البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن11%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36231 / تحميل: 8327
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

إنّما يؤثّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة المادّيّة، وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب اُخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهد به ما عقّبه تعالى من قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متّك على حقيقة تكوينيّة، وهي الّتي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يعمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة.

وقد بيّن تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، وهو في مقام التعليل فإنّ الإكراه والإجبار إنّما يركن إليه الآمر الحكيم والمربّي العاقل في الاُمور المهمّة الّتي لا سبيل إلى بيان وجه الحقّ فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لأسباب وجهات اُخرى، فيتسبّب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد ونحوه، وأمّا الاُمور المهمّة الّتي تبيّن وجه الخير والشرّ فيها، وقرّر وجه الجزاء الّذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لمّا انكشفت حقائقه واتّضح طريقه بالبيانات الإلهيّة الموضحة بالسنّة النبويّة فقد تبيّن أنّ الدين رشد والرشد في اتّباعه، والغيّ في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لأن يكره أحد أحداً على الدين.

وهذه إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالإكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدّة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف واستدلّوا عليه: بالجهاد الّذي هو أحد أركان هذا الدين.

وقد تقدّم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أنّ القتال الّذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدّم وبسط الدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأمّا بعد انبساط

٣٦١

التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوّة ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد ولا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبّر.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

ومن الشواهد على أنّ الآية غير منسوخة التعليل الّذي فيها أعني قوله: قد تبيّن الرشد من الغيّ، فإنّ الناسخ ما لم ينسخ علّة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإنّ الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أنّ تبيّن الرشد من الغيّ في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإنّ قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلاً، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثّران في ظهور حقّيّة الدين شيئاً حتّى ينسخا حكماً معلولاً لهذا الظهور.

وبعبارة اُخرى الآية تعلّل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحقّ، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كلّ حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) الخ، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحدّ ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام والشياطين والجنّ وأئمّة الضلال من الإنسان وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتّباعه، ويستوى فيه المذكّر والمؤنّث والمفرد والتثنية والجمع.

وإنّما قدّم الكفر على الإيمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الّذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأنّ الاستمساك بشئ إنّما يكون بترك كلّ شئ والأخذ بالعروة، فهناك ترك ثمّ أخذ، فقدّم الكفر وهو ترك على الإيمان وهو أخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الأخذ والإمساك بشدّة، والعروة ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الإناء، والعروة

٣٦٢

هي كلّ ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلّق يقال: عراه واعتريه أي تعلّق به.

والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أنّ الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئنّاً حتّى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقيّة لا يستقرّ أمرها ولا يرجى نيلها إلّا أن يؤمن الإنسان بالله ويكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: ( لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكّد معنى العروة الوثقى، ثمّ عقّبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الإيمان والكفر متعلّقاً بالقلب واللسان.

قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم ) إلى آخر الآية، قد مرّ شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بيّنّا هناك أنّ هذا الإخراج وما يشاكله من المعاني اُمور حقيقيّة غير مجازيّة خلافاً لما توهّمه كثير من المفسّرين وسائر الباحثين أنّها معان مجازيّة يراد بها الأعمال الظاهريّة من الحركات والسكنات البدنيّة، وما يترتّب عليها من الغايات الحسنة والسيّئة، فالنور مثلاً هو الاعتقاد الحقّ بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشكّ واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث أن رشده بيّن، وأثره في السعادة جليّ، كما أنّ النور الحقيقيّ على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كلّ ذلك بالاستعارة. والإخراج من الظلمة إلى النور الّذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الّذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالإخراج مثلاً ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسّرين والباحثين.

وذكر آخرون: أنّ الله يفعل فعلاً كالإخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتّب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنّا نؤمن

٣٦٣

بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحقّ - بأنّ هذه الاُمور موجودة وأنّها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبراً، ولازم هذا القول أيضاً كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور والظلمة والإخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنّما الفرق بين القولين أنّ مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الأوّل نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني اُمور خارجة عن أعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها.

والقولان جميعاً خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرّط، والحقّ في ذلك أنّ هذه الاُمور الّتي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنّما هي اُمور حقيقيّة واقعيّة من غير تجوّز غير أنّها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها الّتي في باطنها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدّم في بحث الكلام أنّ النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرّد تشبيه لا حقيقة له. وثانيهما: أنّه على تقدير تسليم أنّ لها حقائق وواقعيّات هل استعمال اللفظ كالنور مثلاً في الحقيقة الّتي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ وعلى أيّ حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلّا لزم أن يكون لكلّ من المؤمن والكافر نور وظلمة معاً، فإنّ لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامّة المؤمنين والكفّار - وهم الّذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفّاراً فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معاً وهذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الإنسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجماليّ يقبل التفصيل، وأمّا بالنسبة إلى المعارف الحقّة والأعمال الصالحة تفصيلاً

٣٦٤

فهو في ظلمة بعد لعدم تبيّن أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيليّة، والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أنّ الحقّ واحد لا اختلاف فيه كما أنّ الباطل متشتّت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الأنعام - ١٥٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبوداود والنسائيّ وابن المنذر وابن أبي حاتم والنّحاس في ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبّان وابن مردويه والبيهقيّ في سننه والضياء في المختارة عن ابن عبّاس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلمّا أجليت بنوا النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

اقول: وروي أيضاً هذا المعنى بطرق اُخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبيّ.

وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالاً من الأوس، فلمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الأوس: لنذهبنّ معهم ولنديننّ دينهم، فمنعهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

اقول: وهذا المعنى أيضاً مرويّ بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدّم من نذر النساء اللّاتي ما كان يعيش أولادها أن يهوّدنهم.

وفيه أيضاً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عبّاس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له

٣٦٥

ابنان نصرانيّان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أستكرههما فإنّهما قد أبيا إلّا النصرانيّة؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : قال: النور آل محمّد و الظلمات أعداؤهم.

اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل.

٣٦٦

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٢٥٨ ) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٥٩ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٦٠ )

( بيان)

الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ) ، المحاجّة إلقاء الحجّة قبال الحجّة لإثبات المدّعي أو لإبطال ما يقابله، وأصل الحجّة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربّه متعلّق بحاجّ، والضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربّي الّذي يحيى ويميت، وهذا الّذي حاج إبراهيمعليه‌السلام في ربّه هو الملك الّذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك

٣٦٧

بابل على ما يذكره التاريخ والرواية.

وبالتأمّل في سياق الآية، والّذي جرى عليه الأمر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجّة الّتي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الّذي وقعت فيه محاجّتهما.

بيان ذلك: أنّ الإنسان لا يزال خاضعاً بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثّرة فيه، وهذا ممّا لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الاُمم الخالية المتأمّل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعاً مؤثّراً فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مرّ أيضاً بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدّد الآلهة كما عليه الوثنيّون أو نفي الصانع كما عليه الدهريّون والمادّيّون، فإنّ الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنساناً وإن قبلت الغفلة والذهول.

لكن الإنسان الأولىّ الساذج لمّا كان يقيس الأشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أنّ أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الأفعال المختلفة الإجتماعيّة تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وإن كانت جميع الأزمّة تجتمع عند الصانع الّذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أرباباً مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كربّ الأرض وربّ البحار وربّ النار وربّ الهواء والأرياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصّة السيّارات الّتي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثمّ كان يعمل صوراً وتماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعاً له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات.

ولذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الاُمم والأجيال لأنّ الآراء كانت

٣٦٨

مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة وتخيّل صور أرباب الانواع المحكيّة بأصنامها، وربّما لحقت بذلك أميال وتهوّسات اُخرى. وربّما انجرّ الأمر تدريجاً إلى التشبّث بالأصنام ونسيان أربابها حتّى ربّ الأرباب لأنّ الحسّ والخيال كان يزيّن ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما وراها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كلّ ذلك إنّما كان منهم لأنّهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيراً في شؤن حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

وربّما كان يستفيد بعض اُولي القوّة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدّعي الاُلوهيّة كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب وإن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحسّ كان يوجب تقدّمه عند عبّاده على سائر الأرباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ) النازعات - ٢٤، فقد كان يدّعي أنّه أعلى الأرباب مع كونه ممّن يتّخذ الأرباب كما قال تعالى:( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف - ١٢٧، وكذلك كان يدّعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا اُحيي واُميت، في هذه الآية على ما سنبيّن.

وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجّة الواقعة بين إبراهيمعليه‌السلام ونمرود، فإنّ نمرود كان يرى لله سبحانه اُلوهيّة، ولو لا ذلك لم يسلم لإبراهيمعليه‌السلام قوله: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أنّ بعض الآلهة الاُخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى أنّ هناك آلهة اُخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدلّ عليه عامّة قصص إبراهيمعليه‌السلام كقصّة الكوكب والقمر والشمس وما كلّم به أباه في أمر الأصنام وما خاطب به قومه وجعله الأصنام جذاذاً إلّا كبيراً لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى اُلوهيّة، وأنّ معه آلهة اُخرى لكنّه

٣٦٩

كان يرى لنفسه اُلوهيّة، وأنّه أعلى الآلهة، ولذلك استدلّ على ربوبيّته عند ما حاجّ إبراهيمعليه‌السلام في ربّه، ولم يذكر من أمر الآلهة الاُخرى شيئاً.

ومن هنا يستنتج أنّ المحاجّة الّتي وقعت بينه وبين إبراهيمعليه‌السلام هي: أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدّعي أنّ ربّه الله لا غير ونمرود كان يدّعي أنّه ربّ إبراهيم وغيره ولذلك لمّا احتجّ إبراهيمعليه‌السلام على دعواه بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، قال: أنا اُحيي واُميت، فادّعى أنّه متّصف بما وصف به إبراهيم ربّه فهو ربّه الّذي يجب عليه أن يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الأصنام، ولم يقل: وأنا اُحيي واُميت لأنّ لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيّته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعيّن بالتفوّق كما عرفت، ولم يقل أيضاً: والآلهة تحيي وتميت.

ولم يعارض إبراهيمعليه‌السلام بالحقّ، بل بالتمويه والمغالطة وتلبيس الأمر على من حضر، فإنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما أراد بقوله: ربّي الّذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحيّة الشاعرة المريدة فإنّ هذه الحياة المجهولة الكنه لا يستطيع أن يوجدها إلّا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلّل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحيّة، فإنّ حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الّذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنّه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازيّ أو الأعمّ من معناهما الحقيقيّ والمجازيّ فإنّ الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الإماتة تطلق على التوفّي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتّالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا وأطلق ذاك فقال: أنا اُحيي واُميت، ولبّس الأمر على الحاضرين فصدّقوه فيه، ولم يستطع لذلك إبراهيمعليه‌السلام أن يبيّن له وجه المغالطة، وأنّه لم يرد بالإحياء والإماتة هذا المعنى المجازيّ، وأنّ الحجّة لا تعارض الحجّة، ولو كان في وسعهعليه‌السلام ذلك لبيّنه، ولم يكن ذلك إلّا لأنّه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضّار في

٣٧٠

تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنّه لو بيّن وجه المغالطة لم يصدّقه أحد، فعدل إلى حجّة اُخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشئ فقال إبراهيمعليه‌السلام : إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك أنّ الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصّتهعليه‌السلام لكنّها وما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع والغروب ممّا يستند بالأخرة إلى الله الّذي كانوا يرونه ربّ الأرباب، والفاعل الإراديّ إذا اختار فعلاً بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإنّ الأمر يدور مدار الإرادة، وبالجملة لمّا قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إنّ هذا الأمر المستمرّ الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائماً امر اتّفاقيّ لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه أن يقول: إنّه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلّم خلاف ذلك، ولا كان يسعه أن يقول: إنّي أنا الّذي آتيها من المشرق وإلّا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجراً وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ) ، ظاهر السياق: أنّه من قبيل قول القائل: أساء إلىّ فلان لأنّي أحسنت إليه يريد: أنّ إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلىّ لكنّه بدّل الإحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتّق شرّ من أحسنت إليه، قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار

فالجملة أعني قوله: أن آتاه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضدّه للشكوى والاستعداء ونحوه، فإنّ عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجّة كان ينبغي أن يعلّل بضدّ إنعام الله عليه بالملك، لكن لمّا لم يتحقّق من الله في حقّه إلّا الإحسان إليه وايتاؤه الملك فوضع في موضع العلّة فدلّ على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) القصص - ٨، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

وهناك نكته اُخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك أنّه إنّما

٣٧١

كان يدّعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنّما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربّه، وأمّا هو في نفسه فلم يكن إلّا واحداً من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبّر عنه بقوله: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، دلالة على حقارة شخصه وخسّة أمره.

وأمّا نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مرّ في المباحث السابقة: أنّه لا محذور فيه، فإنّ الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الاُمّة كسائر أنواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الإنسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى:( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) القصص - ٧٧، وإن عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقّه نقمة وبواراً، قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم - ٢٨، وقد مرّ بيان أنّ لكلّ شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدّس من جهة الحسن الّذي فيه دون جهة القبح والمسائة.

ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام ، والمراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) النساء - ٥٤، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيهأوّلا: أنّ القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيراً إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون:( يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ ) المؤمن - ٢٩، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد أمضاه بالحكاية -:( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف - ٥١، وقد قال تعالى:( لَهُ الْمُلْكُ ) التغابن - ١، فقصر كلّ الملك لنفسه فما من ملك إلّا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) يونس - ٨٨، وقال تعالى في قارون:( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) القصص - ٧٦، وقال تعالى خطاباً لنبيّه:

٣٧٢

( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا - إلى أن قال -وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) المدّثّر - ١٥، إلى غير ذلك.

وثانياً: أنّ ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإنّ ظاهرها أنّ نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده وإيمانه لا أنّه كان ينازعه ويحاجّه في ملكه، فإنّ ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لإبراهيم ملكاً حتّى يشاجره فيه.

وثالثاً: أنّ لكلّ شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الأشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مرّ تفصيل بيانه.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضاً كالنبات، وقد صدّقه القرآن كما مرّ بيانه في تفسير آية الكرسيّ، لكن مرادهعليه‌السلام منهما إمّا خصوص الحياة والممّات الحيوانيّين أو الأعمّ الشامل له لإطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا اُحيي واُميت، فإنّ هذا الّذي ادّعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلاً، ولا إحياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلاً، فإنّ ذلك وأشباهه كان لا يختصّ به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، وهذا يؤيّد ما وردت به الروايات: أنّه أمر بإحضار رجلين ممّن كان في سجنه فأطلق أحدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا اُحيي واُميت.

وإنّما أخذعليه‌السلام في حجّته الإحياء والإماتة لأنّهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصّة الّتي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والإرادة وهما أمران غير مادّيّين قطعاً، وكذا الموت المقابل لها، والحجّة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقّهم، لأنّ انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقّل كان فوق ما كان يظنّهعليه‌السلام في حقّهم، فلم يفهموا من الإحياء والإماتة إلّا المعنى المجازيّ الشامل لمثل الإطلاق والقتل، فقال نمرود: أنا اُحيي واُميت وصدّقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجّة يمكن أن يحدس المتأمّل ما بلغ إليه الانحطاط الفكريّ يؤمئذ في المعارف والمعنويّات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاريّ والتقدّم

٣٧٣

المدنيّ الّذي يدلّ عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإنّ المدنيّة المادّيّة أمر والتقدّم في معنويّات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيّتها وانحطاطها في الأخلاق والمعارف المعنويّة ما تسقط به هذه الشبهة.

ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذهعليه‌السلام في حجّته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات والأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الأنعام - ٧٩، فإنّ القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالاً كانوا أنزل سطحاً من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتّضح مرادهعليه‌السلام ، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربّي الّذي يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ، أي فأنا ربّك الّذي وصفته بأنّه يحيي ويميت.

قوله تعالى: ( قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) ، لمّا أيسعليه‌السلام من مضيّ احتجاجه بأنّ ربّه الّذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء والإماتة إلى حجّة اُخرى، إلّا أنّه بنى هذه الحجّة الثانية على دعوى الخصم في الحجّة الاُولى كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله: فإنّ الله الخ، والمعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنّك ربّي ومن شأن الربّ أن يتصرّف في تدبير أمر هذا النظام الكونيّ فالله سبحانه يتصرّف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرّف أنت بإتيانها من المغرب حتّى يتّضح إنّك ربّ كما أنّ الله ربّ كلّ شئ أو أنّك الربّ فوق الأرباب فبهت الّذي كفر، وإنّما فرّع الحجّة على ما تقدّمها لئلّا يظنّ أنّ الحجّة الأولى تمّت لنمرود وأنتجت ما ادّعاه، ولذلك أيضاً قال، فإنّ الله ولم

٣٧٤

يقل: فإنّ ربّي لأنّ الخصم استفاد من قوله: ربّي سوءاً وطبّقه على نفسه بالمغالطة فأتىعليه‌السلام ثانياً بلفظة الجلالة ليكون مصوناً عن مثل التطبيق السابق! قد مرّ بيان أنّ نمرود ما كان يسعه أن يتفوّه في مقابل هذه الحجّة بشئ دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، ظاهر السياق أنّه تعليل لقوله فبهت الّذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إيّاه لا كفره، وبعبارة اُخرى معناه أنّ الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على إبراهيم في الحجّة لا أنّه لم يهده فكفر لذلك وذلك لأنّ العناية في المقام متوجّهة إلى محاجّته إبراهيمعليه‌السلام لا إلى كفره وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر: أنّ في الوصف إشعاراً بالعلّيّة أعني: أنّ السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله:( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصفّ - ٧، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة - ٥، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى:( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصفّ - ٥.

وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عمّا ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤدّ إلى الخيبة والخسران بالأخرة، وهذه من الحقائق الناصعة الّتي ذكرها القرآن الشريف وأكّد القول فيها في آيات كثيرة.

٣٧٥

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بيّنها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفاً، وهي كلّيّة لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، دلّ على أنّ كلّ شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك إلّا بارتباطه مع غيره من الأشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتّصال والانفصال والقرب والبعد والأخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ الاُمور التكوينيّة لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعيّة لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسّها الحطب مثلاً وهي حارّة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلاً وهو نام لا يقصد إلّا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦، فلا تخلّف ولا اختلاف في الوجود.

ولازم هاتين المقدّمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطّأ في التكوين أن يكون لكلّ شئ روابط حقيقيّة مع غيره، وأن يكون بين كلّ شئ وبين الآثار والغايات الّتي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والأثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجوديّة إنّما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصّة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة إنّما تنبت الشجرة الّتي في قوّتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدّي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصّة، وكذلك الشجرة إنّما تثمر الثمرة الّتي من شأنها إثمارها، فما كلّ سبب يؤدّي إلى كلّ مسبّب، قال تعالى:( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) الأعراف - ٥٨، والعقل والحسّ يشهدان بذلك وإلّا اختلّ قانون العلّيّة العامّ.

وإذا كان كذلك فالصنع والإيجاد يهدي كلّ شئ إلى غاية خاصّة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كلّ غاية من طريق خاصّ لا يهدي إليها من غيره، صنع الله الّتي

٣٧٦

أتقن كلّ شئ، فكلّ سلسلة من هذه السلاسل الوجوديّة الموصلة إلى غاية وأثر إذا فرضنا تبدّل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدّل أثرها لا محالة، هذا في الاُمور التكوينيّة.

والاُمور غير التكوينيّة من الاعتبارات الإجتماعيّة وغيرها على هذا الوصف أيضاً من حيث إنّها نتائج الفطرة المتّكئة على التكوين، فالشؤن الإجتماعيّة والمقامات الّتي فيه والأفعال الّتي تصدر عنها كلّ منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولّد منه إلّا تلك الآثار والغايات ولاتتولّد هي إلّا منه فالتربية الصالحة لاتتحقّق إلّا من مربّ صالح والمربّي الفاسد لا يترتّب على تربيته، إلّا الأثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطويّ في نفسه بمأة ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلّب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكلّ من تقلّد منصباً اجتماعيّاً من غير طريقه المشروع، وكذلك كلّ فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبّه بالحقّ وحلّ بذلك محلّ الفعل الحقّ، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحقّ كالخيانة موضع الأمانة والإسائة موضع الإحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكلّ ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها أيّاماً، وتلبّس بلباس الصدق والحقّ أحياناً، سنّة الله الّتي جرت في خلقه ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

فالحقّ لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على إدراك المدركين اُويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربّما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) الأنفال - ٨، من تحقيق الحقّ تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبّس به من لباس الحقّ بالتشبّه والتمويه، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ

٣٧٧

الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم - ٢٧، وقد أطلق الظالمين فالله يضلّهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلّا أنّهم يريدون آثار الحقّ من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف - الصدّيق:( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف - ٢٣، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أنّ ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتّقي بتقواه، قال تعالى:( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت - ٦٩، وقال تعالى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ) طه - ١٣٢.

والآيات القرآنيّة في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرّقة، ومن أجمعها وأتمها بياناً فيه قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) الرعد - ١٧.

وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العقل يؤيّده، فإنّ ذلك لازم كلّيّة قانون العلّيّة والمعلوليّة الجارية بين أجزاء العالم، وأنّ التجربة القطعيّة الحاصلة من تكرّر الحسّ تشهد به، فما منّا من أحد إلّا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم.

قوله تعالى: ( وْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ) ، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائاً إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائماً على أعمدة، قال تعالى:( جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) الأنعام - ١٤٢، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكنّ بينهما فرقاً، فإنّ السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الأركان الّتي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صحّ أن يقال في الديار أنّها خالية على عروشها ولا يصحّ أن يقال: خالية على سقفها.

وقد ذكر المفسّرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالّذي، فقيل:

٣٧٨

إنّه عطف على قوله في الآية السابقة: الّذي حاجّ إبراهيم، والكاف اسميّة، والمعنى أو هل رأيت مثل الّذي مرّ على قرية الخ، وقد جيئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدّد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم أو الّذي مرّ على قرية الخ، وقيل: إنّه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، وقيل: إنّه من كلام إبراهيم جواباً عن دعوى الخصم أنّه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الّذي مرّ على قرية الخ فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكنّ الجميع كما ترى.

وأظنّ - والله أعلم - أنّ العطف على المعنى كما مرّ في الوجه الثالث إلّا أنّ التقدير غير التقدير، توضيحه: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر قوله: الله وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والّذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصّل من ذلك: أنّه يهدي المؤمنين إلى الحقّ ولا يهدي الكافر في كفره بل يضلّه أولياؤه الّذين اتّخذهم من دون الله أولياء، ثمّ ذكر لذلك شواهد ثلاث يبيّن بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتّبة:

أوليها: الهداية إلى الحقّ بالبرهان والاستدلال كما في قصّة الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، حيث هدى إبراهيم إلى حقّ القول، ولم يهد الّذي حاجّه بل أبهته وأضلّه كفره، وإنّما لم يصرّح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدلّ على فائدة جديدة يدلّ عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين.

والثانية: الهداية إلى الحقّ بالإرائة والإشهاد كما في قصّة الّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها فإنّه بيّن له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كلّ ذلك بالإرائة والإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحقّ وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة الّتي تترشّح منه الحادثة، وبعبارة اُخرى بإرائة السبب والمسبّب معاً، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أنّ من كان لم ير الجبن مثلاً وارتاب في أمره تزاح شبهته تارةً بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه، وتارةً بإرائته قطعة من الجبن

٣٧٩

وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحه وخلط مقدار منها به حتّى يجمد ثمّ إذاقته شيئاً منه وهي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصحّ فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: ألم تر إلى قصّة إبراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصّة الّذي مرّ على قرية، أو لم تر إلى قصّة إبراهيم والطير، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ: إمّا كما هدى إبراهيم في قصّة المحاجّة وهي نوع من الهداية، أو كالّذي مرّ على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصّة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إنّ الله يهدي المؤمنين إلى الحقّ واُذكّرك ما يشهد بذلك فاذكر قصّة المحاجّة، واذكر الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أنّ الله سبحانه أخذ بالتفنّن في البيان وخصّ كلّ واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلث تنشيطاً لذهن المخاطب واستيفائاً لجميع الفوائد السياقيّة الممكنة الاستيفاء.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى: أو كالّذي، معطوف على مقدّر يدلّ عليه الآية السابقة، والتقدير: إمّا كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالّذي مرّ على قرية، ويظهر أيضاً أنّ قوله في الآية التالية: واذ قال إبراهيم، معطوف على مقدّر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصّة المحاجّة وقصّة الّذي مرّ على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ.

وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الّذي مرّ على قرية واسم القرية والقوم الّذين كانوا يسكنونها، والقوم الّذين بعث هذا المارّ آية لهم كما يدلّ عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أنّ الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكنّ الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لمّا

٣٨٠

العِلم الإلهيّ الأزليّ لا يُنافى قُدرتَه موقف اليهود مِن قُدرة الله مَوقع البَداء عند الشيعة أقسام القضاء الإلهيّ ثمرة الاعتقاد بالبَداء حقيقة البَداء عند الشيعة أحاديث أهل السُنّة الدالّة على البَداء إنباء المعصومين بالحوادث المستقبَلة .

٣٨١

بمناسبة الحديث عن النسْخ في الأحكام وهو في أُفُق التشريع ، وبمناسبة أنّ النسْخ كالبَداء وهو في أفُق التكوين ، وبمناسبة خفاء معنى البَداء على كثير مِن علماء المسلمين ، وأنّهم نسَبوا إلى الشيعة ما هم بُرآء منه ، وأنّهم لم يُحسنوا في الفَهْم ولم يُحسنوا في النَقْد ، ولَيتهم إذ لم يعرفوا تثبَّتوا أو تَوقَّفوا(١) ، كما تفرضه الأمانة في النقْل ، وكما تقتضيه الحَيْطة في الحُكم ، والوَرَع في الدِين ، بمناسبة كلّ ذلك وجَب أنْ نذكر شيئاً في توضيح معنى البَداء ، وإنْ لم تكن له صِلة - غير هذا - بمدخل التفسير .

تمهيد :

لا رَيب في أنّ العالَم بأجْمعِه تحت سلطان الله وقدرته ، وأنّ وجود أي شيء مِن الممكنات مَنوط بمشيئة الله تعالى ، فإنْ شاء أَوجَده ، وإنْ لم يشأ ، لم يوجِده .

ولا رَيب أيضاً في أنّ عِلم الله سبحانه قد تعلّق بالأشياء كلِّها منذ الأزل ، وأنّ الأشياء بأجمعها كان لها تعيّن عِلمي في عِلم الله الأزَلى ، وهذا التعيّن يُعبَّر عنه بـ ( تقدير الله ) تارة وبـ ( قضائه ) تارةً أخرى ، ولكن تقدير الله وعِلمه سبحانه

_______________________

(١) انظر التعليقة رقم (٩) للوقوف على اختلاق الفخر الرازي نسبة الجَهْل إلى الله على لسان الشيعة - في قِسم التعليقات (البيان ـ ٢٥)

٣٨٢

بالأشياء منذ الأزَل لا يُزاحم ولا يُنافي قدرته تعالى عليها حين إيجادها ، فإنّ المُمكن لا يزال منوطاً بتعلُّق مشيئة الله بوجوده التي قد يُعبّر عنها بالاختيار ، وقد يُعبَّر عنها بالإرادة ، فإنْ تعلّقتْ المشيئة به وُجِد وإلاّ لم يوجَد .

والعِلم الإلهي يتعلّق بالأشياء على واقِعها مِن الإناطة بالمشيئة الإلهية ؛ لأنّ انكشاف الشيء لا يزيد على واقِع ذلك الشيء ، فإذا كان الواقع منوطاً بمشيئة الله تعالى ، كان العِلم متعلِّقاً به على هذه الحالة ، وإلاّ لم يكن العِلم عِلماً به على وجْهِه ، وانكشافاً له على واقِعه فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها : أنّ الأشياء جميعها كانت متعيّنة في العِلم الإلهي منذ الأزَل ، على ما هي عليه مِن أنّ وجودها معلّق على أنْ تتعلّق المشيئة بها ، حسَب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف ، والتي يُحيط بها العِلم الإلهي .

مَوقف اليهود مِن قُدرة الله :

وذهبت اليهود إلى : أنّ قلَم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزَل ، استحال أنْ تتعلّق المشيئة بخلافه ومِن أجْل ذلك قالوا : يَدُ الله مغلولة عن القبْض والبسْط والأخْذ والإعطاء ، فقد جرى فيها قلَم التقدير ولا يُمكن فيه التغيير(١) ، ومِن الغريب أنّهم - قاتَلَهم الله - التزموا بسَلْب القُدرة عن الله ، ولم يلتزموا بسَلْب القُدرة عن العَبْد ، مع أنّ المِلاك في كِلَيهما واحد ، فقد تعلّق العِلم الأزلي بأفعال الله تعالى ، وبأفعال العبيد على حدٍّ سَواء

مَوقِع البَداء عند الشيعة :

ثمّ إنّ البَداء الذي تقول به الشيعة الإمامية ، إنّما يقع في القضاء غير المحتوم ، أمّا المحتوم منه فلا يتَخلَّف ، ولا بدّ مِن أنْ تتعلَّق المشيئة بما تعلَّق به القضاء ، وتوضيح ذلك أنّ القضاء على ثلاثة أقسام :

_______________________

(١) انظُر التعليقة رقم (١٠) لمعرفة بعض الأخبار الدالّة على مشيئة الله تعالى - في قِسم التعليقات

٣٨٣

أقسام القضاء الإلهي :

الأوّل : قضاء الله الذي لم يُطْلِع عليه أحداً مِن خلْقِه ، والعِلم المخزون الذي استأثَر به لنفسه ، ولا رَيب في أنّ البَداء لا يقع في هذا القِسم ، بل وَرَد في روايات كثيرة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) : أنّ البَداء إنّما ينشأ مِن هذا العِلم .

رَوى الشيخ الصدوق في ( العيون ) بإسناده عن الحسن بن محمّد النوفلي ، أنّ الرضا ( عليه السلام ) قال لسليمان المروزي : ( رَوَيتُ عن أبي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنّه قال : إنّ لله عزّ وجلّ عِلْمَين : عِلماً مخزوناً مكنوناً لا يعلَمُه إلاّ هو مِن ذلك يكون البَداء ، وعِلماً علَّمَه ملائكتَه ورُسُلَه ، فالعلماء مِن أهل بيت نبيِّك يعْلَمونه . )(١) .

وروى الشيخ محمّد بن الحسن الصفّار في ( بصائر الدرجات ) ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :

( إنّ لله عِلْمَين : عِلمٌ مكنون مخزون لا يعلمُه إلاّ هو ، مِن ذلك يكون البَداء ، وعِلمٌ علَّمَه ملائكتَه ورُسُلَه وأنبياءه ، ونحن نعلَمُه )(٢) .

الثاني : قضاء الله الذي أخبر نبيَّه وملائكتَه بأنّه سيقع حتماً ، ولا رَيب في أنّ هذا القِسم أيضاً لا يقع فيه البَداء ، وإنْ افترَقَ عن القِسم الأوّل ، بأنّ البَداء لا ينشأ منه .

قال الرضا ( عليه السلام ) لسليمان المروزي - في الرواية المتقدّمة - عن الصدوق :

( إنّ عليّاً ( عليه السلام ) كان يقول : العِلم عِلمان ، فعِلمٌ علَّمه الله ملائكتَه ورُسُلَه ،

_______________________

(١) عيون أخبار الرضا باب ١٣ في ذِكر مجلس الرضا مع سليمان المروزي ، والبحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص١٣٢ ط كمباني .

(٢) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٦ ط كمباني ، ورواه الشيخ الكُليني عن أبي بصير أيضاً ، الوافي باب البداء ج ١ ص ١١٣ .

٣٨٤

فما علَّمه ملائكتَه ورُسُلَه فإنّه يكون ، ولا يُكذِّب نفسَه ولا ملائكته ولا رُسله وعِلمٌ عنده مخزون لم يُطلِع عليه أحداً مِن خلْقِه ، يُقدِّم منه ما يشاء ، ويؤخِّر ما يشاء ، ويمْحو ما يشاء ويُثبِت ما يشاء ) (١) .

وروى العياشي عن الفضيل ، قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول :

( مِن الأمور أُمورٌ محتومة جائية لا محالة ، ومِن الأمور أُمورٌ موقوفة عند الله يُقدّم منها ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويُثبِت ما يشاء ، لم يُطْلِع على ذلك أحداً - يعني الموقوفة - فأمّا ما جاءت به الرُسُل فهي كائنة لا يُكذِّب نفسَه ، ولا نبيَّه ، ولا ملائكته )(٢) .

الثالث : قضاء الله الذي أخبَر نبيَّه وملائكتَه بوقوعه في الخارج ، إلاّ أنّه موقوفٌ على أنْ لا تتعلّق مشيئة الله بخلافه وهذا القِسم هو الذي يقع فيه البَداء :

( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ١٣ : ٣٩. لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ٣٠ : ٤) .

وقد دلّت على ذلك روايات كثيرة منها هذه :

١ - ما في ( تفسير عليّ بن إبراهيم ) عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( إذا كان ليلة القَدْر، نزلت الملائكة والروح والكتَبة إلى سماء الدنيا ، فيكتُبون ما يكون مِن قضاء الله تعالى في تلك السَنة ، فإذا أراد الله أنْ يُقدّم شيئاً أو يؤخّره ، أو يُنقِص شيئاً ، أمَر الملَك أنْ يمحو ما يشاء ، ثمّ أثبَت الذي أراده قلتُ : وكلّ شيء هو عند الله مُثبَت في كتاب ؟ قال : نعَم قلت :

_______________________

(١) عيون أخبار الرضا باب ١٣ ، ورواه الشيخ الكُليني عن الفُضَيل بن يسار عن أبي جعفر ( ع ) الوافي باب البَداء ج ١ ص ١١٣ .

(٢) نقلاً عن البحار : باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٣ ط كمباني

٣٨٥

فأيُّ شيءٍ يكون بعده ؟ قال : سبحان الله ، ثمّ يُحدِث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى ) (١) .

٢ - ما في تفسيره أيضاً عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن ( ع ) ، في تفسير قوله تعالى :

( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) ٤٤ : ٤ .

( أي يُقدِّر الله كلّ أمْرٍ مِن الحقّ ومِن الباطل ، وما يكون في تلك السنة ، وله فيه البَداء والمشيئة يقدِّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء مِن الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ، ويزيد فيها ما يشاء ويُنقص ما يشاء . )(٢) .

٣ - ما في كتاب ( الاحتجاج ) عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال : ( لولا آية في كتاب الله ، لأخبرتكم بما كـان ، وبما يكون ، وبما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي هذه الآية: يَمْحُوا اللَّهُ . . )(٣) .

وروى الصدوق في الأمالي والتوحيد بإسناده عن الأصبغ عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مِثْلَه .

٤ - ما في ( تفسير العياشي ) عن زرارة عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : ( كان عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) يقول : لولا آية في كتاب الله لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة فقلت : أيّة آيـة ؟ قـال : قَول الله: يَمْحُوا اللَّهُ . . )(٤) .

٥ - ما في ( قُرب الإسناد ) عن البزنطي عن الرضا ( عليه السلام ) قال : قال

_______________________

(١) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٣ ط كمباني .

(٢) نفس المصدر ص ١٣٤ .

(٣) الاحتجاج للطبرسي ص ١٣٧ المطبعة المرتضوية - النجف الأشرف .

(٤) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٩ ط كمباني

٣٨٦

أبو عبد الله ، وأبو جعفر ، وعليّ بن الحسين ، والحسين بن عليّ ، والحسن بن عليّ وعليّ بن أبي طالب ( عليهم السلام ) : ( لولا آية في كتاب الله لحدّثناكم بما يكون إلى أنْ تقوم الساعة: يَمْحُوا اللَّهُ . . )(١) إلى غير ذلك مِن الروايات الدالّة على وقوع البَداء في القضاء الموقوف .

وخُلاصة القول : أنّ القضاء الحَتْمي المُعبَّر عنه باللوح المحفوظ ، وبأُمِّ الكتاب ، والعِلم المخزون عند الله يستحيل أنْ يقع فيه البَداء وكيف يتصوّر فيه البَداء ؟ وأنّ الله سبحانه عالِمٌ بجميع الأشياء منذ الأزل ، لا يعزُب عن عِلمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء .

روى الصدوق في ( إكمال الدين ) بإسناده عن أبي بصير وسُماعة ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :

( مَن زعَم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له في شيء لم يعْلَمه أمْس ، فابرأوا منه ) (٢)

وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) يقول :

( إنّ الله يقدِّم ما يشاء ، ويؤخّر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويُثبِت ما يشاء وعنده أُمُّ الكتاب ، وقال : فكلّ أمْرٍ يريده الله فهو في عِلمِه قبل أنْ يصنعه ، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في عِلمِه ، إنّ الله لا يبدو له مِن جَهْل )(٣) .

وروى أيضاً عن عمّار بن موسى عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : ( سُئل عن قول الله: يَمْحُوا اللَّهُ . . قال : إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويُثبت ، فمِن ذلك الذي يردُّ الدعاء القضاء ، وذلك الدعاء مكتوبٌ عليه الذي يردّ به القضـاء ، حتّى إذا صار إلى أُمّ الكتاب لم يُغنِ الدعاء فيه شيئاً )(٤) .

_______________________

(١) نفس المصدر ص ١٣٢ .

(٢) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٦ .

(٣) نقلاً عن نفس المصدر ص ١٣٩ .

(٤) نقلاً عن نفس المصدر ص ١٣٩

٣٨٧

وروى الشيخ الطوسي في كتاب ( الغيبة ) بإسناده عن البزنطي ، عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) : قال عليّ بن الحسين ، وعليّ بن أبي طالب قَبْله ، ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد :

( كيف لنا بالحديث مع هذه الآيةيَمْحُوا اللَّهُ . . ، فأمّا مَن قال بأنّ الله تعالى لا يعلَم الشيء إلاّ بعد كَونِه ، فقد كَفَر وخرج عن التوحيد )(١) .

والروايات المأثورة عن أهل البيت ( ع ) أنّ الله لم يزَلْ عالِماً قبل أنْ يخلُق الخَلْق ، فهي فوق حدّ الإحصاء ، وقد اتّفقتْ على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طِبقاً لكتاب الله وسُنّة رسوله ، جَرْياً على ما يقتضيه حُكم العقل الفطريّ الصحيح .

ثمَرة الاعتقاد بالبَداء :

والبَداء : إنّما يكون في القضاء الموقوف المعبَّر عنه بلوح المَحو والإثبات ، والالتزام بجواز البَداء فيه لا يستلزم نِسبة الجهْل إلى الله سبحانه ، وليس في هذا الالتزام ما يُنافي عَظمَتَه وجلاله .

فالقول بالبَداء : هو الاعتراف الصريح بأنّ العالَم تحت سلطان الله وقُدرتِه ، في حدوثه وبقائه ، وأنّ إرادة الله نافذة في الأشياء أزَلاً وأبداً ، بل وفي القول بالبَداء يتّضح الفارِق بين العِلم الإلهي وبين عِلم المخلوقين ، فعِلم المخلوقين - وإنْ كانوا أنبياء أو أوصياء - لا يُحيط بما أحاط به عِلمُه تعالى ، فإنّ بعضاً منهم ، وإنْ كان عالِماً - بتعليم الله إيّاه - بجميع عوالِم المُمكنات ، لا يُحيط بما أحاط به عِلم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه ، فإنّه لا يُعلَم بمشيئة الله تعالى - لوجود شيء - أو عدم مشيئته ، إلاّ حيث يُخبره الله تعالى به على نحْو الحتْم .

_______________________

(١) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٦ ط كمباني ، وروى الشيخ الكُليني بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ( ع ) قال : ( ما بَدا لله في شيء إلاّ كان في عِلْمه قبل أنْ يبدو له ) الوافي باب البَداء ج ١ ص ١١٣

٣٨٨

والقول بالبَداء : يوجِب انقطاع العبْد إلى الله ، وطَلبه إجابة دعائه منه وكفاية مهمّاته ، وتوفيقه للطاعة ، وإبعاده عن المعصية ، فإنّ إنكار البَداء ، والالتزام بأنّ ما جرى به قلَم التقدير كائنٌ لا محالة - دون استثناء - يلزمُه يأس المعتقِد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه .

فإنّ ما يطلُبُه العبْد مِن ربِّه إنْ كان قد جَرى قلَم التقدير بإنفاذِه ، فهو كائنٌ لا محالة ، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسّل ، وإنْ كان قد جرى القلَم بخِلافه لم يقع أبداً ، ولم ينفعه الدعاء ولا التضرّع ، وإذا يئِس العَبد مِن إجابة دعائه ترَك التضرّع لخالِقه ، حيث لا فائدة في ذلك ، وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات ، التي ورَد عن المعصومين ( ع ) أنّها تزيد في العُمر أو في الرِزق ، أو غير ذلك ممّا يطلبه العَبْد .

وهذا هو سِرّ ما ورَد في روايات كثيرة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) مِن الاهتمام بشأن البَداء .

فقد رَوى الصدوق في كتاب ( التوحيد ) ، بإسناده عن زرارة عن أحدهم ( عليه السلام ) قال : ( ما عُبِد الله عزّ وجلّ بشيء مثل البَداء )(١) وروى بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( ما عُظِّم الله عزّ وجلّ بمِثل البَداء )(٢)

وروى بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :

( ما بَعث الله عزّ وجلّ نبيّاً حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبوديّة ، وخَلْع الأنداد ، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء )(٣) .

والسِرّ في هذا الاهتمام : أنّ إنكار البَداء يشترك بالنتيجة مع القول بأنّ الله

_______________________

(١) أفضل مِن البَداء - نسخة أخرى .

(٢) التوحيد للصدوق باب البَداء ص ٢٧٢ ط سنة ١٣٨٦هـ.ق ، ورواه الشيخ الكُليني أيضاً الوافي باب البَداء ج١ ص ١١٣ .

(٣) نفس المصدر ص ٢٧٢ ، ورواه الشيخ الكُليني أيضاً الوافي باب البَداء ج ١ ص ١١٣

٣٨٩

غير قادر على أنْ يُغيِّر ما جَرى عليه قلَم التقدير تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً فإنّ كِلا القولَين يؤيِس العَبْد مِن إجابـة دعائه ، وذلك يوجِب عدم توجّهه في طلَباته إلى ربِّه

حقيقة البَداء عند الشيعة :

وعلى الجُملة : فإنّ البَداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية : هو مِن الإبداء ( الإظهار ) حقيقة ، وإطلاق لفظ البَداء عليه مبنيٌّ على التنزيل والإطلاق بعلاقة المُشاكَلة وقد أُطلق بهذا المعنى في بعض الروايات مِن طُرُق أهل السُنّة .

روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة ، أنّ أبا هريرة حدّثه أنّه سمع رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) يقول : إنّ ثلاثة في بني إسرائيل : أبرَص وأعمى وأقرَع ، بَدا لله عزّ وجلّ أنْ يبتليهم ، فبعث إليهم ملَكا ، فأتى الأبرص . )(١)

وقد وقع نظير ذلك في كثير مِن الاستعمالات القرآنية ، كقوله تعالى :

( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ) ٨ : ٦٦ .

وقوله تعالى :

( لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ) ١٨ : ١٢ .

وقوله تعالى :

( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) ١٨ : ٧ .

وما أكثر الروايات مِن طُرُق أهل السُنّة في أنّ الصدَقة والدعاء يُغيِّران القضاء(٢) .

_______________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ باب ما ذُكر عن بني إسرائيل ص ١٤٦ .

(٢) انظُر التعليقة رقم (١١) للوقوف على روايات تُفيد أنّ الدعاء يُغيِّر القضاء - في قِسم التعليقات

٣٩٠

أمّا ما وقع في كلمات المعصومين ( عليهم السلام ) مِن الإنباء بالحوادث المستقبَلة ، فتحقيق الحال فيها :

أنّ المعصوم متى ما أخبَر بوقوع أمْرٍ مستقبَل على سبيل الحتْم والجزْم ودون تعليق ، فذلك يدلّ أنّ ما أخبَر به ممّا جَرى به القضاء المحتوم ، وهذا هو القِسم الثاني ( الحتميّ ) مِن أقسام القضاء المتقدّمة وقد علمتَ أنّ مِثْلَه ليس موضعاً للبَداء ، فإنّ الله لا يُكذِّب نفسه ولا نبيَّه .

ومتى ما أخبَر المعصوم بشيء معلّقاً على أنْ لا تتعلّق المشيئة الإلهية بخِلافه ، ونصَب قرينة متّصلة أو منفصلة على ذلك ، فهذا الخبر إنّما يدلّ على جريان القضاء الموقوف ، الذي هو موضع البَداء والخبر الذي أخبَر به المعصوم صادقٌ وإنْ جرى فيه البَداء ، وتعلّقت المشيئة الإلهية بخلافه فإنّ الخبَر - كما عرفت - منوطٌ بأنْ لا تخالِفه المشيئة .

وروى العياشي عن عمرو بن الحمق قال :

( دخلتُ على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين ضُرِب على قَرْنه ، فقال لي : يا عمرو إنّي مفارِقُكم ، ثمّ قال : سَنة السبعين فيها بلاء . فقلت : بأبي أنت وأُمّي قلت : إلى السبعين بلاء ، فهل بعد السبعين رخاء ؟ قال : نعَم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاء ) . وذكر آيةيَمْحُوا اللَّهُ . . .

٣٩١

أصول التفسير

٣٩٢

بطلان الاعتماد على الظنّ ، وعلى آراء المفسّرين في فَهْم القرآن مدارك التفسير تخصيص القرآن بخبَر الواحد شُبُهات المنكِرين له ، والأقوال في المسألة

٣٩٣

التفسير هو إيضاح مراد الله تعالى مِن كتابه العزيز ، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان ، ولا على شيء لم يثبُتْ أنّه حُجّة مِن طريق العقل ، أو مِن طريق الشَرع ، للنهي عن اتّباع الظنّ ، وحُرمة إسناد شيءٍ إلى الله بغير إذنِه ، قال الله تعالى :

( قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) ١٠ : ٥٩ .

وقال الله تعالى :

( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ١٧ : ٣٦ .

إلى غير ذلك مِن الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العِلم ، والروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة مِن الطريقَين .

ومِن هذا يتّضح أنّه لا يجوز اتّباع أحدِ المفسّرين في تفسيره ، سواء أكان ممّن حَسُن مذهبه أمْ لم يكـن ؛ لأنّه مِن اتّباع الظنّ ، وهو لا يُغني مِن الحقّ شيئاً .

مدارك التفسير :

ولا بدّ للمفسِّر مِن أنْ يتّبع الظواهر ، التي يفهمُها العربيّ الصحيح ( فقد بيّنا لك حُجّية الظواهر ) ، أو يتّبع ما حَكم به العقل الفطريّ الصحيح ، فإنّه حُجّة مِن الداخل ، كما أنّ النبيّ حجّة مِن الخارج ، أو يتّبع ما ثبَت عن المعصومين ( عليهم السلام ) فإنّهم المَراجِع في الدِين ، والذين أَوصى النبيُّ ( صلّى الله عليه وآله ) بوجوب التمسّك بهم

٣٩٤

فقال : إنّي تاركٌ فيكم الثقلَين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إنْ تمسكتُم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً(١) .

ولا شُبهة في ثبوت قولِهم (عليهم السلام ) إذا دلّ عليه طريق قطعيّ لا شك فيه ، كما أنّه لا شُبهة في عدم ثبوته إذا دلّ عليه خبر ضعيف غير جامع لشرائط الحُجّية ، وهل يثبُت بطريق ظنّي دلّ على اعتباره دليل قطعيّ ؟ فيه كلام بين الأعلام .

وقد يُشكل :

في حُجّية خبر الواحد الثقة ، إذا ورَد عن المعصومين ( عليهم السلام ) في تفسير الكتاب ، ووجْه الإشكال في ذلك أنّ معنى الحُجّية التي ثبتت لخبر الواحد ، أو لغيره مِن الأدلّة الظنّية هو وجوب ترتيب الآثار عليه ، عمَلاً في حال الجَهْل بالواقع ، كما تترتّب على الواقع لو قُطع به ، وهذا المعنى لا يتحقّق إلاّ إذا كان مؤدّى الخبر حُكماً شرعيّاً ، أو موضوعاً قد رتّب الشارع عليه حُكماً شرعياً ، وهذا الشرط قد لا يوجد في خبر الواحد ، الذي يُروى عن المعصومين في التفسير .

وهذا الإشكال :

خلاف التحقيق ، فإنّا قد أوضحنا في مباحث ( عِلم الأصول ) : أنّ معنى الحجّية في الأمارة الناظرة إلى الواقع ، هو جعْلها عِلماً تعبّدياً في حُكم الشارع ، فيكون الطريق المعتبر فرداً مِن أفراد العِلم ، ولكنّه فردٌ تعبّديّ لا وجدانيّ ، فيترتّب عليه كلّما يترتّب على القطْع مِن الآثار ، فيصحّ الإخبار على طِبْقِه ، كما يصحّ أنْ يُخبر على طِبق العِلم الوجداني ، ولا يكون مِن القول بغير عِلم .

ويدلّنا على ذلك سيرة العقلاء ، فإنّهم يعامِلون الطريق المعتبَر معاملة العِلم الوجدانيّ ، مِن غير فَرْقٍ بين الآثار ، فإنّ اليد مثلاً أمارة عند العقلاء على مالكيّة

_______________________

(١) يأتي بعض مصادر الحديث في التعليقة رقم (١) مِن قِسم التعليقات مِن هذا الكتاب ، وفي كنز العمّال - باب الاعتصام بالكتاب والسُنّة ج ١ ص ١٠٣ و ٣٣٢ طبعة دائرة المعارف العثمانية - الشيء الكثير مِن طُرُق هذه الرواية

٣٩٥

صاحب اليد لِما في يده ، فهُم يرتِّبون له آثار المالكيّة ، وهم يُخبرون عن كَونه مالكاً للشيء بلا نكير ، ولم يثبُتْ مِن الشارع ردْعٌ لهذه السيرة العقلائية المستمرّة .

نعَم يعتبَر في الخبر الموثوق به ، وفى غيره مِن الطُرُق المعتبَرة أنْ يكون جامع لشرائط الحُجّية ، ومنها أنْ لا يكون الخبر مقطوع الكَذِب ، فإنّ مقطوع الكَذِب لا يُعقل أنْ يشملَه دليل الحُجّية والتعبُّد ، وعلى ذلك فالأخبار التي تكون مخالفة للإجماع ، أو للسُنّة القطعيّة ، أو الكتاب ، أو الحُكم العقليّ الصحيح ، لا تكون حُجّة قطعاً ، وإنْ استجمعَتْ بقيّة الشرائط المعتبَرة في الحُجّية ولا فَرْق في ذلك بين الأخبار المتكفّلة لبيان الحُكم الشرعيّ ، وغيرها .

والسِرّ في ذلك : أنّ الراوي مهما بلغَت به الوَثاقة ، فإنّ خبرَه غير مأمون مِن مخالفة الواقع ، إذ لا أقلّ مِن احتمال اشتباه الأمْر عليه ، وخصوصاً إذا كَثُرت الوسائط ، فلا بدّ مِن التشبّث بدليل الحُجّية في رفْع هذا الاحتمال ، وفرْضُه كالمعدوم وأمّا القطْع بالخلاف ، وبعدم مطابقة الخبر للواقع ، فلا يُعقَل التعبّد بعدَمِه ؛ لأنّ كاشفية القطْع ذاتية ، وحُجّيته ثابتة بحُكم العقل الضروريّ .

وإذن فلا بدّ مِن اختصاص دليل الحُجّية بغير الخبر الذي يُقطَع بكَذِبه وبمخالفته للواقع ، وهكذا الشأن في غير الخبر مِن الطُرُق المعتبَرة الأخرى التي تكشِف عن الواقع ، وهذا بابٌ تنفتح منه أبواب كثيرة ، وبه يُجاب عن كثير مِن الإشكالات والاعتراضات ، فلتكنْ على ذِكرٍ منه

تخصيص القرآن بخبر الواحد :

إذا ثبتتْ حُجّية الخبر الواحد بدليل قطعيّ ، فهل يخصَّص به عموم ما ورَد في الكتاب العزيز ؟ ذهب المشهور إلى جواز ذلك ، وخالف فيه فريقٌ مِن علماء أهل السُنّة ، فمنعَه بعضهم على الإطلاق وقال عيسى بن أبان : إنْ كان العامّ الكتابيّ قد خُصّ - مِن قبْل - بدليل مقطوع به ، جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلاّ لم يجُزْ وقال الكرخي : إذا خُصّ العامّ بدليلٍ منفصل جاز تخصيصه بعد ذلك

٣٩٦

بخبر الواحد وإلاّ فلا وذهب القاضي أبو بكر إلى الوَقف(١) .

والذي نختارُه :

هو القول المشهور والدليل على ذلك أنّ الخبر - كما فرضْنا - قطعيّ الحُجّية ، ومقتضى ذلك أنّه يجب العمل بموجِبه ما لم يمنع منه مانع .

شُبُهات وأقوال :

وما تُوهم منعَه عن ذلك أمور لا تصلُح للمنْع :

١ - قالوا : إنّ الكتاب العزيز كلام الله العظيم المُنزَل على نبيِّه الكريم ، وذلك قطعيّ لا شُبهة فيه وأمّا خبر الواحد فلا يقين بمطابقته للواقع ، ولا بصدور مضمونه عن المعصوم ، إذ لا أقلّ مِن احتمال اشتباه الراوي والعقل لا يُجوِّز أنْ تُرفَع اليد عن أمْرٍ مقطوعٍ به لدليلٍ يُحتمَل فيه الخطأ .

والجواب عن ذلك :

أنّ الكتاب - وإنْ كان قطعيّ الصدور - إلاّ أنّه لا يقين بأنّ الحُكم الواقعيّ على طِبْق عموماته ، فإنّ العمومات إنّما وَجَب العمل على طِبقِها مِن أجْل أنّه ظاهر الكلام ، وقد استقرّت العقلاء على حُجّية الظواهر ، ولم يردَع الشارع عن اتّباع هذه السيرة.

ومِن البيّن أنّ سيرة العقلاء على حُجّية الظاهر مختصّة بما إذا لم تقُمْ قرينة على خلاف الظهور ، سواء أكانت القرينة متّصلة أمْ كانت منفصلة ، فإذا نهضَت القرينة على الخِلاف وجَب رفْع اليد عن الظاهر ، والعمل على وِفْق القرينة وإذن فلا مناص مِن تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، بعد قيام الدليل القطعيّ على حُجّيته فإنّ معنى ذلك أنّ مضمون الخبر صادر عن المعصومين تعبّداً وإنْ شئتَ فقُل : إنّ سنَد الكتاب العزيز وإنْ كان قطعيّاً ، إلاّ أنّ دلالته ظنّية ، ولا محذور بحُكم العقل في أنْ تُرفَع اليد عن الدلالة الظنّية لدليل ظنّيٍّ آخَر ثبتتْ حُجّيته بدليلٍ قطعيّ .

_______________________

(١) أصول الأحكام للآمدي ج ٢ ص ٤٧٢

٣٩٧

٢ - وقالوا : قد صحّ عن المعصومين ( عليهم السلام ) أنْ تُعرَض الروايات على الكتاب ، وما يكون منها مخالفاً لكتاب الله يلزم طَرْحه ، وضَرْبه على الجدار ، وهو ممّا لم يقولُوه والخبَر الخاصّ المخالِف لعموم الكتاب ممّا تشمله تلك الأدلّة ، فيجب طرْحُه ، وعدم تصديقه .

والجواب عن ذلك :

أنّ القرائن العُرفية على بيان المراد مِن الكتاب ، لا تُعَدُّ في نظَر العُرف مِن المخالفة له في شيء ، والدليل الخاصّ قرينة لإيضاح المعنى المقصود مِن الدليل العامّ ، والمخالفة بين الدليلَين إنّما تتحقّق إذا عارَض أحدُهما صاحبَه ، بحيث يتوقّف أهل العُرف في فَهْم المراد منهما ، إذا صدَر كِلاهما مِن متكلِّمٍ واحد ، أو ممّن بحُكمه ، فخبَر الواحد الخـاصّ ليس مخالِفاً للعامّ الكتابيّ ، بل هو مبيِّن للمراد منه .

ويدلّ على ذلك أيضاً : أنّا نعلم : أنّه قد صدر عن المعصومين ( عليهم السلام ) كثير مِن الأخبار المخصِّصة لعمومات الكتاب ، والمقيِّدة لمُطلقاته ، فلو كان التخصيص أو التقييد مِن المخالف للكتاب ، لَما صحّ قولهم : ( ما خالَف قَول ربِّنا لم نقُلْه، أو هو زُخْرُف ، أو باطل ) ، فيكون صدور ذلك عنهم ( عليهم السلام ) دليلاً على أنّ التخصيص أو التقييد ليس مِن المخالفة في شيء .

أضِف إلى ذلك : أنّ المعصومين ( عليهم السلام ) قد جعلوا موافقة ، أحَد الخبرَين المتعارضَين ، للكتاب مُرجّحاً له على الخبر الآخَر ، ومعنى ذلك أنّ معارِضَه - وهو الذي لم يوافق الكتاب - حُجّة في نفسه لولا المعارَضة ، ومِن الواضح أنّ ذلك الخبر ، لو كانت مخالفته للكتاب على نحْوٍ لا يمكن الجَمْع بينهما ، لم يكن حُجّة في نفسه ، ولم يبقَ معه مجال للمعارَضة والترجيح ، وإذن فلا مناص مِن أنْ يكون المراد مِن عدم موافقته للكتاب ، أنّه يمكن الجَمْع بينهما عُرفاً بالالتزام بالتخصيص أو التقييد .

(البيان - ٢٦) .

٣٩٨

ونتيجة ذلك : أنّ الخبر المخصِّص للكتاب ، أو المقيّد له حُجّة في نفسه ، ويلزم العمل به ، إلاّ حين يُبتلى بالمعارَضة .

٣ - وقالوا : لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نَسْخه به ، والنسْخ به غير جائز يقيناً ، فالتخصيص به غير جائز أيضاً ، والسَنَد في هذه الملازمة : أنّ النسْخ - كما أوضحناه في مبحث النسْخ - تخصيص في الأزمان ، والدليل الناسِخ كاشف عن أنّ الحُكم الأوّل كان مختصّاً بزمان ينتهي بورود ذلك الدليل الناسِخ ، فنسْخ الحُكم ليس رفْعاً له حقيقةً ، بل هو رفْع له صورةً وظاهراً ، والتخصيص في الأفراد كالتخصيص في الأزمان ، فكِلاهما تخصيص ، فلو جاز الأوّل لَجاز الثاني .

والجواب عن ذلك :

أنّ الفارِق بين النَوعين مِن التخصيص هو الإجماع القطعيّ على المنْع في النسْخ ، ولولا ذلك الإجماع لَجاز النسْخ بخبر الواحد الحُجّة ، كما جاز التخصيص به ، وقد بيّنا أنّ الكتاب وإنْ كان قطعيّ السنَد ، إلاّ أنّ دلالته غير قطعيّة ، ولا مانع مِن رفْع اليَد عنها بخبر الواحد ، الذي ثبتَتْ حُجّيته بدليلٍ قطعيّ .

نعَم : الإجماع المذكور ليس إجماعاً تعبّديّاًَ ؛ بل لأنّ بعض الأمور مِن شأنه أنْ يُنقَل بالتواتر لو تحقّق في الخارج ، فإذا اختصّ بنقْلِه بعضٌ دون بعض ، كان ذلك دليلاً على كَذِب راوِيه أو خطَئِه ، فلا تشمله أدلّة الحُجّية لخبر الواحد ، ومِن أجْل هذا قُلنا : إنّ القرآن لا يثبُت بخبر الواحد .

وممّا لا رَيب فيه أنّ النسْخ لا يختصّ بقَومٍ مِن المسلمين دون قَوم ، والدواعي لنقْلِه متظافرة ، فلو ثبَتَ لكانت الأخبار به متواترة ، فإذا اختصّ الواحد بنقْلِه كان ذلك دليلاً على كَذِبه أو خطَئِه ؛ وبذلك يظهر الفارِق بين التخصيص والنسْخ ، وتبطل الملازمة بين جواز الأوّل وجواز الثاني .

٣٩٩

حدوث القرآن وقِدَمُه

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526