البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 34693
تحميل: 7585

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34693 / تحميل: 7585
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التكلّم مِن صفات الله الثبوتية مسألة حدوث القرآن وقِدَمِه أمْرٌ حادِث ، لا صِلة له بعقائد الإسلام صفات الله الذاتية ، وصفاته الفِعلية الكلام النفسيّ أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسيّ تصوّر الكلام قبل وجوده أجْنبيٌّ عن الكلام النفسيّ الكلام النفسيّ أمْرٌ خياليّ بَحت

٤٠١

لا يَشكّ أحدٌ مِن المسلمين : أنّ كلام الله الذي أنزَله على نبيِّه الأعظم بُرهاناً على نبوِّته ، ودليلاً لأُمَّته ولا يشكّ أحدٌ منهم : أنّ التكلّم إحدى صفات الله الثبوتية ، المُعبَّر عنها بالصفات الجمالية وقد وَصفَ الله سبحانه نفسَه بهذه الصِفة في كتابه ، فقال تعالى :

( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) ٤ : ١٦٤ .

أثَر الفلسفة اليونانية في حياة المسلمين :

وقد كان المسلمون بأسْرِهم على ذلك ، ولم يكن لهم أيّ اختلاف فيه ، حتّى دخَلَتْ الفلسفة اليونانية أَوساط المسلمين ، وحتّى شعَّبَتهم بدخولها فِرَقاً تُكفِّر كلُّ طائفةٍ أُختَها ، وحتّى استحال النزاع والجدال إلى المشاجَرة والقتال ، فكَم هُتِكتْ في الإسلام مِن أعراض محترَمة ، وكَم اُختُلِست مِن نفوس بريئة ، مع أنّ القاتل والمقتول يعترِفان بالتوحيد ، ويُقِرّان بالرسالة والمَعاد .

أليس مِن الغريب أنْ يتعرّض المسلم إلى هَتْك عِرْض أخيه المسلم وإلى قتْلِه ؟ وكِلاهما يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحْدَه لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبْدُه ورسوله ، جاء بالحقّ مِن عنده ، وأنّ الله يبعثُ مَن في القبور أوَلم تكنْ سيرة نبيّ الإسلام وسيرة مَن وَلِيَ الأمرَ مِن بعدِه ، أنْ يُرتِّبوا آثار الإسلام على مَن يشهد بذلك ؟ فهل رَوى أحدٌ أنّ الرسول ، أو غيره ممَّن قام مقامَه سأل أحداً عن حدوث القرآن

٤٠٢

وقِدَمِه ، أو عمّا سِواه مِن المسائل الخِلافية ، ولم يُحكَم بإسلامه إلاّ بعد أنْ يُقرّ بأحد طَرفَي الخِلاف ؟ ! !

ولسْتُ أدري - ولَيتني كنت أدري - بماذا يعتذر مَن ألْقى الخلاف بين المسلمين ، وبِمَ يُجيب ربَّه يوم يُلاقيه ، فيسأله عمّا ارتكب ؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .

وقد حدثَتْ هذه المسألة - حدوث القرآن وقِدَمُه - بعد انشعاب المسلمين شُعبتَين : أشعَريٌّ وغير أشعَريّ فقالت الأشاعرة بقِدَم القرآن ، وبأنّ الكلام على قِسمَين : لفْظيّ ونفسيّ ، وأنّ كلام الله النفسيّ قائمٌ بذاته وقديمٌ بقِدَمِه ، وهو إحدى صفاته الذاتية وذهبت المعتزلة والعدْليّة إلى حدوث القرآن ، وإلى انحصار الكلام في اللفظيّ ، وإلى أنّ التكلّم مِن الصفات الفِعلية

صفات الله الذاتية والفعلية :

والفارِق بين صفات الله الذاتية وصفاته الفِعلية ، أنّ صفات الله الذاتية : هي التي يستحيل أنْ يتّصِف سبحانه بنقيضها أبداً ، إذن فهي التي لا يصحّ سَلْبها عنه في حال ، ومثال ذلك : العِلم والقُدرة والحياة ، فالله تبارك وتقدّس لم يزَل ولا يزال عالِماً قادراً حيّاً ، ويستحيل أنْ لا يكون كذلك في حال مِن الأحوال .

وأنّ صفاته الفِعلية : هي التي يمكن أنْ يتّصِف بها في حال ، وبنقيضها في حالٍ آخَر ومِثال ذلك : الخَلْق والرِزق ، فيقال : إنّ الله خلَقَ كذا ولم يخلُق كذا ، ورَزق فلاناً ولَداً ولم يرزقْه مالاً وبهذا يظهر جليّاً : أنّ التكلّم إنّما هو مِن الصفات الفِعلية ، فإنّه يقال : كلّم الله موسى ، ولم يكلِّم فرعون ، ويقال : كلَّم الله موسى في جبَل طور ، ولم يكلِّمه في بَحْر النيل .

الكلام النفسيّ :

اتّفقت الأشاعرة على وجود نَوعٍ آخَر مِن الكلام غير النوع اللفظيّ المعروف ، وقد سَمّوه بالكلام النفسيّ ، ثمّ اختلفوا ، فذهب فريقٌ منهم إلى أنّه مدلول الكلام

٤٠٣

اللفظيّ ومعناه ، وذهبَ آخَرون إلى أنّه مُغايِر لمدلول اللفظ ، وأنّ دِلالة اللفظ عليه دِلالة غير وضعية ، فهي مِن قبيل دِلالة الأفعال الاختيارية على إرادة الفاعل وعِلْمه وحياته

والمعروف بينهم اختصاص القِدَم بالكلام ، إلاّ أنّ الفاضل القوشجي نسَب إلى بعضهم القول : بقِدَم جِلْد القرآن وغِلافه أيضـاً(١) وقد عرفت أنّ غير الأشاعرة متّفقون على حدوث القرآن ، وعلى أنّ كلام الله اللفظيّ ككلِماته التكوينيّة مخلوقٌ له ، وآية مِن آياته .

ولا يترتّب على الكلام في هذه المسألة ، وتحقيق القول فيها غَرَض مُهِم ؛ لأنّها خارجة عن أصول الدين وفروعه ، وليست لها أيّة صِلة بالمسائل الدِينية ، والمعارف الإلهية ، غير أنّني أحْببتُ التكلّم فيه ؛ ليتّضح لإخواننا الأشاعرة - وهم أكثر المسلمين عدداً - أنّ ما ذهبوا إليه ، واعتقدوا به ، وحَسِبوه ممّا يجب الاعتقاد به ، أمْرٌ خياليّ لا أساس له مِن العقل والشرع .

وتوضيح ذلك :

أنّه لا خِلاف في أنّ الكلام المؤلَّف مِن الحروف الهجائية المتدرِّجة في الوجود أمْرٌ حادِث ، يستحيل اتّصاف الله تعالى به في الأزَل وغير الأزَل والخِلاف إنّما هو في وجود سِنْخٍ آخَر مِن الكلام مُجتمِعة أجزاؤه وجوداً ، فأثبتَتْه الأشاعرة ، وقالت بأنّه مِن صفات الله الذاتية ، كما يتّصف غيره به أيضاً ونفاه غيرهم وحَصَروا الكلام في اللفظيّ ، وقالوا : إنّ قيامه بالمتكلِّم قيام الفِعل بالفاعل ، والصحيح هو القول الثاني .

ودليلُنا على ذلك :

أنّ الجُمَل : إمّا خبَرية وإمّا إنشائية أمّا الجُمَل الخَبرية ، فإنّا إذا فحَصنا مواردها لن نجِد فيها إلاّ تِسعة أمور ، وهي التي لا بدّ منها في الإخبار عن ثبوت شيءٍ لشيء ، أو عدم ثبوته له :

_______________________

(١) شرْح التجريد : المقصد الثالث ص ٣٥٤

٤٠٤

أوّلاً - مفردات الجُملة بموادِّها ، وهيئاتها .

ثانياً - معاني المُفرَدات ، ومداليلها .

ثالثاً - الهيئة التركيبيّة للجُملة .

رابعاً - ما تدلّ عليه الهيئة التركيبية .

خامساً - تصوّر المُخبِر مادّة الجُملة ، وهيئتها .

سادساً - تصوّر مدلول الجملة بمادّتها ، وهيئتها .

سابعاً - مطابقة النِسبة لِما في الخارج ، أو عدم مطابقتها له

ثامناً - عِلم المُخبِر بالمطابَقة ، أو بعدَمها ، أو شكِّه فيها .

تاسعاً - إرادة المتكلِّم لإيجاد الجُملة في الخارج مسبوقة بمقدّماتها .

وقد اعترفت الأشاعرة بأنّ الكلام النفسيّ ليس شيئاً مِن الأمور المذكورة ، وعلى هذا فلا يبقى للكلام النفسيّ عَين ولا أثَر ، أمّا مفاد الجُملة ، فلا يمكن أنْ يكون هو الكلام النفسيّ ؛ لأنّ مَفاد الجُملة الخَبرية - على ما هو المعروف - ثبوت شيء لشيء ، أو سلْبُه عنه ، وعلى ما هو التحقيق - عندنا - هو قصْد الحكاية عن الثُبوت أو السَلْب ، فقد أثبَتْنا أنّ الهيئة التركيبية للجُملة الخَبرية - بمقتضى وَضْعها - أمارةٌ على قصْد المتكلِّم للحكاية عن النِسبة ، وشأنُها في ذلك شأن ما سِوى الألفاظ مِن الأمارات الجَعْلية .

وقد حقّقنا : أنّ الوضْع هو التعهّد بجَعْل لفْظ خاصّ ، أو هيئة خاصّة مُبرَزاً لقصد تفهيم أمْرٍ ، تعلّق غَرَض المتكلِّم بتفهيمه ، وقد أَوضحنا ذلك كلّه في محلّه(١) ، هذا هو مفاد الجملة الخبرية ، والكلام النفسيّ - عند القائل به - موجودٌ نفسانيّ مِن سِنْخ الكلام ، مُغايِر للنِسبة الخارجية ولقصْد الحكاية .

_______________________

(١) في كتابنا ( أجْوَد التقريرات ) في الأصول ، المطبوع مع تعليقاتنا

٤٠٥

وأمّا الجُمَل الإنشائية فهي كالجُمَل الخبرية ، والفارِق بينهما : أنّ الجُمَل الإنشائية ليس في مواردها خارجٌ تُطابِقُه النِسبة الكلامية أو لا تُطابِقُه ، وعليه فالأمور التي لا بدّ منها في الجُمَل الإنشائية سبعة ، وهي بذاتها الأمور التسعة التي ذكرناه في الجُمل الخبرية ، ما عدا السابع والثامن منها ، وقد علِمتَ أنّ الكلام النفسيّ عند القائلين به ليس واحداً منها .

ولعلّ سائلاً يقول : ما هو مفاد هيئة الجُملة الإنشائية ؟ .

المعروف بين العلماء : أنّها موضوعة لإيجاد معنىً مِن المعاني نحْو إيجاد مناسبٍ لعالَم الإنشاء ، وقد تكرّر في كلمات كثير منهم أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ ، وقد ذكرنا في مباحثنا الأصولية أنّه لا أصْل للوجود الإنشائي ، واللفظ والمعنى : وإنْ كانت لهما وحدةٌ عَرَضيّة منشؤها ما بينهما مِن الربْط الناشئ مِن الوَضْع ، فوجود اللفظ : وجود له بالذات ، ووجود للمعنى بالعَرَض والمَجاز ؛ ومِن أجْل ذلك يسري حُسْن المعنى أو قُبْحه إلى اللفظ ، وبهذا المعنى يصحّ أنْ يُقال : وُجِد المعنى باللفظ وجوداً لفظيّاً ، إلاّ أنّ هذا لا يختصّ بالجُمل الإنشائية ، بل يعمّ الجُمل الخبرية والمفردات أيضاً .

أمّا وجود المعنى بغير وجوده اللفظيّ فينحصِر في نحْوَين ، وكِلاهما لا مَدخل للّفظ فيه أبداً :

أحدُهما : وجوده الحقيقيّ ، الذي يظهر به في نظام الوجود مِن الجواهر والأعراض ، ولا بدّ في تحقيق هذا الوجود مِن تحقّق أسبابه وعِلَلِه ، والألفاظ أجنبيّة عنها بالضرورة .

ثانيهما : وجوده الاعتباريّ ، وهو نحْوٌ مِن الوجود للشيء ، إلاّ أنّه في عالَم الاعتبار لا في الخارج ، وتحقّق هذا النحْو مِن الوجود ، إنّما هو باعتبارٍ مَن بيَده الاعتبار ، واعتبارُ كلّ مُعتبِر قائمٌ بنفسه ، ويصدر منه بالمباشرة ، ولا يتوقّف على وجود لفظٍ في الخارج أبداً .

أمّا إمضاء الشارع أو إمضاء العقلاء للعقود أو الإيقاعات الصادرة مِن الناس ، فهو وإنْ توقّف على صدور لفظٍ مِن المُنشئ أو

٤٠٦

ما بحُكم اللفظ ، ولا أثَر لاعتباره إذا تجرّد عن المُبرَز مِن قولٍ أو فِعل ، إلاّ أنّ الإمضاء المذكور متوقِّف على صدور لفظٍ قُصِد به الإنشاء ، ومَوضع البحث هو مفاد ذلك اللفظ ، الذي جيء به في المرحلة السابقة على الإمضاء .

وعلى الجُملة :

إنّ الوجود الحقيقيّ والاعتباري للشيء لا يتوقّفان على اللفظ ، وأمّا إمضاء الشَرْع أو العقلاء للوجود الاعتباري ، فهو وإنْ توقّف على صدور لفظ أو ما بحُكمِه مِن المُنشئ ، إلاّ أنّه يتوقّف عليه بما هو لفظٍ مستعمَل في معناه ، وأمّا الوجود اللفظي ، فهو عامّ لكلّ معنى دلّ عليه باللفظ ، فلا أساس للقول المعروف : ( الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ ) .

والصحيح :

إنّ الهيئات الإنشائية وُضِعَت لإبراز أمْرٍ ما مِن الأمور النفسانيّة ، وهذا الأمْر النفسانيّ قد يكون اعتباراً مِن الاعتبارات ، كما في الأمر والنهيِ ، والعقود والإيقاعات ، وقد يكون صِفة مِن الصفات ، كما في التمَنّي والترَجّي ، فهيئات الجُمل أمارات على أمْرٍ ما مِن الأمور النفسانية ، وهو في الجُمَل الخبرية قصْدُ الحكاية ، وفي الجُمل الإنشائية أمْرٍ آخَر .

ثمّ إنّ الإتيان بالجُملة المُبرَزة - بوَضعها - لأمرٍ نفسانيّ ، قد يكون بداعي إبراز ذلك الأمر ، وقد يكون بداعٍ آخَر سِواه ، وفي كَون الاستعمال في هذا القِسم الأخير مَجازاً أو حقيقةً ، كلامٌ ليس هنا محلّ ذِكره ، وللاطّلاع على تفصيل الكلام في ذلك يُراجَع تعليقاتنا الأصولية .

والذي يظهر مِن موارد استعمال لفظ الطلَب : أنّه موضوع للتصدّي لتحصيل شيءٍ ما ، فلا يقال : طلَب الضالّة ، ولا طلَب الآخرة ، إلاّ عند التصدّي لتحصيلهما ، وفي لسان العرب ( الطلَب محاولة وِجدان الشيء وأخْذِه ) ، وبهذا الاعتبار يصْدُق على الأمْر أنّه طالِب ؛ لأنّه يحاول وِجدان الفِعل المأمور به ، فإنّ الأمْر هو الذي يدعو المأمور إلى الإتيان بمتعلَّقه ، وهو بنفسه مصداق للطلَب ، لا أنّ الأمرَ لفظٌ والطلَب معناه ، فلا أساس للقول بأنّ الأمْر موضوع للطلَب ، ولا للقَول بأنّ الطلَب كلام نفسيّ يدلّ عليه الكلام اللفظيّ .

٤٠٧

وقد أصابتْ الأشاعرة في قَولهم : ( إنّ الطلَب غير الإرادة ) ، ولكنّهم أخطأوا في جعْلِه صِفة نفسيّة ، وفي جَعْله مدلولاً عليه بالكلام اللفظيّ .

نفْيِ الكلام النفسيّ :

ومِن جميع ما ذكرناه يستبْيِن القارئ : أنّه ليس في موارد الجُمل الخبَرية ، ولا الإنشائية ما يكون مِن سِنْخ الكلام قائماً بالنفْس ، ليُسمّى بالكلام النفسيّ ، نعَم لا بدّ للمتكلِّم مِن أنْ يتصوّر كلامَه قبل إيجاده ، والتصوّر وجودٌ في النفْس يُسمّونه بالوجود الذهنيّ ، فإنْ أراد القائلون بالكلام النفسيّ هذا النحْو مِن الوجود للكلام في النفْس ، فهو صحيح ، ولكنّك تعلَم أنّه غير مختصّ بالكلام ، بل يعمّ كلّ فِعلٍ اختياريّ ، والكلام إنّما لَزِم تصوّره ؛ لأنّه فِعلٌ اختياريّ للمتكلِّم .

أدلّة الأشاعرة على الكلام النفسيّ :

استدلّ القائلون بالكلام النفسيّ على مُدّعاهم بوجوه :

الأوّل : أنّ كلّ متكلِّم يُرتِّب الكلام في نفْسِه قبل أنْ يتكلَّم به ، والموجود في الخارج مِن الكلام يكشف عن وجود مثْلِه في النفْس ، وهذا وِجدانيٌّ يجِده كلّ متكلِّم في نفْسه ، وإليه أشار الأخطل بقوله :

إنّ الكلام لَفي الفؤاد وإنّما

جُعِل اللسان على الفؤاد دليلاً

وجوابه قد تقدّم :

فإنّ تركيب الكلام في النفْس هو تصوّره وإحضاره فيها ، وهو الوجود الذهنيّ الذي يعمّ الأفعال الاختياريّة كافّة ، فالكاتب والنقّاش ، لا بدّ لهما مِن أنْ يتصوّرا عمَلَهما أوّلاً قبْل أنْ يوجِداه ، فلا صِلة لهذا بالكلام النفسيّ .

الثاني : أنّه يُطلَق الكلام على الموجود منه في النفْس ، وإطلاقه عليه صحيح بلا عناية ، فيقول القائل : إنّ في نفْسي كلاماً لا أُريد أنْ أُبدِيَه ، وقد قال الله عزّ اسمُه :

٤٠٨

( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ٦٧ : ١٣ .

وجوابه يظهر ممّا تقدّم :

فإنّ الكلام كلامٌ في وجوده الذهنيّ ، كما هو كلام في وجوده الخارجيّ ، ولكلّ شيءٍ نحْوان مِن الوجود : خارجيّ وذهنيّ ، والشيء هو ذلك الشيء في كِلا وجودَيه ، وإطلاق الاسم عليه بلا عناية ولا يختصّ هذا بالكلام ، فيقول المهندس : إنّ في نفْسي صورةَ بِناءٍ سأنقشها في خارطة ، ويقول المتعبِّد : إنّ في نفْسي أنْ أصوم غداً .

الثالث : أنّه يصحّ إطلاق المتكلِّم على الله ، وهذه الهيئة - اسم الفاعل - وُضعَت لإفادة قيام المبدأ بالذات قياماً وصفيّاً ؛ ولذا لا يُطلَق المتحرِّك والساكن والنائم إلاّ على مَن تلبَّس بالحرَكة والسكون والنوم ، دون مَن أَوجدَها وواضحٌ أنّ الكلام اللفظيّ لا يمكن أنْ يتّصف به الله تعالى ؛ لاستحالة اتّصاف القديم بالصِفة الحادثة ، فلا مَناص مِن الالتزام بالكلام القديم ، ليصحّ إطلاق المتكلِّم على الله سبحانه باعتبار اتّصافه به .

وجوابه :

إنّ المبدأ في صيغة المتكلِّم ليس هو الكلام ، فإنّه غير قائم بالمتكلِّم قيام الصِفة بمَوصوفها ، حتّى في غير الله ، فإنّ الكلام كيفيّة عارِضة للصوت الحاصل مِن تمَوُّج الهواء ، وهو أمْرٌ قائم بالهواء لا بالمتكلِّم ، والمبدأ في الصيغة المذكورة هو التكلُّم ، ولا نعقِل له معنى غير إيجاد الكلام ، فإطلاقه على الله وعلى غيره بمعنىً واحد .

وأمّا قول المستدلّ : ( إنّ هيئة اسم الفاعل وُضِعت لإفادة قيام المبدأ بالذات ، قيام الوَصف بالمَوصوف ) ، فهو غلَطٌ بيِّن ، فإنّ الهيئة إنّما تُفيد قيام المبدأ بالذات

٤٠٩

نحْواً مِن القيام .

أمّا خصوصيات القيام مِن كَونها إيجاديّة أو حُلوليّة أو غيرهما ، فهي غير مأخوذة في مفاد الهيئة ، وهي تختلف باختلاف الموارد ، ولا تدخل تحت ضابطٍ كلّيّ ، فالعالِم والنائم مثلاً لا يُطلَقان على مُوجِد العِلم والنوم ، لكن القابض والباسط والنافع والضارّ تُطلَق على مُوجِد هذه المبادئ ، وعليه فعدَم صحّة إطلاق المتحرِّك على مُوجِد الحرَكة ، لا يستلزِم عدم صحّة إطلاق المتكلِّم على مُوجِد الكلام .

وحاصل ما تقدّم :

إنّ الكلام النفسيّ أمْرٌ خياليّ بَحْت ، لا دليل على وجوده مِن وِجدانٍ أو برهان ومِن المناسب أنْ نختِم الكلام بما ذَكره الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) في هذا الموضوع ، فقد روى الشيخ الكُلَيني بإسناده عن أبي بصير قال :

( سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : لم يزَلْ الله عزّ وجلّ ربُّنا ، والعِلم ذاتُه ولا معلوم ، والسَمْع ذاتُه ولا مسموع ، والبصَر ذاتُه ولا مُبصَر ، والقُدرة ذاتُه ولا مقدور فلمّا أحْدَث الأشياء ، وكـان المعلوم وقَع العِلم منه على المعلوم ، والسَمْع على المسموع ، والبصر على المُبصَر ، والقدرة على المقدور قال : قلتُ : فلم يزَل الله متحرِّكاً ؟ قال : فقال : تعالى الله عن ذلك ، إنّ الحرَكة صِفةٌ مُحدَثة بالفِعل قال : فقلت : فلم يزَل الله متكلِّماً ؟ قال : فقال : إنّ الكلام صِفةٌ مُحدَثة ليست بأزلِيّة ، كان الله عزّ وجلّ ولا متكلِّم )(١) .

_______________________

(١) أصول الكافي باب صِفات الذات ص ٥١ .

٤١٠

تفسير فاتحة الكِتاب

٤١١

محلّ نزولِها فضْلُها آياتُها غاياتُها القراءة الإعراب اللُغة التفسير تحليل آية : الحمْد لله ربِّ العالَمين . تحليل آية : إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين تحليل آية : اهدنا الصراط المستقيم . البحث الأوّل حَول آية : البَسْملَة . البحث الثاني حَول آية : الحمْد . البحث الثالث حَول آية : اهدنا .

٤١٢

(١)

سورة الفاتحة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)

مكّية وآياتها سَبع

(البيان - ٢٧)

٤١٣

محلُّ نُزولِها :

المعروف : أنّ هذه السورة مكّية ، وعن بعض أنّها مدَنِيّة ، والصحيح هو القول الأوّل ، ويدلّ على ذلك أمْران :

الأوّل : أنّ فاتحة الكتاب هي السَبْع المثاني(١) ، وقد ذُكر في سورة الحِجْر أنّ السَبْع المثاني نزلتْ قبل ذلك ، فقال تعالى :

( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) ١٥ : ٨٧ .

وسورة الحِجْر مكّية بلا خلاف : فلا بدّ وأنْ تكون فاتحة الكتاب مكّية أيضاً .

الثاني : أنّ الصلاة شُرِّعتْ في مكّة ، وهذا ضروريّ لدى جميع المسلمين ، ولم تُعهَدْ في الإسلام صلاةٌ بغير فاتحة الكتاب ، وقد صرّح النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك بقوله : ( لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب ) ، وهذا الحديث منقول عن طريق الإمامية وغيرهم .

وذهبَ بعض : إلى أنّها نزلَتْ مرّتين ، مرّةً في مكّة ، وأخرى في المدينة تعظيماً لشأنها ، وهذا القول مُحتمَل في نفْسه ، وإنْ لم يثبُتْ بدليل ، ولا يبعُد أنْ يكون هو الوجْه في تسمِيَتها بالسَبْع المثاني ، ويُحتمَل أنْ يكون الوجْه هو وجوب الإتيان بها مرّتين في كلِّ صلاة : مرّة في الركعة الأُولى ، ومرّة في الركعة الثانية

_______________________

(١) صرّح بذلك في عِدّةٍ مِن الروايات : منها رواية الصدوق والبخاري ، وسنذكرهما بعد هذا

٤١٤

فضْلُها :

كفى في فضْلِها : أنّ الله تعالى قد جعَلَها عِدْلاً للقرآن العظيم في آية الحِجْر المتقدّمة ، وأنّه لا بدّ مِن قراءتها في الصلاة ، بحيث لا تُغني عنها سائر السِوَر ، وأنّ الصلاة هي عِماد الدِين ، وبها يمتاز المسلم عن الكافر ( وسنبيِّن - إنْ شاء الله تعالى - ما اشتملَتْ عليه هذه السورة مِن المعارف الإلهية ، على اختصارها ) .

روى الصدوق بإسناده عن الحسن بن عليّ - العسكريّ - عن آبائه عن أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) .

( أنّه قال : بسم الله الرحمن الرحيم آيةٌ مِن فاتحة الكتاب ، وهي سَبْع آيات تمامها : بسم الله الرحمن الرحيم ، سمعتُ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : إنّ الله تعالى قال لي يا محمّد :

( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) ١٥ : ٨٧ .

فأفْرَد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب ، وجعَلَها بإزاء القرآن العظيم ، وإنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العـرش . )(١) .

وروى البخاري عن أبي سعيد بن المعلّى ، قال :

( كنت أُصلّي فدعاني النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) ، فلَم أُجِبْه قلت : يا رسول الله إنّي كنتُ أُصلّي قال : ألَم يقُل الله :

( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ) ٨ : ٢٤ .

ثمّ قال : ألا أعلِّمُك أعظم سورة في القرآن ، قبْل أنْ تخرج مِن المسجد ؟فأخَذ بيدي ، فلمّا أرَدْنا أنْ نخرج ، قلت : يا رسول الله إنّك قلتَ ألا أعلِّمُك أعظم

_______________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٢٦

٤١٥

سورة مِن القرآن ؟ قال : الحمْدُ لله ربِّ العالَمين ، هي السَبْع المثاني والقرآن العظيم ، الذي أوتيتُه  (١)

آياتُهـا :

المعروف بين المسلمين : أنّ عدد آياتها سَبْع ، بل لا خِلاف في ذلك ، ورُويَ عن حسين الجعفي : أنّها سِتٌّ ، وعن عمرو بن عبيد : أنّها ثمان ، وكِلا القولَين شاذّ مخالف لِما اتّفقت عليه روايات الطريقَين مِن أنّها سَبْعُ آيات وقد مرَّ أنّها المراد مِن السَبْع المثاني في الآية المتقدِّمة ، فمَن عَدَّ البسْمَلة آية ذهبَ إلى أنّ قوله تعالى :( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) إلى آخِر السورة آية واحدة ومَن لم يعدّها آية ذهبَ إلى أنّ قوله تعالى :( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) آية مستقلّة .

غاياتُها :

الغاية مِن السورة المبارَكة بيان حَصْر العبادة في الله سبحانه ، والإيمان بالمَعاد والحَشْر وهذه هي الغاية القُصوى مِن إرسال الرسول الأكرم وإنزال القرآن ، فإنّ دِين الإسلام قد دعا جميع البشَر إلى الإيمان بالله ، وإلى توحيده :

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ٣ : ٦٤ .

وأنّه لا يستحقّ غيره لأنْ يُعبَد ، فالبَشَر - وكلّ موجود مُدرَك - يجب أنْ يكون خضوعه ، وتوجّهه لله وَحْده وبرهانُ ذلك - في هذه السورة الكريمة -

_______________________

(١) البخاري ج ٦ ص ١٠٣ باب فاتحة الكتاب

٤١٦

هو أنّ العاقل إنّما يخضع لمَن سواه ويعبُدُه ، ويتوجّه إليه بحوائجِه ، إمّا لكمالٍ في ذلك المعبود المُستعان - والناقص مجبول على الخضوع للكامل - وإمّا لإحسانه وإنعامه عليه ، وإمّا لاحتياج الناقص في جَلْب منفعةٍ أو دفْع مضرّة ، وإمّا لقَهْر الكامل وسلطانه ، فيخضع له خوفاً مِن مخالفته وعصيانه .

هذه هي الأسباب الموجِبة للعبادة والخضوع ، وأيّها ينظر فيه العاقل يراه منحصراً في الله سبحانه ، فالله هو المستحِق للحَمْد، فإنّه المستجمِع لجميع صفات الكمال ، بحيث لا يتطرّق إلى ساحة قُدْسِه شائبةُ نَقْص .

والله هو المنعِم على جميع العوالم الظاهرية والباطنية المجتمعة والمتدرّجة ، وهو مربّيها تكويناً وتشريعاً والله هو المتّصف بالرحمة الواسعة غير القابلة للزوال والله هو المالِك المُطلَق ، والسلطان على الخَلْق بلا شريك ولا مُنازِع فهو المعبود بالحقّ لكماله وإنعامه ورحمته وسلطانه .

فلا يتوجّه الإنسان العاقل إلاّ إليه ، ولا يعبُد إلاّ إيّاه ، ولا يستعين إلاّ به ، ولا يتوكّل إلاّ عليه ؛ لأنّ ما سوى الله مُمكن ، والمُمكن محتاج في ذاته والاستعانة والعبادة لا تكونان إلاّ للغنيّ :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) ٣٥ : ١٥

وبعد أنْ أثبَت تبارك وتعالى أنّه هو المستحِق للحَمْد والثناء بقوله :( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، لقّنَ عباده أنْ يقولوا بألسنتهم وقلوبهم :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

ثمّ أشار تعالى إلى أحوال البشَر بعد إرسال الرُسُل ، وإنزال الكتُب ، وإتمام الحُجّة عليهم ، وأنّهم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسـام :

الأوّل : مَن شمِلَته العناية الإلهية والنِعَم القُدسيّة ، فاهتدى إلى الصراط المستقيم ، فسلَكَه إلى مقصدِه المطلوب وغايته القُصوى ، ولم ينحرِف عنه يميناً ولا شمالاً .

٤١٧

الثاني : مَن ضلَّ الطريق فانحرف يمنةً ويسرةً ، إلاّ أنّه لم يعانِد الحقّ ، وإنْ ضلَّ عنه لتقصيره ، وزعَمَ أنّ ما اتّبعه هو الدِين ، وما سلَكَه هو الصراط السويّ

الثالث : مَن دعاه حبّ المال والجاه إلى العِناد ، فعانَد الحقّ ونابَذَه ، سواء أعَرِف الحقّ ثمّ جَحَده ، أم لم يعْرِفه ومثل هذا - في الحقيقة - قد عبَدَ هَواه ، كما أشار سبحانه إليه بقوله :

( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) ٤٥ : ٢٣ .

وهذا الفريق أشدّ كُفراً مِن سابِقه ، فهو يستحقّ الغضَب الإلهي بعنادِه زائداً على ما يستحقّه بضلالِه

وبما أنّ البشَر لا يخلو مِن حُبّ الجاه والمال ، ولا يؤمَن عليه مِن الوقوع في الضلال ، وغلَبَة الهوى ما لم تشْمِلْه الهداية الربّانية ، كما أُشير إلى هذا في قوله تعالى :

( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ٢٤ : ٢١ .

لقَّنَ الله عبيدَه أنْ يطلبوا منه الهداية ، وأنْ يقولوا :( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) ، فالعبْدُ يطلُب مِن ربِّه الهداية المختصّة بالمؤمنين ، وقد قال تعالى :

( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ٢ : ٢١٣ .

ويسأله أنْ يُدخلُه في زمرة مَن أنْعَم عليهم ، وفي السالِكين طريقتهم ، كما أُشير إليه بقوله تعالى :

( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ

٤١٨

آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) ١٩ : ٥٨ .

وأنْ لا يسلُك طريق الطائفتَين الزائِغتَين عن الهدى : ( المغضوبِ عليهم والضالِّين ) .

خُلاصة السورة :

إنّه تعالى مجَّد نفْسَه بما يرجع إلى كمال ذاته ، ومجَّدها بما يرجع إلى أفعاله مِن تربيَتِه العوالِم كلّها ، ورحمَتُه العامّة غير المُنفكَّة عنه ، وسُلطانه يوم الحَشْر وهو يوم الجزاء ، وهذا هو هدف السورة الأُولى .

ثمّ حَصَر به العبادة والاستعانة ، فلا يستحِقّ غيرُه أنْ يُعبَد أو يُستعان ، وهذا هو هدَفُها الثاني .

ثمّ لقّن عبيدَه أنْ يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي يوصِلُهم إلى الحياة الدائمة ، والنعيم الذي لا زوال له ، والنور الذي لا ظُلمة بعده ، وهذا هو هدَفُها الثالث

ثمّ بيَّن أنّ هذا الصراط خاصّ بمَن أنعَم الله عليهم برحمته وفضْلِه ، وهو يُغاير : صِراط مَن غَضِب عليهم ، وصِراط الآخَرين الذين ضلّوا الهدى ، وهذا هو هدفُه الرابع .

٤١٩

تحليل آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

* * *

اللُغة

الاسم :

في اللُغة بمعنى العَلامة ، وهَمْزتُه هَمْزة وَصْل ، وليست مِن الحروف الأصليّة ، وفيه لُغات كثيرة ، والمعروف منها أربع : اسم ، سم وكلاهما بكَسْر الأوّل وضمِّه ، وهو مأخوذ مِن السموّ ( الارتفاع ) ، باعتبار أنّ المعنى يرتفِع به ، فيَخرج مِن الخَفاء إلى الظهور ، فإنّ المعنى يحضر في ذِهن السامع بمجرّد سماع اللفظ ، بعد أنْ لم يكن فيه ، أو باعتبار أنّ اللفظ يرتفِع بالوَضع ، فيَخرج مِن الإهمال إلى الاستعمال .

وقيل باشتقاقه مِن السِمَة ( العَلامة ) ، وهو خطأ ؛ لأنّ جمْع اسم أسماء ، وتصغيره سُمَي ، وعند النِسبة إليه يقال : سمَوي واسمي ، وعند التعدِيَة يقال : سمَيت وأسْمَيت ولو كان مأخوذاً مِن السِمة لقيل في جمْعِه أَوسام ، وفي تصغيره وُسَيم ، وفي النِسبة إليه وَسْمي ، وعند التعدِيَة وسَمْت و أَوسَمت .

٤٢٠