اقتصادنا

اقتصادنا7%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152611 / تحميل: 9465
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أحدهما: الإيمان بوجود الحقيقة الموضوعية .

والآخر : أنّ الأحداث التأريخية لم تُخلق صدفة ، وإنّما وُجدت وفقاً لقوانين عامة يمكن دراستها وتفهّمها فكلّ معارضة للمادّية التأريخية مردّها إلى المناقشة في هذين الأمرين

وعلى هذا الأساس كتب بعض الماركسيين يقول :

( قد دأب أعداء المادّية التأريخية ، أعداء علم التأريخ ، على أن يفسّروا الاختلافات في إدراك الأحداث التأريخية على أنّها دليل على عدم وجود حقيقة ثابتة ، ويؤكّدون أنّنا قد نختلف في وصف حادث وقع قبل يوم ، فكيف بأحداث قد وقعت قبل قرون ؟! ) (١) .

وقد شاء الكاتب ـ بهذا ـ أن يفسّر كلّ معارضة للمادّية التأريخية على أساس أنّها محاولة للتشكيك في الجانب الموضوعي للتأريخ ، وفي الحقائق الموضوعية للأحداث التأريخية وهكذا يحتكر الكاتب الإيمان بالواقع الموضوعي ، لمفهومه التأريخي الخاص .

ولكن من حقّنا أن نتساءل : هل إنّ عداء المادّية التأريخية يعني حقاً التشكيك في وجود الحقيقة خارج شعور الباحث وإدراكه ، أو إنكارها ؟ .

والواقع أنّنا لا نجد في هذه المزاعم شيئاً جديداً على الصعيد التأريخي ؛فقد استمعنا إلى هذا اللون من المزاعم قبل ذلك في الحقل الفلسفي ، حين تناولنا في(فلسفتنا) المفهوم الفلسفي للعالم ؛ فإنّ الماركسيين كانوا يصرّون : أنّ المادّية ، أو المفهوم المادّي للعالم ، هون وحده الاتّجاه الواقعي في مضمار البحث الفلسفي ؛ لأنّه اتّجاه قائم على أساس الإيمان بالواقع الموضوعي للمادّة ، وليس للمسألة الفلسفية جواب إذا انحرف البحث عن الاتّجاه المادّي ، إلاّ المثالية التي تكفر بالواقع الموضوعي ، وتنكر وجوده المادة فالكون إمّا أن يفسّر تفسيراً مثالياً لا مجال فيه لواقع موضوعي مستقل عن الوعي والشعور ، وإمّا أن يفسّر بطريقة علمية على أساس المادّية الديالكتيكة !!

ـــــــــــــــ

(١) الثقافة الجديدة ، السنة ٧ ، العدد ١١ : ١٠ .

٤١

وقد مرّ بنا ـ في (فلسفتنا ) ـ أنّ هذه الثنائية تزوير على البحث الفلسفي يُستهدف من ورائه اتّهام كلّ خصوم المادّية الجدلية بأنّهم تصوّريون مثاليون ، لا يؤمنون بالواقع الموضوعي للعالم ، بالرغم من أنّ الإيمان بهذا الواقع ليس وقفاً على المادّية الجدلية فحسب ، ولا يعني رفضها بحال من الأحوال التشكيك في هذا الواقع أو إنكاره ...

وكذلك القول في حقلنا الجديد ، فإنّ الإيمان بالحقيقة الموضوعية للمجتمع ، ولأحداث التأريخ ، لا ينتج الأخذ بالمفهوم المادّي ، فهناك واقع ثابت لأحداث التأريخ وكلّ حدث في الحاضر أو الماضي قد وقع فعلاً بشكل معيّن خارج شعورنا بتلك الأحداث ، وهذا ما نتفق عليه جميعاً .وليس هو من مزايا المادّية التأريخية فحسب ، بل يؤمن به كل من يفسّر أحداث التأريخ أو تطوّراته بالأفكار ، أو بالعامل الطبيعي ، أو الجنسي ، أو بأيّ شيء آخر من هذه الأسباب كما تؤمن به الماركسية لتي تفسّر التأريخ بتطوّر القوى المنتجة

فالإيمان بالحقيقة الموضوعية هو نقطةالانطلاق لكلّ تلك المفاهيم عن التأريخ ، والبديهة الأُولى التي تقوم تلك التفسيرات المختلفة على أساسها .

وشيء آخر : هو أنّ أحداث التأريخ بصفتها جزءاً من مجموعة أحداث الكون ، تخضع للقوانين العامة التي تسيطر على العالم. ومن تلك القوانين مبدأ العلّية ، القائل : إنّ كلّ حدث ، سواء أكان تأريخياً أو طبيعياً ، أم أيّ شيء آخر ، لا يمكن أن يوجد صدفةً وارتجالاً ، وإنّما هو منبثق عن سبب فكلّ نتيجة مرتبطة بسببها ، وكلّ حادث متّصل بمقدّماته وبدون تطبيق هذا المبدأ ـ مبدأ العلّية ـ على المجال التأريخي يكون البحث التأريخي غير ذي معنى .

فالإيمان بالحقيقة الموضوعية لأحداث التأريخ ، والاعتقاد بأنّها تسير وفقاً لمبدأ العلّية هما الفكرتان الأساسيّتان لكلّ بحثٍ علمي في تفسير التأريخ ؛ وإنّما يدور النزاع بين التفاسير والاتّجاهات المختلفة في درس التأريخ ، حول العلل الأساسية والقوى الرئيسية التي تعمل في المجتمع فهل هي القوى المنتِجة ، أو الأفكار ، أو الدم ، أو الأوضاع الطبيعية ، أو كلّ هذه الأسباب مجتمعةً ؟ .

والجواب على هذا السؤال ـ أيّاً كان اتجاهه ـ لا يخرج عن كونه تفسيراً للتأريخ ، قائماً على أساس الإيمان بحقيقة الأحداث التأريخية وتتابعها وفقاً لمبدأ العلّية .

وفيما يلي سنتناول المادّية التأريخية بصفتها طريقة عامة في فهم التأريخوتفسيره ، وندرسها :

أوّلاً : على ضوء الأسس الفلسفية والمنطقية التي يتكوّن منها مفهوم الماركسية العام عن الكون .

٤٢

وثانياً : بما هي نظرية عامة تحاول استيعاب التأريخ الإنساني

وثالثاً : بتفاصيلها ، التي تحدّد مراحل التأريخ البشري ، والقفزات الاجتماعية على رأس كلّ مرحلة

٢ ـ النظرية على ضوء الأُسس الفلسفية

في ضوء المادّية الفلسفية :

تؤمن الماركسية بأنّ التفسير المادّي للتأريخ من أهم مزايا المادّيةالحديثة ؛ إذ لا يمكن بدونه إعطاء التأريخ تفسيراً صحيحاً يتجاوب مع المادّية الفلسفية ، ويتسق مع المفهوم المادّي للحياة والكون وما دام التفسير المادّي صادقاً ـ في رأي الماركسية ـ على الوجود بصورة عامة فيجب أن يصدق بالنسبة إلى التأريخ ؛ لأنّ التأريخ ليس إلاّ جانباً من جوانب الوجود العام .

وعلى هذا الأساس تعيب الماركسية على مادّية القرن الثامن عشر موقفها من تفسير التأريخ ؛ لأنّ مادّية القرن الثامن عشر الميكانيكية لم توفّق إلى هذا الكشف المادّي الجبّار في الحقل التأريخي ، بل كانت مثالية في مفاهيمها عن التأريخ ، بالرغم من اعتناقها المادّية في المجال الكوني العام ولماذا كانت في مفهومها التأريخي مثالية ؟ كانت كذلك ـ في رأي الماركسية ـ لأنّها آمنت بالأفكار والمحتويات الروحية للإنسان ، ومنحتها دوراً رئيسياً في التأريخي ، ولم تستطع خلال العلاقات الاجتماعية التي كانت تعيشها أن تتخطّى هذه العوامل المثالية إلى السبب الأعمق ، إلى القوى المادّية الكامنة في وسائل الإنتاج ، فلم تصل لأجل هذا إلى العلّة المدية للتأريخ ، ولم يحالفها التوفيق في وضع تصميم علمي لمادّية تأريخية تتجاوب مع المادّية الكونية ؛ وإنّما ظلّت تتعلّق بالتفسيرات المثالية السطحية التي تدرس السطح التأريخي ولا تنفذ إلى الأعماق قالأنجلز :

٤٣

( وبالنسبة إلينا نجد في ميدان التأريخ أنّ المادّية القديمة لا تصدق مع ذاتها ؛ لأنّها تعتبر القوى المثالية المحرِّكة في التأريخ عِللاً نهائية ، وذلك بدلاً من البحث عمّا وراءها ، أيّ البحث عن القوى المحرّكة الفعلية الكامنة وراء هذه القوى المحرّكة ، ويبدو التناقض لا في الاعتراف بهذه القوى المثالية فحسب ، بل في عدم مواصلة البحث وراء هذه القوى حتى يمكن إزاحة الستار عن العلّل المحرّكة ) (١) .

وأنا لا أريد في مجال بحثي هذا أن أتناول المادّية الفلسفية ؛ لأنّ ذلك ما قمت به في الحلقة الأولى ( فلسفتنا ) ، وإنّما أقصد أن أدرس هذا الربط الذي تزعمه الماركسية ، أو بعض كتّابها ، بين المادّية الفلسفية والمادّية التأريخية ، بطرح السؤال التالي :

هل من الضروري ، على أساس المادّيةالفلسفية ، أن نفسّر التأريخ كما تفسّره الماركسية ونشدّ عجلته منذ فجر الحياة إلى الأبد بوسائل الإنتاج ؟

ولدى الجواب على هذا السؤال يجب أن نميّز بوضوح المفهوم الفلسفي للمادّية ، عن مفهومها التأريخي عند الماركسية ؛ فإنّ التباس أحد المفهومين بالآخر هو الذي أدّى إلى التأكيد الآنف الذكر على الارتباط بينهما ، وعلى أنّ كلّ فلسفة مادّية لا تتبنّى تفكير ماركس للتأريخ فهي لا تستطيع أن تقف على قدميها ، في ميدان البحث التأريخي ، ولا أن تتحرّرمن المثالية في مفاهيمها التأريخية ، تحرراً نهائياً.

والحقيقة هي : أنّ المادّية بمفهومها الفلسفي تعني أنّ المادة بظواهرها المتنوّعة هي الواقع الوحيد الذي يشمل كلّ ظواهر العالم وألوان الوجود فيه ، وليست الروحيات وكل ما يدخل في نطاقها ، من أفكار ومشاعر وتجريدات ، إلاّ نتاجاً مادّياً ، وحصيلة للمادة في درجات خاصة من تطوّرها ونموّها فالفكر مهما بدا رفيعاً وعالياً عن مستوى المادة فهو لا يبدو في منظار المادّية الفلسفية إلا نتاجاً للنشاط الوظيفي للدماغ ، ولا يوجد واقع خارج حدود المادة ، ووجوهها المختلفة ، وليست هي بحاجة إلى أيّ معنى لا مادّي .

ـــــــــــــــ

(١) التفسير الاشتراكي للتأريخ : ٥٧ .

٤٤

فأفكار الإنسان ومحتوياته الروحية والطبيعة التي يمارسها على أساس هذا المفهوم الفلسفي ، ليست كلّها إلاّ أوجهاً مختلفة للمادة وتطوّراتها ونشاطاتها .

هذه هي المادّية الفلسفية ونظرتها العامة إلى الإنسان والكون ولا يختلف في حساب هذه النظرة الفلسفية أن يكون الإنسان نتاجاً للشروط المادّية والقوى المنتجة ، أو أن تكون شروط الإنتاج وقواه نتاجاً للإنسان فما دام الإنسان وأفكاره ، والطبيعة وقواها المنتجة ، كلّها ضمن حدود المادة ـ كما تزعم المادّية الفلسفية ـ فلا يضيرها من ناحية فلسفية أن يبدأ التفسير التأريخي بأيّ حلقة من الحلقات ، فيعتبرها الحلقة الأُولى في التسلسل الاجتماعي فكما يصحّ أن نبدأ بالأداة المنتِجة فنسبغ عليها صفة الأُلوهية للتأريخ ، ونعتبرها السبب الأعلى لكلّ التيّارات التأريخية ، كذلك يمكن ـ من وجهة النظر المادّية الفلسفية ـ أن نبدأ بالإنسانية بصفتها نقطة الابتداء في تفسير التأريخ ، فكلاهما في حساب المادّية الفلسفية سواء وبهذا يتضح أنّ الاتجاه المادّي في الفلسفة ـ الذي يفسّر الإنسان والطبيعة تفسيراً مادّياً ـ لا يحتّم مفهوم الماركسية عن التأريخ ، ولا يفرض النزول بالإنسان إلى درجة ثانوية في السلّم التأريخي ، واعتباره عجينة رخوة تكيّفها أدوات الإنتاج كما تشاء .

فالمسألة التأريخية ـ إذن ـ يجب أن تدرس بصورة مستقلّة عن المسألةالفلسفية للكون

في ضوء قوانين الديالكتيك :

إنّ قوانين الديالكتيك ، هي القوانين التي تفسّر كلّ تطوّر وصيرورة بالصراع بين الأضداد في المحتوى الداخلي للأشياء فكلّ شيء يحمل في صميمه جرثومة نقيضة ، ويخوض المعركة مع النقيض ، ويتطوّر طبقاً لظروف الصراع(١)

والماركسية تتّجة في مفهومها الخاص إلى تطبيق قوانين الديالكتيكهذه على الصعيد الاجتماعي ، واستعمال الطريقة الديالكتيكية في تحليل الأحداث التأريخية فهي ترى أنّ التناقض الطبقي في صميم المجتمع تعبير عن قانون التناقضات في الديالكتيك ، القائل : إنّ كلّ شيءٍ يحتوي في أعماقه على تناقضات وأضداد وتنظر إلى التطوّر الاجتماعي ، بوصفه حركة ديناميكية منبثقة عن التناقضات الداخلية طبقاً لقانون الحركة الديالكتيكية العام ، القائل : إنّ كل كائن يتطوّر لا بحركة ميكانيكية وقوّة خارجية تدفعه من ورائه ، بل بسبب التناقضات التي تنمو في صميمه وتنفجر وتؤمن بتراكم التناقضات الطبقية شيئاً فشيئاً حتى تحين اللحظة المناسبة لتتفجر عن تحوّل شامل ، في

ـــــــــــــــ

(١) لاحظ : ( فلسفتنا ) ، مبحث : الديالكتيك أو الجدل .

٤٥

بناء المجتمع ونظامه وفقاً للقانون الديالكتيكي ، القائل : إنّ التغيرات الكمّية التأريخية تتحوّل إلى تغيّر كيفي آني وهكذا حاولت الماركسية ، أن تجعل من المجال التأريخي ـ عن طريق مادّيتها التأريخية ـ حقلاً خصباً لقوانين الديالكتيك العامة .ولنقف لحظة لنتبيّن مدى التوفيق الذي أحرزته الماركسية فيديالكتيكها التأريخي .

إنّ الماركسية استطاعت أن تجعل من طريقتها فيالتحليل التأريخي طريقة ديالكتيكية إلى حد ما ، ولكنّها تناقضت في النتائج التي انتهت إليها مع طبيعة الديالكتيك ، وبهذا كانت ديالكتيكية في طريقتها ، ولم تكن كذلك في مضمونها النهائي ونتائجها الحاسمة ، كما سنرى .

أ ـ ديالكتيكية الطريقة :

لم تقتصر الماركسية على الطريقة الديالكتيكية في البحث التأريخي ، بل اتّخذتها شعاراً لها في بحوثها التحليلية لكلّ مناحي الكون والحياة ، كما مرّ في ( فلسفتنا )(١) غير أنّها لم تنجُ بصورة نهائية من التذبذب بين تناقضات الديالكتيك وقانون العلّية.

فهي بوصفها ديالكتيكية تؤكّد :أنّ النمو والتطوّر ينشأ عن التناقضات الداخلية ، فالتناقض الداخلي هو الكفيل بأن يفسّر كلّ ظاهرة من ظواهر الكون دون حاجة إلى قوّة أو علّة خارجية

ومن ناحية أخري تعترف : بعلاقة العلّة والمعلول ، وتفسّر هذه الظاهرة أو تلك بأسباب خارجية ، وليس بالتناقضات المخزونة في أعماقها

ـــــــــــــــ

(١) راجع : ( فلسفتنا ) ، مبحث الديالكتيك أو الجدل .

٤٦

وهذا التذبذب ينعكس في تحليلها التأريخي أيضاً ؛ فهي بينما تصرّ على وجود تناقضات جذرية في صميم كلّ ظاهرة اجتماعية كفيلة بتطويرها وحركتها ، تقرّر من ناحية أخرى : أنّ الصرح الاجتماعي الهائل يقوم كلّه على قاعدة واحدة ، وهي قوى الإنتاج وطريقته الخاصة ، وأنّ الأوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها ليستإلاّ بُنى فوقية في ذلك الصرح وانعكاسات بشكل آخر لطريقة الإنتاج التي قام البناء عليها .

فالعلاقة ـ إذن ـ بين هذه البُنى المتنوّعة الألوان وبين طريقة الإنتاج ، هي علاقة معلول بعلّة ويعني هذا : أنّ الظاهرات الاجتماعية الفوقية لم تنشأ بطريقة ديالكتيكية وفقاً للتناقضات الداخلية فيها ، وإنّما وجدت بأسباب خارجة عن محتواها الداخلي ، وبتأثير القاعدة فيها بل إنّانجد أكثر من هذا ، فإنّ التناقض الذي يطوّر المجتمع ـ في رأي الماركسية ـ ليس هو التناقض الطبقي الذي قد يعتبر ـ بمعنى من المعاني ـ تناقضاً داخلياً للمجتمع ، وإنّما هو التناقض بين علاقات الملكية القديمة وقوى الإنتاج الجديد فهناك إذن شيئان مستقلاّن ، يقوم التناقض بينهما لا شيء واحد يحمل في صميمه نقضيه .

وكأنّ الماركسية أدركت موقفها هذا المتأرجح بين التناقضاتالداخلية وقانون العلّية ، وحاولت أن توفّق بين الأمرين ، فأعطت العلّة والمعلول مفهوماً ديالكتيكياً ، ورفضت مفهومهما الميكانيكي ، وسمحت لنفسها على هذا الأساس أن تستعمل في تحليلها طريقة العلّة والمعلول في إطارهما الديالكتيكي الخاص فالماركسية ترفض السببية التي تسير على خط مستقيم والتي تظل فيها العلّة خارجية بالنسبة إلى معلولها ، والمعلول سلبياً بالنسبة إلى علّته ؛ لأنّ هذه السببية ، تتعارض مع الديالكتيك ، مععملية النموّ والتكامل الذاتي في الطبيعة ؛ إذ أنّ المعلول طبقاً لهذه السببية لا يمكن أن يجيء حينئذٍ أثرى من علّته ، وأكثر نموّاً ؛ لأنّ هذه الزيادة في الثراء والنموّ تبقى دون تعليل وأمّا المعلول الذي يولد من نقيضه فيتطوّر وينمو بحركة داخلية طبقاً لما يحتوي من تناقضات ؛ ليعود إلى النقيض الذي أولده ، فيتفاعل معه ، ويحقّق عن طريقة الاندماج به مركباً جديداً أكثر اغتناءً وثراءً من العلّة والمعلول منفردين فهذا هو ما تعنيه الماركسية بالعلّة والمعلول ؛ لأنّه يتّفق مع الديالكتيك ويعبّر عن الثالوث الديالكتيكي : ( الأطروحة ، والطباق ، والتركيب ) فالعلّة هي الأطروحة ، والمعلول هو الطباق ، والمجموع المترابط منهما هو التركيب والعلّية هنا عملية نموّ وتكامل عن طريق ولادة المعلول من العلّة ، أي : الطباق من الأطروحة والمعلول في هذه العملية لا يُولد سلبياً ، بل يُولد مزوّداً بتناقضاته الداخلية التي تنمّيه وتجعله يحتضن علّته إليه في مركّب أرقى وأكمل .

٤٧

وقد استعملت الماركسية علاقات العلّة والمعلول بمفهومهما الديالكتيكي هذا في المجال التأريخي ، فلم تشذّ ـ بصورة عامة ـ عن الطريقة الديالكتيكية التي تتبنّاها ، وإنّما فسّرت المجتمع على أساس أنّ له قاعدة تقوم عليها ظواهر فوقية تنشأ عن تلك القاعدة وتنمو وتتفاعل مع القاعدة ، وتنتجعن التأثير المتبادل مراحل التطوّر الاجتماعي ، طبقاً لقصّة الأطروحة والطباق والتركيب : ( الإثبات ، والنفي ، ونفي النفي ) .

وينطبق هذه الوصف على الماركسية ، إذا استثنينا بعض الحالاتالتي سجلت فيها الماركسية فشلها في تفسير الحدث التأريخي بالطريقة الديالكتيكية ، فاضطرت إلى تفسير التطوّر الاجتماعي والأحداث التأريخية في تلك الحالات تفسيراً ميكانيكياً ، وإن لم تسمح لنفسها بالاعتراف بهذاالفشل ، فلقد كتب أنجلز يقول :

( كان في إمكان المجتمعات البدائية القديمة ، التي ذكرناها آنفاً ، أن تظلّ باقية في الوجود لعدّة آلاف من السنين ، كما هي الحال في الهند وبين السلافيين إلى يومنا هذه ، قبل أن يؤدّي تعاملها مع العالم الخارجي إلى أن تنشأ في أوساطها اللامساواة في المِلكية التي ينجم عنها شروع هذه المجتمعات في التفكّك ) (١) .

ب ـ تزييف الديالكتيك التأريخي :

ومن الضروري أن نشير بهذا الصدد إلى رأينا في الطريقة الديالكتيكية والسببية بمعناها الديالكتيكي ، وهو : أنّ هذه السببية القائمة على أساس التناقض ( الأطروحة ، والطباق ، والتركيب ) لا تستند على العلم ، ولا إلى التحليل الفلسفي ، ولا توجد تجربة واحدة في الحقل العلمي يمكن أن تبرهن على هذا اللون من السببية ، كما يرفضها البحث الفلسفي رفضاً تامّاً ولا نريد التوسّع في درس هذه النقطة ؛ لأنّنا قمنا بدراسة مفصّلة لذلك في نقدنا العام للديالكتيك ـ راجع فلسفتنا ـ ، وإنّما يعنينا ـ ونحن في المجال التأريخي ـ أن نعرض نموذجاً للديالكتيك التأريخي ؛ كي يتجلّى عجزه في المجال التأريخي ، كما تجلّى في ( فلسفتنا ) عجزه في المجال الكوني العام ولنأخذ هذا النموذج من كلام ( ماركس ) إمام الديالكتيك التأريخي ، إذ حاول أن يصطنع الديالكتيك في تفسير تطوّر المجتمع إلى رأسمالي ، ثمّ إلى الاشتراكية .فكتب يقول عن ملكية الصانع الخاصّة لوسائل إنتاجه :

ـــــــــــــــ

(١) ضد دوهرنك ٢ : ٨ .

٤٨

( إنّ الاستملاك الرأسمالي المطابق لنموّ الإنتاج الرأسمالي يشكّل النفي الأوّل لهذه الملكية الخاصة ، التي ليست إلاّ تابعاً للعمل المستقل والفردي ولكنّ الإنتاج الرأسمالي ينسلّ هو ذاته نفيه بالحتمية ذاتها ، التي تخضع لها تطوّرات الطبيعة إنّه نفي النفي ، وهو يعيد ليس ملكية الشغيل الخاصة ، بل ملكيته الفردية المؤسّسة على مقتنيات ومكاسب العصر الرأسمالي ، وعلى التعاون والملكية المشتركة لجميع وسائل الإنتاج بما فيها الأرض )(١)

هل رأيتم كيف ينمو المعلول حتى يندمج مع علّته في تركيب أغني وأكمل ؟ إنّ ملكية الصانع أو الحرفي الصغير لوسائل إنتاجه هي الأطروحة والعلّة ، وانتزاع الرأسمالي لتلك الوسائل منه وتملّكه لها هو الطباق والمعلول وحيث إنّ المعلول ينمو ويزدهر ويؤلّف مع العلّةتركيباً أكمل فإنّ الملكية الرأسمالية تتمخّض عن الملكية الاشتراكية ، التي يعود فيها الحرفي مالكاً لوسائل إنتاجه بشكل أكثر كمالاً .

ومن حسن الحظ أنّه لا يكفي أن يفترض الإنسان أطروحة وطباقاًوتركيباً في أحداث التأريخ والكون لكي يكون التأريخ والكون ديالكتيكياً ؛ فإنّ هذا الديالكتيك ـ الذي افترضه ماركس ـ لا يعدو أن يكون لوناً من الجدل التجريدي

ـــــــــــــــ

(١) رأس المال ٣ ، القسم الثاني : ١١٣٨ .

٤٩

في ذهنه ، وليس جدلاً أو ديالكتيكاً(١) للتأريخ وإلاّ فمتي كانت ملكية الحرفي الخاصة لوسائل إنتاجه هي العلّة لتملّك الرأسمالي لها ، ليقال : إنّ النقيض ولد من نقيضه ، وإنّ الأطروحة أنشأت طباقاً ؟! .

إنّ ملكية الحِرَفيين الخاصة لوسائل إنتاجهم لم تكن هي السبب فيوجود الإنتاج الرأسمالي، وإنّما وجد الإنتاج الرأسمالي نتيجة لتحوّل طبقة التجّار ـ ضمن شروط معينة ، وبسبب تراكم ثرواتهم ـ إلى منتجين رأسماليين وكانت ملكية الحِرَفيين لوسائل إنتاجهم بصورة مبعثرة ومتفرّقة عقبة في وجه أولئك التجاريين ، الذين أصبحوا يمارسون الإنتاج الرأسمالي ، ويطعمون في السيطرة على مزيد من وسائل الإنتاج ، فاستطاعوا بنفوذهم أن يسحقوا تلك العقبة ، وينتزعوا ـ بشكل أو آخر ـ وسائل الإنتاج من أيدي الحِرَفيين ليثبّتوا بذلك أركان الإنتاج الرأسمالي ، ويوسّعوا من مداه فالإنتاج الرأسمالي وإن احتلّ مكان الإنتاج الفردي القائم على أساس ملكية الحرفي لوسائل إنتاجه ، ولكنّه لم ينشأ عن ملكية الحرفي لأدوات إنتاجه ، كما ينشأ الطباق من الأطروحة ، وإنّما نشأ من ظروف الطبقة التجارية ، وتراكم رأس المال عندها ، بدرجة جعلها تمارس الإنتاج الرأسمالي ، وبالتالي تسيطر على ممتكلات طبقة الحِرَفيين .

وبكلمة ٍ واحدة : إنّ الشروط الخارجية ـ كالتجارة ، واستغلال المعمّرات ، واكتشاف المناجم ـ لو لم تمنح التجاريين ملكية ضخمة وقدرة على الإنتاج الرأسمالي ، وعلى تجريد الحِرَفيين في نهاية المطاف من وسائلهم لو لم تنتج تلك الشروط لهم هذه الإمكانات ، لَما برز الإنتاج الرأسمالي إلى الوجود ، ولَما استطاعت ملكية الحِرَفيين أن تخلق نقيضها وتوجد الإنتاج الرأسمالي ، وتطّور نفسها بالتالي إلى ملكية اشتراكية

وهكذا لا نجد في المجال التأريخي ـ كما سنرى بصورة أكثر وضوحاً لدى دراستنا للمادّية التأريخية في تفاصيلها ومراحلها ـ كما لم يوجد في المجال الكوني العام ، مثالاً واحداً تنطبق عليه قوانين الديالكتيك ومفاهيمه عن السببية

ـــــــــــــــ

(١) الجدل والديالكتيك بمعنى واحد ( المؤلّف قدّس سرّه )

٥٠

ج _ النتيجة تناقض الطريقة :

ومن أقسى ما منيت به الماركسية في طريقتها الديالكتيكة أنّها استعملت هذه الطريقة بشكل انتهى بها إلى نتائج غير ديالكتيكية ، ولأجل هذا قلنا ـ منذ البدء ـ : إنّ طريقة الماركسية في التحليل التأريخي ديالكتيكية ، ولكن مضمون الطريقة يناقض الديالكتيك ؛ لأنّ الماركسية تقرّر من ناحيتها : أنّ التناقض الطبقي الذي يعكس تناقضات وسائل الإنتاج وعلاقات الملكية هو الأساس الرئيسي الوحيد للصراع في داخل المجتمع ، وليست التناقضات الأخرى إلاّ نابعة منه

وتقرّر في نفس الوقت : أنّ القافلة البشرية سائرة ـ حتماً ـ في طريق محوّ الطبقية من المجتمع إلى الأبد ، وذلك حين تدقّ أجراس النصر للطبقة العاملة ويولد المجتمع اللاطبقي ، وتدخل الإنسانية في الاشتراكية والشيوعية فإذا كانت الطبقة وتناقضاتها ستزول في تلك المرحلة من حياة المجتمع ، فسوف ينقطع عنه المدّ التطوّري وتنطفئ شعلة الحركة الأبدية ، وتحصل المعجزة التي تشلّ قوانين الديالكتيك عن العمل !! وألاّ فكيف تفسر الماركسية حركة الديالكتيك في المجتمع اللاطبقي ، ما دام التناقض الطبقي قد لاقى مصيره المحتوم ، وما دامت حركة الديالكتيك لا توجد إلاّ على أساس التناقض ؟!

ولا يزال في متناول يدنا كلام ماركس الآنف الذكر الذي جعل ملكية الحِرَفي الخاصة أطروحة ، واعتبر أن الرأسمالية هي النفي الأوّل ( الطباق ) والاشتراكية هي نفي النفي ( التركيب ) فبإمكاننا أن نسأل ماركس : هل سوف تكفّ قصّة الأطروحة والطباق والتركيب عن العمل بعد ذلك بالرغم من قوانين الديالكتيك العامة ، أو أنّها ستستأنف ثالوثاً جديداً ؟ وإذا كانت ستستمرّ فسوف تكون المِلكية الاشتراكية هي الأطروحة ، فما هو النقيض الذي ستلده وتنمو بالاندماج معه ؟ يمكننا أننفترض أنّ الملكية الشيوعية هي النقيض أو النفي الأوّل للاشتراكية ولكن ما هو نفي النفي ( التركيب ) ؟

إنّ الديالكتيك سوف يبقى حائراً بإزاء تأكيد الماركسية على أنّ الشيوعية هي المرحلة العليا من التطوّرالبشري .

في ضوء المادّية التأريخية :

ولندرس الآن المادّية التأريخية في ضوء جديد ، في ضوء المادّية التأريخية ذاتها وقد يبدو غريباً لأوّل وهلة أن تكون النظرية أداة للحكم على نفسها ، غير أنّنا سنجد فيما يلي أنّ المادّية التأريخية تكفي بمفردها للحكم على نفسها في مجال البحث العلمي .

٥١

إنّ المادّية التأريخية لمّا كانت نظرية فلسفية عامة لتركيب المجتمعوتطوّره ، فهي تعالج الأفكار والمعارف الإنسانية عامة بوصفها جزءاً من تركيب المجتمع الإنساني فتعطي رأيها في كيفية تكوّن المعرفة الإنسانية وتطوّرها ، كما تعطي رأيها في كيفية نشوء سائر الأوضاع السياسية والدينية وغيرها ولمّا كان الوضع الاقتصادي في رأي المادّية التأريخية هو الأساس الواقعي للمجتمع بكل نواحيه فمن الطبيعي لها أن تفسّر الأفكار والمعارف على أساسه ، ولذلك نجد المادّية التأريخية تؤكّد أنّ المعرفة الإنسانية ليست وليدة النشاط الوظيفي للدماغ فحسب وإنّما يكمن سببها الأصيل في الوضع الاقتصادي ، ففكر الإنسان انعكاس عقلي للأوضاع الاقتصادية ، والعلاقات الاجتماعية ، التي يعيشها وهو ينمو ويتطوّر، طبقاً لتطوّر تلك الأوضاع والعلاقات .

وعلى هذا الأساس شيّدت الماركسية نظريّتها في المعرفة ، وقالت بالنسبية التطوّرية ، وأنّ المعرفة ما دامت وليدة ظروفها الاقتصادية والاجتماعية فهي ذات قيمة نسبية محدودة بتلك الظروف ، ومتطوّرة تبعاً لها فلا توجد حقيقة مطلقة ، وإنّما تتكشف الحقائق بشكلٍ نسبي من خلال العلائقالاجتماعية ، وبالمقدار الذي تسمح به هذه العلائق .

هذه هي النتيجة التي وصلت إليها المادّية التأريخية في تحليل المجتمعات ، وهي النتيجة التي كان لا بدّ لها أن تصل إليها ؛ وفقاً لطريقة فهمها للمجتمع والتأريخ .

وبالرغم من وصول الماركسية إلى هذه النتيجة في تحليلها الاجتماعي ، أبت أن تطبّق هذه النتيجة على نظريتها التأريخية نفسها فنادت بالمادّية التأريخية كحقيقة مطلقة ، وأعلنت على قوانينها الصارمة بوصفها القوانين الأبدية التي لا تقبل التغيير والتعديل ، ولا يصيبها شيء من عطل أو عجز في المجرىالتأريخي الطويل للبشرية حتى كان المفهوم الماركسي للتأريخ نقطة انتهاء للمعرفة البشرية كلّها ، ولم تكلّف الماركسية نفسها أن تتساءل : من أين نشأ هذا المفهوم الماركسي ؟ أو أن تخضعه لنظريتها العامة في المعرفة ولو كلّفت الماركسية نفسها شيئاً من ذلك ـ كما يحتّمه عليها الحساب العلمي ـ لاضطرّت إلى القول : بأنّ المادّية التأريخية بوصفها نظرية معينة قد انبثقت من خلال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية فهي ككلّ نظرية أخرى نابعة من الظروف الموضوعية التي تعيشها .

٥٢

وهكذا نجد كيف أنّ المادّية التأريخية تحكم على نفسها ، من ناحية أنّهاتعتبر كلّ نظرية انعكاساً محدوداً للواقع الموضوعي الذي تعيشه ، ولا تعدو هي بدورها أيضاً أن تكون نظرية قد تبلورت في ذهن إنساني عاش ظروفاًاجتماعية واقتصادية معيّنة فيجب أن تكون انعكاساً محدوداً لتلك الظروف ومتطوّرة تبعاً لتطوّرها ، ولا يمكن أن تكون هي الحقيقة الأبدية للتأريخ .

ونحن وإن كنّا لا نؤمن بأنّ العلاقات الاجتماعية والاقتصادية هي السبب الوحيد لولادة النظريات والأفكار ، ولكنّنا لا ننكر تأثيرها في تكوين كثير من الأفكار والنظريّات ولنضرب لذلك مثلاً على مفاهيم المادّية التأريخية ، وهو مفهوم ماركس الثوري للتأريخ ، فقد ظنماركس أنّ إزالة المجتمع الرأسمالي أو أي مجتمع آخر لا يتمّ إلاّ باتصال ثوري بين طبقتيه الأساسيّتين ، وهما : طبقة البورجوازية ، وطبقة البروليتاريا وعلى هذا الأساس اعتبر الثورة من أعمّ القوانين التي تسيطر على التأريخ البشري كلّه ، وجاء الماركسيون بعد ذلك ، فبدلاً عن محاولة استكشاف الظروف الاجتماعية التي أوحت إلى ماركس بحتمية الثورة وضرورتها التأريخية ، آمنوا بأنّ الثورة من القوانين الأبدية للتأريخ ، مع أنّها لم تكن في الحقيقة إلاّ فكرة استوحاها ماركس من الظروف التي عاشها ، ثمّ قفز بها إلى مصافّ القوانين المطلقة للتأريخ .

فقد عاصر ماركس رأسمالية القرن التاسع عشر ، تلك الرأسمالية المطلقة المتميّزة بظروفها السياسية والاقتصادية الخاصة ، فبدا له أنّ التلاحم الثوري أقرب ما يكون إلى الوقوع ، وأوضح ما يكون ضرورةً ؛ لأنّ البُؤس والنعيم والفقر والغنى في ظل الرأسمالية المطلقة ، كانا يتزايدان باستمرار ودون عائق ، وكانت الظروف السياسية مظلمة إلى حدٍّ كبير فتفتق ذهن ماركس عن فكرة النضال الطبقي الذي يستشري ويزداد تناقضاً يوماً بعد يوم ، حتى ينفجر البركان ويحلّ التناقض بالثورة فآمن بأنّ الانقلاب الثوري من قوانين التأريخ العامة ومات ماركس واختلفت الأوضاع الاجتماعية في أوروبا الغربية ، وأخذت الظروف السياسية والاقتصادية تسير سيراً معاكساً للاتجاه الذي قدّره ماركس فلم يتفاقم التناقض ، ولم يتّسع البؤس ، بل أخذ بالانكماش نسبياً ، وأثبتت التجارب السياسية أن بالإمكان تحقيق مكاسب مهمّة للجمهور البائس بخوض المعترك السياسي دونما ضرورة لتفجير البركان بالدماء

وسار الماركسيون الاشتراكيون في اتّجاهين مختلفين :

أحدهما : الاتجاه الإصلاحي الديمقراطي .

والآخر :الاتجاه الانقلابي الثوري .

٥٣

فالاتجاه الأوّل كان هو الاتجاه العام للاشتراكية في عدّة من الأقطار الأُوروبية الغربية ، التي بدا للاشتراكيين في ضوء ما حصل لها من تقدّم سياسي واقتصادي أنّ الثورة أصبحت غير ضرورية

وأمّا الاتجاه الثاني فقد سيطر على الحركة الاشتراكية في أوروبا الشرقية ، التي لم تشهد ظروفاً فكرية وسياسية واقتصادية مماثلة لظروف الغرب وقام الصراع بين الاتجاهين الماركسيين حول تفسير الماركسية لحساب هذا الاتجاه أو ذاك وقدّر أخيراً للاتجاه الثوري في أوروبا الشرقية أن ينجح ، فهلّل له الاشتراكيون الثوريون ، واعتبروهالدليل الحاسم على أنّ الاتجاه الثوري هو الذي تتجسّد فيه الماركسية بمطلقاتها وأبدياتها النهائية .

وفات هؤلاء جميعاً ـ كما فات ماركس قبلهم ـ أنّهم ليسوا إزاء حقيقة مطلقةأبدية، وإنّما هم إزاء فكرة استوحاها ماركس من ظروفه والأجواء الفكرية والسياسية التي كان يعيشها ، ثمّ وضع عليها المساحيق العلمية وأعلنها قانوناً مطلقاً ، لا تقبل التخصيص والاستثناء .

وليس من شاهد على ذلك أقوى من تناقض الاشتراكية الماركسية ـ كما أشرنا سابقاً ـ واتخاذها في الشرق طابعاً ثورياً ، وفي الغرب طابعاًديمقراطياً إصلاحياً ، فإنّ هذا التناقض لا يعبّر في الحقيقة عن الاختلاف في فهم الماركسية بمقدار ما يعبّر عن مدى محدودية المفهوم الماركسي لظروفه الاجتماعية الخاصة ، حيث نستنتج منه : أن الثورية الماركسية لم تكن من حقائق التأريخ المطلقة التي تكشفت لماركس في لحظة من الزمن ، وإنّما هي تعبير عن الظروف التي عاشها ماركس ، وحين تطوّرت هذه الظروف في أوروبا الغربية وتكشفت عن أشياء جديدة أصبحت تلك الفكرة غير ذات معنى ، بالرغم من احتفاظها بقيمتها في أوروبا الشرقية التي لم تحدث فيها تلك الأشياء ولا نريد بهذا أنّنا نؤمن بأنّ كلّ نظرية لا بدّ أن تكون نابعة من الأوضاع الاجتماعية والسياسية ، وإنّما هدفنا أن نقرّر :

أوّلاً : أنّ بعض الأفكار والنظريات، تتأثّر بالظروف الموضوعية للمجتمع ، فتبدو وكأنّها حقائق مطلقة مع أنّها لا تعبّر إلاّ عن الحقيقة في حدود تلك الظروف الخاصة ومن تلك الأفكار والنظريات بعض مفاهيم ماركس عن التأريخ

ثانياً : أنّ جميع مفاهيم ماركس عن التأريخ يجب أن تكون ـ في حكم المادّية التأريخية ووفقاً لنظرية المعرفة الماركسية ـ حقائق نسبية ، نابعة عن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي عاصرتها ، ومتطوّرة تبعاً لتطوّرها ولا يمكن أن تؤخذ المادّية التأريخية بوصفها حقيقة للتأريخ ما دامت النظريات نتاجاً للظروف النسبية المتطوّرة ، كما تؤكّد ذلك الماركسية نفسها .

٥٤

٣ ـ النظرية بما هي عامّة

بعد أن درسنا المادّية التأريخية في ضوء القواعد الفكرية الماركسية ، من المادّية الفلسفية ، والديالكتيك ، والمادّية التأريخية نفسها ، أو بتعبير آخر : طريقة المادّية التأريخية في تفسر المعرفة وحدّدنا صلتها بتلك القواعد ، بعد أن درسنا ذلك كلّه حان الوقت للانتقال إلى المرحلة الثانية من دراسة المادّية التأريخية ؛ وذلك أن نتناولها بما هي نظرية عامة تستوعب بتفسيرها حياة الإنسان وتأريخه الاجتماعي كلّه وندرسها بصفتها العامة هذه بقطع النظر عن تفاصيلها ، وخصائص كلّ مرحلة من مراحلها

وحين نتناولها بهذا الوصف نجد بين يدي البحث عدة أسئلة تنتظر الجواب عليها :

فأوّلاً : ما هو نوع الدليل الذي يمكن تقديمه لإثبات الفكرة الأساسية في المادّية التأريخية ، وهي : أن الواقع الموضوعي لقوى الإنتاج هو القوّة الرئيسية للتأريخ ، والعامل الأساسي في حياة الإنسان ؟

وثانياً : هل يوجد مقياس أعلى توزن به النظريات العلمية ؟ وما هو موقف هذا المقياس من النظرية الماركسية عن التأريخ ؟

وثالثاً : هل استطاعت المادّية التأريخية حقّاً أن تملأ بتفسيرها الافتراضي كل الشواغر في التأريخ الإنساني، أو بقيت عدّة جوانب عامة من الحياة الإنسانية خارج حدود التفسير المادّي للتأريخ ؟ وسوف ندير البحث حول الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة ، حتى إذا انتهينا من ذلك انتقلنا إلى المرحلة الثالثة من درس المادّية التأريخية ، درس تفاصيلها ومراحلها المتعاقبة .

أوّلاً : ما هو نوع الدليل على المادّية التأريخية ؟

ولكي تتاح لنا معرفة الأساليب التي تستعملها الماركسية للتدليل على مفهومها المادّي للتأريخ يجب استيعاب مجموعة ضخمة من أفكار المادّية التأريخية وكتبها ؛ لأنّ الأساليب معروضة بشكل متقطّع وموزع في مجموع كتابات الماركسية

ويمكننا تلخيص الأدلّة التي تستند إليها المادّية التأريخية في أمورٍ ثلاثة :

أ ـ الدليل الفلسفي

ب ـ الدليل السيكولوجي .

ج ـ الدليل العلمي

أ ـ الدليل الفلسفي :

٥٥

أما الدليل الفلسفي ـ ونعني به : الدليل الذي يعتمد على التحليل الفلسفي للمشكلة ، وليس على التجارب والملاحظة المأخوذة عن مختلف عصور التأريخ ـ فهو : أن خضوع الأحداث التأريخية لمبدأ العلّية الذي يحكم العالم بصورة عامّة يرغمنا على التساؤل عن سبب التطوّرات التأريخية ، التي تعبّر عنها أحداث التأريخ المتعاقبة وتيّاراته الاجتماعية والفكرية والسياسية المختلفة فمن الملاحظ بكلّ سهولة أنّ المجتمع الأوروبي الحديث ـ مثلاً ـ يختلف في محتواه الاجتماعي وظواهره المتنوّعة عن المجتمعات الأوروبية قبل عشرة قرون فيجب أن يكون لهذا الاختلاف الاجتماعي الشامل سببه ، وأن نفسّر كل تغير في الوجود الاجتماعي في ضوء الأسباب الأصيلة التي تصنع هذا الوجود وتغيّره ، كما يدرس العالم الطبيعي في الحقل الفيزيائي كلّ ظاهرة طبيعية في ضوء أسبابها ، ويفسّرها بعلّتها ؛ لأنّ المجالات الكونية كلّها ـ الطبيعية والإنسانية ـ خاضعة لمبدأ العلّية فما هو السبب ـ إذن ـ لكلّ التغييرات الاجتماعية التي تبدو على مسرح التأريخ ؟

قد يجاب على هذا السؤال : بأنّ السبب هو الفكر أو الرأي السائد في المجتمع ، فالمجتمع الأوروبي الحديث يختلف عن المجتمع الأوروبي ـ القديم، تبعاً لنوعية الأفكار والآراء الاجتماعية العامة السائدة في كلٍّ من المجتمعين .

ولكن هل يمكن أن نقف عند هذا في تفسير التأريخ والمجتمع ؟

إنّنا إذا تقدّمنا خطوة إلى الأمام في تحليلنا التأريخي نجد أنفسنا مرغمين على التساؤل : عمّا إذا كانت آراء البشر وأفكارهم خاضعة لمجرّد المصادفة ، ومن الطبيعي أن يكون الجواب على هذا السؤال ـ في ضوء مبدأ العلّية ـ سلبياً فليست آراء البشر وأفكارهم خاضعة للمصادفة ، كما أنّها ليست فطرية تولد مع الناس وتموت بموتهم وإنّما هي آراء وأفكار مكتسبة تحدث وتتغيّر وتخضع في نشوئها وتطوّرها لأسباب خاصة ، فلا يمكن ـ إذن ـ اعتبارها السبب النهائي للأحداث التأريخية والاجتماعية ، ما دامت هي بدورها أحداثاً خاضعة لأسباب وقوانين محدّدة بل يجب أن نفتّش عن العوامل المؤثّرة في نشوء الآراء والأفكار وتطوّرها فلماذا ـ مثلاً ـ ظهر القول بالحرّية السياسية في العصر الحديث ، ولم يوجد في قرون أوروبا الوسطى وكيف شاعت الآراء التي تعارض المِلكية الخاصة ، في المرحلة التأريخية الحاضرة دون المراحل السابقة ؟

٥٦

وهنا قد نفسّر ، بل من الضروري أن نفسّر ، نشوء الآراء وتطوّرها عن طريق الأوضاع الاجتماعية بصورة عامّة ، أو بعض تلك الأوضاع ـ كالوضع الاقتصادي ـ بوجه خاص ، ولكنّ هذا لا يعني أنّنا تقدّمنا في حلّ المشكلة الفلسفية شيئاً ؛ لأنّنا لم نصنع أكثر من أنّنا فسّرنا تكوّن الآراء وتطوّرها تبعاً لتكوّن الأوضاع الاجتماعية وتطوّرها. وبذلك انتهينا إلى النقطة التي ابتدأنا بها ! انتهينا إلى الأوضاع الاجتماعية التي كنا نريد منذ البدء أن نفسّرها ونستكشف أسبابها فإذا كانت الآراء وليدة الأوضاع الاجتماعية ، فما هي الأسباب التي تنشأ عنها الأوضاع الاجتماعية وتتطوّر طبقاً لها؟

وبكلمة أخرى : ما وهو السبب الأصيل للمجتمع والتأريخ ؟

وليس أمامنا ـ في هذا الحال ـ لاستكشاف أسباب الوضع الاجتماعي وتفسيره إلاّ أحد سبيلين:

الأوّل : أن نرجع إلى الوراء خطوة فنكرّر الرأي السابق ، القائل بتفسير الأوضاع الاجتماعية بمختلف ألوانها السياسية والاقتصادية وغيرها بالأفكار والآراء ونكون حينئذٍ قد درنا في حلقة مفرغة ؛ لأنّنا قلنا أولاً أنّ الآراء والأفكار وليدة الأوضاع الاجتماعية ، فإذا عدنا لنقول : أنّ هذه الأوضاع نتيجة للأفكار والآراء ، رسمنا بذلك خطّاً دائرياً ورجعنا من حيث أردنا أن نتقدّم وهذا السبيل هو الذي سار فيه المفسّرون المثاليون للتأريخ جميعاً قال بليخانوف :

( وجد هيجل نفسه في ذات الحلقة المفرغة التي وقع فيها علماء الاجتماع والمؤرّخون الفرنسيون ، فهم يفسّرونالوضع الاجتماعي، بحالة الأفكار ، وحالة الأفكار بالوضع الاجتماعي ... وما دامت هذه المسألة بلا حلّ كان العلم لا ينفكّ عن الدوران في حلقة مفرغة بإعلانه : أنّ (ب) سبب (أ) ، مع تعيينه (أ) كسبب (ب) ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) فلسفة التأريخ : ٤٤ .

٥٧

والسبيل الآخر ـ سبيل الماركسية ـ : أن نواصل تقدّمنا في التفسير والتعليل وفقاً لمبدأ العلّية ، ونتخطّى أفكار الإنسان وآرائه وعلاقاته الاجتماعية بمختلف أشكالها ، نتخطّاها لأنّها كلّها ظواهر اجتماعية تحدث وتتطّور ، فهي بحاجة إلى تعليل وتفسير ولا يبقى علينا في هذه اللحظة الحاسمة، من تسلسل البحث إلاّ أن نفتّش عن سرّ التأريخ خارج نطاق الطبيعة التي يمارسها الإنسان منذ أقدم العصور إنّ قوى الإنتاج هذه هي وحدها التي يمكّنا أن تجيب على السؤال الذي كنا نعالجه : لماذا ، وكيف حدثت الأحداث التأريخية وتطوّرت وفقاً للضرورة الفلسفية القائلة : بأنّ الأحداث لا تخضع للمصادفة ، وأنّ لكلّ حادثة سببها الخاص ( مبدأ العلّية ) ؟

وهكذا لا يمكن للتفسير التأريخي أن ينجو من الحركة الدائرية العقيمة في مجال البحث ، إلاّ إذا وضع يده على وسائل الإنتاج كسبب أعلى للتأريخ والمجتمع هذا هو الدليل الفلسفي ، وقد حرصنا على عرضه بأفضل صورة ممكنة ، ويعدّ أهم كتاب استهدف بمجموعة بحوثه كلّها التركيز على هذا اللون من الاستدلال : ( فلسفة التأريخ ) ، للكاتب الماركسي الكبيربليخانوف وقد لخصنا الدليل الآنف الذكر من مجموعة بحوثه .

والآن بعد أن أدركنا الدليل الفلسفي للنظرية بشكلٍ جيد ، أصبح من الضروري تحليل هذا الدليل ودرسه في حدود الضرورة الفلسفية القائلة : إنّ الأحداث لا تنشأ صدفة ( = مبدأ العلّية ) .

فهل هذا الدليل الفلسفي صحيح ؟ هل صحيح أنّ التفسير الوحيد الذي تنحلّ به المشكلة الفلسفية للتأريخ هو تفسيره بوسائل الإنتاج ؟

ولكي نمهّد للجواب على هذا السؤال نتناول نقطة واحدة بالتحليل تتصل بوسائل الإنتاج ، التي اعتبرتها الماركسية السبب الأصيل للتأريخ ، وهذه النقطة هي : أنّ وسائل الإنتاج ليست جامدة ثابتة ، بل هي بدورها أيضاً تتغيّر وتتطوّر على مرّ الزمن كما تتغيّر أفكار الإنسان وأوضاعه الاجتماعية ، فتموت وسيلة إنتاج وتولد وسيلة أخرى فمن حقّنا أن نتساءل : عن السبب الأعمق الذي يطوّر القوى المنتجة ، ويكمن وراء تأريخها الطويل ، كما تساءلنا عن الأسباب والعوامل التي تصنع الأفكار ، أو تصنع الأوضاع الاجتماعية .

٥٨

ونحن حين نتقدّم بهذا السؤال إلىبليخانوف ـ صاحب الدليل الفلسفي ـ وأضرابه من كبار الماركسيين ، لا ننتظر منهم الاعتراف بوجود سبب أعمق للتأريخ وراء القوى المنتجة ؛ لأنّ ذلك يناقض الفكرة الأساسية فيالمادّية التأريخية ، القائلة بأنّ وسائل الإنتاج هي المرجع الأعلى في دنيا التأريخ ولهذا فإنّ هؤلاء حين يجيبون على سؤالنا يحاولون أن يفسّروا تأريخ القوى المنتجة وتطوّرها بالقوى المنتجة ذاتها ، قائلين : إن قوى الإنتاج هي التي تطوّر نفسها ، فيتطوّر تبعاً لها المجتمع كلّه ولكن كيف يتمّ ذلك ؟ وما هو السبيل الذي تنهجه القوى المنتجة لتطوير نفسها ؟

إنّجواب الماركسية على هذا السؤال جاهز أيضاً ، فهي تقول في تفسير ذلك : إنّ القوى المنتجة ـ خلال ممارسة الإنسان لها ـ تولِّد وتنمِّي في ذهنه باستمرار الأفكار والمعارف التأمّلية (١) فالأفكار التأمّلية ، والمعارف العلمية ، تَنتُج كلّها عن التجربة ، خلال ممارسة الإنسان لقوى الطبيعة المنتِجة ، وحين يكسب الإنسان تلك الأفكار والمعارف عن طريق ممارسة القوى الطبيعية المنتِجة ، تصبح هذه الأفكار التأمّلية والمعارف العلمية قوى يستعين بها الإنسان على إيجاد وسائل إنتاج وتجديد القوى المنتجة ، وتطويرها باستمرار .

ومعنى هذا : أنّ تأريخ تطوّر القوى المنتجة تمّ وفقاً للتطوّر العلمي والتأملي ، ونشأ عنه والتطوّر العلمي بدوره نشأ عن تلك القوى خلال تجربتها وبهذا استطاعت الماركسية أن تضمن لوسائل الإنتاج موقعها الرئيسي من التأريخ وتفسّر تطوّرها عن طريق الأفكار التأمّلية ، والمعارف العلمية المتزايدة ، الناشئة بدورها عن قوى الإنتاج ، دون أن تعترف بسببأعلى من وسائل الإنتاج .

ـــــــــــــــ

(١) فإنّ أفكار الإنسان تنقسم إلى قسمين :

إحداهما : الأفكار التأمّلية ، ونعني بها معلومات الإنسان عن الكون الذي يعيش فيه ، وما يزخر به من ألوان الوجود ، وما تسيّره من قوانين ، نظير معرفتنا بكروية الأرض ، أو بأساليب تدجين الحيوان ، أو بأساليب تحويل الحرارة إلى حركة ، والمادة إلى طاقة ، أو بأنّ كلّ حادثة خاضعة لسبب ، وما إلى ذلك من آراء تدور حول تحديد طبيعة العالم ، ونوعية القوانين التي تحكم عليه والفئة الأخرى من أفكار الإنسان : الآراء العملية ، وهي آراء الناس في السلوك الذي ينبغي أن يتّبعه الفرد والمجتمع في المجالات السياسية والاقتصادية والشخصية ، كرأي المجتمع الرأسمالي في العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين العامل وصاحب المال ، ورأي المجتمع الاشتراكي في رفض هذه العلاقة ، أو رأي هذا المجتمع أو ذاك في السلوك الذي ينبغي أن يتّبعه الزوجان ، أو النهج السياسي الذي ينبغي على الحكومة اتباعه .

فالأفكار التأمّلية : هي إدراكات لما هو واقع وكائن والأفكار العملية : إدراكات لما ينبغي أن يكون وما ينبغي أن لا يكون ( المؤلّف قدّس سرّه ) .

٥٩

وقد أكّدأنجلز على إمكان هذا اللون من التفسير ـ تفسير كلّ من قوى الإنتاج والأفكار التأمّلية في تطوّرهما بالآخر ـ ونوّه : بأنّ الديالكتيك لا يقرّ تصوّر العلّة والمعلول بوصفهما قطبين متعارضين تعارضاً حاداً ، كما اعتاد غير الديالكتيكيين إدراكهما كذلك فهم يرون دائماً العلّة هنا والمعلول هناك ، وإنّما يفهم الديالكتيك العلّة والمعلول على شكل فعل ورد فعل للقوى .

هذه هي النقطة التي أوضحناها تمهيداً لتحليل الدليل الفلسفي ونقده ، كي نقول : إذا كان هذا ممكناً من الناحية الفلسفية ، وجاز أن يسير التفسير في حلقة دائرية ـ كما صنعت الماركسية بالنسبة إلى القوى المنتجة وتطوّرها ـ فلماذا لا يمكن فلسفياً أن نصطنع نفس الأسلوب في تفسير الوضع الاجتماعي؟! فنقرر : أنّ الوضع الاجتماعي ـ في الحقيقة ـ عبارة عن التجربة الاجتماعية التي يخوضها الإنسان خلال علاقاته بالأفراد الآخرين ، كما يخوض تجربته الطبيعية مع القوى المنتجة خلال عمليات الإنتاج فكما أنّ الأفكار التأمّلية للإنسان تنمو وتتكامل في ظل التجربة الطبيعية ، ثمّ تؤثّر بدورها في تطوير التجربة وتجديد وسائلها ، كذلك الأفكار العملية للمجتمع تنمو وتتطوّر في ظل التجربة الاجتماعية وتؤثّر في تطويرها وتجديدها فوعي الإنسان العلمي للكون ينمو باستمرار من خلال التجربة الطبيعية ، وتنمو بسببه التجربة الطبيعية وقواها المنتجة نفسها ، وكذلك وعي الإنسان العملي للعلاقات الاجتماعية ، ينمو باستمرار من خلال التجربة الاجتماعية وتتطوّر بسببه التجربة الاجتماعية نفسها ، وعلاقاتها السائدة وعلى هذا الأساس لا مانع من ناحية فلسفية يمنع الماركسية من أن تفسّر الوضع الاجتماعي عن طريق الآراء العملية ، ثمّ تفسّر تغيّر الآراء وتطوّرهاعن طريق التجربة الاجتماعية المتمثلة في الأوضاع السياسية والاقتصادية وغيرها لأنّ هذا التفسير المتبادل للوضع الاجتماعي والوعي العملي نظير تفسير الماركسية ـ تماماً ـ لكلّ من تأريخ القوى المنتِجة والوعي العلمي بالآخر .

والسؤال بعد هذا كلّه ، لماذا يجب أن نُدخل وسائل الإنتاج في حساب التفسير التأريخي والاجتماعي ؟ ولماذا لا يمكن أن نكتفي بهذا التفسير المتبادل للوضع الاجتماعي والأفكار ، أحدهما بالآخر إنّ الضرورة الفلسفية ، ومفاهيم العلّة والمعلول التي أكدّ عليهاانجلز تسمح لنا بمثل هذا التفسير ، فإنْ كانت توجد أسباب تمنع عن الأخذ به فإنّما هي الملاحظات والتجارب التأريخية ، وذلك ما سوف نتناوله في الدليل العلمي

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741