اقتصادنا

اقتصادنا5%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 152625 / تحميل: 9465
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

لأنّ هذه الموارد الطبيعية قد خلقت للجماعة كافّة ، لا لفِئة دون فئة( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (١) ، وهذا الحقّ يعيّن أنّ كلّ فرد من الجماعة له الحقّ في الانتفاع بثروات الطبيعة والعيش الكريم منها فمن كان من الجماعة قادراً على العمل في حدّ القطاعات العامة والخاصة ، كان من وظيفة الدولة أن تهيئ له فرصة العمل في حدود صلاحيتها ومن لم تتح له فرصة العمل أو كان عاجزاً عنه ، فعلى الدولة أن تضمن حقّه في الاستفادة من ثروات الطبيعة ، بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم .

فالمسئولية المباشرة للدولة في الضمان ترتكز على أساس الحقّ العام للجماعة في الاستفادة من ثروات الطبيعة ، وثبوت هذا الحقّ للعاجزين عن العمل من أفراد الجماعة .

وأمّا الطريقة التي اتّخذها المذهب لتمكين الدولة من ضمان هذا الحقّ وحمايته للجماعة كلّها بما تضمّ من العاجزين ، فهي إيجاد بعض القطاعات العامة في الاقتصاد الإسلامي ، التي تتكوّن من موارد الملكية العامة ، وملكية الدولة ، لكي تكون هذه القطاعات ـ إلى صف فريضة الزكاة ـ ضماناً لحقّ الضعفاء من أفراد الجماعة ، وحائلاً دون احتكار الأقوياء للثروة كلّها ، ورصيداً للدولة يمدّها بالنفقات اللازمة لممارسة الضمان الاجتماعي ، ومنح كلّ فرد حقّه في العيش الكريم من ثروات الطبيعة .

فالأساس على هذا الضوء هو : حقّ الجماعة كلّها في الانتفاع بثروات الطبيعة .

والفكرة التي ترتكز على هذا الأساس هي المسئولية المباشرة للدولة في والطريقة المذهبية وضعت لتنفيذ هذه الفكرة هي : القطاع العام الذي أنشأه الاقتصاد الإسلامي ضماناً لتحقيق هذه الفكرة ، في جملة ما يحقّق من أهداف .

ـــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ٢٩ .

٦٤١

ضمان مستوى الكفاية من العيش الكريم ، لجميع الأفراد العاجزين والمعوزين .

وقد يكون أروع نصّ تشريعي في إشعاعه المحتوى المذهبي للأساس والفكرة ، والطريقة جميعاً هو المقطع القرآني في سورة الحشر ، الذي يحدّد وظيفة الفيء ودوره في المجتمع الإسلامي بوصفه قطاعاً عاماً وإليكم النصّ :

( وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ) (١) .

ففي هذا النصّ القرآني قد نجد إشعاعاً بالأساس الذي تقوم عليه فكرة الضمان وهو حقّ الجماعة كلّها في الثروة( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ) ، وتفسيراً لتشريع القطاع العام في الفيء ، بكونه طريقة لضمان هذا الحقّ ، والمنع عن احتكار بعض أفراد الجماعة للثروة وتأكيداً على وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة اليتامى والمساكين وابن سبيل ، ليظفر جميع أفراد الجماعة بحقّهم في الانتفاع بالطبيعة ، التي خلقها الله لخدمة الإنسان(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) سورة الحشر : ٦ و ٧ .

(٢) هناك بعض الروايات يدلّ على ما يخالف ذلك في تفسير الآية ، كالرواية التي تتحدّث عن نزول الآيتين في موضوعين مختلفين : فالأولى في الفيء ، والثانية في الغنيمة أو في خمس الغنيمة خاصة ولكنّ هذه الروايات ضعيفة السند ، كما يظهر بتتبع سلسلة رواتها ولهذا يجب أن نفسّر الآيتين في ضوء ظهورهما ومن الواضح ظهورهما في الحديث عن موضوع واحد وهي الفيء فالآية الأولى تنفي حقّ المقاتلين في الفيء ؛ لأنّه ممّا لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب ، والآية الثانية تحدّد مصرف الفيء ، أي : الجهات التي يصرف عليها الفيء ، ومن الواضح أنّ كون المساكين وابن السبيل واليتامى مصرفاً للفيء لا ينافي كونه مِلكاً للنبيّ والإمام باعتبار منصبه ؛ كما دلّت على ذلك الروايات الصحيحة [ وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٣ ، الباب الأوّل من أبواب الانفال وما يختص بالإمام ] .

فالمستخلَص من تلك الروايات بعد ملاحظة الآية معها : أنّ الفيء ملك المنصب الذي يشغله النبي والإمام ومصرفه الذي يجب عليه صرفه عليه هو ما يدخل ضمن دائرة العناوين التي ذكرتها الآية ، من المصالح المرتبطة بالله والرسول وذوي القربى والمساكين وابن السبيل واليتامى وبتحديد المصرف بموجب الآية الكريمة ، يقيّد عموم قوله ( يجعله حيث يحبّ ) في رواية زرارة [ المصدر السابق ، الحديث ١٠ ، وهي رواية محمد بن مسلم ، لا زرارة ] ، فتكون النتيجة : أنّ الإمام يجعله حيث يجب ضمن الدائرة التي حدّدتها الآية الكريمة (المؤلّف قدّس سرّه)

٦٤٢

فالأساس والفكرة والطريقة كلّها واضحة ، في هذا الضوء القرآني .

وقد أفتى بعض الفقهاء كالشيخ الحرّ (١) : بأنّ ضمان الدولة لا يختصّ بالمسلم فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب كانت نفقته من بيت المال وقد نقل الشيخ الحرّ حديثاً عن الإمام علي : أنّه مرّ بشيخ مكفوف كبير يسأل ، فقال أمير المؤمنين :ما هذا ؟ فقيل له : يا أمير المؤمنين : إنّه نصراني فقال الإمام :استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه !! أنفقوا عليه من بيت المال (٢) .

ـــــــــــــــ

(١) و(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٦٦ ، الباب ١٩ من أبواب جهاد العدو ، الحديث الأوّل .

٦٤٣

٢ ـ التوازن الاجتماعي

حين عالج الإسلام قضية التوازن الاجتماعي ، ليضع منه مبدأً للدولة في سياستها الاقتصادية ، انطلق من حقيقتين أحداهما كونية ، والأخرى مذهبية .

أمّا الحقيقة الكونية فهي : تفاوت أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات ، النفسية والفكرية والجسدية فهم يختلفون في الصبر والشجاعة ، وفي قوّة العزيمة والأمل ويختلفون في حدّة الذكاء وسرعة البديهة ، وفي القدرة على الإبداع والاختراع ويختلفون في قوّة العضلات وفي ثبات الأعصاب ، إلى غير ذلك من مقوّمات الشخصية الإنسانية التي وزّعت بدرجات متفاوتة على الأفراد(١) .

وهذه التناقضات ليست في رأي الإسلام ناتجة عن أحداث عرضية في

ـــــــــــــــ

(١) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ) بحار الأنوار ٦١ : ٦٥ ، باب حقيقة النفس والروح وأحوالهما ، الحديث ٥١ وقال عليعليه‌السلام : ( لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا ، فإذا استووا اهلكوا ) بحار الأنوار ٧٧ : ٣٨٥ ، باب مواعظ أمير المؤمنينعليه‌السلام وحِكَمه وعنهعليه‌السلام : ( وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون ) بحار الأنوار ، ٦٧ : ٩٤ ، باب طينة المؤمن وخروجه من الكافر .

٦٤٤

تأريخ الإنسان ، كما يزعم هواة العامل الاقتصادي ، الذين يحاولون أن يجدوا فيه التعليل النهائي لكلّ ظواهر التأريخ الإنساني فإنّ من الخطأ محاولة تفسير تلك التناقضات والفروق بين الأفراد على أساس ظرف اجتماعي معيّن ، أو عامل اقتصادي خاص ؛ لأنّ هذا العامل أو ذلك الظرف لئن أمكن أن تفسّر على ضوئه الحالة الاجتماعية ككلّ ، فيقال : إنّ التركيب الطبقي الإقطاعي أو إنّ نظام الرقيق كان وليد هذا العامل الاقتصادي ، كما يصنع أنصار التفسير المادّي للتأريخ فلا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون العامل الاقتصادي ، أو أيّ وضع اجتماعي ، كافياً لتفسير ظهور تلك الاختلافات والتناقضات الخاصة بين الأفراد وإلاّ فلماذا اتّخذ هذا الفرد دور الرقيق ، وذلك الفرد دور السيد المالك ؟! وأصبح هذا الفرد ذكياً قادراً على الإبداع ، والآخر خاملاً عاجزاً عن الإجادة ؟! ولماذا لم يتبادل هذان الفردان دور هما ضمن إطار النظام العام ؟!

ولا جواب على هذا السؤال بدون افتراض الأفراد مختلفين في مواهبهم وإمكاناتهم الخاصة ، قبل كلّ تفاوت اجتماعي بينهم في التركيب الطبقي للمجتمع ، لكي يفسّر تفاوت الأفراد في التركيب الطبقي ، واختصاص كلّ فرد بدوره الخاص في هذا التركيب ، على أساس الاختلاف في مواهبهم وإمكاناتهم فمن الخطأ القول : بأنّ هذا الفرد أصبح ذكيّاً لأنّه احتل دور السيد في التركيب الطبقي ، وذاك أصبح خاملاً لأنّه قام بدور العبد في هذا التركيب ؛ لأنّه لا بدّ لكي يحتلّ هذا دور العبد ويحضى ذاك بدور السيد أن يوجد فارق بينهما مكّن السيد بإقناع العبد بتوزيع الأدوار على هذا الشكل وهكذا ننتهي حتماً في التعليل إلى العوامل الطبيعية السيكولوجية التي تنبع منها الاختلافات الشخصية ، في مختلف الخصائص والصفات.

٦٤٥

فالاختلاف بين الأفراد حقيقة مطلقة وليس نتيجة إطار اجتماعي معيّن ، فلا يمكن لنظرة واقعية تجاهلها ، ولا لنظام اجتماعي إلغاؤه في تشريع ، أو في عملية تغيير لنوع العلاقات الاجتماعيةهذه هي الحقيقة الأولى .

وأمّا الحقيقة الأخرى في المنطق الإسلامي لمعالجة قضية التوازن فهي : القاعدة المذهبية للتوزيع القائلة : بأنّ العمل هو أساس الملكية وما لها من حقوق وقد مرّت بنا هذه القاعدة ، ودرسنا محتواها المذهبي بكلّ تفصيل في بحوث التوزيع .

لنجمع الآن هاتين الحقيقتين ؛ لنعرف كيف انطلق الإسلام منهم لمعالجة قضية التوازن ؟

إنّ نتيجة الإيمان بهاتين الحقيقتين هي : السماح بظهور التفاوت بين الأفراد في الثروة ، فإذا افترضنا جماعة استوطنوا أرضاً وعمروها ، وأنشأوا عليها مجتمعاً ، وأقاموا علاقاتهم على أساس أنّ العمل هو مصدر الملكية ، ولم يمارس أحدهم أيّ لون من ألوان الاستغلال للآخر فسوف نجد أنّ هؤلاء يختلفون بعد برهة من الزمن في ثرواتهم ، تبعاً لاختلافهم في الخصائص الفكرية والروحية والجسدية ، وهذا التفاوت يقرّه الإسلام ؛ لأنّه وليد الحقيقتين اللتين يؤمن بهما معاًً ولا يرى فيه خطراً على التوازن الاجتماعي ولا تناقضاً معه وعلى هذا الأساس يقرّر الإسلام أنّ التوازن الاجتماعي يجب أن يفهم في حدود الاعتراف بهاتين الحقيقتين .

ويخلص الإسلام من ذلك إلى القول : بأنّ التوازن الاجتماعي هو التوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة ، لا في مستوى الدخل والتوازن في

٦٤٦

مستوى المعيشة معناه : أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع ومتداولاً بينهم ، إلى درجة تتيح لكلّ فرد العيش في المستوى العام ، أي : أن يحيا جميع الأفراد مستوى واحداً من المعيشة ، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة ، ولكنّه تفاوت درجة ، وليس تناقضاً كليّاً في المستوى ، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي .

وهذا لا يعني أنّ الإسلام يفرض إيجاد هذه الحالة من التوازن في لحظة وإنّما يعني جعل التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة ، هدفاً تسعى الدولة ـ في حدود صلاحياتها ـ إلى تحقيقه والوصول إليه ، بمختلف الطرق والأساليب المشروعة التي تدخل ضمن صلاحياتها .

وقد قام الإسلام من ناحيته بالعمل لتحقيق هذا الهدف ، بضغط مستوى المعيشة من أعلى بتحريم الإسراف ، وبضغط المستوى من أسفل ، بالارتفاع بالأفراد الذين يحيون مستوى منخفضاً من المعيشة إلى مستوى أرفع وبذلك تتقارب المستويات حتى تندمج أخيراً في مستوى واحد ، قد يضمّ درجات ولكنّه لا يحتوي على التناقضات الرأسمالية الصارخة في مستويات المعيشة .

وفهمنا هذا لمبدأ التوازن الاجتماعي في الإسلام يقوم على أساس التدقيق في النصوص الإسلامية ، الذي يكشف عن إيمان هذه النصوص بالتوازن الاجتماعي كهدف ، وإعطائها لهذا الهدف نفس المضمون الذي شرحناه وتأكيدها على توجيه الدولة إلى رفع معيشة الأفراد الذين يحيون حياة منخفضة ، تقريباً للمستويات بعضها من بعض ، بقصد الوصول أخيراً إلى حالة التوازن العام في مستوى المعيشة .

فقد جاء في الحديث : أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ذكر بشأن تحديد

٦٤٧

مسئولية الوالي في أموال الزكاة :( أنّ الوالي يأخذ المال فيوجّهه الوجه الذي وجّهه الله له ، على ثمانية أسهم ؛ للفقراء والمساكين ، يقسّمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم ، بلا ضيق ولا تقيّة فإن فضل من ذلك شيء رُدّ إلى الوالي وإن نقص من ذلك شيء ولم يكتفوا به ، كان على الوالي أن يَمونَهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا ) (١) .

وهذا النصّ يحدّد بوضوح : أنّ الهدف النهائي الذي يحاول الإسلام تحقيقه ، ويلقي مسؤولية ذلك على ولي الأمر ، هو أغناء كلّ فرد في المجتمع الإسلامي .

وهذا ما نجده في كلام الشيباني ، على ما حدّث عنه شمس الدين السرخسي في المبسوط ، إذ يقول :( على الإمام أن يتقي الله في صرف الأموال إلى المصارف ، فلا يدع فقيراً إلاّ أعطاه حقّه من الصدقات حتى يغنيه وعياله وإن احتاج بعض المسلمين ، وليس في بيت المال من الصدقات شيء ، أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت مال الخراج ، ولا يكون ذلك ديناً على بيت مال الصدقة ؛ لما بيّنا : أنّ الخراج وما في معناه يصرف إلى حاجة المسلمين ) (٢) .

فتعميم الغنى هو الهدف الذي تضعه النصوص أمام ولي الأمر ولكي نعرف المفهوم الإسلامي للغنى ، يجب أن نحدّد ذلك على ضوء النصوص أيضاً ، وإذا رجعنا إليها وجدنا أنّ النصوص جعلت من الغنى الحدّ النهائي لتناول الزكاة ، فسمحت بإعطاء الزكاة للفقير حتى يصبح غنياً ، ومنعت إعطاءه بعد ذلك ، كما جاء في الخبر عن الإمام جعفرعليه‌السلام ( تعطيه من الزكاة حتى تغنيه )(٣) . فالغنى الذي

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الأصول من الكافي ١ : ٥٤١ .

(٢) المبسوط ٤ : ١٨

(٣) وسائل الشيعة ٩ : ٢٥٨ ، الباب ٢٤ ، من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث الأوّل

٦٤٨

يهدف الإسلام إلى توفيره لدى جميع الأفراد ، هو هذا الغنى الذي جعله حدّاً فاصلاً بين إعطاء الزكاة ومنعها .

ومرّة أخرى يجب أن نرجع إلى النصوص ، ونفتش عن طبيعة هذا الحدّ الذي يفصل بين إعطاء الزكاة ومنعها ، لنعرف بذلك مفهوم الغنى في الإسلام .

وفي هذه المرحلة من الاستنتاج يمكن الكشف عن طبيعة ذلك الحدّ ، في ضوء حديث أبي بصير ، الذي جاء فيه :( إنّه سأل الإمام جعفر الصادق عن : رجل له ثمانمئة درهم وهو رجل خفّاف ، وله عيال كثير ، ألَه أن يأخذ من الزكاة ؟ فقال له الإمام : يا أبا محمّد ، أيربح من دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل ؟ فقال أبو بصير : نعم فقال الإمام : إن كان يفضل عن قوته مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة ، وإن كان أقلّ من نصف القوت ، أخذ الزكاة وما أخذه منها فضّه على عياله حتى يلحقهم بالناس ) (١) .

ففي ضوء هذا النصّ نعرف أنّ الغِنى في الإسلام هو إنفاق الفرد على نفسه وعائلته حتى يلحق بالناس وتصبح معيشته في المستوى المتعارف الذي لا ضيق فيه ولا تقيّة .

وهكذا نخرج من تسلسل المفاهيم إلى مفهوم الإسلام عن التوازن الاجتماعي ، ونعرف أنّ الإسلام حين وضع مبدأ التوازن الاجتماعي ، وجعل ولي الأمر مسئولاً عن تحقيقه بالطرق المشروعة شرح فكرته عن التوازن ، وبيّن أنّه يتحقّق بتوفير الغنى لسائر الأفراد وقد استخدمت الشريعة مفهوم الغنى هذا بجعله حدّاً فاصلاً بين جواز الزكاة ومنعها وفسّرت هذا الحد الفاصل في نصوص أخرى : بيسر معيشة الفرد إلى درجةٍ تلحقه بمستوى الناس وبذلك أعطتنا هذه النصوص

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٢٣٢ ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٤ .

٦٤٩

المفهوم الإسلامي للغنى ، الذي عرفنا عن مبدأ التوازن أنّه يستهدف توفيره للعموم ، ويعتبر تعميمه شرطاً في تحقيق التوازن الاجتماعي وهكذا تكتمل في ذهننا الصورة الإسلامية المحدّدة لمبدأ التوازن الاجتماعي ونعلم أنّ الهدف الموضوع لولي الأمر ، هو العمل لإلحاق الأفراد المتخلّفين بمستوى أعلى على نحو يحقّق مستوى عاماً مرفّهاً للمعيشة .

[ توفير الإمكانات اللازمة لتطبيق المبدأ : ]

وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدّد مفهومه ، تكفّل أيضاً بتوفير الإمكانات اللازمة للدولة ، لكي تمارس تطبيقها للمبدأ في حدود تلك الإمكانات .

ويمكن تلخيص هذه الإمكانات في الأمور التالية :

أولاً : فرض ضرائب ثابتة تؤخذ بصورة مستمرّة ، وينفق منه لرعاية التوازن العام .

وثانياً : إيجاد قطاعات لملكية الدولة ، وتوجيه الدولة إلى استثمار تلك القطاعات لأغراض التوازن .

وثالثاً : طبيعة التشريع الإسلامي ، الذي ينظم الحياة الاقتصادية في مختلف الحقول .

١ ـ فرض ضرائب ثابتة :

وهي ضرائب الزكاة والخمس فإنّ هاتين الفريضتين الماليّتين ، لم تشرعا لأجل إشباع الحاجات الأساسية فحسب ، وإنّما شرّعتا أيضاً لمعالجة الفقر ،

٦٥٠

والارتفاع بالفقر إلى مستوى المعيشة الذي يمارسه الأغنياء ؛ تحقيقاً للتوازن الاجتماعي بمفهومه في الإسلام .

والدليل الفقهي على علاقة هذه الضرائب بأغراض التوازن ، وإمكان استخدامها في هذا السبيل ، ما يلي من النصوص :

أ ـ عن إسحاق بن عمار : ( قال: للإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام : أعطي الرجل من الزكاة مئة ؟ قال :نعم قلت : مئتين ؟ قال :نعم . قلت : ثلاثمئة ؟ قال :نعم . قلت : أربعمائة ؟ قال :نعم قلت خمسمئة ؟ قال : نعم ، حتى تغنيه )(١) .

ب ـ عن عبد الرحمن بن الحجّاج : ( قال : سألت الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : عن الرجل يكون أبوه وعمّه أو أخوه يكفيه مئونته ، أيأخذ من الزكاة فيوسع بها ، إن كانوا لا يوسعون عليه في كلّ ما يحتاج إليه ؟ فقال :لا بأس )(٢) .

ج ـ عن سماعة: ( قال : سألت جعفر بن محمّدعليه‌السلام عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم ؟ فقال الإمام :نعم )(٣) .

د ـ عن أبي بصير : ( أنّ الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام تحدّث عمن تجب عليه الزكاة ، وهو ليس موسراً فقال : يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم ، ويُبقي منها شيئاً يناوله غيرهم وما أخذ من الزكاة فضّه على عياله حتى يلحقهم بالناس )(٤) .

هـ ـ عن إسحاق بن عمار : ( قال : قلت للصادقعليه‌السلام أعطي الرجل من

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٢٦٠ ، الباب ٢٤ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٧ .

(٢) المصدر السابق : ٢٣٨ ، الباب ١١ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث الأوّل

(٣) المصدر السابق : ٢٣٥ ، الباب ٩ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث الأوّل

(٤) المصدر السابق : ٢٣٢ ، الباب ٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٤

٦٥١

الزكاة ثمانين درهماً ؟ قال :نعم ، وزده . قلت : أعطيه مئة ؟ قال :نعم ، (١) وأغنه إن قدرت على أن تغنيه )(٢) .

و ـ عن معاوية بن وهب : ( قال : قلت للصادقعليه‌السلام يُروَى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أنّ الصدقة لا تحلّ لغني ، ولا لذي مِرّة سوي . فقال :لا تحلّ لغني )(٣) .

ز ـ عن أبي بصير : ( قال : قلت للإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّ شيخاً من أصحابنا يقال له : عمر سأل عيسى بن أعين وهو محتاج ، فقال له عيسى بن أعين : أمَا أنّ عندي من الزكاة ، ولكن لا أعطيك منها ، لأنّي رأيتك اشتريت لحماً وتمراً فقال له عمر : إنّما ربحت درهماً فاشتريت بدانقين لحماً وبدانقين تمراً ، ثمّ رجعت بدانقين لحاجة ( تقول الرواية أنّ الإمام حينما استمع إلى قصّة عمر وعيسى بن أعين ، وضع يده على جبهته ساعة ، ثمّ رفع رأسه ) وقال : إنّ الله تعالى نظر في أموال الأغنياء ، ثمّ نظر في الفقراء ، فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به ولو لم يكفهم لزادهم بل يعطيه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوج ويتصدّق ويحجّ )(٤) .(٥)

ح ـ عن حمّاد بن عيسى : ( أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام قال ـ وهو

ـــــــــــــــ

(١) يلاحظ هنا أنّ القوة الشرائية للدرهم في عصر تلك النصوص تزيد كثيراً عن القوّة الشرائية للعملة النقديّة التي نطلق عليها اسم الدرهم اليوم (المؤلّف قدّس سرّه)

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٢٥٩ ، الباب ٢٤ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٣

(٣) وسائل الشيعة ٩ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٣ .

(٤) المصدر السابق : ٢٨٩ ـ ٢٩٠ ، الباب ٤١ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٢

(٥) والمرجّح في فهم هذه النصوص أنّها تستهدف السماح بإعطاء الزكاة للفرد في الحدود التي رسمتها بوصفه فقيراً ، لا على أساس تطبيق سهم سبيل الله عليه وهي لذلك يمكن أن تعطينا المفهوم الإسلامي للفقير (المؤلّف قدّس سرّه)

٦٥٢

يتحدّث عن نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل من الخمس ـ :إنّ الوالي يقسّم بينهم على الكتاب والسنّة ، ما يستغنون به في سَنَتِهم ، فإن فضل عنهم شيء فهو للوالي فإن عجز أو نقص عن استغنائهم ، كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به )(١) .

وكتب ابن قدامة يقول : ( قال الميموني : ذاكرت أبا عبد الله ، فقلت : قد تكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير ، وتكون له أربعون شاة وتكون له الضيعة لا تكفيه ، فيُعطى من الصدقة ؟ قال :نعم ، وذكر قول عمر : أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا وقال : في رواية محمّد بن الحكم إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه ، يأخذ من الزكاة وهذا قول الشافعي )(٢) .

وقد فسّر ابن قدامة ذلك بقوله : ( لأنّ الحاجة هي الفقر ، والغنى ضدّه فمن كان محتاجاً فهو فقير يدخل في عموم النصّ ، ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرِّمة )(٣) .

فهذه النصوص تأمر بإعطاء الزكاة وما إليها ، إلى أن يلحق الفرد بالناس ، أو إلى أن يصبح غنياً ، أو لإشباع حاجاته الأوّلية والثانوية من طعام وشراب وكسوةٍ وزواجٍ وصدقةٍ وحجٍ ، على اختلاف التعابير التي وردت فيها وكلّها تستهدف غرضاً واحداً ، وهو : تعميم الغنى بمفهومه الإسلامي ، وإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة .

ـــــــــــــــ

(١) الأصول من الكافي ١ : ٥٤٠ .

(٢) المغني ٢ : ٥٢٥

(٣) المصدر السابق : ٥٢٤

٦٥٣

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نحدّد مفهوم الغنى والفقر عند الإسلام بشكل عام فالفقير هو : من لم يظفر بمستوى من المعيشة يمكّنه من إشباع حاجاته الضرورية وحاجاته الكمالية ، بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة في البلاد أو هو بتعبير آخر : من يعيش في مستوى تفصله هوّة عميقة عن المستوى المعيشي للأثرياء في المجتمع الإسلامي والغني من لا تفصله في مستواه المعيشي هذه الهوّة ، ولا يعسر عليه إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي يتناسب مع ثروة البلاد ، ودرجة رقيّها المادّي ، سواء كان يملك ثروة كبيرة أم لا .

وبهذا نعرف أنّ الإسلام لم يعط للفقر مفهوماً مطلقاً ، ومضموناً ثابت في كلّ الظروف والأحوال ، فلم يقل مثلاً : إنّ الفقر هو العجز عن الإشباع البسيط للحاجات الأساسية وإنّما جعل الفقر بمعنى عدم الالتحاق في المعيشة بمستوى معيشة الناس ، كما جاء في النصّ وبقدر ما يرتفع مستوى المعيشة يتّسع المدلول الواقعي للفقر ؛ لأنّ التخلّف عن مواكبة هذا الارتفاع في مستوى المعيشة يكون فقراً عندئذٍ فإذا اعتاد الناس مثلاً على استقلال كلّ عائلة بدار ، نتيجة لاتساع العمران في البلاد ، أصبح عدم حصول عائلة على دار مستقلّة لوناً من الفقر ، بينما لم يكن فقراً ، حينما لم تكن البلاد قد وصلت إلى هذا المستوى من اليُسر والرخاء .

وهذه المرونة في مفهوم الفقر ترتبط بفكرة التوازن الاجتماعي ، إذ أنّ الإسلام لو كان قد أعطى ـ بدلاً عن ذلك ـ مفهوماً ثابتاً للفقر ، وهو العجز عن الإشباع البسيط الحاجات الأساسية ، وجعل من وظيفة الزكاة وما إليها علاج هذا المفهوم الثابت للفقر ، لما أمكن العمل لإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة عن طريقها ، ولاتسعت الهوّة بين مستوى عوائل الزكاة وما إليها ، ومستوى المعيشة العام للأغنياء ، الذي يزحف ويرتفع باستمرار ؛ تبعاً للتطوّرات المدنية في البلاد وزيادة الثروة الكلّية فإعطاء مفاهيم مَرِنة للفقر والغنى ، ووضع

٦٥٤

نظام الزكاة وما إليها على أساس هذه المفاهيم المرنة هو الكفيل بإمكان استخدام الزكاة وغيرها لصالح التوازن الاجتماعي العام .

وليس غريباً إعطاء مفهوم مرن لمدلول تعلّق به حكم شرعي ، كالفقر الذي ربطت به الزكاة ولا يعني هذا تغيّر الحكم الشرعي ، بل هو حكم ثابت لمفهوم خاص ، والتغيّر إنّما هو في واقع هذا المفهوم تبعاً للظروف .

ونظير هذا مفهوم الطب مثلاً ، فإنّ الشرع حكم بوجوب تعلّم الطب كفاية على المسلمين ، وهذا الوجوب حكم ثابت ، تعلّق بمفهوم خاص وهو (الطب) ولكن ما هو مفهوم الطب ؟ وما يعني تعلّم الطب ؟ إنّ تعلّم الطب هو دراسة المعلومات الخاصة التي تتوفّر في ظرف ما عن الأمراض وطريقة علاجها وهذه المعلومات الخاصة تنمو على مرّ الزمن تبعاً لتطوّر العلم وتكامل التجربة فما هي معلومات خاصة بالأمس ، لا تعتبر معلومات خاصة اليوم ولا يكفي في طبيب اليوم أن يتقن ما كان يعرفه الأطباء الحاذقون في عصر النبوّة ليكون ممتثلاً لحكم الله في تعلّم الطب ، فالمرونة في المفهوم ـ إذن ـ غير التغيّر في الحكم الشرعي وإذا كان طبيب اليوم غير طبيب عصر النبوّة فمن المعقول أن يكون فقير اليوم في مفهوم الإسلام غير فقير عصر النبوّة أيضاً .

٢ ـ إيجاد قطّاعات عامة :

ولم يكتف الإسلام بالضرائب الثابتة التي شرّعها لأجل إيجاد التوازن ، بل جعل الدولة مسئولة عن الإنفاق في القطاع العام لهذا الغرض فقد جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : أنّ على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة أن يُموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا .

وكلمة : (من عنده) تدل على أنّ غير الزكاة من موارد بيت المال يتّسع لاستخدامه في سبيل إيجاد التوازن ؛ بإغناء الفقراء ، ورفع مستوى معيشتهم .

٦٥٥

وقد شرح القرآن الكريم دور الفيء ـ الذي هو أحد موارد بيت المال ـ في إيجاد التوازن ، فقال :( مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُم ) (١) .

وقد مرّ بنا : أنّ هذه الآية الكريمة تتحدّث عن مصرف الفيء ، فتضع اليتامى والمساكين وابن سبيل إلى صفّ الله والرسول وذي القربى ، وهذا يعني : أنّ الفيء معدٌّ للإنفاق منه على الفقراء كما هو معدٌّ للإنفاق منه على المصالح العامة المرتبطة بالله والرسول وتدلّ الآية بوضوح على أنّ إعداد الفيء للإنفاق منه على الفقراء يستهدف جعل المال متداولاً وموجوداً لدى جميع أفراد المجتمع ؛ ليحفظ بذلك التوازن الاجتماعي العام ، ولا يكون دُولة بين الأغنياء خاصة .

والفيء في الأصل : ما يغنمه المسلمون من الكفّار بدون قتال وهو ملك للدولة ، أي : النبيّ والإمام باعتبار المنصب ، ولذلك يعتبر الفيء نوع من الأنفال ، وهي : الأموال التي جعلها الله ملكاً للمنصب الذي يمارسه النبي والإمام كالأراضي الموات أو المعادن ، على قول(٢) .

ويطلق الفيء في المصطلح التشريعي على الأنفال بصورة عامة ؛ بدليل ما جاء في حديث محمّد بن مسلم عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال :( الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء ، وقوم صُولحوا أو أعطوا

ـــــــــــــــ

(١) سورة الحشر : ٧ .

(٢) راجع : منتهى المطلب (ط. الحجرية) ٢ : ٩٢٢ س٦ ، و٩٣٦ س٣٢ ،. وتذكرة الفقهاء (ط. الحجرية) ٢ : ٤٠٣ ، كتاب الإحياء

٦٥٦

بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية ، فهو كلّه من الفيء ) (١) ، فإنّ هذا النصّ واضح في إطلاق اسم الفَيء ، على غير ما يغنمه المسلمون من أنواع الأنفال ، وفي ضوء هذا المصطلح التشريعي لا يختصّ الفيء حينئذٍ بالغنيمة المجرّدة عن القتال ، بل يصبح تعبيراً عن جميع القطاع الذي يملكه منصب النبيّ والإمام(٢) .

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نستنتج : أنّ الآية حدّدت حكم الأنفال بصورة عامة ، تحت اسم : الفيء وبذلك نعرف أنّ الأنفال تستخدم في الشريعة لغرض حفظ التوازن وضمان تداول المال بين الجميع ، كما تستخدم للمصالح العامّة .

٣ ـ طبيعة التشريع الإسلامي :

والتوازن العام في المجتمع الإسلامي مدين بعد ذلك لمجموعة التشريعات الإسلامية في مختلف الحقول ، فإنّها تساهم عند تطبيق الدولة لها في حماية التوازن .

ولا نستطيع أن نستوعب هنا مجموعة التشريعات ذات الصلة بمبدأ التوازن ، ونكشف عن أوجه الارتباط بينها وبينه وإنّما يكفي أن نشير هنا إلى محاربة الإسلام لاكتناز النقود ، وإلغائه للفائدة ، وتشريعه لأحكام الإرث ، وإعطاء الدولة صلاحيات ضمن منطقة الفراغ المتروكة لها في التشريع الإسلامي ، وإلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام ، إلى غير ذلك من الأحكام .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٧ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ١٢ .

(٢) ولا بدّ أن يضاف إلى ذلك القول بإلغاء خصوصية المورد في الآية بالفهم العرفي (المؤلّف قدّس سرّه)

٦٥٧

فالمنع عن اكتناز النقود وإلغاء الفائدة ، يقضي على دور المصارف الرأسمالية في إيجاد التناقض والإخلال بالتوازن الاجتماعي ، وينتزع منه قدرتها على اقتناص الجزء الكبير من ثروة البلاد ، الأمر الذي تمارسه تلك المصارف في البلاد الرأسمالية عن طريق تشجيع الناس على الادخار ، وإغرائهم بالفائدة .

وينتج عن الموقف الإسلامي طبيعياً : عدم قدرة رأس المال الفردي ـ غالباً ـ على التوسّع في حقول الإنتاج والتجارة ، بالدرجة التي تضرّ التوازن ؛ لأنّ توسّع الأفراد في مشاريع الإنتاج والتجارة ، إنّما يعتمد في مجتمع كالمجتمع الرأسمالي على المصارف الرأسمالية ، التي تمدّ تلك المشاريع بحاجتها إلى المال ، نظير فائدة محدّدة فإذا منع الاكتناز وحرمت الفائدة ، لم يتيسّر للمصارف أن تكدّس في خزائنها النقد بشكل هائل ، ولا أن تمدّ المشاريع الفردية بالقروض فتبقى النشاطات الخاصة على الصعيد الاقتصادي في الحدود المعقولة التي تواكب التوازن العام وتترك ـ طبيعياً ـ المشاريع الكبرى في الإنتاج إلى الملكيّات العامة .

وتشريع أحكام الإرث ، الذي تقسّم التركة بموجبه غالباً على عدد من الأقرباء الورثة ، يعتبر ضماناً آخر للتوازن ؛ لأنّه يفتّت الثروات باستمرار ، ويحول دون تكدّسها عن طريق تقسيمها على الأقرباء ، وفقاً لِما تقرّره أحكام الميراث ففي نهاية كلّ جيل تكون ثروات الأفراد الأغنياء قد قسّمت غالب على مجموعة أكبر عدداً منهم ، وقد يبلغ المالكون الجدد للثروة المتروكة أضعاف ملاّكها الأوّلين .

والصلاحيات الممنوحة للدولة لِملأ منطقة الفراغ لها أثرٌ كبير في حماية التوازن ، كما سنجد في البحث المقبل .

وكذلك إلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام ، يعبّر عن وضع نقطة انطلاق النشاط الاقتصادي ، تؤدّي بطبيعتها إلى التوازن ؛ لأنّ استخدام الثروات الطبيعية هو نقطة الانطلاق الرئيسية في النشاط الاقتصادي .

٦٥٨

فإذا وضعت المباشرة شرطاً أساسياً في تملّك الثروات الخام من الطبيعة ، كما يرى بعض الفقهاء ، ومُنع عن تسخير الآخرين في هذا السبيل فقد حدّد توزيع تلك الثروات بشكل يحقّق التوازن ، ولم يسمح لنفر قليل بالاستيلاء عليها عن طريق تسخير الآخرين لخدمتهم في هذا المجال ، الأمر الذي يعصف بالتوازن ويضع بذرة التناقض والاختلال منذ البداية .

٦٥٩

٣ ـ مبدأ تدخل الدولة

تدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية يعتبر من المبادئ المهمّة في الاقتصاد الإسلامي التي تمنحه القوّة والقدرة على الاستيعاب والشمول .

ولا يقتصر تدخل الدولة على مجرّد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة ، بل يمتدّ إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع فهي تحرص من ناحية على تطبيق العناصر الثابتة من التشريع ، وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحرّكة وفقاً للظروف .

ففي مجال التطبيق تتدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية لضمان تطبيق أحكام الإسلام التي تتّصل بحياة الأفراد الاقتصادية ، فتَحُول ـ مثلاً ـ دون تعامل الناس بالرِّبا ، أو السيطرة على الأرض بدون إحياء كما تدرس الدولة نفسها تطبيق الأحكام التي ترتبط بها مباشرة ، فتحقّق مثلاً الضمان الاجتماعي والتوازن العام في الحياة الاقتصادية بالطريقة التي سمح الإسلام بإتباعها لتحقيق تلك المبادئ .

وفي المجال التشريعي تملأ الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع الإسلامي للدولة لكي تملأها في ضوء الظروف المتطوّرة بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي ، ويحقّق الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية .

وقد أشرنا في مستهلّ هذه البحوث إلى منطقة الفراغ هذه ، وعرفنا أنّ من الضروري دراستها خلال عملية الاكتشاف ؛ لأنّ الموقف الإيجابي للدولة من هذه المنطقة يدخل ضمن الصورة التي نحاول اكتشافها ، بوصفه العنصر المتحرّك في الصورة الذي يمنحها القدرة على أداء رسالتها ، ومواصلة حياتها على الصعيدين : النظري والواقعي ، في مختلف العصور .

لماذا وضعت منطقة فراغ ؟

والفكرة الأساسية لمنطقة الفراغ هذه تقوم على أساس : أنّ الإسلام لا يقدّم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً مَوقوتاً ، أو تنظيماً مرحلياً ، يجتازه التأريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من أشكال التنظيم وإنّما يقدّمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور فكان لا بدّ لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب ، أن ينعكس تطوّر العصور فيها ، ضمن عنصر متحرّك ، يمدّ الصورة بالقدرة على التكيف وفق لظروف مختلفة .

٦٦٠

ولكي نستوعب تفصيلات هذه الفكرة يجب أن نحدّد الجانب المتطوّر من حياة الإنسان الاقتصادية ، ومدى تأثيره على الصورة التشريعية التي تنظّم تلك الحياة .

فهناك في الحياة الاقتصادية علاقات الإنسان بالطبيعة ، أو الثروة ـ التي تتمثّل في أساليب إنتاجه لها ـ وسيطرته عليها وعلاقات الإنسان بأخيه الإنسان ، التي تنعكس في الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها هذا أو ذاك .

والفارق بين هذين النوعين من العلاقات : أنّ الإنسان يمارس النوع الأوّل من العلاقات ، سواء كان يعيش ضمن جماعة أم كان منفصلا عنها ، فهو يشتبك على أيّ حال مع الطبيعة في علاقات معيّنة يحدّدها مستوى خبرته ومعرفته ، فيصطاد الطير ، ويزرع الأرض ، ويستخرج الفحم ، ويغزل الصوف بالأساليب التي يجيدها فهذه العلاقات بطبيعتها لا يتوقف قيامها بين الطبيعة والإنسان على وجوده ضمن جماعة وإنّما أثر الجماعة على هذه العلاقات أنّها تؤدّي إلى تجميع خبرات وتجارب متعدّدة ، وتنمية الرصيد البشري لمعرفة الطبيعة ، وتوسعة حاجات الإنسان ورغباته تبعاً لذلك .

وأمّا علاقات الإنسان بالإنسان التي تحدّدها الحقوق والامتيازات والواجبات ، فهي بطبيعتها تتوقّف على وجود الإنسان ضمن الجماعة فما لم يكن الإنسان كذلك لا يُقدِم على جعل حقوق له وواجبات عليه فحقّ الإنسان في الأرض التي أحياها ، وحرمانه من الكسب بدون عمل عن طريق الرِّبا ، وإلزامه بإشباع حاجات الآخرين من ماء العين التي استنبطها إذا كان زائداً على حاجته كلّ هذه العلاقات لا معنى لها إلاّ في ظلّ جماعة .

والإسلام ـ كما نتصوّره ـ يميّز بين هذين النوعين من العلاقات فهو يرى أنّ علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة ، تتطوّر عبر الزمن ؛ تبعاً للمشاكل المتجدّدة التي يواجهها الإنسان باستمرار وتتابع خلال ممارسته للطبيعة والحلول المتنوعة التي يتغلب بها على تلك المشاكل وكلّما تطوّرت علاقاته بالطبيعة ازداد سيطرة عليها ، وقوّة في وسائله وأساليبه .

وأمّا علاقات الإنسان بأخيه ، فهي ليست متطوّرة بطبيعتها ؛ لأنّه تعالج مشاكل ثابتة جوهرياً ، مهما اختلف إطارها ومظهرها فكلّ جماعة تسيطر خلال علاقاتها بالطبيعة على ثروة تواجه مشكلة توزيعها ، وتحديد حقوق الأفراد والجماعة فيها ، سواء كان الإنتاج لدى الجماعة على مستوى البخار والكهرباء ، أم على مستوى الطاحونة اليدوية .

٦٦١

ولأجل ذلك يرى الإسلام : أنّ الصورة التشريعية التي ينظّم بها تلك العلاقات وفقاً لتصوّراته للعدالة قابلة للبقاء والثبات من الناحية النظرية ؛ لأنّها تعالج مشاكل ثابتة فالمبدأ التشريعي القائل ـ مثلاً ـ : إنّ الحقّ الخاص في المصادر الطبيعية يقوم على أساس العمل يعالج مشكلة عامّة يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقّدة ؛ لأنّ طريقة توزيع المصادر الطبيعية على الأفراد مسألة قائمة في كلا العصرين .

والإسلام في هذا يخالف الماركسية ، التي تعتقد أنّ علاقات الإنسان بأخيه تتطوّر تبعاً لتطوّر علاقاته بالطبيعة وتربط شكل التوزيع بطريقة الإنتاج ، وترفض إمكان بحث مشاكل الجماعة إلاّ في إطار علاقته بالطبيعة ، كما مرّ بنا عرضه ونقده في بحوث الكتاب الأوّل من اقتصادنا .

ومن الطبيعي ـ على هذا الأساس ـ أن يقدّم الإسلام مبادئه النظرية والتشريعية ، بوصفها قادرة على تنظيم علاقات الإنسان بالإنسان في عصور مختلفة .

ولكن هذا لا يعني جواز إهمال الجانب المتطوّر ، وهو علاقات الإنسان بالطبيعة وإخراج تأثير هذا الجانب من الحساب ، فإنّ تطوّر قدرة الإنسان على الطبيعة ، ونمو سيطرته على ثرواتها ، يطوّر وينمي باستمرار خطر الإنسان على الجماعة ، ويضع في خدمته باستمرار إمكانات جديدة للتوسع ولتهديد الصورة المتبنّاة للعدالة الاجتماعية .

فالمبدأ التشريعي القائل مثلاً : إنّ مَن عَمل في أرض وأنفق عليه جهداً حتى أحياها ، فهو أحقّ بها من غيره يعتبر في نظر الإسلام عادلاً ؛ لأنّ من الظلم أن يساوى بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده ، وغيره ممّن لم يعمل فيها شيئاً ولكن هذا المبدأ بتطوّر قدرة الإنسان على الطبيعة ونموّها ، يصبح من الممكن استغلاله ففي عصر كان يقوم إحياء الأرض فيه على الأساليب القديمة ، لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الإحياء إلاّ في مساحات صغيرة وأمّا بعد أن تنمو قدرة الإنسان وتتوفّر لديه وسائل السيطرة على الطبيعة ، فيصبح بإمكان أفراد قلائل ممّن تؤاتيهم الفرصة أن يحيوا مساحة هائلة من الأرض باستخدام الآلات الضخمة ويسيطروا عليها ، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة فكان لا بدّ للصورة التشريعية من منطقة فراغ يمكن ملؤها حسب الظروف ، فيسمح بالإحياء سماحاً عاماً في العصر الأوّل ، ويمنع الأفراد في العصر الثاني ـ منعاً تكليفياً ـ عن ممارسة الإحياء إلاّ في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوّراته عن العدالة .

٦٦٢

وعلى هذا الأساس وضع الإسلام منطقة الفراغ في الصورة التشريعية التي نظمّ بها الحياة الاقتصادية ، لتعكس العنصر المتحرّك وتواكب تطوّر العلاقات بين الإنسان والطبيعة ، وتدرأ الأخطار التي قد تنجم عن هذا التطوّر المتنامي على مرّ الزمن .

منطقة الفراغ ليست نقصاً :

ولا تدلّ منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية ، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث بل تعبّر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة ؛ لأنّ الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً ، وإنّما حُدّدت للمنطقة أحكامه بمنح كلّ حادثة صفتها التشريعية الأصيلة ، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية حسب الظروف فإحياء الفرد للأرض مثلاً عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها ، ولوليّ الأمر الحقّ المنع عن ممارستها ، وفق لمقتضيات الظروف .

الدليل التشريعي :

والدليل على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه لملء منطقة الفراغ ، هو النصّ القرآني الكريم :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) .

وحدود منطقة الفراغ التي تتّسع لها صلاحيات أولي الأمر ، تضمّ في ضوء هذا النصّ الكريم كلّ فعلٍ مباحٍ تشريعياً بطبيعته ، فأيّ نشاط وعمل لم يرد نصّ تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه يسمح لوليّ الأمر بإعطائه صفة ثانوية ، بالمنع عنه أو الأمر به فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته أصبح حراماً ، وإذا أمر به أصبح واجباً وأمّا الأفعال التي ثبت تشريعي تحريمها بشكل عام ، كالرِّبا مثلاً ، فليس من حقّ وليّ الأمر ، الأمر بها كما أنّ الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه ، كإنفاق الزوج على زوجته ، لا يمكن لوليّ الأمر المنع عنه ؛ لأنّ طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكّل منطقة الفراغ .

ـــــــــــــــ

(١) سورة النساء : ٥٩ .

٦٦٣

نمـاذج :

وفي النصوص المأثورة نماذج عديدة لاستعمال وليّ الأمر صلاحياته في حدود منطقة الفراغ ، وهذه النماذج تلقي ضوءاً على طبيعة المنطقة وأهمية دورها الإيجابي في تنظيم الحياة الاقتصادية ولهذا نستعرض فيما يلي قسماً من تلك النماذج مدعماً بالنصوص :

أ ـ جاء في النصوص : أنّ النبي نهى عن منع فضل الماء والكلأ فعن الإمام الصادق أنّه قال :( قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل : أنّه لا يمنع فضل ماء وكلأ ) (١) .

وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفاً وإذا جمعنا إلى ذلك رأى جمهور الفقهاء القائل : بأنّ مَنع الإنسان غيره من فضلِ ما يملكه من ماء وكلأ ليس من المحرّمات الأصيلة في الشريعة كمنع الزوجة نفقتها ، وشرب الخمر ، أمكننا أن نستنتج : أنّ النهي من النبي صدر عنه بوصفه وليّ الأمر .

فهو ممارسة لصلاحية في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف ؛ لأنّ مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية ، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين ، تشجيع للثروات الزراعية والحيوانية .

وهكذا نرى أنّ بذل فضل الماء والكلأ فعل مباح بطبيعته وقد ألزمت به الدولة إلزاماً تكليفياً ، تحقيقاً لمصلحة واجبة

ـــــــــــــــ

(١) الفروع من الكافي ٥ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، باب الضرار ، الحديث ٦ ، مع اختلاف .

٦٦٤

ب ـ ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها(١) . ففي الحديث عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سُئل عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرض ، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلّها ؟ فقال :( قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا يذكرون ذلك ، فلمّا رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة ، ولم يحرّمه ولكنّه فعل ذلك من أجل خصومتهم ) (٢) وفي حديث آخر :أنّ رسول الله أحلّ ذلك فاختلفوا فقال : لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها (٣) .

فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها عملية مباحة بطبيعتها ، وقد أباحتها الشريعة الإسلامية بصورة عامة ولكنّ النبيّ نهى عن هذا البيع بوصفه وليّ الأمر ؛ دفعاً لما يسفر عنه من مفاسد وتناقضات .

ج ـ ونقل الترمذي عن رافع بن خديج أنّه قال : ( نهانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمر كان لنا نافعاً ، إذا كانت لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجه أو بدراهم ، وقال :إذا كانت لأحدكم أرض فليمنحها أخاه ، أو ليزرعها )(٤) .

ونحن حين نجمع بين قصّة هذا النهي ، واتفاق الفقهاء على عدم حرمة كراء الأرض في الشريعة بصورة عامة ، ونضيف إلى ذلك نصوصاً كثيرة واردة عن الصحابة ، تدلّ على جواز إجارة الأرض ، نخرج بتفسير معيّن للنصّ الوارد في خبر رافع بن خديج ، وهو أنّ النهي كان صادراً من النبي بوصفه وليّ الأمر وليس حكماً شرعياً عامّاً .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٥ ، الباب الأوّل من أبواب بيع الثمار ، الحديث ١٤ .

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٠ ، الباب الأوّل من أبواب بيع الثمار ، الحديث ٢ .

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١١ ، الباب الأوّل من أبواب بيع الثمار ، الحديث ٤ .

(٤) صحيح الترمذي ٦ : ١٥٥ ، الحديث ١٣٨٨ ، والجامع الصحيح ( هو سنن الترمذي) ٣ : ٦٦٨ ، الحديث ١٣٨٤ .

٦٦٥

فإجارة الأرض بوصفها عملاً من الأعمال المباحة بطبيعتها ، يمكن النبي المنع عنها باعتباره وليّ الأمر منعاً تكليفيّاً ؛ وفقاً لمقتضيات الموقف .

د ـ جاءت في عهد الإمامعليه‌السلام إلى مالك الأشتر أوامر مؤكّدة بتحديد الأسعار ، وفقاً لمقتضيات العدالة فقد تحدث الإمام إلى واليه عن التجّار ، وأوصاه بهم ، ثمّ عقّب ذلك قائلاً :(وَاعْلَمْ ـ مَعَ ذلِكَ ـ أَنَّ فِي كَثِيٍر مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً ، وَشُحّاً قَبِيحاً ، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَنَعَ مِنْهُ وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً : بِمَوَازِينِ عَدْلٍ ، وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ) (١) .

ومن الواضح فقهياً : أنّ البائع يباح له البيع بأيّ سعر أحب ، ولا تمنع الشريعة منعاً عامّاً عن بيع المالك للسلعة بسعر مجحف فأمر الإمام بتحديد السعر ، ومنع التجّار عن البيع بثمن أكبر ، صادر منه بوصفه وليّ الأمر فهو استعمال لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية التي يتبنّاها الإسلام .

ـــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٤٣٨ .

٦٦٦

الملاحق(١)

بحثٌ في : استثناءات من ملكية المسلمين لأراضي الفتح

حكم الأرض العامِرة بعد تشريع حكم الأنفال :

في الأوساط الفقهية رأيٌ يميز بين نوعين من الأرض العامرة حال الفتح :

أحدهما : الأرض التي كان إعمار الكفّار لها متقدّماً زمنياً على تشريع ملكية الإمام للأنفال بما فيها الأرض الميتة ، كما إذا كانت الأرض معمورة منذ الجاهلية .

والآخر الأرض التي يرجع عمرانها حال الفتح إلى تأريخ متأخّر عن زمان ذلك التشريع ، كما إذا فتح المسلمون أرضاً عامرة في سنة خمسين للهجرة ، وكان بدء عمرانها بعد نزول سورة الأنفال ، أو بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلاً .

فالنوع الأوّل من الأرض العامرة حال الفتح يملكه المسلمون ملكيّة عامة وأمّا النوع الثاني فلا يملكه المسلمون ، وإنّما هو ملك الإمام .

قال الفقيه المحقّق صاحب الجواهر في بحوث الخمس من كتابه(١) :( إطلاق الأصحاب والأخبار ملكيّة عامر الأرض المفتوحة عَنوة للمسلمين ، يراد به ما أحياه الكفّار من المَوات قبل أن يجعل الله الأنفال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلاّ فهو له أيضاً ، وإن كان معموراً وقت الفتح ) . وخالف ذلك في بحوث إحياء الموات من كتابه(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ١٦ : ١١٨ .

(٢) المصدر السابق ٣٨ : ١٧ .

٦٦٧

والباعث على التمييز فقهياً بين هذين النوعين من الأرض العامرة حال الفتح ، هو التسليم المسبق بنقطتين ، وهما كما يلي :

أ ـ أنّ الكافر لا يملك الأرض بالإحياء بعد تشريع حكم الأنفال ؛ لأنّ الأرض تصبح بموجب هذا التشريع مِلكاً للإمام ، وهو لم يأذن للكافر بالإحياء لكي يملك الأرض التي يحييها .

ب ـ أنّ المسلمين إنّما يغنمون ويملكون شرعاً بالفتح أموال الكفّار ، لا أموال الإمام التي في سيطرتهم .

ويستخلص من ذلك : أنّ الأرض التي أحياها الكافر بعد تشريع حكم الأنفال تظلّ مِلكاً للإمام ، ولا يملكها الكافر بالإحياء ، كما تقرّره النقطة الأولى ، فإذا فتحها المسلمون لم يملكوها ؛ لأنّها ليست من أموال الكافر ، بل من أموال الإمام ، وهم إنّما يملكون ما يغنمونه من الكفار ، كما مرّ في النقطة الثانية .

وهذا الرأي الذي يستهدف التمييز بين هذين النوعين يحتاج إلى شيء من التمحيص ؛ لأنّنا إذا درسنا النصوص التشريعية التي تمنح المسلمين الأموال التي أخذوها بالسيف من الكفّار ، بما فيها الأرض ، نجد أنفسنا بين فرضيّتين :

أحدهما : أن تكون الأموال الممنوحة للمسلمين بالفتح في هذه النصوص : كلّ مالٍ كان مِلكاً أو حقّاً في الدرجة السابقة للكافر

والأخرى : أن تكون الأموال الممنوحة في تلك النصوص : كلّ ما أخذ من الكافر وانتزع من سيطرته بالفتح ، بقطع النظر عن طبيعة العلاقة الشرعية للكافر بالمال .

فعلى الفرضية الأولى في فهم تلك النصوص يجب ـ لكي يتاح تطبيقه على مال من الأموال المغتنمة ـ أن نثبت بصورة مسبقة : أنّ هذا المال كان مِلكاً أو حقّاً للكافر لكي يحصل المسلمون على ملكيّته بالفتح .

٦٦٨

وخلافاً للنقطة الأولى التي نفت حقّ الكافر فيما يحييه من الأرض بعد تشريع حكم الأنفال نعتقد : أنّ إحياء الكافر للأرض يورثه حقّاً فيه كالمسلم ، وإن ظلّت رقبة الأرض مِلكاً للإمام ، وفقاً للنصّ القائل : من أحيى أرضاً فهو أحقّ بها ، دون تمييز بين المسلم وغيره .

وعلى هذا الضوء يصبح فتح المسلمين للأرض سبباً في انتقال هذا الحقّ من الكافر إلى الأمّة ، فتكون الأرض حقّاً عامّاً للمسلمين ، ورقبتها تظلّ مِلكاً للإمام ، ولا تعارض بين الأمرين .

وأمّا إذا أخذنا بالفرضية الثانية في تفسير نصوص الغنيمة ، فسوف تكون هذه النصوص شاملة للأرض التي يغنمها المسلمون من الكافر ، ولو لم تكن ملكاً أو حقّاً للكافر قبل الفتح ؛ لأنّ أساس تملّك المسلمين على هذا الضوء هو انتزاع المال من سيطرة الكافر خارجاً ، وهذا حاصل .

وسوف يؤدّي بنا هذا إلى مواجهة التعارض بين إطلاق نصوص الغنيمة ، وإطلاق دليل مِلكية الإمام ؛ لأنّ الأرض التي أحياها الكافر بعد تشريع حكم الأنفال ثمّ فتحها المسلمون تعتبر ـ بوصفها مالاً منتزعاً من الكافر بالفتح ـ مندرجة في نصوص الغنيمة ، وبالتالي مِلكاً عاماً للمسلمين ، وتعتبر ـ بوصفها أرضاً مَيتَة حين تشريع حكم الأنفال ـ مندرجة في دليل مِلكية الإمام للأرض المَيتة ، وبالتالي مِلكاً له .

ومن الضروري ـ فقهياً ـ في أمثال هذه الحالة ، الدقيق في تحديد ما هو القدر الذي مُني بالمعارضة من مدلول النصوص ، لنتوقّف عن الأخذ به نتيجة للتعارض ، مع الأخذ بسائر أجزاء المدلول .

ونحن إذا لاحظنا المعارضة هنا ، وجدنا أن نقطة ارتكازها هي اللام في قولهم :( كلّ أرض مَيتة للإمام ) وقولهم ـ مثلاً ـ : ما أخذ بالسيف للمسلمين

٦٦٩

و ( اللام ) بطبيعتها لا تدلّ على الملكية ، بلى على الاختصاص ، وإنّما تدلّ على الملكية بالإطلاق وهذا يعني أنّ التعارض بين إطلاقي اللامين ؛ لأنّهما تؤدّيان إلى مِلكيّتين مختلفتين ، فيسقط الإطلاقان وتبقى الدلالة على أصل الاختصاص ثابتة ، إذ لا مانع من افتراض اختصاصين بالأرض التي أحياها الكافر بعد تشريع حكم الأنفال ، ثمّ فتحها المسلمون :

أحدهما : اختصاص الإمام على مستوي الملكية ، والآخر اختصاص المسلمين على مستوى الحقّ (١) .

ـــــــــــــــ

(١) وبتعبير آخر : أنّ التعارض في الحقيقة ليس بين إطلاق عنوان (الغنيمة) في نصوص ملكية المسلمين ، وإطلاق عنوان (الأرض المَيتَة) في نصوص ملكية الإمام ، ليتعيّن الالتزام بخروج مادّة التعارض ـ وهي الأرض التي نتكلّم عنها ـ ، أمّا عن هذه النصوص رأساً ، وإمّا عن تلك كذلك وإنّما التعارض في الحقيقة بين إطلاق (اللام) في هذه النصوص ، وإطلاقها في تلك ، لأنّ هذين الإطلاقين هما اللذان يؤدّيان إلى اجتماع الملكيّتين على مملوك واحد ، وقانون المعارضة يقتضي التساقط بمقدارها لا أكثر ، فيسقط إطلاق اللام المفيد للملكية في كلّ من الطائفتين ، ويبقى أصل اللام الدال على مطلق الاختصاص وحينئذٍ نثبت اختصاص المسلمين بالأرض التي وقعت مادّة التعارض بنفس (اللام) في نصوص الغنيمة ، لأنّ هذا المقدار لم يكن له معارض ونثبت اختصاص الإمام بتلك الأرض اختصاصاً مِلكياً ، بالعموم الفوقي الدال على أنّ الأرض كلّها للإمام ؛ لأنّ العام يكون مرجعاً بعد تساقط الخاصيّن

وقد يتوهّم خلافاً لما قلناه : أنّ المُتعيّن عند المعارضة بين الطائفتين تقديم دليل ملكية الإمام ؛ لأنّ الاستيعاب في بعض نصوصه بأداة العموم ، كما في قوله : ( كلّ أرض مَيتَة للإمام ) دون أخبار الأرض الخراجية ، فإنّ دلالتها على الاستيعاب بالإطلاق .

والجواب : أنّ إطلاق أخبار الأراضي الخراجية لا يعارض العموم الأفرادي في قوله : ( كلّ أرض مََيتَة ) ، وإنّما يعارض إطلاقه الأزماني لما بعد الفتح ، بمعنى : أنّ الأرض العامرة المفتوحة كانت إلى حين الفتح داخلة في دليل مِلكية الإمام بلا معارض فطرف المعارضة إذن هو الإطلاق الأزماني في دليل ملكية الإمام لا العموم الأفرادي الذي هو بالوضع ، وحتى الإطلاق الأزماني قد عرفت أنّ مرجع طرفيته للمعارضة بالدقّة إلى كون إطلاق (اللام) طرفاً للمعارضة ولهذا لو فرض عدم وجود إطلاق في اللام يدلّ على الملكية لما بقيت معارضة ، لا مع العموم الأفرادي ، ولا مع الإطلاق الأزماني (المؤلّف قدّس سرّه) .

٦٧٠

وبهذا ننتهي إلى نفس النتيجة التي انتهينا إليها على أساس الفرضية الأولى ويمكننا أن نعمّم هذه النتيجة على جميع الأراضي العامرة المفتوحة عَنوة حتى ما كان منها قد عمّره الكافر وأحياه قبل زمن نزول آية الأنفال ؛ لأنّ آية الأنفال جاءت جواباً على سؤال عن الحكم الشرعي للأنفال فهي جملة خبرية ، والجملة الخبرية بمدلولها يمكن أن تعبّر عن قضية كليّة تشمل الأفراد السابقة والحاضرة والمستقبلة .

وبكلمة أخرى : أنّ دليل ملكية المنصب الإلهي للأنفال لو كان لسانه لسان إنشاء الملكية وجعلها ، فلا يمكن للملكية المجعولة بهذا الدليل أن يكون لها وجود سابق على ذلك الدليل ، وأمّا إذا كان سياقه سياق الجملة الخبرية فبالإمكان أن يكون إخباراً عن ثبوت ملكية المنصب لكلّ أرض مَيتة على نحو تكون كلّ أرض يحييها الكافر مِلكاً للإمام ، ويكسب الكافر حقّ الإحياء فيها فإذا فتحت عَنوة غنم المسلمون حقّ الكافر وتحوّل إلى حقّ عام مع بقاء الرقبة ملكاً للإمام ، وهذا ما يناسب العموم في رواية الكابلي(١) وغيرها(٢) ، الدال على أنّ الأرض كلّها للإمام .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ، الباب ٣ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٢ .

(٢) منها ما في المصدر السابق ٩ : ٥٤٨ ، الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ١٢ .

٦٧١

هل يستثنى الخمس من الأرض المفتوحة ؟

بقي علينا أن نعرف أنّ الأرض المفتوحة هل تشملها فريضة الخمس ، أو يحكم بملكيّة المسلمين لها جميعاً ، دون استثناء الخمس ؟

ولعلّ كثيراً من الفقهاء يذهبون إلى ثبوت الخمس ؛ تمسّكاً بإطلاقات أدلّة خمس الغنيمة ، التي تقتضي شمولها لغير المنقول من الغنائم أيضاً(١) .

وخلافاً لذلك ، يذهب جملة من الفقهاء إلى نفي الخمس ، بدعوى : أنّ إطلاق أدلّة خمس الغنيمة لا بدّ من الخروج عنها ، بلحاظ إطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة ، المقتضي لنفي الخمس فيها(٢) .

والتحقيق : أنّ مقصود النافين من التمسّك بإطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة أمّا أن يكون هو تقديم هذا الدليل على إطلاق أدلّة خمس الغنيمة ، أو مجرّد إيقاع المعارضة بين إطلاقي الدليلين ، والاكتفاء بتساقط الإطلاقين في مقام نفي ثبوت الخمس

فإن أريد الأوّل ، فهو يتوقّف على كون دليل مِلكية المسلمين للأرض المفتوحة أخصّ من أدلةّ خمس الغنيمة ليقدّم عليها بالتخصيص وهذه الأخصيّة فيها بحث ؛ لأنّ الملاك في تشخيص الأخص إن كان أخصيّة الموضوع الرئيسي في احد الدليلين من الموضوع الرئيسي في الآخر فالأخصية في المقام ثابتة ؛ لأنّ الموضوع الرئيسي في دليل ملكية المسلمين هو الأرض المفتوحة والموضوع الرئيسي في أدلّة خمس الغنيمة هو الغنيمة ، ومن المعلوم أنّ الأرض المفتوحة أخصّ من طبيعيِّ الغنيمة ، لأنّها نوع خاص منها .

ـــــــــــــــ

(١) شرائع الإسلام ١ : ٣٢٢ وقواعد الأحكام ١ : ٤٩٢ .

(٢) راجع : الحدائق الناظرة ١٢ : ٣٢٥ .

٦٧٢

وإن كان الملاك في الأخصيّة ملاحظة مجموع الجهات والقيود الدخيلة في الحكم ، فالنسبة في المقام بين الدليلين العموم من وجه ؛ لأنّها تلاحظ حينئذٍ بين عنوان خمس الغنيمة وعنوان الأرض المغنومة ، ومادّة الاجتماع بينهما خمس الأرض المغنومة ، ومادّتا الافتراق هما خمس غير الأرض من طرف ، وغير الخمس من بقية الأرض المغتنمة من طرف آخر والظاهر أنّه ليس هناك ميزان كلّي في تشخيص الأخصيّة ، بل يختلف الحال باختلاف الموارد عرفاً كما فصّلنا في الأصول .

وإن أريد الثاني ـ أي : إيقاع المعارضة بين إطلاقي الدليلين والالتزام بالتساقط مع الاعتراف بعدم الأخصية ـ فيرد عليه : أنّه لو سلم التعارض ، فيمكن أن يقال : بتقديم إطلاق أدلّة خمس الغنيمة ، على إطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة بوجهين :

أحدهما : أنّ في أدلّة خمس الغنيمة الآية الكريمة الواردة في الخمس ، وقد حقّقنا في محلّه : أنّ المعارض للكتاب بنحو العموم من وجه يسقط عن الحجية في مادّة الاجتماع ، ويتقدّم عليه العام أو المطلق القرآني ، وفق للنصوص الآمرة بطرح ما خالف الكتاب .

والوجه الآخر : إنّ شمول دليل ملكيّة المسلمين لمادّة الاجتماع بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وشمول جملة من أدلّة خمس الغنيمة للأرض المفتوحة بالعموم ، كرواية أبي بصير :( كلّ شيء قوتل عليه ، على شهادة أنْ لا إله إلاّ الله ، ففيه الخمس ) (١) ، وكذلك الآية الكريمة أمّا الرواية فإنّها مصدّرة بأداة العموم ، وهي

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٤٨٧ ، ما يجب فيه الخمس ، الباب ٢ ، الحديث ٥ ، مع اختلاف .

٦٧٣

(كلّ) ، وأمّا الآية فهي وإن لم تشتمل على أداة العموم ، ولكن كلمة :( مِّن شَيْءٍ ) في قوله :( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ ) (١) تقوم مقام أداة العموم في الدلالة عرفاً على تصدّي الآية للاستيعاب بمدلوله اللفظي والعموم اللفظي يقدّم في مورد المعارضة على الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة .

وهكذا نعرف : أنّ الجواب عن التمسّك بإطلاقات أدلّة خمس الغنيمة ، يحتاج إلى تقريب آخر .

والتحقيق : عدم ثبوت الخمس في الأرض المفتوحة(٢) ، كما بَنينا عليه في بحوث الكتاب ، وذلك لأنّ روايات الغنيمة ليس فيها ما يصلح للاستدلال بإطلاقه على ثبوت الخمس في الأرض المفتوحة ، إلاّ رواية أبي بصير المتقدّمة ؛ لأنّ غيرها بين ما يكون ضعيف السند في نفسه ، كروايات حصر الخمس في خمسة(٣) ، أو ساقطاً بالمعارضة ، كرواية ابن سنان :( لا خُمس إلا في الغنائم خاصة ) (٤) ، أو محفوفاً بالقرينة على الاختصاص بغير الأرض من الغنائم ، كالروايات الدالّة على إخراج خمس الغنيمة ، وتقسيم الباقي على المقاتلين(٥) ، فإنّ التقسيم على المقاتلين قرينة على أنّ موردها الغنائم المنقولة .

وهكذا نعرف أنّ الإطلاق ينحصر في رواية أبي بصير ، مضافاً إلى إطلاق

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأنفال : ٤١ .

(٢) راجع : الحدائق الناظرة ١٢ : ٣٢٥ .

(٣) وسائل الشيعة ٩ : ٤٨٦ ـ ٤٨٩ ، الباب ٢ من أبواب ما يجب فقيه الخمس ، الحديث ٢ و٤ و٩ و١١ ز ووجه ضعفها إرسالها .

(٤) المصدر السابق : ٤٨٥ ، ٤٩١ ، الحديث ١ و ١٥ مع اختلاف يسير .

(٥) المصدر السابق : ٤٨٩ ، الحديث ١٠

٦٧٤

الغنيمة في الآية الكريمة ، فهذان الإطلاقان هما عمدة الدليل على ثبوت الخمس ، ولا يتمّ شيء منهما بعد التدقيق .

أمّا الآية : فلأنّ عنوان الغنيمة فيها قد فسّر ـ في صحيحة ابن مهزيار ـ بالفائدة التي يستفيدها المرء(١) ، وعلى ضوء هذا التفسير يكون الموضوع في الآية عبارة عن : الفوائد المالية الشخصية ، ودليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة يخرجها عن كونها فائدة شخصية ، فلا يصدق عليها عنوان الغنيمة بالمعنى المفسّر في الصحيحة ، فلا يبقى للآية إطلاق يشمل الأرض المفتوحة عَنوة .

وأمّا رواية أبي بصير ، فالجواب عنها من وجهين :

الأوّل : أنّ الآية الكريمة بلحاظ صحيحة ابن مهزيار التي فسّرتها تكون مقيِّدة لرواية أبي بصير ، بما إذا صدق على المال عنوان الفائدة الشخصية ؛ وذلك لأنّ الآية تقضي أنّ خمس الغنيمة ثابت بعنوان الفائدة ، ورواية أبي بصير تقتضي أنّه ثابت بعنوان كون المال ممّا قوتل عليه بلا دخل لعنوان الفائدة في ذلك ، فكلّ منهما يدلّ ـ بمقتضى إطلاقه ـ على أنّ العنوان المأخوذ فيه هو تمام الموضوع لخمس الغنيمة ومع دوران الأمر بين الإطلاقين يتعيّن رفع اليد عن الإطلاق في رواية أبي بصير ، وتقييده بعنوان الفائدة ؛ وذلك لأنّ التحفّظ على الإطلاق فيها ، والالتزام بعدم دخل عنوان الفائدة رأساً في موضوع خمس الغنيمة ، يؤدّي : إمّا إلى إخراج خمس الغنيمة عن إطلاق الآية وصرفها إلى بقية موارد الخمس ، أو إلى الإلتزام بأنّ الآية وإن كانت شاملة لخمس الغنيمة إلاّ أنّ العنوان المأخوذ فيه وهو الفائدة لا دخل له في موضوع هذا الخمس أصلاً ، وكلا الأمرين باطل .

أمّا إخراج خمس الغنيمة عن إطلاق الآية ، فلوضوح أنّ خمس الغنيمة هو

ـــــــــــــــ

(١) المصدر السابق : ٥٠١ ـ ٥٠٣ ، الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٥ .

٦٧٥

القدر المتيقّن من الآية ؛ لأنّه مورد عمل النبيّ بالآية وتطبيقه لها ، فلا يمكن الالتزام بخروجه وأمّا إلغاء العنوان المأخوذ في موضوع الآية ـ أي : الغنيمة بمعنى الفائدة الشخصية ـ فهو غير صحيح أيضاً ؛ لأنّه متى دار الأمر بين إلغاء العنوان المأخوذ في أحد الدليلين عن الموضوعية رأساً ، وبين تقييد العنوان المأخوذ في الدليل الآخر ، تعيّن الثاني وفي المقام الأمر كذلك ، فلا محيص عن الالتزام بتقييد موضوع رواية أبي بصير بعنوان الفائدة .

فإن قيل : إنّ هذا يلزم منه أيضاً إلغاء العنوان المأخوذ في موضوع رواية أبي بصير ، أي : عنوان ما قوتل عليه ؛ لأنّ الفائدة بنفسها ملاك للخمس ، حتى في غير مورد القتال .

قلنا : لا يلزم ذلك ، بل يبقى عنوان القتال دخيلاً في موضوع خمس الغنيمة على حدّ دخالة عنوان المعدنية في موضوع خمس المعدن وأثره هو ثبوت الخمس في تمام المال من دون استثناء المؤنة ، بخلاف عنوان الفائدة بمفرده ، فإنّه ملاك للخمس بعد الاستثناء لا في التمام .

فاتّضح أنّ التحفظ على الإطلاق في الرواية الذي يقتضي كون العنوان المأخوذ فيها تمام الموضوع ، يوجب إلغاء العنوان المأخوذ في الآية بالنسبة إلى خمس الغنيمة رأساً ، وإمّا تقييد إطلاق الرواية بالآية بعد تفسيرها ، والالتزام بأنّ خمس الغنيمة موضوعه مركّب من القتال وصدق عنوان الفائدة ، فليس فيه محذور إلغاء العنوان رأساً

وإذا ثبت ذلك سقط الاستدلال بالرواية ؛ لأنّ عنوان الفائدة الشخصية لا يصدق على الأرض بعد فرض كونها وقفاً عامّاً على نوع المسلمين إلى يوم القيامة .

هذا كلّه في الوجه الأوّل للجواب عن الاستدلال برواية أبي بصير .

٦٧٦

وأمّا الوجه الثاني في الجواب ، فحاصله : أنّ إطلاق رواية أبي بصير معارض بالروايات الدالّة بإطلاقها على ملكية المسلمين لتمام الأرض المفتوحة ، وهي قسمان:

أحدهما : أخذ فيه عنوان الأرض المأخوذة بالسيف .

والآخر : أخذ فيه عنوان أرض السواد .

أمّا القسم الأوّل : فهو على فرض كون النسبة بينه وبين رواية أبي بصير العموم من وجه ، محكوم له ولا يمكن أن يعارضه ؛ لأنّ الإطلاق فيه بمقدّمات الحكمة ، والعموم في رواية أبي بصير وضعي .

وأمّا القسم الثاني : فحيث أنّ العنوان فيه أرض السواد ، وهو عَلَمٌ لأرض كانت محدودة في الخارج ، فيكون شموله بالظهور اللفظي لا بمقدّمات الحكمة ، وحينئذٍ يصلح لمعارضة رواية أبي بصير ومعنى هذا : أنّ رواية أبي بصير إنّما تقع طرفاً للمعارضة في المرتبة الأولى مع القسم الثاني خاصة وبعد تساقط الطرفين تصل النوبة إلى القسم الأوّل بلا معارض ؛ لأنّ القسم الأوّل باعتبار كونه محكوماً في نفسه لأصالة العموم في رواية أبي بصير يستحيل أن يقع طرفاً للمعارضة معها في المرتبة الأولى ، لكي يسقط مع سقوطها .

وقد يناقش في دلالة خبر أبي بصير بطريقة أخرى كما في تعليقة المحقّق الإصفهاني(١) ، وهي المنع عن عمومها للأرض بقرينة ما جاء عقيب فقرة الاستدلال المتقدّمة ، وهو قوله :( ولا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتى يصل إلينا حقّنا ) ، فإنّ هذا قرينة على أنّ المقصود بالغنيمة الأموال المنقولة ؛ لأنّها هي التي يمكن أن تباع ، وأمّا الأرض المفتوحة عَنوة فلا تباع ولا تشترى .

ـــــــــــــــ

(١) حاشية المكاسب ٣ : ٤٧ .

٦٧٧

وهذه المناقشة ليست واردة ؛ وذلك : لأنّ الغاية المتمثّلة في قوله :( حتى يصل إلينا حقّنا ) إذا قيل بأنّ لها مفهوماً دالاً على انتفاء طبيعي الحكم في المُغيّى بتحقّق الغاية تكون دالة على جواز البيع إذا وصل إليهم حقّهم ، وهذا يعني أن مورد الكلام غنيمة يجوز بيعها في نفسها فتتمّ القرينة المذكورة ، وأمّا إذا أنكرنا مفهوم الغاية ـ كما هو المختار في علم الأصول(١) ـ وقلنا أنّ الغاية إنّما تدلّ على انتفاء شخص الحكم المُغيّى عند وجودها ، فالفقرة المشار إليها إنّما تدلّ على أنّه بوصول حقّهم إليهم تزول حرمة البيع الناشئة من ثبوت حقّهم ، ولا ينافي ذلك ثبوت حرمة أخرى أحياناً بسبب الحقّ العام للمسلمين كما في الأرض .

ـــــــــــــــ

(١) راجع بحوث في علم الأصول ٣ : ٢١٢ .

٦٧٨

بحثٌ في : شمول حكم الأرض الخراجية لمَوات الفتح (٢)

قد يقال ـ كما في الرياض ـ : إنّ النصوص الدالّة على أنّ الأرض المَيتَة من الأنفال وملكٌ للإمام ، معارضة ـ على نحو العموم من وجه ـ بالنصوص المتقدّمة الدالّة على أنّ الأرض المأخوذة بالسيف للمسلمين وملتقى المعارضة هو الأرض المَيتَة المفتوحة عَنوة ؛ لأنّها بوصفها مَيتَة تشمله نصوص ملكية الإمام ، وبوصفها مفتوحة عَنوة تندرج في نصوص ملكية المسلمين للأرض الخراجية ، القائلة : أنّ ما أخذ بالسيف للمسلمين(١) فما هو المبرّر فقهياً للأخذ بنصوص ملكية الإمام وتطبيقها على الأرض المفتوحة إذا كانت مَيتَة ، وإهمال نصوص ملكيّة المسلمين وإطلاقها ؟!

وقد يجاب عن هذا الاعتراض : بأنّ نصوص ملكية المسلمين موضوعها ما يغتنم من الكفّار ، والمغتَنم من الكفّار هو أموالهم المملوكة لهم والأراضي المَوات ليست مملوكة لأحدٍ منهم ، وإنّما يملكون الأراضي التي يعمرونها فالموات إذن خارجة عن موضوع تلك النصوص .

وهذا الجواب إنّما يصح على أساس الفرضية الأولى من الفرضيتين ، اللتين سبقتا في الملحق الأوّل بشأن موضوع نصوص الغنيمة ، وأمّا إذا أخذنا بالفرضية الثانية ، وقلنا : إنّ الغنيمة ما أخذ بالسيف من الكفّار خارجاً ، فلا يتوقّف عندئذٍ

ـــــــــــــــ

(١) رياض المسائل ٧ : ٥٤٩ ـ ٥٥٠ .

٦٧٩

صدق الموضوع في نصوص الغنيمة ، على أن يكون المال المغتنم ملكاً للكافر وإنّما يكفي في صدقه كون المال تحت استيلاء الكفار ، لكي يصدق أخذه منهم .

فكلّ مال انتزع من سيطرة الكفّار بالحرب فهو غنيمة ، سواء كان مِلكاً لأحدهم أم لا ، ومن الواضح : أنّ الموات من بلدٍ كافر تعتبر تحت سيطرة الكفار في ذلك البلد ، فباحتلالها من قبل المسلمين يصدق عليها أنّه أخذت بالسيف ولو لم تكن ملكاً لواحد معيّن من الأعداد فالمعارضة بنحو العموم من وجه ثابتة .

ولكن تُقدَّم مع ذلك نصوص ملكية الإمام ، لأحد الأسباب الفنيّة الآتية :

أولاً : أنّ نصوص ملكية الإمام يمكن تصنيفها إلى مجموعتين :

إحداهما : جاءت بهذا النصّ :الأرض المَيتَة أو الخربة للإمام (١) .

والأخرى جاءت بنصّ آخر وهو :أنّ الأرض التي لا ربّ لها للإمام (٢) .

ومن الواضح أنّ المجموعة الثانية من نصوص ملكية الإمام ، لا يمكن أن تعارض نصوص الأرض الخراجية الدالّة على ملكية المسلمين في مستوى المجموعة الأولى ، لكي تسقط المجموعتان ـ في محلّ التعارض ـ في درجة واحدة وذلك لأنّ نصوص الأرض الخراجية الدالّة على ملكية المسلمين للأرض المفتوحة حاكمة بحد نفسها على المجموعة الثانية ، إذ تُخرج الأرض عن كونها ممّا لا ربّ لها ، وتجعل المسلمين ربّاً لها فالمجموعة الثانية ـ إذن ـ يستحيل أن تقع طرفاً للمعارضة مع أخبار ملكية المسلمين ؛ لأنّ المحكوم لا يعارض الدليل الحاكم ونتيجة ذلك : أنّ التعارض في الدرجة الأولى يتركّز بين نصوص ملكية المسلمين ، والمجموعة الأولى من نصوص ملكيّة الإمام وبعد التساقط نصل إلى المجموعة الثانية من نصوص ملكية الإمام بدون معارض ، ولو بضم الاستصحاب

ـــــــــــــــ

(١) و (٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٣ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال .

٦٨٠

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741