اقتصادنا

اقتصادنا0%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 741
المشاهدات: 141725
تحميل: 8007

توضيحات:

اقتصادنا
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 141725 / تحميل: 8007
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لأنّ هذه الموارد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافّة ، لا لفِئة دون فئة( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (١) ، وهذا الحقّ يعيّن أنّ كلّ فرد من الجماعة له الحقّ في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها فمن كان من الجماعة قادراً على العمل في حدّ القطاعات العامة والخاصة ، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحيتها ومن لم تتح له فرصة العمل أو كان عاجزاً عنه ، فعلى الدولة أن تضمن حقّه في الاستفادة من ثروات الطبيعة ، بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم .

فالمسئولية المباشرة للدولة في الضمان ترتكز على أساس الحقّ العام للجماعة في الاستفادة من ثروات الطبيعة ، وثبوت هذا الحقّ للعاجزين عن العمل من أفراد الجماعة .

وأمّا الطريقة التي اتّخذها المذهب لتمكين الدولة من ضمان هذا الحقّ وحمايته للجماعة كلّها بما تضمّ من العاجزين ، فهي إيجاد بعض القطاعات العامة في الاقتصاد الإسلامي ، التي تتكوّن من موارد الملكية العامة ، وملكية الدولة ، لكي تكون هذه القطاعات ـ إلى صف فريضة الزكاة ـ ضماناً لحقّ الضعفاء من أفراد الجماعة ، وحائلاً دون احتكار الأقوياء للثروة كلّها ، ورصيداً للدولة يمدّها بالنفقات اللازمة لممارسة الضمان الاجتماعي ، ومنح كلّ فرد حقّه في العيش الكريم من ثروات الطبيعة .

فالأساس على هذا الضوء هو : حقّ الجماعة كلّها في الانتفاع بثروات الطبيعة .

والفكرة التي ترتكز على هذا الأساس هي المسئولية المباشرة للدولة في والطريقة المذهبية وضعت لتنفيذ هذه الفكرة هي : القطاع العام الذي أنشأه الاقتصاد الإسلامي ضماناً لتحقيق هذه الفكرة ، في جملة ما يحقّق من أهداف .

ـــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ٢٩ .

٦٤١

ضمان مستوى الكفاية من العيش الكريم ، لجميع الأفراد العاجزين والمعوزين .

وقد يكون أروع نصّ تشريعي في إشعاعه المحتوى المذهبي للأساس والفكرة ، والطريقة جميعاً هو المقطع القرآني في سورة الحشر ، الذي يحدّد وظيفة الفيء ودوره في المجتمع الإسلامي بوصفه قطاعاً عاماً وإليكم النصّ :

( وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ) (١) .

ففي هذا النصّ القرآني قد نجد إشعاعاً بالأساس الذي تقوم عليه فكرة الضمان وهو حقّ الجماعة كلّها في الثروة( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ) ، وتفسيراً لتشريع القطاع العام في الفيء ، بكونه طريقة لضمان هذا الحقّ ، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة وتأكيداً على وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة اليتامى والمساكين وابن سبيل ، ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقّهم في الانتفاع بالطبيعة ، التي خلقها الله لخدمة الإنسان(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) سورة الحشر : ٦ و ٧ .

(٢) هناك بعض الروايات يدلّ على ما يخالف ذلك في تفسير الآية ، كالرواية التي تتحدّث عن نزول الآيتين في موضوعين مختلفين : فالأولى في الفيء ، والثانية في الغنيمة أو في خمس الغنيمة خاصة ولكنّ هذه الروايات ضعيفة السند ، كما يظهر بتتبع سلسلة رواتها ولهذا يجب أن نفسّر الآيتين في ضوء ظهورهما ومن الواضح ظهورهما في الحديث عن موضوع واحد وهي الفيء فالآية الأولى تنفي حقّ المقاتلين في الفيء ؛ لأنّه ممّا لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب ، والآية الثانية تحدّد مصرف الفيء ، أي : الجهات التي يصرف عليها الفيء ، ومن الواضح أنّ كون المساكين وابن السبيل واليتامى مصرفاً للفيء لا ينافي كونه مِلكاً للنبيّ والإمام باعتبار منصبه ؛ كما دلّت على ذلك الروايات الصحيحة [ وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٣ ، الباب الأوّل من أبواب الانفال وما يختص بالإمام ] .

فالمستخلَص من تلك الروايات بعد ملاحظة الآية معها : أنّ الفيء ملك المنصب الذي يشغله النبي والإمام ومصرفه الذي يجب عليه صرفه عليه هو ما يدخل ضمن دائرة العناوين التي ذكرتها الآية ، من المصالح المرتبطة بالله والرسول وذوي القربى والمساكين وابن السبيل واليتامى وبتحديد المصرف بموجب الآية الكريمة ، يقيّد عموم قوله ( يجعله حيث يحبّ ) في رواية زرارة [ المصدر السابق ، الحديث ١٠ ، وهي رواية محمد بن مسلم ، لا زرارة ] ، فتكون النتيجة : أنّ الإمام يجعله حيث يجب ضمن الدائرة التي حدّدتها الآية الكريمة (المؤلّف قدّس سرّه)

٦٤٢

فالأساس والفكرة والطريقة كلّها واضحة ، في هذا الضوء القرآني .

وقد أفتى بعض الفقهاء كالشيخ الحرّ (١) : بأنّ ضمان الدولة لا يختصّ بالمسلم فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب كانت نفقته من بيت المال وقد نقل الشيخ الحرّ حديثاً عن الإمام علي : أنّه مرّ بشيخ مكفوف كبير يسأل ، فقال أمير المؤمنين :ما هذا ؟ فقيل له : يا أمير المؤمنين : إنّه نصراني فقال الإمام :استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه !! أنفقوا عليه من بيت المال (٢) .

ـــــــــــــــ

(١) و(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٦٦ ، الباب ١٩ من أبواب جهاد العدو ، الحديث الأوّل .

٦٤٣

٢ ـ التوازن الاجتماعي

حين عالج الإسلام قضية التوازن الاجتماعي ، ليضع منه مبدأً للدولة في سياستها الاقتصادية ، انطلق من حقيقتين أحداهما كونية ، والأخرى مذهبية .

أمّا الحقيقة الكونية فهي : تفاوت أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات ، النفسية والفكرية والجسدية فهم يختلفون في الصبر والشجاعة ، وفي قوّة العزيمة والأمل ويختلفون في حدّة الذكاء وسرعة البديهة ، وفي القدرة على الإبداع والاختراع ويختلفون في قوّة العضلات وفي ثبات الأعصاب ، إلى غير ذلك من مقوّمات الشخصية الإنسانية التي وزّعت بدرجات متفاوتة على الأفراد(١) .

وهذه التناقضات ليست في رأي الإسلام ناتجة عن أحداث عرضية في

ـــــــــــــــ

(١) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ) بحار الأنوار ٦١ : ٦٥ ، باب حقيقة النفس والروح وأحوالهما ، الحديث ٥١ وقال عليعليه‌السلام : ( لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا ، فإذا استووا اهلكوا ) بحار الأنوار ٧٧ : ٣٨٥ ، باب مواعظ أمير المؤمنينعليه‌السلام وحِكَمه وعنهعليه‌السلام : ( وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون ) بحار الأنوار ، ٦٧ : ٩٤ ، باب طينة المؤمن وخروجه من الكافر .

٦٤٤

تأريخ الإنسان ، كما يزعم هواة العامل الاقتصادي ، الذين يحاولون أن يجدوا فيه التعليل النهائي لكلّ ظواهر التأريخ الإنساني فإنّ من الخطأ محاولة تفسير تلك التناقضات والفروق بين الأفراد على أساس ظرف اجتماعي معيّن ، أو عامل اقتصادي خاص ؛ لأنّ هذا العامل أو ذلك الظرف لئن أمكن أن تفسّر على ضوئه الحالة الاجتماعية ككلّ ، فيقال : إنّ التركيب الطبقي الإقطاعي أو إنّ نظام الرقيق كان وليد هذا العامل الاقتصادي ، كما يصنع أنصار التفسير المادّي للتأريخ فلا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون العامل الاقتصادي ، أو أيّ وضع اجتماعي ، كافياً لتفسير ظهور تلك الاختلافات والتناقضات الخاصة بين الأفراد وإلاّ فلماذا اتّخذ هذا الفرد دور الرقيق ، وذلك الفرد دور السيد المالك ؟! وأصبح هذا الفرد ذكياً قادراً على الإبداع ، والآخر خاملاً عاجزاً عن الإجادة ؟! ولماذا لم يتبادل هذان الفردان دور هما ضمن إطار النظام العام ؟!

ولا جواب على هذا السؤال بدون افتراض الأفراد مختلفين في مواهبهم وإمكاناتهم الخاصة ، قبل كلّ تفاوت اجتماعي بينهم في التركيب الطبقي للمجتمع ، لكي يفسّر تفاوت الأفراد في التركيب الطبقي ، واختصاص كلّ فرد بدوره الخاص في هذا التركيب ، على أساس الاختلاف في مواهبهم وإمكاناتهم فمن الخطأ القول : بأنّ هذا الفرد أصبح ذكيّاً لأنّه احتل دور السيد في التركيب الطبقي ، وذاك أصبح خاملاً لأنّه قام بدور العبد في هذا التركيب ؛ لأنّه لا بدّ لكي يحتلّ هذا دور العبد ويحضى ذاك بدور السيد أن يوجد فارق بينهما مكّن السيد بإقناع العبد بتوزيع الأدوار على هذا الشكل وهكذا ننتهي حتماً في التعليل إلى العوامل الطبيعية السيكولوجية التي تنبع منها الاختلافات الشخصية ، في مختلف الخصائص والصفات.

٦٤٥

فالاختلاف بين الأفراد حقيقة مطلقة وليس نتيجة إطار اجتماعي معيّن ، فلا يمكن لنظرة واقعية تجاهلها ، ولا لنظام اجتماعي إلغاؤه في تشريع ، أو في عملية تغيير لنوع العلاقات الاجتماعيةهذه هي الحقيقة الأولى .

وأمّا الحقيقة الأخرى في المنطق الإسلامي لمعالجة قضية التوازن فهي : القاعدة المذهبية للتوزيع القائلة : بأنّ العمل هو أساس الملكية وما لها من حقوق وقد مرّت بنا هذه القاعدة ، ودرسنا محتواها المذهبي بكلّ تفصيل في بحوث التوزيع .

لنجمع الآن هاتين الحقيقتين ؛ لنعرف كيف انطلق الإسلام منهم لمعالجة قضية التوازن ؟

إنّ نتيجة الإيمان بهاتين الحقيقتين هي : السماح بظهور التفاوت بين الأفراد في الثروة ، فإذا افترضنا جماعة استوطنوا أرضاً وعمروها ، وأنشأوا عليها مجتمعاً ، وأقاموا علاقاتهم على أساس أنّ العمل هو مصدر الملكية ، ولم يمارس أحدهم أيّ لون من ألوان الاستغلال للآخر فسوف نجد أنّ هؤلاء يختلفون بعد برهة من الزمن في ثرواتهم ، تبعاً لاختلافهم في الخصائص الفكرية والروحية والجسدية ، وهذا التفاوت يقرّه الإسلام ؛ لأنّه وليد الحقيقتين اللتين يؤمن بهما معاًً ولا يرى فيه خطراً على التوازن الاجتماعي ولا تناقضاً معه وعلى هذا الأساس يقرّر الإسلام أنّ التوازن الاجتماعي يجب أن يفهم في حدود الاعتراف بهاتين الحقيقتين .

ويخلص الإسلام من ذلك إلى القول : بأنّ التوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة ، لا في مستوى الدخل والتوازن في

٦٤٦

مستوى المعيشة معناه : أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع ومتداولاً بينهم ، إلى درجة تتيح لكلّ فرد العيش في المستوى العام ، أي : أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة ، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة ، ولكنّه تفاوت درجة ، وليس تناقضاً كليّاً في المستوى ، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي .

وهذا لا يعني أنّ الإسلام يفرض إيجاد هذه الحالة من التوازن في لحظة وإنّما يعني جعل التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة ، هدفاً تسعى الدولة ـ في حدود صلاحياتها ـ إلى تحقيقه والوصول إليه ، بمختلف الطرق والأساليب المشروعة التي تدخل ضمن صلاحياتها .

وقد قام الإسلام من ناحيته بالعمل لتحقيق هذا الهدف ، بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف ، وبضغط المستوى من أسفل ، بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أرفع وبذلك تتقارب المستويات حتى تندمج أخيراً في مستوى واحد ، قد يضمّ درجات ولكنّه لا يحتوي على التناقضات الرأسمالية الصارخة في مستويات المعيشة .

وفهمنا هذا لمبدأ التوازن الاجتماعي في الإسلام يقوم على أساس التدقيق في النصوص الإسلامية ، الذي يكشف عن إيمان هذه النصوص بالتوازن الاجتماعي كهدف ، وإعطائها لهذا الهدف نفس المضمون الذي شرحناه وتأكيدها على توجيه الدولة إلى رفع معيشة الأفراد الذين يحيون حياة منخفضة ، تقريباً للمستويات بعضها من بعض ، بقصد الوصول أخيراً إلى حالة التوازن العام في مستوى المعيشة .

فقد جاء في الحديث : أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ذكر بشأن تحديد

٦٤٧

مسئولية الوالي في أموال الزكاة :( أنّ الوالي يأخذ المال فيوجّهه الوجه الذي وجّهه الله له ، على ثمانية أسهم ؛ للفقراء والمساكين ، يقسّمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم ، بلا ضيق ولا تقيّة فإن فضل من ذلك شيء رُدّ إلى الوالي وإن نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به ، كان على الوالي أن يَمونَهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا ) (١) .

وهذا النصّ يحدّد بوضوح : أنّ الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام تحقيقه ، ويلقي مسؤولية ذلك على ولي الأمر ، هو أغناء كلّ فرد في المجتمع الإسلامي .

وهذا ما نجده في كلام الشيباني ، على ما حدّث عنه شمس الدين السرخسي في المبسوط ، إذ يقول :( على الإمام أن يتقي الله في صرف الأموال إلى المصارف ، فلا يدع فقيراً إلاّ أعطاه حقّه من الصدقات حتى يغنيه وعياله وإن احتاج بعض المسلمين ، وليس في بيت المال من الصدقات شيء ، أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت مال الخراج ، ولا يكون ذلك ديناً على بيت مال الصدقة ؛ لما بيّنا : أنّ الخراج وما في معناه يصرف إلى حاجة المسلمين ) (٢) .

فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه النصوص أمام ولي الأمر ولكي نعرف المفهوم الإسلامي للغنى ، يجب أن نحدّد ذلك على ضوء النصوص أيضاً ، وإذا رجعنا إليها وجدنا أنّ النصوص جعلت من الغنى الحدّ النهائي لتناول الزكاة ، فسمحت بإعطاء الزكاة للفقير حتى يصبح غنياً ، ومنعت إعطاءه بعد ذلك ، كما جاء في الخبر عن الإمام جعفرعليه‌السلام ( تعطيه من الزكاة حتى تغنيه )(٣) . فالغنى الذي

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الأصول من الكافي ١ : ٥٤١ .

(٢) المبسوط ٤ : ١٨

(٣) وسائل الشيعة ٩ : ٢٥٨ ، الباب ٢٤ ، من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث الأوّل

٦٤٨

يهدف الإسلام إلى توفيره لدى جميع الأفراد ، هو هذا الغنى الذي جعله حدّاً فاصلاً بين إعطاء الزكاة ومنعها .

ومرّة أخرى يجب أن نرجع إلى النصوص ، ونفتش عن طبيعة هذا الحدّ الذي يفصل بين إعطاء الزكاة ومنعها ، لنعرف بذلك مفهوم الغنى في الإسلام .

وفي هذه المرحلة من الاستنتاج يمكن الكشف عن طبيعة ذلك الحدّ ، في ضوء حديث أبي بصير ، الذي جاء فيه :( إنّه سأل الإمام جعفر الصادق عن : رجل له ثمانمئة درهم وهو رجل خفّاف ، وله عيال كثير ، ألَه أن يأخذ من الزكاة ؟ فقال له الإمام : يا أبا محمّد ، أيربح من دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل ؟ فقال أبو بصير : نعم فقال الإمام : إن كان يفضل عن قوته مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة ، وإن كان أقلّ من نصف القوت ، أخذ الزكاة وما أخذه منها فضّه على عياله حتى يلحقهم بالناس ) (١) .

ففي ضوء هذا النصّ نعرف أنّ الغِنى في الإسلام هو إنفاق الفرد على نفسه وعائلته حتى يلحق بالناس وتصبح معيشته في المستوى المتعارف الذي لا ضيق فيه ولا تقيّة .

وهكذا نخرج من تسلسل المفاهيم إلى مفهوم الإسلام عن التوازن الاجتماعي ، ونعرف أنّ الإسلام حين وضع مبدأ التوازن الاجتماعي ، وجعل ولي الأمر مسئولاً عن تحقيقه بالطرق المشروعة شرح فكرته عن التوازن ، وبيّن أنّه يتحقّق بتوفير الغنى لسائر الأفراد وقد استخدمت الشريعة مفهوم الغنى هذا بجعله حدّاً فاصلاً بين جواز الزكاة ومنعها وفسّرت هذا الحد الفاصل في نصوص أخرى : بيسر معيشة الفرد إلى درجةٍ تلحقه بمستوى الناس وبذلك أعطتنا هذه النصوص

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٢٣٢ ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٤ .

٦٤٩

المفهوم الإسلامي للغنى ، الذي عرفنا عن مبدأ التوازن أنّه يستهدف توفيره للعموم ، ويعتبر تعميمه شرطاً في تحقيق التوازن الاجتماعي وهكذا تكتمل في ذهننا الصورة الإسلامية المحدّدة لمبدأ التوازن الاجتماعي ونعلم أنّ الهدف الموضوع لولي الأمر ، هو العمل لإلحاق الأفراد المتخلّفين بمستوى أعلى على نحو يحقّق مستوى عاماً مرفّهاً للمعيشة .

[ توفير الإمكانات اللازمة لتطبيق المبدأ : ]

وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدّد مفهومه ، تكفّل أيضاً بتوفير الإمكانات اللازمة للدولة ، لكي تمارس تطبيقها للمبدأ في حدود تلك الإمكانات .

ويمكن تلخيص هذه الإمكانات في الأمور التالية :

أولاً : فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرّة ، وينفق منه لرعاية التوازن العام .

وثانياً : إيجاد قطاعات لملكية الدولة ، وتوجيه الدولة إلى استثمار تلك القطاعات لأغراض التوازن .

وثالثاً : طبيعة التشريع الإسلامي ، الذي ينظم الحياة الاقتصادية في مختلف الحقول .

١ ـ فرض ضرائب ثابتة :

وهي ضرائب الزكاة والخمس فإنّ هاتين الفريضتين الماليّتين ، لم تشرعا لأجل إشباع الحاجات الأساسية فحسب ، وإنّما شرّعتا أيضاً لمعالجة الفقر ،

٦٥٠

والارتفاع بالفقر إلى مستوى المعيشة الذي يمارسه الأغنياء ؛ تحقيقاً للتوازن الاجتماعي بمفهومه في الإسلام .

والدليل الفقهي على علاقة هذه الضرائب بأغراض التوازن ، وإمكان استخدامها في هذا السبيل ، ما يلي من النصوص :

أ ـ عن إسحاق بن عمار : ( قال: للإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام : أعطي الرجل من الزكاة مئة ؟ قال :نعم قلت : مئتين ؟ قال :نعم . قلت : ثلاثمئة ؟ قال :نعم . قلت : أربعمائة ؟ قال :نعم قلت خمسمئة ؟ قال : نعم ، حتى تغنيه )(١) .

ب ـ عن عبد الرحمن بن الحجّاج : ( قال : سألت الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : عن الرجل يكون أبوه وعمّه أو أخوه يكفيه مئونته ، أيأخذ من الزكاة فيوسع بها ، إن كانوا لا يوسعون عليه في كلّ ما يحتاج إليه ؟ فقال :لا بأس )(٢) .

ج ـ عن سماعة: ( قال : سألت جعفر بن محمّدعليه‌السلام عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم ؟ فقال الإمام :نعم )(٣) .

د ـ عن أبي بصير : ( أنّ الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام تحدّث عمن تجب عليه الزكاة ، وهو ليس موسراً فقال : يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم ، ويُبقي منها شيئاً يناوله غيرهم وما أخذ من الزكاة فضّه على عياله حتى يلحقهم بالناس )(٤) .

هـ ـ عن إسحاق بن عمار : ( قال : قلت للصادقعليه‌السلام أعطي الرجل من

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٢٦٠ ، الباب ٢٤ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٧ .

(٢) المصدر السابق : ٢٣٨ ، الباب ١١ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث الأوّل

(٣) المصدر السابق : ٢٣٥ ، الباب ٩ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث الأوّل

(٤) المصدر السابق : ٢٣٢ ، الباب ٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٤

٦٥١

الزكاة ثمانين درهماً ؟ قال :نعم ، وزده . قلت : أعطيه مئة ؟ قال :نعم ، (١) وأغنه إن قدرت على أن تغنيه )(٢) .

و ـ عن معاوية بن وهب : ( قال : قلت للصادقعليه‌السلام يُروَى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أنّ الصدقة لا تحلّ لغني ، ولا لذي مِرّة سوي . فقال :لا تحلّ لغني )(٣) .

ز ـ عن أبي بصير : ( قال : قلت للإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّ شيخاً من أصحابنا يقال له : عمر سأل عيسى بن أعين وهو محتاج ، فقال له عيسى بن أعين : أمَا أنّ عندي من الزكاة ، ولكن لا أعطيك منها ، لأنّي رأيتك اشتريت لحماً وتمراً فقال له عمر : إنّما ربحت درهماً فاشتريت بدانقين لحماً وبدانقين تمراً ، ثمّ رجعت بدانقين لحاجة ( تقول الرواية أنّ الإمام حينما استمع إلى قصّة عمر وعيسى بن أعين ، وضع يده على جبهته ساعة ، ثمّ رفع رأسه ) وقال : إنّ الله تعالى نظر في أموال الأغنياء ، ثمّ نظر في الفقراء ، فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به ولو لم يكفهم لزادهم بل يعطيه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوج ويتصدّق ويحجّ )(٤) .(٥)

ح ـ عن حمّاد بن عيسى : ( أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام قال ـ وهو

ـــــــــــــــ

(١) يلاحظ هنا أنّ القوة الشرائية للدرهم في عصر تلك النصوص تزيد كثيراً عن القوّة الشرائية للعملة النقديّة التي نطلق عليها اسم الدرهم اليوم (المؤلّف قدّس سرّه)

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٢٥٩ ، الباب ٢٤ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٣

(٣) وسائل الشيعة ٩ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٣ .

(٤) المصدر السابق : ٢٨٩ ـ ٢٩٠ ، الباب ٤١ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٢

(٥) والمرجّح في فهم هذه النصوص أنّها تستهدف السماح بإعطاء الزكاة للفرد في الحدود التي رسمتها بوصفه فقيراً ، لا على أساس تطبيق سهم سبيل الله عليه وهي لذلك يمكن أن تعطينا المفهوم الإسلامي للفقير (المؤلّف قدّس سرّه)

٦٥٢

يتحدّث عن نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل من الخمس ـ :إنّ الوالي يقسّم بينهم على الكتاب والسنّة ، ما يستغنون به في سَنَتِهم ، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي فإن عجز أو نقص عن استغنائهم ، كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به )(١) .

وكتب ابن قدامة يقول : ( قال الميموني : ذاكرت أبا عبد الله ، فقلت : قد تكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير ، وتكون له أربعون شاة وتكون له الضيعة لا تكفيه ، فيُعطى من الصدقة ؟ قال :نعم ، وذكر قول عمر : أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا وقال : في رواية محمّد بن الحكم إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه ، يأخذ من الزكاة وهذا قول الشافعي )(٢) .

وقد فسّر ابن قدامة ذلك بقوله : ( لأنّ الحاجة هي الفقر ، والغنى ضدّه فمن كان محتاجاً فهو فقير يدخل في عموم النصّ ، ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرِّمة )(٣) .

فهذه النصوص تأمر بإعطاء الزكاة وما إليها ، إلى أن يلحق الفرد بالناس ، أو إلى أن يصبح غنياً ، أو لإشباع حاجاته الأوّلية والثانوية من طعام وشراب وكسوةٍ وزواجٍ وصدقةٍ وحجٍ ، على اختلاف التعابير التي وردت فيها وكلّها تستهدف غرضاً واحداً ، وهو : تعميم الغنى بمفهومه الإسلامي ، وإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة .

ـــــــــــــــ

(١) الأصول من الكافي ١ : ٥٤٠ .

(٢) المغني ٢ : ٥٢٥

(٣) المصدر السابق : ٥٢٤

٦٥٣

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نحدّد مفهوم الغنى والفقر عند الإسلام بشكل عام فالفقير هو : من لم يظفر بمستوى من المعيشة يمكّنه من إشباع حاجاته الضرورية وحاجاته الكمالية ، بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة في البلاد أو هو بتعبير آخر : من يعيش في مستوى تفصله هوّة عميقة عن المستوى المعيشي للأثرياء في المجتمع الإسلامي والغني من لا تفصله في مستواه المعيشي هذه الهوّة ، ولا يعسر عليه إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي يتناسب مع ثروة البلاد ، ودرجة رقيّها المادّي ، سواء كان يملك ثروة كبيرة أم لا .

وبهذا نعرف أنّ الإسلام لم يعط للفقر مفهوماً مطلقاً ، ومضموناً ثابت في كلّ الظروف والأحوال ، فلم يقل مثلاً : إنّ الفقر هو العجز عن الإشباع البسيط للحاجات الأساسية وإنّما جعل الفقر بمعنى عدم الالتحاق في المعيشة بمستوى معيشة الناس ، كما جاء في النصّ وبقدر ما يرتفع مستوى المعيشة يتّسع المدلول الواقعي للفقر ؛ لأنّ التخلّف عن مواكبة هذا الارتفاع في مستوى المعيشة يكون فقراً عندئذٍ فإذا اعتاد الناس مثلاً على استقلال كلّ عائلة بدار ، نتيجة لاتساع العمران في البلاد ، أصبح عدم حصول عائلة على دار مستقلّة لوناً من الفقر ، بينما لم يكن فقراً ، حينما لم تكن البلاد قد وصلت إلى هذا المستوى من اليُسر والرخاء .

وهذه المرونة في مفهوم الفقر ترتبط بفكرة التوازن الاجتماعي ، إذ أنّ الإسلام لو كان قد أعطى ـ بدلاً عن ذلك ـ مفهوماً ثابتاً للفقر ، وهو العجز عن الإشباع البسيط الحاجات الأساسية ، وجعل من وظيفة الزكاة وما إليها علاج هذا المفهوم الثابت للفقر ، لما أمكن العمل لإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة عن طريقها ، ولاتسعت الهوّة بين مستوى عوائل الزكاة وما إليها ، ومستوى المعيشة العام للأغنياء ، الذي يزحف ويرتفع باستمرار ؛ تبعاً للتطوّرات المدنية في البلاد وزيادة الثروة الكلّية فإعطاء مفاهيم مَرِنة للفقر والغنى ، ووضع

٦٥٤

نظام الزكاة وما إليها على أساس هذه المفاهيم المرنة هو الكفيل بإمكان استخدام الزكاة وغيرها لصالح التوازن الاجتماعي العام .

وليس غريباً إعطاء مفهوم مرن لمدلول تعلّق به حكم شرعي ، كالفقر الذي ربطت به الزكاة ولا يعني هذا تغيّر الحكم الشرعي ، بل هو حكم ثابت لمفهوم خاص ، والتغيّر إنّما هو في واقع هذا المفهوم تبعاً للظروف .

ونظير هذا مفهوم الطب مثلاً ، فإنّ الشرع حكم بوجوب تعلّم الطب كفاية على المسلمين ، وهذا الوجوب حكم ثابت ، تعلّق بمفهوم خاص وهو (الطب) ولكن ما هو مفهوم الطب ؟ وما يعني تعلّم الطب ؟ إنّ تعلّم الطب هو دراسة المعلومات الخاصة التي تتوفّر في ظرف ما عن الأمراض وطريقة علاجها وهذه المعلومات الخاصة تنمو على مرّ الزمن تبعاً لتطوّر العلم وتكامل التجربة فما هي معلومات خاصة بالأمس ، لا تعتبر معلومات خاصة اليوم ولا يكفي في طبيب اليوم أن يتقن ما كان يعرفه الأطباء الحاذقون في عصر النبوّة ليكون ممتثلاً لحكم الله في تعلّم الطب ، فالمرونة في المفهوم ـ إذن ـ غير التغيّر في الحكم الشرعي وإذا كان طبيب اليوم غير طبيب عصر النبوّة فمن المعقول أن يكون فقير اليوم في مفهوم الإسلام غير فقير عصر النبوّة أيضاً .

٢ ـ إيجاد قطّاعات عامة :

ولم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة التي شرّعها لأجل إيجاد التوازن ، بل جعل الدولة مسئولة عن الإنفاق في القطاع العام لهذا الغرض فقد جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : أنّ على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة أن يُموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا .

وكلمة : (من عنده) تدل على أنّ غير الزكاة من موارد بيت المال يتّسع لاستخدامه في سبيل إيجاد التوازن ؛ بإغناء الفقراء ، ورفع مستوى معيشتهم .

٦٥٥

وقد شرح القرآن الكريم دور الفيء ـ الذي هو أحد موارد بيت المال ـ في إيجاد التوازن ، فقال :( مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُم ) (١) .

وقد مرّ بنا : أنّ هذه الآية الكريمة تتحدّث عن مصرف الفيء ، فتضع اليتامى والمساكين وابن سبيل إلى صفّ الله والرسول وذي القربى ، وهذا يعني : أنّ الفيء معدٌّ للإنفاق منه على الفقراء كما هو معدٌّ للإنفاق منه على المصالح العامة المرتبطة بالله والرسول وتدلّ الآية بوضوح على أنّ إعداد الفيء للإنفاق منه على الفقراء يستهدف جعل المال متداولاً وموجوداً لدى جميع أفراد المجتمع ؛ ليحفظ بذلك التوازن الاجتماعي العام ، ولا يكون دُولة بين الأغنياء خاصة .

والفيء في الأصل : ما يغنمه المسلمون من الكفّار بدون قتال وهو ملك للدولة ، أي : النبيّ والإمام باعتبار المنصب ، ولذلك يعتبر الفيء نوع من الأنفال ، وهي : الأموال التي جعلها الله ملكاً للمنصب الذي يمارسه النبي والإمام كالأراضي الموات أو المعادن ، على قول(٢) .

ويطلق الفيء في المصطلح التشريعي على الأنفال بصورة عامة ؛ بدليل ما جاء في حديث محمّد بن مسلم عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال :( الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء ، وقوم صُولحوا أو أعطوا

ـــــــــــــــ

(١) سورة الحشر : ٧ .

(٢) راجع : منتهى المطلب (ط. الحجرية) ٢ : ٩٢٢ س٦ ، و٩٣٦ س٣٢ ،. وتذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ٤٠٣ ، كتاب الإحياء

٦٥٦

بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية ، فهو كلّه من الفيء ) (١) ، فإنّ هذا النصّ واضح في إطلاق اسم الفَيء ، على غير ما يغنمه المسلمون من أنواع الأنفال ، وفي ضوء هذا المصطلح التشريعي لا يختصّ الفيء حينئذٍ بالغنيمة المجرّدة عن القتال ، بل يصبح تعبيراً عن جميع القطاع الذي يملكه منصب النبيّ والإمام(٢) .

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نستنتج : أنّ الآية حدّدت حكم الأنفال بصورة عامة ، تحت اسم : الفيء وبذلك نعرف أنّ الأنفال تستخدم في الشريعة لغرض حفظ التوازن وضمان تداول المال بين الجميع ، كما تستخدم للمصالح العامّة .

٣ ـ طبيعة التشريع الإسلامي :

والتوازن العام في المجتمع الإسلامي مدين بعد ذلك لمجموعة التشريعات الإسلامية في مختلف الحقول ، فإنّها تساهم عند تطبيق الدولة لها في حماية التوازن .

ولا نستطيع أن نستوعب هنا مجموعة التشريعات ذات الصلة بمبدأ التوازن ، ونكشف عن أوجه الارتباط بينها وبينه وإنّما يكفي أن نشير هنا إلى محاربة الإسلام لاكتناز النقود ، وإلغائه للفائدة ، وتشريعه لأحكام الإرث ، وإعطاء الدولة صلاحيات ضمن منطقة الفراغ المتروكة لها في التشريع الإسلامي ، وإلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام ، إلى غير ذلك من الأحكام .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٧ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ١٢ .

(٢) ولا بدّ أن يضاف إلى ذلك القول بإلغاء خصوصية المورد في الآية بالفهم العرفي (المؤلّف قدّس سرّه)

٦٥٧

فالمنع عن اكتناز النقود وإلغاء الفائدة ، يقضي على دور المصارف الرأسمالية في إيجاد التناقض والإخلال بالتوازن الاجتماعي ، وينتزع منه قدرتها على اقتناص الجزء الكبير من ثروة البلاد ، الأمر الذي تمارسه تلك المصارف في البلاد الرأسمالية عن طريق تشجيع الناس على الادخار ، وإغرائهم بالفائدة .

وينتج عن الموقف الإسلامي طبيعياً : عدم قدرة رأس المال الفردي ـ غالباً ـ على التوسّع في حقول الإنتاج والتجارة ، بالدرجة التي تضرّ التوازن ؛ لأنّ توسّع الأفراد في مشاريع الإنتاج والتجارة ، إنّما يعتمد في مجتمع كالمجتمع الرأسمالي على المصارف الرأسمالية ، التي تمدّ تلك المشاريع بحاجتها إلى المال ، نظير فائدة محدّدة فإذا منع الاكتناز وحرمت الفائدة ، لم يتيسّر للمصارف أن تكدّس في خزائنها النقد بشكل هائل ، ولا أن تمدّ المشاريع الفردية بالقروض فتبقى النشاطات الخاصة على الصعيد الاقتصادي في الحدود المعقولة التي تواكب التوازن العام وتترك ـ طبيعياً ـ المشاريع الكبرى في الإنتاج إلى الملكيّات العامة .

وتشريع أحكام الإرث ، الذي تقسّم التركة بموجبه غالباً على عدد من الأقرباء الورثة ، يعتبر ضماناً آخر للتوازن ؛ لأنّه يفتّت الثروات باستمرار ، ويحول دون تكدّسها عن طريق تقسيمها على الأقرباء ، وفقاً لِما تقرّره أحكام الميراث ففي نهاية كلّ جيل تكون ثروات الأفراد الأغنياء قد قسّمت غالب على مجموعة أكبر عدداً منهم ، وقد يبلغ المالكون الجدد للثروة المتروكة أضعاف ملاّكها الأوّلين .

والصلاحيات الممنوحة للدولة لِملأ منطقة الفراغ لها أثرٌ كبير في حماية التوازن ، كما سنجد في البحث المقبل .

وكذلك إلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام ، يعبّر عن وضع نقطة انطلاق النشاط الاقتصادي ، تؤدّي بطبيعتها إلى التوازن ؛ لأنّ استخدام الثروات الطبيعية هو نقطة الانطلاق الرئيسية في النشاط الاقتصادي .

٦٥٨

فإذا وضعت المباشرة شرطاً أساسياً في تملّك الثروات الخام من الطبيعة ، كما يرى بعض الفقهاء ، ومُنع عن تسخير الآخرين في هذا السبيل فقد حدّد توزيع تلك الثروات بشكل يحقّق التوازن ، ولم يسمح لنفر قليل بالاستيلاء عليها عن طريق تسخير الآخرين لخدمتهم في هذا المجال ، الأمر الذي يعصف بالتوازن ويضع بذرة التناقض والاختلال منذ البداية .

٦٥٩

٣ ـ مبدأ تدخل الدولة

تدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية يعتبر من المبادئ المهمّة في الاقتصاد الإسلامي التي تمنحه القوّة والقدرة على الاستيعاب والشمول .

ولا يقتصر تدخل الدولة على مجرّد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة ، بل يمتدّ إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع فهي تحرص من ناحية على تطبيق العناصر الثابتة من التشريع ، وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحرّكة وفقاً للظروف .

ففي مجال التطبيق تتدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية لضمان تطبيق أحكام الإسلام التي تتّصل بحياة الأفراد الاقتصادية ، فتَحُول ـ مثلاً ـ دون تعامل الناس بالرِّبا ، أو السيطرة على الأرض بدون إحياء كما تدرس الدولة نفسها تطبيق الأحكام التي ترتبط بها مباشرة ، فتحقّق مثلاً الضمان الاجتماعي والتوازن العام في الحياة الاقتصادية بالطريقة التي سمح الإسلام بإتباعها لتحقيق تلك المبادئ .

وفي المجال التشريعي تملأ الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع الإسلامي للدولة لكي تملأها في ضوء الظروف المتطوّرة بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي ، ويحقّق الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية .

وقد أشرنا في مستهلّ هذه البحوث إلى منطقة الفراغ هذه ، وعرفنا أنّ من الضروري دراستها خلال عملية الاكتشاف ؛ لأنّ الموقف الإيجابي للدولة من هذه المنطقة يدخل ضمن الصورة التي نحاول اكتشافها ، بوصفه العنصر المتحرّك في الصورة الذي يمنحها القدرة على أداء رسالتها ، ومواصلة حياتها على الصعيدين : النظري والواقعي ، في مختلف العصور .

لماذا وضعت منطقة فراغ ؟

والفكرة الأساسية لمنطقة الفراغ هذه تقوم على أساس : أنّ الإسلام لا يقدّم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً مَوقوتاً ، أو تنظيماً مرحلياً ، يجتازه التأريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم وإنّما يقدّمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور فكان لا بدّ لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب ، أن ينعكس تطوّر العصور فيها ، ضمن عنصر متحرّك ، يمدّ الصورة بالقدرة على التكيف وفق لظروف مختلفة .

٦٦٠