اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 146455
تحميل: 8781

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 146455 / تحميل: 8781
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

على أكبر قدر ممكن وأعلى مستوى من الخبرة الحياتية العامة في كلّ الميادين ؛ ليتاح للمجتمع الإسلامي امتلاك جميع الوسائل المعنوية والعلمية والمادّية التي تساعده على دوره القيادي للعالم ، بما فيها وسائل الإنتاج وإمكاناته المتنوّعة .

قال الله تعالى :( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ) (١) . والقوّة هنا جاءت في النصّ مطلقة دون تحديد ، فهي تشمل كلّ ألوان القوّة التي تزيد من قدرة الأمّة القائدة على حمل رسالتها إلى كلّ شعوب العالم وفي طليعة تلك القوى الوسائل المعنوية والمادّية لتنمية الثروة ، ووضع الطبيعة في خدمة الإنسان .

١٨ ـ مكّن الإسلام الدولة من قيادة جميع قطاعات الإنتاج عن طريق ممارستها للقطاع العام ، ومن الواضح أنّ وضع مجال كبير من ملكية الدولة والملكية العامة في تجربة تمارسها الدولة سوف يجعل من هذه التجربة قوّة مُوجِّهة وقائدة للحقول الأخرى ، ويتيح لمشاريع الإنتاج المماثلة الاسترشاد بتلك التجربة واتّباع أفضل الأساليب في تحسين الإنتاج وتنمية الثروة .

١٩ ـ منح الإسلام الدولة القدرة على تجميع عدد كبير من القوى البشرية العاملة ، والاستفادة منها في مجالات القطاع العام وبذلك يمكن للدولة أن تحول دون تبديد الفائض عن حاجة القطاع الخاص من تلك القوى البشرية ، وتضمن مساهمة جميع الطاقات في حركة الإنتاج الكلّي .

٢٠ ـ وأخيراً فقد أعطيت الدولة ـ على أساس أحكام معيّنة سندرسها في المراحل الآتية من نظرية الإنتاج ـ الحقّ في الإشراف على الإنتاج ، وتخطيطه مركزياً ، لتفادي الفوضى التي تؤدّي إلى شلّ حركة الإنتاج ، وتعصف بالحياة الاقتصادية .

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأنفال : ٦٠ ، ولاحظ : نور الثقلين ٢ : ١٦٤ ـ ١٦٥

٦٠١

ج ـ السياسة الاقتصادية لتنمية الإنتاج :

هذه هي الخدمات التي قدّمها الإسلام بوصفه المذهبي لتنمية الإنتاج وزيادة الثروة وترك بعد ذلك للدولة أن تدرس الشروط الموضوعية للحياة الاقتصادية ، وتحصي ما في البلاد من ثروات طبيعية ، وتستوعب ما يختزنه للمجتمع من طاقات وما يعيشه من مشاكل ، وتضع على ضوء ذلك كلّه وفي الحدود المذهبية ، السياسة الاقتصادية التي تؤدّي إلى زيادة الإنتاج ونموّ الثروة ، وتضمن يسر الحياة ورخاء المعيشة .

وعلى هذا الأساس نعرف علاقة المذهب بالسياسة الاقتصادية التي ترسمها الدولة وتحدّدها إلى مدى خمس سنوات أو سبع أو أكثر أو أقل للوصول إلى أهداف معيّنة في نهاية تلك المدّة فإنّ هذه السياسة ليست جزءاً من المذهب ، ولا من وظيفة المذهب وضعها وتحديدها ؛ لأنّها تختلف باختلاف الظروف الموضوعية ، ونوع الإمكانات التي يملكها المجتمع ، وطبيعة المشاكل والصعاب التي لا بدّ من التغلّب عليها .

فالبلاد الكثيفة السكّان بدرجةٍ كبيرةٍ ـ مثلاً ـ تختلف عن البلاد القليلة السكّان الواسعة الأرجاء في إمكاناتها ومشاكلها وأساليب التغلّب على هذه المشاكل وتعبئة تلك الإمكانات ، وهكذا يكون لكلّ ظرفٍ موضوعي أثره في تحديد السياسة التي يجب إنتاجها .

ولهذا كان لزاماً على المذهب أن يترك رسم تفاصيل هذه السياسة إلى الدولة ، لتصنع التصميم الذي يتّفق مع الظروف التي تكتنفها ، ويقتصر المذهب على وضع الأهداف الرئيسية للسياسة الاقتصادية ، وحدودها العامة ، وإطارها المذهبي الشامل ، الذي يجب على الدولة التقيّد به ووضع سياستها ضمنه .

٦٠٢

لمـاذا ننتـج

كنا ندرس من نظرية الإنتاج النقطة المتّفق عليها مذهبياً بين مختلف الاتجاهات الفكرية للمذاهب الاقتصادية ، بدأنا بها لنجعل منها المحور الذي ننطلق منه لدراسة الخلافات المذهبية وتفاصيلها .

فقد عرفنا أنّ مبدأ تنمية الإنتاج واستثمار الطبيعة إلى أبعد حدٍ من المبادئ الأساسية في النظرية الإسلامية، ومن الأهداف التي يتّفق فيها الإسلام مع سائر المذاهب .

ولكنّ هذه المذاهب بالرغم من اتّفاقها على هذا المبدأ تختلف في مواجهة التفصيلات وطريقة التفكير فيها ؛ تبعاً لاختلاف قواعدها الفكرية وإطارها الحضاري العام ، ومفاهيمها عن الكون والحياة والمجتمع .

فهناك مثلاً الاختلاف بين تلك المذاهب في الهدف الأصيل من تنمية الثروة ودورها في حياة الإنسان ، فسؤال لماذا ننتج ؟ وما هو دور الثروة ؟ يجيب عليه كلّ مذهب بطريقته الخاصة ، وِفقاً لأساسه الفكري والنظرة العامة التي يتبنّاها .

ونحن في دراستنا للمذهب في الإسلام ، أو حين ندرس

٦٠٣

أيّ مذهب اقتصادي آخر وموقفه من الإنتاج ، لا يكفينا أن نعرف إيمان المذهب بمبدأ تنمية الإنتاج والثروة ، بل يجب أن نستوعب الأساس الفكري لذلك ، الذي يشرح مفهوم المذهب عن الثروة ودورها وأهدافها فإنّ تنمية الثروة تتكيّف وفقاً لأساسها الفكري والنظرة العامة التي ترتبط بها فقد تختلف تنمية الثروة على أساس فكري معيّن عن تنميتها على أساس فكريّ آخر ، تبعاً لما يفرضه الأساس الفكري من إطار للتنمية وأساليب لتحقيقها.

وفي سبيل تحديد الأساس الفكري للتنمية لا يمكن أن نفصل المذهب الاقتصادي ، بوصفه جزءاً من مركب حضاري كامل ، عن الحضارة التي ينتمي إليها ومفاهيمها عن الحياة والكون .

وعلى هذا الأساس سوف نأخذ الرأسمالية والاقتصاد الإسلامي وندرس مفاهيمها عن الإنتاج ودوره وأهدافه ، لا بوصفها مذهبين اقتصاديين فحسب ، بل بوصفها ـ إضافة إلى ذلك ـ واجهتين لحضارتين مختلفتين ، لنقدّم الأساس الفكري لتنمية الإنتاج من وجهة نظر الإسلام ، مقارناً بالأساس الفكري لتنمية الثروة في الرأسمالية .

ففي الحضارة المادّية الحديثة التي مثّلت الرأسمالية تأريخياً واجهتها المذهبية الاقتصادية ، تعتبر تنمية الثروة عادة هدفاً أصيلاً وغاية أساسية ؛ لأنّ المادّة هي كلّ شيء في المقاييس التي يسير عليها إنسان هذه الحضارة في حياته فهو لا يرى غاية وراءها ولهذا يسعى إلى تنمية لأجل الثروة نفسها وتحقيقاً لأكبر قدر ممكن من الرخاء المادّي .

كما أنّ الرأسمالية تنظر في الأساليب التي تتبعها لتحقيق هذا الهدف إلى تنمية الثروة بوضعها الكلّي ، وبشكل منفصلٍ عن التوزيع فهي ترى أنّ الهدف

٦٠٤

يتحقّق إذا ازداد مجموع ثروة المجتمع ، بقطع النظر عن مدى انتشار هذه الثروة في المجتمع ، وعن نصيب أفراده من اليسر والرخاء الذي توفّره تلك الثروة ، ولهذا شجّع المذهب الرأسمالي على استخدام الآلة الصناعية في عهد الصناعة الآلية ؛ لأنّها تساهم في زيادة الثروة الكلّية للمجتمع ولو عطّلت الآلاف ممّن لم يكن يملك الآلة الجديدة ، وأدّت إلى انهيار مشاريعهم .

فالثروة في الحضارة المادّية هدف أصيل ، ونموّ الثروة في المفهوم الرأسمالي يقاس بازدياد مجموع الثروة الكلّية في المجتمع .

والمشكلة الاقتصادية ترتبط في التفكير الرأسمالي بندرة الإنتاج ، وعدم سخاء الطبيعة ، وإحجامها عن تلبية كلّ الطلبات ، ولأجل هذا كان علاج المشكلة مرتبطاً بتنمية الإنتاج ، واستغلال قوى الطبيعة وكنوزها إلى أبعد حدٍّ ، بالقضاء على مقاومتها ومضاعفة إخضاعها للإنسان .

وللإسلام موقفه المختلف في كلّ ذلك .

فلا نموّ الثروة هو الهدف الأصيل في الإسلام ، وإن كان ممّا يستهدفه .

ولا ينظر الإسلام إلى نموّ الثروة بشكلٍ منفصلٍ عن التوزيع وعلى أساس الثروة الكلّية .

ولا المشكلة الاقتصادية تنبع من ندرة الإنتاج ، ليكون علاجها الأساسي بتنمية مجموع الثروة الكلّية .

وفيما يلي تفصيل الموقف الإسلامي .

١ ـ مفهوم الإسلام عن الثروة :

ففيما يتّصل بالنظر إلى الثروة كهدف أصيل ، يمكننا أن نحدّد نظرة الإسلام

٦٠٥

إلى الثروة في ضوء النصوص التي عالجت هذه الناحية ، وحاولت أن تشرح المفهوم الإسلامي للثروة .

وهذه النصوص يمكن تصنيفها إلى فئتين ، وقد يجد الدارس لأوّل وهلةً تناقضاً بينهما في معطياتهما الفكرية عن الثروة وأهدافها ودورها ، ولكنّ عملية التركيب بين تلك المعطيات تحلّ التناقض ، وتبلور المفهوم الكامل للإسلام عن تنمية الثروة بكلا حدّيه .

ففي إحدى الفئتين تندرج النصوص التالية :

أ ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( نِعمَ العونُ على تقوى الله الغِنى ) (١) .

ب ـ وعن الإمام الصادقعليه‌السلام :( أنَّ نِعمَ العون على الآخرة الدنيا ) (٢) .

ج ـ وعن الإمام الباقرعليه‌السلام :( أنَّ نِعمَ العون الدنيا على طلب الآخرة ) (٣) .

د ـ وعن الرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( اللّهمّ بارك لنا في الخبز ، ولا تفرّق بيننا وبينه ، ولولا الخبز ما صليّنا ، ولا صمنا ، ولا أدّينا فرائض ربّنا ) (٤) .

هـ ـ وعن الصادقعليه‌السلام :( لا خير فيمن لا يحبّ جمع المال من حلال ؛ يكفّ به وجهه ، ويقضي به دينه ، ويصل به رَحِمَه ) (٥) .

و ـ وقال رجل للصادقعليه‌السلام : والله إنّا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها فقال له :(تحبّ أن تصنع بها ماذا ؟ قال أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصِل بها

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ١٧ : ٧٦ ، الباب ٢٨ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٣ .

(٢) المصدر السابق : ٢٩ ـ ٣١ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢ .

(٣) المصدر السابق : الحديث ٥ .

(٤) المصدر السابق : الحديث ٦ .

(٥) المصدر السابق : ٣٣ ـ ٣٤ ، الباب ٧ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث الأوّل .

٦٠٦

وأتصدّق بها وأحجّ واعتمر ، فقال له الإمام : ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة) (١) .

ز ـ وفي الحديث :( ليس منّا من ترك دنياه لآخرته أو آخرته لدنياه ) (٢) .

وتضم الفئة الثانية النصوص الآتية :

أ ـ عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ) (٣) .

ب ـ وعن الصادقعليه‌السلام :( رأس كلّ خطيئةٍ حُبّ الدنيا ) (٤) .

ج ـ وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً :( أبعد ما يكون العبد من الله إذا لم يهمّه إلاّ بطنه وفرجه ) (٥) .

د ـ وعن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام :( أنّ من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا ) (٦) .

ومن اليسير لكلّ أحد أن يلاحظ التفاوت بين الفئتين ، فالدنيا والثروة والغنى :( نِعم العون على الآخرة ) في الفئة الأولى بينما هي :( رأس كلّ خطيئة ) في الفئة الثانية .

ولكنّ هذا التناقض يمكن حلّه بعملية تركيب ، فالثروة وتنميتها نِعمَ العون على الآخرة ، وهي رأس كلّ خطيئة لأنّها ذات حدّين وإطارها النفسي هو

ـــــــــــــــ

(١) المصدر السابق : الحديث ٣ .

(٢) المصدر السابق : ٧٦ ، الباب ٢٨من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث الأوّل .

(٣) وسائل الشيعة ١٦ : ٩ ، الباب ٦١ ، من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٥ .

(٤) الأصول من الكافي ٢ : ٣١٥ ، الحديث الأوّل .

(٥) وسائل الشيعة ١٦ : ٢٠ ، الباب ٦٤ ، من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٢ .

(٦) المصدر السابق : ١٢ ، الباب ٦٢ ، من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٤ .

٦٠٧

الذي يبرز هذا الحدّ أو ذاك فالثروة في رأى الإسلام وتنميتها هدف من الأهداف المهمّة ولكنّه هدف طريق لا هدف غاية ، فليست الثروة هي الهدف الأصيل الذي تضعه السماء للإنسان الإسلامي على وجه الأرض ، وإنّما هي وسيلة يؤدّي بها الإنسان الإسلامي دور الخلافة ، ويستخدمها في سبيل تنمية جميع الطاقات البشرية والتسامي بإنسانية الإنسان في مجالاتها المعنوية والمادّية ، فتنمية الثروة والإنتاج لتحقيق الهدف الأساسي من خلافة الإنسان في الأرض هي نِعمَ العون على الآخرة ، ولا خير فيمن لا يسعى إليها ، وليس من المسلمين ـ بوصفهم حملة رسالة في الحياة ـ من تركها وأهملها

وأمّا تنمية الثروة والإنتاج لأجل الثروة بذاتها ، وبوصفها المجال الأساسي الذي يمارس الإنسان فيه حياته ويغرق فيه ، فهي رأس كلّ خطيئة ، وهي التي تبعد الإنسان عن ربّه ، ويجب الزهد فيها .

فالإسلام يريد من الإنسان الإسلامي أن ينمّي الثروة ليسيطر عليها ، وينتفع بها في تنمية وجوده ككلّ ، لا لتسيطر عليه الثروة ، وتستلم منه زمام القيادة ، وتمحو من أمامه الأهداف الكبرى .

فالثروة وأساليب تنميتها التي تحجب الإنسان الإسلامي عن ربّه وتنسيه أشواقه الروحية ، وتعطّل رسالته الكبرى في إقامة العدل على هذا الكوكب ، وتشدّه إلى الأرض ، لا يقرّها الإسلام والثروة وأساليب التنمية التي تؤكّد صلة الإنسان الإسلامي بربّه المنعم عليه ، وتهيئ له عبادته في يسر ورخاء ، وتفسح المجال أمام كلّ مواهبه وطاقته للنمو والتكامل ، وتساعد على تحقيق مُثُله في العدالة والأخوّة والكرامة ، هي الهدف الذي يضعه الإسلام أمام الإنسان الإسلامي ، ويدفعه نحوه .

٢ ـ ربط تنمية الإنتاج بالتوزيع :

وفيما يتّصل بالفكرة الرأسمالية عن إنماء الإنتاج التي تنظر إلى عملية تنمية الثروة بصورة منفصلة عن نوع توزيعها فإنّ الإسلام يرفض هذه النظرة ، ويربط تنمية الثروة ـ كهدف ـ بالتوزيع ، ومدى ما يحقّق نمو الثروة لأفراد الأمّة من يسر ورخاء ؛ لأنّ تنمية الثروة في مفهوم الإسلام هدفُ طريقٍ لا هدف غايةٍ كما عرفنا في الفقرة السابقة ، فما لم تساهم عمليات التنمية في إشاعة اليسر والرخاء بين الأفراد ، وتوفّر لهم الشروط التي تمكّنهم من الانطلاق في مواهبهم الخيّرة وتحقيق رسالتهم ، فلن تؤدّي تنمية الثروة ودورها الصالح في حياة الإنسان .

٦٠٨

ولهذا نجد أنّ كتاب الإمام علىعليه‌السلام إلى حاكم مصر ـ الذي حدّد فيه الإمام لواليه البرنامج الإسلامي الذي يجب عليه تطبيقه ـ حين أراد أن يتحدّث عن تنمية الثروة بوصفها هدفاً من أهداف مجتمع المتّقين ـ على حد تعبير الكتاب ـ لم يصوّر تكديساً هائلاً للثروة ، وإنّما صوّر اليسر والرخاء يعمّ حياة الأفراد جميعاً في مجتمع المتّقين وهذا تأكيد على أنّ تنمية الثروة ليست هدفاً إلاّ بمقدار ما تنعكس في حياة الناس ومعيشتهم ، وأمّا حين تنمو الثروة بشكل منفصل عن حياة الناس ، ويكون الجمهور في خدمة هذه التنمية لا التنمية في خدمة الجمهور ، فسوف تكتسب الثروة نوعاً من الصنمية ، وتصبح هدف غاية لا هدف طريق ، ويصدق عليها قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو يعبّر عن هذا اللون من الثروة ويحذر من أخطارها :

(إنّ الدنانير الصفر والدراهم البيض مهلكاكم كما أهلكا من كان قَبلَكم) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) مجمع الزوائد (للهيثمي) ٣ : ١٢٢ ، والمعجم الوسيط للطبراني (للطبراني) ٣ : ٢٨ ، الحديث ٢٠٤٣ ، مع اختلاف يسير .

٦٠٩

وعلى هذا الأساس فالإسلام حين يضع تنمية الإنتاج هدفاً للمجتمع يجعل نصب عينيه ارتباط هذه التنمية باليسر والرخاء العام ولهذا يرفض من أساليب التنمية ما يتعارض مع ذلك ، ويضرّ بالناس بدلاً عن تيسير الحياة لهم .

ويمكننا أن نقدّر على هذا الضوء : أنّ الإسلام لو كان قد استلم زمام القيادة بدلاً عن الرأسمالية في عصر ولادة الآلة البخارية ، لما سمح باستعمال الآلة الجديدة التي ضاعفت الإنتاج بقدر ما أطاحت بالآلاف من الصنّاع اليدويين ، إلاّ بعد أن يتغلّب على المشاكل والإضرار التي تجلبها الآلة لهؤلاء ؛ لأنّ التنمية التي تحقّقها الآلة قبل التغلّب على تلك المشاكل والإضرار سوف لن تكون هدف طريق بل هدف غاية .

٣ ـ تصوّر الإسلام للمشكلة الاقتصادية :

وأخيراً ، فإنّ الإسلام يرى أنّ المشكلة الاقتصادية القائمة على أساس تصوّر واقعي للأمور ، لم تنشأ من ندرة موارد الإنتاج وبخل الطبيعة .

صحيح أنّ موارد الإنتاج في الطبيعة محدودة ، وحاجات البشر كثيرة ومتنوّعة .

وحقّاً أنّ مجتمعاً أسطورياً يتمتّع بموارد غير محدودة وافرة وفرة الهواء يظل سليماً من المشاكل الاقتصادية ، ولا يوجد فيه فقير ؛ لأنّ كل فرد فيه قادر على إشباع جميع رغباته في هذا الفردوس .

ولكنّ هذا لا يعني أنّ المشكلة الاقتصادية التي تعانيها البشرية في الواقع نابعة من عدم وجود هذا الفردوس ، بل ليست محاولة تفسيرها على هذا الأساس إلاّ لوناً من التهرّب عن مواجهة الوجه الواقعي للمشكلة القابل للحلّ بإبراز وجهها

٦١٠

الأسطوري الذي لا يمكن حلّه بحال من الأحوال ، ليكون ذلك مبرّراً للاعتراف بحتمية المشكلة وحصر علاجها النسبي في تنمية الإنتاج بوصفها عملية مقصودة بذاتها ، وبالتالي يؤدّي ذلك إلى وضع النظام الاقتصادي في إطار المشكلة ، بدلاً عن اكتشاف النظام الذي يقضي عليها ، كما صنعت الرأسمالية حين أبرزت الوجه الأسطوري للمشكلّة ، فخيّل لها أنّ الطبيعة ما دامت بخيلة أو عاجزة عن إشباع حاجات الإنسان جميعاً فمن الطبيعي أن تتصادم هذه الحاجات وتتعارض ، وعندئذٍ لا بدّ من وضع نظام اقتصادي ينسق تلك الحاجات ويحدّد ما يجب إشباعه منها .

إنّ الإسلام لا يقرّ ذلك كلّه ، وينظر إلى المشكلة من ناحيتها الواقعية القابلة للحلّ ، كما نجد ذلك في قوله تعالى :

( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) (١) .

فإنّ هذا الآيات الكريمة بعد أن استعرضت مصادر الثروة التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان ، أكدت أنّها كافية لإشباع الإنسان وتحقيق سؤله( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) ، فالمشكلة الواقعية لم تنشأ عن بَخَل الطبيعة ، أو عجزها عن تلبية حاجات الإنسان ، وإنّما نشأت من الإنسان نفسه ، كما تقرّره الآية الأخيرة :( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) . فظلم الإنسان في توزيع الثروة

ـــــــــــــــ

(١) سورة إبراهيم : ٣٢ ـ ٣٤ .

٦١١

وكفرانه للنعمة ؛ بعدم استغلال جميع المصادر التي تفضّل الله بها عليه استغلالاً تامّاً ، هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعيشها الإنسان البائس منذ أبعد عصور التأريخ وبمجرّد تفسير المشكلة على أساس إنساني يصبح بالإمكان التغلّب عليها ، والقضاء على الظلم وكفران النعمة بإيجاد علاقات توزيع عادلة ، وتعبئة كلّ القوى المادّية لاستثمار الطبيعة ، واستكشاف كلّ كنوزها(١) .

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الكتاب الأوّل من اقتصادنا : ٣٨٠ ـ ٣٨١ (المؤلّف قدّس سرّه)

٦١٢

الصِلة بين الإنتاج والتوزيع

هل توجد صلة بين أشكال الإنتاج وعلاقات التوزيع ؟

هذا هو السؤال الذي يختلف في الإجابة عليه الإسلام والماركسية اختلافاً أساسياً على الصعيد المذهبي للاقتصاد فالماركسية تؤكّد وجود هذه الصلة ، وتؤمن بأنّ كلّ شكل من أشكال الإنتاج يَفرض ـ وفقاً لقانون التطوّر ـ نوعاً خاصاً من التوزيع ، وهو النوع الذي ينسجم مع ذلك الشكل من الإنتاج ، ويواكب نموّه وتطوّره وإذا اتّخذ الإنتاج شكلاً جديداً لا يتّفق في حركته مع علاقات التوزيع التي فرضها الشكل السابق تحتم على علاقات التوزيع هذه أن تُخلّي مكانها ـ بعد تناقض وصراع مرير ـ لعلاقات جديدة في التوزيع ، تُلائم الشكل السائد من الإنتاج ، وتساعده على النموّ والتحرّك .

وهكذا ترى الماركسية : أنّ نظام التوزيع يتبع دائماً شكل الإنتاج ، ويتكيّف وفقاً لحاجاته وهذه التبعية قانون طبيعي صارم للتأريخ ، لا يمكن تبديله أو تعديله فالقضية الأساسية في حياة الإنسان هي أن ينتج ، وأن يسيّر الإنتاج وينمو باطراد أمّا كيف يوزّع الناتج ؟ ومن هم الذين يُمنحون حقّ ملكية الوسائل المنتَجة ؟ وهل يتمّ التوزيع على أساس ملكية الرقيق ؟ أو الملكية الإقطاعية أو

٦١٣

الملكية البرجوازية أو ملكية البروليتاريا ؟ فكلّ هذا تقرّره مصلحة الإنتاج نفسه فالإنتاج يتّخذ في كلّ مرحلة تأريخيّة الأسلوب الموقّت من التوزيع الذي يمكنه من النموّ في إطاره .

وقد درسنا هذه النظرية الماركسية بإسهاب ، في الكتاب الأوّل من اقتصادنا ، واستطعنا أن نخرج من دراستنا بنتائج معاكسة للنظرية ؛ تدينها فلسفياً وعلمياً ، وتبرهن على عجزها عن تفسير التأريخ(١) . كما عرفنا في بعض البحوث السابقة موقف الإسلام من هذه النظرية ، ورفضه تبعية التوزيع لشكل الإنتاج(٢) .

توجيه الإنتاج لضمان عدالة التوزيع :

والإسلام حين ينكر تبعية التوزيع لأشكال الإنتاج ، وتكيّفه تبعاً لها بقوّة القانون الطبيعي للتأريخ ، كما تزعم الماركسية ، لا يقطع الصلة بالمرة بين التوزيع وشكل الإنتاج ولكن الصلة في رأي الإسلام بين التوزيع والإنتاج ليست علاقة تبعية وفقاً لقانون طبيعي ، وإنّما هي صلة يفرضها المذهب ، ويحدّد فيها الإنتاج لحساب التوزيع بدلاً عن تكييف التوزيع طبقاً لحاجات الإنتاج ، كما تقرّره النظرية الماركسية .

وتقوم الفكرة في هذه الصلة على أساس النقاط التالية:

أولاً : أنّ الاقتصاد الإسلامي يعتبر قواعد التوزيع التي جاء بها ثابتة وصالحة في كلّ زمان ومكان ، لا يختلف في ذلك عصر الكهرباء والذرّة عن

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الكتاب الأوّل من اقتصادنا ، مبحث : نظرية المادّية التأريخية (المؤلّف قدّس سرّه) .

(٢) راجع : الكتاب الأوّل من اقتصادنا ، مبحث : علاقات التوزيع منفصلة عن شكل الإنتاج (المؤلّف قدّس سرّه).

٦١٤

عصر البخار ، ولا عصر البخار عن عصر الطاحونة الهوائية والعمل اليدوي فعلى كلّ هذه العصور مثلاً ـ تصحّ القاعدة القائلة :إنّ من حقّ العامل أن يقطف ثمار عمله .

وثانياً : أنّ عمليات الإنتاج التي يمارسها الفرد ، تعتبر مرحلة تطبيق لتلك القواعد العامة في التوزيع فإحياء الأرض المَيتَة ، واستنباط عين الماء ، واقتطاع الخشب ، واستخراج المعادن ، كلّها عمليات إنتاج وهي في نفس الوقت تؤدّي إلى تطبيق القواعد العامة للتوزيع على الثروات المنتَجة فمجال الإنتاج ـ إذن ـ هو ظرف تطبيق قواعد التوزيع .

وثالثاً : إنّ الإنتاج إذا ارتفع مستواه وازدادت وسائله وإمكاناته ، نمت سيطرة الإنسان على الطبيعة ، وأصبح بإمكان الفرد المجهّز بقوى الإنتاج أن يمارس نشاطه في نطاق أوسع من المجالات التي كانت تتاح له قبل نموّ الإنتاج وارتفاع مستواه .

وتعلية على هذه النقاط نعرف : أنّ تطوّر الإنتاج ونموّ قِواه ، يتيح للإنسان أكثر فأكثر استغلال القواعد العامة للتوزيع في مرحلة التطبيق ، خلال عمليات الإنتاج التي يمارسها وقد يبلغ هذا الاستغلال إلى درجة تشكّل خطراً على التوازن العام ومُثُل العدالة الاجتماعية في الإسلام .

ولنأخذ مثالاً على ذلك من إحياء الأرض : فإنّ الإنسان في عصور العمل اليدوي لم يكن يستطيع أن يُحيي مساحات شاسعة من الأرض ؛ لأنّ النظرية لا تأذن له باستخدام الأجرة في هذا السبيل ، وهو لا يمكنه بأدوات عصر ما قبل الآلة أن يباشر الإحياء إلاّ في حدود خاصة ، ولهذا لم يكن في مقدوره أن يسيء استغلال القواعد العامة للتوزيع في مرحلة التطبيق ، ولا أن يمتلك مساحات خطيرة من الأرض ، وفقاً للقاعدة التي تمنح المُحيي حقّاً في الأرض التي أحياها

٦١٥

ولكنّ عصر الآلة يمدّ الفرد بالقدرة على إحياء تلك المساحات الخطيرة ، وإساءة استغلال القواعد العامة للتوزيع في مرحلة التطبيق ، فلا بدّ في هذه الحالة من توجيه التطبيق الوِجهة التي تتّفق مع مُثُل العدالة الاجتماعية في الإسلام .

ومن هنا نشأت الصلة المذهبية في الإسلام بين الإنتاج والتوزيع ، ومردّها في الحقيقة إلى فكرة التطبيق الموجّه ، التي تحدّد الإنتاج بوصفه عملية تطبيق لقواعد التوزيع تحديداً يضمن عدالة التوزيع واتساقه مع مُثُل الإسلام وأهدافه .

وقد جسّد الإسلام فكرة التطبيق الموجّه التي تحدّد الإنتاج لحساب التوزيع ، في إعطاء وليّ الأمر الحقّ في التدخّل للحدّ من تطبيق القاعدة والمنع عن الأعمال التي تؤدّي إلى استغلال قواعد التوزيع استغلالاً سيئاً ، ففي مثال الأرض الذي قدمناه يملك ولي الأمر الحقّ في منع الفرد من ممارسة الإحياء إلاّ في حدود تعيّن وِفقاً لتصوّر الإسلام للعدالة الاجتماعية كما يقرّره مبدأ تدخّل الدولة الذي سوف ندرسه بتفصيل في بحثٍ مقبلٍ (١) .

وهكذا نعرف أن تطوّر الإنتاج ونموّه ، قد يفرض على وليّ الأمر التدخّل في توجيه الإنتاج ، والتحديد من مجالات تطبيق القواعد العامة للتوزيع ، دون أن يمسّ جوهر القواعد نفسها .

وهذا يعني أنّ مبدأ تدخل الدولة الذي يسمح لها بتوجيه التطبيق ، هو القاعدة التي ضمن بها الإسلام صلاحية قواعده العامة في التوزيع ، وانسجامها مع تصوّراته للعدالة الاجتماعية في كلّ زمان ومكان .

ـــــــــــــــ

(١) سيأتي في مبحث : مبدأ تدخّل الدولة .

٦١٦

الصلة بين الإنتاج والتداول

الإنتاج كما نعرف هو : عملية تطوير الطبيعة إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الإنسان(١) .

ـــــــــــــــ

(١) وبالتعبير التقليدي في الاقتصاد هو : خلق منفعة جديدة .

وإنّما آثرنا التعبير الأوّل في تعريف الإنتاج لأنّ الذي يعرّفونه بالصيغة الثانية يقعون في تعميم غير مقصود ؛ لأنّهم يفسّرون المنفعة بأنّها صفة في الشيء تجعله صالحاً لإشباع أيّ حاجة كانت ويقولون : إنّ هذه الصفة ليست صفة ذاتية أو موضوعية في الشيء ، وإنّما تتولّد عن مجرّد الرغبة فيه ، ولو كانت الرغبة تقوم على خطأ في تقدير الموقف ، كالرغبة في عقاقير نتيجة لاعتقاد خاطئ بأثرها في الوقاية من الوباء .

وتعريف الإنتاج والمنفعة بهذا الشكل يدرج في الإنتاج : عمل الفرد في إقناع الجمهور بفائدة مادّة معيّنة في الوقاية أو العلاج ؛ لأنّ هذا العمل يخلق منفعة جديدة ويؤدّى إلى تمتّع تلك المادة بصفة إشباع لرغبة عامة ، بالرغم من أنّ الفرد لم يمارس المادة في أيّ نشاط اقتصادي .

وهذا هو التعميم الذي يُمنى به التعريف التقليدي ولهذا قلنا : إنّ الإنتاج هو تطوير الطبيعة إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الإنسان وبهذا يتوقّف اكتساب العمل طابع الإنتاج على خلقه المنفعة وممارسته الطبيعة بلون من الألوان (المؤلّف قدّس سره)

٦١٧

والتداول بمعناه المادّي : نقل الأشياء من مكان إلى آخر ، وبمعناه القانوني ـ وهو الذي نقصده بهذا البحث ـ يعبّر عن مجموع عمليات التجارة التي تتمّ عن طريق عقود المقايضة ، من بيع ونحوه .

ومن الواضح : أنّ التداول بمعناه المادّي نوع من عمليات الإنتاج ؛ لأنّ نقل الثروة من مكان إلى مكان يخلق في كثير من الأحيان منفعة جديدة ، ويعتبر تطويراً للمادّة إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الإنسان ، سواء كان النقل عمودياً ـ كما في الصناعات الاستخراجية ، التي يمارس الإنتاج فيها عملية نقل المواد الأولية من أعماق الأرض إلى سطحها ـ أو أفقياً ، كما في نقل السلع المنتجة إلى الأماكن القريبة من المستهلكين وإعدادها في متناول أيديهم ، فإنّ نقلها بهذا الشكل نوع من التطوير إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الإنسان .

وأمّا التداول بمعناه القانوني ونقل الحقوق أو الملكية من فردٍ لآخر ، كما نشاهد في عمليات التجارة ، فهو بوصفه عملية قانونية لا بدّ أن يكتسب مفهومه وتحدد علاقته بالإنتاج على أساس مذهبي .

ولهذا يمكننا أن ندرس رأي الإسلام في الصلة بين الإنتاج والتداول ، وطبيعة العلاقة التي يقيمها بينها في مخطّطه المذهبي العام .

ومفهوم الإسلام عن التداول وصلته بالإنتاج مذهبياً لا يساهم في تصور مذهبي شامل فحسب ، بل يلعب أيضاً دوراً مهمّاً في وضع السياسة العامة في مجال التوزيع وملء الفراغ الذي تركه الإسلام للدولة لكي تملأه حسب الظروف .

مفهوم الإسلام عن التداول :

والذي يبدو من دراسة نصوص المفاهيم والأحكام ، واتجاهها التشريعي العام أنّ التداول في نظر الإسلام من حيث المبدأ شعبة من الإنتاج ، ولا ينبغي أن

٦١٨

ينفصل عن مجاله العام .

وهذا المفهوم الإسلامي ، الذي سوف نلمحه في عدّة نصوص وأحكام ، يتّفق تماماً مع قصّة التداول تأريخياً ونشوئه ، والحاجات الموضوعية التي ولدته .

فإنّ التداول في أكبر الظن لم يكن موجوداً على نطاق واسع في المجتمعات التي كان كلّ فرد فيها يكتفي عادة بما ينتجه مباشرة في إشباع حاجاته البسيطة ؛ لأنّ الإنسان الذي يعيش هذا الاكتفاء الذاتي لا يشعر بحاجة غالباً إلى الحصول على منتجات فرد آخر ليمارس مع ذلك الفرد لوناً من ألوان التداول والتبادل وإنّما نشأ التداول في حياة الإنسان نتيجة لتقسيم العمل الذي أصبح كلّ فرد بموجبه يمارس فرعاً خالصاً من فروع الإنتاج ، وينتج في ذلك الفرع كمّية أكبر من حاجته ويحصل على سائر السلع التي يحتاجها من منتجي تلك السلع عن طريق التبادل ، وإعطائهم حاجاتهم من منتُوجه لقاء الحصول على منتوجاتهم ، فإنّ تنوّع الحاجات وكثرتها فرض تقسيم العمل بهذا الشكل ، وبالتالي أدّى إلى انتشار التداول ووجوده في حياة الإنسان على نطاق واسع .

فمنتِج الحنطة ـ مثلاً ـ يقتصر على إنتاجها ويسد حاجته من الصوف بحمل كمّية من الحنطة الفائضة عن الحاجة ، إلى مُنتِج الصوف الذي يحتاج بدوره إلى حنطة ، فيدفع إليه حاجته من الحنطة ويتسلّم منه مقابل ذلك الكمّية التي يريدها من الصوف .

ونلاحظ في هذه الصورة : أنّ منتج الحنطة التقى بالمستهلك مباشرة ، كما أنّ الراعي بوصفه منتِجاً للصوف اتصل في عملية التداول بالمستهلك للصوف دون وسيط ، فالمستهلك ـ وفقاً لهذه الصورة ـ هو دائماً منتجٌ باعتبار آخر .

وتطوّر التداول بعد ذلك ، فوجد الوسيط بين المنتج والمستهلك ، وأصبح

٦١٩

منتِج الصوف لا يبيع الصوف مباشرة لمنتِج الحنطة في مثالنا السابق ، بل أخذ شخص ثالث يقوم بدور الوساطة بينهما ، فيشتري الكمّيّات المنتَجة من الصوف ، لا لاستهلاكها في حاجته الخاصة ، بل لإعدادها وجعلها في متناول أيدي المستهلكين فبدلا عن أن يتّصل منتج الحنطة بمنتج الصوف ابتداءً ، أصبح يلتقي بهذا الوسيط الذي أعدّ الصوف في السوق وهيأه للبيع ، ويتّفق معه على الشراء ومن هنا نشأت عمليات التجارة وأصبح الوسيط يوفّر كثيراً من الوقت والجهد على المنتِجين والمستهلِكين .

وفي هذا الضوء نعرف أنّ التداول أو نقل الملكية في كلا الدورين ـ دور التقاء المنتجين مباشرة ودور الوسيط التاجر ـ كان يسبقه عمل من أعمال الإنتاج ، ممّن ينقل ملكية المال إلى غيره ويحصل على ثمنه ففي الدور الأوّل : كان منتِج الصوف يمارس بنفسه عملية إنتاج الصوف ، ثمّ يبيعه وينقل ملكيته إلى آخر بعِوض وفي الدور الثاني : كان الوسيط يمارس عملية نقل الصوف إلى السوق ، والمحافظة عليه وإعداده في متناول يد المستهلك متى أراد وهذا لون من الإنتاج كما عرفنا قبل لحظات .

وهذا يعني أنّ الفوائد التي يجنيها البائع من نقل ملكية المال إلى غيره بعوض ـ وهي ما نسمّيه الآن بالأرباح ـ كانت نتيجة لعمل إنتاجي يمارسه البائع ، ولم تكن نتيجة لنفس عملية نقل الملكية .

ولكن سيطرة الدوافع الأنانية على التجارة أدّت إلى تطوّيرها وانحرافها عن وضعها الطبيعي ، الذي كان ناتجاً عن حاجة موضوعية سليمة ، وبخاصة في عصر الرأسمالية الحديثة ونتج عن ذلك انفصال التداول والتبادل في كثير من الأحيان عن الإنتاج ، وأصبح نقل الملكية عملية تقصد لذاتها دون أن يسبقها أيّ عمل

٦٢٠