البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن11%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36233 / تحميل: 8331
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

أصبتَ ، فجمعوا القرآن ، فأمَر أبو بكر منادياً ، فنادى في الناس : مَن كان عنده شيء مِن القرآن فليجيء به . ) .

١١ - وروى خزيمة بن ثابت ، قال :

( جئت بهذه الآية : لقد جاءكم رسول مِن أنفسكم . إلى عُمَر بن الخطّاب ، وإلى زيد بن ثابت ، فقال زيد : مَن يشهد معك ؟ قلت : لا والله ما أدري ، فقال عُمَر : أنا أشهد معه على ذلك )

١٢ - وروى أبو إسحاق ، عن بعض أصحابه ، قال :

( لمّا جَمَع عُمَر بن الخطّاب المُصحَف سأل : مَن أعْرَب الناس ؟ قيل : سعيد بن العاص ، فقال : مَن أكْتَب الناس ؟ فقيل : زيد بن ثابت ، قال : فليُمْلِ سعيد وليَكْتُب زيد ، فكتبوا مصاحف أربعة ، فأنفَذَ مُصحفاً منها إلى الكوفة ، ومصحفاً إلى البصرة ، ومصحفاً إلى الشام ، ومصحفاً إلى الحجاز ) .

١٣ - وروى عبد الله بن فضالة قال :

( لمّا أراد عُمَر أنْ يكتُب الإمام أقعد له نَفراً مِن أصحابه ، وقال : إذا اختلفتُم في اللُغة ، فاكتبوها بلُغة مُضَر ، فإنّ القرآن نزَل على رجُلٍ مِن مُضَر ) .

١٤ - وروى أبو قلابة ، قال :

( لمّا كان في خلافة عثمان جعل المعلِّم يُعَلِّم قراءة الرجُل ، والمعلِّم يُعلِّم قراءة الرجُل ، فجَعل الغِلمان يلتقون ويختلفون ، حتّى ارتفع ذلك إلى المُعلِّمين ، حتّى كَفَر بعضُهم بقراءة بعض ، فبَلَغ ذلك عثمان فقام خطيباً ، فقال : أنتم عندي تختلفون وتُلحِنون ، فمَن نأى عنّي مِن الأمصار أشدّ اختلافاً ، وأشدّ لحْناً ، فاجتمعوا يا أصحاب محمّد ، فاكتُبوا للناس إماماً .

قال أبو قلابة : فحدّثني مالك ابن أنس ، قال أبو بكر بن أبي داود : هذا مالك بن أنس جدّ مالك بن أنس قال : كنتُ فيمَن أُملي عليهم ، فربّما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجُل قد تلقّاها

٢٤١

مِن رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) ، ولعلّه أنْ يكون غائباً أو في بعض البوادي ، فيكتُبون ما قبلها وما بعدها ، ويدَعون موضعها ، حتّى يجيء أو يُرسَل إليه ، فلمّا فَرِغ مِن المُصحَف كتَب إلى أهل الأمصار : أنّي قد صنعتُ كذا ، وصنعتُ كذا ، ومحَوتُ ما عندي ، فامحوا ما عندكم ) .

١٥ - وروى مصعب بن سعد ، قال :

( قام عثمان يخطب الناس ، فقال : أيّها الناس عهدكم بنبيّكم منذ ثلاث عشرة ، وأنتم تمترون في القرآن ، تقولون قراءة أُبَيّ، وقراءة عبد الله ، يقول الرجل والله ما تُقيم قراءتك ، فأعزِمُ على كلّ رجُل منكم كان معه مِن كتاب الله شيء لمّا جاء به ، فكان الرجل يجئ بالورقة والأديم فيه القرآن ، حتّى جَمَع مِن ذلك كثرة ، ثمّ دخل عثمان ودعاهم رجلاً رجلاً ، فناشدهم : لَسَمِعْتَ رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) وهو أمَلَّه عليك ؟ فيقول : نعم ، فلمّا فرغ مِن ذلك عثمان قال : مَن أكتَب الناس ؟ قالوا : كاتب رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) زيد بن ثابت ، قال : فأيّ الناس أعْرَب ؟ قالوا سعيـد بن العاص ، قال عثمان : فليُملِ سعيد ، وليكتُب زيد ، فكتب زيد ، وكتب مصاحف ففرّقها في الناس ، فسمعتُ بعض أصحاب محمّد ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) يقول : قد أحسَن ) .

١٦ - وروى أبو المليح ، قال :

( قال عثمان بن عفّان حين أراد أنْ يكتُب المُصحف ، تُملي هُذَيل وتكتُب ثقيف ) .

١٧ - وروى عبد الأعلى بن عبد الله بن عبد الله بن عامر القرشي ، قال :

( لمّا فُرِغ مِن المُصحف أتى به عثمان ، فنظر فيه ، فقال : قد أحسنتُم وأجملتُم ، أرى شيئاً مِن لَحْنٍ ، ستُقيمه العرب بألسنتِها ) .

١٨ - وروى عكرمة ، قال :

٢٤٢

( لمّا أتى عثمان بالمُصحف رأى فيه شيئاً مِن لحْن ، فقال : لو كان المُمْلي مِن هُذَيل والكاتب مِن ثقيف ، لم يوجد فيه هذا).

١٩ - وروى عطاء :

( أنّ عثمان بن عفّان لمّا نَسَخ القرآن في المصاحف ، أرسل إلى أُبَيّ بن كعب ، فكان يُملي على زيد بن ثابت ، وزيد يكتُب، ومعه سعيد بن العاص يُعرِبُه ، فهذا المُصحف على قراءة أُبَيّ وزيد ) .

٢٠ - وروى مجاهد :

( أنّ عثمان أمَر أُبَيّ بن كعب يُملي ، ويكتُب زيد بن ثابت ، ويُعْرِبُه سعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحرث ) .

٢١ - وروى زيد بن ثابت :

( لمّا كتَبْنا المصاحف فُقدَت آية كنتُ أسمعها مِن رسول الله ( ص ) ، فوجدتُها عند خزيمة بن ثابت : مِن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . إلى تبديلاً ، وكان خزيمة يُدعى ذا الشهادتَين أجاز رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) شهادته بشهادة رجُلَين ) .

٢٢ - وقد أخرج ابن اشته ، عن الليث بن سعد ، قال :

( أوّل مَن جَمَع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت ، فكان لا يكتُب آية إلاّ بشهادة عَدْلَين ، وإنّ آخِر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت ، فقال : اكتبوها فإنّ رسول الله ( ص ) جعل شهادته بشهادة رجُلَين ، فكتَب ، وإنّ عُمَر أتى بآية الرجْم فلم نكتبها ؛ لأنّه كان وحده )(١)

_______________________

(١) الإتقان النوع ١٨ ج ١ ص ١٠١

٢٤٣

هذه أهمّ الروايات التي ورَدَت في كيفيّة جمْعِ القرآن ، وهي - مع أنّها أخبار آحاد لا تفيدنا عِلماً - مخدوشة مِن جهاتٍ شتّى:

١ - تناقض أحاديث جَمْع القرآن !

إنّها متناقضة في أنفسها ، فلا يُمكن الاعتماد على شيء منها ، ومِن الجدير بنا أنْ نُشير إلى جملة مِن مناقضاتها ، في ضِمن أسئلةٍ وأجْوِبة :

* - متى جُمِع القرآن في المُصحف ؟

ظاهر الرواية الثانية أنّ الجَمْع كان في زمن عثمان ، وصريح الروايات الأُولى ، والثالثة ، والرابعة ، وظاهر البعض الآخَر ، أنّه كان في زمان أبي بكر ، وصريح الروايتين السابعة ، والثانية عشرة أنّه كان في زمان عُمَر .

* - مَن تصدّى لجَمْع القرآن زمَن أبي بكر ؟

تقول الروايتان الأُولى ، والثانية والعشرون : أنّ المتصدّي لذلك هو زيد بن ثابت وتقول الرواية الرابعة : أنّه أبو بكر نفسه ، وإنّما طلب مِن زيد أنْ ينظر فيما جمَعَه مِن الكتُب ، وتقول الرواية الخامسة - ويظهر مِن غيرها أيضاً - أنّ المتصدّي هو زيد وعُمَر .

* - هل فُوّض لزيد جمْع القرآن ؟

يظهر مِن الرواية الأُولى أنّ أبا بكر قد فوّض إليه ذلك ، بل هو صريحها ، فإنّ قوله لزيد : ( إنّك رجُل شابّ عاقل لا نتّهمُك ، وقد كنتَ تكتُب الوحي لرسول الله ( ص ) ، فتتبّع القرآن واجْمَعْه ) صريح في ذلك ، وتقول الرواية الخامسة وغيرها : إنّ الكتابة إنّما كانت بشهادة شاهدَين ، حتّى إنّ عُمَر جاء بآية الرَجْم ، فلم تُقبَل منه .

* - هل بقيَ مِن الآيات ما لم يُدَوَّن إلى زمان عثمان ؟

٢٤٤

ظاهر كثير مِن الروايات ، بل صريحها أنّه لم يبقَ شيء مِن ذلك ، وصريح الرواية الثانية ، بقاء شيء مِن الآيات لم يُدَوّن إلى زمان عثمان .

* - هل نقّص عثمان شيئاً ممّا كان مدوّناً قبله ؟

ظاهر كثير مِن الروايات بل صريحها أيضاً أنّ عثمان لم يُنقص ممّا كان مدوّناً قبله ، وصريح الرواية الرابعة عشرة أنّه محا شيئاً ممّا دُوِّن قبله ، وأمَر المسلمين بمحْوِ ما محاه .

* - مِن أيّ مصدر جَمَع عثمان المُصحف ؟

صريح الروايتَين الثانية والرابعة : أنّ الذي اعتمد عليه في جمْعِه هي الصُحُف التي جمَعَها أبو بكر ، وصريح الروايات الثامنة ، والرابعة عشرة ، والخامسة عشرة ، أنّ عثمان جمَعَه بشهادة شاهدَين ، وبأخبار مَن سمِع الآية مِن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) .

* - مَن الذي طلب مِن أبي بكر جَمْع القرآن ؟

تقول الرواية الأُولى : أنّ الذي طلب ذلك منه هو عُمَر ، وأنّ أبا بكر إنّما أجابه بعد الامتناع ، فأرسل إلى زيد ، وطلب منه ذلك ، فأجابه بعد الامتناع ، وتقول الرواية العاشرة : أنّ زيداً وعُمَر طلبا ذلك مِن أبي بكر ، فأجابهما بعد مشاورة المسلمين .

* - مَن جمَع المُصحف الإمام ، وأرسل منه نُسَخاً إلى البلاد ؟

صريح الرواية الثانية أنّه كان عثمان ، وصريح الرواية الثانية عشرة أنّه كان عُمَر .

* - متى أُلحِقَت الآيتان بآخِر سورة براءة ؟

صريح الروايات الأُولى ، والحادية عشرة ، والثانية والعشرين أنّ إلحاقهما كان

٢٤٥

في زمان أبي بكر ، وصريح الرواية الثامنة ، وظاهر غيرها أنّه كان في عهد عُمَر .

* - مَن أتى بهاتَين الآيتَين ؟

صريح الروايتين الأُولى ، والثانية والعشرين أنّه كان أبا خزيمة ، وصريح الروايتين الثامنة ، والحادية عشرة أنّه كان خزيمة بن ثابت ، وهما رجلان ليس بينهما نسبة أصلاً ، على ما ذكره ابن عبد البرّ(١) .

* - بماذا ثبت أنّهما مِن القرآن ؟

بشهادة الواحد ، على ما هو ظاهر الرواية الأُولى ، وصريح الروايتين التاسعة ، والثانية والعشرين ، وبشهادة عثمان معه ، على ما هو صريح الرواية الثامنة ، وبشهادة عُمَر معه ، على ما هو صريح الرواية الحادية عشر .

* - مَن عيّنه عثمان لكتابة القرآن وإملائه ؟

صريح الرواية الثانية أنّ عثمان عيّن للكتابة زيداً ، وابن الزبير ، وسعيد ، وعبد الرحمن وصريح الرواية الخامسة عشرة أنّه عيّن زيداً للكتابة وسعيد للإملاء وصريح الرواية السادسة عشرة أنّه عيّن ثقيفاً للكتابة ، وهُذَيلاً للإملاء وصريح الرواية الثامنة عشرة أنّ الكاتب لم يكن مِن ثقيف ، وأنّ المُملي لم يكن مِن هُذَيل وصريح الرواية التاسعة عشرة أنّ المُملي كان أُبًيّ بن كعب ، وأنّ سعيداً كان يُعرب ما كتبه زيد ، وهذا أيضاً صريح الرواية العشرين بزيادة عبد الرحمن بن الحرث للإعراب .

٢ - تعارض روايات الجَمْع :

إنّ هذه الروايات معارَضة بما دلّ على أنّ القرآن كان قد جُمِع ، وكُتِب على

_______________________

(١) تفسير القرطبي ج ١ ص ٥٦

٢٤٦

عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقد روى جماعة منهم ابن أبي شيبة وأحمد بن حنبل ، والترمذي ، والنسائي، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي ، والضياء المقدسي عن ابن عبّاس قال : قلت لعثمان بن عفّان : ما حمَلَكم على أنْ عمدتُم إلى الأنفال وهي مِن المثاني ، وإلى براءة وهي مِن المئين فقرنتُم بينهما ، ولم تكتبوا بينهم سطر : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ؟ ووضعتموهما في السبع الطِوال ، ما حَمَلَكم على ذلك ؟

فقال عثمان : إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) كان ممّا يأتي عليه الزمان ينزل عليه السورة ذات العدد ، وكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض مَن يكتُب عنده ، فيقول : ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا ، وتنزل عليه الآيات ، فيقول : ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال مِن أوّل ما أُنزل بالمدينة ، وكانت براءة مِن آخِر القرآن نزولاً ، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها ، فظننتُ أنّها منها ، وقُبض رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) ، ولم يبيّن لنا أنّها منها ، فمن أجل ذلك قرنتُ بينهما ، ولم أكتُب بينهما سطر : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، ووضعتهما في السبع الطوال(١) .

وروى الطبراني ، وابن عساكر عن الشعبي ، قال :

( جمَع القرآن على عهد رسول الله ( ص ) ستّة مِن الأنصار : أُبَيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبيد ، وأبو زيد ، وكان مجْمع بن جارية قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاث )(٢) .

وروى قتادة ، قال :

( سألتُ أنس بن مالك : مَن جمَع القرآن على عهد النبيّ ؟ قال : أربعة كلّهم مِن الأنصار : أُبَيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد )(٣) .

_______________________

(١) منتخب كنز العمّال ج ٢ ص ٤٨ .

(٢) نفس المصدر ج ٢ ص ٥٢ .

(٣) صحيح البخاري باب القُرّاء مِن أصحاب النبيّ ( ص ) ج ٦ ص ٢٠٢

٢٤٧

وروى مسروق : ذكر عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود ، فقال :

( لا أزال أحبّه ، سمعت النبيّ ( ص ) يقول : خُذوا القرآن مِن أربعة : مِن عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأُبَيّ بن كعب )(١) .

وأخرج النسائي بسنَدٍ صحيح عن عبد الله بن عمر ، قال :

( جمعتُ القرآن ، فقرأت به كلّ ليلة ، فبلغ النبيّ ( ص ) ، فقال : اقرأه في شهر . )(٢) وستجيء رواية ابن سعد في جمْع أمّ وَرَقة القرآن .

ولعلّ قائلاً يقول : وإنّ المراد مِن الجمْع في هذه الروايات هو الجمْع في الصدور لا التدوين ، وهذا القول دعوى لا شاهد عليها ، أضِف إلى ذلك أنّك ستعرف أنّ حفّاظ القرآن على عهد رسول الله ( ص ) كانوا أكثر مِن أنْ تُحصى أسماؤهم ، فكيف يمكن حصرهم في أربعة أو ستّة ؟ ! ! وإنّ المتصفّح لأحوال الصحابة ، وأحوال النبيّ ( ص ) يحصل له العلم اليقين ، بأنّ القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله ( ص ) ، وأنّ عدد الجامِعين له لا يُستهان به .

وأمّا ما رواه البخاري بإسناده عن أنس ، قال : مات النبيّ ( ص ) ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، فهو مردود مطروح ؛ لأنّه معارِض للروايات المتقدّمة ، حتّى لِما رواه البخاري بنفسه ويُضاف إلى ذلك أنّه غير قابل للتصديق به وكيف يُمكن أنْ يُحيط الراوي بجميع أفراد المسلمين حين وفاة النبيّ ( ص ) على كَثرتهم ، وتفرّقهم في البلاد ، ويَستعلِم أحوالهم ليمكنه أنْ يحصر الجامعين للقرآن في أربعة ، وهذه الدعوى تخرّص بالغَيب ، وقولٌ بغير عِلم .

وصَفْوة القول : أنّه مع هذه الروايات ، كيف يمكن أنْ يصدق أنّ أبا بكر

_______________________

(١) المصدر السابق .

(٢) الإتقان النوع ٢٠ ج ١ ص ١٢٤

٢٤٨

كان أوّل مَن جَمَع القرآن بعد خلافته ؟ وإذا سلّمنا ذلك ، فلماذا أمَر زيداً وعُمَر بجَمْعه مِن اللخاف ، والعَسيب ، وصدور الرجال، ولم يأخذه مِن عبد الله ومعاذ وأُبَيّ ، وقد كانوا عند الجَمْع أحياء ، وقد أُمِروا بأخْذِ القرآن منهم ، ومِن سالم ؟ نعم إنّ سالما قد قُتل في حرب اليمامة ، فلم يمكن الأخْذ منه .

على أنّ زيداً نفسه كان أحد الجامعين للقرآن على ما يظهر مِن هذه الرواية ، فلا حاجة إلى التفحّص والسؤال مِن غيره ، بعد أنْ كان شابّاً عاقلاً غير متّهم كما يقول أبو بكر ، أضِف إلى جميع ذلك ، أنّ أخبار الثقلَين المتظافرة تدلّنا على أنّ القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله ( ص ) ، على ما سنشير إليه .

٣ - تعارض أحاديث الجمْع مع الكتاب :

إنّ هذه الروايات معارَضة بالكتاب ، فإنّ كثيراً مِن آيات الكتاب الكريمة دالّة على أنّ سِوَر القرآن كانت متميّزة في الخارج بعضها عن بعض ، وإنّ السِوَر كانت منتشرة بين الناس ، حتّى المشركين وأهل الكتاب ، فإنّ النبيّ ( ص ) قد تحدّى الكفّار والمشركين على الإتيان بمِثْل القرآن ، وبعَشْر سِوَرٍ مِثْلِه مُفترَيات ، وبسورة مِن مِثْلِه ، ومعنى هذا : أنّ سِوَر القرآن كانت في متناوَل أيديهم .

وقد أُطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير مِن آياته الكريمة ، وفي قول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إنّي تاركٌ فيكم الثقلَين : كتاب الله وعترتي ) ، وفي هذا دلالة على أنّه كان مكتوباً مجموعاً ؛ لأنّه لا يصحّ إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور ، بل ولا على ما كُتب في اللخاف ، والعَسيب ، والأكتاف ، إلاّ على نحْوِ المجاز والعناية ، والمجاز لا يُحمَل اللفظ عليه مِن غير قرينة ، فإنّ لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمْعيّ ، ولا يُطلق على المكتوب إذا كان مجزّءاً غير مجتمِع ، فضلاً عمّا إذا لم يُكتَب ، وكان محفوظاً في الصدور فقط .

٢٤٩

٤ - مخالفة أحاديث الجَمْع مِن حُكم العقل !

إنّ هذه الروايات مخالفة لحُكم العقل ، فإنّ عَظَمة القرآن في نفسه ، واهتمام النبيّ ( ص ) بحِفظِه وقراءتِه ، واهتمام المسلمين بما يهتمّ به النبيّ ( ص ) وما يستوجبه ذلك مِن الثواب ، كلّ ذلك ينافي جمْع القرآن على النحْو المذكور في تلك الروايات ، فإنّ في القرآن جهات عديدة كلّ واحدة منها تكفي لأنْ يكون القرآن موضعاً لعناية المسلمين ، وسبباً لاشتهاره حتّى بين الأطفال والنساء منهم ، فضلاً عن الرجال وهذه الجهات هي :

١ - بلاغة القرآن : فقد كانت العرب تهتمّ بحِفظ الكلام البليغ ؛ ولذلك فهُم يحفظون أشعار الجاهلية وخُطَبِها ، فكيف بالقرآن الذي تحدّى ببلاغته كلّ بليغ ، وأخْرَس بفصاحته كلّ خطيب لَسِن ، وقد كانت العرب بأجمعهم متوجّهين إليه ، سواء في ذلك مؤمِنهم وكافرهم ، فالمؤمن يحفظه لإيمانه ، والكافر يتحفّظ به ؛ لأنّه يتمنّى معارضته ، وإبطال حُجّتِه .

٢ - إظهار النبيّ ( ص ) رغبته بحِفظ القرآن ، والاحتفاظ به : وكانت السيطرة والسلطة له خاصّة ، والعادة تقضي بأنّ الزعيم إذا أظْهَر رغبته بحِفظ كتابٍ أو بقراءته ، فإنّ ذلك الكتاب يكون رائجاً بين جميع الرعيّة ، الذين يطلبون رضاه لدينٍ أو دنيا .

٣ - إنّ حِفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس ، وتعظيمه عندهم : فقد عَلِم كلُّ مطّلع على التاريخ ما للقُرّاء والحفّاظ مِن المنزلة الكبيرة ، والمقام الرفيع بين الناس ، وهذا أقوى سببٍ لاهتمام الناس بحِفظ القرآن جملة ، أو بحِفظ القدَر الميسور منه .

٤ - الأجر والثواب الذي يستحقّه القارئ والحافظ بقراءة القرآن وحِفظه : هذه أهمّ العوامل التي تبعث على حِفظ القرآن والاحتفاظ به ، وقد كان المسلمون

٢٥٠

يهتمّون بشأن القرآن ، ويحتفظون به أكثر مِن اهتمامهم بأنفسهم ، وبما يهمّهم مِن مالٍ وأولاد وقد ورَد أنّ بعض النساء جمَعتْ جميع القرآن .

أخرج ابن سعد في الطَبَقات : ( أنبأنا الفضل بن دكين ، حدّثنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، قال : حدّثتْني جدّتي عن أمّ ورَقة بنت عبد الله بن الحارث - وكان رسول الله ( ص ) يزورها ، ويُسمّيها الشهيدة ، وكانت قد جمَعَت القرآن - أنّ رسول الله ( ص ) حين غزا بدراً ، قالت له : أتأذن لي فأخرُج معك أُداوي جرحاكم وأُمرّض مرضاكم ، لعلّ الله يهدي لي شهادة ؟ قال : إنّ الله مهَّدَ لكِ شهادة . )(١) ، وإذا كان هذا حال النساء في جمْع القرآن ، فكيف يكون حال الرجال ؟

وقد عُدّ مِن حفّاظ القرآن على عهد رسول الله ( ص ) جمٌّ غفير قال القرطبي : ( قد قُتِل يوم اليمامة سبعون مِن القُرّاء ، وقُتِل في عهد النبيّ ( ص ) ببئر معونة مثل هذا العدد )(٢) .

وقد تقدّم في الرواية ( العاشرة ) أنّه قُتل مِن القُرّاء يوم اليمامة أربعمئة رجُل ، على أنّ شدّة اهتمام النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالقرآن ، وقد كان له كُتّاب عديدون ، ولا سيّما أنّ القرآن نزل نجوماً في مدّة ثلاث وعشرين سنة ، كلّ هذا يورِث لنا القطْع بأنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان قد أمَر بكتابة القرآن على عهده .

روى زيد بن ثابت ، قال : ( كنّا عند رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) نؤلِّف القرآن مِن الرقاع ) قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخَين ولم يُخرجاه ) ، وفيه الدليل الواضح : أنّ القرآن إنّما جُمِع على عهد رسول الله(٣) .

وأمّا حِفظ بعض سِوَر القرآن أو بعض السورة ، فقد كان منتشراً جدّاً ، وشذّ

_______________________

(١) الإتقان - النوع ٢٠ ج ١ ص ١٢٥ .

(٢) الإتقان - النوع ٢٠ ص ١٢٢ ، وقال القرطبي في تفسيره ج ١ ص ٥٠ : وقُتِل منهم ( القراء ) في ذلك اليوم ( يوم اليمامة ) فيما قيل سبعمئة .

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٦١١

٢٥١

أنْ يخلو مِن ذلك رجُل أو امرأة مِن المسلمين روى عبادة بن الصامت ، قال :

( كان رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) يُشْغَل ، فإذا قَدِم رجُل مهاجر على رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) دفعه إلى رجُلٍ منّا يعلِّمه القرآن )(١) .

وروى كليب ، قال :

( كنت مع عليّ [ عليه السلام ] فسمع ضجّتهم في المسجد يقرأون القرآن ، فقال : طوبى لهؤلاء . )(٢) .

وعن عبادة بن الصامت أيضاً :

( كان الرجل إذا هاجر دفَعَه النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) إلى رجُل منّا يُعلِّمه القرآن ، وكان يسمع لمسجد رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) ضجّة بتلاوة القرآن ، حتّى أمَرَهم رسول الله أنْ يخفضوا أصواتهم لئلاّ يتغالطوا )(٣) .

نعم إنّ حِفظ القرآن ولو ببعضه ، كان رائجاً بين الرجال والنساء مِن المسلمين ، حتّى إنّ المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة مِن القرآن أو أكثر(٤) ، ومع هذا الاهتمام كلّه كيف يمكن أنْ يقال : إنّ جمْع القرآن قد تأخّر إلى زمان خلافة أبي بكر ، وإنّ أبا بكر احتاج في جمْع القرآن إلى شاهدَين يشهدان ، أنّهما سمِعا ذلك مِن رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم )

_______________________

(١) مسند أحمد ج ٥ ص ٣٢٤ .

(٢) كنز العمّال فضائل القرآن الطبعة الثانية ج ٢ ص ١٨٥ .

(٣) مناهل العرفان ص ٣٢٤ .

(٤) رواه الشيخان ، وأبو داود والترمذي ، والنسائي التاج : ج ٢ ص ٣٣٢ .

٢٥٢

٥ - مخالفة أحاديث الجمْع للإجماع :

إنّ هذه الروايات مخالِفة لِما أجمَع عليه المسلمون قاطبة ، مِن أنّ القرآن لا طريق لإثباته إلاّ التواتر ، فإنّها تقول : إنّ إثبات آيات القرآن حين الجمْع كان منحصر بشهادة شاهدَين ، أو بشهادة رجُل واحد إذا كانت تعدِل شهادتَين ، وعلى هذا فاللازم أنْ يثبت القرآن بالخبر الواحد أيضاً ، وهل يُمكن لمسلمٍ أنْ يلتزم بذلك ؟

ولستُ أدري كيف يجتمع القول بصحّة هذه الروايات التي تدلّ على ثبوت القرآن بالبيّنة ، مع القول بأنّ القرآن لا يثبت إلاّ بالتواتر ، أفلا يكون القطْع بلزوم كون القرآن متواتراً سبباً للقطع بكِذْب هذه الروايات أجْمَع ؟ ومِن الغريب أنّ بعضهم كابن حجَر فسّر الشاهدَين في الروايات بالكِتابة والحِفظ(١) .

وفي ظنّي أنّ الذي حمَله على ارتكاب هذا التفسير ، هو ما ذكرناه مِن لزوم التواتر في القرآن وعلى كلّ حال ، فهذا التفسير واضحُ الفساد مِن جهات :

أمّا أوّلاً : فلمخالفته صريح تلك الروايات في جمْع القرآن ، وقد سمعتها .

وأمّا ثانياً : فلأنّ هذا التفسير يلزمه أنّهم لم يكتبوا ما ثبَتَ أنّه مِن القرآن بالتواتر ، إذا لم يكن مكتوباً عند أحد ، ومعنى ذلك أنّهم أسْقَطوا مِن القرآن ما ثبَتَ بالتواتر أنّه مِن القرآن .

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الكتابة والحِفظ لا يحتاج إليهما ، إذا كان ما تُراد كتابتُه متواتراً ، وهما لا يُثبتان كونه مِن القرآن ، إذا لم يكن متواتراً وعلى كلّ حال فلا فائدة في جعلهما شرطاً في جمْع القرآن .

وعلى الجملة لا بدّ مِن طرح هذه الروايات ؛ لأنّها تدلّ على ثبوت القرآن بغير التواتر ، وقد ثبَتَ بطلان ذلك بإجماع المسلمين

_______________________

(١) الإتقان - النوع ١٨ ص ١٠٠

٢٥٣

٦ - أحاديث الجمْع والتحريف بالزيادة !

إنّ هذه الروايات لو صحّت ، وأمكن الاستدلال بها على التحريف مِن جهة النَقْص ، لكان اللازم على المستدلّ أنْ يقول بالتحريف مِن جهة الزيادة في القرآن أيضاً ؛ لأنّ كيفيّة الجمْع المذكورة تستلزم ذلك ، ولا يمكن له أنْ يعتذر عن ذلك بأنّ حدّ الإعجاز في بلاغة القرآن يمنع مِن الزيادة عليه ، فلا تقاس الزيادة على النقيصة ؛ وذلك لأنّ الإعجاز في بلاغة القرآن وإنْ كان يمنع عن الإتيان بمِثْل سورة مِن سِوَره ، ولكنّه لا يمنع مِن الزيادة عليه بكلمة أو بكلمتَين ، بل ولا بآيةٍ كاملة ، ولا سيّما إذا كانت قصيرة ، ولولا هذا الاحتمال لم تكن حاجة إلى شهادة شاهدَين ، كما في روايات الجمْع المتقدّمة ، فإنّ الآية التي يأتي بها الرجُل تُثبت نفسها أنّها مِن القرآن أو مِن غيره وإذن فلا مناص للقائل بالتحريف مِن القول بالزيادة أيضاً ، وهو خلاف إجماع المسلمين .

وخلاصة ما تقدّم ، أنّ إسناد جمْع القرآن إلى الخُلفاء أمْر موهوم ، مخالفٌ للكتاب ، والسُنّة ، والإجماع ، والعقل ، فلا يمكن القائل بالتحريف أنْ يستدلّ به على دعواه ، ولو سلّمنا أنّ جامع القرآن هو أبو بكر في أيّام خلافته ، فلا ينبغي الشكّ في أنّ كيفيّة الجمْع المذكورة في الروايات المتقدّمة مكذوبة ، وأنّ جمْع القرآن كان مستنداً إلى التواتر بين المسلمين ، غاية الأمر أنّ الجامع قد دَوَّن في المُصحف ما كان محفوظاً في الصدور على نحْوِ التواتر .

نعم لا شكّ أنّ عثمان قد جمَع القرآن في زمانه ، لا بمعنى أنّه جمَع الآيات والسِوَر في مُصحف ، بل بمعنى أنّه جمَع المسلمين على قراءة إمامٍ واحد ، وأحرق

(البيان - ١٧)

٢٥٤

المصاحف الأخرى التي تخالِف ذلك المُصحف ، وكتَب إلى البلدان أنْ يُحرقوا ما عندهم منها ، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة ، وقد صرّح بهذا كثير مِن أعلام أهل السُنّة .

قال الحارث المحاسبي : ( المشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك ، إنّما حمَل عثمان الناس على القراءة، بوجهٍ واحد ، على اختيار وقَع بينه وبين مَن شهده مِن المهاجرين والأنصار ، لمّا خشِيَ الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات ، فأمّا قبل ذلك ، فقد كانت المصاحف بوجوه مِن القراءات المُطْلَقات على الحروف السبعة ، التي أُنزل بها القرآن . )(١) .

أقول : أمّا أنّ عثمان جمَع المسلمين على قراءة واحدة ، وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين ، والتي تلقّوها بالتواتر عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأنّه منَع عن القراءات الأخرى المُبْتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، التي تقدّم توضيح بطلانها .

أمّا هذا العمل مِن عثمان فلم ينتقده عليه أحد مِن المسلمين ؛ وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة كان يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين ، وتمزيق صفوفهم ، وتفريق وحدتهم ، بل كان يؤدّي إلى تكفير بعضهم بعضاً وقد مرّ - فيما تقدّم - بعض الروايات الدالّة على أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) منَع عن الاختلاف في القرآن ، ولكنّ الأمر الذي اُنتُقِد عليه هو إحراقه لبقيّة المصاحف ، وأمْره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم مِن المصاحف ، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة مِن المسلمين ، حتّى سَمَّوه بحرّاق المصاحف .

_______________________

(١) الإتقان - النوع ١٨ ج ١ ص ١٠٣

٢٥٥

النتيجة :

وممّا ذكرناه : قد تبيّن للقارئ أنّ حديث تحريف القرآن حديث خُرافة وخيال ، لا يقول به إلاّ مَن ضَعُفَ عقلُه ، أو مَن لم يتأمّل في أطرافه حقَّ التأمّل ، أو مَن ألجأه إليه يجب القول به والحبّ يعمي ويصمّ ، وأمّا العاقل المُنصِف المتدبّر ، فلا يشكّ في بطلانه وخُرافتِه

٢٥٦

٢٥٧

حُجّية ظواهر القرآن

٢٥٨

إثبات حُجّية ظواهر القرآن أدلّة المنكِرين له مع تزييفها اختصاص فَهْم القرآن بمَن خوطِب به الأخذ بالظاهر ، مِن التفسير بالرأي غموض معاني القرآن يمنع مِن فَهْمِها إرادة خلاف الظاهر في بعض الآيات - إجمالاً - تُسقِط الظواهر عن الحُجّية المنْع مِن اتّباع المتشابَه يُسقِط حُجّية ظواهر القرآن

٢٥٩

لا شكّ أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم يخترع لنفسه طريقة خاصّة لإفهام مقاصده ، وأنّه كلّم قومَه بما ألِفوه مِن طرائق التفهيم والتكلّم ، وأنّه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه ، وليتدبّروا آياته ، فيأتمِروا بأوامره ، ويزدجروا بزواجره ، وقد تكرّر في الآيات الكريمة ما يدلّ على ذلك ، كقوله تعالى :

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ٤٧ : ٢٤ .

وقوله تعالى :

( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ٣٩ : ٢٧ .

وقوله تعالى :

( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ٢٦ : ١٩٢نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ٢٦ : ١٩٣عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ٢٦ : ١٩٤بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ٢٦ : ١٩٥) .

وقوله تعالى :

٢٦٠

الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه»(١) ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر «عبد الرحمن بن ملجم» لم يقل سوى «فزت وربّ الكعبة».

خلاصة القول : فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع ، إنسانا شجاعا شهما هادفا ، تمتلئ حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.

٣ ـ الدلائل العقليّة على المعاد :

فضلا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد ، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص ، فإنّ هناك أدلّة عقليّة واضحة أيضا على هذه المسألة ، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر :

أ ـ برهان الحكمة :

إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر ، فسيكون فارغا وبلا معنى تماما ، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا.

فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرّد نزولهم من بطون امّهاتهم ويموتون ، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر ، فسنواجه نفس الاضطراب والحيرة ، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاما أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كلّ هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة ، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر نسعى مدّة لتحصيل العلم والمعرفة ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٥ صفحة ٥٢.

٢٦١

وحينما نبلغ درجة منه بعد اشتعال الرأس شيبا يستقبلنا الموت.

ثمّ لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والاستيقاظ المتكرّر يوميا ، واستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين ، لماذا؟

فهل حقّا إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة ، وكلّ هذه المقدّمات والمؤخّرات وكلّ هؤلاء الأساتذة والمعلّمين والمربّين وكلّ هذه المكتبات الضخمة وكلّ هذه الأمور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات ، كلّ ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟

هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة ، ويقدم بعضهم على الانتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية ، بل قد يفتخر به.

وكيف يمكن لمن يؤمن بالله وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون ارتباطها بحياة اخرى ذات قيمة وذات شأن؟

يقول تعالى :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) (١) . أيّ أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله ، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.

نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوما ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عند ما تعتبر هذه : «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم ، وجامعة للاستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم ، تماما كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في كلماته العميقة المعنى «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عاقبة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها ، مسجد أحبّاء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ،

__________________

(١) المؤمنون ، ١١٥.

٢٦٢

ومتجر أولياء الله»(١) .

خلاصة القول ، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الاعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) (٢) .

ب ـ برهان العدالة :

التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق ، يستنتج منه أنّ كلّ شيء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري ، يحكم نظام عادل دقيق ، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتّى الموت ، حركات القلب ، دوران الدم ، أجفان العين ، وكلّ جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق ، الذي يحكم العالم بأسره «وبالعدل قامت السموات والأرض»(٣) فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!

صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والإختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظلّ تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه ، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فما ذا سيكون؟!

ولو أنّ الظالمين الضالّين المضلّين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطئ فما ذا يقتضي العدل الإلهي؟! وصحيح أنّ بعضا من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم ـ على الأقل قسم منهم ـ ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحقّ. كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيّبة في الدنيا ، فهل من

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار كلمة ١٣١.

(٢) الواقعة ، ٦٢.

(٣) تفسير الصافي ، المجلّد الخامس ، صفحة ١٠٧.

٢٦٣

الممكن أن تكون كلا المجموعتين في كفّة عدالة الله سواء؟!

ويقول القرآن الكريم :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(١) وفي موضع آخر يقول تعالى :( أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .(٢)

على كلّ حال ، فلا شكّ في تفاوت الناس وإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى ، كما أنّ محاكم «القصاص والثواب الدنيوية» و «محكمة الوجدان» و «الآثار الوضعية للذنوب» كلّ ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو ، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامّة تراعي بدقّة الخير أو الشرّ في حساباتها ، وإلّا فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبدا.

وبناء على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساو بالضرورة لوجود المعاد والقيامة ، القرآن الكريم يقول :( وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(٣)

ويقول :( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .(٤)

ج ـ برهان الهدف :

على خلاف ما يتوهّمه المادّيون ، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفا من خلق الإنسان ، والذي يعبّر عنه الفلاسفة بـ «التكامل» وفي لسان القرآن والحديث فهو «القرب إلى الله» أو «العبادة»( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .(٥)

فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكلّ شيء؟!

__________________

(١) القلم ، ٣٥ و ٣٦.

(٢) ص ، ٢٨.

(٣) الأنبياء ، ٤٧.

(٤) يونس ، ٥٤.

(٥) الذاريات ، ٥٦.

٢٦٤

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمرّ فيه سير الإنسان التكاملي ، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم ، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمرّ سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.

الخلاصة : أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد ، وإذا قطعنا الارتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت ، فكلّ شيء سيتحوّل إلى ألغاز ، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.

د ـ برهان نفي الاختلاف :

لا شكّ أنّنا جميعا نتعذّب كثيرا من الاختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم ، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الاختلافات ، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الاختلافات هي من طبيعة الحياة. ويستفاد من عدّة دلائل بأنّه حتّى بعد قيام المهديعليه‌السلام ـ وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الاختلافات ـ ستبقى بعض الاختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ ، وكما يقول القرآن الكريم فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على اختلافاتهم إلى قيام القيامة :( فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .(١)

ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يقود كلّ شيء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الاختلافات حتما ، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادّة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها ، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والانكشاف ، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية ، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الاختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تامّ.

الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعدّدة من القرآن الكريم على هذه المسألة ، يقول تعالى في الآية (١١٣) من سورة البقرة :( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما

__________________

(١) المائدة ، ١٤.

٢٦٥

كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وفي الآيات (٣٨) و (٣٩) من سورة النحل يقول تعالى :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) .

٤ ـ القرآن ومسألة المعاد :

تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية ، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختصّت ببحث مسألة المعاد ، بعد الكثرة الكاثرة التي اختصّت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارة تكون بشكل استدلالات منطقية ، واخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق ـ كالاستدلالات المنطقية ـ ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

في القسم الأوّل ، أي الاستدلالات المنطقية ، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيرا على موضوع إمكانية المعاد ، إذ أنّ منكري المعاد غالبا ما يتوهّمون استحالته ، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اخرى.

ففي هذا القسم ، يلج القرآن الكريم طرقا متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلّها في نقطة واحدة ، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارة يجسّد للإنسان النشأة الاولى ، وبعبارة وجيزة ومعبّرة واضحة تقول الآية :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .(١)

__________________

(١) الأعراف ، ٢٩.

٢٦٦

وتارة يجسّد حياة وموت النبات ، وبعثه الذي نراه بامّ أعيننا كلّ عام ، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماما كالنبات :( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) .(١)

وفي موضع آخر يقول تعالى :( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ) .(٢)

وحينا يطرح مسألة قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(٣)

وحينا آخر يعرض عملية انبعاث الطاقة واشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته ، وجعل النار في قلب الماء فيقول :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ) .(٤)

وتارة يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) .(٥)

وأخيرا فإنّ القرآن تارة يدلّل على البعث بالنوم الطويل ـ النوم الذي هو قرين الموت وأخوه ، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب ـ كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين ، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول :

__________________

(١) سورة ق ، ٩ ـ ١١.

(٢) فاطر ، ٩.

(٣) الأحقاف ، ٣٣.

(٤) سورة يس ، ٨٠.

(٥) الحجّ ، ٥.

٢٦٧

( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) .(١)

تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد. علاوة على قصّة إبراهيم عليه‌السلام والطيور الأربعة (البقرة ـ ٢٦٠) وقصّة عزير (البقرة ـ ٢٥٩) وقصّة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة ـ ٧٣) ، والتي تشكّل كلّ واحدة منها نموذجا تأريخيا على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.

خلاصة القول ، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه ، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص ، حيّة ومقنعة بحيث أنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

وعلى قول البعض : فإنّ ألفا ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة المعاد ، لو جمعت وفسّرت لأصبحت وحدها كتابا ضخما.

٥ ـ المعاد الجسماني :

المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر ، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معا ، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به ، والحديث حول عودة الجسم.

جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط ، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب ، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط ، وبعد الموت يصبح الإنسان غير محتاج إليه فينزل الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.

ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم ، وهنا لا يقيّد البعض بعودة الجسم السابق ، ويقولون بأنّ الله قيّض للروح جسدا ، ولكن

__________________

(١) الكهف ، ٢١.

٢٦٨

شخصيّة الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده.

في حال أنّ المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح ترابا ويتلاشى ، يتلبّس بالحياة مرّة اخرى بأمر الله الذي يجمعه ويكسوه بالحياة ، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة.

إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّا ، بحيث يمكن القول قطعا بأنّ الذين يعتقدون باقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى اطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد ، وإلّا فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شكّ في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس ، توضّح هذه الحقيقة حيث حينما تساءل الإنسان :( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) أجابه القرآن بصراحة ووضوح :( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

إنّ كلّ تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضيّة ، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح ترابا متناثرا وضائعا في هذه الأرض؟( وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(١)

إنّهم يقولون :( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) (٢) . وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلا على الجنون أو الكذب على الله( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .(٣)

لهذا السبب فإنّ استدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموما تدور

__________________

(١) السجدة ، ١٠.

(٢) المؤمنون ، ٣٥.

(٣) سورة سبأ ، ٧.

٢٦٩

حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلا وشاهدا على هذا الادّعاء.

علاوة على أنّ القرآن الكريم يذكر مرارا وتكرارا بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنّة ، كلّها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضا ، وإلّا فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنّة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كلّ حال ، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر : فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساو لإنكار أصل المعاد.

علاوة على هذه الأدلّة النقلية ، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيرا ، لا شكّ أنّ الإعتقاد بالمعاد الجسماني سيثير أسئلة وإشكالات كثيرة ، منها شبهة الآكل والمأكول والتي ردّ عليها العلماء الإسلاميون والتي أوردنا تفصيلا عنها بشكل مختصر في المجلّد الثاني عند تفسير الآية (٢٦٠) من سورة البقرة.

٦ ـ الجنّة والنار

الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماما ولكنّه بشكل أكمل وأجمل ، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة ، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضا غير كاملة.

فوفقا لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر ، القرآن الكريم يقول :( فَلا تَعْلَمُ

٢٧٠

نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .(١)

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضا تتفاوت تماما مع الأنظمة في هذا العالم ، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات ، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتّى الجلد( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢) ( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٣) .

على كلّ حال ، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة ، وعادة فإنّ اللغة التي نتحدّث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك ، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقّن هو أنّ الجنّة هي مركز كلّ النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية ، وجهنّم هي مركز لكلّ أنواع العذاب الأليم المادّي والمعنوي أيضا.

أمّا بخصوص تفصيل ذلك فإنّ القرآن الكريم أورد جزئيات نحن نؤمن بها ، ولكن تفصيلها بدقّة غير ممكن بدون الرؤية والمعاينة. ولنا بحث حول هذا الخصوص في تفسير الآية (٣٣) من سورة آل عمران.

إلهي : آمنّا في الفزع الأكبر.

إلهي : لا تحاسبنا بعدلك ولكن حاسبنا بلطفك وعدلك ، فليس لدينا من الأعمال ما يوجب رضاك.

اللهم افعل بنا ما يرضيك عنّا ويجعلنا من الناجين آمين ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة يس

__________________

(١) السجدة ، ١٧.

(٢) سورة يس ـ ٦٥.

(٣) سورة فصلت ، ٢١.

٢٧١
٢٧٢

سورة

الصّافات

مكيّة

وعدد آياتها مائة واثنان وثمانون آية

٢٧٣
٢٧٤

سورة الصّافات

محتوى سورة الصّافات :

هذه السورة بحكم كونها من السور المكيّة ، فإنّها تمتلك كافّة خصائص السور المكيّة ، فهي تسلّط الأضواء على اصول المعارف والعقائد الإسلامية الخاصّة بالمبدأ والمعاد. وتتوعّد المشركين بأشدّ العقاب وذلك من خلال العبارات الحازمة والآيات القصيرة العنيفة الوقع ، وتوضّح ـ بالأدلّة القاطعة ـ بطلان عقائدهم.

بصورة عامّة يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام :

القسم الأوّل : يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن ، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

القسم الثّاني : يتحدّث عن الكافرين ، وإنكارهم للنبوّة والمعاد ، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة ، كما يستعرض الحوار الذي يدور بينهم في ذلك اليوم ، ويحملهم جميعا الذنب ، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم ، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنّة إضافة إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

القسم الثّالث : يشرح بصورة مختصرة تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) وبصورة ذات تأثير قوي ، كما يتحدّث هذا القسم بشكل مفصّل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته ، والهدف الرئيسي من وراء سرد قصص الأنبياء ـ مع ذكر بعض الشواهد العينية من تأريخهم ـ هو تجسيد حوادث تلك القصص

٢٧٥

وتصويرها بشكل محسوس وملموس.

القسم الرّابع : يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن اعتباره من أسوأ صور الشرك ، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين الله سبحانه وتعالى والجنّ والملائكة ، ويبيّن بطلان مثل هذه العقائد التافهة بعبارات قصيرة.

أمّا القسم الخامس والأخير : فيتناول في عدّة آيات قصار انتصار جيوش الحقّ على جيوش الكفر والشرك والنفاق ، وابتلاءهم ـ أي الكافرين والمشركين والمنافقين ـ بالعذاب الإلهي ، وتنزّه آيات هذا القسم الله سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه ، ثمّ تنتهي السورة بالحمد والثناء على الباريعزوجل .

فضيلة تلاوة سورة الصافات :

في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات اعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد كلّ جنّ وشيطان ، وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرىء من الشرك ، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام جاء فيه : «من قرأ سورة الصافات في كلّ جمعة لم يزل محفوظا من كلّ آفة ، مدفوعا عنه كلّ بليّة في حياته الدنيا ، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق ، ولم يصبه الله في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ، ولا جبّار عنيد ، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه الله شهيدا ، وأماته شهيدا ، وأدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة»(٢) .

الثواب العظيم الذي يناله من يتلو سورة الصافات ، جاء نتيجة لما تحويه هذه

__________________

(١) مجمع البيان ، أوّل تفسير سورة الصافات.

(٢) تفسير مجمع البيان أوّل تفسير سورة الصافات ـ لقد ورد هذا الحديث في تفسير البرهان نقلا عن الشيخ الصدوق ، رحمة الله مع اختلاف بسيط.

٢٧٦

السورة المباركة ، فنحن ندرك أنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر ، ومن ثمّ الإعتقاد ، ومن بعد العمل. ومن دون شكّ فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة ، سيحفظ من شرّ الشياطين ، ويتطهّر من الشرك ، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي ، ويمارس أعمالا صالحة ، ويتّعظ من القصص الواقعية للأنبياء والأقوام الماضية ، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

وممّا يذكر فإنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاولى فيها.

* * *

٢٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) )

التّفسير

الملائكة المستعدّة لتنفيذ المهام :

هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم ، القسم المليء بالمعاني والمثير للتفكّر ، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في جوانب مختلفة من هذا العالم ، ويجعله متهيّئا لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ الله تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين ، وليس بحاجة إلى القسم ، إضافة إلى أنّ قسمه إن كان للمؤمنين ، فإنّهم مؤمنون به من دون قسم ، وإن كان للناكرين ، فإنّ أولئك لا يعتقدون بالقسم الإلهي.

ونلفت الانتباه إلى نقطتين لحلّ مشكلة القسم في كلّ آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاولى : أنّ القسم يأتي دائما بالنسبة إلى امور مهمّة وذات قيمة ، ولذلك فإنّ

٢٧٨

أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهميّة الأشياء المقسم بها. وهذا الأمر يدعو إلى التفكّر أكثر بالشيء المقسم به ، التفكّر الذي يكشف للإنسان عن حقائق جديدة.

الثانية : أنّ القسم يأتي للتأكيد ، وللدلالة على أنّ الأمور التي يقسم من أجلها هي امور جديّة ومؤكّدة.

وعلاوة على ذلك أنّ المتحدّث لو تحدّث بصورة حازمة ومؤكّدة ، فإنّ تأثير كلامه من الناحية النفسية سيكون أوقع على قلب المستمع ، كما أنّه يقوّي المؤمنين ويضعّف الكافرين.

على كلّ حال ، فإنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها الله تعالى(١) .

الأولى :( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) .

الثانية :( فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ) .

الثالثة :( فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) .

فمن هي تلك الطوائف الثلاث؟ وعلى من أطلقت تلك الصفات؟ وما الهدف النهائي منها؟

المفسّرون قالوا الكثير بهذا الشأن ، إلّا أنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة ، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن ارتكاب المعاصي والذنوب ، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم. أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيرا طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي

__________________

(١) هذه العبارات الثلاث من جهة هي ثلاثة أقسام ، ومن جهة اخرى هي قسم واحد له ثلاث صفات.

٢٧٩

على الرسل(١) .

وممّا يلفت النظر أنّ «الصافات» هي جمع كلمة «صافّة» وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضا ، وتشير إلى مجموعة مصطفّة ، إذن فـ «الصافات» تعني الصفوف المتعدّدة(٢) .

وأمّا كلمة «الزاجرات» فإنّها مأخوذة من (الزجر) ويعني الصرف عن الشيء بالتخويف والصراخ ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كلّ منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

و «التاليات» من (التلاوة) وهي جمع كلمة (تال) وتعني طوائف مهمّتها تلاوة شيء ما(٣) .

ونظرا لكثرة واتّساع مفاهيم هذه الألفاظ ، فليس من العجب أن يطرح المفسّرون تفاسير مختلفة لها دون أن يناقض بعضها الآخر ، بل من الممكن أيضا أن تجتمع لتوضيح مفهوم هذه الآيات ، فمثلا المقصود من كلمة «الصافات» هو صفوف الملائكة المستعدّة لتنفيذ الأوامر الإلهيّة ، في عالم الخلق ، أو الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء في عالم التشريع ، وكذلك صفوف المقاتلين

__________________

(١) بالطبع وردت احتمالات اخرى في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ، «منها» ما يشير إلى صفوف جند الإسلام في ساحات الجهاد ، الذين يصرخون بالأعداء ويزجرونهم عن الاعتداء على حرمة الإسلام والقرآن ، والذين يتلون كتاب الله دائما ومن دون أي انقطاع ، وينوّرون قلوبهم وأرواحهم بنور تلاوته ، ومنها : أنّ بعض هذه الأوصاف الثلاثة هو إشارة إلى ملائكة اصطفّت بصفوف منظمة ، والقسم الآخر يشير إلى آيات القرآن التي تنهى الناس عن ارتكاب القبائح ، والقسم الثالث يشير إلى المؤمنين الذين يتلون القرآن في أوقات الصلاة وفي غيرها من الأوقات. ويستبعد الفصل بين هذه الأوصاف ، لأنّها معطوفة على بعضها البعض بحرف (الفاء) ، وهذا يوضّح أنّها أوصاف لطائفة واحدة. وقد ذكر العلّامة «الطباطبائي» في تفسيره الميزان هذا الاحتمال ، في أنّ الأوصاف الثلاثة هي تطلق على ملائكة مكلّفة بتبليغ الوحي الإلهي ، والاصطفاف في طريق الوحي لتوديعه ، وزجر الشياطين التي تقف في طريقه ، وفي النهاية تلاوة آيات الله على الأنبياء.

(٢) ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث «الصافات والزاجرات والتاليات» لأنّ موصوفها الجماعة ، وهي مؤنّث لفظي.

(٣) ممّا يذكر أنّ بعض اللغويين قالوا بأنّ جمع كلمة (تال) هو (تاليات) وجمع (تالية) (توال).

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526