اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 146489
تحميل: 8781

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146489 / تحميل: 8781
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

صِلة المذهب بالإنتاج

عملية الإنتاج لها جانبان :

أحدهما : الجانب الموضوعي المتمثّل في الوسيلة التي تستخدم ، والطبيعة التي تمارس ، والعمل الذي ينفق خلال الإنتاج .

والآخر : الجانب الذاتي الذي يتمثّل في الدافع النفسي ، والغاية التي تستهدف من تلك العملية ، وتقييم العملية تبعاً للتصوّرات المتبنّاة عن العدالة .

والجانب الموضوعي من العملية هو الموضوع الذي يدرسه علم الاقتصاد بمفرده ، أو بالمساهمة مع العلوم الطبيعية ؛ لاكتشاف القوانين العامة التي تسيطر على الوسيلة وتطبيعه لكي يتاح للإنسان التحكّم في تلك القوانين بعد اكتشافها ، وتنظيم الجانب الموضوعي لعملية الإنتاج تنظيماً أفضل وأكثر نجاحاً .

فعلم الاقتصاد يكشف مثلاً عنقانون الغلّة المتناقضة في الزراعة ، القائل : إنّ زيادة وحدات إضافية من العمل ورأس المال بنسبة معيّنة ، تقابلها زيادة في النتائج بنسبة أقل ، ويستمر هذا التفاوت بين نسبة زيادة الوحدات ونسبة زيادة النتائج ، وبالتالي تستمر زيادة الغلّة في التناقض حتى تتعادل زيادة الغلّة مع نسبة زيادة وحدات العمل ورأس المال ، وحينذاك لا تكون ثمّة مصلحة للزارع في أن يزيد في الإنفاق على الأرض من جديد وهذا القانون يلقي ضوءاً على العملية

٥٨١

وباكتشاف المنتج له يستطيع أن يتفادى التبذير بالعمل ورأس المال ، ويحدّد عناصر الإنتاج تحديداً يكفل له أكبر قدر ممكن من الناتج .

ونظير هذا القانون الحقيقة القائلة : إنّ تقسيم العمل يؤدّي إلى تحسين الإنتاج ووفرته فإنّها حقيقة موضوعية من حقّ العلم الكشف عنها ، ووضعها في خدمة المنتجين للاستفادة منها في تحسين الإنتاج وتنميته .

فوظيفة علم الاقتصاد التي يؤدّيها إلى الإنتاج هي اكتشاف تلك القوانين التي يتاح للمنتج عن طريق معرفتها تنظيم الجانب الموضوعي لعملية الإنتاج بالشكل الذي يؤدّي إلى نتيجة أضخم ، وإنتاج أوفر وأجود .

وفي هذا المجال ليس للمذهب الاقتصادي ـ مهما كان نوعه ـ أيّ دور إيجابي ؛ لأنّ الكشف عن القوانين العامة والعلائق الموضوعية بين الظواهر الكونية أو الاجتماعية من وظيفة العلم ، ولا يدخل في صلاحيات المذهب إطلاقاً ولهذا كان لمجتمعات مختلفة في مذاهبها الاقتصادية ، أن تلتقي على الصعيد العلمي وتتّفق على استخدام معطيات علم الاقتصاد وسائر العلوم والاسترشاد بها في مجالات الإنتاج .

وإنّما يظهر الدور الايجابي للمذهب في الجانب الذاتي من عملية الإنتاج ، ففي هذا الجانب ينعكس التناقض المذهبي بين المجتمعات التي تختلف في مذاهبها الاقتصادية فلكلّ مجتمع وجهة نظره الخاص إلى عملية الإنتاج ، وتقييمه لتلك العملية على أساس تصوّراته العامة ، وطريقته المذهبية في تحديد الدوافع وإعطاء المُثل العليا للحياة .

فلماذا ننتج ؟ وإلى أيّ مدى ؟ وما هي الغايات التي يجب أن تستهدف من وراء الإنتاج ؟ وما هو نوع السلعة المنتجة ؟ وهل هناك قوّة مركزية تشرف على الإنتاج وتخطيطه ؟ هذه الأسئلة التي يجيب عليها المذهب الاقتصادي .

٥٨٢

تنمية الإنتاج

قد تكون النقطة الوحيدة التي تتّفق عليها المذاهب الإسلامية والرأسمالية والماركسية جميعاً على الصعيد المذهبي ، هي تنمية الإنتاج والاستفادة من الطبيعة إلى أقصى حدٍّ ضمن الإطار العام للمذهب.

فكلّ هذه المذاهب تجمع على أهمية هذا الهدف وضرورة تحقيقه بجميع الأساليب والطرق التي تنسجم مع الإطار العام للمذهب ، كما أنّها ترفض ما لا يتّفق مع إطارها المذهبي ، نتيجة للترابط العضوي في المذهب الواحد فإنّ مبدأ تنمية الإنتاج والاستمتاع بالطبيعة إلى أقصى حدٍّ هو جزء من كلّ ، فيتفاعل في كلّ مذهب مع بقية الأجزاء ويتكيّف وفقاً لموقعه من المركّب وعلاقاته مع سائر الأجزاء فالرأسمالية ترفض مثلاً من الأساليب في تنمية الإنتاج وزيادة الثروة ما يتعارض مع مبدأ الحرّية الاقتصادية ، والإسلام يرفض من تلك الأساليب ما لا يتّفق مع نظرياته في التوزيع ومُثُله في العدالة ، وأمّا الماركسية فهي تؤمن بأنّ المذهب لا يتعارض مع تنمية الإنتاج ، بل يسير معها في خط واحد تبعاً لنظرتها عن الترابط الحتمي بين علاقات الإنتاج وشكل التوزيع كما سيأتي .

وعلى أيّ حال ، فسوف ننطلق في دراسة النظرية الإسلامية للإنتاج من مبدأ تنمية الإنتاج الذي آمن به الإسلام وفرض على المجتمع الإسلامي السير

٥٨٣

وفقاً له ، وجعل تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة إلى أقصى حدٍّ ممكن مذهبياً هدفاً للمجتمع يضع في ضوئه سياسته الاقتصادية ، التي يحدّدها الإطار المذهبي العام من ناحية ، والظروف والشروط الموضوعية للمجتمع من ناحية أخرى وتمارس الدولة تنفيذها ضمن تلك الحدود .

ومبدأ تنمية الإنتاج هذا يمكّننا أنّ نلمحه بوضوح من خلال التطبيق في عهد الدولة الإسلامية ، وفي التعليمات الإسلامية الرسمية التي لا يزال التأريخ يحتفظ بشيء منها حتى الآن .

فمن تلك التعليمات البرنامج الذي وضعه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام لواليه على مصر ، محمّد بن أبي بكر ، وأمره بالسير عليه وتطبيقه ففي أمالي الشيخ الطوسي أنّ أمير المؤمنين لمّا ولّى محمّد ابن أبي بكر مصر ، كتب له كتاباً وأمره أن يقرأه على أهل مصر ، وأن يعمل بما احتواه وقد كتب الإمام في هذا الكتاب يقول :

( يا عباد الله ، إنّ المتّقين حازوا عاجل الخير وآجله ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم ، قال الله عزّ وجلّ : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (١) سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت ، وأكلوها بأفضل ما أُكلت ، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون ، وشربوا من طيّبات ما يشربون ، ولبسوا من أفضل ما يلبسون ، وسكنوا من أفضل ما يسكنون ، وركبوا من أفضل ما يركبون ، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا ، وهم غداً جيران الله

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : ٣٢ .

٥٨٤

يتمنّون عليه فيعطيهم ما يتمنّون ، لا تردّ لهم دعوة ، ولا ينقص لهم نصيب من اللذّة ، فإلى هذا ـ يا عباد الله ـ يشتاق من كان له عقل ، ويعمل له بتقوى الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ) (١) .

وهذا الكتاب التأريخي الرائع ، لم يكن قصّة يتحدّث فيها الإمام عن واقع المتّقين على وجه الأرض ، أو واقعهم في التأريخ ، وإنّما كان يستهدف التعبير عن نظرية المتّقين في الحياة ، والمثل الذي يجب أن يحقّقه مجتمع المتّقين على هذه الأرض ، ولذا أمر بتطبيق ما في الكتاب ، ورسم سياسته في ضوء ما جاء فيه من وصايا وتعليمات ، فالكتاب إذن واضح كلّ الوضوح في أنّ اليُسر المادّي الذي يحقّقه نمو الإنتاج واستثمار الطبيعة إلى أقصى حدٍّ ، هدف يسعى إليه مجتمع المتّقين ، وتفرضه النظرية التي يتبنّاها هذا المجتمع ويسير على ضوئها في الحياة .

والهدف في نفس الوقت مغلف بالإطار المذهبي ، ومحدّد بحدود المذهب كما يقرّره القرآن الكريم :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (٢) .

فالنهي عن الاعتداء في مجال الانتفاع بالطبيعة واستثمارها تعبير بالطريقة القرآنية عن ذلك الإطار المذهبي العام .

وسائل الإسلام في تنمية الإنتاج

والإسلام حين تبنّى هذا المبدأ ووضع تنمية الثروة والاستمتاع بالطبيعة هدفاً للمجتمع الإسلامي ، جنّد كلّ إمكاناته المذهبية لتحقيق هذا الهدف وإيجاد

ـــــــــــــــ

(١) الأمالي للشيخ الطوسي ١ : ٢٦ ـ ٢٧ .

(٢) سورة المائدة : ٨٧ .

٥٨٥

المقوّمات والوسائل التي يتوقّف عليها .

ووسائل تحقيق هذا الهدف على نوعين :

فهناك وسائل مذهبية ، من وظيفة المذهب الاجتماعي إيجادها وضمانها ، وهناك وسائل تطبيقية بحتة تمارسها الدولة التي تتبنّى ذلك المذهب الاجتماعي برسم سياسة عملية تواكب الاتجاه المذهبي العام .

وقد وفّر الإسلام الوسائل التي تدخل في نطاقه بوصفه مذهباً اجتماعياً ومركّباً حضارياً شاملاً .

أ- وسائل الإسلام من الناحية الفكرية :

فمن الناحية الفكرية ، حثّ الإسلام على العمل والإنتاج وقيّمه بقيمة كبيرة ، وربط به كرامة الإنسان وشأنه عند الله وحتى عقله وبذلك خلق الأرضية البشرية الصالحة لدفع الإنتاج وتنمية الثروة ، وأعطى مقاييس خُلقية وتقديرات معيّنة عن العمل والبطالة لم تكن معروفة من قبله ، وأصبح العمل في ضوء تلك المقاييس والتقديرات عبادة يثاب عليها المرء وأصبح العامل في سبيل قوته أفضل عند الله من المتعبّد الذي لا يعمل ، وصار الخمول أو الترفّع عن العمل نقصاً في إنسانية الإنسان وسبباً في تفاهته .

ففي الحديث أنّ الإمام جعفر سأل عن رجل ، فقيل : أصابته الحاجة ، وهو في البيت يعبد ربّه ، وإخوانه يقومون بمعيشته ، فقالعليه‌السلام :( الذي يَقوته أشدّ عبادةً منه ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٢٥ ـ ٢٦ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٣ ، مع تصرّفٍ يسير .

٥٨٦

وعن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه رفع يوماً يد عامل مكدود فقبّلها ، وقال :طلب الحلال فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ومَن أكل من كدِّ يده مرّ على الصراط كالبرق الخاطف ومن أكل من كدّ يده نظر الله إليه بالرحمة ثمّ لا يعذّبه أبداً ومن أكل من كدّ يده حلالاً فتح له أبواب الجنّة يدخل من أيّها شاء (١) .

وفي رواية أخرى : أنّ شخصاً مرّ بالإمام محمّد بن علي الباقر وهو يمارس العمل في أرض له ، ويجهد في ذلك حتى يتصابّ عرقاً : فقال له : أصلحك الله ، أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحالة ؟ فأجابه الإمام ـ وهو يعبّر عن مفهوم العمل في الإسلام ـ :( لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عزّ وجلّ ...) (٢)

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما جاء في سيرته الشريفة ـ يسأل عن الشخص إذا أعجبه مظهره ، فإنّ قيل له : ليست له حرفة ولا عمل يمارسه ، سقط من عينه ، ويقول :( إنّ المؤمن إذا لم تكن له حرفة يعيش بدينه ) (٣) .

وفي عدّة أحاديث جعل العمل جزءاً من الإيمان ، وقيل :( إنّ إصلاح المال من الإيمان ) (٤) وقيل في حديث نبوي آخر :( ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه الإنسان أو دابّته إلاّ وكتب له به صدقة ) (٥) .

ـــــــــــــــ

(١) راجع : مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٣ ـ ٢٤ ، الحديث ٥ و ٦ و ٧ وبحار الانوار ١٠٣ : ٩ وأُسد الغابة ٢ : ٢٦٩ .

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ١٩ ـ ٢٠ ، الباب ٤ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث الأول .

(٣) مستدرك وسائل الشيعة ١٣ : ١١ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٤ ، مع اختلافٍ يسير .

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٦٣ ، الباب ٢١ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢ .

(٥) صحيح البخاري ، المجلّد الاوّل ٣ : ١٣٥ ، باب فضل الزرع والغرس إذا أُكل منه ، مع تفاوت .

٥٨٧

وفي خبرٍ عن الإمام جعفرعليه‌السلام أنّه قال لمعاذ ـ وهو أحد أصحابه ممّن كان قد اعتزل العمل ـ : (يا معاذ ، أضعفت عن التجارة أو زهدت فيها ؟ فقال معاذ : ما ضعفت عنها ولا زهدت فيها عندي مال كثير ، وهو في يدي وليس لأحدٍ عليّ شيء ، ولا أراني آكله حتى أموت فقال له الإمام :لا تتركها فإنّ تركها مَذْهَبَةٌ للعقل )(١) .

وفي محاورة أخرى ، ردّ الإمام على مَن طلب منه الدعاء له بالرزق في دِعة ، فقال له :( لا أدعو لك ، أطلب كما أمرك الله عزّ وجلّ ) (٢) .

ويروى عن جماعة من الصحابة أنّهم اعتكفوا في بيوتهم وانصرفوا إلى العبادة عند نزول قوله تعالى :( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (٣) ، وقالوا قد كفانا فأرسل إليهم النبيّ قائلاً :( إنّ من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطلب ) (٤) .

وكما قاوم الإسلام فكرة البطالة وحثّ على العمل ، كذلك قاوم فكرة تعطيل بعض ثروات الطبيعة وتجميد بعض الأموال وسحبها عن مجال الانتفاع والاستثمار ، ودفع إلى توظيف أكبر قدر ممكن مِن قِوى الطبيعة وثرواتها للإنتاج وخدمة الإنسان في مجالات الانتفاع والاستثمار ، واعتبر الإسلام فكرة التعطيل أو إهمال بعض مصادر الطبيعة أو ثرواتها ، لوناً من الجحود وكفراناً بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها على عباده .

قال الله تعالى :( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ١٤ ، الباب ٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٤ .

(٢) المصدر السابق : ٢٠ ، الباب ٤ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٣ مع اختلاف يسير .

(٣) سورة الطلاق : ٢ ـ ٣

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٢٧ ـ ٢٨ ، الباب ٥ مقدّمات التجارة ، الحديث ٧ .

٥٨٨

الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (١) .

وقال يشجب أسطورة تحريم بعض الثروات الحيوانية :( مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) (٢) .

وقال وهو يهيب بالإنسان إلى استثمار مختلف المجالات :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (٣) .

وفضل الإسلام الإنفاق الإنتاجي ، على الإنفاق الاستهلاكي ، حرصاً منه على تنمية الإنتاج ، وزيادة الثروة كما جاء في النصوص المنقولة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة ، التي تنهي عن بيع العقار والدار ، وتبديد ثمن ذلك في الاستهلاك(٤) .

ب- وسائل الإسلام من الناحية التشريعية :

وأمّا من الناحية التشريعية فقد جاءت تشريعات الإسلام في كثير من الحقول ، تتفق مع مبدأ تنمية الإنتاج الذي يؤمن به الاقتصاد الإسلامي ، وتساعد على تطبيقه .

وفيما يلي نستعرض شيئاً من تلك التشريعات والأحكام :

١ ـ حكم الإسلام بانتزاع الأرض من صاحبها إذا عطّلها وأهملها حتى

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأعراف : ٣٢ .

(٢) سورة المائدة : ١٠٣ .

(٣) سورة الملك : ١٥ .

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٦٩ ـ ٧٢ ، الباب ٢٤ من أبواب مقدّمات التجارة .

٥٨٩

خربت وامتنع عن إعمارها ، وعلى هذا الأساس يستولي ولي الأمر في هذه الحالة على الأرض ويستثمرها بالأسلوب الذي يختاره ؛ لأنّ الأرض لا يجوز أن يعطّل دورها الايجابي في الإنتاج ، بل يجب أن تظلّ دائماً عاملاً قويّاً يساهم في رخاء الإنسان ويسر الحياة ، فإذا حال الحقّ الخاص دون قيامها بهذا الدور ، أُلغي هذا الحقّ وكيّفت بالشكل الذي يتيح لها الإنتاج (١) .

٢ ـ منع الإسلام عن الحمى وهو : السيطرة على مساحة الأرض الغامرة وحمايتها بالقوّة دون ممارسة عمل في إحيائها واستثمارها ، وربط الحقّ في الأرض بعملية الإحياء وما إليها ، دون أعمال القوّة التي لا شأن لها في الإنتاج وفي استثمار الأرض لصالح الإنسان(٢) .

٣ ـ لم يعط الإسلام للأفراد الذين يبدأون عملية إحياء المصادر الطبيعية الحقّ في تجميد تلك المصادر وتعطيل العمل لإحيائها ، ولم يسمح لهم بالاحتفاظ بها في حالة توقّفهم عن مواصلة العمل في هذا السبيل ؛ لأنّ استمرار سيطرتهم عليها في هذه الحالة يؤدّي إلى حرمان الإنتاج من طاقات تلك المصادر وإمكاناتها .

ولهذا كلّف ولي الأمر في الإسلام بانتزاع المصادر من أصحابها إذا أوقفوا أعمالهم في إحيائها ، ولم يمكن إغراؤهم بمواصلة العمل فيها(٣) .

٤ ـ لم يسمح الإسلام لولي الأمر بإقطاع الفرد شيئاً من مصادر الطبيعة إلاّ بالقدر الذي يتمكّن الفرد من استثماره والعمل فيه(٤) ، لأنّ إقطاع ما يزيد على

ـــــــــــــــ

(١) و (٢) لاحظ : البناء العُلْوي لنظرية توزيع ما قبل الإنتاج (المؤلّف قدّس سرّه) .

(٣) راجع المبسوط ٣ : ٢٧٣ .

(٤) لاحظ في ذلك : نفس البناء المتقدّم (المؤلّف قدّس سرّه) .

٥٩٠

قدرته يبدد ثروات الطبيعة وإمكاناتها الإنتاجية .

٥ ـ حرّم الإسلام الكسب بدون عمل ، عن طريق استئجار الفرد أرضاً بأجرة وإيجارها بأجرة أكبر للحصول على التفاوت بين الأجرتين ، وما يشابه ذلك من الفروض التي تحدّثنا عنها سابقاً(١) .

ومن الواضح أنّ إلغاء دور هذا الوسيط بين مالك الأرض والفلاّح المباشر لزراعتها يوفّر على الإنتاج ؛ لأنّ هذا الوسيط لا يقوم بأي دور إيجابي للإنتاج ، وإنّما يعيش على حساب الإنتاج بدون خدمة يقدّمها إليه .

٦- حرّم الإسلام الفائدة ، وألغى رأس المال الرِّبوي ، وبذلك ضمن تحوّل رأس المال هذا في المجتمع الإسلامي إلى رأس مال منتج يساهم في المشاريع الصناعية والتجارية .

وهذا التحوّل يحقّق مكسبين للإنتاج :

أحدهما : القضاء على التناقض المرير بين مصالح التجارة والصناعة ، ومصالح رأس المال الرِّبوي ، فإنّ الرأسماليين في المجتمعات التي تؤمن بالفائدة ينتظرون دائماً فرصتهم الذهبية حين تشتدّ حاجة رجال الأعمال في التجارة والصناعة إلى المال ويزيد طلبهم عليه ؛ لكي يرفعوا سعر الفائدة ويمسكوا بأموالهم طلباً لأعلى سعر ممكنٍ لها .

وأمّا حين ينخفض الطلب على المال من رجال الأعمال وتقلّ حاجتهم إليه ، ويهبط تبعاً لذلك سعر الفائدة فسوف نجد الرأسماليين وهم يعرضون أموالهم بكلّ سخاء وبأزهد الأجور ، ومن الواضح أنّ إلغاء الفائدة يضع حداً لهذا التناقض ، الذي تعيشه طبقة المُرابين ، وطبقة التّجار في المجتمع الرأسمالي ؛ لأنّ إلغاء الفائدة

ـــــــــــــــ

(١) يراجع : وسائل الشيعة ١٩ : ١٢٦ ـ ١٣٤ ، الباب ٢١ ـ ٢٣ من أبواب التجارة .

٥٩١

سوف يؤدّي بطبيعة الحال إلى تحويل الرأسماليين الذين كانوا يقرضون أموالهم بفائدة ، إلى مضاربين يساهمون في مشاريع صناعية وتجارية على أساس الاشتراك في الأرباح ، وبذلك يتحدّد الموقف ويصبح رأس المال في خدمة التجارة والصناعة ، يلبّي حاجاتها ويواكب نشاطها .

والمكسب الآخر للإنتاج ، هو أنّ تلك الأموال التي حُوّلت إلى ميادين الصناعة والتجارة ، سوف تستخدم بعزم وطمأنينة في مشاريع ضخمة وأعمال طويلة الأمد ؛ لأنّ صاحب المال سوف لن يبقى أمامه بعد إلغاء الفائدة إلاّ أمل الربح ، وهو يحرّكه نحو اقتحام تلك المشاريع الضخمة المغرية بأرباحها ونتائجها ، خلافاً لحاله في مجتمع يسيطر عليه نظام الفائدة ، فإنّه يفضّل إقراض المال بفائدة على توظيفه في تلك المشاريع ؛ لأنّ الفائدة مضمونة على أيّ حال ، وسوف يفضّل أيضاً أن يقرض المال لأجلٍ قصير ويتحاشى. الإقراض لمدّة طويلة لِئلا يفوته شيء من سعر الفائدة ، إذا ارتفع في المستقبل البعيد سعرها ، وبذلك سوف يضطر المقترضون مادام أجل الوفاء قريباً إلى استخدام أموالهم في مشاريع قصيرة الأمد ليكون في إمكانهم إعادة المبلغ في الوقت المحدّد مع الفائدة المتّفق عليها إلى الرأسمالي الدائن .

وعلاوة على هذا ، فإنّ رجال الأعمال في ظلّ نظام الفائدة سوف لن يُقدِموا على اقتراض المال من الرأسماليين وتوظيفه في مشروع تجاري أو صناعي ما لم تبرهن الظروف على أنّ بإمكانهم الحصول على ربحٍ يزيد عن الفائدة التي يتقاضاها الرأسمالي ، وهذا يعيقهم عن ممارسة كثير من ألوان النشاط في كثير من الظروف ، كما يجمّد المال في جيوب الرأسماليين ويحرمه من المساهمة في الحقل الاقتصادي ، ولا يسمح له بأيّ لون من ألوان الإنفاق الإنتاجي أو الاستهلاكي ، الأمر الذي يؤدّي إلى عدم إمكان تصريف كلّ المنتجات ، وكساد السوق ، وظهور الأزمات وتزلزل الحياة الاقتصادية .

٥٩٢

وأمّا عند إلغاء الفائدة وتحوّل الرأسماليين المرابين إلى تجّار مساهمين مباشرة في مختلف المشاريع التجارية والصناعية ، فإنّهم سوف يجدون من مصلحتهم الاكتفاء بقدر أقلّ من الربح ؛ لأنّهم لن يضطروا إلى تسليم جزء منه باسم فوائد ، وسوف يجدون من مصلحتهم أيضاً توظيف الفائض عن حاجتهم من الأرباح في مشاريع الإنتاج والتجارة ، وبذلك يتمّ إنفاق الناتج كلّه إنفاقاً استهلاكياً وإنتاجياً بدلاً من تجميد جزء منه في جيوب المُرابين بالرغم من حاجة التجارة والصناعة إليه ، وتوقّف تصريف جزء من المنتجات على إنفاقه .

٧- حرّم الإسلام بعض الأعمال العقيمة من الناحية الإنتاجية ، كالمقامرة والسحر والشعوذة(١) ، ولم يسمح بالاكتساب عن طريق أعمال من هذا القبيل ، بأخذ أجرة على القيام بها( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) (٢) . فإنّ هذه الأعمال تبديد للطاقات الصالحة المنتجة في الإنسان ، والأجور الباطلة التي تدفع لأصحابها هدر لتلك الأموال التي كان بالإمكان تحويلها إلى عامل تنمية وإنتاج ونظرة شاملة في التأريخ والواقع المعاش ، يكشف لنا عن مدى التبذير الذي ينتج عن هذا النوع من الأعمال والاكتساب بها ، وفداحة الخسارة التي يُمنى بها الإنتاج ، وكلّ الأهداف الصالحة ، بسبب تبديد تلك الطاقات والجهود والأموال .

٨ ـ مَنع الإسلام من اكتناز النقود(٣) ، وسحبها عن مجال التداول وتجميدها ،

ـــــــــــــــ

(١) راجع : وسائل الشيعة ١٧ : ١٦٤ ـ ١٦٨ ، الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به ، و : ١٤٥ ـ ١٤٩ ، من أبواب ما يكتسب به .

(٢) سورة البقرة : ١٨٨ .

(٣) راجع : وسائل الشيعة ٩ : ٣٠ و ٣١ ، الباب ٤ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ٢٨ .

٥٩٣

وذلك عن طريق فرض ضريبة على ما يكنز من النقود الذهبية والفضّية ، التي كانت الدولة الإسلامية تجري على أساسها ، وهي : ضريبة الزكاة ، التي تستنفد المال المدّخر على مرّ الزمن ؛ لأنّها تتكرّر في كلّ عام ، وتقطع كلّ مرّة ربع العشر من المال المدّخر ، ولا تتركه الضريبة حتى تنخفض به إلى عشرين ديناراً ولأجل هذا تعتبر الزكاة مصادرة تدريجية للمال الذي يكنز ويجمّد عن العمل ، وبالقضاء على الاكتناز هذا تندفع جميع الأموال إلى حقول النشاط الاقتصادي وتمارس دوراً إيجابياً في الحياة الاقتصادية ، وبذلك يكسب الإنتاج كثيراً من تلك الأموال التي كانت تؤثِر بطبيعتها ـ لولا ضريبة المال المكتنز ـ أن تختفي في جيوب أصحابها بدلاً عن المساهمة في المشاريع الصناعية والزراعية وما إليها .

والواقع أنّ منع الإسلام من اكتناز النقود ليس مجرّد ظاهرة عرضية في التشريع الإسلامي ، بل إنّه يعبّر عن أحد أوجه الخلاف الخطير بين المذهب الإسلامي والمذهب الرأسمالي ، ويعكس الطريقة التي استطاع الإسلام بها أن يتخلّص من مشاكل الرأسمالية الناجمة عن شذوذ الدور الرأسمالي للنقد الذي يؤدّي إلى أخطر المضاعفات ، ويهدّد حركة الإنتاج ويعصف بالمجتمع الرأسمالي باستمرار .

ولكي يتّضح الخلاف الخطير بين المذهبين في هذه النقطة ، يجب أن نميز بين الدور الأصيل للنقد والدور الطارئ الذي يمارسه في ظلّ الرأسمالية ، وندرك اختلاف هذين الدورين في نتائجهما وآثارهما على حركة الإنتاج وغيرها .

فالنقد بطبيعته أداة للتبادل ، وقد استخدمه الإنسان في المبادلة تفادياً من مشاكل المقايضة التي كانت تتولّد عن مبادلة المنتجات بشكل مباشر فقد وجد المنتجون الأوائل ، بعد تقسيم العمل وإقامة حياتهم على أساس المبادلة ، أنّ من الصعب عليهم تبادل منتوجاتهم مباشرة ؛ لأنّ منتِج الحنطة إذا احتاج في حياته

٥٩٤

إلى صوف فلا يستطيع الحصول عليه من منتِج الصوف في مقابل الحنطة إلاّ إذا كان صاحب الصوف بدوره محتاجاً إلى حنطة والراعي إذا أراد الحصول على حاجته اليومية من الحنطة ، فسوف لن يقدر على ذلك عن طريق المقايضة ؛ لأنّ الغنم الذي يرعاه تزيد قيمته على قيمة الحنطة التي يود الحصول عليها لحاجته اليومية ، ولا يمكنه تجزئة الغنم لأجل ذلك .

وإضافة إلى هذا ، فإنّ المبادلة المباشرة للمنتجات كانت تواجه صعوبة تقدير قيم الأشياء المعدّة للمبادلة إذ كان لا بدّ لمعرفة قيمة السلعة من مقارنتها بجميع السلع الأخرى ، حتى تعرف قيمتها بالنسبة إليها جميعاً(١) ، فكان اختراع النقد علاجاً لهذه المشاكل كلّها ؛ إذ قام بدور المقياس العام للقيمة من ناحية ، وأصبح أداة للمبادلة من ناحية أخرى ، فهو من الناحية الأولى يستخدم كمحدّد لقيم الأشياء ، فبمقارنة سائر السلع بالسلعة التي أنتجت لتكون نقداً تحدّد قيمتها ومن الناحية الثانية يستعمل النقد وسيلة للتداول ، فبعد أنّ كان التداول يقوم على أساس المقايضة وبيع حنطة بصوف ، جاءت النقود فحوّلت عملية البيع هذه إلى عمليتين وهما البيع والشراء ، فصاحب الحنطة يبيع الحنطة بمئة درهم ، ثمّ يمارس عملية أخرى ، فيشتري بهذا النقد حاجته من الصوف وبهذا قامت مبادلتان مقام المبادلة المباشرة بين المنتجات ، وزالت بسبب ذلك كلّ الصعوبات التي كانت تنجم عن نظام المقايضة .

وهكذا نعرف أنّ الدور الأصيل الذي وجد النقد ليمارسه هو دور المقياس العام للقيمة ، والأداة العامة في التداول .

ولكنّ النقد بعد ذلك لم يقتصر على أداء دوره ، وممارسة وظيفته في التغلّب

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الكتاب الأوّل ، مبحث : التداول .

٥٩٥

على صعوبات المقايضة ومشاكلها ، بل استخدم للقيام بدور آخر طارئ لا يمتُّ إلى التغلّب على تلك الصعاب والمشاكل بصلة ، وهو دور الاكتناز والادخار وذلك أنّ دخول النقد في مجال التداول حوّل العملية الواحدة ـ بيع الحنطة بصوف ـ إلى عمليّتين ، وأصبح منتِج الحنطة يبيع منتوجة ثمّ يشتري الصوف ، بعد أن كان يبيع الحنطة ويشتري الصوف في مبادلة واحدة ، وهذا الفصل بين عمليتي بيع الحنطة وشراء الصوف أتاح لبائع الحنطة أن يؤجّل شراء الصوف ، بل جعل في ميسوره أن يبيع الحنطة لا لشيء إلاّ لرغبة في تحويل الحنطة إلى نقد ، والاحتفاظ بالنقد إلى وقت الحاجة فنشأ عن ذلك دور النقد بوصفه أداة لاكتناز المال وادخاره .

وقد لعب هذا الدور الطارئ للنقد كأداة للاكتناز أخطر لعبة في ظلّ الرأسمالية التي شجعت الادّخار ، وجعلت من الفائدة أكبر قوّة للإغراء بذلك ، فأدّى هذا إلى اختلال التوازن بين الطلب الكلّي والعَرْض الكلّي لمجموع السلع الإنتاجية والاستهلاكية ، بينما كان هذا التوازن مضموناً في عهد المقايضة التي تقوم على أساس المبادلة المباشرة بين المنتجات ، لأنّ المنتج في تلك العهود لم يكن ينتج إلاّ ليستهلك ما ينتجه ، أو يستبدله بسلعة أخرى يستهلكها ، فالسلعة التي تنتج تضمن دائماً طلباً بقدرها فيتساوى الإنتاج والاستهلاك ، أو العرض الكلي مع مجموع الطلب .

وأمّا في عصر النقد بعد انفصال عملية الشراء عن البيع ، فليس من الضروري للمنتج أن يكون لديه طلب يساوي السلعة التي ينتجها ، إذ قد ينتج بقصد أن يبيع ويحصل على نقد ليضيفه إلى ما ادّخره من نقود ، لا ليشتري به سلعة من منتج آخر ، فيوجد في هذه الحال عرض لا يقابله طلب ، ويختلّ لأجل ذلك التوازن بين العرض العام والطلب العام ، ويتعمّق هذا الاختلال بقدر ما تبرز إرادة الاكتناز

٥٩٦

وتتّسع ظاهرة الادخار لدى المنتجين والبائعين ، ونتيجة لذلك يظلّ جزءً كبير من الثروة المنتَجة دون تصريف ، وتعاني السوق الرأسمالية مشكلة تصريفها وأزمة تكدّسها ، وتتعرّض حركة الإنتاج وبالتالي الحياة الاقتصادية عموماً لأشدّ الأخطار .

وقد ظلّت الرأسمالية ردحاً من الزمن لا تدرك حقيقة هذه المشاكل التي تنجم عن دور الاكتناز الذي يمارسه النقد انسياقاً منها معنظرية التصريف التي تقول : إنّ الشخص عندما يريد بيع سلعة معيّنة لا يرغب في النقود لذاتها ، بل للحصول على سلعة أخرى تشبع حاجاته ، وهذا يعني أنّ إنتاج أيّة سلعة يخلق طلباً مماثلاً على سلعة أخرى ، فيتساوى العرض والطلب دائماً .

فالنظرية تفترض أنّ بائع السلعة يستهدف دائماً من ذلك الحصول على سلعة أخرى ، مع أنّ هذا الافتراض إنّما يصح في عصر المقايضة الذي تزدوج فيه عملية الشراء وعملية البيع ، ولا يصدق على عصر النقد الذي يتيح للتاجر أن يبيع السلعة بقصد الحصول على المزيد من النقد وادخاره واكتنازه ، لأجل توظيفه بعد ذلك في عمليات القرض بفائدة .

وفي هذه المعلومات عن النقود ودورها الأصيل ودورها الطارئ ونتائجهما ، نستطيع أن ندرك الاختلاف الجوهري بين الإسلام والرأسمالية ، فبينما تقرّ الرأسمالية استعمال النقد أداة للاكتناز وتشجّع عليه بتشريع نظام الفائدة ، يحاربه الإسلام بفرض ضريبة على النقد المكتنز ، ويحثّ على إنفاق المال في المجالات الاستهلاكية والإنتاجية ، حتى جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عيه السلام) :( إنّ الله إنّما أعطاكم هذه الفضول من الأموال ، لتوجّهوها حيث وجّهها الله ، ولم يعطكموها لتكنزوها ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) الفروع من الكافي ٤ : ٣٢ ، الحديث ٥ .

٥٩٧

والإسلام بمحاربته للاكتناز يقضي على مشكلةٍ من أهمّ مشاكل الإنتاج التي تُمنى بها الرأسمالية ، وهو على علم بأنّ المجتمع الإسلامي الذي ينظّمه ليس مضطراً إلى الاكتناز والادخار في سبيل تنمية الإنتاج فيه ، وإقامة المشاريع الكبيرة ، كما هي الحال بالنسبة إلى المجتمع الرأسمالي ، الذي تمكّن عن طريق الاكتناز والادخار من تكوين رؤوس أموال ضخمة نتيجة لتجميع المدّخرات عن طريق المصارف وغيرها ، واستطاع أن يستخدم تلك الكمّيات الهائلة المتجمّعة من النقد في أضخم مشاريع الإنتاج فإنّ المجتمع الرأسمالي لمّا كانت الملكية الخاصة هي التي تسيطر عليه ، فكان لا بدّ له من ملكيات خاصة ضخمة للاستعانة بها في مشاريع الإنتاج الكبرى ، وحيث لم يكن من الميسور تكوين تلك الملكيّات إلاّ بالتشجيع على الادخار وتجميع المدخرات بعد ذلك عن طريق المصارف الرأسمالية ، فكان المجتمع الرأسمالي مضطرّاً إلى اتّخاذ هذه الخطوات لأجل تنمية الإنتاج وتضخيمه ، وأمّا المجتمع الإسلامي فيمكنه الاعتماد على حقول الملكية العامة وملكية الدولة في مشاريع الإنتاج الكبرى ، ويبقى للملكيّات الخاصة المجالات التي تتّسع لها إمكاناتها .

٩ ـ تحريم اللهو والمجون ، فقد جاء في الأحاديث النهي عمّا يلهو عن ذكر الله ، والمنع عن عدّة ألوان من اللهو التي تؤدّي إلى تذويب الشخصية الجدّية للإنسان وميوعته(١) ، وبالتالي إلى عزله عن مجال الإنتاج والعمل الحقيقي المثمر ، وإيثاره حياة اللعب واللهو بقدر ما تؤاتيه الظروف على حياة الجِدِّ والعمل ، وألوان الإنتاج المادّي والمعنوي .

١٠ ـ محاولة المنع من تركّز الثروة ، وفقاً للنصّ القرآني الكريم :( كَيْ لا

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٣١٢ ـ ٣١٨ ، الباب ١٠٠ و ١٠١ من أبواب ما يكتسب به .

٥٩٨

يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ) (١) ، كما سنشرح ذلك في دراستنا لنظرية التوازن الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي .

وهذا المنع عن التركّز وإن كان يرتبط بصورة مباشرة بالتوزيع ، ولكنّه يرتبط أيضاً بشكل غير مباشر بالإنتاج ، ويؤدّي إلى الإضرار به لأنّ الثروة حين تتركّز في أيدٍ قليلة ، يعمّ البؤس وتشتد الحاجة لدى الكثرة الكاثرة ونتيجة لذلك سوف يعجز الجمهور عن استهلاك ما يشبع حاجاتهم من السلع لانخفاض قوّتهم الشرائية فتتكدّس المنتجات دون تصريف ، ويسيطر الكساد على الصناعة والتجارة ويتوقّف الإنتاج .

١١ ـ التقليص من مناورات التجارة ، واعتبارها من حيث المبدأ شعبة من الإنتاج ، كما سيأتي في مرحلة أخرى من مراحل الكشف عن نظرية الإنتاج ، وسوف نرى عندئذٍ مدى تأثير ذلك على الإنتاج وتنميته .

١٢ ـ منح الإسلام ملكية المال بعد موت المالك إلى أقربائه وهذا هو الجانب الإيجابي من أحكام الإرث الذي يمكن اعتباره في القطاع الخاص عاملاً دافعاً للإنسان نحو العمل وممارسته ألوان النشاط الاقتصادي ، بل عاملاً أساسياً في الأشواط الأخيرة من حياة الإنسان التي تتضاءل فيها فكرة المستقبل عنده وتحتلّ موضعها فكرة الأبناء والقربى ، فيجد في أحكام الإرث التي توزّع أمواله بعده بين أقربائه الأدنين ما يغريه بالعمل ويدفعه إلى تنمية الثروة حرصاً على مصالح أهله بوصفهم امتداداً لوجوده .

وأمّا الجانب السلبي من أحكام الإرث الذي يقطع صلة المالك بماله بعد موته ولا يسمح له أن يقرّر مصير ثروته بنفسه ، فهو نتيجة لنظرية توزيع ما قبل الإنتاج ومرتبط بها كما عرفنا سابقاً .

ـــــــــــــــ

(١) سورة الحشر : ٧ .

٥٩٩

١٣ ـ وضع الإسلام المبادئ التشريعية للضمان الاجتماعي ، كما سنشرحه في بحث مقبل والضمان الاجتماعي يقوم بدور كبير في القطاع الخاص ؛ لأنّ إحساس الفرد بأنّه مضمون من قِبل الدولة ، وأنّ مستوى كريماً من الحياة مكفولٌ له ولو خسر في مشروعه ، رصيد نفسي كبير يَزيد من شجاعته ويدفع به إلى مختلف ميادين الإنتاج ، وينمّي فيه عنصر الإبداع والابتكار ، خلافاً لمن يفقد ذلك الضمان ولا يحسّ بتلك الكفالة ، فإنّه كثير من الأحايين يحجم عن ألوان من النشاط والتجديد ؛ خوفاً من الخسارة المحتملة التي لا تهدّد ماله فحسب ، بل تهدّد حياته وكرامته مادام لن يجد من يكفله ويوفّر له أسباب الحياة الكريمة إذا خسر ماله وضاع في خضمّ التيار ولأجل ذلك لن تواتيه تلك الشجاعة وذلك العزم الذي يبعثه الضمان الاجتماعي في نفوس الأفراد الذين يعيشون في كنفه .

١٤ ـ حَرَم الإسلام القادرين على العمل والنشاط الاقتصادي من الضمان الاجتماعي ، ومنعهم من الاستجداء(١) ، وبذلك سدّ عليهم منافذ التهرّب من العمل المثمر وهذا يؤدّي بطبيعته إلى تجنيد طاقاتهم للإنتاج والاستثمار .

١٥ ـ حرّم الإسلام الإسراف والتبذير(٢) ، وهذا التحريم يحدّ من الحاجات الاستهلاكية ويهيئ كثيراً من الأموال للأنفاق الإنتاجي بدلاً عن الإنفاق الاستهلاكي في مجالات الإسراف والتبذير .

١٦ ـ أوجب الإسلام على المسلمين ـ كفايةً ـ تعلّم جميع الفنون والصناعات التي تنتظم بها الحياة .

١٧ ـ بل إنّ الإسلام لم يكتف بذلك ، بل أوجب على المسلمين الحصول

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٤٣٦ ـ ٤٣٨ ، الباب ٣ من أبواب الصدقة .

(٢) المصدر السابق ١٥ : ٣٢٩ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣٣ و ٣٦ .

٦٠٠