معطيات آية المودة

معطيات آية المودة0%

معطيات آية المودة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 102

  • البداية
  • السابق
  • 102 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 17063 / تحميل: 6394
الحجم الحجم الحجم
معطيات آية المودة

معطيات آية المودة

مؤلف:
العربية

في الخارج، فلابدّ من هذا البُعد الثاني؛ لكي ينحفظ البُعد الأول الموجود في هذا الأصل، وهذا سنتحدّث عنه في الليلة القادمة إن شاء الله تعالى.

**********

٢١

٢٢

المُحاضَرة الثانية

١٤٠٣ هـ

٢٣

٢٤

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

تَحدّثنا بالأمس حول مفاد الآية الكريمة:(قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ المودّة فِي الْقُرْبَى‏) .

مفاد هذه الآية، مبدأ نعتبرهُ من أصول العقيدة الإسلامية المُتفّق على أصلها من قِبَل كافة طوائف المسلمين، وهو: مبدأ لزوم ووجوب المودّة لأهل البيت، وهذا ليس فقط مَدرَك مُنحصِراً في هذه الآية، بل دلّت الآيات الكثيرة المتواترة في طُرق الفريقين معاً، على أنّ محبة آل الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هم: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام)، بالخصوص، لا مُطلق مَن له قرابةٍ بسببٍ، أو نَسَبٍ مع النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

الروايات الكثيرة القطعيّة الصدور، باعتبار تواترها واستفاضتها في طُرق الفريقين معاً، أيضاً تدل على هذا المبدأ، بل نحنُ نعتقد أنّ هذا المبدأ من المبادئ اليقينيّة المُسلّمة عند المسلمين؛ نتيجة سيرة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومواقفه التي ثبّتَها في تاريخه وحياته، أيُ شخصٍ يستعرض الإسلام والسيرة النبويّة الشريفة، يرى أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يدع فرصةً، إلاّ وكان يؤكد فيها على هذا المبدأ، لم يكن يدع مُناسَبة حتى المناسَبات الصغيرة، إلاّ وكان يؤكد لهم من خلالها على هذا المبدأ.

٢٥

إذن، فأصل مبدأ محبّة أهل البيت، مما يُقطَع به تاريخياً، وقامت عليه سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على مرأىً ومسمع من المسلمين جميعاً، ولا يُخالِف أحدٌ في أصل هذا المبدأ، حتى المُخالِفين مع الشيعة، لا يَنفون أصل ثبوت المحبّة والوَلاء لأهل البيت.

وكما تعلمون، عُلماءَهم وفُقهاءَهم وكتبهم، كُلّها تُشير إلى هذا المعنى بشكلٍ أو آخر، ويُنسَب إلى الشافعي شِعرهُ المشهور:

يا أهلَ بيتَ رسول الله حُبّكمُ

فرضٌ من الله في القرآن أنزَلهُ

كفاكموا من عظيم الشأن أنّكُم

مَن لم يُصلِّ عليكم لا صلاة لهُ

إذن، فاستفادة وجوب فريضة محبّة أهل البيت، مسألةٌ ومبدأٌ مفروغٌ عنهُ عند المسلمين، هنا قد تسأل حينئذٍ، إذا كان هذا المبدأ مُسلّماً، أو ثابتاً بالكتاب والسُنّة والإجماع، وسيرة النبي ومواقفه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إذن فأيُ خلافٍ واقع بينهم، وما هو محلُ الخلاف؟ في الواقع الخلاف بين الفريقين، ليس في أصل هذا المبدأ، وإنّما في كيفية فهم هذا المبدأ.

فقد وقع تشويش؛ نتيجة القضايا والبلايا التي امتحنت التجربة الإسلامية بها، بعد وفاة قائدها وحامل لوائها ورسولها.

بعد وفاة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هناك أحداث سياسيّة وقعت، كمسألة السقيفة، والقضايا والمقدّمات والمؤخّرات التي أدّت إلى التشويش في كيفية فهم هذا المبدأ وتلقّيه. الذين لم يكن يروق لهم لوازم هذا المبدأ، وهذا الأصل الإسلامي الأصيل، حاولوا أن يُحرِّفوا ظاهر هذه النصوص والمواقف والآيات الكريمة، ويُفسِّروا هذا المبدأ بما لا يَتنافى مع ما نووه من الناحية السياسيّة، ويرمون إليه في الاستيلاء على قيادة التجربة الإسلاميّة.

٢٦

فَفسّروا هذا المبدأ والأصل الإسلامي وشرحوه، بأنّ المقصود من مجموع هذه الآيات والروايات والمواقف النبويّة، هو: أنّه لابد من محبّة أهل البيت والمودّة إليهم، فهذا المعنى لا يُثبِت أكثر من المحبّة لأهل البيت، فالمُسلِم لابد وأن يكِنّ لهم المحبّة والاحترام والتقدير والود، كعلاقة عاطفية وإنسانية، بأنّ هؤلاء صالحين، من أولياء الله، مُتقرِبين إلى الله، وأيضاً منسوبين إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وموضع عناية النبي ومحبّته، حاولوا أن يُفسِّروا هذا المبدأ والأصل الثابت - والذي لاشك فيه - بهذا اللون.

كُل نص وموقف وَرَدَ من النبي، أمثال: حديث الغدير، وأمثال الأحاديث الأخرى الواردة في شخص علي (عليه السلام)، أو مجموع آل الرسول، حديث الكساء،... كل هذه النصوص الكثيرة المقطوع بصدورها، حاولوا أن يفهموها من خلال هذه الزاوية، وهذا الإطار، على أساس أنّ هذه تُلزِم المسلمين والمؤمنين التولّي، بمعنى الحُب والولاء الشخصي والإنساني والاحترام لهؤلاء، ولهذا حاولوا أن يَعزِلوا ويَفصِلوا بين مبدأ محبّة آل الرسول، وبين أن يكون لآل الرسول منزلة معيّنة اجتماعيّة، ودور قيادي لأصل التجربة الإسلاميّة،

٢٧

حاولوا أن يفصِلوا بهذا الفهم المُحَرّف بين الأمرين، فيعزلوا آل الرسول، القادة الميامين، عن دورهم الفعّال، شبيه بالمحاولة الاستعمارية الحديثة، القاضية بفصل الدين عن السياسة؛ كي يتمكنوا من عزل العلماء، والفقهاء، والمتدينين، بمختلف أشكالهم ورُتبِهم، عن الحياة السياسيّة والساحة القياديّة للأمّة.

هذه المحاولة، التي انطلت على كثير من أبناء الأمّة ولمدّة طويلة، عمليّة مشابهة لهذه العملية أيضاً، وقعت في تلك الفترة، حاولوا أن يُفسِّروا هذا المبدأ على أساس احترام ومحبّة وتقدير، هذا شيء، وأمّا قيادة المسلمين، ولاية الأمر، خلافة النبي، تولّي شؤون المسلمين، هذه من الأمور الأخرى المربوطة بنفس المسلمين، والمتروكة إلى رأي نفس المسلمين، هُم الذين يجتمعون ويتّخذون الموقف المناسِب، والصيغة المناسِبة لإدارة أوضاعهم، وقيادة أمورهم، وولاية شؤونهم، والمحبّة لهؤلاء والمودّة للقربى لا تعني أن يكونوا هؤلاء حكّام المسلمين، وأنّ الأمور كُلّها ترجع إلى هؤلاء، وأنّهم هم مصادر ومنابع التشريع، وأنّهم ولاة الأمر، وهم خلفاء رسول الله، كل هذه اللوازم فَصَلوها ونحّوها عن هذا المبدأ، وفكّكوا بينها وبين أصل المبدأ، مبدأ التودّد للقُربى.

٢٨

 

طبعاً من الواضح أنّ هذا الفَهم، لا يمكن مُسانَدته وقبوله.

هذا الفَهم، على خِلاف صراحة الأدلّة والروايات والآية المباركة، وعلى خِلاف ظهور هذه الأدلّة اللفظيّة الواردة في هذا المجال، هذا بحث قديم بين السُنّة والشيعة، وفيه الكتب المطوّلة، وفيه تبيان لمعنى الولي والمَولى في حديث:«مَن كُنتُ مَولاه فهذا عليٌ مَولاه» .

وهكذا الروايات تدل على الولاية، والولاية بالمعنى الذي يكون له وجود حقيقي واجتماعي، لا مُجرّد محبّة ومودّة كعلاقة شخصية بين الإنسان وهؤلاء، وهذه بحوث مليئةٌ بها كُتب عِلم الكلام عند الشيعة، الظاهر في أكثر هذه النصوص النبويّة، والآيات الواردة في هذا الشأن، أنّ هذا المبدأ لا يُراد منه مُجرّد المبدأ في التولّي القلبي، والمحبّة القلبيّة، والمودّة القلبيّة بين الناس وبين هؤلاء، إضافةً إلى أنّ هذا خلاف الظواهر وخلاف النصوص، هذا أمرٌ لا يمكن أن نتعَقّل ونفترض أنّ النبي والكتاب يتصدّى لبيانه، ويؤكِّد عليه هذا التأكيد البالغ، ولا يدع فرصةً إلاّ ويؤكِّد عليه، مُنذُ نُعومة أظفار الحسن والحسين (عليهما السلام)، بمناسَبة وغير مناسَبة، في الشارع يستطرق الحسن وهو

٢٩

يلعب، فيقف أمام المسلمين ويمدح هذا الطفل ويؤكِّد:«اللهم أحبّ مَن يُحبّه وأبغض مَن يُبغِضه» ، ما من أدنى مناسبة كانت تتحقق، إلاّ وكان النبي يستعملها لتركيز هذا المبدأ.

كيف يمكن أن نفترض أنّ الذكر الحكيم، الذي هو كتاب البشريّة الخالد يؤكِّد هذه الأُطر الضيّقة القبائليّة والعشائريّة؟! هذا الكتابُ العظيم الخالد - كتابُ الله تعالى - يؤكِّد في أكثر من مورد، ويَقصد به المحبّة الشخصية، والمحبّة القلبية! ويُجريها مجرى الأحكام التعبدية في وجوب محبّة ومودّة آل الرسول وقرابته، حُب بهذا المستوى والمضمون والمفاد! لا يمكن أن يُراد منه هذا المقدار الباهت الخفيف، الذي لا يكون له أي مردود اجتماعي حقيقي على الناس، وعلى التجربة والقيادة الإسلاميّة.

كيف يُمكن أن يُفترض أنّ مضموناً ومفاداً بهذه البساطة، يتصدّى الذكر الحكيم لتثبيته؟! يتصدّى النبي ليلاً ونهاراً، في كل مناسَبة لتركيزه في نفوس المسلمين، من الناحية المنطقيّة والعقليّة، هذا غير ممكن وغير معقول؟!

والنبي بهذه الشخصيّة العظيمة - الذي غيّرَ مسار التاريخ، بقطع النظر عن الجانب الربّاني الموجود فيها، كإنسان وكبشر أيضاً - كان يمتلك باعتراف غير المسلمين أيضاً، هذه العقليّة الجبّارة، بحيث استطاع أن يُغَيّر مجرى التاريخ، ويصنع من ذلك المجتمع الجاهل، مُجتمَعاً غَزى

٣٠

العالم كلّه، وغيّر وجه الحضارات، فالإنسان الذي له هذه العظمة في التفكير والهمّة والبُعد الفكري والمعنوي، كيف يمكن أن يهتم بقضية صغيرة طابعها عاطفي ضيّق؟!

هذا ابن بنتهُ مثلاً، أيُّها الناس، أطلب منكم أن تحبّوه، تتودّدوا إليه، كيف يمكن لهذه الشخصية العظيمة الخالدة - التي لا نظير لها بقطع النظر عن الجانب الربّاني وارتباطها بالسماء كشخص وكبشر، لو كنا ننظر نظرة علميّة، كما ينظر المادّيون أيضاً بالنظرة الماديّة العلميّة، شخصيّة لا نظير لها في البشريّة كُلّها مُنذُ خِلقتها الأولى وإلى الآن - أن يؤكِّد ويتسنّح الفُرَص، ويهتم ليُصدِر العَشرات، بل المِئات من البيانات والنُصوص والأحاديث، من أجل أن يُبَيّن هذا المفهوم المحدود الساذج؟!

أنا أُحِبّهم، فأنتم أيها المسلمون، لابُدّ وأن تُحِبونهم! لا يمكن أن تكون كل هذه الإرهاصات، وهذه المقدّمات والتأكيدات والبيانات، من أجل إثبات مبدأ المحبّة القلبيّة، والعلاقة القلبيّة لهؤلاء؟!

إذن، لابُدّ أن يكون هناك بُعد أوسع، وأرفع من هذا المعنى والمفاد، لابُدّ أن يكون الشيء الذي يريده النبي - من وراء كل هذه البيانات الشريفة وكل هذه الإرهاصات، والنص القرآني يؤكِّد عليه، وعمل النبي أيضاً يؤكِّد عليه - موضوعٌ خطير ومهم للغاية، لابدّ أن تكون هناك صلة

٣١

بالمواضيع المهمّة الأساسيّة المصيريّة، المرتبطة بصميم الرسالة الإسلامية، حتى تكون بهذه الدرجة المهمّة، والتي يعتني بها النبي، ويستغل كل تلك الجهود والأوقات من أجل تثبيتها.

نحن إذا قطعنا النظر عن البحوث الكلامية بين السنّة والشيعة، في تفسير هذه النصوص وحلّلنا القضية كقضية تاريخية، كعمل، كسيرة من النبي، ترى من غير المنطقي وغير العُقلائي، أنّ المراد من كل هذه المواقف والنصوص مثل هذا المعنى، بل لابدّ وأن يكون هناك معنى عظيم كبير أساسي، ذلك المعنى وذلك المفاد هو الذي يستحق هذه الدرجة من الاهتمام البالغ، والرصد له، والإرهاص له، والإعداد من الكتاب والسنّة والسلوك واللفظ والتقرير، ومختلف التوصيات والتوجيهات، لابدّ أن يكون هذا المطلب أساسياً وخطيراً، ومبدأً من المبادئ التي لها ارتباط مصيري ونهائي بأصل الرسالة.

إذن، فهذا التفسير وهذا الفَهم الذي فَهَمه هؤلاء وحاولوا أن يُفَهِموه للأمّة، باطل ومُنحَرِف بالدليل العقلي، والعلمي، والتاريخي، فهذه مواقِفهم وكلماتهم قبل وفاة القائد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأيضاً مَن بقى منهم بعده.

في الأحداث التي تَلَت بعد ذلك، هناك عِبارة تُنقَل عن معاوية - الذي كان من ألدّ أعداء الإمام - يعترف فيها بعد وفاة الإمام، ويُبَيّن وضع الإمام ومنزلته في زمن الرسول حيث يقول:

٣٢

كان عليٌ في زمن رسول الله، كالنجم في السماء لا يُطاول وأين نحنُ معه، لا نستطيع أن نقيس أنفُسنا مع هذا الرجل، هو كان كالنجم في السماء، ونحنُ كالتراب والحصى في الأرض.

هذا باعتراف ألدّ أعدائه، هو يعترف بأنّ النبي وسلوكهُ ودورهُ ومواقفهُ، كان بدرجةٍ مع علي، بحيث كان هذا الشخص في السماء من الرسالة الإسلامية، وعند حامل الرسالة الإسلامية، والناس الآخرين في الأرض.

معاوية يرى نفسه من كُتّاب الوحي، معاوية لم يكن إنساناً مُهملاً، كان له وجود ولو جزئي، هذا الرجل يُعَبِّر عن الانطباع العام الذي كان للمسلمين عن علي في زمن رسول الله، والانطباع ناشئ من سيرة النبي معهُ، والأحاديث الصادرة من النبي في حقه، لولا تلك المواقف، وتلك السيرة النبوية، والنصوص في كل شاردةٍ وواردة في كل مناسَبة،.... لمَا خُلِق هذا الانطباع في ذهن المسلمين، ولمَا بَقى في ذهن هذا الرجل، الذي عادَى الإمام، وخالَفَ كل ما تلقّاه في ذلك الزمان، وانحرف بذلك الشكل العجيب، لولا تلك المقدّمات، وتلك السيرة، وذلك السلوك، لمَا

٣٣

حصل هذا الانطباع.

إذن، فقد كان من وراء هذا المبدأ معنى كبير جداً، ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المبدأ، المودّة والمحبّة القلبيّة، وما شابه ذلك من المعاني.

مُعطَيات آية المودّة

نحنُ نعتقد أنّ هذا الأصل، وهذا المبدأ - مبدأ التولّي لأهل القربى - يَتضمّن أبعاداً مهمة جداً، وهذه الأبعاد في نفسها من الناحية العقائديّة، خطيرةٌ ومهمة، وآثارها في الحياة الاجتماعيّة، وفي حياة مجتمع المسلمين، أيضاً آثار خطيرة ومهمة انحرمَ المسلمون منها؛ نتيجة عدم إدراكهم وتلقّيهم لهذه الأبعاد المستَبطَنة في هذا المبدأ.

نحنُ نرى ونعتقد أنّ مبدأ التولّي في هذه الأحاديث والمواقف، وهذه السُنّة النبوية، يتضمّن مبدأ تولّي هؤلاء للأمر، الذي يعني القيادة للتجربة الإسلاميّة؛ فإنّ هذه المحبّة لا تُطلَب كعلاقة قلبيّة، ولا يمكن أن يكون مفادها بهذا المعنى، هذه المحبّة والمودّة، هي مرتبة ملازِمة لأن يكون هذا المحبوب، وهذا المودود، له منزلة ومقام يتلو مقام النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ لأنّ هذا الأمر بالحُب، وهذا السؤال عن المودّة في القربى، إنّما جاء من خلال نفس الرسالة، وكأجرٍ عليها:

٣٤

(لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ المودّة فِي الْقُرْبَى) ، الأجر على الرسالة، لابُدّ وأن يكون مرتَبِطاً بالرسالة، وليس قضية نفسيّة أو عاطفيّة، هذا الأجرُ من صِنف ما يُؤجَر عليه، من الأمور التي مرتَبِطة بصميم الرسالة نفسها، وهذا لا يكون إلاّ أن يكون هذا الشخص الذي أُمِرنا وكُلِّفنا بمودّته ومحبّته، لهُ مَنزِلة ومقام من هذا القبيل.

فتدل هذه الآية على أنّ المراد من وراء هذه المحبّة، تثبيت مقام ومَنزِلة مخصوصة ومُتَميزة لهؤلاء، تتلو منزِلة النبوّة، وأيضاً نعتقد بأكثر من هذا، نقول:

بأنّ هذا المبدأ، ليس فقط تولّي الولاية، وقيادة التجربة الإسلاميّة والرسالة، بل هذا المبدأ بحسب الحقيقة، يريد أن يُعَلِّم المسلمين بأنّ هؤلاء لهم تميّز ربّاني في المنظار الإلهي وصاحب الرسالة وهو الله، هؤلاء لهم تميّز خاص، وهم ثِقل صاحب الرسالة في الأرض، كما كان حامل الرسالة، وهو النبي أيضاً الثقل الإلهي والربّاني في الأرض، يُعطي للمسلمين هذا العِرفان، أنّهم همُ الحبل الممدود من السماء إلى الأرض بعد النبي، وهؤلاء هُم الذين بهم يَفتح الله، وبهم يَختِم.

وارتباط النصوص بهذا المعنى عن النبي نفسهُ واضحٌ، فالمسألة أنّ النبي لم يكن يَنظر إلى جانب الخِلافة والسياسة فَحسب، لم يكن يريد أن يُبَيّن نظريّة الحُكم والسياسة في الإسلام فَحسب،

٣٥

فإنّ هذه النظريّة قطرةٌ من بحر الولاية، جزءٌ ضئيل من نظريّة الولاية، عندنا نظريّة الحكم والسياسة، ومَن الحاكم بعد النبي؟ لابُدّ أن يكون عليٌ (عليه السلام)، لا فُلان وفُلان.

هذه قضيّة مهمّة وأساسيّة، أنا أُريد أن أدّعي أنّ هذا المبدأ أوسع وأشمل من هذا المقدار، وهذا جزء مُتضمن فيه النبي والقرآن الكريم والأحاديث الصادرة عن النبي، والتأكيدات الواردة من النبي في كل مناسَبة، تريد أن تُثبِت حقيقةٌ أخرى أهم من مسألة الحُكم والحاكمية وأشمل، وليست مسألةُ الحاكمية إلاّ جزءً ضئيلاً من تلك الحقيقة؛ تلك الحقيقة: هي أنّ هؤلاء لهم تميّز روحاني من الآخرين، وهُم ثقلُ الله على الأرض، وهُم المرتبطون بالسماء، ولهذا لابُدّ وأن يكون هناك تودّد ومحبّة إليهم، هؤلاء رموز السماء في الأرض، فهذا الوِد، وهذا الحُب والوَلاء، ليس من باب إنساني وشخصي، كلاّ، هذا الوَلاء جزء من أصل الرسالة، إنّه وَلاء للرسالة ولله تعالى، من خلال هذا الوَلاء، سوف تتصل السماء بالأرض، ويستطيعون أن يعبدوا الله حقاً، ويلتزموا بأوامره حقاً.

هذا المبدأ حدوده، ودوافعه، وحقيقته بهذا المقدار، القرآن والنبي لا معنى لأن يؤكِدا على قضية شخصيّة، هذا الحُب إذا لله، يكون حُبّاً يرتبط بالله حقيقةً، ويرتبط بجوهر الرسالة حقيقةً، ويكون

٣٦

هو العمود الفقري لنفس الرسالة، ما كان جديراً ومُستَحقاً لهذا المقدار من التأكيدات، والتثبيتات اللفظيّة، والعمليّة، والسلوكيّة إنّما هو ما ذكرناه، ولم يكن يُناسِب الذكر الحكيم أن يتصدّى لقضيّة لا تتعدّى مقدار العلاقة القلبيّة.

هذا التصدّي، وهذا التأكيد، إنّما يكون من جهة أنّ هذه المحبّة، وهذه المودّة، في جوهرها وواقعها سوف تؤول إلى حُب الإنسان لله، حُب الإنسان للحقيقة الواقعة في الكون والوجود، وهو الله سبحانه وتعالى، وأحكامه، ورسالته، وأنظمته، وما يريده في حق عِباده، إذن، فمَبدأ المحبّة والمودّة لأهل البيت، يتضمّن حقيقة كبرى من الحقائق الأساسيّة في فكرنا الإسلامي، وفي العقيدة الإسلامية والنظريّة الإسلامية،.... وهذه الحقيقة، أنّهم حبلُ الله الممدود بعد النبي، الذي يمتد من خلاله ارتباط السماء بالأرض.

موقع الرموز البشريّة في التربية الربّانيّة

نحنُ نؤمِن في معتقدنا الفلسفي، بأنّ الله حينما خَلق الإنسان والأرض، لم يَترك الأرض والناس سُدىً، بل بقى مُشرِفاً ومُهيمِناً ومُتصرِفاً في أمورهم من خلال ما يُسمّى بـ(خط الشهادة)، فخط

٣٧

الشهادة هو ارتباطٌ بين السماء والأرض.

هذا الارتباط لابُدّ وأن يكون لهُ رموز، الإنسان لا يمكن أن يرتبط بعالَم الغيب ارتباطاً مُجرّداً، صحيحٌ أنّ الإنسان لهُ عقل، وعقلهُ مُجرّد يستطيع أن يَدرِك بعض القضايا، إلاّ أنّ الإنسان حِسّي بحسب نزعته أكثر من كونه مُجرّداً، هذه الحسيّة وهذه الأرضيّة، تجعل البشريّة دائماً بحاجة إلى رموز، إلى مَن يُجَسِّد هذا الارتباط تجسيداً بشريّاً ماديّاً، ولهذا الله سبحانه وتعالى جَعلَ الأنبياء من البشر، وتوجَد آيات قرآنية كثيرة تُصَرِّح بهذا المعنى؛ لأنّ الإنسان بطبيعته لهُ نَزعَة حسيّة، عندما تخرج القضيّة عن الجانب الحسّي، الفطرة البشريّة لا تَتَحمّله، لابُدّ أن يكون التوجّه إلى عالَم الغيب، والتوجّه إلى الله، لهُ رموز بشريّة حسيّة، فلابُدّ أن يكون هذا الارتباط وعناية السماء بالأرض، لهُ مَظهر بشري، وحسّي، ورابطة بشريّة، ورفد بشري، وهذا الرمز عبارة عن (الأنبياء والأئمّة).

فالتركيز والتنبيه على مبدأ المحبّة؛ من أجل أنّ قلوبَ الناس بالتدريج، تلتفت وتلتف حول هذه الرموز من بعد النبي، بالنسبة للنبي الرمزيّة واضحة، لكونهِ صاحب الرسالة، وصاحِب المعجزة الكُبرَى، أمّا بعد النبي، لابُدّ أن يبقى هذا الرباط، وهذا الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، هذه

٣٨

الواسطة البشريّة بين السماء والأرض، لابُدّ وأن تكون باقية، وهذه الواسطة البشريّة، إنّما هم عبارة عن آل الرسول، ومبدأ وجوب محبّة آل البيت، عبارةٌ عن شد الناس، وشدّ قلوبهم بهذا الرباط، فهذا الحُب، ليس حُبّاً قلبيّاً لشخص تجاه شخص آخر، لكونهم أُناس جيّدين، بل هذا حُب يوصي بالشخص، وبشد الشخص المُحِب بالمحبوب، هذا المحبوب، هو رباط الله في الأرض، هو الحبل المتصل بين السماء والأرض.

هذه هي حقيقة هذا المبدأ، مبدأ الوَلاء يَضمِن عندنا مثل هذا البُعد المُعمّق الواسع الضخم، ولولا هذا البُعد؛ لمَا كان جديراً أن يكون موضع اهتمام النبي والذكر الحكيم.

إذن، فمَبدأ الوَلاء والمحبّة للقربى، يتضمّن معنىً عظيماً، مُهمّاً، كبيراً، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، هذا المعنى الكبير الواسع، تُشَكِّل مسألة القيادة والحاكميّة جانباً ضئيلاً منه، ليست المسألة، مسألة الحُكُم والسياسة فحسب، بل مسألة البشريّة والسماء والأرض، والحياة السياسيّة جزء من حياة البشر وخلافته في الأرض.

هذا المبدأ، يريد أن يَربط البشريّة كُلّها بالسماء، لا فقط من جانب أنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأولاده المعصومين أن يحكموا، فإنّ هذا جزء، أو مُقدّمة بحسب الحقيقة لتلك المسألة الأوسع والأعمق من مسألة الخلافة والتولّي، ومَن الذي يكون الحاكم على المسلمين، هذا ما نحنُ نفهمه من هذا المبدأ، وهنا يوجد وجه آخر لهذا المبدأ، وهو أنّ الإنسان صحيحٌ أنّ له فكر وعقل،

٣٩

يُدرِك ويُشَخِّص الأشياء بفكره وعقله، إلاّ أنّ الإنسان أفكاره ومعتقداته إذا بقيت مُجرّد أفكار ومعتقدات، لا تكون قادرة لأن تُحرِكه حقيقة الفكر، إنّما يُحرِّك الإنسان إذا نَزَل عن عالم التجريد الذهني والعقلي إلى عالم الحُب القلبي، إلى عالَم الرغبة النفسيّة، إذا بقى الفِكر مُجرّد نظريّة وفِكر فلا يُحرِّك الإنسان، ولهذا تجدون الفلاسفة لم يستطيعوا أن يُحرِّكوا البشريّة كما حَرّكها الأنبياء، فالأنبياء صنعوا حضارات، وصنعوا الأمم، إلاّ أنّ الفلاسفة كنظرياتهم، واصطلاحاتهم، وفلسفاتهم لم يستطيعوا ذلك، ولا يستطيعون.

أرسطو عندهُ كلمات - فلسفيّة إغريقيّة، واستدلالات ومناقشات - في إثبات فكرة الله كثيرةٌ، إلاّ أنّها لم تُحَرِّك وتُغَيِّر في تاريخ الإنسان، نجد أنّه حتى تلك الحضارات المهمّة، كحضارة الإغريق مثلاً، لم تكن متّخذة من نظريات فلاسفتهم، بل كانت لها امتدادات أخرى، يرجع كثير منها إلى الديانات اليهوديّة والمسيحيّة بعد انتقالها من الشرق إلى أوربا، إلى اليونان، فالفكر المُجَرّد لا يستطيع أن يُحرِّك، إلاّ إذا أُنزِلَ إلى قلب الإنسان، فيتحوّل من مُجرّد فكر نظري، إلى رغبة وميل عاطفة، إلى مُعتقَد ومُتبَنّى، بحيث له رغبة نفسيّة إلى تبنّيه، حينئذٍ يكون الفكر مُحرِّكاً للإنسان، يستطيع أن يُكوِّن إرادة، والإرادة تُحفِّز الإنسان أن يتّخذ الموقف ويعمل، فالنظريات والأفكار

٤٠