اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 141708
تحميل: 8007

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141708 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إنتاجي من الناقل ، وتمارس لأجل الحصول على فوائد وأرباح فبينما كانت التجِارة مصدراً لهذه الفوائد والأرباح ، بوصفها شعبة من الإنتاج ، أصبحت مصدراً لذلك لمجرّد كونها عملية قانونية لنقل الملكية ولهذا نجد في تجارة الرأسمالية : أنّ العمليات القانونية لنقل الملكية قد تتعدّد على مال واحد ، تبعاً لتعدّد الوسطاء بين المنتج والمستهلك ، لا لشيء ، إلاّ لكي يحصل أكبر عدد ممّكن من التجّار الرأسماليين على أرباح تلك العمليات ومكاسبها .

ومن الطبيعي يرفض الإسلام هذا الانحراف الرأسمالي في عمليات التداوّل ، لأنّه يتعارض مع مفهومه عن المبادلة ونظرته إليها بوصفها جزءاً من الإنتاج كما قلنا آنفاً ولهذا فهو يعالج قضايا التداول وينظّمها دائماً في ضوء نظرته الخاصة إليه ، ويتّجه إلى عدم فصل التداول تشريعياً ، في التنظيمات القانونية لعقود المقايضة عن الإنتاج فصلا حاسماً.

النصوص المذهبية للمفهوم :

ومن اليسير الآن ـ بعد أن اتضحت معالم المفهوم الإسلامي عن التداول(١) ـ أنّ نلمح هذا المفهوم في النصوص المذهبية للإسلام ، وفي مجموعة عن الأحكام والتشريعات التي يضمها البناء العلوي للشريعة .

فمن النصوص المذهبية التي تعكس هذا المفهوم وتحدّد النظرة الإسلامية إلى التداول ، ما جاء في كتاب عليٍّعليه‌السلام إلى واليه على مصر مالك الأشتر ، وهو يضع له برنامج العمل ، ويحدد له مفاهيم الإسلام :( ثمّ استوصِ بالتجّار

ـــــــــــــــ

(١) قد يكون من الأفضل أن نعبّر عن هذا اللون من المفاهيم بكلمة : اتجاه إسلامي تمييزاً لها عن الأحكام الإسلامية (المؤلّف قدّس سرّه) .

٦٢١

وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً ، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه ؛ فإنّهم موادّ المنافع ، وأسباب المرافق ، وجلاّبُها من المباعد والمطارح ، في برِّك وبحرك ، وسهلك وجَبَلك ، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترون عليها ) (١) .

وواضح من هذا النصّ أنّ فئة التجّار جعلت في صف واحدٍ مع ذوي الصناعات ، أي المنتجين ، وأطلق عليهم جميعاً أنّهم :( موادّ المنافع ) ، فالتاجر يخلق منفعة كما يخلق الصانع وعقّب ذلك بشرح المنافع التي يخلقها التجّار ، والعمليات التي يمارسونها ، في جلب المال من المباعد والمطارح ، ومن حيث لا يلتئم الناس لمواضعها ، ولا يجترئون عليها .

فالتجارة في نظر الإسلام ـ إذن ـ نوع من الإنتاج والعمل المثمر ، ومكاسبها إنّما هي في الأصل نتيجة لذلك ، لا للعملية في نطاقها القانوني فحسب .

وهذا المفهوم الإسلامي عن التداول ليس مجرّد تصوّر نظري فحسب ، وإنّما يعبّر عن اتجاه عملي عام ؛ لأنّه يقدّم الأساس الذي تملأ الدولة على ضوئه الفراغ المتروك لها في حدود صلاحياتها ، كما ألمعنا إلى ذلك سابقاً

الاتجاه التشريعي الذي يعكس المفهوم :

وأمّا الأحكام والتشريعات التي تعكس المفهوم الإسلامي في التداول ، فيمكننا أن نجدها في عدد من النصوص التشريعية والآراء الفقهية ، كما يلي :

١ ـ في رأي عدد من الفقهاء ، كالعماني والصدوق والشهيد الثاني والشافعي وغيرهم : أنّ التاجر إذا اشترى حنطة مثلا ولم يقبضها لا يسمح له أن يربح فيها

ـــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٤٣٨ .

٦٢٢

عن طريق بيعها بثمن أكبر ، وإنّما يجوز له ذلك بعد قبضها(١) ، مع أنّ عملية النقل القانونية تتمّ في الفقه الإسلامي بنفس العقد ، ولا تتوقّف على أيّ عمل بعده فالتاجر يملك الحنطة بعد العقد وإن لم يقبضها ، ولكنّه بالرغم من ذلك لا يسمح له بالاتّجار بها ، والحصول على ربح ما لم يقبض المال ، حرصاً على ربط الأرباح التجارية بعمل، وإخراج التجارة عن كونها مجرد عمل قانوني يدر ربحاً .

وفي عدّة نصوص تشريعية ما يشير إلى هذا الرأي ـ ففي خبر علي بن جعفر : ( أنّه سأل الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : عن الرجل يشتري الطعام ، أيصلح بيعه قبل أن يقبضه ؟ قالعليه‌السلام :إذا ربح ، لم يصلح حتى يقبض وإن كان تَوْلِية ـ أي : باعه بنفس الثمن الذي اشتراه به بدون ربح ـفلا بأس ) (٢) .

وقال العلاّمة الحلّي في التذكرة : ( منع جماعة من علمائنا بيع ما لم يقبض في سائر المبيعات )(٣) .

وقال الإمام الشافعي : ( وبهذا نأخذ ، فمن ابتاع شيئاً ، كائناً ما كان ، فليس له أن يبيعه حتى يقبضه )(٤) .

وإلى ذلك ذهب الفقهاء الأحناف أيضاً (٥) .

ـــــــــــــــ

(١) راجع : مختلف الشيعة ٥ : ٢٨١ والمقنع : ٣٦٧ والروضة البهية ٢ : ٣٣٦ والأم ٣ : ٦٩ ـ ٧٠ والخلاف ٣ : ٩٧ ، المسألة ١٥٨ وقد ورد المنع في هذه المصادر عن بيع الطعام قبل القبض مطلقاً سواءً كان بربح أم لا (لجنة التحقيق)

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٦٧ ، الباب ١٦ من أبواب العقود ، الحديث ٩

(٣) تذكرة الفقهاء ١١ : ٣٦٣ .

(٤) الأُمّ ٣ : ٦٩ ـ ٧٠ .

(٥) الفقه على المذاهب الأربعة ٢ : ٢٣٢ ، وشرح فتح القدير ٦ : ١٣٥ والهداية في شرح بداية المبتدي ٣ : ٥٩ والمبسوط (للسرخسي) ١٢ : ١٦٣ .

٦٢٣

٢ ـ في رأي الاسكافي ، والعماني ، والقاضي ، وابن زهرة ، والحَلَبي ، وابن حمزة ، ومالك ، وكثير من الفقهاء : أنّ التاجر إذا ابتاع مالاً مؤجّلاً بثمن يدفعه فعلاً ، فليس له حين حلول الأجل أن يبيع ما اشتراه ـ قبل قبضه ـ بثمن أكبر .(١)

فإذا اشتريت حنطة من الزارع ، واتّفقت معه على أن يسلّمك الحنطة بعد شهر ودفعت له الثمن فعلاً ، فلا يجوز لك بعد مرور شهر أن تبيع تلك الحنطة بزيادة قبل أن تقبضها ، وتستغلّ عملية النقل القانوني في سبيل الحصول على ربح جديد ، وإنّما لك أن تبيع المال بنفس الثمن الذي اشتريته به .

وقد كتب ابن قدامة يقول : ( أَمَّا بَيْعُالْمُسْلَمِ فيهِ قبلَ قَبْضِهِ ، فَلا نَعْلَمُ في تحريمهِ خِلافًا )(٢) .

وقد استند أصحاب هذا الرأي إلى عدّة روايات ففي الحديث : أنّ أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام قال :( من اشترى طعاماً أو علفاً إلى أجل ، فإن لم يجد شرطه وأخذ وَرِقاً ، فلا يأخذ إلاّ رأس ماله ؛ لا يُظلمون ولا يَظلمون ) (٣) .

وفي حديث آخر :( عن يعقوب بن شعيب أنّه سأل الإمام الصادق عليه‌السلام : عن الرجل يسلف في الحنطة والتمر بمئة درهم ، فيأتي صاحبه حين يحلّ له الذي له ، فيقول : والله ما عندي إلاّ نصف الذي لك ، فخذ منّي إن شئت بنصف الذي لك

ـــــــــــــــ

(١) راجع : مختلف الشيعة ٥ : ٢٨١ والمهذّب ١ : ٣٩١ وغنية النزوع : ٢٢٨ والكافي في الفقه : ٣٥٨ والوسيلة : ٢٥١ والموطأ ٢ : ٦٤٢ و ٦٥٩ وقد ورد المنع في هذه المصادر أيضاً عن بيع الطعام أو البيع المؤجّل قبل قبضه مطلقاً ، سواءً كان بربح أم لا وجاء في بعضها النهي عن بيع المتاع قبل حلول الأجل ، كما في الكافي في الفقه (لجنة التحقيق).

(٢) المغني ٤ : ٣٤١ .

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٠٩ ، الباب ١١ من أبواب السلف ، الحديث ١٥ .

٦٢٤

حنطة وبنصفه وَرِقاً ـ أي : نقداً ـ فقال : لا بأس إذا أخذ منه الوَرِق كما أعطاه ) (١) ، أي : بقدر مئة درهم . (٢)

٣ ـ جاء في نصوص نبوية كثيرة النهي عن تلقّي الركبان ، وعن بيع الحاضر للبادي ففي الحديث :( أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : لا يتلقّى أحدكم تجارةً خارجاً من المِصر ، ولا يبيعُ حاضرٌ لبادٍ ) (٢) .

وروى الشافعي بسنده إلى جابر : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال :( لا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ ، دَعُوا النّاسَ يَرْزُقْ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) كما روى بسنده إلى أبي هريرة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال :( لا تلقّوا السلع ) (٤) .

وتلقّي الركبان هو : خروج التاجر إلى خارج البلد ليستقبل أصحاب البضائع ويشتري منه بضائعهم ، قبل أن يدخلوا البلد ، ويرجع إلى المدينة فيبيع السلع على الناس وبيع الحاضر لأهل البادية : أن يتولّى تاجر المدينة شأن

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ ، الباب ١١ من أبواب السلف ، الحديث ١٦ .

(٢) هذه النصوص إنّما تدلّ على الحكم المقصود إذا كانت تستهدف بالنهي الوارد فيها منع المشتري عن بيع ما اشتراه سلفاً قبل قبضه وبعد حلول أجله بثمن أكبر وأمّا إذا كانت النصوص تريد بيان ما للمشتري المطالبة به إذا فسخ العقد استناداً إلى حقّه في الخيار نتيجة لعدم تسليم البائع له السلعة في الوقت المحدّد ، فيكون معنى النهي فيها : أنّ المشتري إذا لم يتسلّم السلعة التي اشتراها سلفاً في الوقت المحدّد وفسخ العقد ، فليس له إلاّ استرجاع نفس الثمن الذي سلّمه البائع سابقاً وعلى هذا التقدير لا تبقى في النصوص دلالة على النهي عن البيع بثمن أكبر قبل القبض (المؤلّف قدّس سره)

(٣) وسائل الشيعة ١٧ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤ ، الباب ٣٦ من أبواب آداب التجارة ، الحديث ٥ ، والباب ٣٧ ، الحديث الأوّل.

(٤) الأُمّ ٣ : ٩٢ ـ ٩٣ .

٦٢٥

القرويين ، الذين يقدّمون المدينة وهم يحملون منتجاتهم من فواكه وألبان وغيرها ، فيشتريها منهم ثمّ يبيعها ويتّجر بها (١) . وواضح أنّ النهي عن هاتين العمليتين يحمل طابع الاتجاه الإسلامي الذي نحاول إثباته ؛ لأنّ النهي يستهدف الاستغناء عن الوسيط ودوره الطفيلي ، الذي يحول به دون مواجهة صاحب السلعة للمستهلك مباشرة ، لا لشيء إلاّ ليربح الوسيط على أساس إقحام نفسه بينهما فالوساطة هنا لا يرحّب بها الإسلام ؛ لأنّها وساطة متكلّفة لا تعبّر عن أيّ محتوى إنتاجي لعمليات التجارة ، بل عن هدف في مجرّد المبادلة لأجل الربح .

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الروضة البهية ٢ : ٢٢٥ وجواهر الكلام ٢٢ : ٤٧٠ .

٦٢٦

لمـن نُنتِـج ؟

أودّ البدء بإبراز موقف الرأسمالية من هذا السؤال ؛ ليتاح عن طريق مقارنة الموقف الإسلامي به إعطاء الجواب من وجهة نظر الإسلام بملامحه المحدّدة ، وسماته المميّزة .

الموقف الرأسمالي :

المذهب الرأسمالي يعتمد في توجيه الإنتاج على جهاز الثمن ، الذي تحدّده قوانين العرض والطلب في السوق الحرّة ؛ لأنّ الاقتصاد الرأسمالي الحرّ يقوم على أساس المشاريع الخاصة التي يديرها الأفراد وتخضع لإرادتهم ، وكلّ واحد من هؤلاء يدير مشروعه ويخطّط إنتاجه وفقاً لمصلحته ورغبته في أكبر قدر ممكن من الربح فحاسّة الربح هي التي تكيّف لدى كلّ فردٍ إنتاجه وتوجّه نشاطه والربح يتبع حركة الثمن في السوق ، فكلّما اطّلع صاحب المشروع على ارتفاع ثمن سلعة اتّجه إلى إنتاجها بقدرٍ كبير ؛ أملاً في الحصول على الوفير من الربح ومن الواضح أنّ ارتفاع ثمن السلعة في السوق يعكس في الظروف السليمة زيادة الطلب عليها وبهذا تضمن الرأسمالية ربط الإنتاج بالطلب ؛ لأنّ الربح هو الذي يحرّك الإنتاج ، وارتفاع الثمن هو الذي يُغري المشاريع الرأسمالية بالربح ،

٦٢٧

وزيادة الطلب هي التي تؤدّي إلى ارتفاع الثمن ، فيكون الإنتاج في النهاية موجّهاً من قبل المستهلكين ومكيّفاً طِبقاً لحاجاتهم التي تعبّر عن نفسها في زيادة الطلب وارتفاع الثمن وفي هذا الضوء تجيب الرأسمالية على سؤال : لمن نُنتِج ؟ : أنّ الإنتاج لأجل المستهلكين وحاجاتهم ، ويتناسب طرداً وعكساً واتجاهاً مع هذه الحاجات .

نقد الموقف الرأسمالي :

هذه هي الصورة الظاهرية للإنتاج الرأسمالية ، أو هي الصورة المشرِقة التي يحاول الرأسماليون إبراز الإنتاج الرأسمالي في إطارها الزاهي ، ليبرهنوا على التوافق والتلاقي في ظلّ النظام الرأسمالي بين خطّي الإنتاج والطلب ، وحركتيهما العامّتين .

ولكنّ هذه الصورة ، بالرغم من صدقها جزئياً ، لا تستطيع أن تخفي التناقض الصارخ في ظلّ النظام الرأسمالي بين الإنتاج والطلب فهي تشرح الترابط في تسلسل متعدّد الحلقات بين الإنتاج والطلب ، ولكنّها لا تحدّد مدلول الطلب ، ولا تكتشف عن مفهوم الرأسمالية عن هذا الطلب الذي يتحكّم في الإنتاج ويواجهه بواسطة رفع ثمن السلع .

والحقيقة أنّ الطلب في المفهوم الرأسمالي هو تعبير نقدي أكثر من كونه تعبيراً بشريّاً عن حاجة من الحاجات ؛ لأنّه لا يشمل إلاّ قسماً خاصاً من الطلب ، وهو ذلك الطلب الذي يؤدّي إلى ارتفاع ثمن السلعة في السوق ، أي : الطلب الذي يتمتّع بالقوّة الشرائية ، ويمتلك رصيداً نقديّاً قادراً على إشباعه ، وأمّا تلك الطلبات المجرّدة عن تلك القوّة النقدية التي لا تستطيع أن تغزو السوق الرأسمالية ، ولا تؤدّي إلى رفع ثمن السلعة لعدم امتلاكها الثمن ، فنصيبها الإهمال مهما كانت

٦٢٨

مُلِحَّة وضرورية ، ومهما عمَّت واستوعبت ؛ لأنّ الطلب لا بدّ أن يبرهن عليه الطالب بالنقد الذي يقدّمه ، وما لم يقدّم هذا البرهان فلا حقّ له في توجيه الإنتاج ، ولا كلمة له في الحياة الاقتصادية الرأسمالية ، وإن نبع من صميم الواقع البشري وضروراته الملحّة .

وبمجرّد أن نعرف مفهوم الرأسمالية هذا عن الطلب ، تتبدّد فجأة كلّ تلك الأحكام الذهبية التي نسجها أنصار الاقتصاد الحرّ حول الإنتاج الرأسمالي وتكيّفه وفقاً للحاجة والطلب ؛ لأنّ القوّة الشرائية في المجتمع الرأسمالي تتوفّر ـ بدرجات عالية ـ في القلّة المحظوظة التي تسيطر على ثروات البلاد ، وتنخفض لدى غيرهم ، وتهبط هبوطاً كبيراً في مستوى القاعدة التي تتكوّن منها أكثرية المجتمع الرأسمالي ونتيجة هذا التفاوت الهائل في القوّة الشرائية ـ من وجهة نظر المذهب الرأسمالي ـ أن تَحتَكِر الطلبات ذات القوّة الشرائية الضخمة توجيهَ الإنتاج ، وتُملي إرادتها عليه ؛ لأنّها هي التي تغري أصحاب المشاريع وتسيل لعابهم بما تؤدّي إليه من ارتفاع الأثمان ، وتحرم الطلبات الحياتية للجمهور من ذلك ؛ لعدم تمتّعها بقوّة شرائية مغرية .

ولمّا كانت الطلبات التي تتمتّع بالقوة الشرائية الضخمة قادرة على جلب كلّ السلع الضرورية والكمالية ، وأدوات اللهو ووسائل الترف من السوق الرأسمالي ، بينما تعجز الطلبات الفقيرة حتى عن جلب السلع الضرورية بصورة كاملة ، فسوف يؤدّي ذلك إلى تجنيد المشاريع الرأسمالية كلّ طاقاتها لإشباع تلك الطلبات المترَفة ، والرغبات النهِمة التي لا تكفّ عن التفنّن في إشباع نهمها ، وتطلب الجديد تلو الجديد من أدوات البطر ووسائل المتعة واللذّة ، وتبقى طلبات الكثرة الكاثرة من الناس على السلع الضرورية ومواد الحياة قائمة دون أن تلقى عناية من الإنتاج الرأسمالي ، اللّهم إلاّ في الحدود التي توفّر للكبار الأيدي العاملة وهكذا

٦٢٩

تمتلئ الأسواق الرأسمالية بألوان من سلع الترف والكماليات ، بينما تفقد أحياناً الكمّية الكافية من السلع الضرورية التي تستطيع أن تشبع الجميع إشباعاً كاملاً .

هذه هي الرأسمالية في موقفها من الإنتاج ، والطريقة التي تعتمد عليها في تحديد حركته .

الموقف الإسلامي :

١ ـ يحتم الإسلام على الإنتاج الاجتماعي أن يوفّر إشباع الحاجات الضرورية لجميع أفراد المجتمع ، بإنتاج كمّية من السلع القادرة على إشباع تلك الحاجات الحياتية بدرجة من الكفاية التي تسمح لكلّ فرد بتناول حاجته الضرورية منها وما لم يتوفّر مستوى الكفاية والحدّ الأدنى من السلع الضرورية ، لا يجوز توجيه الطاقات القادرة على توفير ذلك إلى حقل آخر من حقول الإنتاج فالحاجة نفسها ذات دور إيجابي في حركة الإنتاج ، بقطع النظر عن القدرة الاقتصادية لهذه الحاجة ورصيدها النقدي .

٢ ـ كما يحتمّ الإسلام أيضاً على الإنتاج الاجتماعي أن لا يؤدّى إلى الإسراف ؛ لأنّ الإسراف محرّمٌ (١) في الشريعة ، سواء حصل بتصرّف شخصي من الفرد أو بتصرّف عام من المجتمع خلال حركة الإنتاج ، فكما يحرّم على الفرد أن يستعمل العطور الثمينة في غسل ساحة داره ؛ لأنّه إسراف ، كذلك يحرّم على المجتمع أو على منتجي العطور ـ بتعبير آخر ـ أن ينتجوا من العطور كمّية تزيد على حاجة المجتمع وقدرته الاستهلاكية والتجارية ؛ لأنّ إنتاج الفائض لون من

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٣٣ ، ٣٦ .

٦٣٠

الإسراف ، وتبديد الأموال بدون مبرّر .

٣ ـ يسمح الإسلام للإمام بالتدخل في الإنتاج للمبرّرات الآتية :

أوّلاً : لكي تضمن الدولة الحدّ الأدنى من إنتاج السلع الضرورية ، والحدّ الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنه ؛ لأنّ من الواضح أنّ سير مشاريع الإنتاج الخاصة وفقاً لإرادة أصحابها دون توجيه مركزي من قبل السلطة الشرعية يؤدّي في عصور الإنتاج المعقّد والضخم إلى تسيب الإنتاج الاجتماعي ، وتعرّضه للإسراف والإفراط من جانب ، وللتفريط بالحدّ الأدنى من جانب آخر فلا بدّ لضمان سير الإنتاج الاجتماعي بين الحدّين من الأشراف والتوجيه .

وثانياً : لأجل أن تُملأ منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف ، فإنّ منطقة الفراغ تضمّ جميع ألوان النشاط المباحة بطبيعتها ، فلولي الأمر أن يتدخّل في هذه الألوان من النشاط ، ويحدّد منها في ضوء الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي وسوف نتحدّث بتفصيل عن منطقة الفراغ هذه ، وحدودها ودورها في البحث المقبل والذي نعنيه هنا : أنّ الصلاحيات الممنوحة لولي الأمر في ملء منطقة الفراغ تجعل من حقّه التدخّل في حركة الإنتاج والأشراف عليها ، وتحديدها ضمن منطقة الفراغ المتروكة للدولة .

وثالثاً : أنّ التشريع الإسلامي بشأن توزيع الثروات الطبيعة الخام يفسح المجال بطبيعته للدولة لكي تتدخّل وتهيمن على الحياة الاقتصادية كلّها ؛ لأنّ تشريع الإسلام بهذا الشأن يجعل من المباشرة في العمل شرطاً أساسياً في تملّك الثروة الطبيعية الخام واكتساب الحقّ الخاص فيه ـ على قولٍ فقهيّ سبق في بعض الأبنية العُلْوية ـ وهذا يعني بطبيعته عدم إمكان قيام الفرد ، مهما كانت إمكاناته ، بالمشاريع الكبرى في استثمار الطبيعة وثرواتها العامة ، مادام لا يكتسب حقّه فيها إلاّ بالمباشرة فيتعيّن على إنتاج الثروات الطبيعية الخام والصناعات

٦٣١

الاستخراجية أن تتمّ بتنظيم من السلطة الشرعية ؛ ليتاح عن طريقها إقامة مشاريع كبرى لاستثمار تلك ، وإذا تمّت للدولة الهيمنة على الصناعات الاستخراجية وإنتاج المواد الأولية الخام ، كان لها بالتالي السيطرة وبصورة غير مباشرة على مختلف فروع الإنتاج في الحياة الاقتصادية ؛ لأنّها تتوقف غالباً على الصناعات الاستخراجية ، وإنتاج المواد الأوّلية ، فيمكن لولي الأمر أن يتدخّل في مختلف تلك الفروع بصورة غير مباشرة عن طريق هيمنته على المرحلة الأولى والأساسية من الإنتاج ، أي : إنتاج المواد الطبيعة .

٦٣٢

الكتاب الثاني ٥

مسئولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي

١ ـ الضمان الاجتماعي

٢ ـ التوازن الاجتماعي

٣ ـ مبدأ تدخّل الدولة

٦٣٣

١ ـ الضمان الاجتماعي

فرض الإسلام على الدولة ضمان معيشة أفراد المجتمع الإسلامي ضماناً كاملاً وهي عادة تقوم بهذه المهمّة على مرحلتين : ففيالمرحلة الأولى تهيئ الدولة للفرد وسائل العمل ، وفرصة المساهمة الكريمة في النشاط الاقتصادي المثمر ؛ ليعيش على أساس عمله وجهده فإذا كان الفرد عاجزاً عن العمل وكسب معيشته بنفسه كسباً كاملاً ، أو كانت الدولة في ظرف استثنائي لا يمكنها منحه فرصة العمل ، جاء دورالمرحلة الثانية ، التي تمارس فيها الدولة تطبيق مبدأ الضمان ، عن طريق تهيئة المال الكافي لسدّ حاجات الفرد ، وتوفير حدّ خاص من المعيشة له .

ومبدأ الضمان الاجتماعي هذا يرتكز في المذهب الاقتصادي للإسلام على أساسين ، ويستمدّ مبرّراته المذهبية منهما :

أحدهما : التكافل العام .

والآخر : حقّ الجماعة في موارد الدولة العامة .

ولكلّ من الأساسين حدوده ومقتضياته في تحديد نوع الحاجات التي يجب أن يُضمَن إشباعها ، وتعيين الحدّ الأدنى من المعيشة التي يوفّرها مبدأ الضمان الاجتماعي للأفراد .

٦٣٤

فالأساس الأوّل للضمان لا يقتضي أكثر من ضمان إشباع الحاجات الحياتية والملحّة للفرد ، بينما يزيد الأساس الثاني على ذلك ، ويفرض إشباعاً أوسع ومستوى أرفع من الحياة .

والدولة يجب أن تمارس الضمان الاجتماعي في حدود إمكاناتها على مستوى كلّ من الأساسين .

ولكي نحدّد فكرة الضمان في الإسلام يجب أن نشرح هذين الأساسين ومقتضياتهما وأدلّتهما الشرعية .

الأساس الأوّل للضمان الاجتماعي :

فالأساس الأوّل للضمان الاجتماعي : هو التكافل العاموالتكافل العام : هو المبدأ الذي يفرض فيه الإسلام على المسلمين كفايةً كفالة بعضهم لبعض ، ويجعل من هذه الكفالة فريضة على المسلم في حدود ظروفه وإمكاناته ، يجب عليه أن يؤدّيها على أيّ حال كما يؤدّي سائر فرائضه .

والضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس هذا المبدأ للتكافل العام بين المسلمين يعبّر في الحقيقة عن دور الدولة في إلزام رعاياها بامتثال ما يكلّفون به شرعاً ، ورعايتها لتطبيق المسلمين أحكام الإسلام على أنفسهم فهي بوصفها الأمينة على تطبيق أحكام الإسلام ، والقادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مسئولة عن أمانتها ، ومخوّلة حقَّ إكراه كلّ فرد على أداء واجباته الشرعية ، وامتثال التكاليف التي كلّفه الله بها فكما يكون لها حقّ إكراه المسلمين على الخروج إلى الجهاد لدى وجوبه عليهم ، كذلك لها حقّ إكراههم على القيام بواجباتهم في كفالة العاجزين ، إذا امتنعوا عن القيام بها وبموجب هذا الحقّ يتاح لها أن تضمن حياة العاجزين وكالة عن المسلمين ، وتفرض عليهم في حدود

٦٣٥

صلاحياتها مدّ هذا الضمان بالقدر الكافي من المال ، الذي يجعلهم قد أدّوا الفريضة وامتثلوا أمر الله تعالى .

ولأجل أن نعرف حدود الضمان الاجتماعي الذي تمارسه الدولة على أساس مبدأ التكافل ، ونوع الحاجات التي يضمن إشباعها ، يجب أن نستعرض بعض النصوص التشريعية التي أشارت إلى مبدأ التكافل ؛ لنحدد في ضوئها القدر الواجب من الكفالة على المسلمين ، وبالتالي حدود الضمان الذي تمارسه الدولة على هذا الأساس .

فقد جاء في الحديث الصحيح عن سماعة :( أنّه سأل الأمام جعفر بن محمّد عن قومٍ عندهم فضل ، وبإخوانهم حاجة شديدة ، وليس يسعهم الزكاة : أيسعهم أن يشبعوا ويجوع إخوانهم ، فإنّ الزمان شديد ؟ فردّ الإمام عليه قائلاً : إنّ المسلم أخُ المسلم ؛ لا يَظلِمه ولا يَخذله ولا يَحرمه ، فيحقّ على المسلمين الاجتهاد فيه والتواصل والتعاون عليه ، والمواساة لأهل الحاجة ) (١) .

وفي حديث آخر : أنّ الإمام جعفر قالعليه‌السلام :( أيّما مؤمن مَنع مؤمناً شيئاً ممّا يحتاج إليه ، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره ، أقامه الله يوم القيامة مسودّاً وجهه ، مزرقّة عيناه ، مغلولة يداه إلى عُنقه ، فيقال : هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ، ثمّ يؤمر به إلى النار ) (٢) .

وواضح أنّ الأمر به إلى النار يدلّ على أنّ المؤمن يجب عليه إشباع حاجة أخيه المؤمن في حدود قدرته ؛ لأنّ الشخص لا يدخل النار إذا ترك شيئاً لا يجب عليه .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٦ : ٣٨٥ ، الباب ٣٧ من أبواب فعل المعروف ، الحديث الأوّل .

(٢) المصدر السابق : ٣٨٧ ـ ٣٨٨ ، الباب ٣٩ من أبواب فعل المعروف ، الحديث الأوّل .

٦٣٦

والحاجة في هذا الحديث وإن جاءت مطلقة ولكنّ المقصود منها هو الحاجة الشديدة التي ورد الحديث الأوّل بشأنها ؛ لأنّ غير الحاجات الشديدة لا يجب على المسلمين كفالتها وضمان إشباعها إجماعاً .

وينتج عن ذلك : أنّ الكفالة هي في حدود الحاجات الشديدة فالمسلمون إذا كان لديهم فضل عن مؤُنتهم ، فلا يسعهم ـ على حد تعبير النصّ في الحديث الأوّل ـ أن يتركوا أخاهم في حاجة شديدة ، بل يجب عليهم إشباع تلك الحاجة وسدّها .

وقد ربط الإسلام بين هذه الكفالة ومبدأ الأخوّة العامّة بين المسلمين(١) ؛ ليدلّل على أنّها ليست ضريبة التفوّق في الدخل فحسب ، وإنّما هي التعبير العملي عن الأخوّة العامّة ، سيراً منه على طريقه في إعطاء الأحكام إطاراً خُلُقياً يتّفق مع مفاهيمه وقيمه ، فحقّ الإنسان في كفالة الآخر له مستمّد في مفهوم الإسلام من أخوّته له ، واندراجه معه في الأسرة البشرية الصالحة والدولة تمارس في حدود صلاحياتها حماية هذا الحقّ وضمانه والحاجات التي يضمن هذا الحق إشباعها هي الحاجات الشديدة ، وشدّة الحاجة تعني كون الحاجة حياتية ، وعُسر الحياة بدون إشباعها .

وهكذا نعرف : أنّ الضمان الاجتماعي الذي يقوم على أساس التكافل يتحدّد ـ وفقاً له ـ بحدود الحاجات الحياتية للأفراد التي يعسر عليهم الحياة بدون إشباعها(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) سورة الحجرات : ١٠ ووسائل الشيعة ١٦ : ٣٨٥ ، الباب ٣٧ من أبواب فعل المعروف ، الحديث الأوّل وراجع : بحار الانوار ٧٤ : ٢٦٤ ـ ٢٧٤ ، الباب ١٦ .

(٢) انظر : الأصول من الكافي ٢ : ١٦٩ .

٦٣٧

الأساس الثاني للضمان الاجتماعي :

ولكنّ الدولة لا تستمد مبرّرات الضمان الاجتماعي الذي تمارسه من مبدأ التكافل العام فحسب ، بل قد يمكن إبراز أساس آخر للضمان الاجتماعي كما عرفنا سابقاً ، وهو حقّ الجماعة في مصادر الثروة وعلى أساس هذا الحقّ تكون الدولة مسئولة بصورة مباشرة عن ضمان معيشة المعوزين والعاجزين ، بقطع النظر عن الكفالة الواجبة على أفراد المسلمين أنفسهم .

وسوف نتحدّث أوّلاً : عن هذه المسئولية المباشرة للضمان وحدودها وفقاً لنصوصها التشريعية ، ثمّ عن الأساس النظري الذي ترتكز عليه فكرة هذا الضمان ، وهو حقّ الجماعة في ثروات الطبيعة .

أمّا عن المسئولية المباشرة للضمان : فإنّ حدود هذه المسئولية تختلف عن حدود الضمان الذي تمارسه الدولة على أساس مبدأ التكافل العام فإن هذه المسئولية لا تفرض على الدولة ضمان الفرد في حدود حاجاته الحياتية فحسب ، بل تفرض عليها أن تضمن للفرد مستوى الكفاية من المعيشة الذي يحياه أفراد المجتمع الإسلامي ؛ لأنّ ضمان الدولة هنا ضمان إعالة ، وإعالة الفرد هي القيام بمعيشته وإمداده بكفايته ، والكفاية من المفاهيم المَرِنة ، التي يتّسع مضمونها كلّما ازدادت الحياة العامة في المجتمع الإسلامي يُسراً ورخاءً ، وعلى هذا الأساس يجب على الدولة أن تشبع الحاجات الأساسية للفرد ، من غذاءٍ ومسكنٍ ولباسٍ ، وأن يكون إشباعها لهذه الحاجات من الناحية النوعيّة والكمّية في مستوى الكفاية بالنسبة إلى ظروف المجتمع الإسلامي كما يجب على الدولة إشباع غير الحاجات الأساسية من ساير الحاجات ، التي تدخل في مفهوم المجتمع الإسلامي عن الكفاية ، تبعاً لمدى ارتفاع مستوى المعيشة فيه .

والنصوص التشريعية التي تدلّ على المسئولية المباشرة للدولة في الضمان

٦٣٨

الاجتماعي واضحة كلّ الوضوح في التأكيد على هذه المسئولية ، وعلى أنّ الضمان هنا ضمان إعالة ، أي : ضمان مستوى الكفاية من المعيشة .

ففي الحديث عن الإمام جعفر :( أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول في خطبته : مَن ترك ضياعه فعليَّ ضياعه ، ومن ترك دَيْناً فَعَليَّ دينُه ، ومَن ترك ماله فآكله ) (١) .

وفي حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام قال : ـ محدّداً ما للإمام وما عليه ـ :( أنّه وارثُ مَن لا وارثَ له ، ويعول من لا حِيلة له ) (٢) .

وفي خبر موسى بن بكر : أنّ الإمام موسى قال له :( مَن طَلب هذا الرزق من حِلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله ، فإن غلب عليه فليستَدِن على الله وعلى رسوله ما يقوت به عياله فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه ، فإن لم يقضه كان عليه وزره إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا... ) (٣) ، فهو فقيرٌ مسكينٌ مُغرَم ) (٤) .(٥)

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٣٧ ، الباب ٩ من أبواب الدين والقرض ، الحديث ٥ .

(٢) المصدر السابق ٩ : ٥٢٤ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ٤ .

(٣) سورة التوبة : ٦٠ .

(٤) الفروع من الكافي ٥ : ٩٣ ، باب الدين ، الحديث ٣ .

(٥) واستشهاد الإمام بهذه الآية الكريمة لا يعني حصر مسئولية ولي الأمر في الإعالة والإنفاق بمورد معيّن من موارد بيت المال ، وهو الزكاة ؛ وذلك لأنّ الآية لا تختص بالزكاة ، وإنّما هي تقرّر حُكماً عامّاً في الصدقة بجميع أقسامها ، فتشمل المال الذي تدفعه الدولة إلى العاجز والمعوَز ؛ لأنّه ضربٌ من الصدقة أيضاً أضف إلى هذا : أنّ وليّ الأمر لا يجب عليه بسط الزكاة وتقسيمها على الأصناف الثمانية المذكورة في الآية ، بل يجوز له إنفاقها على بعض تلك الأصناف (لاحظ : الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ١ : ٣٥٨) مع أنّ النصّ في حديث موسى بن بكر يؤكّد أنّ ولي الأمر إذا لم يقضِ دَين الرجل كان عليه وزره وليس هذا إلاّ لمسئولية خاصة للدولة في الضمان (المؤلّف قدّس سرّه)

٦٣٩

وجاء في كتاب الإمام عليّ إلى واليه على مصر :( ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى ، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً ، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ ، فإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى ، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ .

وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ ، فَفَرِّغْ لأُولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بَالإِعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ تَلْقَاهُ ، فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ وَتَعَهَّد ْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ ، وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ ) (١) .

فهذه النصوص تقرّر بكلّ وضوح مبدأ الضمان الاجتماعي ، وتشرح المسئولية المباشرة للدولة في إعالة الفرد وتوفير حدّ الكفاية له .

هذا هو مبدأ الضمان الاجتماعي ، الذي تعتبر الدولة مسئولة بصورة مباشرة عن تطبيقه ، وممارسته في المجتمع الإسلامي .

وأمّا الأساس النظري الذي ترتكز فكرة الضمان في هذا المبدأ عليه ، فمن الممكن أن يكون إيمان الإسلام بحقّ الجماعة كلّها في موارد الثروة ؛

ـــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٤٣٨ ـ ٤٣٩ .

٦٤٠