اقتصادنا

اقتصادنا7%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152628 / تحميل: 9465
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

قوله تعالى: ( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) قيد للتكذيب، و فسّروا اليقين بالموت لكونه ممّا لا شكّ فيه فالمعنى و كنّا في الدنيا نكذّب بيوم الجزاء حتّى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنّا نكذّب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقّيّة يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخيّة حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) تقدّم في بحث الشفاعة أنّ في الآية دلالة على أنّ هناك شافعين يشفعون فيشفّعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنّهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٨١

( سورة المدّثّر الآيات 49 - 56)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( 52 ) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

( بيان‏)

في معنى الاستنتاج ممّا تقدّم من الوعيد و الوعد اُورد في صورة التعجّب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفّرهم عن الحقّ الصريح كأنّه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحقّ و يتذكّروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلّا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كلّ امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلّا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثمّ يعرض عليهم التذكرة عرضاً فهم على خيرة من القبول و الردّ فإن شاؤا قبلوا و إن شاؤا ردّوا، لكن عليهم أن يعلموا أنّهم غير مستقلّين في مشيّتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلّا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتّة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) تفريع على ما تقدّم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و( لَهُمْ ) متعلّق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و( مُعْرِضِينَ ) حال من ضمير( لَهُمْ ) و( عَنِ التَّذْكِرَةِ ) متعلّق بمعرضين.

١٨٢

و المعنى: فإذا كان كذلك فأيّ شي‏ء كان - عرض - للمشركين الّذين يكذّبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدّقوا و يؤمنوا لكنّهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشيّة و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسّر بكلّ من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنّهم حمر وحشيّة نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) المراد بالصحف المنشّرة الكتاب السماويّ المشتمل على الدعوة الحقّة.

و في الكلام إضراب عمّا ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرّد النفرة بل يريد كلّ امرئ منهم أن ينزّل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنّهم إنّما يقبلون دعوته و لا يردّونها لو دعا كلّ واحد منهم بإنزال كتاب سماويّ إليه مستقلّاً و أمّا الدعوة من طريق الرّسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقّة مؤيّدة بالآيات البيّنة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) الأنعام: 124، و في معنى قول الاُمم لرسلهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) على ما قرّرنا من حجّتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إنّ الآية في معنى قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي حكاه الله في قوله:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: 93.

و يدفعه أنّ مدلول الآية أن ينزل على كلّ واحد منهم صحف منشّرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

١٨٣

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماويّ على كلّ واحد منهم فإنّ دعوة الرسالة مؤيّدة بآيات بيّنة و حجج قاطعة لا تدع ريباً لمرتاب فالحجّة تامّة قائمة على الرسول و غيره على حدّ سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كلّ واحد من الناس المدعوّين صحفاً منشّرة.

على أنّ الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحيّة النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و قوله:( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) إضراب عن قوله:( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و المراد أنّ اقتراحهم نزول كتاب على كلّ امرئ منهم قول ظاهريّ منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقيّ لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنّهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجّة بظهور الآيات البيّنات.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماويّ لكلّ امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتاباً كذلك إنّ القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعدّ للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أي فمن شاء اتّعظ به فإنّما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) دفع لما يمكن أن يتوهّموه من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أنّ الأمر إليهم و أنّهم

١٨٤

مستقلّون في إرادتهم و ما يترتّب عليها من أفعالهم فإن لم يشاؤا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصّل من الدفع أنّ حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكّرهم إن تذكّروا و إن كان فعلاً اختياريّاً صادراً عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشيّة الإلهيّة متعلّقة به بما هو اختياريّ بمعنى أنّ الله تعالى يريد بإرادة تكوينيّة أن يفعل الإنسان الفعل الفلانيّ بإرادته و اختياره فالفعل اختياريّ ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلّق الإرادة الإلهيّة ضروريّ التحقّق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقّق.

و قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل لأن يتّقى منه لأنّ له الولاية المطلقة على كلّ شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتّقاه لأنّه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) صالحة لتعليل ما تقدّم من الدعوة في قوله:( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) و هو ظاهر، و لتعليل قوله:( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلّين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمرّدهم و استكبارهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) و ذلك أنّهم قالوا: يا محمّد قد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفّارته.

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: يسألك قومك سنّة بني إسرائيل

١٨٥

في الذنوب فإن شاؤا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنّا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره ذلك لقومه.

أقول: و القصّة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدّيّ عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمّد صادقاً فليصبح تحت رأس كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصّة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: إلى فلان بن فلان من ربّ العالمين يصبح عند رأس كلّ رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدّمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: قد قال قائلون من الناس لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سرّك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصّة يأمرنا باتّباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأنّ الآية في معنى قوله تعالى:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) الآية و قد تقدّم ما فيه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: هو أهل أن يتّقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال الله عزّوجلّ: أنا أهل أن اُتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئاً و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئاً أن اُدخله الجنّة.

١٨٦

و قال: إنّ الله تبارك و تعالى أقسم بعزّته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن دينار قال: سمعت أباهريرة و ابن عمر و ابن عبّاس يقولون: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: يقول الله: أنا أهل أن اُتّقى فلا يُجعل معي شريك فإذا اتّقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٧

( سورة القيامة مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة القيامة الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لَا وَزَرَ ( 11 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

( بيان‏)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أوّلاً ثمّ تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان اُخرى، و ينبئ أنّ المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون( لا أُقْسِمُ ) كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنّه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد اُقسم بيوم

١٨٨

القيامة و لا اُقسم بالنفس اللوّامة.

و المراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانيّة أعمّ من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنّها تلوم الإنسان يوم القيامة أمّا الكافرة فإنّها تلومه على كفره و فجوره، و أمّا المؤمنة فإنّها تلومه على قلّة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الّتي تلومه يوم القيامة على ما قدّمت من كفر و معصية قال تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) يونس: 54.

و لكلّ من الأقوال وجه.

و جواب القسم محذوف يدلّ عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثنّ، و إنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: 187 و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه: 15 و قال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) النبأ: 1.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) الحسبان الظنّ، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) أي بلى نجمعها( و قادِرِينَ ) حال من فاعل مدخول بلى المقدّر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورها الّتي هي عليها بحسب خلقنا الأوّل.

و تخصيص البنان بالذكر - لعلّه - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيّات التركيب و العدد تترتّب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة الّتي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافاً إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط الّتي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ.

١٨٩

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئاً واحداً من غير تفريق كخفّ البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئاً واحداً فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدّد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدّم أرجح.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال الراغب: الفجر شقّ الشي‏ء شقّاً واسعاً. قال: و الفجور شقّ ستر الديانة يقال: فجر فجوراً فهو فاجر و جمعه فجّار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيّاً، و ضمير( أَمامَهُ ) للإنسان.

و قوله:( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) تعليل سادّ مسدّ معلّله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و( بَلْ ) إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

و المعنى: أنّه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذّب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه اُخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرّر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرّات.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) الظاهر أنّه بيان لقوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فيفيد التعليل و أنّ السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و اُنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البيّنة و قيام الحجج القاطعة أن يتّخذ حذره و يتجهّز بالإيمان و التقوى و يتهيّأ للقاء اليوم قريباً كان أو بعيداً فكلّ ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيّان يوم القيامة؟ فليس إلّا سؤال مكذّب مستهزئ.

قوله تعالى: ( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) ذكر

١٩٠

جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيّره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي أين موضع الفرار، و قوله:( أَيْنَ الْمَفَرُّ ) مع ظهور السلطنة الإلهيّة له و علمه بأن لا مفرّ و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفرّ إذا وقع في شدّة أو هدّدته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذباً قال تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23، و قال:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: 18.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا وَزَرَ ) ردع عن طلبهم المفرّ، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ‏ ) و هو متعلّق بقوله:( الْمُسْتَقَرُّ ) يفيد الحصر فلا مستقرّ إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

و ذلك أنّ الإنسان سائر إليه تعالى كما قال:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: 8 و قال:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فهو ملاقي ربّه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أمّا الحجاب الّذي يشير إليه قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15 فسياق الآيتين يعطي أنّ المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقرّه إليه رجوع أمر ما يستقرّ فيه من سعادة أو شقاوة و جنّة أو نار إلى مشيّته تعالى فمن شاء جعله في الجنّة و هم المتّقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) المائدة: 40.

١٩١

و يمكن أن يراد به أنّ استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88.

قوله تعالى: ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ) المراد بما قدّم و أخّر ما عمله من حسنة أو سيّئة في أوّل عمره و آخره أو ما قدّمه على موته من حسنة أو سيّئة و ما أخّر من سنّة حسنة سنّها أو سنّة سيّئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيّئات.

و قيل: المراد بما قدّم ما عمله من حسنة أو سيّئة فيثاب على الأوّل و يعاقب على الثاني، و بما أخّر ما تركه من حسنة أو سيّئة فيعاقب على الأوّل و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدّم من المعاصي و ما أخّر من الطاعات، و قيل، ما قدّم من طاعة الله و أخّر من حقّه فضيّعه، و قيل: ما قدّم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) إضراب عن قوله،( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ‏ ) إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطنيّ و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجّة كما في قوله تعالى،( ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) إسراء: 102 و الإنسان نفسه حجّة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلّم يداه و رجلاه، قال تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36، و قال( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) حم السجدة: 20. و قال،( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65.

و قوله:( وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

١٩٢

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال: نفس آدم الّتي عصت فلامها الله عزّوجلّ.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه، في قوله:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، في قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إنّي لأتعشّى مع أبي عبداللهعليه‌السلام و تلا هذه الآية( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) ، ثمّ قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداها إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً و يستر سيّئاً؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.

أقول: و رواه في اُصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العبّاس عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن العيّاشيّ عن زرارة قال، سألت أباعبداللهعليه‌السلام ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال،( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) هو أعلم بما يطيق.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضاً.

١٩٣

( سورة القيامة الآيات 16 - 40)

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 ) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ( 33 ) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 35 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 39 ) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ( 40 )

( بيان‏)

تتمّة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و اُخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أنّ هذا

١٩٤

المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثمّ الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يترك سدىً فالّذي خلقه أوّلاً قادر على أن يحييه ثانياً و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ - إلى قوله -ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمّن أدباً إلهيّاً كلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرّك به لسانه و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرّد للإنصات فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) الخطاب فيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الضميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مرّ في معنى قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) القرآن ههنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتّبع

١٩٥

قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهناً بالإنصات و التوجّه التامّ إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتّبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتكرار حتّى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثمّ للتأخير الرتبيّ لأنّ البيان مترتّب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثمّ إنّ علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغيّر و الزوال حتّى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرّك لسانه عند الوحي بما اُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و اُمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي فضمير( لا تُحَرِّكْ بِهِ‏ ) للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله،( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد

١٩٦

لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثمّ إنّ علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بِهِ) ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ( لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) أي بالعلم به( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخّصاً و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) إنّ هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الروايات أنّ للقرآن نزولاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأنّ خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) اعتراضيّ غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله:( كَلَّا ) ردع عن قوله السابق:( يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) و قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا -( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها

١٩٧

حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله:( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهلّلة ظاهرة المسرّة و البشاشة قال تعالى:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، و قال:( وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الدهر: 11.

و قوله:( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و( إِلى‏ رَبِّها ) متعلّق بناظرة قدّم عليها لإفادة الحصر أو الأهمّيّة.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّيّ المتعلّق بالعين الجسمانيّة المادّيّة الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقّه تعالى بل المراد النظر القلبيّ و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمةعليهم‌السلام و قد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: 143، و قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجّهة إلى ربّهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطّع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفاً من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلّا و الرحمة الإلهيّة شاملة لهم( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) النمل: 89 و لا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنّة و لا يتنعّمون بشي‏ء من نعيمها إلّا و هم يشاهدون ربّهم به لأنّهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئاً إلّا من حيث إنّه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنّها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اُورد على القول بأنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) على( ناظِرَةٌ ) يفيد الحصر و الاختصاص، أنّ من الضروريّ أنّهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنّة.

و الجواب أنّهم لمّا لم يحجبوا عن ربّهم كان نظرهم إلى كلّ ما ينظرون إليه إنّما هو بما أنّه آية، و الآية بما أنّها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين

١٩٨

الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلّا إلى ربّهم.

و أمّا ما اُجيب به عنه أنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) لرعاية الفواصل و لو سلّم أنّه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعدّ نظراً، و لو سلّم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلّف التقييد من غير مقيّد على أنّه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنّة إلى ربّهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فسّر البسور بشدّة العبوس و الظنّ بالعلم و( فاقِرَةٌ ) صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنّه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم اُنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظنّ خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع و الظنّ بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ردع عن حبّهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنّه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربّكم و فاعل( بَلَغَتِ ) محذوف يدلّ عليه السياق كما في قوله تعالى:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه

١٩٩

الأحوال أنّه مفارقته للعاجلة الّتي كان يحبّها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ظاهره أنّ المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدّة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدّة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدّة هول المطّلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد اُخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كلّ من المعاني.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنّه الرجوع إليه، و عبّر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسيّر من يوم موته و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) حتّى يرد على ربّه يوم القيامة و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و لو كان تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربّك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربّك و هو الجنّة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنّه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) إلخ، و المراد بالتصديق المنفيّ تصديق الدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفيّة التوجّه العباديّ إليه تعالى بالصلاة الّتي هي عمود الدين.

و التمطّي - على ما في المجمع - تمدّد البدن من الكسل و أصله أن يلوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

و لعلّ تقديم الجنّ على الإنس لسبق خلقهم على خلق الإنس قال تعالى:( وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ ) الحجر: 27، و العبادة هي غرض الفعل أي كمال عائد إليه لا إلى الفاعل على ما تقدّم.

و يظهر من القصر في الآية بالنفي و الاستثناء أن لا عناية لله بمن لا يعبده كما يفيده أيضاً قوله:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) .

قوله تعالى: ( ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ) الإطعام إعطاء الطعام ليطعم و يؤكل قال تعالى:( وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ ) الشعراء: 79، و قال:( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ) الإيلاف: 4، فيكون ذكر الإطعام بعد الرزق من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ لتعلّق عناية خاصّة به و هي أنّ التغذّي أوسع حوائج الإنسان و غيره و أخّسها لكونه مسبوقاً بالجوع و ملحوقاً بالدفع.

و قيل: المراد بالرزق رزق العباد و المعنى: ما اُريد منهم أن يرزقوا عبادي الّذين أرزقهم و ما اُريد أن يطعموني نفسي.

و قيل: المراد بالإطعام تقديم الطعام إليه كما يقدّم العبد الطعام إلى سيّده و الخادم إلى مخدومه فيكون المراد بالرزق تحصيل أصل الرزق و بالإطعام تقديم ما حصّلوه و المعنى: ما اُريد منهم رزقاً يحصّلونه لي فأرتزق به و ما اُريد منهم أن يقدّموا إلىّ ما ارتزق به و أطعمه.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) تعليل لقوله:( ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ) إلخ، و الالتفات في الآية من التكلّم وحده إلى الغيبة لإنهاء التعليل إلى اسم الجلالة الّذي منه يبتدئ كلّ شي‏ء و إليه يرجع كأنّه قال: ما اُريد منهم رزقاً لأنّي أنا الرزّاق لأنّي أنا الله تبارك اسمه.

و التعبير بالرزّاق - اسم مبالغة - و كان الظاهر أن يقال: إنّ الله هو الرزاق للإشارة إلى أنّه تعالى إذا كان رازقاً وحده كان رزاقاً لكثرة من يرزقه فالآية نظير قوله:( وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

و ذو القوّة من أسمائه تعالى بمعنى القويّ لكنّه أبلغ من القويّ، و المتين أيضاً

٤٢١

من أسمائه تعالى بمعنى القويّ.

و التعبير بالأسماء الثلاثة للدلالة على انحصار الرزق فيه تعالى و أنّه لا يأخذه ضعف في إيصال الرزق إلى المرتزقين على كثرتهم.

قوله تعالى: ( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ) الذنوب النصيب، و الاستعجال طلب العجلة و الحثّ عليها، و الآية متفرّعة على قوله:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) بلازم معناه.

و المعنى: فإذا كان هؤلاء الظالمون لا يعبدون الله و لا عناية له بهم و لا سعادة من قبله تشملهم فإنّ لهم نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم من الاُمم الماضية الهالكة فلا يطلبوا منّي أن اُعجّل لهم العذاب و لا يقولوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، و أيّان يوم الدين.

و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلّم وحده و هو في الحقيقة رجوع من سياق الغيبة الّذي في قوله:( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ) إلخ، إلى التكلّم وحده الّذي في قوله:( وَ ما خَلَقْتُ ) إلخ، لتفرّع الكلام عليه.

قوله تعالى: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) تفريع على قوله:( فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً ) إلخ، و تنبيه على أنّ هذا الذنوب محقّق لهم يوم القيامة و إن أمكن أن يعجّل لهم بعضه، و هو يوم ليس لهم فيه إلّا الويل و الهلاك و هو يومهم الموعود.

و في تبديل قوله في الآية السابقة( لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) من قوله في هذه الآية:( لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) تنبيه على أنّ المراد بالظلم ظلم الكفر.

( بحث روائي‏)

في المجمع، و روي بالإسناد عن مجاهد قال: خرج عليّ بن أبي طالب معتمّاً مشتملاً في قميصة فقال: لمّا نزلت( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ ) لم يبق أحد منّا إلّا أيقن بالهلكة حين قيل للنبيّ:( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) فلمّا نزل( وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى‏ تَنْفَعُ

٤٢٢

الْمُؤْمِنِينَ ) طابت نفوسنا، و معناه: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإنّ الذكرى تنفعهم. عن الكلبي.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، و روي أيضاً ما في معناه عن ابن راهويه و ابن مردويه عنهعليه‌السلام .

و في التوحيد، بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام : ما معنى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له؟ فقال: إنّ الله عزّوجلّ خلق الجنّ و الإنس ليعبدوه و لم يخلقهم ليعصوه و ذلك قوله عزّوجلّ:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) فيسّر كلّا لما خلق له فويل لمن استحبّ العمى على الهدى.

و في العلل، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام قال: خرج الحسين بن عليّعليه‌السلام على أصحابه فقال: إنّ الله عزّوجلّ ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه.

و فيه، بإسناده إلى أبي بصير قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة.

أقول: و روى القمّيّ في تفسيره مثله مرسلاً و مضمراً، و قد مرّ في تفسير الآية ما يتّضح به معنى هذه الروايات، و أنّ هناك أغراضاً مترتّبة: التكليف و العبادة و المعرفة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) قال: خلقهم للعبادة. قال: قلت: قوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) فقال: نزلت هذه بعد ذلك.

أقول: أي نزلت( وَ لا يَزالُونَ ) إلخ، بعد( وَ ما خَلَقْتُ ) إلخ، يريد النسخ، و في تفسير القمّيّ: و في حديث آخر هي منسوخة بقوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) و المراد بالنسخ البيان و رفع الإبهام دون النسخ المصطلح، و كثيراً ما ورد بهذا المعنى في كلامهم

٤٢٣

عليهم‌السلام كما أشرنا إليه في تفسير قوله تعالى:( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ) الآية البقرة: 106.

و المراد أنّ الغرض الأعلى هو الرحمة الخاصّة المترتّبة على العبادة و هي السعادة الخاصّة بالمعرفة..

و في التهذيب، بإسناده إلى سدير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : أيّ شي‏ء على الرجل في طلب الرزق؟ فقال: إذا فتحت بابك و بسطت بساطك فقد قضيت ما عليك.

تم و الحمد لله

٤٢٤

الفهرس

( سورة الشورى مكّيّة و هي ثلاث و خمسون آية )   2

( سورة الشورى الآيات 1 - 6 ). 2

( بيان‏ ). 2

( بحث روائي‏ ). 10

( سورة الشورى الآيات 7 - 12 ). 15

( بيان‏ ). 15

( سورة الشورى الآيات 13 - 16 ). 26

( بيان‏ ). 26

( بحث روائي‏ ). 35

( سورة الشورى الآيات 17 - 26 ). 37

( بيان‏ ). 38

( بحث روائي‏ ). 52

( سورة الشورى الآيات 27 - 50 ). 55

( بيان‏ ). 57

( بحث روائي‏ ). 71

( سورة الشورى الآيات 51 - 53 ). 75

( بيان‏ ). 75

( بحث روائي‏ ). 82

( سورة الزخرف مكّيّة و هي تسع و ثمانون آية )   85

( سورة الزخرف الآيات 1 - 14 ). 85

( بيان‏ ). 85

( سورة الزخرف الآيات 15 - 25 ). 92

( بيان‏ ). 92

٤٢٥

( سورة الزخرف الآيات 26 - 45 ). 98

( بيان‏ ). 99

( بحث روائي‏ ). 110

( سورة الزخرف الآيات 46 - 56 ). 114

( بيان‏ ). 114

( بحث روائي‏ ). 118

( سورة الزخرف الآيات 57 - 65 ). 119

( بيان‏ ). 119

( سورة الزخرف الآيات 66 - 78 ). 127

( بيان‏ ). 127

( سورة الزخرف الآيات 79 - 89 ). 132

( بيان‏ ). 132

( بحث روائي‏ ). 136

( سورة الدخان مكّيّة و هي تسع و خمسون آية )   137

( سورة الدخان الآيات 1 - 8 ). 137

( بيان‏ ). 137

( بحث روائي‏ ). 142

( سورة الدخان الآيات 9 - 33 ). 144

( بيان‏ ). 145

( بحث روائي‏ ). 151

( سورة الدخان الآيات 34 - 59 ). 153

( بيان‏ ). 154

( بحث روائي‏ ). 162

( سورة الجاثية مكّيّة و هي سبع و ثلاثون آية )   164

( سورة الجاثية الآيات 1 - 13 ). 164

( بيان‏ ). 165

٤٢٦

( سورة الجاثية الآيات 14 - 19 ). 175

( بيان‏ ). 175

( سورة الجاثية الآيات 20 - 37 ). 181

( بيان‏ ). 182

( بحث روائي‏ ). 196

( سورة الأحقاف مكّيّة و هي خمس و ثلاثون آية )   199

( سورة الأحقاف الآيات 1 - 14 ). 199

( بيان‏ ). 200

( بحث فلسفي و دفع شبهة ). 207

( بحث روائي‏ ). 212

( سورة الأحقاف الآيات 15 - 20 ). 216

( بيان‏ ). 217

( بحث روائي‏ ). 224

( سورة الأحقاف الآيات 21 - 28 ). 227

( بيان‏ ). 227

( سورة الأحقاف الآيات 29 - 35 ). 233

( بيان‏ ). 233

( بحث روائي‏ ). 238

( سورة محمّد مدنيّة و هي ثمان و ثلاثون آية )   240

( سورة محمّد الآيات 1 - 6 ). 240

( بيان‏ ). 240

( بحث روائي‏ ). 245

( سورة محمّد الآيات 7 - 15 ). 247

( بيان‏ ). 248

( بحث روائي‏ ). 253

٤٢٧

( سورة محمّد الآيات 16 - 32 ). 254

( بيان‏ ). 255

( بحث روائي‏ ). 265

( سورة محمّد الآيات 33 - 38 ). 268

( بيان‏ ). 268

( بحث روائي‏ ). 272

( سورة الفتح مدنيّة و هي تسع و عشرون آية )   273

( سورة الفتح الآيات 1 - 7 ). 273

( بيان‏ ). 273

( كلام في الإيمان و ازدياده‏ ). 281

( بحث روائي‏ ). 287

( سورة الفتح الآيات 8 - 10 ). 297

( بيان‏ ). 297

( بحث روائي‏ ). 300

( سورة الفتح الآيات 11 - 17 ). 301

( بيان‏ ). 302

( سورة الفتح الآيات 18 - 28 ). 308

( بيان‏ ). 309

( بحث روائي‏ ). 318

( سورة الفتح آية 29 ). 326

( بيان‏ ). 326

( سورة الحجرات مدنيّة و هي ثمان عشرة آية )   331

( سورة الحجرات الآيات 1 - 10 ). 331

( بيان‏ ). 332

( كلام في معنى الاُخوّة ). 343

( بحث روائي‏ ). 345

٤٢٨

( سورة الحجرات الآيات 11 - 18 ). 349

( بيان‏ ). 350

( بحث روائي‏ ). 360

( سورة ق مكّيّة و هي خمس و أربعون آية )   365

( سورة ق الآيات 1 - 14 ). 365

( بيان‏ ). 365

( بحث روائي‏ ). 371

( سورة ق الآيات 15 - 38 ). 373

( بيان‏ ). 374

( بحث روائي‏ ). 387

( سورة ق الآيات 39 - 45 ). 390

( بيان‏ ). 390

( بحث روائي‏ ). 392

( سورة الذاريات مكّيّة و هي ستّون آية ). 394

( سورة الذاريات الآيات 1 - 19 ). 394

( بيان‏ ). 394

( بحث روائي‏ ). 401

( سورة الذاريات الآيات 20 - 51 ). 403

( بيان‏ ). 404

( كلام في تكافؤ الرزق و المرزوق ). 408

( بحث روائي‏ ). 415

( سورة الذاريات الآيات 52 - 60 ). 417

( بيان‏ ). 417

( بحث روائي‏ ). 422

٤٢٩

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

صِلة المذهب بالإنتاج

عملية الإنتاج لها جانبان :

أحدهما : الجانب الموضوعي المتمثّل في الوسيلة التي تستخدم ، والطبيعة التي تمارس ، والعمل الذي ينفق خلال الإنتاج .

والآخر : الجانب الذاتي الذي يتمثّل في الدافع النفسي ، والغاية التي تستهدف من تلك العملية ، وتقييم العملية تبعاً للتصوّرات المتبنّاة عن العدالة .

والجانب الموضوعي من العملية هو الموضوع الذي يدرسه علم الاقتصاد بمفرده ، أو بالمساهمة مع العلوم الطبيعية ؛ لاكتشاف القوانين العامة التي تسيطر على الوسيلة وتطبيعه لكي يتاح للإنسان التحكّم في تلك القوانين بعد اكتشافها ، وتنظيم الجانب الموضوعي لعملية الإنتاج تنظيماً أفضل وأكثر نجاحاً .

فعلم الاقتصاد يكشف مثلاً عنقانون الغلّة المتناقضة في الزراعة ، القائل : إنّ زيادة وحدات إضافية من العمل ورأس المال بنسبة معيّنة ، تقابلها زيادة في النتائج بنسبة أقل ، ويستمر هذا التفاوت بين نسبة زيادة الوحدات ونسبة زيادة النتائج ، وبالتالي تستمر زيادة الغلّة في التناقض حتى تتعادل زيادة الغلّة مع نسبة زيادة وحدات العمل ورأس المال ، وحينذاك لا تكون ثمّة مصلحة للزارع في أن يزيد في الإنفاق على الأرض من جديد وهذا القانون يلقي ضوءاً على العملية

٥٨١

وباكتشاف المنتج له يستطيع أن يتفادى التبذير بالعمل ورأس المال ، ويحدّد عناصر الإنتاج تحديداً يكفل له أكبر قدر ممكن من الناتج .

ونظير هذا القانون الحقيقة القائلة : إنّ تقسيم العمل يؤدّي إلى تحسين الإنتاج ووفرته فإنّها حقيقة موضوعية من حقّ العلم الكشف عنها ، ووضعها في خدمة المنتجين للاستفادة منها في تحسين الإنتاج وتنميته .

فوظيفة علم الاقتصاد التي يؤدّيها إلى الإنتاج هي اكتشاف تلك القوانين التي يتاح للمنتج عن طريق معرفتها تنظيم الجانب الموضوعي لعملية الإنتاج بالشكل الذي يؤدّي إلى نتيجة أضخم ، وإنتاج أوفر وأجود .

وفي هذا المجال ليس للمذهب الاقتصادي ـ مهما كان نوعه ـ أيّ دور إيجابي ؛ لأنّ الكشف عن القوانين العامة والعلائق الموضوعية بين الظواهر الكونية أو الاجتماعية من وظيفة العلم ، ولا يدخل في صلاحيات المذهب إطلاقاً ولهذا كان لمجتمعات مختلفة في مذاهبها الاقتصادية ، أن تلتقي على الصعيد العلمي وتتّفق على استخدام معطيات علم الاقتصاد وسائر العلوم والاسترشاد بها في مجالات الإنتاج .

وإنّما يظهر الدور الايجابي للمذهب في الجانب الذاتي من عملية الإنتاج ، ففي هذا الجانب ينعكس التناقض المذهبي بين المجتمعات التي تختلف في مذاهبها الاقتصادية فلكلّ مجتمع وجهة نظره الخاص إلى عملية الإنتاج ، وتقييمه لتلك العملية على أساس تصوّراته العامة ، وطريقته المذهبية في تحديد الدوافع وإعطاء المُثل العليا للحياة .

فلماذا ننتج ؟ وإلى أيّ مدى ؟ وما هي الغايات التي يجب أن تستهدف من وراء الإنتاج ؟ وما هو نوع السلعة المنتجة ؟ وهل هناك قوّة مركزية تشرف على الإنتاج وتخطيطه ؟ هذه الأسئلة التي يجيب عليها المذهب الاقتصادي .

٥٨٢

تنمية الإنتاج

قد تكون النقطة الوحيدة التي تتّفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي ، هي تنمية الإنتاج والاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حدٍّ ضمن الإطار العام للمذهب.

فكلّ هذه المذاهب تجمع على أهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه بجميع الأساليب والطرق التي تنسجم مع الإطار العام للمذهب ، كما أنّها ترفض ما لا يتّفق مع إطارها المذهبي ، نتيجة للترابط العضوي في المذهب الواحد فإنّ مبدأ تنمية الإنتاج والاستمتاع بالطبيعة إلى أقصى حدٍّ هو جزء من كلّ ، فيتفاعل في كلّ مذهب مع بقية الأجزاء ويتكيّف وفقاً لموقعه من المركّب وعلاقاته مع سائر الأجزاء فالرأسمالية ترفض مثلاً من الأساليب في تنمية الإنتاج وزيادة الثروة ما يتعارض مع مبدأ الحرّية الاقتصادية ، والإسلام يرفض من تلك الأساليب ما لا يتّفق مع نظرياته في التوزيع ومُثُله في العدالة ، وأمّا الماركسية فهي تؤمن بأنّ المذهب لا يتعارض مع تنمية الإنتاج ، بل يسير معها في خط واحد تبعاً لنظرتها عن الترابط الحتمي بين علاقات الإنتاج وشكل التوزيع كما سيأتي .

وعلى أيّ حال ، فسوف ننطلق في دراسة النظرية الإسلامية للإنتاج من مبدأ تنمية الإنتاج الذي آمن به الإسلام وفرض على المجتمع الإسلامي السير

٥٨٣

وفقاً له ، وجعل تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة إلى أقصى حدٍّ ممكن مذهبياً هدفاً للمجتمع يضع في ضوئه سياسته الاقتصادية ، التي يحدّدها الإطار المذهبي العام من ناحية ، والظروف والشروط الموضوعية للمجتمع من ناحية أخرى وتمارس الدولة تنفيذها ضمن تلك الحدود .

ومبدأ تنمية الإنتاج هذا يمكّننا أنّ نلمحه بوضوح من خلال التطبيق في عهد الدولة الإسلامية ، وفي التعليمات الإسلامية الرسمية التي لا يزال التأريخ يحتفظ بشيء منها حتى الآن .

فمن تلك التعليمات البرنامج الذي وضعه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام لواليه على مصر ، محمّد بن أبي بكر ، وأمره بالسير عليه وتطبيقه ففي أمالي الشيخ الطوسي أنّ أمير المؤمنين لمّا ولّى محمّد ابن أبي بكر مصر ، كتب له كتاباً وأمره أن يقرأه على أهل مصر ، وأن يعمل بما احتواه وقد كتب الإمام في هذا الكتاب يقول :

( يا عباد الله ، إنّ المتّقين حازوا عاجل الخير وآجله ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم ، قال الله عزّ وجلّ : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (١) سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت ، وأكلوها بأفضل ما أُكلت ، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون ، وشربوا من طيّبات ما يشربون ، ولبسوا من أفضل ما يلبسون ، وسكنوا من أفضل ما يسكنون ، وركبوا من أفضل ما يركبون ، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا ، وهم غداً جيران الله

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : ٣٢ .

٥٨٤

يتمنّون عليه فيعطيهم ما يتمنّون ، لا تردّ لهم دعوة ، ولا ينقص لهم نصيب من اللذّة ، فإلى هذا ـ يا عباد الله ـ يشتاق من كان له عقل ، ويعمل له بتقوى الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ) (١) .

وهذا الكتاب التأريخي الرائع ، لم يكن قصّة يتحدّث فيها الإمام عن واقع المتّقين على وجه الأرض ، أو واقعهم في التأريخ ، وإنّما كان يستهدف التعبير عن نظرية المتّقين في الحياة ، والمثل الذي يجب أن يحقّقه مجتمع المتّقين على هذه الأرض ، ولذا أمر بتطبيق ما في الكتاب ، ورسم سياسته في ضوء ما جاء فيه من وصايا وتعليمات ، فالكتاب إذن واضح كلّ الوضوح في أنّ اليُسر المادّي الذي يحقّقه نمو الإنتاج واستثمار الطبيعة إلى أقصى حدٍّ ، هدف يسعى إليه مجتمع المتّقين ، وتفرضه النظرية التي يتبنّاها هذا المجتمع ويسير على ضوئها في الحياة .

والهدف في نفس الوقت مغلف بالإطار المذهبي ، ومحدّد بحدود المذهب كما يقرّره القرآن الكريم :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (٢) .

فالنهي عن الاعتداء في مجال الانتفاع بالطبيعة واستثمارها تعبير بالطريقة القرآنية عن ذلك الإطار المذهبي العام .

وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج

والإسلام حين تبنّى هذا المبدأ ووضع تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة هدفاً للمجتمع الإسلامي ، جنّد كلّ إمكاناته المذهبية لتحقيق هذا الهدف وإيجاد

ـــــــــــــــ

(١) الأمالي للشيخ الطوسي ١ : ٢٦ ـ ٢٧ .

(٢) سورة المائدة : ٨٧ .

٥٨٥

المقوّمات والوسائل التي يتوقّف عليها .

ووسائل تحقيق هذا الهدف على نوعين :

فهناك وسائل مذهبية ، من وظيفة المذهب الاجتماعي إيجادها وضمانها ، وهناك وسائل تطبيقية بحتة تمارسها الدولة التي تتبنّى ذلك المذهب الاجتماعي برسم سياسة عملية تواكب الاتجاه المذهبي العام .

وقد وفّر الإسلام الوسائل التي تدخل في نطاقه بوصفه مذهباً اجتماعياً ومركّباً حضارياً شاملاً .

أ- وسائل الإسلام من الناحية الفكرية :

فمن الناحية الفكرية ، حثّ الإسلام على العمل والإنتاج وقيّمه بقيمة كبيرة ، وربط به كرامة الإنسان وشأنه عند الله وحتى عقله وبذلك خلق الأرضية البشرية الصالحة لدفع الإنتاج وتنمية الثروة ، وأعطى مقاييس خُلقية وتقديرات معيّنة عن العمل والبطالة لم تكن معروفة من قبله ، وأصبح العمل في ضوء تلك المقاييس والتقديرات عبادة يثاب عليها المرء وأصبح العامل في سبيل قوته أفضل عند الله من المتعبّد الذي لا يعمل ، وصار الخمول أو الترفّع عن العمل نقصاً في إنسانية الإنسان وسبباً في تفاهته .

ففي الحديث أنّ الإمام جعفر سأل عن رجل ، فقيل : أصابته الحاجة ، وهو في البيت يعبد ربّه ، وإخوانه يقومون بمعيشته ، فقالعليه‌السلام :( الذي يَقوته أشدّ عبادةً منه ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٢٥ ـ ٢٦ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٣ ، مع تصرّفٍ يسير .

٥٨٦

وعن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه رفع يوماً يد عامل مكدود فقبّلها ، وقال :طلب الحلال فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ومَن أكل من كدِّ يده مرّ على الصراط كالبرق الخاطف ومن أكل من كدّ يده نظر الله إليه بالرحمة ثمّ لا يعذّبه أبداً ومن أكل من كدّ يده حلالاً فتح له أبواب الجنّة يدخل من أيّها شاء (١) .

وفي رواية أخرى : أنّ شخصاً مرّ بالإمام محمّد بن علي الباقر وهو يمارس العمل في أرض له ، ويجهد في ذلك حتى يتصابّ عرقاً : فقال له : أصلحك الله ، أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة ؟ فأجابه الإمام ـ وهو يعبّر عن مفهوم العمل في الإسلام ـ :( لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزّ وجلّ ...) (٢)

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما جاء في سيرته الشريفة ـ يسأل عن الشخص إذا أعجبه مظهره ، فإنّ قيل له : ليست له حرفة ولا عمل يمارسه ، سقط من عينه ، ويقول :( إنّ المؤمن إذا لم تكن له حرفة يعيش بدينه ) (٣) .

وفي عدّة أحاديث جعل العمل جزءاً من الإيمان ، وقيل :( إنّ إصلاح المال من الإيمان ) (٤) وقيل في حديث نبوي آخر :( ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه الإنسان أو دابّته إلاّ وكتب له به صدقة ) (٥) .

ـــــــــــــــ

(١) راجع : مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٣ ـ ٢٤ ، الحديث ٥ و ٦ و ٧ وبحار الانوار ١٠٣ : ٩ وأُسد الغابة ٢ : ٢٦٩ .

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ١٩ ـ ٢٠ ، الباب ٤ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث الأول .

(٣) مستدرك وسائل الشيعة ١٣ : ١١ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٤ ، مع اختلافٍ يسير .

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٦٣ ، الباب ٢١ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢ .

(٥) صحيح البخاري ، المجلّد الاوّل ٣ : ١٣٥ ، باب فضل الزرع والغرس إذا أُكل منه ، مع تفاوت .

٥٨٧

وفي خبرٍ عن الإمام جعفرعليه‌السلام أنّه قال لمعاذ ـ وهو أحد أصحابه ممّن كان قد اعتزل العمل ـ : (يا معاذ ، أضعفت عن التجارة أو زهدت فيها ؟ فقال معاذ : ما ضعفت عنها ولا زهدت فيها عندي مال كثير ، وهو في يدي وليس لأحدٍ عليّ شيء ، ولا أراني آكله حتى أموت فقال له الإمام :لا تتركها فإنّ تركها مَذْهَبَةٌ للعقل )(١) .

وفي محاورة أخرى ، ردّ الإمام على مَن طلب منه الدعاء له بالرزق في دِعة ، فقال له :( لا أدعو لك ، أطلب كما أمرك الله عزّ وجلّ ) (٢) .

ويروى عن جماعة من الصحابة أنّهم اعتكفوا في بيوتهم وانصرفوا إلى العبادة عند نزول قوله تعالى :( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (٣) ، وقالوا قد كفانا فأرسل إليهم النبيّ قائلاً :( إنّ من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطلب ) (٤) .

وكما قاوم الإسلام فكرة البطالة وحثّ على العمل ، كذلك قاوم فكرة تعطيل بعض ثروات الطبيعة وتجميد بعض الأموال وسحبها عن مجال الانتفاع والاستثمار ، ودفع إلى توظيف أكبر قدر ممكن مِن قِوى الطبيعة وثرواتها للإنتاج وخدمة الإنسان في مجالات الانتفاع والاستثمار ، واعتبر الإسلام فكرة التعطيل أو إهمال بعض مصادر الطبيعة أو ثرواتها ، لوناً من الجحود وكفراناً بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها على عباده .

قال الله تعالى :( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ١٤ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٤ .

(٢) المصدر السابق : ٢٠ ، الباب ٤ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٣ مع اختلاف يسير .

(٣) سورة الطلاق : ٢ ـ ٣

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٢٧ ـ ٢٨ ، الباب ٥ مقدّمات التجارة ، الحديث ٧ .

٥٨٨

الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (١) .

وقال يشجب أسطورة تحريم بعض الثروات الحيوانية :( مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) (٢) .

وقال وهو يهيب بالإنسان إلى استثمار مختلف المجالات :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (٣) .

وفضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي ، على الإنفاق الاستهلاكي ، حرصاً منه على تنمية الإنتاج ، وزيادة الثروة كما جاء في النصوص المنقولة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة ، التي تنهي عن بيع العقار والدار ، وتبديد ثمن ذلك في الاستهلاك(٤) .

ب- وسائل الإسلام من الناحية التشريعية :

وأمّا من الناحية التشريعية فقد جاءت تشريعات الإسلام في كثير من الحقول ، تتفق مع مبدأ تنمية الإنتاج الذي يؤمن به الاقتصاد الإسلامي ، وتساعد على تطبيقه .

وفيما يلي نستعرض شيئاً من تلك التشريعات والأحكام :

١ ـ حكم الإسلام بانتزاع الأرض من صاحبها إذا عطّلها وأهملها حتى

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : ٣٢ .

(٢) سورة المائدة : ١٠٣ .

(٣) سورة الملك : ١٥ .

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٦٩ ـ ٧٢ ، الباب ٢٤ من أبواب مقدّمات التجارة .

٥٨٩

خربت وامتنع عن إعمارها ، وعلى هذا الأساس يستولي ولي الأمر في هذه الحالة على الأرض ويستثمرها بالأسلوب الذي يختاره ؛ لأنّ الأرض لا يجوز أن يعطّل دورها الايجابي في الإنتاج ، بل يجب أن تظلّ دائماً عاملاً قويّاً يساهم في رخاء الإنسان ويسر الحياة ، فإذا حال الحقّ الخاص دون قيامها بهذا الدور ، أُلغي هذا الحقّ وكيّفت بالشكل الذي يتيح لها الإنتاج (١) .

٢ ـ منع الإسلام عن الحمى وهو : السيطرة على مساحة الأرض الغامرة وحمايتها بالقوّة دون ممارسة عمل في إحيائها واستثمارها ، وربط الحقّ في الأرض بعملية الإحياء وما إليها ، دون أعمال القوّة التي لا شأن لها في الإنتاج وفي استثمار الأرض لصالح الإنسان(٢) .

٣ ـ لم يعط الإسلام للأفراد الذين يبدأون عملية إحياء المصادر الطبيعية الحقّ في تجميد تلك المصادر وتعطيل العمل لإحيائها ، ولم يسمح لهم بالاحتفاظ بها في حالة توقّفهم عن مواصلة العمل في هذا السبيل ؛ لأنّ استمرار سيطرتهم عليها في هذه الحالة يؤدّي إلى حرمان الإنتاج من طاقات تلك المصادر وإمكاناتها .

ولهذا كلّف ولي الأمر في الإسلام بانتزاع المصادر من أصحابها إذا أوقفوا أعمالهم في إحيائها ، ولم يمكن إغراؤهم بمواصلة العمل فيها(٣) .

٤ ـ لم يسمح الإسلام لولي الأمر بإقطاع الفرد شيئاً من مصادر الطبيعة إلاّ بالقدر الذي يتمكّن الفرد من استثماره والعمل فيه(٤) ، لأنّ إقطاع ما يزيد على

ـــــــــــــــ

(١) و (٢) لاحظ : البناء العُلْوي لنظرية توزيع ما قبل الإنتاج (المؤلّف قدّس سرّه) .

(٣) راجع المبسوط ٣ : ٢٧٣ .

(٤) لاحظ في ذلك : نفس البناء المتقدّم (المؤلّف قدّس سرّه) .

٥٩٠

قدرته يبدد ثروات الطبيعة وإمكاناتها الإنتاجية .

٥ ـ حرّم الإسلام الكسب بدون عمل ، عن طريق استئجار الفرد أرضاً بأجرة وإيجارها بأجرة أكبر للحصول على التفاوت بين الأجرتين ، وما يشابه ذلك من الفروض التي تحدّثنا عنها سابقاً(١) .

ومن الواضح أنّ إلغاء دور هذا الوسيط بين مالك الأرض والفلاّح المباشر لزراعتها يوفّر على الإنتاج ؛ لأنّ هذا الوسيط لا يقوم بأي دور إيجابي للإنتاج ، وإنّما يعيش على حساب الإنتاج بدون خدمة يقدّمها إليه .

٦- حرّم الإسلام الفائدة ، وألغى رأس المال الرِّبوي ، وبذلك ضمن تحوّل رأس المال هذا في المجتمع الإسلامي إلى رأس مال منتج يساهم في المشاريع الصناعية والتجارية .

وهذا التحوّل يحقّق مكسبين للإنتاج :

أحدهما : القضاء على التناقض المرير بين مصالح التجارة والصناعة ، ومصالح رأس المال الرِّبوي ، فإنّ الرأسماليين في المجتمعات التي تؤمن بالفائدة ينتظرون دائماً فرصتهم الذهبية حين تشتدّ حاجة رجال الأعمال في التجارة والصناعة إلى المال ويزيد طلبهم عليه ؛ لكي يرفعوا سعر الفائدة ويمسكوا بأموالهم طلباً لأعلى سعر ممكنٍ لها .

وأمّا حين ينخفض الطلب على المال من رجال الأعمال وتقلّ حاجتهم إليه ، ويهبط تبعاً لذلك سعر الفائدة فسوف نجد الرأسماليين وهم يعرضون أموالهم بكلّ سخاء وبأزهد الأجور ، ومن الواضح أنّ إلغاء الفائدة يضع حداً لهذا التناقض ، الذي تعيشه طبقة المُرابين ، وطبقة التّجار في المجتمع الرأسمالي ؛ لأنّ إلغاء الفائدة

ـــــــــــــــ

(١) يراجع : وسائل الشيعة ١٩ : ١٢٦ ـ ١٣٤ ، الباب ٢١ ـ ٢٣ من أبواب التجارة .

٥٩١

سوف يؤدّي بطبيعة الحال إلى تحويل الرأسماليين الذين كانوا يقرضون أموالهم بفائدة ، إلى مضاربين يساهمون في مشاريع صناعية وتجارية على أساس الاشتراك في الأرباح ، وبذلك يتحدّد الموقف ويصبح رأس المال في خدمة التجارة والصناعة ، يلبّي حاجاتها ويواكب نشاطها .

والمكسب الآخر للإنتاج ، هو أنّ تلك الأموال التي حُوّلت إلى ميادين الصناعة والتجارة ، سوف تستخدم بعزم وطمأنينة في مشاريع ضخمة وأعمال طويلة الأمد ؛ لأنّ صاحب المال سوف لن يبقى أمامه بعد إلغاء الفائدة إلاّ أمل الربح ، وهو يحرّكه نحو اقتحام تلك المشاريع الضخمة المغرية بأرباحها ونتائجها ، خلافاً لحاله في مجتمع يسيطر عليه نظام الفائدة ، فإنّه يفضّل إقراض المال بفائدة على توظيفه في تلك المشاريع ؛ لأنّ الفائدة مضمونة على أيّ حال ، وسوف يفضّل أيضاً أن يقرض المال لأجلٍ قصير ويتحاشى. الإقراض لمدّة طويلة لِئلا يفوته شيء من سعر الفائدة ، إذا ارتفع في المستقبل البعيد سعرها ، وبذلك سوف يضطر المقترضون مادام أجل الوفاء قريباً إلى استخدام أموالهم في مشاريع قصيرة الأمد ليكون في إمكانهم إعادة المبلغ في الوقت المحدّد مع الفائدة المتّفق عليها إلى الرأسمالي الدائن .

وعلاوة على هذا ، فإنّ رجال الأعمال في ظلّ نظام الفائدة سوف لن يُقدِموا على اقتراض المال من الرأسماليين وتوظيفه في مشروع تجاري أو صناعي ما لم تبرهن الظروف على أنّ بإمكانهم الحصول على ربحٍ يزيد عن الفائدة التي يتقاضاها الرأسمالي ، وهذا يعيقهم عن ممارسة كثير من ألوان النشاط في كثير من الظروف ، كما يجمّد المال في جيوب الرأسماليين ويحرمه من المساهمة في الحقل الاقتصادي ، ولا يسمح له بأيّ لون من ألوان الإنفاق الإنتاجي أو الاستهلاكي ، الأمر الذي يؤدّي إلى عدم إمكان تصريف كلّ المنتجات ، وكساد السوق ، وظهور الأزمات وتزلزل الحياة الاقتصادية .

٥٩٢

وأمّا عند إلغاء الفائدة وتحوّل الرأسماليين المرابين إلى تجّار مساهمين مباشرة في مختلف المشاريع التجارية والصناعية ، فإنّهم سوف يجدون من مصلحتهم الاكتفاء بقدر أقلّ من الربح ؛ لأنّهم لن يضطروا إلى تسليم جزء منه باسم فوائد ، وسوف يجدون من مصلحتهم أيضاً توظيف الفائض عن حاجتهم من الأرباح في مشاريع الإنتاج والتجارة ، وبذلك يتمّ إنفاق الناتج كلّه إنفاقاً استهلاكياً وإنتاجياً بدلاً من تجميد جزء منه في جيوب المُرابين بالرغم من حاجة التجارة والصناعة إليه ، وتوقّف تصريف جزء من المنتجات على إنفاقه .

٧- حرّم الإسلام بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية ، كالمقامرة والسحر والشعوذة(١) ، ولم يسمح بالاكتساب عن طريق أعمال من هذا القبيل ، بأخذ أجرة على القيام بها( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) (٢) . فإنّ هذه الأعمال تبديد للطاقات الصالحة المنتجة في الإنسان ، والأجور الباطلة التي تدفع لأصحابها هدر لتلك الأموال التي كان بالإمكان تحويلها إلى عامل تنمية وإنتاج ونظرة شاملة في التأريخ والواقع المعاش ، يكشف لنا عن مدى التبذير الذي ينتج عن هذا النوع من الأعمال والاكتساب بها ، وفداحة الخسارة التي يُمنى بها الإنتاج ، وكلّ الأهداف الصالحة ، بسبب تبديد تلك الطاقات والجهود والأموال .

٨ ـ مَنع الإسلام من اكتناز النقود(٣) ، وسحبها عن مجال التداول وتجميدها ،

ـــــــــــــــ

(١) راجع : وسائل الشيعة ١٧ : ١٦٤ ـ ١٦٨ ، الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به ، و : ١٤٥ ـ ١٤٩ ، من أبواب ما يكتسب به .

(٢) سورة البقرة : ١٨٨ .

(٣) راجع : وسائل الشيعة ٩ : ٣٠ و ٣١ ، الباب ٤ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ٢٨ .

٥٩٣

وذلك عن طريق فرض ضريبة على ما يكنز من النقود الذهبية والفضّية ، التي كانت الدولة الإسلامية تجري على أساسها ، وهي : ضريبة الزكاة ، التي تستنفد المال المدّخر على مرّ الزمن ؛ لأنّها تتكرّر في كلّ عام ، وتقطع كلّ مرّة ربع العشر من المال المدّخر ، ولا تتركه الضريبة حتى تنخفض به إلى عشرين ديناراً ولأجل هذا تعتبر الزكاة مصادرة تدريجية للمال الذي يكنز ويجمّد عن العمل ، وبالقضاء على الاكتناز هذا تندفع جميع الأموال إلى حقول النشاط الاقتصادي وتمارس دوراً إيجابياً في الحياة الاقتصادية ، وبذلك يكسب الإنتاج كثيراً من تلك الأموال التي كانت تؤثِر بطبيعتها ـ لولا ضريبة المال المكتنز ـ أن تختفي في جيوب أصحابها بدلاً عن المساهمة في المشاريع الصناعية والزراعية وما إليها .

والواقع أنّ منع الإسلام من اكتناز النقود ليس مجرّد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي ، بل إنّه يعبّر عن أحد أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي ، ويعكس الطريقة التي استطاع الإسلام بها أن يتخلّص من مشاكل الرأسمالية الناجمة عن شذوذ الدور الرأسمالي للنقد الذي يؤدّي إلى أخطر المضاعفات ، ويهدّد حركة الإنتاج ويعصف بالمجتمع الرأسمالي باستمرار .

ولكي يتّضح الخلاف الخطير بين المذهبين في هذه النقطة ، يجب أن نميز بين الدور الأصيل للنقد والدور الطارئ الذي يمارسه في ظلّ الرأسمالية ، وندرك اختلاف هذين الدورين في نتائجهما وآثارهما على حركة الإنتاج وغيرها .

فالنقد بطبيعته أداة للتبادل ، وقد استخدمه الإنسان في المبادلة تفادياً من مشاكل المقايضة التي كانت تتولّد عن مبادلة المنتجات بشكل مباشر فقد وجد المنتجون الأوائل ، بعد تقسيم العمل وإقامة حياتهم على أساس المبادلة ، أنّ من الصعب عليهم تبادل منتوجاتهم مباشرة ؛ لأنّ منتِج الحنطة إذا احتاج في حياته

٥٩٤

إلى صوف فلا يستطيع الحصول عليه من منتِج الصوف في مقابل الحنطة إلاّ إذا كان صاحب الصوف بدوره محتاجاً إلى حنطة والراعي إذا أراد الحصول على حاجته اليومية من الحنطة ، فسوف لن يقدر على ذلك عن طريق المقايضة ؛ لأنّ الغنم الذي يرعاه تزيد قيمته على قيمة الحنطة التي يود الحصول عليها لحاجته اليومية ، ولا يمكنه تجزئة الغنم لأجل ذلك .

وإضافة إلى هذا ، فإنّ المبادلة المباشرة للمنتجات كانت تواجه صعوبة تقدير قيم الأشياء المعدّة للمبادلة إذ كان لا بدّ لمعرفة قيمة السلعة من مقارنتها بجميع السلع الأخرى ، حتى تعرف قيمتها بالنسبة إليها جميعاً(١) ، فكان اختراع النقد علاجاً لهذه المشاكل كلّها ؛ إذ قام بدور المقياس العام للقيمة من ناحية ، وأصبح أداة للمبادلة من ناحية أخرى ، فهو من الناحية الأولى يستخدم كمحدّد لقيم الأشياء ، فبمقارنة سائر السلع بالسلعة التي أنتجت لتكون نقداً تحدّد قيمتها ومن الناحية الثانية يستعمل النقد وسيلة للتداول ، فبعد أنّ كان التداول يقوم على أساس المقايضة وبيع حنطة بصوف ، جاءت النقود فحوّلت عملية البيع هذه إلى عمليتين وهما البيع والشراء ، فصاحب الحنطة يبيع الحنطة بمئة درهم ، ثمّ يمارس عملية أخرى ، فيشتري بهذا النقد حاجته من الصوف وبهذا قامت مبادلتان مقام المبادلة المباشرة بين المنتجات ، وزالت بسبب ذلك كلّ الصعوبات التي كانت تنجم عن نظام المقايضة .

وهكذا نعرف أنّ الدور الأصيل الذي وجد النقد ليمارسه هو دور المقياس العام للقيمة ، والأداة العامة في التداول .

ولكنّ النقد بعد ذلك لم يقتصر على أداء دوره ، وممارسة وظيفته في التغلّب

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الكتاب الأوّل ، مبحث : التداول .

٥٩٥

على صعوبات المقايضة ومشاكلها ، بل استخدم للقيام بدور آخر طارئ لا يمتُّ إلى التغلّب على تلك الصعاب والمشاكل بصلة ، وهو دور الاكتناز والادخار وذلك أنّ دخول النقد في مجال التداول حوّل العملية الواحدة ـ بيع الحنطة بصوف ـ إلى عمليّتين ، وأصبح منتِج الحنطة يبيع منتوجة ثمّ يشتري الصوف ، بعد أن كان يبيع الحنطة ويشتري الصوف في مبادلة واحدة ، وهذا الفصل بين عمليتي بيع الحنطة وشراء الصوف أتاح لبائع الحنطة أن يؤجّل شراء الصوف ، بل جعل في ميسوره أن يبيع الحنطة لا لشيء إلاّ لرغبة في تحويل الحنطة إلى نقد ، والاحتفاظ بالنقد إلى وقت الحاجة فنشأ عن ذلك دور النقد بوصفه أداة لاكتناز المال وادخاره .

وقد لعب هذا الدور الطارئ للنقد كأداة للاكتناز أخطر لعبة في ظلّ الرأسمالية التي شجعت الادّخار ، وجعلت من الفائدة أكبر قوّة للإغراء بذلك ، فأدّى هذا إلى اختلال التوازن بين الطلب الكلّي والعَرْض الكلّي لمجموع السلع الإنتاجية والاستهلاكية ، بينما كان هذا التوازن مضموناً في عهد المقايضة التي تقوم على أساس المبادلة المباشرة بين المنتجات ، لأنّ المنتج في تلك العهود لم يكن ينتج إلاّ ليستهلك ما ينتجه ، أو يستبدله بسلعة أخرى يستهلكها ، فالسلعة التي تنتج تضمن دائماً طلباً بقدرها فيتساوى الإنتاج والاستهلاك ، أو العرض الكلي مع مجموع الطلب .

وأمّا في عصر النقد بعد انفصال عملية الشراء عن البيع ، فليس من الضروري للمنتج أن يكون لديه طلب يساوي السلعة التي ينتجها ، إذ قد ينتج بقصد أن يبيع ويحصل على نقد ليضيفه إلى ما ادّخره من نقود ، لا ليشتري به سلعة من منتج آخر ، فيوجد في هذه الحال عرض لا يقابله طلب ، ويختلّ لأجل ذلك التوازن بين العرض العام والطلب العام ، ويتعمّق هذا الاختلال بقدر ما تبرز إرادة الاكتناز

٥٩٦

وتتّسع ظاهرة الادخار لدى المنتجين والبائعين ، ونتيجة لذلك يظلّ جزءً كبير من الثروة المنتَجة دون تصريف ، وتعاني السوق الرأسمالية مشكلة تصريفها وأزمة تكدّسها ، وتتعرّض حركة الإنتاج وبالتالي الحياة الاقتصادية عموماً لأشدّ الأخطار .

وقد ظلّت الرأسمالية ردحاً من الزمن لا تدرك حقيقة هذه المشاكل التي تنجم عن دور الاكتناز الذي يمارسه النقد انسياقاً منها معنظرية التصريف التي تقول : إنّ الشخص عندما يريد بيع سلعة معيّنة لا يرغب في النقود لذاتها ، بل للحصول على سلعة أخرى تشبع حاجاته ، وهذا يعني أنّ إنتاج أيّة سلعة يخلق طلباً مماثلاً على سلعة أخرى ، فيتساوى العرض والطلب دائماً .

فالنظرية تفترض أنّ بائع السلعة يستهدف دائماً من ذلك الحصول على سلعة أخرى ، مع أنّ هذا الافتراض إنّما يصح في عصر المقايضة الذي تزدوج فيه عملية الشراء وعملية البيع ، ولا يصدق على عصر النقد الذي يتيح للتاجر أن يبيع السلعة بقصد الحصول على المزيد من النقد وادخاره واكتنازه ، لأجل توظيفه بعد ذلك في عمليات القرض بفائدة .

وفي هذه المعلومات عن النقود ودورها الأصيل ودورها الطارئ ونتائجهما ، نستطيع أن ندرك الاختلاف الجوهري بين الإسلام والرأسمالية ، فبينما تقرّ الرأسمالية استعمال النقد أداة للاكتناز وتشجّع عليه بتشريع نظام الفائدة ، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على النقد المكتنز ، ويحثّ على إنفاق المال في المجالات الاستهلاكية والإنتاجية ، حتى جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عيه السلام) :( إنّ الله إنّما أعطاكم هذه الفضول من الأموال ، لتوجّهوها حيث وجّهها الله ، ولم يعطكموها لتكنزوها ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) الفروع من الكافي ٤ : ٣٢ ، الحديث ٥ .

٥٩٧

والإسلام بمحاربته للاكتناز يقضي على مشكلةٍ من أهمّ مشاكل الإنتاج التي تُمنى بها الرأسمالية ، وهو على علم بأنّ المجتمع الإسلامي الذي ينظّمه ليس مضطراً إلى الاكتناز والادخار في سبيل تنمية الإنتاج فيه ، وإقامة المشاريع الكبيرة ، كما هي الحال بالنسبة إلى المجتمع الرأسمالي ، الذي تمكّن عن طريق الاكتناز والادخار من تكوين رؤوس أموال ضخمة نتيجة لتجميع المدّخرات عن طريق المصارف وغيرها ، واستطاع أن يستخدم تلك الكمّيات الهائلة المتجمّعة من النقد في أضخم مشاريع الإنتاج فإنّ المجتمع الرأسمالي لمّا كانت الملكية الخاصة هي التي تسيطر عليه ، فكان لا بدّ له من ملكيات خاصة ضخمة للاستعانة بها في مشاريع الإنتاج الكبرى ، وحيث لم يكن من الميسور تكوين تلك الملكيّات إلاّ بالتشجيع على الادخار وتجميع المدخرات بعد ذلك عن طريق المصارف الرأسمالية ، فكان المجتمع الرأسمالي مضطرّاً إلى اتّخاذ هذه الخطوات لأجل تنمية الإنتاج وتضخيمه ، وأمّا المجتمع الإسلامي فيمكنه الاعتماد على حقول الملكية العامة وملكية الدولة في مشاريع الإنتاج الكبرى ، ويبقى للملكيّات الخاصة المجالات التي تتّسع لها إمكاناتها .

٩ ـ تحريم اللهو والمجون ، فقد جاء في الأحاديث النهي عمّا يلهو عن ذكر الله ، والمنع عن عدّة ألوان من اللهو التي تؤدّي إلى تذويب الشخصية الجدّية للإنسان وميوعته(١) ، وبالتالي إلى عزله عن مجال الإنتاج والعمل الحقيقي المثمر ، وإيثاره حياة اللعب واللهو بقدر ما تؤاتيه الظروف على حياة الجِدِّ والعمل ، وألوان الإنتاج المادّي والمعنوي .

١٠ ـ محاولة المنع من تركّز الثروة ، وفقاً للنصّ القرآني الكريم :( كَيْ لا

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٣١٢ ـ ٣١٨ ، الباب ١٠٠ و ١٠١ من أبواب ما يكتسب به .

٥٩٨

يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ) (١) ، كما سنشرح ذلك في دراستنا لنظرية التوازن الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي .

وهذا المنع عن التركّز وإن كان يرتبط بصورة مباشرة بالتوزيع ، ولكنّه يرتبط أيضاً بشكل غير مباشر بالإنتاج ، ويؤدّي إلى الإضرار به لأنّ الثروة حين تتركّز في أيدٍ قليلة ، يعمّ البؤس وتشتد الحاجة لدى الكثرة الكاثرة ونتيجة لذلك سوف يعجز الجمهور عن استهلاك ما يشبع حاجاتهم من السلع لانخفاض قوّتهم الشرائية فتتكدّس المنتجات دون تصريف ، ويسيطر الكساد على الصناعة والتجارة ويتوقّف الإنتاج .

١١ ـ التقليص من مناورات التجارة ، واعتبارها من حيث المبدأ شعبة من الإنتاج ، كما سيأتي في مرحلة أخرى من مراحل الكشف عن نظرية الإنتاج ، وسوف نرى عندئذٍ مدى تأثير ذلك على الإنتاج وتنميته .

١٢ ـ منح الإسلام ملكية المال بعد موت المالك إلى أقربائه وهذا هو الجانب الإيجابي من أحكام الإرث الذي يمكن اعتباره في القطاع الخاص عاملاً دافعاً للإنسان نحو العمل وممارسته ألوان النشاط الاقتصادي ، بل عاملاً أساسياً في الأشواط الأخيرة من حياة الإنسان التي تتضاءل فيها فكرة المستقبل عنده وتحتلّ موضعها فكرة الأبناء والقربى ، فيجد في أحكام الإرث التي توزّع أمواله بعده بين أقربائه الأدنين ما يغريه بالعمل ويدفعه إلى تنمية الثروة حرصاً على مصالح أهله بوصفهم امتداداً لوجوده .

وأمّا الجانب السلبي من أحكام الإرث الذي يقطع صلة المالك بماله بعد موته ولا يسمح له أن يقرّر مصير ثروته بنفسه ، فهو نتيجة لنظرية توزيع ما قبل الإنتاج ومرتبط بها كما عرفنا سابقاً .

ـــــــــــــــ

(١) سورة الحشر : ٧ .

٥٩٩

١٣ ـ وضع الإسلام المبادئ التشريعية للضمان الاجتماعي ، كما سنشرحه في بحث مقبل والضمان الاجتماعي يقوم بدور كبير في القطاع الخاص ؛ لأنّ إحساس الفرد بأنّه مضمون من قِبل الدولة ، وأنّ مستوى كريماً من الحياة مكفولٌ له ولو خسر في مشروعه ، رصيد نفسي كبير يَزيد من شجاعته ويدفع به إلى مختلف ميادين الإنتاج ، وينمّي فيه عنصر الإبداع والابتكار ، خلافاً لمن يفقد ذلك الضمان ولا يحسّ بتلك الكفالة ، فإنّه كثير من الأحايين يحجم عن ألوان من النشاط والتجديد ؛ خوفاً من الخسارة المحتملة التي لا تهدّد ماله فحسب ، بل تهدّد حياته وكرامته مادام لن يجد من يكفله ويوفّر له أسباب الحياة الكريمة إذا خسر ماله وضاع في خضمّ التيار ولأجل ذلك لن تواتيه تلك الشجاعة وذلك العزم الذي يبعثه الضمان الاجتماعي في نفوس الأفراد الذين يعيشون في كنفه .

١٤ ـ حَرَم الإسلام القادرين على العمل والنشاط الاقتصادي من الضمان الاجتماعي ، ومنعهم من الاستجداء(١) ، وبذلك سدّ عليهم منافذ التهرّب من العمل المثمر وهذا يؤدّي بطبيعته إلى تجنيد طاقاتهم للإنتاج والاستثمار .

١٥ ـ حرّم الإسلام الإسراف والتبذير(٢) ، وهذا التحريم يحدّ من الحاجات الاستهلاكية ويهيئ كثيراً من الأموال للأنفاق الإنتاجي بدلاً عن الإنفاق الاستهلاكي في مجالات الإسراف والتبذير .

١٦ ـ أوجب الإسلام على المسلمين ـ كفايةً ـ تعلّم جميع الفنون والصناعات التي تنتظم بها الحياة .

١٧ ـ بل إنّ الإسلام لم يكتف بذلك ، بل أوجب على المسلمين الحصول

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٤٣٦ ـ ٤٣٨ ، الباب ٣ من أبواب الصدقة .

(٢) المصدر السابق ١٥ : ٣٢٩ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣٣ و ٣٦ .

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741