوت ومعالجة النصّين لهذه الناحية هي : أنّ الربح الذي يحصل عليه الشخص الوسيط بين مالك الأرض والعامل المباشر فيها كان نتيجة للتفاوت بين مزارعتين ، فهو مشروع ولو لم يكن الشخص الوسيط قد قام بأيّ عمل في الأرض قبل أن يزارع عامله بنسبة أقل وأمّا إذا كان نتيجة للتفاوت بين الإجارتين ، فهو غير مشروع ما لم يكن المستأجر قد قام بعمل خاص في الأرض قبل أن يؤجّرها بأقل وأمّا النصّ الأخير في خبر الهاشمي فهو يعتبر عمل المستأجر الوسيط في الأرض ـ كحفر النهر ونحوه ـ شرطاً في صحة المزارعة التي يتّفق عليها مع العامل ، وشرطاً بالتالي في جواز تملّك هذا المستأجر الوسيط للزيادة الناجمة عن التفاوت بين ما يعطي لمالك الأرض وما يأخذ من العمل المباشر .

ولكي نعرف عدم تعارض هذا مع مدلول النصّين السابقين يجب أن نعرف :

أولاً : أنّ العمل الذي اعتبره النصّ ـ في خبر الهاشمي ـ شرطاً لصحة المزارعة التي يتّفق عليها المستأجر الوسيط مع عامله إنّما هو العمل بعد عقد المزارعة لا قبل ذلك ، بدليل قوله : ( نعم ، إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك ) فإنّ الحفر لهم والعمل لهم وإعانتهم بذلك معناه أنّ هذه الأعمال تتمّ بعد الاتفاق معهم على المزارعة وأمّا إذا حفر المستأجر في الأرض قبل أن يجد الأشخاص الذين يزارعهم ، فلا يوصف هذا الحفر بأنّه إعانة لهم وعمل لحسابهم ، فالعبارة تدلّ على أنّ العمل الذي جعل شرطاً في هذا النصّ هو العمل بعد العقد وأمّا العمل الذي جعل شرطاً في النصّين السابقين لصحة الإجارة يأجّره أكبر فهو العمل من المستأجر قبل أن يؤاجر الأرض بأزيد ممّا استأجرها به =

٥٤٦

= ثانياً : أنّ هذا النصّ لم تفترض فيه زيادة في العقد ، وإنّما حصلّت الزيادة اتفاقاً ، لأنّ المستأجر كان قد استأجر الأرض بأجرة محدّدة ، ثمّ اتّفق مع عامل على أن يزرعها ، ولكلّ منهما النصف ، والنصف قدر غير محدّد بطبيعته وكان من الممكن أن ينقص عن الأجرة التي دفعها المستأجر ، كما كان بالإمكان أن يساويها أو يزيد عليها فالزيادة التي يتحدّث عنها النصّ ليست مفروضة في طبيعة العقد ؛ لأنّ العقد بطبيعته لم يفرض على العامل المباشر أن يدفع إلى المستأجر الوسيط أكثر من الأجرة التي دفعها هذا إلى المالك ، وإنّما ألزم العامل في العقد بدفع نسبة مئوية معيّنة من الناتج إلى المالك بقطع النظر عن كمّيّتها ، وزيادتها ونقصانها عن الأجرة التي تسلّمها المالك من المستأجر الوسيط وإذا لاحظنا هذين الأمرين ، أمكننا القول بأنّ اشتراط العمل في هذا النصّ ـ نصّ الهاشمي ـ على المستأجر الوسيط بين المالك والعامل ، ليس لأجل تبرير التي يحصل عليها المستأجر الوسيط ، نتيجة للفرق بين الأجرة التي دفعها إلى صاحب الأرض ، والنسبة المئوية التي يتسلّمها من العامل المباشر ولنفرضها النصف مثلاً بل إنّ اشتراط العمل على المستأجر الوسيط إنّما هو لتصحيح عقد المزارعة ، وتوفير مقوّماته الشرعية بما هو عقد خاص بقطع النظر عن الزيادة والنقيصة وذلك بناء على الزعم الفقهي القائل : إنّ المزارعة لا يكفي فيها أن يقدّم صاحب الأرض أرضه ، بل لا بدّ لكي تكون صحيحة أن يتعهّد بشيء آخر غير الأرض كما دلّ على ذلك النصّ الفقهي الذي نقلناه عن الشيخ الطوسي في الفقرة الثالثة ، إذ جعل البذر في هذا النصّ الفقهي على صاحب الأرض وفي الفرضية التي يعالجها النصّ الوارد في خبر الهاشمي لم يفترض أنّ المستأجر الوسيط تعهّد للعامل الذي زارعه بالبذر فكان لا بدّ أن يكلّف بالمساهمة مع العامل الذي يزارعه في العمل .

وينتج عن ذلك أنّ صاحب الأرض ـ المالك لها رقبة أو منفعة ـ حينما يزارع عاملاً ، لا بدّ له من المساهمة مع العامل في العمل أو في البذر ونحوه من النفقة ، ولا يكفي مجرّد إعطائه للأرض .

وتفسير نصّ الهاشمي في هذا الضوء لا يتعارض مع ظهوره إطلاقاً ، ويحافظ على الفرق بين المزارعة والإجارة كما قرّره النصّان السابقان ؛ لأنّ العمل الذي يسوّغ للمستأجر أن يؤجّر الأرض بأكثر ممّا استأجرها هو العمل السابق على عقد الإجارة ، وشأنه تصحيح التفاوت بين الأجرتين وأمّا العمل الذي يسوّغ المستأجر أن يزارع غيره على الأرض بالنصف مثلاً ، فهو عمل يقوم به المستأجر الوسيط ، بعد المزارعة ، وشأنه تصحيح أصل المزارعة ، لا تصحيح التفاوت فحسب (المؤلّف قدّس سرّه)

٥٤٧

أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم ، فيؤاجرها قطعة أو جريباً لشيء معلوم ، فيكون له فضل فيما استأجر من السلطان ولا ينفق شيئاً ، أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً على أن يعطيهم البذر والنفقة ، فيكون له في ذلك فضل على إجارته ، وله تربة الأرض أو ليست له فقال له :( إذا استأجرت أرضاً فأنفقت فيها شيئاً أو رممّت فيها ، فلا بأس بما ذكرت ) (١) .

(هـ) حديث أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال :( إذا تقبّلت أرضاً بذهب أو فضّة ، فلا تقبّلها بأكثر ممّا قبّلتها به ، لأنّ الذهب والفضّة مضمونان ) (٢) .

(و) حديث الحلبي عن الصادقعليه‌السلام ، في الرجل يستأجر الدار ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به قال :( لا يصلح ذلك إلاّ أن يُحدث فيها شيئاً ) (٣) .

(ز) في حديث إسحاق بن عمار ، أنّ الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام كان يقول :( لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ، ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً ) (٤) .

(ح) روى سماعة قال : سألتهعليه‌السلام عن رجل اشترى مرعى يرعى فيه بخمسين درهماً أو أقل أو أكثر ، فأراد أن يدخل معه من يرعى معه فيه ، قبل أن يدخله منهم الثمن ؟ قال: ( فليدخل من شاء ببعض ما أعطى ، وإن أدخل معه بتسعة وأربعين ، وكانت غنمه بدرهم فلا بأس وإن هو رعى فيه قبل أن يدخله بشهر أو شهرين أو أكثر من ذلك ، بعد أن يبيّن لهم فلا بأس وليس له أن يبيعه بخمسين درهماً ويرعى معهم ، ولا بأكثر من خمسين درهماً ولا يرعى معهم ، إلاّ أن يكون قد عمل في المرعى عملاً ؛ حفر بئراً أو شقّ نهراً ، تعنّى فيه برضا أصحاب المرعى ،

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ١٢٧ ، الباب ٢١ من أبواب كتاب الإجارة ، الحديث ٣ و ٤ .

(٢) المصدر السابق : ١٢٨ ـ ١٢٩ ، الحديث ٦ ، مع اختلاف يسير .

(٣) المصدر السابق : ١٣٠ ، الباب ٢٢ من أبواب كتاب الإجارة ، الحديث ٤ .

(٤) المصدر السابق : ١٢٩ ، الحديث ٢ .

٥٤٨

فلا بأس ببيعه بأكثر ممّا اشتراه لأنّه قد عمل فيه عملاً ، فبذلك يصلح له (١) .(٢)

وقد نقل الجُزيري عن الفقهاء الأحناف أنّ الشخص إذا استأجر داراً أو دكّاناً بمبلغ معيّن كجنيه في الشهر فلا يحلّ له أن يؤجّرها لغيره بزيادة(٣) ، وهذا هو نفس الموقف الذي رأيناه لدى الفقهاء الأماميّين .

وذكر السرخسي الحنفي في مبسوطه عن الشعبي ، في رجل استأجر بيتاً وآجره بأكثر ممّا استأجره به : إنّه لا بأس بذلك إذا كان يفتح بابه ويغلقه ويخرج متاعه ، فلا بأس بالفضل وعلّق السرخسي على ذلك بقوله : بيّن أنّه إنّما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل فيه عملاً نحو فتح الباب وإخراج المتاع ، فيكون الفضل له بإزاء عمله ، وهذا فضل اختلف فيه السلف وكان إبراهيم يكره الفضل إلاّ أن يزيد فيه شيئاً ، فإن زاد فيه شيئاً طاب له الفضل وأخذنا بقول إبراهيم(٤) .

وكما لا يجوز لمن استأجر أرضاً أو أداة إنتاج أن يؤاجرها بأجرة أكبر ، كذلك لا يسمح له أيضاً أن يتّفق مع شخص على إنجاز عمل بأجرة معيّنة ثمّ يستأجر للقيام بذلك العمل أجيراً آخر لقاء مبلغ أقلّ من الأجرة التي ظفر بها في الاتفاق الأوّل ، ليحتفظ لنفسه بالفارق بين الأُجرتين .

ـــــــــــــــ

(١) الفروع من الكافي ٥ : ٢٧٣ ، الحديث ١٠ .

(٢) ليس المقصود بالبيع هنا المدلول الحقيقي الخاص لكلمة البيع ؛ وذلك بقرينة قوله : ( إلاّ أن يكون قد عمل في المرعى برضا أصحاب المرعى ) فإنّه يدلّ على أنّ للمرعى لأصحابه ، وهذا يتنافى مع افتراض أنّ الراعي قد اشتراه حقيقة فيجب أن تفهم كلمة البيع بمعنى عام يمكن أن ينطبق على الإجارة .

(٣) الفقه على المذاهب الأربعة ٣ : ١١٧ ، مع تصرفٍ يسير .

(٤) المبسوط [للسرخسي] ١٥ : ٧٨ .

٥٤٩

ففي رواية محمّد بن مسلم أنّه سأل الصادقعليه‌السلام : عن الرجل يتقبّل بالعمل فلا يعمل فيه ، ويدفعه إلى آخر فيربح فيه ؟ قال :( لا ، إلاّ أن يكون قد عمل شيئاً ) (١) .

وفي حديث آخر : أنّ أبا حمزة سأل الإمام الباقرعليه‌السلام : ( عن الرجل يتقبّل العمل فلا يعمل فيه ، ويدفعه إلى آخر يربح فيه ؟ قال :لا )(٢) .

وفي نصّ ثالث ، سئل الإمامعليه‌السلام : عن الرجل الخياط يتقبّل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل ؟ قال الإمام :لا بأس قد عمل فيه )(٣) .

وعن مجمع أنّه قال : قلت لأبى عبد الله الصادقعليه‌السلام : أتقبّل الثياب أخيطها ثمّ أعطيها الغلمان بالثلثين ؟ فقال :أليس تعمل فيها ؟ فقلت : اقطعها واشتري لها الخيوط قال :لا بأس )(٤) .

وفي حديث أنّ صائغاً قال لأبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أتقبّل العمل ثمّ اقبّله من غلمان يعملون معي بالثلثين ؟ فأجاب الإمامعليه‌السلام :أنّ ذلك لا يصلح إلاّ بأن تعالج معهم فيه (٥) .

النظرية :

درسنا في المجال النظري سابقاً العمل حين يمارس مادّة غير مملوكة

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ٣٢ـ ١٣٤ ، الباب ٢٣ من أبواب كتاب الإجارة ، الحديث الأوّل .

(٢) المصدر السابق : الحديث ٤ .

(٣) المصدر السابق : الحديث ٥ .

(٤) المصدر السابق : الحديث ٦ .

(٥) المصدر السابق : الحديث ٧ .

٥٥٠

بصوره مسبقة لشخص آخر ، فاستطعنا أن نكتشف بكلّ وضوح أنّ النظرية الإسلامية لتوزيع ما بعد الإنتاج تمنح الإنسان العامل في هذه الحالة كلّ الثروة التي مارسها في عملية الإنتاج ، ولا تشرك فيها العناصر المادّية ؛ لأنّها قُوى تخدم الإنسان المنتِج ، وليست في مستواه فهي تتلقّى مكافأتها من الإنسان ولا تشترك معه في المنتوج .

ودرسنا أيضاً العمل حين يمارس مادّة مملوكة لفرد آخر ، كما إذا غزل العامل الصوف الذي يملكه الراعي وعرفنا من رأي النظرية في هذه الحالة أنّ المادة تظلّ مِلكاً لصاحبها ، وليس للعمل ولا لكلّ العناصر المادّية التي تساهم في عملية الإنتاج نصيب فيها ، وإنّما يجب على مالك المادّة مكافأة تلك العناصر على الخدمات التي قدّمتها إليه في تطوير المادة وتحسينها .

ونريد الآن من خلال البناء العُلْوي الجديد أن ندرس هذه المكافأة التي تحصل عليها العناصر أو مصادر الإنتاج في هذه الحالة ، ونكتشف حدودها ونوعيّتها ، وبالتالي أساسها النظري .

وبتحديد نوع المكافأة التي يسمح لمصادر الإنتاج ـ من عملٍ وأرضٍ وأداةٍ إنتاجٍ ورأس مال ـ بالحصول عليها نعرف المدى الذي سمح به الإسلام من الكسب نتيجة لملكية أحد مصادر الإنتاج ، وما هي المبرّرات النظرية في الإسلام لهذا الكسب القائم على أساس ملكية تلك المصادر .

١ـ تنسيق البناء العُلْوي:

ولنستخلص في عملية تنسيق للبناء العُلْوي الجديد النتائج العامة التي يؤدّي إليها ، ثمّ نوحّد بين تلك النتائج في مركب نظري مترابط .

فالعمل وفقاً لهذا البناء العُلْوي من التشريع الإسلامي قد سمح له بأسلوبين

٥٥١

لتحديد المكافأة التي يستحقّها ، وترك للعامل الحقّ في اختيار أيهما شاء .

أحدهما : أسلوب الأجرة .

والآخر : أسلوب المشاركة في الأرباح أو الناتج

فمن حقّ العامل أن يطلب مالاً محدّداً نوعاً وكمّاً مكافأة له على عمله ، كما يحقّ له أنّ يطالب بإشراكه في الربح والناتج ، ويتّفق مع صاحب المال على نسبة مئوية من الربح أو الناتج ، تحدّد لتكون مكافأة له على عمله ، ويمتاز الأسلوب الأوّل بعنصر الضمان ، فالعامل إذا اقتنع بأن يكافأ بقدر محدّد من المال ـ وهذا ما نطلق عليه اسم الأجر والأجرة ـ وهذا القدر المحدّد له بقطع النظر عن نتائج العمل وما يسفر عنه الإنتاج في مكاسب أو خسائر وإمّا إذا اقترح العامل أن يشارك صاحب المال في الناتج والأرباح بنسبة مئوية بأمل الحصول عن هذا الطريق على مكافأة أكبر ، فقد ربط مصيره بالعملية التي يمارسها ، وفقد بذلك الضمان ، إذ من المحتمل أن لا يحصل على شيء إذا لم يوجد ربح ، ولكنه في مقابل تنازله عن الضمان يفوز بمكافأة منفتحة ، غير محدّدة تفوق الأجر المحدّد في أكثر الأحيان ؛ لأنّ الربح أو الناتج كمّية قد تزيد وقد تنقص ، فتعيين المكافأة على العمل في الربح أو الناتج بنسبة مئوية يعني تبعيتها في الزيادة والنقصان فلكلّ من الأسلوبين مزيّته الخاصة .

وقد نظّم الإسلام الأسلوب الأوّل ـ الأجر ـ بتشريع أحكام الإجارة ، كما رأينا في الفقرة الأولى ونظّم الأسلوب الثاني ـ المشاركة في الربح أو الناتج ـ بتشريع أحكام المزارعة والمساقاة والمضاربة والجُعالة ، كما مرّ في الفقرات ( ٣ و٤ و ٦ و ١٠ ) ففي عقد المزارعة يمكن للعامل أن يتّفق مع صاحب الأرض والبذر على استخدام الأرض في زراعة ذلك البذر ، ومقاسمة الناتج بينهما وفي عقد المساقاة يمكن للعامل أن يعقد مع صاحب الأشجار عقداً يتعهّد فيه بسقيها في مقابل منحه نسبة مئوية في الثمرة وفي عقد المضاربة يسمح للعامل بأن يتّجر لصاحب المال ببضاعته على أن يقاسمه أرباح تلك البضاعة وفي الجُعالة يجوز لتاجر الأخشاب مثلاً أن يعلن استعداده لمنح أي شخص يصنع سريراً من تلك الأخشاب نصف قيمة السرير ، فتصبح مكافأة العامل بموجب ذلك مرتبطة بمصير العملية التي يمارسها .

وفي كلا الأسلوبين لتحديد مكافأة العامل لا يجوز لصاحب المال أن يضع عليه شيئاً من الخسارة ، بل يتحمّل صاحب المال الخسارة كلّها ، وحسب العامل من الخسارة إذا ارتبط معه على أساس المضاربة أن تضيع جهوده سدى .

٥٥٢

وأمّا أدوات الإنتاج ـ أي : الأشياء والآلات التي تستخدم خلال العملية ، كالمغزل والمحراث مثلاً إذ يستعملان في غزل الصوف وحرث الأرض ـ فمكافأتها تنحصر شرعاً في أسلوب واحد وهو الأجر ، فإذا أردت أن تستخدم محراثاً يملكه غيرك أو شبكة توجد عند شخص خاص ، فلك أن تستأجر المحراث أو الشبكة من صاحبها كما مرّ في الفقرة الثانية من البناء العُلْوي المتقدّم ، وليس لصاحب المحراث أو الشبكة أن يطالب بمكافأة عن طريق إشراكه في الأرباح

فالتمتّع بنسبة مئوية من الربح الذي سمح به للعمل حُرمت منه أدوات الإنتاج ، فليس من حقّ مالك الأداة أن يضارب عاملا عليها ، أي : أن يدفع إليه شبكة الصيّد مثلا ليصطاد بها ويشاركه في الأرباح ، كما رأينا في الفقرة (١٠) من البناء العُلْوي ، كما لا يصلح لمن يملك محراثاً وبقراً آلة زراعية أن يزارع عليها ، فيدفعها إلى المزارع ليستخدمها في عملياته ويقاسمه الناتج ، كما سبق في الفقرة (٣) من البناء ، إذ عرفنا من نصّ فقهي للشيخ الطوسي : أنّ عقد المزارعة إنّما يقوم بين فردين ، أحدهما : يتقدّم بالأرض والبذر والآخر : يتقدّم بالعمل فلا يكفيلإنجازه أن يقوم الأوّل بدفع أداة الإنتاج فحسب ، وكذلك الأمر في الجُعالة أيضاً ، التي كانت تسمح لصانع الأسرّة الخشبية أن يشارك صاحب الخشب في الأرباح ، كما تقدّم في فقرة (١٠) فإنّ صاحب الخشب يمكنه أن يجعل نصف الأرباح لكلّ من يعمل من خشبه أسرّة ، ولكن لم يسمح له بجُعالة يمنح فيها نصف الأرباح لمن يزوّده بأدوات الإنتاج ، التي يحتاجها في تقطيع الخشب وتركيب السرير منه ؛ لأنّ الجُعالة في الإسلام عبارة عن مكافأة يحدّدها الشخص مسبقاً على عمل يودّ تحقيقه ، وليس مكافأة على أيّ خدمة مهما كان نوعها (*) .

وعلى أي حال ، فأداة الإنتاج لا تساهم في الأرباح وإنّما تتقاضى الأجور فقط فالكسب الناتج عن ملكية الأداة أضيق حدوداً من الكسب الناتج عن العمل ؛ لأنّه ذو لون واحد بينما سمح للعمل بأسلوبين من الكسب .

ـــــــــــــــ

(*) راجع : الملحق رقم ١٦ .

٥٥٣

وعلى العكس من أدوات الإنتاج رأس المال التجاري ، فإنّه لم يسمح له بالكسب على أساس الأجور ، فلا يجوز لصاحب النقد أن يقرض نقده بفائدة ، أي : أن يدفعه للعامل ليتاجر به ويتقاضى من العامل أجراً على ذلك ، لأنّ الأجر يتمتّع بميزة الضمان ، وعدم الارتباط بنتائج العملية وما تكتنفها من خسائر وأرباح ، وهذا هو الرِّبا المحرّم شرعاً كما مرّ في فقرة (٧) وإنّما يجوز لصاحب النقد أو السلعة أن يدفع ماله إلى العامل ليتاجر به ويتحمّل وحده الخسارة ، بينما يقاسمه الأرباح بنسبة مئوية إذا حقّقت العملية ربحاً ، فالمشاركة في الربح مع تحمّل أعباء الخسارة هو الأسلوب الوحيد الذي سمح لرأس المال التجاري باتّخاذه .

وبهذا نعرف أنّ أداة الإنتاج ورأس المال التجاري متعاكسان في الأسلوب المشروع للكسب ، فلكلّ منهما أسلوبه بينما يجمع العامل الأسلوبين .

٥٥٤

وأمّا الأرض فهي كأداة الإنتاج يسمح لها بالكسب على أساس الأجور ولا يسمح لها بالمشاركة في الناتج وأرباح العملية الزراعية .

صحيح أنّ صاحب الأرض في عقد المزارعة يساهم في الأرباح بنسبة مئوية ، ولكنّا عرفنا من النصّ الفقهي للشيخ الطوسي في الفقرة (٣) أنّ عقد المزارعة إنّما يسمح به بين شخصين أحدهما العامل والآخر هو الذي يقدّم الأرض والبذر ، فصاحب الأرض في عقد المزارعة هو مالك البذر أيضاً على رأي الشيخ الطوسي ـ كما يبدو من النصّ المتقدّم ـ وليست مشاركته في الناتج على أساس الأرض ، بل على أساس ملكيّته للمادة وهي البذر .

٢ ـ الكسب يقوم على أساس العمل المنفق :

ومن اليسير علينا بعد تنسيق البناء العُلْوي وتلخيص ظواهره العامة أن نصل إلى الجانب المذهبي من النظرية ، الذي يربط بين تلك الظواهر ويوحّد بينها ، وأن نعرف القاعدة التي تفسّر ألوان الكسب الناتج عن ملكية مصادر الإنتاج ، وتبرّر السماح ببعضهما والمنع عن البعض الآخر .

والقاعدة التي تجمع كلّ تشريعات البناء العُلْوي على الكشف عنها أو مواكبتها ، وهي أنّ الكسب لا يقوم إلاّ على أساس إنفاق عمل خلال المشروع ، فالعمل المنفق هو المبرّر الأساسي الوحيد لحصول صاحبه على مكافأة من صاحب المشروع الذي أنفق العمل لحسابه ، وبدون المساهمة من شخص بإنفاق عمل لا مبرّر لكسبه .

ولهذه القاعدة مدلولها الإيجابي ومدلولها السلبي ، فهي تقرّر من ناحية إيجابية أنّ الكسب على أساس العمل المنفق جائز وتقرّر من ناحية سلبية إلغاء الكسب الذي لا يقوم على أساس إنفاق عمل في المشروع .

٥٥٥

٣ ـ الناحية الايجابية من القاعدة :

والناحية الايجابية تعكس في أحكام الإجارة ـ فقرة (١ ، ٢) ـ فقد سمح للأجير الذي يستأجر للعمل في مشروع معيّن ، أن يحصل على أجرة مكافأة له على عمله المنفق في ذلك المشروع .

وسمح لمن يملك أداة إنتاج أن يدفعها إلى فردٍ آخر لاستخدامها في مشروعه لقاء أجر معيّن يحصل عليه مالك الأداة من صاحب المشروع ، نظراً إلى أنّ الأداة تجسّد عملاً مختزناً يتحلّل ويتفتّت خلال استخدامها في عملية الإنتاج ، فالمغزل مثلاً تجسيد لعمل معيّن جعل من قطعة الخشب الاعتيادية أداة للغزل وهذا العمل المختزن فيه ينفق ويستهلك تدريجياً خلال عمليات الغزل ، فيكون لصاحب المغزل الحقّ في الحصول على كسب نتيجة لاستهلاك العمل المختزن في الأداة ، فالأجرة التي يحصل عليها مالك الأداة هي من نوع الأجرة التي يحصل عليها الأجير ومردّ الأجرتين معاً إلى كسبٍ يقوم على أساس إنفاق عمل خلال المشروع مع فارق في نوع العمل ؛ لأنّ العمل الذي ينفقه الأجير خلال المشروع عمل مباشر متّصل به في لحظة إنفاقه ، فهو ينجز وينفق في وقت واحد وإمّا العمل الذي يستهلك وينفق خلال استخدام أداة الإنتاج فهو عمل منفصل عن صاحب الأداة ، قد تمّ إنجازه وإعداده سابقاً لكي ينفق ويستهلك بعد ذلك في عمليات الإنتاج .

وبهذا نعرف أنّ العمل المنفق الذي اعتبرته النظرية مصدراً وحيداً للكسب ليس هو العمل المباشر فحسب بل يشمل العمل المختزن أيضاً ، فما دام هناك إنفاق واستهلاك للعمل فمن حقّ صاحب العمل المنفق أن يحصل على المكافأة

٥٥٦

التي يتّفق عليها مع صاحب المشروع ، سواء كان العمل الذي يستهلكه المشروع مباشراً أم منفصلاً .

وعلى أساس هذا التحديد للعمل المنفق الذي يضمّ كلا النوعين نستطيع أن نضيف إلى أدوات الإنتاج الدار التي سمح الإسلام لصاحبها بإيجارها والحصول على كسب نظير انتفاع الآخرين بها ، فإنّ الدار هي الأخرى أيضاًُ مختزن لعمل سابق ناجز يستهلكه ويبدّده الانتفاع بالدار ولو في مدى بعيد فيكون لصاحب الدار الحقّ في الحصول على مكافأة لقاء العمل المختزن في الدار الذي يستهلكه المستأجر خلال الانتفاع بها .

وكذلك أيضاً الأرض الزراعية التي يدفعها صاحبها إلى المزارع نظير أجرة ، فإنّ صاحب الأرض ، يستمد حقّه فيها من العمل الذي بذله عليها لإحيائها وتذليل تربتها وإعدادها ، ويزول حقّه حين يستهلك هذا العمل وتزول آثاره ، كما مرّ في نصوص فقهية متقدّمة ، فمن حقّه مادام له عمل مجسّد وجهد مختزن في الأرض أن يتقاضى أجرة من المزارع لقاء انتفاعه بها واستثماره لها ؛ لأنّ استغلال المزارع للأرض يستهلك شيئاً من العمل الذي بذل فيها خلال عمليات الإحياء .

فالأجرة في الحدود المسموح بها في النظرية تقوم دائماً على أساس عمل لفرد يستهلكه آخر خلال مشروع فيدفع أجرة لصاحب العمل المستهلك في مقابل ذلك ، ولا فرق بين أجرة العمل وأجرة أدوات الإنتاج والعقار والأرض الزراعية في هذا الأساس ، وإن اختلفت طبيعة الصلة التي تربط صاحب الأجرة بالعمل ، فالعمل المأجور جهد مباشر يقوم الأجير بإيجاده واستهلاكه لحساب صاحب المشروع خلال عملية الإنتاج ، وأمّا العمل المختزن في أداة الإنتاج مثلاً فهو جهد قد تمّ انفصاله عن العامل ، واختزانه في الأداة في زمان سابق ، ولهذا

٥٥٧

يباشر استهلاكه خلال المشروع شخص آخر غير العامل فالأجرة التي يتسلّمها الأجير هي أجرة على عمل آني حقّقه واستهلكه الأجير بنفسه والأجرة التي يتسلّمها صاحب الأداة هي في الحقيقة أجرة علي عمل سابق ، اختزنه صاحب الأداة في أداته ، واستهلكه صاحب المشروع في عمليّته .

هذا هو المدلول الايجابي للقاعدة التي تفسّر الكسب الناتج عن ملكية مصادر الإنتاج وقد عرفنا أنّ هذا المدلول ينعكس في جميع المجالات التي يسمح فيها بالأجرة والكسب نتيجة لملكية المصادر المنتجة .

٤ ـ الناحية السلبية من القاعدة :

وأمّا المدلول السلبي الذي يلغي كلّ كسب لا يبرّره عمل منفق خلال العملية فهو واضح في النصوص والأحكام ، فقد سبق في النصّ التشريعي (ح) من الفقرة الثانية عشرة أنّ الراعي إذا اشترى مرعى بخمسين درهماً ، فليس له أن يبيعه بأكثر من خمسين ، إلاّ أن يكون قد عمل في المرعى عملاً ، حفر بئراً أو شقّ نهراً أو تعنّى فيه ، برضا أصحاب المرعى ، فلا بأس ببيعه بأكثر ممّا اشتراه ، لأنّه قد عمل فيه عملا فبذلك يصلح له .

وهذا النصّ يقرّر المدلول السلبي للقاعدة بوضوح ؛ لأنّه يمنع الراعي من الحصول على كسب نتيجة لبيع المرعى أو إيجاره بثمن يزيد على ما دفعه إلى أصحاب المرعى الأوّلين بدون عمل ينفقه على المرعى ، ولا يسمح له بهذا الكسب أو الأجر ما لم يبذل جهداً يبرّر حصوله عليه من حفر بئرٍ أو شقّ نهرٍ وما إليها من أعمال .

ويؤكّد النصّ في النهاية أنّه إذا عمل في المرعى عملاً ، فهو يستمدّ مبرّر كسبه والتفاوت الذي يحصل عليه من العمل الذي قدّمه ؛( لأنّه قد عمل فيه عملاً

٥٥٨

فبذلك يصلح له ) .

وكأنّ النصّ بهذا التعليل والربط بين الكسب والعمل أراد التأكيد على المدلول السلبي للقاعدة ، فبالعمل يصلح للراعي الحصول على كسب جديد في مرعاه ، ولا يصلح له ذلك بدون العمل ومن الواضح أنّ هذا التعليل يعطي النصّ معنى القاعدة ، ولا يبقى مجرّد حكم في قصّة راعي ومرعى ، بل يمدّ مدلوله حتى يجعله أساساً عامّاً للكسب(١) .

فالكسب بموجب هذا النصّ لا يجوز بدون عمل مباشر ، كعمل الأجير أو منفصل مختزن ، كما في أدوات الإنتاج والعقارات ونحوها .

وتشع هذه الحقيقة نفسها في النصّ ـ ب ـ من الفقرة (١٢) ، إذ منع الشخص الذي يستأجر الأرض بألف درهم أن يؤآجرها بألفين من دون عمل يبذله فيها وأردف المنع بالقاعدة التي تفسّره ، والعلّة العامة التي يقوم على أساسها المنع ، فقال :لأن هذا مضمون (٢) .

وبموجب هذا التعليل والتفسير، الذي يرتفع بالحكم عن وصفه حكماً في

ـــــــــــــــ

(١) فهو نظير قول القائل لا تتبع زيداً في فتواه إلاّ إذا كان مجتهداًُ ، فإذا كان مجتهداً جاز لك إتباع رأيه لأنّه مجتهد ، فبسبب اجتهاده جاز لك إتباعه ، فإنّ المفهوم عرفاً من هذا القول أنّ جواز إتباع الرأي مرتبط دائماً بالاجتهاد ، فكما لا يجوز إتباع رأي زيد إذا لم يكن مجتهداً كذلك لا يجوز إتباع رأي غيره في هذه الحالة

وبكلمة أخرى : أنّ العرف يلغي خصوصية مورد الحكم المعلّل بقرينة التعليل ، ويجعل الربط بين الكسب والعمل أو بين الإتباع والاجتهاد قاعدة عامة (المؤلّف قدّس سرّه) .

(٢) ومفصّل النصّ كما يلي : عن الحلبي ، قال : قلت للصادقعليه‌السلام أتقبّل الأرض بالثلث أو الربع ، فأُقبّلها بالنصف ؟ قال : ( لا بأس به ) قلت : فأتقبّلها بألف درهم واقبّلها بألفين ؟ قال : ( لا يجوز لأن هذا مضمون وذلك غير مضمون ) وقد سبق هذا النص في البناء العُلْوي (المؤلّف قدّس سرّه) .

٥٥٩

واقعه إلى مستوى قاعدة عامة ، لا يسمح لأيِّ فردٍ بأن يضمن لنفسه كسباً بدون عمل ؛ لأنّ العمل هو المبرّر الأساسي للكسب في النظرية(*) .

فالمدلول السلبي للقاعدة تقرّره النصوص مباشرة ، كما ترتبط به عدّة أحكام من البناء العُلْوي المتقدّم .

فمن تلك الأحكام منع المستأجر للأرض أو الدار أو أيّ أداة إنتاج عن إيجارها بأجرة أكبر ممّا كلّفه استئجارها ما لم ينفق عليها عملاً ؛ لأنّ ذلك يجعله يكسب التفاوت بدون عمل منفق متّصل أو منفصل فإذا استأجر الشخص داراً بعشرة دنانير وآجرها بعشرين ، خرج من ذلك بعشرة دنانير مكسباً خالصاً بدون عمل منفق ، فكان من الطبيعي إلغاؤه على أساس القاعدة التي اكتشفناها .

ومن الأحكام التي ترتبط بالقاعدة أيضاً : منع الأجير عن استئجار غيره للقيام بالمهمّة التي استؤجر عليها بأجرةٍ أقل ممّا حصل عليه ، كما مرّ في الفقرة (١٢) فمن استؤجر لخياطة ثوب مثلا بعشرة دراهم لا يجوز له أن يستأجر شخصاً آخر لهذه المهمة نظير ثمانية دراهم ؛ لأنّ هذا يؤدّى إلى احتفاظه بالتفاوت بين الأجرتين ، والحصول على درهمين بدون عمل ، فحرّمت الشريعة ذلك تطبيقاً للقاعدة بمدلولها السلبي الذي يرفض ألوان الكسب التي لا تقوم على أساس العمل وإنّما أجيز للخياط الذي استأجره صاحب الثوب أن يستأجره غيره بثمانية دراهم للقيام بالمهمّة ويحتفظ لنفسه بدرهمين في حالة واحدة ، وهي ما إذا كان قد مارس بنفسه جزءاً من العملية ، وأنجز مرحلة من الخياطة التي استؤجر عليها ، ليكون الظفر بدرهمين نتيجة لعمل منفق على الثوب .

وحكمٌ ثالثٌ نجده في البناء العُلْوي مرتبطاً أيضاً بالقاعدة ومدلولها

ـــــــــــــــ

(*) راجع الملحق رقم ١٧

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741