البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن14%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36221 / تحميل: 8323
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الإهداء

أهدي هذا الجهد إلى مولاي صاحب الزيارة الإمام الحسين (ع)

قتيل العبرات المذبوح ظلماً وعطشاً بجنب الفرات

واُقدّمها إليه بتذلّلٍ وخضوع لعلّه يقبلها من عبده.

نزار

٣
٤

المقدّمة

(١)

الحمدُ لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام علی محمّد وآله الطاهرين واللعن الدائم علی أعدائهم إلى يوم الدين.

أمّا بعد :

هذا شرح (زيارة عاشوراء المشهورة العظيمة المرويّة عن الإمام الباقر عليه السّلام) للعالم الربّاني الکبير (حبيب الله الشريف الکاشانی)، لقد وقع بأيدينا بطبعة القديمة التي نفدت في الأسواق من قبل سنين. وفي نفس الوقت إنّ مکتباتنا الإسلاميّة في هذا اليوم تفتقر لشرح زيارة العاشوراء باللغة العربية، ولعلّها توجد باللغة الفارسية. وأيضاً رأيت الکثير من طلّاب العلم وغيرهم يبحثون ويسألون عن شرحٍ لهذه الزيارة العظيمة، ونظراً للحاجة الماسّة توکّلتُ علی الله الذي أستمدّ منه العون والقوّة، وتقرّباً لأهل البيت عليهم السّلام الذين هم ذخيرتی في الدُّنيا والآخرة، وعملي هذا خدمةً لآثارهم وإحياءً لفضائلهم عليهم السّلام.

وعملتُ في تحقيق وتصحيح هذا الشرح القيّم النادر، وحاولت أن أحصل علی نسخةٍ خطية لهذا الشرح واستمرّ البحث عدّة شهور وأخيراً أعانني الأخ المحترم المحقّق (الشيخ ماجد بن أحمد العطيّة) وجاءني بنسخةٍ خطيّة من (مرکز إحياة التراث الإسلامي) وعدد صفحاتها (٢٥) صفحة وکلّ صفحة تضمّ (١٨) سطراً إلاّ الصفحة الأولی، ولکن للأسف کانت النسخة الخطية ناقصة،

٥

وقابلتُ النسخة المطبوعة قديماً والنسخة الخطية فوجدتُ بعض التفاوت وأشرت إلى الاختلاف الذی بينهما. وفی نفس الوقت علقت بعض التعليقات والتوضيحات وأشرت بعض الاشارات، وذکرنا في المقدمة من آثار وبرکات هذا الزيارة.

وأخير أحمد الله تعالی وأستغفره عن کل هفوة وزلّة صدرت منا. وأساله أن يوفقنا لخدمة الدين وأهله بحقّ محمد وآله الطاهرين.

٦

ترجمة الشارح

(٢)

١. اسمه :

هو العلّامة المجتهد آية الله العظمی الملّا حبيب الله الشريف الکاشانی (أعلی الله مقامه).

٢. والده :

هو الفقيه المولی علی مدد الساوجی المتوفی سنة ١٢٧٠هـ بساوة والمدفون بمدينة قم المقدسة بجوار ابن بابويه والملّا مهدي النراقي وکان من أجلّاء علماء عصره ومشاهير فضلاء زمانه، وله مولّفات قيّمة.

٣. والدته :

العلوية الشريفة کريمة العلامة المحقق السيدالحسين الکاشانی (طاب ثراه).

٤. مولده :

ولد في مدينة کاشان وتاريخ ولادته علی ما ذکره بنفسه في آخر کتابه (لباب الألقاب) قال : «وأمّا تاريخ ولادتی فلم أتحققه في مکتوب من الوالد الماجد وإنّما ذکرت والدتی المرحومة أن ولادتك کانت قبل وفاة السلطان الغازی محمد شاه القاجاري بسنتين، وتاريخ وفاته علی ما حقّقناه سنة (١٢٦٤) من الهجرة النبوية.

٧

٥. وفاته ومدفنه :

لقد أجاب داعی الله وعرج بروحه المقدّسه إلى دار السلام وجوار أوليائه الکرام، فلحق بالرفيق الاعلی في صبح يوم الثلاثاء ٢٣ جمادي الثانية عام (١٣٤٠) هجرية من عمر جاوز الثمانين. وشيعته بلدة کاشان برمتها والوفود التی حضرت کاشان من ضواحيها ونواحيها بتشييع حافل بالعلماء والوجوه العلمية وسائر الطبقات، وحمل جثمانه علی الرووس والاکتاف مارين به في البلد حتی جیء به إلى خارج البلد في محل يسمی «دشت أفروز». هذا، والأعلام تخفق أمام نعشه ومواكب اللطم والعزاء خلفه يردّدون أهازيج الحزن بلوعة. ودفن هناک في مقبرته الخاصة وأقيمت لروحه الفواتح في کاشان وفی نواحي اخری من البلاد کما رثته الشعراء والادباء بقصائد مشجية، واليوم مرقده الشريف مزار للخاص والعام في کاشان، ولاسيّما في ليالي الجمعة.

٦. أخلاقه الحميدة :

کان خلاصة علمائنا الاخيار وبقية فقهائنا الابرار، جامعا لانواع الکمالات، ومحاسن الصفات؛من الورع والتقوی والتمسک بالعروة الوثقي، وغاية في التواضع والانصاف في نهاية حسن الاخلاق والعفاف والکرام الذی لم يزل بيته مناخا للوالدين والاضياف، محبوبا لدي العوام والخواص، وکان بجانب عظيم من الزهد والتقشف، کان جشب الماکل وخشن الملبس حيث سار بسيرة الاولياء الصالحين من السلف الصالح، وکان صلب الايمان، وافر العقل، حسن الصحبة، ذا اناة وتامل، لم ياخذه الطيش والحدة إذا غضب، ولم تاخذه في الله لومة لائم، وکان مخالفا لهواه مطيعا لامر مولاه.

وکان دائم الذکر والتلاوة، کثير التهجّد والعبادة، وکان متصفا بالاخلاق السنيّة والشيم المرضية ؛ من لين العریکة، وصفاء الحقيقة، وخلوص المحبة ،

٨

وشدة ولائه الاهل بيت العصمة والطهارة وإحياء ذکرهم ببثّ آثارهم الشريفة. وکان کثير التحمل ـ مع کثرة عائلته ـ للفقر والفاقة(١) .

وأيضا هناك ترجمة ضافية لشيخنا المترجم ذکرها بنفسه في آخر کتاب لباب الالقاب منها، قال : (وبالجملة لولا أنَّ تزکية المرء لنفسه قبيحة عند أرباب العقول لفصّلت الکلام فيما منَّ الله عليَّ من الخصائص في الأحوال بما يطول، والقول المجمل في ذلك أنّي لم اشتغل من بدو تمييزی قبل بلوغی إلى هذه السنة ١٣١٩هجري بما اشتغل به اللاهون والغافلون ولم أصرف عمری فيما صرف فيه البطالون ولم احب المخالطة مع الجهلة ولم ارکن إلى الظلمة، بل کنت محبا للاعتزال، مجتبا عن المراء والجدال، وعن قيل والقال، والجواب والسوال الا في مسائل الحلال والحرام، معرضا عن الحسد والطمع وطول الامال، صابرا علی الباساء والضراء وشدائد الاحوال، وان يجعل عاقبتی خيرا مما مضي.

وبالجملة قد وقفت عمری علی التدريس والتاليف والتصنيف ولم اکترث بما اصابنی من اذی کل وضيع وشريف، ولوشئت ان اذکر نبذا مما اصابنی من أهل هذا البلد وشطرا من ابتلائی بشر الحاسد إذا حسد لملات الطوامير وسطرت الاساطير، ولکنی أسدل دونها ثوبا وأطوی عن ذکرها کشحا فان الصبرعلی هاتی احجی وان کان في العين قذی وفی الحلق شجی.

خليلی جربت الزمان وأهله فلا عهدهم عهد ولا ودّهم ود بلاءٌ علينا کوننا بين معشر ولا فيهم خير ولا منهم بدُّ إلى غير ذلك مما ذکره بنفسه.

__________________

١ ـ هذا الکلام ذکره سبطه في آخر کتاب (أحسن الترتيب).

٩

٧. مشایخه في العلم :

اخذ المترجم له علومه الابتدائية في الصرف والنحو والمنطق والمعانی

والبيان والبديع والتجويد من أساتذة الوقت في ساوة وکاشان، وفرغ منها ولم

يتجاوز الخامسة عشر من عمره، ثم شرع في الفقه واصوله لدي جماهة من

الاجلاء والفحول منهم :

١ ـ الفقيه السيد حسين الحسنی الکاشانی وهو جد آية الله العظمی السيد أبي القاسم الکاشانی المتوفی سنة ١٣٨١هـ.

٢ ـ العلامه المحقق الحاج محمد علی اللاجوردي الکاشانی المتوفی سنة ١٢٩٤هـ (مولف تکميل الاحکام في شرح المختصر النافع) و (شرح نتائج الافکار).

٣ ـ العلامة الحاج المولی محمد حسين الارد کانی الشهير بالفاضل الارد کانی نزيل کربلاء المقدسة والمدفون بها.

٤ ـ العلامة الحاج أبو القاسم الشهير بکلانتر وتلميذ الشيخ الانصاری.

٥ ـ العلامة الجليل زين العابدين الگلبايگانی.

٦ ـ الشيخ محمد الاصفهانی ابن اخت صاحب الفصول.

٧ ـ العلامة الحکيم السيد علی شرف الدين الحسينی المرعشی الشهير

ب (سيد الاطباء) المتوفی سنة ١٣١٦هـ مولف کتاب قانون العلاج وهو جد

المرجع الدينی السيد شهاب الدين المرعشی النجفی.

٨ ـ المولی المحقق عبد الهادي المدرس الطهرانی صاحب التعليقة علی القوانين.

هولاء العلماء الکبار الذين تلمذ عندهم المترجم له وغيرهم واجيز منهم أو روی عنهم احاديث العترة الطاهرة عليهم السّلام.

١٠

٨. تلاميذه :

هناك جم غفير وجمع کثير من العلماء الاعاظم الذين قد استفادوا من دروسه، منهم :

١ ـ المرجع الدينی السيد مصطفی الحسينی الکاشانی.

٢ ـ آية الله العظمی السيد محمد بن إبراهيم العلوی البروجردي الکاشانی المتوفی ١٣٦٢هـ.

٣ ـ العلامة المتبحر أبو القاسم القمی.

٤ ـ العلامة الميرزا المحلاتی نزيل اصفهان ومدرسها المشهور. وهو من أساتذة المرجع الکبير السيد حسين البروجردي.

٥ ـ العلامة النسابة السيد شمس الدين محمود الحسينی المرعشی النجفی صاحب الکتاب (مشجرات العلويين الکرام) وهو والد آية الله العظمی شهاب الدين المرعشی النجفی.

٦ ـ العلامة الجليل الشيخ المحمود التبريزی النجفی المتوفی ١٣٨٥هـ.

٧ ـ العلامة الاديب الميرزا شهاب الدين النراقي.

٨ ـ الميرزا أبو القاسم بن الحاج الملا محمد بن الفقيه المولی أحمد النراقي.

٩ ـ وهناک عشرات من أصحاب السماحة والفضيلة الذين درسو عنده ورووا عنه مع الواسطة ولکن نعرض عن ذکرهم بغية الاختصار ومخافة الاطالة.

٩. أولاده :

أعقب شيخنا المترجم له من الأولاد الذکور خمسة، وهم :

١ ـ الشيخ آقا حسين المتوفی سنة ١٣٧٨هـ.

٢ ـ العلامة الفاضل الشيخ مهدي.

١١

٣ ـ العالم الفاضل أحمد الشريف.

٤ ـ الشيخ محمد الشريف، وهذا الشيخ سعی لاحياء آثار والده.

٥ ـ علی الشريف تزيل طهران المعروف باية الله زاده کاشانی.

١٠. شعره :

کان ممن وهبت له قريحة الشعر والنظم، وکانت قريحته نقادة في إنشاد الشعر باللغتين العربية والفارسية، وکان شعره يعتبر من المتوسط، وله ديوان شعر مطبوع أسماه (تشويقات السالکين) أکثرها في المعارف والحکم والامثال والمواعظ ومناقب ومراثی العترة الطاهرة عليهم السّلام.

ومن شعره في الامام المهدي (عج) في قصيدة طولية منها، قال :

يا سليل المصطفی يابن الحسن

يادليل الخلق يا خير البشر

أنت باب الله يوتی منه فی

عصرنا أنت الامام المنتظر

أنت نور العالمين في الدجی

انت شمس في سحاب مکفهر

أنتم ذخری وذخری حبّکم

حبّکم زادي ونعم المتجر

وبکم أرجو الفلاح والهدي

وشفيعی أنت فيما قد صدر

يا ولی العصر يا قطب الوری

خذ بايدينا بيوم لا مفر

قم بامر الله حتی لا يری

غير حکم الله والاثنی عشر

وقريضي لا يليق مدحهم

فليکن هذا مديحا مختصر

ومن شعره في مدح طلب العلم وآدابه في قصيدة طويلة اولها :

يا طالب العلم کم تسعی بلا عمل

وغاية العلم ترک الحرص والامل

إن کنت طالب علم فاهجر الامل

لا يجمع العلم والآمال في رحل

وطالب العلم مجزی بنيته

فاصف قلبک في النيات والعمل

١٢

لا تطلب العلم للدنيا فقد خسروا

طلاب علم لاجل المال والخول

وطالب العلم منهوم بلا شبع

فلا تراه علی الاحوال في عطل

وفکر طالب علم عند معضلة

فی طول ليلة أحلی من العسل

وطالب المال يسعی في معيشه

وطالب العلم مرزوق بلا ملل

الی آخر القصيدة وهی طويلة نکتفی بهذا المقدار منها.

١١. مؤلفاته وآثاره العلمية :

إنَّ شيخنا المترجم له من الافذاذ الذين وفقهم الله سبحانه بکثرة التاليف والتصنيف فاکثر وأجاد فيها، وکانت مؤلفاته في مختلف العلوم وشتی الفنون. وقال هو عند ترجمته لنفسه : (فنلرجع إلى ذکر مؤلفاتی ومصنفاتی مما کان قبل بلوغی إلى هذه السنة مع قلة الاسباب والابتلاء بالاقشاب واختلال البال وکثرة الديون والعيال وعروض الامراض والاعراض من حوادث الدهر الخوان من فقد الخلان وموت الولدان وغير ذلك مما يقصر عنه نطاق البيان، فنقول:- ومن الله التوفيق والتسديد- ترتقي هی إلى مائة وثلاثين بل تزيد(١) .

١ ـ مصابيح الظلام.

٢ ـ مصابيح الدجی.

٣ ـ التذکرة.

٤ ـ حديقة الجمل.

٥ ـ حقائق النحو.

٦ ـ المنظومة في الاصول ألّفها قبل البلوغ، تزيد علی ألف ومائتين من الابيات.

٧ ـ منظومة في افعال الصلاة موسومة بزبدة المقال في نظام الافعال.

٨ ـ لباب الفکر في علم المنطق.

٩ ـ لبُّ النظر في المنطق.

١٠ ـ هداية الضبط في علم الخط.

__________________

١ ـ سوف نذکر العربية منها فقط.

١٣

١١ ـ نخبة التبيان في علم البيان.

١٢ ـ بوارق الدهر في تفسير سورة الدهر.

١٣ ـ کشف السحاب في شرح الخطبة الشقشقية.

١٤ ـ مصاعد الصلاح في شرح دعاء الصباح.

١٥ ـ جذبة الحقيقة في شرح دعاء کميل.

١٦ ـ شرح علی مناجاة الخمسة عشر.

١٧ ـ رسالة في الرد علی البابية وذکر کلماتهم الواهية.

١٨ ـ حکم المواعظ.

١٩ ـ الدر المکنون في شرح ديوان المجنون.

٢٠ ـ صراط الرشاد في الاخلاق.

٢١ ـ رسالة في معنی الصلاة علی محمد وآل محمّد وآله صلّی الله عليه وآله.

٢٢ ـ منتقد المنافع في شرح المختصر النافع.

٢٣ ـ وسيلة المعاد في فضائل محمد وآل محمّد وآله صلّی الله عليه وآله.

٢٤ ـ شرح دعاء صنمی قريش.

٢٥ ـ شرح زيارة وارث.

٢٦ ـ شرح قصيدة الفرزدق.

٢٧ ـ شرح دعاء العديلة.

٢٨ ـ شرح زيارة عاشوراء وهو هذا الکتاب الذی بين يديك.

٢٩ ـ خواص الاسماء.

٣٠ ـ کتاب لباب الالقاب في القاب الاطياب.

١٤

من آثار وبرکات زيارة عاشوراء

(٣)

١. زيارة عاشوراء ورضوان الله تعالی :

کتب الولد الكبير لاية الله الاميني الدكتور محمد هادي الاميني : بعد أربعة سنين من وفاة والدي المرحوم العلّامة الأميني رأيته في إحدي ليالي الجمعة وقبل أذان الفجر سنة ١٣٩٤ هـ في عالم الرؤيا فرحا وعلى هيية حسنة فتقدّمت نحوه، وسلّمت عليه. وسئلته أي الأعمال أوصلتك الى هذه السعادة؟ قال : ماذا تقول أنت؟ وعرضت عليه السوال مرة أخرى هكذا : سيدي في هذا المكان الذي تقيم فيه الان، أي الأعمال أوصلتك اليه : كتاب (الغدير) أو بقية التأليفات. أو تأسيس مكتبة أمير المومنين؟ قال : وضح أكثر لا أعرف المقصود من سوالك هذا، قلت : أنت بعيد الان عنا، وذهبت الى العالم الاخر، فبأي الاعمال العلميّة والخدمات الدينيّة والمذهبية وصلت الى ما أرى؟ فمكث المرحوم الاميني قليلا، ثم قال : فقط عن طريق زيارة أبي عبد الله الحسين عليه السّلام، ثمّ سألته : أنت تعرف في الوقت الحاضر أن الروابط السياسية بين ايران والعراق غير عادية والذهاب الى كربلاء غير ممكن.

قال : قوموا واشترکوا في مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السّلام فلها ثواب زيارة مرقد أبي الأحرار الحسين عليه السّلام، ثم قال لي : يا ولدي أوصيتك في السابق کثيرا بقراءة زيارة العاشوراء، والآن اُکرر عليك وأقول : إستمر بقراءتها ولا تترکها لأي سبب کان، اقرأها دائما وکأنها جزء من واجباتک اليومية، فإنَّ لهذه الزيارة فوائد

١٥

وبرکات کثيرة، وهي طريق نجاتك في الدنيا والآخرة، أسألکم الدعاء(١) .

٢. زيارة عاشوراء وقضاء الدين :

ذکر العالم الجليل آية الله القوچانی النجفي في مدکراته ضمن خاطراته في المدة التي قضاها في اصفهان، والتي استمرت أربع سنوات من سنة ١٣١٤هـ إلى ١٣١٨هـ. کتبت إلى أبي ليرسل رسالة يشرح لي فيها حالته، لأني قلق عليه، فما أن أرسلت الرسالة، وإذا براسلة من أبي وصلتنی يقول فيها بان زوجته قد توفيت.

وکتبت أيضا : انه قبل عشر السنوات من هذه اقترض مبلغ اثنی عشر تومان لتسديد نفقات سفره لزيارة العتبات المقدسة ولکن بسبب (الربا) وصل القرض إلى ثمانين تومان وکل ماکان يملک أبي لم يصل إلى هذا المقدار، فصممت ان اقرا زيارة عاشوراء ولمدة اربعين يوما، وعلی سطح مسجدالسلطان الصفوی، وطلبت ثلاث حاجات :

الاولی : أداء قرض والدي.

الثانية : طلب المغفرة.

الثالثة : الزيادة في العلم والاجتهاد.

کنت أبدا بالقراءة قبل الظهر واتمها قبل ان يزول الظهر وتستغرق قرائتها مدة ساعتين، فلما تمت الاربعين يوما، وبعد الشهر تقريبا کتب لی الوالد : بان الامام موسی بن جعفر عليهم السّلام أدي قرضي، فکتبت له : لا، الامام الحسين عليهم السّلام أداه، وکلّهم نور واحد(٢) .

__________________

١ ـ زيارة عاشوراء وآثارها العجيبة ص ٤٥.

٢ ـ السياحة الشرقية ص ٢٠٤.

١٦

٣. زيارة عاشوراء ورفع مرض الوباء :

قال المرحوم آية الله الشيخ عبد الکريم الحائری : عند ما کنت مشغولا بدراسة العلوم الدينية في سامراء أصيب أهل تلک المدينة بمرض الوباء وکان في کل يوم يموت عدد کثير منهم. ذات يوم عندما کنت في بيت أستادي المرحوم السيد (محمد الفشارکی) وکان هناک عدد من أهل العلم جاء فجاة المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازی وبدا بالکلام عن الوباء والطاعون، وأن کل الناس معرضون لخطر الموت.

فقال آية الله الفشارکی: إذا أصدرت حکما هل ينفذ؟ ثم قال : هل تعتقدون بأنی مجتهد جامع للشرائط؟

فقال الجالسون : نعم، فقال : إنّی آمر شيعة سامراء أن يلتمزوا بقراءة زيارة عاشوراء لمدة عشرة أيام ويهدون ثوابها إلى روح نرجس خاتون، والدة الامام الحجة ابن الامام الحسن العسکری (عج) ويجعلونها شافعة لنا لدي ولدها لأن يشفع لامتة عند ربه وانی أضمن لکل من يلتزم بقراءة هذه الزيارة أن لايصاب بالوباء.

قال : ما إن صدر هذا الحکم أجمع الشيعة المقيمون في السامراء علی إطاعة الحکم وقراءة الزيارة، وبعد القراءة الزيارة فعلا توقفت الإصابة، بينما کان کل يوم يموت عدد کثير من أبناء العامة ومن شدة خجلهم يدفنون موتاهم بالليل(١) .

وقد سأل بعض العامة عن سبب توقف الوباء فيهم، فقالوا لهم : قرأنا زيارة عاشوراء، فاشتغلوا بقراءة هذه الزيارة المبارکة ورفع عنهم البلاء(٢) .

__________________

١ ـ القصص العجيبة، ص ٤٩٦ للسيد عبد الحسين دستغيب.

٢ ـ نفس المصدر.

١٧

٤. زيارة عاشوراء وزيادة الرزق :

قال الشيخ عبد الجواد الحائری المازندرانی : جاء شخص إلى حضرة شيخ الطائفة : الشيخ زين العابدين المازندرانی يشکو اليه ضيق المعاش، فقال له الشيخ : اذهب إلى ضريح الامام الحسين عليه السلام واقرا زيارة عاشوراء فسياتيک رزقک، واذا لم ياتک ارجع إلى فساطيک ما تحتاج اليه، وبعد فترة من الزمان التقيت به فسالته عن حاله، فقال : عندما کنت مشغول بقراءة الزيارة في حرم الامام أبي الأحرار عليه السّلام جائني رجل وأعطانی مبلغا من المال ففتحت أمامی أبواب الرزق(١) .

٥. زيارة عاشوراء وتسهيل أمر الزواج :

قال أحد الخطباء والوعاظ : جائنی قبل عدة سنين صديق شاب ومؤمن، وطرح لی حاجة مستعصية، وقال : نويت الزواج منذ فترة، ولکنی في کل مرة اتقدم فيها اواجه بعض المشاکل والمصاعب، فقلت له : لعلک تقدمت إلى افراد ليسوا من مقامك وشانك؟

قال : ليس کذالك، واذا لم تصدقنی، تقدم لی أنت إلى عائلة في طبقتی وشانی واخطب لی.

فذهبت إلى أحد أصدقائی الذی کنت مطمئنا منه بأنه يجيبنی وطلبت منه ابنته لهذا الشاب المؤمن في البداية فوافق، وبعد فترة قال : أستخير الله، ومع الاسف أجاب الرد.

هذه القصة آلمتنی کثيرا، وقال لی صديقي : رأيت الحق معی.

__________________

١ ـ تذکرة الزائرين.

١٨

قلت له : لا تؤذ نفسك، ولقضاء مشکلتك اقرأ ـ بعد أداء فريضة صلاة الصبح وتعقيباتها ـ زيارة عاشوراء مع اللعن مائة مرة والسّلام مائة مرة.

فبدأ بقراءة الزيارة، وفي يوم السابع والعشرين جائنی فرحا، وقالت : تقدمت إلى إحدي العوائل، فوافقوا وانا وهم في غاية الرضا، واليوم بعد العصر تقام مراسيم الخطبة، وارجو ان تکون من الشاهدين لها، فقلت له حينئذ : لا تنسي الثلاثة عشر يوما الباقية، وأنت بدأت حياتک الزوجية ببرکة زيارة عاشوراء، وفی أیّ وقت واجهت مشکلة في حياتك توسّل بها لقضائها، فإنها تقضی إن شاء الله(١) .

تم الفراغ من کتابة هذه المقدمة يوم الجمعة ١٦ ذی الحجة ١٤٢٢هـ

قم المقدسة

نزار نعمة الحسن

__________________

١ ـ زيارة عاشوراء وآثارها العجيبة ص ٥٠.

١٩

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ٩ : ٥ .

واستندوا في ذلك إلى ما رَواه عليل بن أحمد ، عن محمّد بن هشام ، عن عاصم بن سليمان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عبّاس(١) ، ولكن هذه الرواية ضعيفة جدّاً ، ولا أقلّ مِن أنّ في سنَدِها عاصم بن سليمان وهو كذّابٌ وضّاع(٢) ، مع أنّ الرواية ضعيفة المَتْن ، فإنّ المسلمين - قبل الهجرة - كانوا ضُعفاء ، ولم يكن عُمَر مقداماً في الحروب ، ولم يُعَدْ مِن الشُجعان المرهوبين ، فكيف يسَعه أنْ يبطُشَ بالمُشرِك ؟ ! على أنّ لفظ الغُفران المذكور في الآية يدلّ على التمكّن مِن الانتقام ومِن المقطوع به أنّ ذلك لم يكن ميسوراً لعُمَر قبل الهجرة ، فلو أراد البطْشَ بالمُشرِك لبَطشَ به المُشرِك لا محالة .

والحقّ : أنّ الآية المبارَكة مُحكَمة غير منسوخة ، وأنّ معنى الآية : أنّ الله أمَر المؤمنين بالعفْوِ والإغضاء عمّا ينالهم مِن الإيذاء والإهانة ، في شؤونهم الخاصّة ممّن لا يرجون أيّام الله ، ويدلّ عليه قوله تعالى بعد ذلك :

( لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٤٥ : ١٤. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ٤٥ : ١٥ .

فإنّ الظاهر منه أنّ جزاء المُسيء الذي لا يرجو أيّام الله ، ولا يخاف المَعاد،

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ٢١٨ .

(٢) قال ابن عدي : ( يُعَدّ ممّن يضع الحديث ) ، وقال أيضاً : ( عامّة أحاديثه مناكير مَتْناً وإسناداً ، والضَعف على رواياته بيِّن ) وقال الفلاس : ( كان يضع الحديث ، ما رأيت مثله قَطّ ) وقال أبو حاتم والنسائي : ( متروك ) .

وقال الدارقطني : ( كذّاب ) ، وقال أيضاً في العِلل : ( كان ضعيفاً ، آية مِن الآيات في ذلك ) وقال ابن حبان : ( لا يجوز كَتْب حديثه إلاّ تعجّباً ) وقال أبو داود الطيالسي : ( كذّاب ) وقال الساجي : ( متروك يضع الحديث ) وقال الأزدي : ( ضعيف مجهول ) ، لسان الميزان ج ٣ ص ٢١٨ ، ٢١٩

٣٦١

سواء أكان مِن المشركين ، أمْ مِن الكتابيّين ، أمْ مِن المسلمين الذين لا يُبالون بدِينهم ، إنّما هو مَوكول إلى الله الذي لا يفوته ظُلم الظالمين وتفريط المفرِّطين .

فلا ينبغي للمسلم المؤمن بالله أنْ يُبادر إلى الانتقام منه ، فإنّ الله أعظم منه نقمةً وأشدّ أخذاً ، وهذا الحُكم تهذيبي أخلاقي ، وهو لا يُنافي الأمْر بالقتال للدعوة إلى الإسلام أو لأمرٍ آخَر ، سواء أكان نزول هذه الآية قبل نزول آية السيف ، أمْ كان بعده .

* * *

٣٢ -( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) ٤٧ : ٤ .

فذهبتْ جماعة إلى أنّ هذه الآية منسوخة بآية السيف ، وذهب آخَرون إلى أنّها ناسِخة لها(١) .

والحقّ : أنّها ليست ناسخة ولا منسوخة ، وتحقيق ذلك يحتاج إلى مزيد مِن البَسْط في الكلام .

أحكام الكافر المقاتل :

المعروف بين الشيعة الإمامية : أنّ الكافر المقاتل يجب قتْله ما لم يُسلِم ، ولا يسقط قتْلَه بالأسْر قبل أنْ يُثخن المسلمون الكافرين ، ويعجَز الكافرون عن القتال لكَثرة القتْل فيهم ، وإذا أسْلَم ارتفع موضوع القتْل ، وهو الكافر ، وأمّا الأسْر بعد الإثخان فيَسقط فيه القتْل ، فإنّ الآية قد جعَلتْ الإثخان غايةً لوجوب ضَرْب الرقاب .

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ٢٢٠

٣٦٢

ومِن الواضح : أنّ الحُكم يسقط عند حصول غايته ، ويتخيّر وليُّ الأمْر في تلك الحال بين استرقاق الأسير ، وبين مفاداته ، والمَنّ عليه مِن غير فِداء ، مِن غير فَرْقٍ في ذلك بين المُشرِك وغيره مِن فِرَق الكفّار ، وقد ادُّعيَ الإجماع على ما ذكرناه مِن الأحكام ، والمخالِف فيها شاذٌّ لا يُعبأ بخِلافه ، ( وسيظهر ذلك فيما بعد إنْ شاء الله تعالى ) .

وهذا الذي ذكروه يوافق ظاهر الآية الكريمة مِن جميع الجهات ، إذا كان شدّ الوَثاق هو الاسترقاق ، باعتبار أنّ معنى شدّ الوَثاق : هو عَزْله عن الاستقلال ، ما لم يُمَنّ عليه أو يُفاد ، وأمّا إذا لم يكن شدّ الوَثاق بمعنى الاسترقاق ، فلا بدّ مِن إضافة الاسترقاق إلى المُفاداة والمَنّ ؛ للعِلم بجوازه مِن أدلّةٍ أخرى ، فيكون ذلك تقييداً لإطلاق الآية بالدليل .

وقد ورَدتْ الأحكام المذكورة فيما رَواه الكُليني ، والشيخ الطوسي بإسنادهم عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :

( سمعتُه يقول كان أبي يقول : إنّ للحرب حُكمَين : إذا كانت الحرب قائمةً لم تضع أوزارها ، ولم يُثخن أهلها ، فكلّ أسير أُخِذ في تلك الحال ، فإنّ الإمام فيه بالخيار إنْ شاء ضرَب عُنقَه ، وإنْ شاء قطَع يده ورِجْله مِن خلاف بغير حسْم ، وترَكه يتشحّط في دمِه حتّى يموت ، وهو قول الله تعالى :

( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ٥ : ٣٣ .

ألا ترى أنّه التخيير الذي خيّر الله الإمام على شيء واحد وهو الكُفر ، وليس

٣٦٣

هو على أشياء مختلفة ، فقلت لجعفر بن محمّد ( عليه السلام ) قول الله تعالى : ( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ) ، قال ذلك الطَلب أنْ يطلبَه الخَيْل حتّى يهرب ، فإنْ أخذَتْه الخَيل حُكِم ببعض الأحكام التي وضعت ذلك ، والحُكم الآخَر إذا وضعَت الحرب أوزارها وأُثخن أهلُها ، فكلّ أسير أُخِذ على تلك الحال ، وكان في أيديهم ، فالإمام فيه بالخيار ، إنْ شاء الله مَنَّ عليهم فأرسَلَهم ، وإنْ شاء فاداهم أنفسهم ، وإنْ شاء استعبدهم فصاروا عبيداً )(١) .

ووافقت على سقوط القتْل عن الأسير بعد الإثخان : الضحاك وعطاء ، وصرّح الحسَن بذلك ، وأنّ الإمام بالخيار إمّا أنْ يمُنّ أو يُفادي أو يَسترِقّ(٢) .

وعلى ما ذكرناه فلا نسْخ في الآية الكريمة ، غاية الأمر أنّ القتْل يختصّ بمَورد ، ويختصّ عدم القتْل بمَورد آخَر ، مِن غير فَرْق بين أنْ تكون آية السيف متقدّمة في النزول على هذه الآية ، وبين أنْ تكون متأخِّرة عنها .

ومِن الغريب : أنّ الشيخ الطوسيّ - في هذا المقام - نسَب إلى أصحابنا : أنّهم روَوا تخيير الإمام في الأسير بعد الإثخان بين القتْل ، وبين ما ذُكر مِن الأمور .

قال : ( والذي رَواه أصحابنا أنّ الأسير إنْ أُخذ قبل انقضاء الحرب والقتال - بأن تكون الحرب قائمة ، والقتال باقٍ - فالإمام مخيّر بين أنْ يقتلَهم ، أو يقطع أيديَهم وأرجلَهم مِن خلاف ويتركهم حتّى ينزِفوا ، وليس له المَنّ ولا الفداء ، وإنْ كان أُخذ بعد وضع الحرب أوزارها ، وانقضاء الحرب والقتال كان - الإمام - مخيّراً بين المَنّ والمُفاداة إمّا بالمال أو النفْس ، وبين الاسترقاق - وضَرْب الرقاب - ) وتبِعَه على ذلك الطبرسي في تفسيره(٣) ، مع أنّه لم ترِد في ذلك رواية أصلاً .

_______________________

(١) الوافي ج ٩ ص ٢٣ .

(٢) القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، ونقَله النحّاس في الناسخ والمنسوخ عن عطاء ص ٢٢١ .

(٣) تفسير التبيان ج ٩ ص ٢٩١ ط النجف

٣٦٤

وقد نصّ الشيخ الطوسي بنفسه في كتاب المبسوط(١) : ( كلّ أسير يؤخذ بعد أنْ تضع الحرب أوزارها ، فإنّه يكون الإمام مخيّراً فيه بين أنْ يمُنّ عليه فيُطلِقُه ، وبين أنْ يسترقّه وبين أنْ يُفاديه ، وليس له قتْله على ما رَواه أصحابنا ) ، وقد ادّعى الإجماع والأخبار على ذلك : في المسألة السابعة عشرة مِن كتاب الفيء ، وقِسْمة الغنائم مِن كتاب الخِلاف

ومِن الذين ادّعوا الإجماع على ذلك صريحاً العلاّمة في كتابَي ( المنتهى والتذكرة ) في أحكام الأُسارى مِن كتاب الجهاد

وفي ظنّي : أنّ كلمة ( ضَرْب الرقاب ) في عبارة ( التبيان ) إنّما كانت مِن سَهْو القلم ، وقد جرى عليه الطبرسي مِن غير مراجعة .

هذا هو مذهب علماء الشيعة الإمامية ، والضحاك ، وعطاء ، والحسَن .

آراء أخرى حَول الآية :

وأمّا بقيّة علماء أهل السُنّة ، فقد ذهبوا إلى أقوال :

١ - منهم مَن قال : ( إنّ الآية نزلتْ في المشركين ، ثمّ نُسِخت بآيات السيف ) ، نُسِب ذلك إلى قتادة ، والضحاك ، والسدي، وابن جريح ، وابن عبّاس ، وإلى كثير مِن الكوفيّين ، فقالوا : ( إنّ الأسير المُشرِك يجب قتْلُه ، ولا تجوز مُفاداته ، ولا المَنّ عليه بإطلاقه )(٢) .

ويرُدُّه :

أنّه لا وجْه للنسْخ على هذا القول ، فإنّ نِسبة هذه الآية إلى آيات السيف نِسبةَ المقيّد إلى المُطلَق ، سواء أكانت متقدّمة عليها في النزول أمْ كانت متأخّرة

_______________________

(١) المبسوط كتاب الجهاد ، فصل في أصناف الكفّار وكيفية قتالهم .

(٢) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٧

٣٦٥

عنها وقد أوضحنا - فيما سبَق - أنّ العامّ المتأخّر لا يكون ناسخاً للخاصّ المتقدّم ، فكيف بالمُطلَق إذا سبَقه المقيّد(١) ؟ .

٢ - ومنهم مَن قال : ( إنّ الآية نزلت في الكفّار جميعاً ، فنُسِخت في خصوص المشرِك ) ، نُسِب ذلك إلى : قتادة ، ومجاهد، والحَكم ، وهو المشهور مِن مذهب أبي حنيفة(٢) .

ويرُدّه :

أنّ هذا القول واضح البطلان كالقول السابق ، فإنّ ذلك موقوفٌ على أنْ تكون آيات السيف متأخّرة في النزول عن هذه الآية، ولا يمكن للقائل بالنسْخ إثبات ذلك ، ولا سَنَد له غير التمسّك بخبر الواحد ، وقد أوضحنا أنّ خبر الواحد لا يثبُت به النسْخ إجماعاً .

ولو فرضنا ثبوت ذلك ، فلا دليل على كَون آيات السيف ناسخة لها ؛ ليصحّ القول المذكور ، بل تكون هذه الآية مقيِّدة لآيات السيف ؛ وذلك : لإجماع الأمّة على أنّ هذه الآية قد شمَلت المشركين أو أنّها مختصّة بهم ، وعلى ذلك كانت الآية المبارَكة قرينة على تقييد آيات السيف ؛ لِما أشرنا إليه آنفاً مِن أنّ المُطلق لا يصلُح أنْ يكون ناسخاً للمقيّد .

وإذا أغمَضنا عن ذلك كانت هذه الآية الكريمة معارِضة لآيات السيف بالعموم مِن وجْه ، ومورد الاجتماع هو المشرِك الأسير بعد الإثخان ، ولا مجال للالتزام بالنسْخ فيه .

٣ - ومنهم مَن قال : ( إنّ الآية ناسِخة لآية السيف ) ، نُسِب ذلك إلى الضحاك وغيره(٣) .

ويرُدّه :

_______________________

(١) قد فصّلنا الكلام في ذلك في بحث العموم والخصوص مِن كتابنا ( أجوَد التقريرات ) .

(٢) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٧ .

(٣) نفس المصدر

(البيان - ٢٤)

٣٦٦

أنّ هذا القول ، يتوقّف على إثبات تأخّر هذه الآية في النزول عن آيات السيف ، ولا يمكن هذا القائل إثبات ذلك ، على أنّا قد أوضحنا - فيما تقدّم - أنّه لا موجِب للالتزام بالنسْخ ، تأخّرت الآية في النزول عن آيات السيف ، أمْ تقدّمت عليها .

٤ - ومنهم مَن قال : ( إنّ الإمام مخيّر في كلّ حال بين القتْل والاسترقاق والمُفاداة والمَنّ ) ، رَواه أبو طلحة عن ابن عبّاس ، واختاره كثير : منهم ابن عمَر ، والحسَن ، وعطاء ، وهو مذهب مالِك ، والشافعيّ ، والثوريّ ، والأوزاعي ، وأبي عبيد ، وغيرهم .

وعلى هذا القول فلا نسْخ في الآية(١) ، قال النحّاس بعدما ذَكر هذا القول : ( وهذا على أنّ الآيتَين مُحكَمَتان معمولٌ بهما ، وهو قولٌ حسَن ؛ لأنّ النسْخ إنّما يكون بشيء قاطِع ، فأمّا إذا أمكَن العمل بالآيتين ، فلا معنى في القول بالنسْخ . وهذا القول يُروى عن أهل المدينة ، والشافعيّ ، وأبي عبيد )(٢) .

ويرُدّه :

أنّ هذا القول وإنْ لم يستلزم نسْخاً في الآية ، إلاّ أنّه باطل أيضاً ؛ لأنّ الآية الكريمة صريحة في أنّ المَنّ والفِداء إنّما هما بعد الإثخان ، فالقول بثبوتهم - قبل ذلك - قولٌ بخِلاف القرآن ، والأمْر بالقتْل في الآية مغيّىً بالإثخان ، فالقول بثبوت القتْل بعده قول بخلاف القرآن أيضاً ، وقد سمعت أنّ آيات السيف مقيَّدة بهذه الآية .

وأمّا ما استُدِلّ به على هذا القول ، مِن أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قتََل بعض الأُسارى وفادى بعضاً ، ومَنّ على آخَرين ، فهذه الرواية - على فرْض صحّتها - لا دلالة لها على التخيير بين القتْل وغيره ؛ لجواز أنْ يكون قتْله للأسير قبل الإثخان ،

_______________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٨ .

(٢) الناسخ والمنسوخ ص ٢٢١

٣٦٧

وفداؤه ومَنّه في الأُسَراء بعده ، وأمّا ما رُويَ مِن فِعل أبي بكر وعُمَر فهو - على تقدير ثبوته - لا حُجّية فيه ؛ لتُرفَع اليد به عن ظاهر الكتاب العزيز .

* * *

٣٣ -( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ٥١ : ١٩ .

* * *

٣٤ -( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ٧٠ : ٢٤. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ٧٠ : ٢٥) .

فقد وقَع الاختلاف في نسْخ الآيتَين وإحْكامهما ووجْه الاختلاف في ذلك : أنّ الحقّ المعلوم الذي أمَرتْ الآيتان به قد يكون هو الزكاة المفروضة ، وقد يكون فرْضاً مالياً آخَر غيرها ، وقد يكون حقّاً غير الزكاة ، ولكنّه مندوبٌ وليس بمفروض فإنْ كان الحقّ واجباً مالياً غير الزكاة ، فالآيتان الكريمتان منسوختان لا محالة ، مِن حيث إنّ الزكاة نسَخَت كلَّ صدَقةٍ واجبةٍ في القرآن ، وقد اختار هذا الوجْه جماعة مِن العلماء وإنْ كان الحقّ المعلوم هو الزكاة نفسها ، أو كان حقّاً مستحبّاً غير مفروض، فالآيتان مُحكَمتان بلا رَيب .

والتحقيق : يقتضي اختيار الوجْه الأخير ، وأنّ الحقّ المعلوم شيءٌ غير الزكاة ، وهو أمْرٌ قد ندَب إليه الشَرع فقد استفاضت النصوص مِن الطريقَين بأنّ الصدَقة الواجبة منحصرة بالزكاة ، وقد ورَد عن أهل البيت ( عليهم السلام ) بيان المراد مِن هذا الحقّ المعلوم .

روى الشيخ الكُليني بإسناده عن أبي بصير قال :

( كنّا عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) ومعَنا بعض أصحاب الأموال ، فذكروا الزكاة ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إنّ الزكاة ليس يُحمَدُ بها صاحبها ، وإنّما هو شيءٌ ظاهر ،

٣٦٨

إنّما حُقِن بها دَمُه وسُمِّيَ بها مسلماً ، ولو لم يؤدِّها لم تُقبل صلاته ، وإنّ عليكم في أموالكم غير الزكاة فقلت : أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة ؟ فقال : سبحان الله ! أما تسمع الله يقول في كتابه : والذين في أموالهم . ؟ قال : قلت : فماذا الحقّ المعلوم الذي علينا ؟ قال : هو والله الشيء يعْلَمه الرجُل في مالِه يُعطيه في اليوم ، أو في الجُمُعة ، أو الشهر قلّ أو كَثُر غير أنّه يدوم عليه ) .

وروى أيضاً بإسناده عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قول الله تعالى :

( والذين في أموالهم . أهو سوى الزكاة ؟ فقال : هو الرجُل يؤتيه الله الثَروة مِن المال ، فيُخرِج منه الألف ، والألفين ، والثلاثة آلاف ، والأقل والأكثر فيصِل به رحِمَه ، ويحْتمِل به الكَلَّ عن قومِه ) وغير ذلك مِن الروايات عن الصادقَين ( عليهما السلام )(١) .

وروى البيهقي في شُعَب الإيمان ، بإسناده عن غزوان بن أبي حاتم قال :

( بَينا أبو ذرّ عند باب عثمان لم يؤذَن له إذ مرَّ به رجُل مِن قريش ، فقال : يا أبا ذرّ ما يُجلسك هاهنا ؟ فقال : يأبى هؤلاء أنْ يأذنوا لي ، فدخل الرجُل ، فقال : يا أمير المؤمنين ما بالُ أبي ذرّ على الباب لا يؤذَن له ؟ فأمَر ، فأُذِن له ، فجاء حتّى جلس ناحية القوم . فقال عثمان لكَعْب : يا أبا إسحاق أرأيت المال إذا أُدِّيَ زكاتُه هل يخشى على صاحبه فيه تَبِعة ؟ قال : لا ، فقام أبو ذرّ ومعه عصا فضرَب بها بين أُذُنَي كعْب ، ثمّ قال : يا ابن اليهوديّة ، أنت تزعُم أنّه ليس حقٌّ في مالِه إذا أدّى الزكاة .

والله تعالى يقول :

( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) ٥٩ : ٩ .

_______________________

(١) الوافي باب الحقّ المعلوم وما قبله ج ٦ ص ٥٢

٣٦٩

والله تعالى يقول :

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) ٧٦ : ٨ .

والله تعالى يقول :

( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ٧ : ٧٤. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ : ٧٥) .

فجَعل يذكُر نحْو هذا مِن القرآن . )(١) .

وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عبّاس :

( أنّ الحقّ المعلوم سوى الصدَقة يصِل بها رحِماً ، أو يُقري بها ضيفاً ، أو يحْمِل بها كَلاًّ ، أو يُعين بها محروماً )(٢) .

وتبِع ابن عبّاس على ذلك جُملة مِن المفسّرين ، وعلى هذا ، فلا نسْخ في الآية المبارَكة .

* * *

٣٥ -( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ٥٨ : ١٢ .

_______________________

(١) كنز العمّال ج ٣ ص ٣١٠ .

(٢) تفسير القرطبي ج ٢٩ ص ٥٠

٣٧٠

فقد ذهب أكثر العلماء إلى نسْخها بقوله تعالى :

( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ٥٨ : ١٣ .

فقد استفاضت الروايات مِن الطريقَين : أنّ الآية المبارَكة لمّا نزلتْ لم يعمل بها غيرُ عليٍّ ( عليه السلام ) ، فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم ، فكان كلّما ناجى الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قدّم درهماً حتّى ناجاه عَشر مرّات .

أحاديث العمَل بآية النجوى :

روى ابن بابويه بإسناده عن مكحول قال :

( قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) : لقد عَلِم المستحفظون مِن أصحاب النبيّ محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، أنّه ليس فيهم رجُل له منْقَبة إلاّ قد شرَكتُه فيها وفضُلتُه ، ولي سبعون منْقَبة لم يشرِكني أحدٌ منهم ، قلت : يا أمير المؤمنين فأخبرني بهِنّ ، فقال ( عليه السلام ) : وإنّ أوّل منْقَبة - وذَكَر السبعين - وقال في ذلك : وأمّا الرابعة والعشرين : فإنّ الله عزّ وجلّ أنزَل على رسوله : إذا ناجيتُم ، فكان لي دينار فبِعتُه بعَشرة دراهم ، فكنتُ إذا ناجَيتُ رسول الله أتصدّق قبل ذلك بدرهم ، والله ما فعَل هذا أحدٌ غيري مِن أصحابه قبْلي ، ولا بعدي ، فأنزل الله عزّ وجلّ : أأشفقتُم . )(١) .

وروى ابن جرير بإسناده عن مجاهد قال :

( قال عليٌّ رضي الله عنه : آيةٌ مِن كتاب الله لم يعمَل بها أحدٌ قبلي ولا يعمل

_______________________

(١) تفسير البرهان ج ٢ ص ١٠٩٩

٣٧١

بها أحدٌ بعدي ، كان عندي دينار فصرّفتُه بعَشرة دراهم ، فكنتُ إذا جئتُ إلى النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) تصدّقتُ بدرهم ، فنُسِخت ، فلم يعمل بها أحدٌ قبلي : إذا ناجَيتُم )(١) .

قال الشوكاني : وأخرج عبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه - عليّ بن أبي طالب - قال : ( ما عَمِل بها أحدٌ غيري حتّى نُسِخت ، وما كانت إلاّ ساعة يعني آية النجوى ) .

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عنه أيضاً قال :

( إنّ في كتاب الله لآية ما عَمِل بها أحدٌ قبلي ، ولا يعمَل بها أحدٌ بعدي آية النجوى : إذا ناجَيتُم . كان عندي دينار فبِعتُه بعَشرة دراهم ، فكنت كلّما ناجَيتُ رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) قدّمت بين يدَي نجوايَ درهماً ، ثمّ نُسخت فلم يعمَل بها أحدٌ ، فنزَلت : أأشفقتُم . )(٢) .

وتحقيق القول في ذلك :

أنّ الآية المبارَكة دلّت على : أنّ تقديم الصدَقة بين يدَي مناجاة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خير ، وتطهير للنفوس ، والأمْرُ به أمرٌ بما فيه مصلحة العباد ودلّت على أنّ هذا الحُكم إنّما يتوجّه على مَن يجِد ما يتصدّق به ، أمّا مَن لا يجد شيئاً ، فإنّ الله غفور رحيم .

ولا رَيب في أنّ ذلك ممّا يستقِلّ العقل بحُسْنِه ، ويحكُم الوجدان بصحّته ، فإنّ في الحُكم المذكور نفعاً للفقراء ؛ لأنّهم المستحقّون للصدقات ، وفيه تخفيف عن النبيّ

_______________________

(١) تفسير الطبري ج ٢٨ ص ١٥ .

(٢) فتْح القدير ج ٥ ص ١٨٦ والروايات في هذا المقام كثيرة ، فليراجع تفسير البرهان وتفسير الطبري وكتب الروايات وقد تعرّض لنقْل جملة منها شيخُنا المجلسي في المجلّد التاسع مِن البحار ص ١٧٠

٣٧٢

( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فإنّه يوجِب قِلّة مناجاته مِن الناس ، وإنّه لا يَقدِم على مناجاته - بعد هذا الحُكم - إلاّ مَن كان حبُّه لمناجاة الرسول أكثر مِن حبِّه للمال .

ولا رَيب أيضاً في أنّ حُسْن ذلك لا يختصّ بوقتٍ دون وقت ودلّت الآية الثانية على أنّ عامّة المسلمين - غير عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) - أعْرَضوا عن مناجاة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إشفاقاً مِن الصدَقة ، وحِرصاً على المال

سبب نسْخ صدَقة النجوى :

ولا رَيب في أنّ إعراضَهم عن المناجاة يُفوِّت عليهم كثيراً مِن المنافع والمصالح العامّة ومِن أجْل حِفظ تلك المنافع ، رفَع الله عنهم وجوب الصدَقة بين يدَي المناجاة ؛ تقديماً للمصلحة العامّة على المصلحة الخاصّة ، وعلى النفْعِ الخاصّ بالفقراء ، وأمَرهم بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطاعة الله ورسوله

وعلى ذلك فلا مناص مِن الالتزام بالنسْخ ، وأنّ الحُكم المجعول بالآية الأُولى قد نُسِخ وارتفع بالآية الثانية ويكون هذا مِن القِسم الأوّل مِن نَسْخ الكتاب - أعني ما كانت الآية الناسِخة ناظرةً إلى انتهاء أمَد الحُكم المذكور في الآية المنسوخة - ومع ذلك فنسْخ الحُكم المذكور في الآية الأُولى ، ليس مِن جهة اختصاص المصلحة التي اقتضَتْ جَعْله بزمانٍ دون زمان ، إذ قد عرفتَ أنّها عامّة لجميع أزمِنة حياة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، إلاّ أنّ حِرص الأمّة على المال ، وإشفاقها مِن تقديم الصدَقة بين يدَي المناجاة ، كان مانعاً مِن استمرار الحُكم المذكور ودَوامه ، فنُسِخ الوجوب وأُبدل الحُكم بالترخيص .

وقد يُعترَض :

أنّه كيف جعَل الله الحُكم المذكور ( وجوب التصدّق بين يدَي النجوى ) ، مع عِلمِه منذ الأزَل بوقوع المانع ! .

والجواب :

أنّ في جعْل هذا الحُكم ، ثمّ نسْخِه - كما فعلَه الله سبحانه - تنبيهاً للأمّة ،

٣٧٣

وإتماماً للحُجّة عليهم فقد ظهر لهم ولغيرهم بذلك : أنّ الصحابة كلّهم آثَروا المال على مناجاة الرسول الأكرم ، ولم يعمَل بالحُكم غير أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) وتَرْك المناجاة وإنْ لم يكن معصية لله سبحانه ؛ لأنّ المناجاة بنفسها لم تكن واجبة ، ووجوب الصدَقة كان مشروطاً بالنجوى ، فإذا لم تحصل النجوى فلا وجوب للصدَقة ، ولا معصية في ترْك المناجاة ، إلاّ أنّه يدلّ على أنّ مَن ترَك المناجاة يهتمّ بالمال أكثر مِن اهتمامه بها .

حِكْمة تشريع صدَقة النجوى :

وفي نَسْخ هذا الحُكم بعد وَضعه ظهرت حِكمة التشريع ، وانكشفتْ مِنّة الله على عباده ، وبانَ عدم اهتمام المسلمين بمناجاة النبيّ الأكرم ، وعُرِف مقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مِن بينهم وهذا الذي ذكرناه يقتضيه ظاهر الكتاب ، وتدلّ عليه أكثر الروايات .

وأمّا إذا كان الأمْر بتقديم الصدَقة بين يدَي النجوى أمراً صوريّاً امتحانياً - كأمْر إبراهيم بذبْح ولَدِه - فالآية الثانية لا تكون ناسخة للآية الأُولى نسْخاً اصطلاحياً ، بل يصدُق على رفْع ذلك الحُكم الامتحاني : النسْخ بالمعنى اللُغَوي .

ونقَل الرازي عن أبي مسلم : أنّه جزَم بكَون الأمر امتحانياً ، لتمييز مَن آمَن إيماناً حقيقيّاً عمّن بقيَ على نِفاقه ، فلا نسْخ وقال الرازي : ( وهذا الكلام حسَنٌ ما به بأس )(١) .

وقال الشيخ شرَف الدِين : ( إنّ محمّد بن العبّاس ذَكر في تفسيره سبعين حديثاً مِن طريق الخاصّة والعامّة ، تتضمّن أنّ المُناجي للرسول هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دون الناس أجمعين . ونقلتُ مِن مؤلَّف شيخنا أبي جعفر الطوسي هذا الحديث ، ذَكَره أنّه في جامع الترمذي ، وتفسير الثعلبي بإسناده عن علقمة الأنماري ، يرفعه إلى عليٍّ ( عليه السلام ) أنّه قال :

_______________________

(١) تفسير الرازي ج ٨ ص ١٦٧ طبْع المطبعة العامرة

٣٧٤

( بي خفّف الله عن هذه الأمّة ؛ لأنّ الله امتحن الصحابة ، فتقاعسوا عن مناجاة الرسول ، وكان قد احتجَب في منزله مِن مناجاة كلّ أحد ، إلاّ مَن تصدّق بصدَقة ، وكان معي دينار ، فتصدّقتُ به ، فكنتُ أنا سبب التوبة مِن الله على المسلمين حين عملتُ بالآية ، ولو لم يعمل بها أحد لنزَل العذاب ؛ لامتناع الكلّ مِن العمل بها )(١) .

أقول : إنّ هذه الرواية لا وجود لها في النُسخة المطبوعة مِن جامع الترمذي ، ولم أظفُر بشيء مِن نُسَخِه القديمة المخطوطة، ولم أظفُر أيضاً بتفسير الثعلبي الذي نقَل عنه في جملة مِن المؤلَّفات ، ولا أعلم بوجوده في مكان .

وكيف كان ، فلا رَيب في أنّ الحُكم المذكور لم يبقَ إلاّ زمَناً يسيراً ثمّ ارتفع ، ولم يعمل به أحدٌ غير أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وبذلك ظهَر فضلُه ، سواء أكان الأمر حقيقيّاً أمْ كان امتحانياً .

تعصّب مكشوف :

اعتذَر الرازي عن تَرْك شيوخ الصحابة العمل بالآية المبارَكة ، إذا كانوا قد وجدوا الوقت لذلك ولم يفعلوا ، فقال ما نصّه :

( وذلك الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق قلب الفقير ، فإنّه لا يقدِر على مثلِه فيضيق قلبُه ، ويوحِش قلب الغنيّ ، فإنّه لمّا لم يفعَل الغنيّ ذلك ، وفعَله غيرُه صار ذلك الفِعل سبباً للطَعْن في مَن لم يفعَل ، فهذا الفِعل لمّا كان سبباً لحُزن الفقراء ووَحشة الأغنياء ، لم يكن في ترْكِه كبير مضرّة ؛ لأنّ الذي يكون سبباً للأُلفة أَولى ممّا يكون سبباً للوَحشة ، وأيضاً فهذه المُناجاة ليست مِن الواجبات ، ولا مِن الطاعات المندوبة ، بل قد بيَّنا أنّهم إنّما كانوا كُلِّفوا بهذه الصدَقة ليتركوا

_______________________

(١) البحار ج ٩ ص ٧٢ ، وتفسير البرهان ج ٢ ص ١١٠٠

٣٧٥

هذه المناجاة ، ولمّا كان الأَولى بهذه المناجاة أنْ تكون متروكة ، لم يكن ترْكَها سبباً للطَعْن )(١) .

تعقيب :

أقول : هذا عُذرُه ، وأنت تجد أنّه تشكيك لا ينبغي صدوره ممّن له أدنى معرفة بمعاني الكَلِم ، هبْ أنّ في هذا المقام لم ترِد فيه رواية أصلاً ، أفلا يظهر مِن قوله تعالى : ( أأشفقتُم . ) أنّه عِتاب على ترْك المُناجاة خوفاً مِن الفَقْر ، أو حِرصاً على المال ؟ وأنّ الله تعالى قد تاب عليهم عن هذا التقصير ، إلاّ أنّ التعصّب داءٌ عُضال ، ومِن الغريب أنّه ذَكر هذا ، وقد اعترف قُبَيل ذلك بأنّ مِن فوائد هذا التكليف : أنْ يتميّز به مُحبّ الآخرة مِن مُحبّ الدنيا ، فإنّ المال مَحكّ الدواعي ! ! .

وأمّا أنّ الفِعل المذكور يكون سبباً لحُزن الفقراء ، ووَحشة الأغنياء ، فيكون ترْكُه الموجِب للأُلفة أَولى ، أمّا هذا الذي ذَكره فلو صحّ ، لكان ترْك جميع الواجبات الماليّة أَولى مِن فِعلها ، ولكان أمْرُه تعالى بالفِعل أمْراً بما يحكُم العقل بأولويّة ترْكِه ، وليس ببعيد أنْ يَلتزِم الرازي بهذا ، وبما هو أدْهى منه ؛ ليُنكِر فضيلة مِن فضائل عليٍّ ( عليه السلام )

ومِن المناسِب - هنا - أنْ أنقُل كلاماً لنظام الدِين النيسابوري ، قال ما نصّه : قال القاضي :

( هذا - تصدُّق عليٍّ بين يدَي النجوى - لا يدلّ على فضْلِه على أكابر الصحابة ؛ لأنّ الوقت لعلّه لم يتّسِع للعمل بهذا الفرْض ، وقد قال فخر الدِين الرازي : سلّمنا أنّ الوقت قد وسِع ، إلاّ أنّ الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئاً ، ويُنفِّر الرجُل الغنيّ ، ولم يكن في ترْكِه مضَرّة ؛ لأنّ

_______________________

(١) تفسير الرازي ج ٨ ص ١٦٧

٣٧٦

الذي يكون سبباً للأُلفة أَولى ممّا يكون سبباً للوَحشة ، وأيضاً الصدَقة عند المُناجاة واجبة ، أمّا المُناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة ، بل الأَولى ترْك المناجاة ، لِما بيّنا مِن أنّها كانت سبباً لسآمة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) .

قلت : هذا الكلام لا يخلو عن تعصّبٍ ما ، ومِن أين يلزَمُنا أنْ نُثبِتَ مفضوليّة عليّ - رضيَ الله عنه - في كلّ خصلة ؟ ولِمَ لا يجوز أنْ يحصل له فضيلة لم توجد لغيره مِن أكابر الصحابة ؟ ! .

فقد رُويَ عن ابن عُمَر :

كان لعليٍّ - رضي الله عنه - ثلاث لو كانت لي واحدة منهنّ ، كانت أحَبّ إليَّ مِن حُمر النِعَم : تزويجه فاطمة - رضيَ الله عنها - وإعطاؤه الراية يوم خَيبر ، وآية النجوى ، وهل يقول مُنصِف : إنّ مُناجاة النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] ) نقيصة ، على أنّه لم يرِد في الآية نهيٌ عن المُناجاة ، وإنّما ورَد تقديم الصدَقة على المُناجاة ، فمَن عَمِل بالآية حصل له الفضيلة مِن جهتَين : سدُّ خِلّة بعض الفقراء ، ومِن جهة مَحبّة نجوى الرسول ( صلّى الله عليه [وآله] ) ففيها القُرب منه ، وحَلّ المسائل العويصة ، وإظهار أنّ نَجْواه أحَبّ إلى المُناجي مِن المال )(١) .

٣٦ -( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ٥٩ :٧.

فقد نُقل عن قتادة أنّها منسوخة ، وأنّه قال : الفيء والغنيمة واحد ، وكان في بدْو الإسلام تقسيم الغنيمة على هذه الأصناف ، ولا يكون لمَن قاتَل عليها

_______________________

(١) تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ج ٢٨ ص ٢٤

٣٧٧

شيءٌ إلاّ أنْ يكون مِن هذه الأصناف ، ثمّ نسَخ الله ذلك في سورة الأنفال ، فجَعَل لهؤلاء الخُمس ، وجعَل الأربعة الأخماس لمَن حارب ، قال الله تعالى(١) :

( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) ٨ : ٤١ .

وقد رفَض المحقّقون هذا القول ، وقالوا : إنّ ما يغنَمُه المسلمون في الحرب يُغاير موضوعاً ما أفاء الله على رسوله بغير قتال ، فلا تنافي بين الآيتَين لتَنسَخ إحداهما الأخرى .

أقول : إنّ ما ذَكره المحقّقون بيِّن لا ينبغي الجِدال فيه ، ويؤكّده أنّه لم يُنقَل مِن سيرة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، أنْ يَخُصّ بالغنائم نفْسَه وقرابتَه دون المجاهدين وممّا يُبطل النسْخ ما قيل : مِن أنّ سورة الأنفال نزلتْ قبـل نـزول سورة الحَشْر(٢) ، ولا أدنى مِن الشكّ في ذلك ، وممّا لا رَيب فيه أنّ الناسِخ لا بدّ مِن تأخّره عن المنسوخ .

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ٢٣١ .

(٢) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٤

٣٧٨

٣٧٩

البَداء في التكوين

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526