اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 141707
تحميل: 8007

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141707 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

السلبي، وهو ما مرّ بنا في الفقرة السادسة من منع صاحب المال عن تضمين العامل في عقد المضاربة ، بمعنى أن التاجر إذا أراد أن يدفع رأس ماله التجاري ـ كنقود وسلعة ـ إلى عامل يتّجر به على أساس اشتراكهما في الأرباح فليس له أن يكلّف العامل بتعويض عن الخسارة إذا اتّفق وقوعها .

وتوضيح هذا المعنى أنّ صاحب المال في سلوكه مع العامل بين طريقين :

أحدهما : أن يمنح ملكية المال التجاري للعامل بعوض محدّد يدفعه العامل بعد انتهائه من العملية التجارية ، وفي هذه الحالة يصبح العامل ضامناً للعوض المتّفق عليه ، ومسئولاً عن دفعه ـ مع توفر سائر الشروط الشرعية ـ سواء أسفر عمله التجاري عن ربح أم منّي بخسارة ، لكن صاحب المال في هذه الحالة لا يشارك العامل في الأرباح ، وليس له حقّ إلاّ في العوض المتّفق عليه ، لأنّ المال التجاري أصبح ملكاً للعامل ، فالربح كلّه يعود إليه ، لأنّه هو الذي يملك المادة ولهذا جاء في الحديث كما سبق في الفقرة (١٢) :أنّ من ضمّن تاجر ـ أي : عاملاً يتّجر بالمال ـفليس له إلاّ رأس ماله .

والطريق الآخر : هو أن يحتفظ صاحب المال لنفسه بملكية المال التجاري ويستخدم العامل للاتّجار به على أساس اشتراكه في الربح وفي هذه الحالة يصبح لصاحب المال حقّ في الربح ؛ لأنّ المال ماله ، ولكن لا يجوز له أن يكلّف العامل في العقد بتعويض عن الخسارة وهذا هو الحكم الذي أشرنا إلى ارتباطه بالقاعدة التي نمارس الآن اكتشافها من خلال البناء العُلْوي ، وذلك لأنّ الخسارة في التجارة لا تعني استهلاك العامل خلال العملية التجارية لعمل منفصل لصحاب المال كان قد اختزنه في ماله ، كما هي الحال بالنسبة إلى صاحب الدار أو أداة الإنتاج ، الذي يجوز له السماح لك بالانتفاع بداره أو أدواته واعتبارك ضامناً لما تستهلكه منها خلال الانتفاع ، فأنت حين تنتفع بدار شخص آخر أو أداته فترة

٥٦١

من الزمن سوف تستهلك منها شيئاً ، وبالتالي تستهلك قسطاً من العمل المختزن فيها ، فلصاحب الدار والأداة أن يطالبك بتعويض عمّا استهلكته ، ويكون هذا التعويض الذي يظفر به المالك منك قائماً على أساس عمل منفق

وأمّا حين تتسلّم من صاحب المال مئة دينار للاتّجار بها على أساس اشتراكك في الربح ، فتشتري بها مئة قلم ، ثمّ تضطر لهبوط ثمن القلم أو قيمته ـ لأيّ سببٍ من الأسباب ـ إلى بيع الأقلام بتسعين ديناراً ، فأنت غير مسئول عن هذه الخسارة ، ولا مكلّف بدفع تعويض عن القدر الذي تفتّت من المال ؛ لأنّ هذا التفتّت ليس نتيجة لاستهلاكك شيئاً من المال ومن العمل المخزون فيه خلال العملية التجارية ، وإنّما هو نتيجة لهبوط القيمة التبادلية للأقلام ، أو تنزّل أسعارها في السوق ، فليست المسألة هنا مسألة عمل مختزن لشخص استهلكته وأنفقته خلال انتفاعك به لكي يجب عليك تعويضه عنه ، بل العمل المختزن في المال التجاري لا يزال كما هو لم يتفتّت ولم يُستهلك ، وإنّما نقصت قيمته ، أو انخفض سعره ، فليس لصاحب المال عليك أن تعوّضه ، إذ لو حصل على شيء منك نظير ذلك لكان كسباً بدون عمل منفق ، ولأدّى إلى حصوله على كسب منك بدون أن تستهلك من عمله شيئاً خلال الانتفاع ، وهذا ما ترفضه القاعدة في مدلولها السلبي .

٥ ـ ربط حرمة الرِّبا بالناحية السلبية :

وكما يرتبط المنع عن فرض الضمان على العامل بالمدلول السلبي للقاعدة التي ندرسها ، كذلك يمكننا أن نعتبر أيضاً حرمة الرِّبا لبنة من البناء العُلْوي الذي يرتكز على هذا المدلول السلبي للقاعدة ، بل إنّ حرمة الرِّبا من أهم أجزاء ذلك البناء ، وقد مرّت بنا حرمة الرِّبا في الفقرات (٧ و٨ و ٩) من البناء العُلْوي المتقدّم التي شرحت لنا تحريم الإسلام كلّ لون من ألوان القرض بفائدة .

والفائدة تعتبر في العرف الرأسمالي الذي يسمح بها : أجرة رأس المال النقدي الذي يسلفه الرأسماليون للمشاريع التجارية وغيرها لقاء أجر سنوي يحدد بنسبة مئوية من المال المسلف ، ويطلق على هذا الأجر اسم الفائدة ولا يختلف في مفهومه القانوني كثيراً عن الأجر الذي يحصل عليه أصحاب العقارات وأدوات الإنتاج نتيجة لإيجار تلك العقارات والأدوات فكما يمكنك أن تستأجر داراً تسكنها برهة من الوقت ثمّ تدفعها إلى صاحبها مع أجرة معيّنة ، كذلك يسمح لك في العرف الذي يؤمن بالفائدة أن تقترض كمّية من النقد لتستخدمها في أغراض تجارية أو استهلاكية ثمّ تدفع نفس الكمّية أو كمّية مماثلة مع أجرة محدّدة إلى الشخص الذي استقرضت المال منه .

٥٦٢

والإسلام بتحريمه لقرض الفائدة وسماحه بالكسب الناتج عن إيجار العقارات وأدوات الإنتاج ، كشف لنا عن فرق نظري بين رأس المال النقدي وبين أدوات الإنتاج والعقارات وهذا الفرق يجب تفسيره في ضوء النظرية وعلى أساس القاعدة التي نمارس الآن اكتشافها ؛ لنعرف السبب الذي دعا المذهب الاقتصادي إلى إلغاء أجرة رأس المال ، أو بكلمة أخرى : إلغاء الكسب المضمون الناتج من ملكية رأس المال النقدي ، بينما يسمح بأجرة أدوات الإنتاج ويبيح الكسب المضمون الناتج عن ملكية هذه الأدوات فلماذا جاز لمالك الأداة أن يجني من ورائها وعن طريق إيجارها كسباً مضموناً دون عناء ، ولم يجز للرأسمالي أن يجني من وراء نقده وعن طريق إقراضه كسباً مضموناً دون عناء ؟ هذا السؤال الذي تحتم علينا الجواب عنه فعلاً .

والحقيقة أنّ الجواب على هذا السؤال لا يتوقّف على أكثر من الرجوع إلى القاعدة بصيغتها التي اكتشفناها وبمدلولها الإيجابي والسلبي فالكسب المضمون

٥٦٣

ـ الأجر ـ الناتج عن ملكية أدوات الإنتاج يندرج في المدلول الإيجابي للقاعدة ؛ لأنّ الأداة مختزن لعمل سابق سوف يكون للمستأجر الحقّ في استهلاك قسط منه خلال استخدام الأداة في عملية الإنتاج التي يباشرها ، فالأجرة التي يدفعها إلى صاحب الأداة في الحقيقة هي أجرة على عمل سابق ، وبالتالي تعتبر كسباً يقوم على أساس عمل منفق ، فيجوز وفقاً للقاعدة في مدلولها الإيجابي .

وأمّا الكسب المضمون الناتج عن ملكية رأس المال النقدي ـ الفائدة ـ فليس ما يبرّره نظرياً ، لأنّ التاجر الذي يستقرض ألف دينار لمشروع تجاري بفائدةٍ معيّنة سوف يدفع ألف دينار في الوقت المحدّد إلى الدائن دون أن يستهلك منها ذرّة وفي هذه الحال تصبح الفائدة كسباً غير مشروع ؛ لأنّه لا يقوم على أساس أيِّ عمل منفق ، فيندرج في المدلول السلبي للقائدة .

وهكذا نعرف أنّ الفرق بين الفائدة على رأس المال النقدي وبين الأجرة على أدوات الإنتاج في التشريع الإسلامي ناتج عن اختلاف بين طبيعة الانتفاع برأس المال المسلف وطبيعة الانتفاع بأدوات الإنتاج المستأجرة

فانتفاع المقترض برأس المال لا يؤدّي بطبيعته إلى استهلاك شيء منه أومن العمل المتجسد فيه ، لأنّه مسئول بحكم عقد القرض عن دفع المبلغ في الوقت المحدّد والنقد الذي يدفع وفاء القرض في قوة النقد المقترض دون أي تفاوت .

وأمّا انتفاع المستأجر بالأداة التي استأجرها خلال عملية الإنتاج مثلا فهو يؤدّى إلى استهلاكها بدرجة ما ، استهلاك العمل المجسد فيها ، ولأجل ذلك كان لصاحب الأداة أن يحصل على كسب عن طريق إيجار الأداة بسبب العمل المنفق والجهد المستهلك خلال استخدام الأداة ، ولم يكن للرأسمالي أن يحصل على كسب من هذا القبيل لأنه يسترجع ماله كما هو بدون استهلاك .

٥٦٤

ويمكننا أن نضيف إلى مجموعة الأحكام التي قدّمناها للكشف عن الترابط بين البناء والنظرية حكماً آخر ، سبق أن تقدّم في فقرة (٦) ، وهو الحكم الذي يقضي بعدم السماح للعامل في عقد المضاربة بالإتّفاق مع عامل آخر على أن يقوم الأخير بالعمل لقاء نسبة مئوية من الأرباح أقل من النسبة التي حصل عليها العامل الأوّل ومن الواضح أنّ المنع عن هذه العملية يتّفق كلّ الاتفاق مع المدلول السلبي للقاعدة التي نمارس اكتشافها ، وهو رفض الكسب الذي لا يقوم على أساس العمل المنفق ؛ لأنّ العامل الأوّل حين ينجز العملية الآنفة الذكر سوف يحتفظ لنفسه بالتفاوت بين النسبتين المئويّتين ، ويكون هذا التفاوت كسباً بدون عمل منفق ، فمن الطبيعي أن يلغى وفقاً للقاعدة العامّة .

٦ ـ لماذا لا تشترك وسائل الإنتاج في الربح :

بقي علينا أن نواجه سؤالاً أخيراً بشأن أحكام المشاركة في الأرباح من البناء العُلْوي المتقدّم ولنمهّد لهذا السؤال باستخلاص المعلومات التي اكتشفناها حتى الآن فقد عرفنا أنّ الكسب لا يسمح به في نظرية توزيع ما بعد الإنتاج في الإسلام إلاّ على أساس العمل المنفق والعمل المنفق نوعان : عملٌ مباشرٌ يوجد وينفق في وقت واحد كعمل الأجير وعمل منفصل مختزن يوجد بصورة مسبقة وينفق خلال انتفاع المستأجر به ، كالعمل المختزن في الدار أو أداة الإنتاج الذي ينفق ويستهلك خلال سُكنى المستأجر فيها والانتفاع بها

وعرفنا أيضاً أنّ ملكية رأس المال النقدي ليست مصدراً للكسب ، ولأجل ذلك كان القرض بالفائدة محرّماً لأنّ الفائدة لا تقوم على أساس عمل منفق ، واستطعنا أن نستوعب جميع ألوان الأجور الثابتة ، ما كان منها جائزاً كأجرة الدار ، وما كان منها محرّماً كالفائدة الرّبوية ، ونطبق القاعدة بنجاح عليها بمدلولها .

٥٦٥

الإيجابي والسلبي ، ولكنّا لم نقل حتى الآن شيئاً عن تفسير غير الأجور الثابتة من ألوان الكسب التي عرضها البناء العُلْوي المتقدّم ، وأعني بذلك المشاركة في الربح ، وربط المصير بنتائج العملية من فوز أو خسران ، فالعامل في عقد المضاربة ليس له أجر ثابت يتقاضاه على كلّ حال من صاحب المال ، وإنّما هو شريك في الأرباح ، فكسبه يتحدّد ويتمدّد وفقاً لنتائج العملية ، وكذلك العامل في عقد المزارعة أو في عقد المساقاة ، فقد سمح له بالكسب على أساس المشاركة في الأرباح أو الناتج ، كما سبق في فقرات ( ٦ ‚ ٣ ‚ ٤ ) ولأجل هذا قلنا في مستهلّ البحث : إنّ العمل قد سمح له بنوعين من الكسب :أحدهما : الأجروالآخر : المشاركة في الربح .

كما أنّ صاحب المال التجاري في عقد المضاربة ، وصاحب الأرض في عقد المزارعة ، وصاحب الشجر والأغصان في عقد المُساقاة ، قد سمح لهم أيضاً بالكسب على أساس الربح ، فلكلّ منهم نصيبه من الربح تبعاً لما يتّفق عليه في تلك العقود ، كما سبق في الفقرات التي أشرنا إليها آنفاً .

وفي مقابل هذا حُرمت أدوات الإنتاج من المشاركة في الربح ، ولم تسمح لها الشريعة بالكسب على هذا الأساس ، وإنّما أعطتها فرصة الكسب على أساس الأجر الثابت فمن يملك أداة الإنتاج ليس له أن يدفعها إلى العامل على أساس المشاركة في الناتج أو الربح كما سبق في فقرة (١١) من البناء العُلْوي المتقدّم ، التي جاء فيها أنّ من يملك شبكة صيد أو أيّ آلة أخرى لا يجوز دفعها إلى العامل على أساس المشاركة فيما يصطاد ، فإذا اصطاد بها العامل شيئاً كان الصيد كلّه له ولم يكن لصاحب الشبكة شيء منه .

فهذه ظواهر واضحة في البناء العُلْوي ومن حقّ البحث علينا أن نطرح بشأنها السؤال التالي :

لماذا سمح للعمل بالكسب على أساس المشاركة في الربح

٥٦٦

ولم يسمح بذلك لأدوات الإنتاج ؟ وكيف حُرِمت أدوات الإنتاج من هذا اللون من الكسب بينما أتيح لصاحب المال التجاري أو صاحب الأرض أو صاحب الشجر أن يحصل عليه ؟

والحقيقة أنّ الفرق بين العمل وأدوات الإنتاج الذي يسمح للعمل بالمشاركة في الناتج دون وسائل الإنتاج ، ينبع من نظرية توزيع ما قبل الإنتاج ، فقد عرفنا في تلك النظرية أنّ العمل ـ ممارسة أعمال الانتفاع والاستثمار ـ هو السبب العام للحقوق الخاصة في ثروات الطبيعة الخام ، ولا يوجد من وجهة نظر المذهب الاقتصادي سبب آخر للملكية واكتساب الحقّ الخاص فيها كما عرفنا أيضاً أنّ الثروة الطبيعية إذا اكتسب فيها الفرد حقّاً خاصاً بممارسة العمل ظلّ حقّه ثابتاً مادام نوع العمل الذي اكتسب على أساسه الحقّ باقياً وفي هذه الحال لا يسمح لفرد آخر باكتساب حقّ خاص في تلك الثروة بإنفاق عمل جديد كما شرحته نظرية توزيع ما قبل الإنتاج بكلّ تفصيل ولكن هذا لا يعني أنّ العمل الجديد يختلف بطبيعته عن العمل الأوّل ، بل إنّ كلاً منهما يعتبر بمفرده سبباً كافياً لتملّك العامل للمادّة التي عمل فيها وإنّما جرّد العمل الجديد من التأثير باعتباره سبق العمل الأوّل زمنياً وتأثيره قبل ذلك في تملّك العامل الأوّل للمادّة فحقّ العامل الأوّل بسبب سبقه الزمني هو الذي يعزل العمل الثاني عن التأثير ولأجل هذا يصبح من الطبيعي أن يستعيد العمل الثاني تأثيره ويؤدّي مفعوله إذا تخلّى العامل عن حقّه وهذا هو ما يحدث تماماً في عقود المزارعة والمساقاة والمضاربة والجُعالة ، ففي عقد المزارعة مثلا ينفق العامل جهداً ويمارس عملا في استغلال البذر وتطويره إلى زرع ، وهذا العمل الذي يمارسه إنّما لا يعطيه حقّ ملكية الزرع لأنّ المادة التي يمارس عمله فيه ـ البذر ـ مملوكة لشخص سابق ، وهو صاحب الأرض ، فإذا سمح صاحب الأرض

٥٦٧

للعامل في عقد المزارعة بأن يقتطف ثمار عمله وتنازل عن حقّه في نصف المادّة مثلاً ، لم يبقَ ما يحول عن تملّك العامل لنصف الزرع .

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ مشاركة العامل في الناتج هي في الحقيقة تعبير عن دور العمل الذي يمارسه في المادة ـ البذر أو الشجر أو المال التجاري مثلاً ـ وعن الحقّ الذي ينتج عن ممارسته بموجب النظرية العامة لتوزيع ما قبل الإنتاج وإنّما يعطَّل هذا الدور أو الحقّ أحياناً بسبب دور أو حقٍّ سابقٍ زمنياً يتمتّع به شخص آخر فإذا تنازل هذا الشخص عن حقّه في عقد كعقد المزارعة وغيرها من عقود الشركة بين العامل وصاحب المال ، لم يعد ما يمنع عن إعطاء العامل حقّه في المادة ـ وفي حدود تنازل مالكها السابق ـ نتيجة لممارسة العمل فيها .

وأمّا أدوات الإنتاج فهي تختلف أساسياً عن العمل الذي يمارسه العامل بموجب تلك العقود فإنّ الزارع الذي ارتبط مع صاحب الأرض والبذر بعقد مزارعة يمارس عملاً وينفق جهداً حلال عملية الزرع ، فيكون من حقّه أن يملكه في الحدود التي سمح بها في العقد ، وأمّا مالك الشبكة الذي يدفعها إلى الصياد ليصطاد بها فهو لا يمارس عملاً في عملية الصيد ، ولا ينفق جهداً في الاستيلاء على الحيوان ، وإنّما الذي يمارس العمل وينفق الجهد هو الصيّاد وحده ، فلا يوجد إذن مبرّر لاكتساب صاحب الشبكة حقّ ملكية الصيد ؛ لأنّ المبرر لذلك هو ممارسة العمل وصاحب الشبكة لم يمارس عملاً في الصيد ليحصل على هذا الحقّ ، وسماح الصيّاد له بهذا الحقّ لا يكفي لمنحه إياه ما دام لا ينطبق على النظرية العامة في التوزيع ، فليس حقّ الصيّاد هنا هو الذي يحول دون تملك صاحب الشبكة للصيد ، وإنّما الذي يحول دون ذلك هو عدم وجود المبرّر النظري .

٥٦٨

وهكذا نعرف الفرق من هذه الناحية بين العمل المباشر والعمل المختزن ، فالعمل المباشر ممارسة من العامل للمادة تبرّر تملّكه لشيء منها ، إذا تنازل مالكها السابق عن حقّ السبق الزمني وأمّا العمل المخزن في أداة الإنتاج فهو ليس ممارسة من صاحب الأداة في العملية ، فلا يكون له حقّ الملكية في المادة سواء تنازل الممارس للعمل ـ الصيّاد مثلاً ـ عن حقّه أم لا وإنّما له حقّ الأجرة كمكافأة وتعويض عما تبدّد من عمله المختزن خلال العملية .

وعلى هذا الضوء نستطيع أن ندرك أيضاً الفرق بين أصحاب أدوات الإنتاج الذين لم يسمح لهم بالمشاركة في الناتج ، وبين صاحب الأرض في عقد المزارعة ، وصاحب المال التجاري في عقد المضاربة ، ونحوهما ممن يسمح له بنصيب من الربح ، فإنّ هؤلاء المالكين الذين سمح لهم بنصيب من الربح أو الناتج يملكون في الحقيقة المادة التي يمارسها العامل فصاحب الأرض يملك البذر الذي يزرعه العامل(١) وصاحب المال التجاري يملك السلعة التي يتّجر بها العامل ، وقد عرفنا في نظرية توزيع ما قبل الإنتاج أنّ ملكية شخص للمادّة لا تزول بتطوير تلك المادة من قبل شخص آخر أو منحها منافع جديدة فمن الطبيعي أن يصبح لصاحب البذر أو المال حقّه في الناتج أو الربح مادام يملك المادّة التي يمارسها العامل .

واستقراء الحالات التي سمح فيها للمالك بتملك الناتج والربح كما في المزارعة والمضاربة والمساقاة ونحوها يدعم صحة التفسير الذي نتقدّم به لهذه الملكية ؛ لأنّ جميع تلك الحالات تشترك في ظاهرة واحدة وهي أنّ المادة التي يمارسها العامل ملك لصاحب المال بصورة مسبقة .

ـــــــــــــــ

(١) بموجب النصّ الفقهي المتقدّم عن الشيخ الطوسي (المؤلّفقدس‌سره ) .

٥٦٩

[٤ ـ] الملاحظات

١ ـ دور المخاطرة في الاقتصاد الإسلامي :

إنّ الاكتشافات التي مرّت عن نظرية توزيع ما بعد الإنتاج تقرّر بوضوح : أنّ النظرية لا تعترف بالمخاطرة بوصفها عاملاً من عوامل الكسب ، وليس في ألوان الكسب التي سمحت بها النظرية ما يستمدّ مبرّره النظري من عنصر المخاطرة .

فإنّ المخاطرة في الحقيقة ليست سلعة يقدّمها المخاطر إلى غير ليطالب بثمنها ، ولا عملاً ينفقه المخاطر على مادة ليكون من حقّه تملّكها أو المطالبة بأجر على ذلك من مالكها ، وإنّما هي حالة شعورية خاصة تغمر الإنسان وهو يحاول الإقدام على أمر يخاف عواقبه ، فإمّا أن يتراجع انسياقاً مع خوفه ، وإمّا أن يتغلّب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه ، فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق ، واختار بملء إرادته تحمّل مشاكل الخوف بالإقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلاً ، فليس من حقّه أن يطالب بعد ذلك بتعويض مادّي عن هذا الخوف مادام شعوراً ذاتياً وليس عملا مجسّداً في مادّة ولا سلعة منتَجة .

صحيحٌ أنّ التغلّب على الخوف في بعض الأحيان قد يكون ذا أهمّية كبيرة

٥٧٠

من الناحية النفسية والخُلُقية ، ولكنّ التقييم الخُلُقي شيء، والتقييم الاقتصادي شيءٌ آخر .

وقد وقع الكثير في الخطأ تأثّراً بالتفكير الرأسمالي المذهبي ، الذي يتّجه إلى تفسير الربح وتبريره على أساس المخاطرة ، فقالوا : إنّ الربح المسموح به لصاحب المال به عقد المضاربة يقوم على أساس الخاطرة نظرياً ؛ لأنّ صاحب المال وإن كان لم ينفق عملاً ولكنّه تحمّل أعباء المخاطرة وعرّض نفسه للخسارة بدفعه المال إلى العامل ليتّجر به ، فكان على العامل أن يكافئه على مخاطرته بنسبة مئوية من الربح يتّفقان عليها في عقد المضاربة .

ولكنّ الحقيقة كما جَلَتها البحوث السابقة ، هي أنّ الربح الذي يحصل عليه المالك نتيجة لاتّجار العامل بأمواله ، ليس قائماً على أساس المخاطرة ، وإنّما يستمدّ مبرّره من ملكية صاحب المال للسعلة التي اتّجر بها العامل فإنّ هذه السلعة وإن كانت قيمتها تزداد غالباً بالعمل التجاري الذي ينفقه العامل عليها ، من نقلها إلى السوق وإعدادها بين أيدي المستهلكين ، ولكنّها تبقى مع ذلك ملكاً لصاحب المال ؛ لأنّ كلّ مادّة لا تخرج عن ملكيّتها لصاحبها بتطوير شخص آخر لها وهذا ما أطلقنا عليه اسم ظاهرة الثبات في الملكية .

فحقّ صاحب المال في الربح نتيجة لملكيّته للمادّة التي مارسها العامل وربح عن طريق بيعها ، فهو نظير حقّ مالك اللوح في السرير الذي يصنع من لوحه ولأجل هذا يعتبر الربح من حقّ صاحب المال ولو لم يمارس نفسياً أيّ لون من ألوان المخاطرة ، كما إذا اتّجر شخص بأموال فرد آخر دون علمه وربح في تجارته ، فإنّ بإمكان صاحب المال في هذه الحالة أن يوافق على ذلك ويستولي

٥٧١

على الأرباح ، كما أنّ من حقّه أن يعترض ويستحصل على ماله أو ما يساويه من العامل فاستيلاء المالك على الأرباح في هذا المثال لا يقوم على أساس المخاطرة ؛ لأنّ ماله مضمون على أيّ حال ، وإنّما خاطر العامل بإقدامه على ضمان المال والتعويض عنه في حالة الخسارة .

وهذا يعني أنّ حقّ صاحب المال في الربح ليس من الناحية النظرية نتيجة للمخاطرة ولا تعويضاً عنها ، أو مكافأة لصاحب المال على مقاومته لمخاوفه ، كما نقرأ عادّة لكتّاب الرأسمالية التقليديّة الذين يحاولون أن يُضفوا على المخاطرة سمات البطولة ، ويجعلوا منها سبباً مبرّراً للحصول على كسب في مستوى هذه البطولة .

وهناك عدّة ظواهر في الشريعة تبرهن على موقفها السلبي من المخاطرة ، وعدم الاعتراف لها بدور إيجابي في تبرير الكسب .

فالفائدة الرِّبوية مثلاً قد اعتاد الكثير على تبريرها وتفسيرها بعنصر المخاطرة ، الذي يشتمل عليه القرض ـ كما سنتناول ذلك في الملاحظة الآتية ـ ؛ لأنّ إقراض الدائن لماله نوع من المغامرة التي قد تفقده ماله ، إذا عجز المدين في المستقبل عن الوفاء وتنكّب له الحظ ، فلا يظفر الدائن بشيء ، فكان من حقّه أن يحصل على أجر ومكافأة له على مغامرته بماله لأجل المدين ، وهذه المكافأة هي الفائدة .

والإسلام لم يقرّ هذا اللون من التفكير ، ولم يجد في المخاطرة المزعومة مبرّراً للفائدة التي يحصل عليها صاحب المال من المدين ، ولهذا حرّمها تحريماً حاسماً .

٥٧٢

وحرمة القمار(١) وتحريم الكسب القائم على أساسه ، جانبٌ آخر من جوانب الشريعة التي تبرهن على موقفها السلبي من عنصر المخاطرة لأنّ الكسب الناتج عن المقامرة لا يقوم على أساس عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار ، وإنّما يرتكز على أساس المخاطرة وحدها ، فالفائز يحصل على الرهان لأنّه غامر بماله وأقدم على دفع الرهان لخصمه ، إذا خسر الصفقة .

ويمكننا أن نضيف إلى إلغاء القمار إلغاءَ الشركة في الأبدان أيضاً ، فقد نصّ كثير من الفقهاء على بطلانها ، كالمحقّق الحلّي في الشرائع(٢) ، وابن حزم في المحلّى(٣) .

ويريدون بهذه الشركة أن يتّفق اثنان أو أكثر على ممارسة كلّ واحد منهم عمله الخاص ، والاشتراك فيما يحصلون عليه من مكاسب ، كما إذا قرّر طبيبان أن يمارس كلّ واحد منهما عمله في عيادته ، ويحصل في نهاية الشهر مثلاً على نصف مجموع الأجور التي كسبها الطبيبان معاً خلال ذلك الشهر .

وإلغاء هذه الشركة يتّفق مع الموقف السلبي العام للشريعة من عنصر المخاطرة ؛ لأنّ الكسب فيها يقوم على أساس المخاطرة لا العمل فالطبيبان في المثال المتقدّم إنّما يقدمان على هذا النوع من الشركة ، لأنّهما لا يعلمان سلفاً كمّية الأجور التي سوف يحصلان عليها فكلّ واحد منهما يحتمل أنّ أجور صاحبه سوف تزيد على أجوره كما يحتمل العكس ، ولهذا يقدّم على الشركة موطّناً نفسه على التنازل عن شيء من أجوره إذا زادت على أجور صاحبه في سبيل أن

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ١٦٤ ، الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به

(٢) شرائع الإسلام ٢ : ١٣٠ ، ١٣٤.

(٣) المحلّى ٦ : ٤١٢ .

٥٧٣

يحصل على شيء من أجور صاحبه في حالة تفوّق شريكه عليه ونتيجة لذلك يكون من حقّ الطبيب الأقل دخلاً أن يحصل على جزء من كسب الطبيب الآخر وثمار عمله ؛ لأنّه غامر في البدء وأقدم على دفع شيء من كسبه إذا اختلفت النتيجة وهذا يعني أنّ كسب الطبيب الأقلّ دخلاً ينبع من عنصر المخاطرة ، ولا يرتكز على عمل منفق ، فإلغاء الشريعة له وحكمها ببطلان شركة الأبدان تؤكّد مفهومها السلبي عن المخاطرة .

٢ ـ المبرّرات الرأسمالية للفائدة ونقدها :

مرّ بنا قبل لحظة أنّ المخاطرة التي يقف منها الإسلام موقفاً سلبياً ، هي أحد المبرّرات التي استندت إليها الرأسمالية لتفسير الفائدة وحقّ الرأسمالي في فرضها على المدين وعرفنا أيضاً أنّ تبرير الفائدة بعنصر المخاطرة خطأ من الأساس في نظر الإسلام ؛ لأنّه لا يعتبر المخاطرة أساساً مشروعاً للكسب ، وإنّما يربط الكسب بالعمل المباشر أو المختزن

والرأسمالية في تبريرها هذا للفائدة تتناسى دور الرهن في ضمان المال للدائن وإزالة عنصر الخاطرة من علمية القرض ، فما رأيها في القروض المدعمة برهن وضمانات كافية ؟

ولم يقتصر المفكّرون الرأسماليون على ربط الفائدة بعنصر المخاطرة وتفسيرها في هذا الضوء ، بل قدّموا لها عدّة تفسيرات لتبريرها من الناحية المذهبية .

فقد قال بعض المفكّرين الرأسماليين : إنّ الفائدة يدفعها المدين إلى الرأسمالي تعويضاً له عن حرمانه من الانتفاع بالمال المُسلَف ، ومكافأة له على انتظاره طيلة المدّة المتّفق عليها ، أو أجرة يتقاضاها الرأسمالي نظير انتفاع المدين بالمال الذي اقترضه منه ، كالأجرة التي يحصل عليها مالك الدار من المستأجر لقاء انتفاعه بسكناها .

ونحن ندرك في ضوء النظرية الإسلامية ـ كما حدّدناه ـ التناقض بين هذه المحاولة وطريقة التفكير الإسلامي في التوزيع ؛ لأنّنا عرفنا أنّ الإسلام لا يعترف بالكسب تحت اسم الأجر أو المكافأة إلاّ على أساس إنفاق عمل مباشر أو مختزن ، وليس للرأسمالي عمل مباشر أو مختزن ينفقه ويمتصّه المقترض ليدفع إليه أجرة ذلك ، مادام المال المقترض سوف يعود إلى الرأسمالي دون أن يتفتّت أو يستهلك منه شيء ، فلا مبرّر إسلامياً للاعتراف بالفائدة ؛ لأنّ الكسب بدون عمل منفق يتعارض مع تصوّرات الإسلام عن العدالة .

وهناك من يبرّر الفائدة بوصفها تعبيراً عن حقّ الرأسمالي في شيءٍ من الأرباح التي جناها المقترض عن طريق ما قدّم إليه من مال .

٥٧٤

وهذا القول لا موضع له في القروض التي ينفقها المدين على حاجاته الشخصية ، ولا يربح بسببها شيئاً ، وإنّما يبرهن على جواز حصول الرأسمالي على شيء من الأرباح حين يدفع المال إلى من يتّجر به ويستثمره وفي هذه الحالة يقرّ الإسلام حقّ الرأسمالي في ذلك ، ولكن هذا الحقّ يعني اشتراك صاحب المال والعامل في الأرباح ، وربط حقّ الرأسمالي بنتائج العملية وهو معنى المضاربة في الإسلام التي يتحمّل فيها الرأسمالي الخسارة وحدها ، ويشارك العامل في الأرباح ، إذا حصلت بنسبة مئوية يتّفقان عليها في العقد .

وهذا يختلف بصورة جوهرية عن الفائدة بمفهومها الرأسمالي التي تضمن له أجر منفصلاً عن نتائج العملية التجارية .

وجاءت الرأسمالية أخيراً على يد بعض رجالاتها بأقوى مبرّراتها للفائدة ، إذ فسّرتها بوصفها تعبيراً عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة سلع المستقبل ، اعتقاداً منها بأنّ للزمن دوراً إيجابياً في تكوين القيمة ، فالقيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل ، فإذا أقرضت غيرك ديناراً إلى سنة ، كان من حقّك في نهاية السنة أن تحصل على أكثر من دينار ، لتستردّ بذلك ما يساوي القيمة التبادلية للدينار الذي أقرضته ، وكلّما بعد ميعاد الوفاء ازدادت الفائدة التي يستحقّها الرأسمالي تبعاً لازدياد الفرق بين قيمة الحاضر وقيمة المستقبل ، بامتداد الفاصل الزمني بينها وابتعاده.

والفكرة في هذا التبرير الرأسمالي تقوم على أساس خاطئ ؛ وهو ربط توزيع ما بعد الإنتاج بنظرية القيمة ، فإنّ نظرية توزيع ما بعد الإنتاج في الإسلام منفصلة عن نظرية القيمة ولهذا رأينا أنّ كثيراً من العناصر التي تدخل في تكوين القيمة التبادلية للسلعة المنتجة ليس لها نصيب من تلك السلعة في التوزيع الإسلامي ، وإنّما لها أجور تتقاضاها من صاحب السلعة ، نظير خدماتها له في عملية الإنتاج.

فالتوزيع على الأفراد في الإسلام لا يرتكز على أساس القيمة التبادلية لكي يمنح كلّ عنصر من عناصر الإنتاج نصيباً من الناتج يتفق مع دوره في تكوين القيمة التبادلية ، وإنّما يرتبط توزيع الثروة المنتجة في الإسلام بمفاهيمه المذهبية وتصوّراته عن العدالة .

فلا يجب من وجهة نظر الإسلام أن يدفع إلى الرأسمالي فائدة على القرض حتى إذا صحّ أن سلع الحاضر أكبر قيمة من سلع المستقبل ؛ لأنّ هذا لا يكفي مذهبياً لتبرير الفائدة الرِّبوية التي تعبر عن الفارق بين القيمتين ، ما لم تنفق الفائدةٍ مع التصورات التي يتبنّاها المذهب عن العدالة .

٥٧٥

وقد عرفنا سابقاً أنّ الإسلام لا يقرّ من الناحية المذهبية كسباً لا يبرّره إنفاق عمل مباشر أو مختزن ، والفائدة من هذا القبيل ؛ لأنّها تبعاً للتفسير الرأسمالي الأخير نتيجة لعامل الزمن وحده دون عمل منفق فمن حقّ المذهب أن يمنع الرأسمالي عن استغلال الزمن في الحصول على كسب ربوي حتى لو اعترف المذهب بدور إيجابي لعامل الزمن في تكوين القيمة .

وهكذا نعرف أنّ ربط عدالة التوزيع والنظرية القيمة خطأ ، وهذا الخطأ يعبّر عن عدم التمييز بين البحث المذهبي والبحث العلمي .

٣ ـ التحديد من سيطرة المالك على الانتفاع :

في الإسلام تحديدات متعدّدة لسيطرة المالك على التصرّف في ماله ، وهذه التحديدات تختلف مصادرها النظرية ، فبعضها نابع عن نظرية توزيع ما قبل الإنتاج ، كالتحديد الزمني لسيطرة المالك على ماله بامتداد حياته ، ومنعه عن تقرير مصير الثروة التي يملكها بعد وفاته ، كما سبق في بحوث تلك النظرية .

وبعض تلك التحديدات نتيجة لنظرية توزيع ما بعد الإنتاج ، كالتحديد من سيطرة الرأسمالي على رأس المال الذي يملكه ، بمنعه من الاكتساب به على أساس ربوي ، وعدم السماح له بقروض الفائدة ، فإنّ هذا التحديد قد نشأ نتيجة لنظرية توزيع ما بعد الإنتاج ، التي اشتملت على ربط الكسب بالعمل المنفق ـ المباشر أو المختزن ـ كما رأينا قبل قليل .

وهناك تحديدات في الاقتصاد الإسلامي ترتبط بالمفهوم الديني والخُلُقي عن الملكية الخاصة ، فإنّ حقّ الفرد في التملّك ينظر إليه دينياً وخُلُقياً بوصفه نتيجة لعضوية الفرد في الجماعة التي أعدّ الله الطبيعة وثرواتها لها وفي خدمتها ، فلا يجوز أن تنتقض الملكية الخاصة على أساسها وتصبح عاملا من عوامل الإضرار بالجماعة وسوء حالها ؛ لأنّها بذلك تخرج عن وصفها مظهراً من مظاهر انتفاع الجماعة ، وحقّاً للفرد بوصفه عضواً في الجماعة التي أعدّت ثروات الكون لانتفاعها ، فمن الطبيعي على هذا الأساس أن تحدّد سيطرة المالك على التصرّف في ماله ، بعدم استغلالها فيما يضرّ الآخرين ويسيء إلى الجماعة .

٥٧٦

وعلى العكس من ذلك حقّ الملكية على أساس رأسمالي ، فإنّه لا ينظر إليه بوصفه مظهراً من مظاهر انتفاع الجماعة ، وإنّما يعبّر رأسمالياً عن حقّ الفرد في أكبر نصيب ممكن من الحرّية في جميع المجالات ، فمن الطبيعي أن لا يحدّد إلاّ بحرّية الآخرين ، فللفرد أن يستغلّ أمواله كيف يشاء ما لم يَسلب الآخرين حرّيتهم الشكلية(١) .

فإذا كنت تملك مثلاً مشروعاً ضخماً ، فبإمكانك على أساس المفهوم الرأسمالي عن الملكيّة الخاصة أن تتّبع في مشروعك مختلف الأساليب التي تتيح لك القضاء على المشاريع الصغيرة والقذف بها خارج نطاق السوق ، بشكل يؤدّي إلى دمارها وضرر أصحابها ؛ لأنّ ذلك لا يتعارض مع حرّيتهم الشكلية التي تحرص الرأسمالية على توفيرها للجميع(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) لتوضيح معنى الحرّية الشكلية والحرّية الحقيقية راجع صفحة ٣٠٩ من اقتصادنا الكتاب الأوّل . (المؤلّف قدّس سرّه)

(٢) تصرّف المالك في ماله بشكل يؤدّى إلى الإضرار بالآخرين على نوعين :

أحدهما : التصرّف الذي يضرّ شخصاً آخر ضرراً مالياً مباشراً ، بإنقاص شيء من أمواله كما إذا حفرت في أرض لك حفيرة تؤدّى إلى انهدام دار مجاورة لفرد آخر .

والآخر : التصرّف المضرّ بشكل غير مباشر الذي يؤدّي إلى سوء حال الآخرين دون أن ينقص فعلا شيئاً من أموالهم ، كالأساليب التي يتّبعها المشروع الرأسمالي الكبير في تدمير المشاريع الصغيرة ، فإنّ هذه الأساليب لا تفقد صاحب المشروع الصغير شيئاً من بضاعته التي يملكها فعلا ، وإنّما قد تضطرّه إلى تصريفها بأرخص الأثمان والانسحاب من الميدان والعجز عن مواصلة العمل .

أمّا النوع الأوّل فهو يندرج في القاعدة الإسلامية العامة ( لا ضرر ولا ضرار ) ، فيمنع المالك وفقاً لهذه القاعدة من ممارسة ذلك النوع التصرّف .

وأمّا النوع الثاني فاندراجه في تلك القاعدة العامة يرتبط بتحديد مفهوم القاعدة عن الضرر فإذا كان الضرر يعني النقص المباشر في المال أو النفس كما يرى كثير من الفقهاء ـ فلا يندرج هذا النوع في القاعدة ؛ لأنّه ليس إضراراً بهذا المعنى وإذا كان الضرر بمعنى سوء الحال كما جاء في كتب اللغة ، فهو مفهوم أوسع من النقص المالي المباشر ، ويمكن على هذا الأساس إدراج النوع الثاني في هذا المفهوم ، والقول بتحديد سلطة المالك على ماله ومنعه من ممارسة كلا النوعين المتقدّمين من التصرّفات المضرّة ؛ لأنّها جميعاً تؤدّي إلى سوء حال الآخرين ، ومردّ سوء الحال إلى النقص أيضاً كما أوضحناه في بحوثنا الأصولية ودللنا على شمول القاعدة له ( المؤلّفقدس‌سره ) راجع بحوث في علم الأصول ٥ : ٤٨٩ والعناوين ١ : ٣٠٨.

٥٧٧

وقد جاء المبدأ التشريعي الذي يحدّد إسلامياً تصرّفات المالك في ماله بعدم إضرار الآخرين ، في مجموعة من الروايات والأحاديث ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ جاء في عدّة روايات : أنّ سمرة بن جندب كان له عذق ، وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار ، فكان يجيىء ويدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري فقال الأنصاري : يا سمرة ، لا تزال تفجأنا على حال لا نحب أن تَفْجأنا عليه ، فإذا دخلت فاستأذن فقال : لا أستأذن في طريقٍ وهو طريقي إلى عذقي فشكاه الأنصاري إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل إليه رسول الله فأتاه ، فقال :إنّ فلاناً قد شكاك وزعم أنك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذن ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل . فقال : يا رسول الله ، استأذن في طريقي إلى عِذقي ؟! فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :خلّ عنه ولك مكانه عِذق في مكان كذا وكذا . فقال : لا فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك رجلٌ مضارٌّ ، ولا ضَرَرَ ولا ضِرار على مؤمن ، ثمّ أمر بها رسول الله فقلعت ورمى بها إليه(١) .

٢ ـ وعن الصادقعليه‌السلام :( أنّ رسول الله قضى بين أهل المدينة في مشارب النخل : أنّه لا يمنع نفع الشيء وقضى بين أهل البادية : أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، وقال : لا ضرر ولا ضِرار ) (٢) .

وروى الشافعي ، بسنده إلى أبي هريرة : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( من منع فضول الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة ) وعلّق على الحديث قائلاً : ( ففي هذا الحديث ما دلّ على أنّه ليس لأحدٍ أن يمنع فضل مائه ، وإنّما يمنع فضل رحمة الله بمعصية الله ، فلّما كان منع فضل الماء معصية لم يكن لأحدٍ منع فضل الماء )(٣) .

٣ ـ وعن الصادق (عليه السلام ) أيضاً أنّه سُئل عن جدار الرجل وهو ستره بينه وبين جاره سقط عنه فامتنع من بنائه قال :( ليس يجبر على ذلك ، إلاّ أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحقّ ، أو شرط في أصل الملك ، ولكن يقال

ـــــــــــــــ

(١) الفروع من الكافي ٥ : ٢٩٤ ، الحديث ٨ .

(٢) الفروع من الكافي ٥ : ٢٩٣ ، الحديث ٦ .

(٣) الأمّ ٤ : ٤٩ .

٥٧٨

لصاحب المنزل : اشتر على نفسك حقّك إن شئت ) قيل له : فإن كان الجدار لم يسقط ، ولكنّه هدمه أو أراد هدمه إضراراً بجاره بغير حاجة منه إلى هدمه ؟ قال :( لا يترك ؛ وذلك أنّ رسول الله قال : لا ضَرر ولا ضِرار ، وإن هدمه كلّفه أن يبنيه ) .(١)

٤ ـ وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة أنّه قال :عن رسول الله قضى أن : لا ضَرر ولا ضِرار . وقضى : أنّه ليس لعرق ظالم حقّ ، و قضى بين أهل المدينة في النخل : لا يمنع نفع بئر . و قضى بين أهل البادية : أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلأ (٢) .

ـــــــــــــــ

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب إحياء الموات ، الحديث الأوّل .

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٥ : ٣٢٧ .

٥٧٩

الكتاب الثاني ٤

نظرية الإنتاج

صلة المذهب بالإنتاج

تنمية الإنتاج

لماذا ننتج

الصلة بين الإنتاج والتوزيع .

الصلة بين الإنتاج والتداول .

لمن ننتج ؟

٥٨٠