البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 34702
تحميل: 7585

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34702 / تحميل: 7585
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهذا الحُكم عقليٌّ فِطريّ ، شاءت الحِكمة أنْ تُنبِّه العِباد عليه في هذه الآيات المبارَكة ، وهو سارٍ في كلِّ موجود مُمكن محتاج ، وإنْ كان نبيّاً :

( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ ٥ : ١١٦. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ٥ : ١١٧) .

وأُبطل هذا الاعتقاد مرّةً ثالثة ، بأنّ الله قريبٌ مِن عباده يسمع نجواهم ويُجيب دعواهم ، وأنّه القائم بتدبيرهم وبتربيَتهم ، فقال تعالى :

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ٥٠ : ١٦. أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ٣٩ : ٣٦. ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ٤٠ : ٦٠. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ٦ : ١٨. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٣ : ٢٩. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ١٠ : ١٠٧. وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى

(البيان - ٣٠)

٤٦١

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٦ : ١٧. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ١٣ : ٢٦. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ٥١ : ٥٨. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ٤٢ : ١١. أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ٤١ : ٥٤) .

فالله سبحانه غير معزول عن خلْقِه ، وأمورهم كلُّها بيَده ، ولا يفتقِر العِباد إلى وسائطٍ تُبلِغُه حوائجَهم ؛ ليكونوا شُرَكاء له في العبادة ، بل الناس كُلّهم شَرعٌ سَواء في أنّ الله ربُّهم وهو القائم بشؤونهم :

( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ٥٨ : ٧. كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ٣ : ٤٠. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ٥ : ١) .

وعلى الجُملة ، لا شكّ لِمُسلمٍ في ذلك وهذا ما يمتاز به المُوَحِّد عن غيره ، فمَن عَبَد غير الله ، واتّخذه ربّاً كان كافراً مُشرِكاً .

العبادة والطاعة :

لا شكّ أيضاً في وجوب طاعة الله سبحانه ، وفي استحقاق العِقاب عقلاً على مخالَفته ، وقد تكرّر في القرآن وَعْد الله تعالى لمَن أطاعه بالثواب ، ووَعيده لمَن عصاه بالعِقاب .

وأمّا إطاعة غير الله تعالى ، فهي على أقسام :

الأوّل : أنْ تكون إطاعته بأمْرٍ مِن الله سبحانه وبإذنه ، كما في إطاعة الرسول

٤٦٢

الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأوصيائه الطاهرين ( عليهم السلام ) ، وهذا في الحقيقة إطاعة الله سبحانه ، فهو واجب أيضاً بحُكم العقل :

( مَنْ يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ٤ : ٨٠. وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ٤ : ٦٤) .

ومِن أجْل ذلك قَرَن الله طاعة رسوله بطاعته ، في كلِّ مَوردٍ أمَرَ فيه بطاعته :

( وَمَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ٣٣ : ٧١. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ٤ : ٥٩) .

الثاني : أنْ تكون إطاعة غير الله منهيّاً عنها ، كإطاعة الشيطان وإطاعة كلِّ مَن يأمُر بمعصية الله ، ولا شكّ في حُرمة هذا القِسم شرعاً ، وقُبْحه عقلاً ، بل قد تكون كُفراً أو شِركاً ، كما إذا أمَر بالشِرك أو الكُفر :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِع الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ٣٣ : ١. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ٧٦ : ٢٤. وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ٣١ : ١٥) .

الثالث : أنْ تكون إطاعة غير الله مجرّدة ، لا أمْرٌ بها مِن الله ولا نهيٌ ، وهي حينئذٍ تكون جائزة لا واجبة ولا محرّمة

٤٦٣

العبادة والخضوع :

لا ينبغي الرَيب في أنّه لا بدّ للمخلوق مِن أنْ يخضَع ويتذلَّل لخالِقه ، فإنّ ذلك ممّا حَكم به العقل ، وندَب إليه الشَرْع .

وأمّا الخضوع والتذلّل للمخلوق ، فهو على أقسام :

أحدها : الخضوع لمخلوقٍ مِن دون إضافة ذلك المخلوق إلى الله بإضافة خاصّة ، وذلك : كخضوع الوَلَد لوالِده ، والخادم لسيِّده ، والمتعلِّم لمُعلِّمه ، وغير ذلك مِن الخضوع المتداوَل بين الناس ، ولا ينبغي الشكّ في جواز هذا القِسم ، ما لم يرِد فيه نهيٌ كالسجود لغير الله ، بل جواز هذا القِسم مقتضى الضرورة ، وليس فيه أدنى شائبة للشِرك ، وقد قال عزّ مِن قائل :

( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) ١٧ : ٢٤ .

أفَتَرى أنّه سبحانه أمَر بعبادة الوالِدَين ، حيث أمَر بالتذلّل لهما ؟ مع أنّه قد نهى عن عبادة مَن سِواه قبْل ذلك :

( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ١٧ : ٢٣ .

أَمْ تَرى أنّ خَفْض الجَناح مِن الذُلّ - كما تفعله صِغار الطير - هو مِن الإحسان الذي أَمَرت به الآية الكريمة ، وجعَلَتْه مقابلاً للعبادة ، وإذن فلا يكون كلُّ خضوعٍ وتذلّل لغير الله شِركاً بالله تعالى .

ثانيها : الخضوع للمخلوق باعتقاد أنّ له إضافةً خاصّة إلى الله ، يَستحقُّ مِن أجْلها أنْ يُخضَع له ، مع أنّ العقيدة باطلة ، وأنّ هذا الخضوع بغير إذْنٍ مِن الله ، كما في خضوع أهل الأديان والمذاهب الفاسدة لرؤسائهم ولا رَيب في أنّه

٤٦٤

إدخالٌ في الدِين لِما لم يكن منه ، فهو تشريع محرَّم بالأدلّة الأربعة ، وافتراءٌ على الله تعالى .

( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) ١٨ : ١٥ .

ثالثها : الخضوع للمخلوق والتذلّل له بأمْرٍ مِن الله وإرشاده ، كما في الخضوع للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولأوصيائه الطاهرين ( عليهم السلام ) ، بل الخضوع لكلّ مؤمن ، أو كلّ ما له إضافة إلى الله توجِب له المنزلة والحُرمة ، كالمسجد والقرآن والحَجَر الأسوَد ، وما سِواها مِن الشعائر الإلهية وهذا القِسم مِن الخضوع محبوبٌ لله ، فقد قال تعالى :

( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ٥ : ٥٤ .

بل هو لدى الحقيقة خضوعٌ لله ، وإظهارٌ للعبودية له ، فمَن اعتقد بالوحدانية الخالِصة لله ، واعتقَدَ أنّ الإحياء والإماتة والخَلْق والرِزق والقَبْض والبسْط والمغفرة والعقوبة كلّها بيَده ، ثمّ اعتقَدَ بأنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأَوصياءه الكِرام ( عليهم السلام ) :

( عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ٢١ : ٢٦. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ٢١ : ٢٧) .

وتوسّل بهم إلى الله ، وجعلهم شُفَعاء إليه بإذنه ، تجليلاً لشأنهم وتعظيماً لمقامهم ، لم يخرج بذلك عن حدِّ الإيمان ، ولم يعبُدْ غير الله .

ولقد عَلِم كلُّ مسلم أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يُقَبِّل الحجَر الأسوَد ، ويستلمه بيده إجلالاً لشأنه وتعظيماً لأمره وكان ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يزور قبور المؤمنين والشهداء والصالحين ، ويُسلِّم عليهم ، ويدعو لهم

٤٦٥

وعلى هذا جرَت الصحابة والتابعون خلَفاً عن سلَف ، فكانوا يزورون قبر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ويتبرّكون به ويُقبِّلونه ، ويستشفعون برسول الله ، كما كانوا يستشفعون به في حياته .

وهكذا كانوا يفعلون مع قبور أئمّة الدين وأولياء الله الصالحين ، ولم يُنكِر ذلك أحدٌ مِن الصحابة ، ولا أحد مِن التابعين أو الأعلام ، إلى أنْ ظهر أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني فحرَّم شدّ الرحال إلى زيارة القبور ، وتقبيلها ، ومَسِّها ، والاستشفاع بمَن دُفِن فيها ، حتّى أنّه شدّد النكير على مَن زار قبر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، أو تبرّك به بتقبيلٍ أو لَمْس ، وجعل ذلك مِن الشِرك الأصغر تارةً ، ومِن الشِرك الأكبر أخرى .

ولمّا رأى علماء عصره عامّة أنّه قد خالَف في رأيه هذا ما ثبَت مِن الدِين ، وضرورة المسلمين ؛ لأنّهم قد روَوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) حثّه على زيارة المؤمنين عامّة ، وعلى زيارته خاصّة بقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( مَن زارني بعد مماتي كان كمَن زارني في حياتي ) ، وما يؤدّي هذا المعنى بألفاظ أُخَر(١) ، تبرأوا منه ، وحكَموا بضلاله ، وأَوجَبوا عليه التوبة ، فأمروا بحبْسِه إمّا مطلقاً أو على تقدير أنْ لا يتوب .

والذي أَوقع ابن تيمية في الغلط - إنْ لم يكن عامداً لتفريق كلمة المسلمين - وهو تخيّله أنّ الأمور المذكورة شِرك بالله ، وعبادة لغيره ولم يُدرك أنّ هؤلاء الذين يأتون بهذه الأعمال يعتقدون توحيد الله ، وأنّه لا خالق ولا رازق سواه ، وأنّ له الخلْق والأمر ، وإنّما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر الله ، وقد علِمتَ أنّها راجعة إلى تعظيم الله والخضوع له ، والتقرّب إليه سبحانه ، والخلوص لوجهه الكريم ، وأنّه ليس في ذلك أدنى شائبة للشِرك ؛ لأنّ الشِرك - كما عرفت - أنْ يعبُد الإنسان غير الله.

والعبادة إنّما تتحقّق بالخضوع لشيءٍ على أنّه ربٌّ يُعبَد ، وأين هذا مِن تعظيم النبيّ الأكرم وأوصيائه الطاهرين ( ع ) بما

_______________________

(١) انظُر التعليقة رقم (١٧) للوقوف على الروايات التي استفاضت في جواز زيارة القبور ، وقد ذَكر جملة منها عبد السلام بن تيمية - في قِسم التعليقات

٤٦٦

هو نبيّ وهُم أوصياء ، وبما أنّهم عِبادٌ مُكرَمون ، ولا رَيب في أنّ المسلم لا يَعبُد النبيّ أو الوصيّ ، فضلاً عن أنْ يعبُد قبورهم .

وصَفوة القول : أنّ التقبيل والزيارة وما يُضاهيهما مِن وجوه التعظيم ، لا تكون شِركاً بأيّ وَجهٍ مِن الوجوه ، وبأيّ داعٍ مِن الدواعي ، ولو كان كذلك لكان تعظيمُ الحيِّ مِن الشِرك أيضاً ، إذ لا فَرق بينه وبين الميِّت مِن هذه الجهة - ولا يلتزم ابن تيمية وأتباعه بهذا - .

ولَلِزم نِسبة الشِرك إلى الرسول الأعظم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وحاشاه ، فقد كان يزور القبور ، ويُسلِّم على أهلها ، ويُقبِّل الحجَر الأسوَد كما سبَق ، وعلى هذا فيدور الأمْر بين الحُكم بأنّ بعض الشِرك جائز لا محذور فيه ، وبين أنْ يكون التقبيل والتعظيم - لا بعنوان العبودية - خارجاً عن الشِرك وحدوده ، وحيث إنّه لا مجال للأوّل لظهور بطلانه ، فلا بدّ وأنْ يكون الحقّ هو الثاني ، فإذن تكون الأمور المذكورة داخلة في عبادة الله وتعظيمه :

( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ٢٢ : ٣٢ .

وقد مرّت الروايات الدالّة على استحباب زيارة قبر النبيّ وأولياء الله الصالحين .

السجود لغير الله :

لقد اتّضح ممّا قدّمنا أنّ الخضوع لأيّ مخلوق إذا نُهيَ عنه في الشريعة لم يجز فَعلُه ، وإنْ لم يكن على نحوِ التألّه ، ومِن هذا القبيل السجود لغير الله ، فقد أجمَع المسلمون على حُرمة السجود لغير الله ، قال عزّ مِن قائل :

( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) ٤١ : ٣٧ .

فإنّ المستفاد منه أنّ السجود ممّا يختصّ بالخالق ، ولا يجوز للمخلوق

وقال تعالى :

٤٦٧

( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) ٧٢ : ١٨ .

ودلالة هذه الآية الكريمة على المقصود مبنيّة على أنّ المراد بالمساجد المساجد السبعة ، وهي الأعضاء التي يضعها الإنسان على الأرض في سجوده وهذا هو الظاهر ، ويدلّ عليه المأثور(١) ، وكيف كان فلا رَيب في هذا الحُكم ، وأنّه لا يجوز السجود لنبيٍّ أو وصيٍّ فضلاً عن غيرهما .

وأمّا ما يُنسَب إلى الشيعة الإمامية مِن أنّهم يسجدون لقبور أئمّتهم ، فهو بهتانٌ مَحْض ، ولسوف يجمع الله بينهم وبين مَن افترى عليهم وهو أحكَمُ الحاكمين ، ولقد أفرَط بعضهم في الفِرية ، فنَسَب إليهم ما هو أدْهى وأمَضّ ، وادّعى أنّهم يأخذون التراب مِن قبور أئمّتهم ، فيسجدون له ، سبحانك اللهمّ هذا بهتانٌ عظيم(٢) ، وهذه كُتُب الشيعة : قديمها وحديثها ، مطبوعها ومخطوطها ، وهي منتشرة في أرجاء العالَم متّفقة على تحريم السجود لغير الله ، فمَن نسَب إليهم جواز السجود للتربة ، فهو إمّا مفتَرٍ يتعمّد البُهت عليهم ، وإمّا غافل لا يفرِّق بين السجود لشيءٍ والسجود عليه .

والشيعة يعتبرون في سجود الصلاة أنْ يكون على أجزاء الأرض الأصلية : مِن حجَر أو مدَر أو رَمْل أو تُراب ، أو على نباتِ الأرض غير المأكول والملبوس ، ويرَون أنّ السجود على التراب أفضل مِن السجود على غيره ، كما أنّ السجود على التُربة الحُسينية أفضل مِن السجود على غيرها وفي كلّ ذلك اتّبعوا أئمّة مذهبهم الأوصياء المعصومين(٣) ، ومع ذلك كيف تصحّ نِسبة الشِرك إليهم ، وأنّهم يسجدون لغير الله(٤) .

_______________________

(١) راجع الوسائل باب حدّ القَطع مِن أبواب حدّ السرقة ج ٣ ص ٤٤٨ .

(٢) انظُر التعليقة رقم (١٨) للوقوف على التُهمة التي ألصقها الآلوسي بالشيعة في صيامهم - في قِسم التعليقات .

(٣) راجع الوسائل باب ١٦٢ مِن أبواب ما يُسجَد عليه ص ٢٣٦ .

(٤) انظُر التعليقة رقم (١٩) بشأن حوارٍ جرى بين المؤلِّف وأحد علماء الحجاز حول التربة الحسينية - في قِسم التعليقات

٤٦٨

والتُربة الحُسينية ليست إلاّ جزءٌ مِن أرض الله الواسعة ، التي جعَلَها لنبيِّه مسجداً وطَهوراً(١) ، ولكنّها تُربةٌ ما أشرَفها وأعظمها قدْراً ، حيث تضمّنت ريحانة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وسيّد شباب أهل الجنّة مَن فدى بنفسه ونفيسه ونفوس عشيرته وأصحابه في سبيل الدِين وإحياء كلمة سيّد المرسَلين .

وقد ورَدَت مِن الطريقَين في فضْل هذه التُربة عدّة روايات عن رسول الله(٢) ، وهَب أنّه لم يرِد عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولا عن أوصيائه ما يدلّ على فضْل هذه التُربة ، أفليس مِن الحقّ أنْ يلازم المسلم هذه التُربة ، ويسجد عليها في مواقع السجود ؟ فإنّ في السجود عليها - بعد كَونها ممّا يصحّ السجود عليه في نفْسه - رمزاً وإشارةً إلى أنّ ملازمها على منهاج صاحبها ، الذي قُتِل في سبيل الدِين وإصلاح المسلمين .

آراء حَول السجود لآدم :

بقيَ الكلام في سجود الملائكة لآدم ، وكيف جاز ذلك ؟ مع أنّ السجود لا يجوز لغير الله ، وقد أجاب العلماء عن ذلـك بوجوه :

الرأي الأوّل :

إنّ سجود الملائكة هنا بمعنى الخضوع ، وليس بمعنى السجود المعهود .

ويردّه : أنّ ذلك خلاف الظاهر مِن اللفظ ، فلا يُصار إليه مِن غير قرينة ، وأنّ الروايات قد دلّت على أنّ ابن آدم إذا سَجَد لربِّه ضَجَر إبليس وبكى ، وهي دالّة على أنّ سجود الملائكة الذي أمَرَهم الله به ، واستكبر عنه إبليس كان بهذا المعنى المعهود ؛ ولذلك يضْجُر إبليس ويبكي مِن إطاعة ابن آدم للأمْر ، وعصيانه هو مِن قَبْل

_______________________

(١) راجع سُنن البيهقي باب التيمّم بالصعيد الطيِّب ج ١ ص ٢١٢ ، ٢١٣ .

(٢) راجع الوسائل باب استحباب السجود على تُربة الحسين ( ع ) ج ١ ص ٢٣٦ ، انظر التعليقة رقم (٢٠) بشأن فضيلة تُربة الحسين ( ع ) في قِسم التعليقات

٤٦٩

الرأي الثاني :

إنّ سجود الملائكة كان لله ، وإنّما كان آدم قِبلةً لهم ، كما يقال : صلّى للقِبلة أي إليها وقد أمَرَهم الله بالتوجّه إلى آدم في سجودهم تكريماً له وتعظيماً لشأنِه .

ويردّه : أنّه تأويل يُنافيه ظاهر الآيات والروايات ، بل يُنافيه صريح الآية المبارَكة فإنّ إبليس إنّما أبى عن السجود بادّعاء أنّه أشرف مِن آدم ، فلو كان السجود لله ، وكان آدم قِبلة له ، لَما كان لقوله :

( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) ١٧ : ٦١ .

معنىً ؛ لجواز أنْ يكون الساجد أشرف ممّا يستقْبِلُه .

الرأي الثالث :

إنّ السجود لآدم حيث كان بأمْر مِن الله تعالى ، فهو في الحقيقة خضوع لله وسجود له .

وبيان ذلك : أنّ السجود هو الغاية القصوى للتذلّل والخضوع ؛ ولذلك قد خصّه الله بنفْسه ، ولم يُرخِّص عباده أنْ يسجدوا لغيره ، وإنْ لم يكن السجود بعنوان العبودية مِن الساجد ، والربوبيّة للمسجود له غير أنّ السجود لغير الله إذا كان بأمْر مِن الله كان في الحقيقة عبادةٌ له وتقرّباً إليه ؛ لأنّه امتثال لأمْره ، وانقياد لحُكْمه ، وإنْ كان في الصورة تذلّلاً للمخلوق ومِن أجْل ذلك يصحّ عِقاب المتمرّد عن هذا الأمْر ، ولا يُسمَع اعتذارُه بأنّه لا يتذلّل للمخلوق ، ولا يخضع لغير الآمر(١) .

وهذا هو الوَجه الصحيح : فإنّ العَبْد يجب أنْ لا يرى لنفْسِه استقلالاً في

_______________________

(١) انظُر التعليقة رقم (٢١) بشأن تأويل آية السجود مِن قِبَل بعض أصحاب الكَشْف - في قِسم التعليقات

٤٧٠

أموره ، بل يُطيع مَولاه مِن حيث يهوى ويشتهي فإذا أمَرَه بالخضوع لأحدٍ وجَب عليه أنْ يمتثله ، وكان خضوعه حينئذٍ خضوعاً لمَولاه الذي أمَره به(١) .

ونتيجة ما قدّمناه :

أنّه لا بدّ في كلّ عمَل يتقرّب به العَبْد إلى ربِّه ، مِن أنْ يكون مأموراً به مِن قِبَلِه بدليلٍ خاصّ أو عامّ وإذا شكّ في أنّ ذلك العمل مأمورٌ به ، كان التقرّب به تشريعاً محرّماً بالأدلّة الأربعة نعَم إنّ زيارة القبور وتقبيلها وتعظيمها ممّا ثبَت بالعمومات ، وبالروايات الخاصّة مِن طُرُق أهل البيت ( عليهم السلام ) ، الذين جعَلهم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قُرَناء للكتاب في قوله : ( إنّي تاركٌ فيكم الثقلَين كتاب الله وعترتي أهل بيتي )(٢) وتؤكّد جوازها أيضاً سيرةُ المسلمين ، وجَريُهم عليها مِن السلَف والخَلَف ، وما قدّمناه مِن الروايات عن طُرُق أهل السُنّة .

كيف يتحقّق الشِرك بالله ؟

تنبيه : إذا نُهيَ عن خضوع خاصّ لغير الله كالسجود ، أو عن عبادة خاصّة كصَوم العيدَين ، وصلاة الحائض ، والحجّ في غير الأشهر الحُرُم ، كان الآتي به مرتكباً للحرام ومستحقّاً للعقاب ، إلاّ أنّه لا يكون بذلك الفِعل مُشركاً ولا كافراً ، فليس كلّ فِعل مُحرّم يقتضي شِركَ مُرتكِبه أو كُفْره .

وقد عرفتَ أنّ الشِرك إنّما هو الخضوع لغير الله ، بما أنّ الخاضِِع عبْدٌ والمخضوع له ربٌّ ، فمَن تعمَّد السجود لغير الله بغير قصْد العبودية لم يخرج بعمَله هذا المُحرَّم عن زُمرة المسلمين ، فإنّ الإسلام يدور مدار الإقرار بالشهادتَين ، وبذلك يحْرُم مالُه ودمُه .

_______________________

(١) انظُر التعليقة رقم (٢٢) لمعرفة ما قاله تعالى لإبليس في تَرْك السجود - في قِسم التعليقات .

(٢) تقدّم بعض مصادر الحديث في الصفحة ١٨ ، ٣٩٨ مِن هذا الكتاب .

٤٧١

والروايات الدالّة على هذا متواترة مِن الطريقَين(١) ، ومع ذلك كيف يجوز الحُكم بشِرك مَن زار قبر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأوصياءه ( ع ) متقرّباً إلى الله وهو يشهد الشهادتَين؟ :

( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) ٤ : ٩٤

ولسوف يحكُم الله بين عباده بالحقّ وهو أحكمُ الحاكمين .

دواعي العبادة :

العبادة فِعلٌ اختياريّ ، فلا بدّ لها مِن باعث نفسانيّ يبعث نحوها ، وهو أحد أمور :

١ - أنْ يكون الداعي لعبادة الله هو طمَع الإنسان في إنعامه ، وبما يجزيه عليها مِن الأجْر والثواب ، حسْبَما وعَدَه في كتابه الكريم :

( وَمَنْ يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ٤ : ١٣. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ٥ : ٩) .

٢ - أنْ يكون الداعي للعبادة هو الخوف مِن العقاب على المخالَفة :

( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٠ : ١٥. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ٧٦ : ١٠) .

وقد أُشير إلى كِلا الأمرَين في عِدّة مِن الآيات الكريمة :

_______________________

(١) انظُر التعليقة رقم (٢٣) لمعرفة أنّ الإسلام يدور مدار الشهادتَين - في قِسم التعليقات

٤٧٢

( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ٣٢ : ١٦. وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ٧ : ٥٦. يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ١٧ : ٥٧) .

٣ - أنْ يُعبَد الله بما أنّه أهلٌ لأنْ يُعبَد ، فإنّه الكامل بالذات والجامع لصفات الجمال والجلال وهذا القِسم مِن العبادة لا يتحقّق إلاّ ممّن اندكَّت نفسيّتُه ، فلمْ يرَ لذاته إنِّية إزاء خالقِه ؛ ليقصد بها خيراً ، أو يَحذَر لها مِن عقوبة ، وإنّما ينظر إلى صانعه ومُوجِده ولا يتوجّه إلاّ إليه ، وهذه مرتبة لا يسَعُنا التصديق ببلوغها لغير المعصومين ( ع ) ، الذين أخلصوا لله أنفسهم ، فهُم المخلَصون الذين لا يستطيع الشيطان أنْ يقترب مِِن أحدهم :

( وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ١٥ : ٣٩. إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ١٥ : ٤٠) .

قال أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين ( صلوات الله عليه ) : ( ما عبَدتُك خوفاً مِن نارك ، ولا طمَعاً في جنّتك ، ولكن وجَدتُك أهلاً للعبادة فعبَدتُك )(١) ، وأمّا سائر العِباد فتنحصر عبادتهم في أحد القِسمَين الأوَّلَين ، ولا يسَعُهم تحصيل هذه الغايـة .

وبذلك يظهر بطلان قول مَن أبطَل العبادة إذا كانت ناشئة عن الطمع أو الخوف ، واعتبر في صحّة العبادة أنْ تكون لله بما هو أهلٌ للعبادة ، ووَجه بطلان هذا القول : أنّ عامّة البَشَر غير المعصومين لا يتمكّنون مِن ذلك ، فكيف يُمكن تكليفهم به ! وهل هو إلاّ تكليف بما لا يُطاق ؟ !

_______________________

(١) مرآة العقول باب النيّة ج ٢ ص ١٠١

٤٧٣

أضِف إلى ذلك أنّ الآيتَين الكريمتين المتقدّمتَين قد دلَّتا على صحّة العبادة ، إذا صدرت عن خَوفٍ أو طمَعٍ ، فقد مدَح الله سبحانه مَن يدعوه خوفاً أو طمعاً ، وذلك يقتضي محبوبيّة هذا العمل ، وأنّه ممّا أمَر به الله تعالى ، وأنّه يكفي في مقام الامتثال وقد ورَد عن المعصومين ( عليهم السلام ) ما يدلّ على صحّة العبادة ، إذا كانت ناشئة مِن خوفٍ أو طمَعٍ(١) .

وقد أَوضحنا - فيما تقدّم - أنّ الآيات السابقة مِن هذه السورة ، قد حصرَتْ الحَمْد في الله تعالى مِن جهة كماله الذاتيّ ، ومِن جهة ربوبيّته ورحمته ، ومِن جهة سُلطانه وقُدرته ، فتكون فيها إشارة إلى مناشئ العبادة ودواعيها أيضاً .

فالعبادة : إمّا ناشئة مِن إدراك العابد كمال المعبود ، واستحقاقه العبادة بذاته وهي عبادة الأحرار وإمّا مِن إدراكه إنعام المعبود وإحسانه ، وطمَعِه في ذلك وهي عبادة الأُجَراء وإمّا مِن إدراكه سَطوَته وقَهْرِه وعِقابه وهي عبادة العبيد .

حَصْر الاستعانة بالله :

لا مانع مِن استعانة الإنسان في مقاصده بغير الله مِن المخلوقات ، أو الأفعال ، قال الله تعالى :

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ٢ : ٤٥. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ٥ : ٢. قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ١٨ : ٩٥) .

وإذن فليست الاستعانة بمُطلَقها تنحصر بالله سبحانه ، بل المراد منها استعداد القُدرة على العبادة منه تعالى ، والاستزادة مِن توفيقه لها حتّى تتمّ وتخْلُص ،

_______________________

(١) انظُر التعليقة رقم (٢٤) للوقوف على أقسام الدوافع للعبادة - في قِسم التعليقات

٤٧٤

والغرض مِن ذلك إثبات أنّ العَبْد في أفعاله الاختيارية وسطٌ بين الجَبْر والتفويض ، فان الفِعل يصدر عن العَبْد باختياره ؛ ولذلك أسنَد الفِعل إليه في قوله تعالى :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) ، إلاّ أنّ هذا الفِعل الاختياريّ مِن العَبْد ، إنّما يكون بعَون الله له وبإمداده إيّاه بالقُدرة آناً فآناً :( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، بحيث لو انقطع المدد عنه في آنٍ لم يستطع إتمام الفِعل ، ولم تصدر منه عبادة ولا حسَنة .

وهذا هو القول الذي يقتضيه مَحْض الإيمان ، فإنّ الجَبْر يلزمُه أنْ يكون العقاب على المعاصي عقاباً للعَبْد مِن غير استحقـاق ، وهذا ظُلم بيِّن :

( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً ) ١٧ : ٤٣ .

وإنّ التفويض يلزَمُه القول بخالِق غير الله ، فإنّ معناه أنَّ العَبْد مستقلّ في أفعاله ، وأنّه خالق لها ، ومرجع هذا إلى تعدّد الخالِق ، وهو شِرك بالله العظيم .

والإيمان الحقّ بالله هو الحدّ الوَسط بين الإفراط والتفريط ، فالفِعل فِعل العبْد وهو فاعِله باختياره ؛ ولذلك استحقّ عليه الثواب أو العقاب ، والله سبحانه هو الذي يُفيض على العبْد الحياة والقُدرة وغيرهما مِن مبادئ الفِعل ، إفاضةً مستمرّة غير منقطعة ، فلا استقلال للعبْد ، ولا تصرّف له في سلطان المَولى ، وقد أوضحنا هذا في بحثنا عن إعجاز القرآن(١) .

هذه هي الاستعانة المنحصرة بالله تعالى ، فلولا الإفاضة الإلهية لَما وُجِد فِعلٌ مِن الأفعال ولو تظاهرت الجِنّ والإنس على إيجاده ، فإنّ المُمكن غير مستقلّ في وجوده ، فيستحيل أنْ يكون مستقلاًّ في إيجاده ، وبما ذكرناه يظهر الوَجه في تأخير جملة : ( إيّاك نستعين ) عن قوله : ( إيّاك نعبُدُ ) ، فإنّه تعالى حَصَر العبادة بذاته أوّلاً ، فالمؤمنون لا يعبدون إلاّ الله ، ثمّ أبانَ لهم أنّ عباداتهم إنّما تصدر

_______________________

(١) في الصفحة ٣٣ مِن هذا الكتاب

٤٧٥

عنهم بعَون الله وإقداره ، فالعبْد رهينُ إفاضة الله ومشيئته ، والله أَولى بحَسنات العبْد مِن نفْسه ، كما أنّ العَبْد أَولى بسيئاته مِن الله(١) .

الشفاعة :

تدلّ الآيات المبارَكة على أنّ الله سبحانه هو الكافل بأمور عبيده ، وأنّه الذي بيده الأمْر ، يُدبِّر شؤون عبْده ويوجّهه إلى كمالِه برحمته ، وهو قريبٌ منه ، يسمع نداءه ويجيب دعاءه :

( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ٣٩ : ٣٦. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ٢ : ١٨٦) .

وعلى هذا فليس لمخلوقٍ أنْ يستشفع بمخلوقٍ مِثله ، ويجعله واسطة بينه وبين ربِّه ، ففي ذلك تبعيد للمسافة ، بل وفيه إظهار للحاجة إلى غير الله ، وماذا يصنع محتاجٌ بمحتاجٍ مِثْله ؟ وماذا ينتفع العاصي بشفاعة مَن لا ولاية له ولا سلطان ؟ بل :

( لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ٣٠ : ٤. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ٣٩ : ٤٤)

هذا كلّه إذا لم تكن الشفاعة بإذنٍ مِن الله سبحانه ، وأمّا إذا أذِنَ الله بالشفاعة لأحدٍ ، فإنّ الاستشفاع به يكون نحْواً مِن الخضوع لله والتعبّد له ، ويُستفاد مِن القرآن الكريم أنّ الله تعالى قد أَذِن لبعض عباده بالشفاعة ، إلاّ أنّه لم يُنوِّه بذِكرهم عَدا الرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقد قال الله تعالى :

_______________________

(١) انظُر التعليقة رقم (٢٥) للوقوف على الأمْر بين الأمرَين في كَسْب الحسَنات وارتكاب السيّئات - في قِسم التعليقات

٤٧٦

( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاّ مَن اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ١٩ : ٨٧. يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ٢٠ : ١٠٩. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ ٣٤ : ٢٣. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ٤ : ٦٤ ) .

والروايات الواردة عن النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وعن أوصيائه الكرام ( ع ) في هذا الموضوع متواترة.

أحاديث الشفاعة عند الإمامية :

أمّا الروايات مِن طريق الشيعة الإمامية فهي أكثر مِن أنْ تُحصى ، وأمْر الشفاعة عندهم أَوضح مِن أنْ يَخفى ، ونكتفي بذِكر رواية واحدة منها :

روى البرقي في المحاسن بإسناده عن معاوية بن وَهب ، قال : ( سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قَول الله تبارَك وتعالى :

( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ) ٧٨ : ٣٨ .

قال : نحن والله المأذون لهم في ذلك ، والقائلون صواباً ، قلتُ : جُعِلتُ فِداك وما تقولون إذا كلّمتُم ؟ قال : نُمجِّد ربّنا ، ونُصلّي على نبيّنا ، ونشفَع لشيعتنا ، فلا يردّنا ربّنا ) وروى محمّد بن يعقوب في الكافي بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي ( عليه السلام ) مثله(١) .

_______________________

(١) البحار باب الشفاعة ج ٣ ص ٣٠١

(البيان - ٣١)

٤٧٧

أحاديث الشفاعة عند العامّة :

وأمّا الروايات مِن طُرُق أهل السُنّة فهي أيضاً كثيرة متواترة(١) ، نتعرّض لذِكر بعضها :

١ - روى يزيد الفقير ، قال : أخبرَنا جابر بن عبد الله أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) قال : ( أُعطيتُ خمساً لم يُعطَهنّ أحدٌ قبْلي ، نُصرتُ بالرُعب مسيرة شهر ، وجُعِلَت ليَ الأرض مسجداً وطهوراً . وأُحلَّت ليَ الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبـلي ، وأُعطيت الشفاعة . )(٢) .

٢ - روى أنس بن مالك ، قال : ( قال النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) : أنا أوّل شفيع في الجنّة )(٣) .

٣ - روى أبو هريرة قال : ( قال رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) : لكلّ نبيٍّ دعوةٌ ، وأردتُ إنْ شاء الله أنْ أختبئ دَعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة )(٤) .

٤ - وروى أيضاً قال : ( قال رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) : أنا سيّد وُلْد آدم ( عليه السلام ) يوم القيامة ، وأوّل مَن ينشَقّ عنه القَبر ، وأوّل شافع ، وأوّل مشفّع )(٥) .

٥ - وروى أيضاً ، قال : ( قال رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) : الشفعاء خمسة : القرآن ، والرَحِم ، والأمانـة ، ونبيِّكم ، وأهل بيته )(٦) .

_______________________

(١) في المجلّد السابع مِن كنز العمّال ص ٢١٥ ، ٢٧٠ مِن هذه الروايات ما يزيد على ثمانين رواية .

(٢) صحيح البخاري كتاب التيمّم باب ١ ج ١ ص ٨٦ .

(٣) صحيح مسلم باب أنّ النبيّ أوّل مَن يشفع في الجنّة ج ١ ص ١٣٠ .

(٤) انظُر التعليقة رقم (٢٦) لاستقصاء مصادر هذه الرواية - في قِسم التعليقات .

(٥) صحيح مسلم باب تفضيل نبيّنا على جميع الخلائق ج ٧ ص ٥٩ .

(٦) كنز العمّال : الشفاعة ج ٧ ص ٢١٤

٤٧٨

٦ - روى عبد الله بن أبي الجدعاء قال : ( قال رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) : يدخل الجنّة بشفاعة رجُل مِن أمّتي أكثر مِن بني تميم ) ، ورواه الترمذي والحاكِم(١) .

ومِن هذه الروايات يُستكشَف أنّ الاستشفاع بالنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وبأهل بيته الكرام ( ع ) أمْرٌ ندَبَ إليه الشَرْع ، فكيف يُعَدّ ذلك مِن الشِرك ؟ عصمَنا الله مِن متابعة الهوى ، وزلَل الأقدام والأقلام .

_______________________

(١) نفس المصدر السابق ص ٢١٥

٤٧٩

(٤)

تحليل آية

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)

***

القراءة

المعروف قراءة [غير] بالجَرّ ، ونقل الزمخشري أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وعُمَر قرءا بالنَصْب ، والصحيح هو الأوّل ، فإنّ قراءة النَصْب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم تثبت ، وكذلك لم تثبت عن عُمَر ، على أنّها لو ثبتَتْ عنه فهي ليست بحُجّة ، فقد أَوضحنا أنّ قراءة غير المعصوم إنّما يُعْبَأ بها إذا كانت مِن القراءات المشهورة ، وإلاّ فهي شاذّة لا تُجزي للامتثال .

والمعروف أيضاً قراءة ( الذينَ أنعمتَ عليهم غير المغضوبِ عليهم ولا الضالِّين ) ، ونُسِب إلى عليٍّ ( عليه السلام ) وإلى عُمَر قراءة ( مَن أنعمتَ عليهم وغير الضالّين ) ، أمّا قراءة عليٍّ ( عليه السلام ) بذلك فلم تثبُتْ ، بل الثابت عدمها ، فلو كانت قراءتُه هي ذلك ، لَشاعَ خبرُها بين شيعتِه ، ولأقرّها الأئمّة مِن بعْدِه ، مع أنّها

٤٨٠