البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن11%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36226 / تحميل: 8327
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الأوّل ـ: ما هو معنى ولاية الفقيه وما هي حقيقتها ؟

الثاني ـ: كيف يمارس الفقيه ولايته هذه، إلى جانب المؤسّسات الدستوريّة والتشكيلات الحكوميّة العليا التي مرّ ذكرها، وبشكل يتمشّى مع بقيّة المعايير الإسلاميّة في نظام الحكم الإسلاميّ الذي يعطي للاُمّة الحريّة في إدارة نفسها ضمن الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.

وإليك فيما يلي الإجابة على هذين السؤالين.

ولاية الفقيه ليست استصغاراً للاُمّة ولا استبداداً

لقد كثر النقاش أخيراً حول ولاية الفقيه، فمن متوهّم أنّ نتيجة القول بولاية الفقيه هي اعتبار الاُمّة قاصرةً وعاجزةً عن إدارة أمرها، فلابدّ لها من وليّ يتولّى اُمورها.

ومن متصوّر بأنّ نتيجتها هي استبداد الفرد بالإدارة والحكم، ورفض الرأي العامّ، وهو أمر يتنافى مع ما قرّرناه ـ حسب المعايير الإسلاميّة ـ من اختيار الاُمّة الإسلاميّة في تشكيل الحكومة، نوّاباً ووزراء ورؤساء، وذلك في نطاق الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.

ولكنّ هذه التوهّمات ناشئة عن عدم وضوح ( ولاية الفقيه ) وضوحاً لا يبقي شبهةً، ولا يترك غموضاً، فليس إقرار ولاية الفقيه بمعنى جعل الاُمّة الإسلاميّة الرشيدة بمنزلة القصّر، كما ليس نتيجتها استبداد الفقيه بالإدارة والسلطة والعمل أو الترك كيفما شاء دون مشورة أو رعاية للمصالح والمعايير الإسلاميّة.

إنّ للمجتهد الفقيه العارف بأحكام الإسلام القادر على استنباط قوانينه ثلاثة مناصب وهي التي يعبّر عنها جميعاً بولاية الفقيه وهي :

الأوّل: منصب الإفتاء: فإنّ الأحكام الشرعيّة بأبوابها الأربعة، من عبادات ومعاملات وإيقاعات، وسياسات، لـمّا كانت أمراً نظرياً يحتاج إلى التعلّم والتعليم ولا يمكن لكلّ أحد من الناس معرفتها عن مصادرها العلميّة المتقنة ـ فإنّ ذلك يعوق الإنسان عن مهامّ اُموره الدنيويّة والمعيشيّة ـ عمد الإسلام إلى إرجاع ( نظام الإفتاء ) إلى

٢٢١

فقيه، عالم بشرائع دينه، وهذا هو الذي يطلق عليه في اصطلاح المتشرّعة ب‍ ( المفتي ) ليكون مرجعاً لأخذ الأحكام.

الثاني: القضاء: فإنّ من مقتضى القوى والغرائز النفسانيّة والطبيعيّة التوجّه إلى المنافع، والتباعد عن المضارّ، وهو بدوره يوجب نزاعاً على المنافع الذي قد ينجرّ إلى الحروب، فلدفع هذه المفسدة ترك أمر القضاء إلى الفقيه الجامع للشرائط.

الثالث: الحكومة: فإنّ من أهم مايحتاج إليه البشر في حفظ نواميسه، ونفوسه واجتماع أمره ؛ وجود قائد بينهم يجب على الجميع إطاعة قوله واتباع فعله، وهو الذي يعبر عنه في لسان الشرع والمتشرّعة بالحاكم والسائس(١) .

وعلى هذه الاُمور الثلاثة تدور رحى حياة المجتمع الإسلاميّ.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ للولاية مرتبةً عليا مختصّةً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الطاهرين وغير قابلة للتفويض إلى أحد، وهي بين تكوينيّة يعبّر عنها بالولاية التكوينيّة التي بها يتصرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في الكون إذا اقتضت المصلحة ذلك كما إذا كان في مقام الإعجاز، وفي ذلك يقول الإمام الخمينيّ: ( إنّ للنبيّ والإمام مقاماً محموداً ودرجةً ساميةً وخلافةً تكوينيّةً تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرّات هذا الكون )(٢) .

وبين التشريعيّة التي يشير إليها قوله سبحانه:( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب: ٦ ) وهي مختصّة بالنبيّ وأوصيائه المعصومين، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم(٣) .

وأمّا غير المختصّ بهم، فإنّما هو مقام الافتاء والقضاء، والولاية، التي أظهر مصاديقها نظم البلاد والجهاد والدفاع وسدّ الثغور وإجراء الحدود، وأخذ الزكاة وإقامة

__________________

(١) اقتباس من دروس الإمام الخمينيّ في علم الاُصول ألقاها في مدينة قم المقدّسة عام ( ١٣٧٠ ه‍ ) وقد قرّرها الاُستاذ السبحاني ونشرها في كتاب تهذيب الاُصول ٣: ١٣٦.

(٢) الحكومة الإسلاميّة: ٥٢.

(٣) لاحظ منية الطالب تقريراً لبحث المحقّق النائينيّ: ٣٢٥.

٢٢٢

الجمعة وغيرها.

فالأوّلان من هذه المناصب ( الثلاثة ) ثابتان للفقيه ـ باتفاق الكلمة ـ كما سيوافيك بيانه عند بيان السلطات الثلاث.

وأمّا الولاية والحكومة بالمعنى الماضي، فلا وجه للشك في ثبوتها للفقيه حسب الأدلّة الواردة ولكنّ المراد منها يتلخّص في أمرين :

الأوّل: إذا نهض الفقيه بتشكيل الحكومة وجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوه(١) .

إذ كل ما يشترط من المواصفات في الحاكم التي يأتي بيانها، موجود في الفقيه العادل.

وأمّا الثاني: إذا نهض الناس بتشكيل الحكومة تحت الضوابط الإسلاميّة فللفقيه العادل حينئذ أن يراقب سلوك الحكومة وتصرّفاتها، فيصحّح مسيرتها إذا انحرفت ويعدّل سلوكها إذا شذّ وعندئذ تكون ولاية الفقيه ضمانةً لاستقامة الدولة ومانعاً عن عدولها عن جادّة الحقّ وسنن الدين، فهو متخصّص عارف بالأحكام والحدود، وبما أنّه ورع يتّقي الله ويخشاه أكثر من سواه كما يقول الله سبحانه:( إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فاطر: ٢٨ ) وقد عاش بين أفراد المجتمع فعرف بالصلاح والورع والأمانة، فولايته تحجز الحكومة عن الخروج عن المعايير الإسلاميّة وارتكاب ما يخالف مصالح الإسلام والمسلمين دون أن ينحرف هو عن صراط الحقّ المستقيم.

كيف يمارسُ الفقيه ولايته

أمّا كيف يمارس الفقيه ولايته ـ وهو الشقّ الثاني ـ إلى جانب ما أقرّه الإسلام من أختيار للاُمّة في انتخاب حكّامها، وما أعطاه من الحرية لهم في نطاق المعايير الإسلاميّة ،

__________________

(١) الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ: ٤٩، بل يجب على الفقيه تشكيل الدولة الإسلاميّة إذا لم يكن هناك دولة إسلاميّة.

٢٢٣

فهو يتضح بما يلي :

إنّ الفقيه بحكم مسؤوليته اتّجاه الإسلام والمسلمين يتحرّى في جميع الظروف مصالح الاُمّة، فإذا كانت الحكومة التي إقامتها الاُمّة الإسلاميّة موافقةً للمعايير الإسلاميّة، ومطابقةً للمصلحة الاجتماعيّة العليا وجب عليه إمضاؤها، وإقرارها، وليس له أن يردّها، ولأجل ذلك لا يترتب على ( ولاية الفقيه ) إلّا استقرار الحكومة الإسلاميّة الصالحة، ولا يتغيّر بولايته أي شيء من الأركان والمؤسسات الحكوميّة المذكورة سلفاً، ولا تتعارض مع ما ذكرناه وأثبتناه من حريّة الاُمّة واختيارها.

ذلك هو مجمل حقيقة ولاية الفقيه، وهذه هي كيفيّة ممارستها إلى جانب التشكيلات الاُخرى في النظام الإسلاميّ.

وهي كما ترى خير ضمان جوهراً وممارسةً لاستقامة الحكومة في المجتمع الإسلاميّ، وإبقائها على الخط المستقيم دون أن يستلزم فرض هذه الولاية اعتبار الاُمّة قصراً، أو يلازم استبداداً كما يشاء البعض وصفها بذلك، أو يتوهّمونه خطأً وغفلةً عن حقيقة الحال لهذا العنصر العظيم في الفقه الإماميّ على صعيد الحكم.

* * *

كلمة أخيرة :

لقد تبيّن من هذا البحث الواسع حول لون الحكومة الإسلاميّة، أنّ الحكومة عند حضور الإمام المنصوص عليه من جانب الله حكومة إلهيّة محضة، وأمّا عند عدم إمكان التوصّل إليه فهي مزيج من ( الحاكميّة الإلهيّة والسيادة الشعبيّة ).

فهي إلهيّة: من جهة أنّ التشريع لله سبحانه بالأصالة، وأنّ على الاُمّة الإسلاميّة أن تراعي جميع الشرائط والضوابط الإسلاميّة في مجال الانتخاب، وأنّ على الحاكم الإسلاميّ أن يلتزم بتنفيذ الشريعة الإسلاميّة حرفاً بحرف، فلأجل هذه الجهات تعدُّ إلهيّة، أو حكومة قانون الله على الناس.

وهي شعبيّة: من جهة أنّ انتخاب الحاكم الأعلى وسائر الأجهزة الحكومية العليا

٢٢٤

موكول إلى الناس ومشروط برضاهم.

ثمّ إنّ هناك نظريتين في كيفيّة تشكيل الحكومة الإسلاميّة جنح إليها كثير من أهل السنّة وهما :

١. الشورى أساس الحكم.

٢. البيعة أساس الحكم.

ولتحقيق الحال نبحث عن كلتا النظريتين في البحث القادم.

٢٢٥

هل الشورى أساس الحكم الإسلاميّ ؟

إنّ الظاهر من بعض من كتب حول الحكومة الإسلاميّة أنّ أساس الحكم في الإسلام هو الشورى، وقد ذهبوا إلى ذلك لأجل أمرين :

الأوّل: أنّهم جعلوه مكان الاستفتاء الشعبيّ، لأنّه لم يكن من الممكن ـ في صدر الإسلام ـ بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مراجعة كلّ الأفكار واستعلام جميع الآراء في الوطن الإسلاميّ لقلّة وسائل المواصلات، وفقدان سبل الاتصال المتعارفة اليوم.

الثاني: أنّهم أرادوا بذلك تصحيح الخلافة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ بعض الخلفاء توصّل إلى ذلك بالشورى، ثمّ عدّ هذا الاُسلوب إحدى الطرق لتعيين الحاكم.

وربّما يؤيّد الأوّل قول الإمام عليّعليه‌السلام : « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار »(١) .

وهو إشارة إلى أنّ عدم إمكان أخذ البيعة بالصورة الواسعة يجوّز أخذها بصورة محدودة.

ولعلّ إلى ذلك نظر الشيخ عبد الكريم الخطيب إذ قال: ( إنّ الذين بايعوا أوّل

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (١٦٨) عبده.

٢٢٦

خليفة للمسلمين لم يتجاوز أهل المدينة، وربّما كان بعض أهل مكّة، وأمّا المسلمون ـ جميعاً ـ في الجزيرة العربية فلم يشاركوا في هذه البيعة، ولم يشهدوها ولم يروا رأيهم، وإنّما ورد عليهم الخبر بموت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مع الخبر باستخلاف أبي بكر )(١) .

ويؤيّد الثاني ( أي اعتبار الشورى أساساً للحكم تصحيحاً للحكومات التي قامت بعد وفاة النبي ) أنّهم ذكروا ـ فيما تنعقد به الإمامة والخلافة نفس الأعداد التي تنطبق عليها خلافة أحد الخلفاء، فلم يكن اعتبار هذه الأعداد والوجوه إلّا للاعتقاد المسبّق بصحّة خلافة اُولئك الخلفاء.

ولأجل ذلك يقول الماورديّ: الإمامة تنعقد من وجهين :

أحدهما: باختيار أهل العقد والحلّ.

والثاني: بعهد الإمام من قبل.

فأمّا انعقاها باختيار أهل العقد والحلّ، فقد اختلف الفقهاء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتّى، فقالت طائفة لا تنعقد الإمامة إلّا بجمهور أهل العقد والحلّ من كلّ بلد ليكون الرضا به عامّاً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة، باختيار من حضرها ولم ينتظر لبيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أخرى: أقلُّ ما تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين :

أحدهما: أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثمّ تابعهم الناس فيها وهم: ( عمر بن الخطاب ) و ( أبو عبيدة الجراح ) و ( أسيد بن حضير ) و ( بشر بن سعد ) و ( سالم مولى أبي حذيفة ).

الثاني: أنّ عمر (رض) جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.

__________________

(١) الإمامة والخلافة: ٢٤١.

٢٢٧

وقال آخرون: من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً، وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بوليّ وشاهدين.

وقالت طائفة اُخرى: تنعقد بواحد لأنّ العبّاس قال لعليّ (رض): أمدد يدك اُبايعك فيقول الناس عمّ رسول الله بايع ابن عمّه، فلا يختلف عليك اثنان، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ )(١) .

وقال القاضي العضديّ ـ في المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة ـ من كتابه: ( إنّها تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع، وتثبت ببيعة أهل العقد والحلّ )(٢) .

ومن المعلوم، أنّ الاختلاف الواقع في عدد من تنعقد به الشورى يفيد ـ بوضوح ـ أنّه لم يكن هناك أي نصّ من الشارع المقدّس على أنّ الإمامة تنعقد بالشورى، ولذلك اختلفوا فيها على مذاهب وغاب عنهم وجه الصواب.

ثمّ إنّ من مظاهر الاختلاف الواقع في مسألة الشورى أنّ القائلين بها انقسموا ـ في أثرها ـ على قسمين :

الأوّل: وهم الأكثريّة، ذهبوا إلى أنّ انتخاب أهل الشورى كان ملزماً للاُمّة، فوجب عليها أن تسلِّم لمن اختاروه بهذا الطريق.

الثاني: أنّ انتخاب أهل الشورى لأحد ليس أزيد من ( ترشيح ) له، وكان للاُمّة هي أن تختاره، أو لا تختاره فكان الملاك هو رأي الاُمّة(٣) .

غير أنّ هذا الرأي لا يتفق مع خلافة الخلفاء الذين تسنّموا عرش الخلافة بالشورى، فقد كان انتخابهم ملزماً يومذاك على رأيهم، ولم يكن من باقي الاُمّة إلّا الاتباع والتسليم.

__________________

(١) الأحكام السلطانيّة للماورديّ: ٤.

(٢) شرح المواقف ٣: ٢٦٥.

(٣) راجع الشخصيّة الدوليّة لمحمّد كامل ياقوت: ٤٦٣.

٢٢٨

ما هي أدلّة الأخذ بالشورى ؟

إنّ البحث عن كون الشورى وسيلةً لتعيين الإمام يقع في ظرفين :

الأوّل: بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الثاني: في زماننا الحاضر، حيث لا يمكن الوصول إلى الإمام المنصوب من جانب الله سبحانه، بالاسم.

وبما أنّ القائلين بمبدأ الشورى يصرّون على أنّها كانت أساساً للخلافة والحكم بعد الرسول أيضاً، فإننا سنبحث الموضوع في كلا الموقعين معاً :

حكم الشورى بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

لقد استدل القائلون بالشورى بآيتين هما :

الاُولى: قوله سبحانه:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ( العمران: ١٥٩ ).

فإنّ الله سبحانه يأمر نبيّه بأن يشاور من حوله، وذلك تعليماً للاُمّة بأن تتشاور في مهامّ الاُمور، ومنها ( الخلافة ).

غير أنّ التأمّل والنظر في مفاد الآية، يكشف عن أنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته، وتمّت بوجه من الوجوه، فإنّ الله سبحانه يأمره بأن يشاور أفراد الاُمّة ويستضيء بأفكارهم، وينتفع بمشاورتهم توصّلاً إلى أحسن النتائج كما يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « من استبدّ برأيه هلك ومن شاور الرجال في اُمورها شاركها في عقولها »(١) . فلا ارتباط للآية ومفادها بما نحن فيه.

وبعبارة اُخرى: إنّ الخطاب وإن كان يمكن التعدي عنه إلى سائر أفراد الاُمّة

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الحكم الرقم (١٦١).

٢٢٩

قائلاً بعدم خصوصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في الخطاب لكنّه لا يمكن التعدّي عن ذلك المنطوق إلّا إلى مقدار يشابه منطوق الآية لا أكثر، فأقصى ما تفيده الآية، هو أن لا يكون الحاكم الإسلاميّ، وصاحب السلطة التي تمت سلطته، مستبدّاً في أعماله بل ينبغي أن يتشاور مع أصحابه وأعوانه في مهامّ الاُمور وجسامها، وأمّا أن يصحّ تعيين الإمام والخليفة عن طريق الشورى استدلالاً بهذه الآية، فلا يمكن الانتقال ممّا ذكرناه إلى هذا المورد.

هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر من الآية هو أنّ ( الشورى ) لا توجب حكماً للحاكم ولا تلزمه بشيء، بل هو يقلّب وجوه الرأي، ويستعرض الأفكار المختلفة ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره، وهذا يتحقق في ظرف يكون هناك ( رئيس ) تام الاختيار في استحصال الأفكار، والعمل بالنافع منها، كما أنّ استحصال الأفكار هذا لا يتمّ إلّا أن يكون للمستشير مقاماً وسلطةً وولايةً مفروضة، ويكون رئيساً مستقرّ الحاكميّة، وأمّا إذالم يكن ثمة رئيس فلا يمكن أن يتم هذا الأمر، الذي ندب إليه القرآن وحثّ عليه، إذ ليس عندئذ هناك رئيس يندب الأفراد ويستعرض أراءهم ثمّ يتأمّل فيها ويأخذ بالنافع منها.

* * *

الثانية: قوله تعالى:( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) ( الشورى: ٣٨ )، فإنّ إضافة المصدر ( أمر ) إلى الضمير ( هم ) يفيد العموم والشمول لكلّ أمر بما فيه الخلافة والإمامة، فالمؤمنون ـ بحسب هذه الآية ـ يتشاورون في جميع اُمورهم حتّى الخلافة.

ولكن ينبغي البحث في الموضوع الذي تأمر الآية بالمشورة فيه وأنّه ما هو ؟ فنقول: إنّ الآية تأمر بالمشورة في الاُمور المضافة إلى المؤمنين، فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الأمر ( أي تعيين الإمام ) أمر مربوط بهم، ومضاف إليهم، فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسّك بعموم الآية في مورده.

وبعبارة أخرى: إنّ الآية حثّت على الشورى في اُمورهم وشؤونهم لا فيما هو خارج عن حوزة اُمورهم وشؤونهم، ولما كان تعيين ( الإمام والخليفة ) من جانبهم مشكوكاً في

٢٣٠

كونه من اُمورهم، إذ لا يدرى هل من شؤونهم وصلاحياتهم، أم من شؤون الله سبحانه فعندئذ لا يجوز التمسّك بالآية في المورد.

وبعبارة ثالثة: هل أنّ الإمامة إمرة وولاية إلهيّة لتحتاج إلى نصب وتعيين إلهيّ، أو هي إمرة وولاية شعبيّة ليجوز للناس أن يعيّنوا بالشورى من أرادوا للإمامة والخلافة ؟

ومع الترديد والشكّ، لا يمكن الأخذ بإطلاق الآية المذكورة وتعميم ( أمرهم ) لأمر الإمامة، لأنّه من باب التمسك بالحكم عند الشكّ في الموضوع، وهذا نظير ما إذا قال أحد: ( أكرم العلماء ) فشككنا في رجل هل هو عالم أو لا، فلا يجوز التمسّك بالعامّ في هذا المورد المشكوك والقول بلزوم إكرام الرجل.

التمسّك بكلام عليّ عليه‌السلام في الشورى

ثمّ إنّ القائلين بمبدأ الشورى يتمسّكون بأحاديث في هذا المقام، وربّما تمسّكوا بقول الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً »(١) .

ثمّ إنّ الشارح الحديديّ، كان أوّل من احتج بهذه الخطبة على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو نظام الشورى وتبعه بعض من تبعه، من دون رجوع إلى القرائن الحافّة بها والحال أنّ الاستدلال بالشورى استدلال جدليّ من باب:( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل: ١٢٥ ).

وقد نقل نصر بن مزاحم المنقريّ المتوفّى عام (٢١٢ ه‍ ) أي ١٤٧ عاماً قبل ميلاد ( الشريف الرضيّ جامع نهج البلاغة ) في كتابه القيّم ( وقعة صفّين ) العبارات

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦).

٢٣١

الكثيرة التي حذفها الرضيرحمه‌الله من الرسالة كما هو دأبه في أكثر الخطب والكتب(١) .

فإنّ الإمام عليّعليه‌السلام بدأ رسالته بقوله: « أمّا بعد فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنّه بايعني ».

ثمّ ختمها بقوله: « وإنّ طلحة والزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي وكان نقضهما كردِّهما فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقُّ وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ».

ثمّ قال: « وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله(٢) ، وأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللبن ».

هذا وقد طلب معاوية قبل أن يكتب إليه الإمام هذا الكتاب بأن يسلِّم إليه قتلة عثمان حتّى يقتصّ منهم ثمّ يبايع الإمام عليّاًعليه‌السلام هو ومن معه، وهذا هو ما سمّاه الإمام بخدعة الصبي عن اللبن.

وهذه الجمل والعبارات التي تركها الرضيّ في نقل الكتاب تشهد بأنّ الإمام كتب هذه الرسالة من باب الجدل والاستدلال بما هو موضع قبول الخصم.

ثمّ إنّ ملاحظة قول: « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان » تدلّ أيضاً على أنّ الإمام كان في مقام المجادلة وإفحام الخصم بما هو مسلّم عنده. فالابتداء بتماميّة الخلافة للشيخين بمبايعة المهاجرين والأنصار لهما لأجل إسكات معاوية الذي يعتبر هذه البيعة هي الملاك في خلافة الخليفة. ولولا هذا لما كان لذكر خلافة الشيخين عن طريق البيعة والشورى وجه. ولأجل ذلك نجد الإمامعليه‌السلام يردف هذه

__________________

(١) ولد الرضي عام ( ٣٥٩ ه‍ ) وتوفّي ( ٤٠٦ ه‍ ).

(٢) راجع ( وقعة صفّين ) لنصر بن مزاحم ( طبعة مصر ): ٢٩.

٢٣٢

العبارات بقوله: « فإن اجتمعوا على رجل » احتجاجاً بمعتقد معاوية.

فهذا الاُسلوب إنّما اتخذه الإمامعليه‌السلام عملاً بقوله سبحانه:( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

وكيف لا، وللإمامعليه‌السلام كلمات ساخنة في تخطئة الشورى التي تمّت بها خلافة الخلفاء بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقف عليها كلّ من تصفّح نهج البلاغة، وسائر ما روي عنهعليه‌السلام في هذا المجال.

والذي يدلّ على ذلك وأنّ الشورى لم تكن أساساً للخلافة والحكومة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أصحاب الشورى في السقيفة ـ لا في غيرها ـ لم يتمسّكوا بها، ولا بالآيات والأحاديث الواردة حولها.

إشكالاتٌ أُخرى وملاحظاتٌ أساسيّة :

وهناك ملاحظات أساسيّة أخرى على جعل الشورى منشأً للحكم، وطريقاً لتعيين الحاكم نشير إلى بعضها :

١. لو كان أساس الحكم ومنشأه هو ( الشورى )، لوجب على الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان تفاصيلها وخصوصيّاتها وأسلوبها، أو خطوطها العريضة على الأقلّ.

فإنّ الإسلام إذا كان قد أرسى نظام الحكم على أساس ( الشورى )، وجعله طريقاً لتعيين الحاكم بحيث تكون هي مبدأ الولاية والحاكميّة، فإنّ من الطبيعيّ بل والضروريّ أن يقوم الإسلام بتوعية الاُمّة، وإيقافها ـ بصورة واسعة ـ على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة حتّى لاتتحيّر الاُمّة وتختلف في أمرها، ولكنّنا رغم هذه الأهميّة القصوى لا نجد لهذه التوعية الضروريّة أي ( أثر ) في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم.

ولقد بادر بعض الكتاب إلى الإجابة عن هذا الإشكال بأنّ: الإسلام قد تكفّل

٢٣٣

إعطاء إشارة عابرة إلى مبدأ الشورى دون تحديد، موكلاً أمرها وشكلها إلى نظر الاُمّة، تمشّياً مع الصبغة العامّة التي تتّسم بها الشريعة الإسلاميّة، وهي صبغة الخلود، والمرونة، التي تمكِّن هذه الشريعة من مسايرة كلّ العصور. وبقائها نظاماً خالداً لجميع الأجيال.

وصفوة القول: أنّ خلود الإسلام يقتضي أن يكتفي هذا الدين ببيان جوهر الاُمور دون شكليّاتها، وكيفيّاتها.

وهذا المطلب صحيح ـ في حدّ ذاته ـ وإن كان انطباقه على هذا المورد لا يخلو عن إشكال، فإنّه وإن كان لا يجب على الشارع إعطاء كلّ التفاصيل والخصوصيّات الراجعة إلى الشورى، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى ( جوهر ) الشورى وصميمها، فلا يصحّ للشارع المقدّس أن يترك بيانها إذ أنّ هناك أسئلةً تطرح نفسها في المقام، لا يمكن الوقوف على أجوبتها إلّا عن طريق الشارع وبيانه وهي :

أوّلاً: من هم الذين يجب أن يشتركوا في ( الشورى ) المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم، أو السياسيّون وحدهم أو المختلط منهم ؟

ثانياً: من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟

ثالثاً: لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح، هل يكون بملاك الكمّ، أم بملاك الكيف ؟

إنّ جميع هذه الاُمور تتّصل بجوهر مسألة ( الشورى )، فكيف يجوز ترك بيانها، وتوضيحها ؟ وكيف سكت الإسلام عنها إن كان جعل ( الشورى ) طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟

* * *

٢. إنّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى بأهل العقد والحلّ، ولا يفسّرونه بما يرفع إجماله، وأنّ المقصود من هو ؟ ولذلك قال الشيخ عبد الكريم الخطيب :

٢٣٤

( وليس في القول بأنّ أفراد الاُمّة المسؤولون عنها هم أهل الحلّ والعقد فيها، ما يفسّر هذا الغموض أو يكشفه فمن هم أهل الحلّ والعقد، وحلّ ماذا ؟ وعقد ماذا ؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوّبونهم من اُمور ؟ وهل هناك درجة معينة من الفقه والعلم إذا بلغها الإنسان صار من أهل الحلّ والعقد ؟ ما هي تلك الدرجة ؟ وبأيّ ميزان توزن ؟ ومن إليه يرجع الأمر في تقديرها ؟

إنّ كلمة أهل العقد والحلّ لأغمض غموضاً من كلمة « الأفراد المسؤولون » )(١) .

ولأجل غموض نظريّة الشورى برمّتها وعدم ورود نصّ واضح وصريح حولها قال الدكتور طه حسين: ( ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب ( ويعني نظام الشورى ) لعرف المسلمون في أيّام عثمان ما يأتون من ذلك، وما يدعون دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف )(٢) .

ولذلك ـ أيضاً ـ يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب، وهو يشير إلى أنّ قضيّة الشورى كانت مجرّد تجربة وليس قانوناً إسلاميّاً أخذ به، كما يشير إلى ما في هذه القضية من نواقص وعيوب وما تركته من أثار سيّئة على الفكر الإسلاميّ :

( ينظر بعضهم إليه على أنّه ( أي تعيين الإمام بالشورى ) نواة صالحة لأوّل تجربة وأنّ الأيّام كفيلة بأن تنمّيها، وتستكمل ما يبدو فيها من نقص، فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث، إذ لم يكن من المستطاع ـ حينذاك ـ الوقوف على رأي الاُمّة كلّها فرداً فرداً ؛ فيمن يخلف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وينظر بعض آخر إلى هذا الاُسلوب بأنّه اُسلوب بدائيّ عالج أهمّ مشكلة في الحياة، وقد كان لهذا الاُسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن اُسلوب آخر من أساليب الحكم التي جربتها الأمم )(٣) .

هذا كلّه حول ( الشورى )، وكونها صيغة الحكم ومنشأه عقيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة.

__________________

(١ و ٢) الخلافة والإمامة: ٢٧١.

(٣) الخلافة والإمامة: ٢٧٢.

٢٣٥

أمّا بالنسبة إلى عصرنا هذا ؛ حيث لا تتمكن الاُمّة من الوصول إلى الإمام المنصوب من جانب الله سبحانه بالاسم، فهناك فكرتان تدور حول محور الشورى :

الاُولى: أن تقتصر وظيفة الشورى على الترشيح، وإيقاف الاُمّة على الشخص المناسب والرجل الصالح لمقام الحكم والولاية، من دون أن يكون تصميم الشورى وانتخابها ملزماً للناس. وهذا أمر معقول، ومقبول شرعاً وعرفاً وهو الرأي الذي أشار إليه صاحب كتاب الشخصيّة الدولية ـ كما سبق ـ.

الثانية: أن يكون تصميم الشورى أمراً ملزماً للناس، وقراراً واجب الاتّباع، فعلى الناس أن يقبلوا بمن عيّنته الشورى ويرتضونه حتماً دون أن يكون لهم رأيهم في الأمر، وحريّتهم في الاختيار وهذا ممّا لا يدلّ عليه دليل من الكتاب ولا من السنّة، وقد ذكرنا أنّ شرط صحّة الحكم الإسلاميّ هو أن يكون موضع رضا الشعب والاُمّة.

٢٣٦

هل البيعة

وسيلة لتعيين الحاكم ؟

هل البيعة طريق إلى تعيين الحاكم الإسلاميّ ؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال، والحديث عن البيعة ـ بصورة واضحة ـ يقتضي بيان اُمور :

١. ماذا تعني البيعة ؟

البيعة ـ لغةً ـ مصدر باع ـ لأنّ المبايع يجعل حياته وأمواله ـ بالبيعة ـ تحت اختيار من يبايع. ويتعهّد المبايع ـ في المقابل ـ بأن يسعى في إصلاح حال المبايع، وتدبير شؤونه بصورة صحيحة وكأنّ المبايع والمبايع يقومان بعملية تجارية إذ يتعهّد كلّ واحد منهما اتّجاه الآخر بعمل شيء للآخر، أو أن المبايع يريد من وضع يده في يد المبايع أنّه يكون معه في جميع الوقائع الآتية.

وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه ابن خلدون في تعريفه البيعة إذ قال :

( اعلم، أنّ البيعة هي العهد على الطاعة كأنّ المبايع يعاهد أميره على أن يسلّم له النظر في اُموره واُمور المسلمين ويطيعه فيما يكلّفه، وكانوا إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده تأكيداً فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري )(١) .

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون: ١٧٤.

٢٣٧

٢. البيعة قبل الإسلام :

كانت ( البيعة ) التي هي نوع من معاهدة الرئيس، من تقاليد العرب قبل الإسلام وسننهم، ولم يكن الإسلام هو أوّل من ابتكر ذلك، وحيث كانت المبايعة ممّا تنفع المجتمع وتخدم مصالحه، فقد أمضاها الدين الإسلاميّ وجعلها من العقود اللازمة، التي يجب العمل بها، ويحرّم نقضها.

لقد بايع أهل المدينة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة في العقبة بمنى، بايعوه مرّتين ففي الاُولى من البيعتين بايعوه على أن لا يشركوا بالله، ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشةً و و(١) .

ولقد خطى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في البيعة الثانية خطوةً أكبر حيث أخذ البيعة من أهل المدينة على نصرته، والدفاع عنه كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم(٢) .

لقد بايع أهل المدينة النبيّ ـ على عاداتهم قبل الإسلام ـ حيث كانوا يبايعون زعماءهم.

إنّ البيعة نوع من العهد والمعاهدة، والهدف من إمضائها في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن لتعيينه للحكم والرئاسة، بل كان لإعطائه الميثاق على الوفاء، والسير حسب أوامره، فالمسلمون الذين بايعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أوّل بيعة، إنّما بايعوه على أن لا يشركوا بالله، وأن يجتنبوا الفواحش، ولا يسرقوا، وفي البيعة الثانية عاهدوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على أن ينصروه، ويدافعوا عنه كما قلنا، وفي كلتا الصورتين كانت زعامة النبيّ ورئاسته محقّقة من قبل، فهم كانوا بعد أن آمنوا بنبوّته، وقيادته اقتضى إيمانهم أن يسمعوا له ويطيعوا أمره ( فلا يشركوا ولا يزنوا ) ويحفظوه وينصروه، ولكنّهم أظهروا هذا السمع والطاعة وأكّدوهما عن طريق المبايعة معه(٣) .

__________________

(١ و ٢) سيرة ابن هشام ١: ٤٣١، ٤٣٨.

(٣) لاحظ للوقوف على تفصيل هاتين البيعتين، السيرة النبويّة لابن هشام وصحيح البخاري.

٢٣٨

إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جميعاً أو فرادى، لا تنحصر في هذين الموردين، بل هي أكثر من ذلك، وفي جميع تلك الموارد يبدو جليّاً أنّ المبايعين كانوا ـ بعد أن يؤمنوا بنبوّة النبيّ ويعترفوا بقيادته وزعامته ـ يصبّون ما يلازم ذلك الإيمان، من الالتزام بأوامر الرسول وإطاعته في قالب ( البيعة )، فكانت البيعة صورةً عمليّةً للالتزام النفسيّ بأوامر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الإقرار بنبوّته والاعتراف المسبق بزعامته.

ولو أمعن القارئ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون كلهم أو بعضهم ( النبي ) لوجد، أنّ البيعة لم تعن الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته فضلاً عن نصبه وتعيينه، بل كانت لأجل التدليل على ذلك الاعتراف والتأكيد العمليّ على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق بهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك نجد النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول: « فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني، وتصلُّوا وتزكُّوا »(١) .

« وأن تدفعوا عنّي العدوّ حتّى الموت(٢) ، ولا تفروا من الحرب »(٣) .

وصفوة القول: أنّ من يلاحظ هذه المضامين، يمكن أن يحدس بأنّ الهدف من البيعة لم يكن هو الاعتراف بمنصب المبايع وانتخابه وتعيينه لمقام الحكومة والولاية، بل هو ميثاق بين شخصين وهي تندرج تحت قوله سبحانه:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ( المائدة: ١ ).

وقوله سبحانه:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) ( الإسراء: ٣٤ ).

فيجب العمل بمفادها ويحرم نقضها ونكثها.

يقول الإمام أمير المؤمنين في الحث على الوفاء بالبيعة: « وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم »(٤) .

ومن مراجعة خطب الإمام عليّعليه‌السلام وكلماته في نهج البلاغة، يتضح أنّ

__________________

(١) صحيح البخاري: كتاب الإيمان.

(٢) مسند أحمد ٤: ١٥.

(٣) مسند أحمد ٣: ٢٩٢.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة (٣٤).

٢٣٩

نكث البيعة إنّما هو نقض للميثاق لا سواه، وأنّ نكث البيعة من الذنوب الكبيرة، لا أنّه عزل للحاكم، وإزاحته عن منصب الولاية.

ولو جعل البعض ( البيعة ) إحدى الطرق لتعيين الإمام، فليس إلّا لأحد سببين هما :

الأوّل: أنّ البيعة كانت تقليداً من تقاليد العرب قبل الإسلام، حيث كان رائجاً بينهم إذا مات منهم أمير أو رئيس عمدوا إلى (شخص ) فأقاموه مكان الراحل بالبيعة.

الثاني: أنّ تعيين بعض الخلفاء بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان بهذا الطراز في الظاهر، وإن كان على غير ذلك في الباطن، فإنّ الظاهر هو أنّ خلافة أبي بكر تمّت في السقيفة، وانتهى كلّ شيء هناك، ثمّ أريد من بقية الناس ـ بعد السقيفة ـ أن يبايعوا أبا بكر، لتعميم نفوذه. فكانت بيعتهم للخليفة بمثابة التأييد والتسليم لما تمّ في السقيفة قبلاً، وكانت خلافة عثمان قد تمت وتحققت بالشورى فكانت البيعة بعد الشورى تنفيذاً لقرارها. وإمضاءً، لا اختياراً وانتخاباً شعبياً.

والحاصل، أنّه ليس هناك دليل تأريخيّ ولا شرعيّ يدلّ على كون مجرّد ( البيعة ) إحدى الطرق لتعيين الخليفة ونصبه، بغض النظر عن أيّة مواصفات أو ضوابط اُخرى.

ولأجل ذلك، إذا راجعنا موارد البيعة التي تمّت في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجدنا، أنّها لم يكن القصد من بيعة المبايعين هو ( تعيين الحاكم )، بل كان إمّا إعطاءً لميثاق الوفاء لما يأمر به النبيّ، أو كان إضهاراً للتأييد المجدد في الحوادث الجلل التي وقعت في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما حدث في الحديبيّة.

ولو غضضنا الطرف عن كلّ هذا لوجب أن نقول: إنّ البيعة هي إحدى الطرق لتعيين الحاكم والرئيس، وليس الطريق الوحيد. وفي هذه الصورة تكون ( البيعة ) متّحدةً ـ من حيث المفهوم ـ مع ما ذكرناه حول تأسيس الدولة، ومن ضرورة انبثاقها عن رضا الاُمّة وناشئةً عن إرادتها، غاية ما في الأمر أنّ البيعة [ التي تتحقّق بصفق اليد ] تشتمل مضافاً إلى رضا الاُمّة، على ما يقوّي مركز الإمام والقائد والحاكم، لما فيها من إبراز الولاء

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

لم تُنقَل حتّى بخبرِ رجُلٍ واحد يُعتمَد عليه ، ومِثل هذا يُقال في نِسبة قراءة ( غير ) بالنَصْب إلى الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأمّا قراءة عُمَر فقد عرفتَ الحال فيها .

اللُغة

الهداية :

الإرشاد والدلالة ، والهدى ضدّ الضلال ، وستقف على بيان هداية الله للناس وإرشادهم .

الصراط :

الطريق وهو ما يتوصّل بالسَير فيه إلى المقصود ، وقد يكون غير حسّي ، فيقال : الاحتياط طريق النجاة ، وإطاعة الله طريق الجنّة ، وإطلاقه على الطريق غير الحسّيّ إمّا لعموم المعنى اللُغَوي ، وإمّا مِن باب التشبيه والاستعارة

الاستقامة :

الاعتدال ، وهو ضدّ الانحراف إلى اليمين أو الشمال ، و ( الصراط المستقيم ) : هو الصراط الذي يصِل بسالِكه إلى النعيم الأبديّ ، وإلى رضوان الله ، وهو أنْ يُطيع المخلوقُ خالِقَه ، ولا يعصيه في شيءٍ مِن أوامره ونواهيه ، وأنْ لا يعبُد غيره ، وهو الصراط الذي لا عِوَج فيه ، قال الله تعالى :

( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٤٢ : ٥٢. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ٤٢ : ٥٣. وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ٦ : ١٢٦. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ٣ : ٥١. وَأَن اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ

٤٨١

مُسْتَقِيمٌ ٣٦ : ٦١. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٦ : ١٥٢وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ٦ : ١٥٣) .

وبما أنّ عبادة الله لا تنحصر في نوع معيّن ، بل تعمّ أفعال الجانِحة وأفعال الجارحة على كَثرتها ، فقد يُلاحَظ المعنى العامّ الشامل لهذه الأفعال كلّها ، فيعبّر عنه باللفظ المفرد كالصراط المستقيم ، والصراط السويّ ، وقد تُلاحَظ الأنواع على كَثرتها مِن الإيمان بالله وبرسوله وبالمعاد ، ومِن الصلاة والصيام والحجّ وما سوى ذلك ، فيُعبّر عنها بالجَمْع .

( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ٥ : ١٥. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ٥ : ١٦. وَمَا لَنَا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ١٤ : ١٢. وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ٢٩ : ٦٩) .

الإنعام :

الإفضال بالنعمة وزيادتها ، ومَن أنعَم الله عليهم هم الذين سلَكوا ( الصِراط المستقيم ) ، ولمْ يَمِل بهم الهوى إلى طاعة الشيطان ؛ ولذلك قد فازوا بالحياة الدائمة والسعادة الأبديّة ، وفوق ذلك كلِّه فازوا برضوانٍ مِن الله :

( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ٩ : ٧٢) .

٤٨٢

الغضَب :

السَخَط ، وتقابلُه الرحمة ، والمغضوب عليهم هُم الذين توغّلوا في الكُفر وعنَدوا عن الحقّ ، ونبَذوا آيات الله وراء ظهورهـم ، ولا يراد به مُطلق الكافر :

( وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ١٦ : ١٠٦ .

الضلال :

التَيه ويُقابلُه الهدى ، والضالّون هم الذين سلَكوا غير طريق الهدى ، فأفضى بهم إلى الهلاك الأبديّ والعذاب الدائم ، ولكنّهم دون المغضوب عليهم في شدّة الكُفر ؛ لأنّهم وإنْ ضلّوا الطريق المستقيم عن تقصيرٍ في البحث والفحْص ، إلاّ أنّهم لم يُعاندوا الحقّ بعد وضوحه ، وقد ورَد في المأثور أنّ المغضوب عليهم هُم اليهود ، والضالّين هُم النصارى وقد تقدّم(١) أنّ الآيات القرآنية لا تختصّ بمَورد ، وأنّ كلّ ما يُذكَر لها مِن المعاني ، فهو مِن باب تطبيق الكبرى .

الإعراب

( غير المغضوب عليهم ) : بدَل مِن جملة ( الذين أنعمْتَ عليهم ) ، أو صِفة لـ (الذين) وذلك : أنّ نِعمة الله كرَحمتِه قد وسِعَت جميع البَشَر ، فمنهم مَن شَكر ، ومنهم مَن كَفر :

( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ

_______________________

(١) الصفحة ٢٥ مِن هذا الكتاب

٤٨٣

يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) ٣١ : ٢٠ .

وإذن ففي توصيف مَن أنعَم الله عليهم بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين تقييدٌ لإطلاقه ، وتضييقٌ لسعَتِه ، فلا يشمل هؤلاء الذين لم يؤدّوا شُكر النعمة ، ويكون مدلول الآية : أنّ العبْد يطلب مِن الله الهداية إلى طريقٍ سلَكَه فريق خاصّ ، مِن الذين أنعَم الله عليهم ، وهُم الذين لم يبدّلوا نِعمة الله كفراً ، فحازوا بإطاعتهم واستقامتهم نعمةَ الآخرة ، كما كانوا حائزين نعمة الدنيا ، فاتّصلت لهم السعادة في الدنيا والعُقبى .

ونظير الآية المبارَكة أنْ يُقال : يجوز اقتناء كلَّ كتابٍ غير كتُب الضلال ، وعلى ذلك فلا مَوقع لقول بعضهم : إنّ كلمة غير متوغّلة في الإبهام ، ولا تُعرَف بما تضاف إليه ، فلا يصحّ جعْلَها صِفةً للمعرفة ، ولا لِما ذكَروه جواباً عن ذلك .

وخُلاصة القول :

إنّ الحُكم المذكور في القضية - خبَرية كانت أو إنشائية - إذا كان عامّاً لجميع الأفراد ، فإنّه يصحّ تخصيصه متى أُريد ذلك - بكلمة غير ، كما يصحّ تخصيصه بغيرها ، فتقول : جاءني جميع أهل البلد ، أو أكرِم جميعهم غير الفاسقين .

( الضالّين ) : عطف على المغضوب عليهم : وأُتيَ بكلمة ( لا ) تأكيداً للنفي ؛ لئلاّ يتوهّم السامع أنّ المنفيَّ هو المجموع ، وكلمة ( غير ) تدلّ على النفي التزاماً ، فاُجريَ عليها حُكمُ غيرها مِن دوالّ النفي تقول : جالِس رجُلاً غير فاسق ولا سيّء الخُلُق ، أُعبُد الله بغير كسَلٍ ولا ملَل ، وتوهّم بعض مقاربي عصرنا عدم جواز ذلك ، فأتعب نفْسَه في توجيه الآية المبارَكة ، ولم يأت بشيء ، واعترف بعجْزه عن الجواب .

التفسير

وبعد أنْ لقّن الله عبيده أنْ يعترفوا بين يدَيه بالتوحيد في العبادة والاستعانة

٤٨٤

لقنّهم أنْ يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم وقد اشتملت هذه السورة الكريمة في بدايتها على تمجيد الله سبحانه ، والثناء عليه بما هو أهلُه ، واشتملت في نهايتها على سؤال الهداية منه .

وبين تلك البداية وهذه الخاتمة أنزل الله تعالى قوله : ( إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين ) ، فهو نتيجة للتمجيد السابق وتَوطئة للسؤال اللاحق ، فإنّ في التمجيد السابق مِلاك حصْر العبادة والاستعانة به تعالى ، فالمستحقّ للعبادة إنّما هو الله بذاته وبرحمته وسلطانه ، وغيره لا يستحقّ أنْ يُعبَد أو يُستعان به .

وإذا كانت العبادة والاستعانة منحصرَتَين بالله سبحانه ، فلا مَناص للعبْد مِن أنْ يدعو ربّه الذي حصر عبادته واستعانته به ومِن هنا ورَد عن الطريقَين : ( أنّ الله تبارك وتعالى قد جعل هذه السورة نِصفَين : نِصفٌ له ونِصفٌ لعبْدِه ، فإذا قال العبد : الحمدُ لله ربِّ العالَمين ، يقول الله تعالى : مجَّدَني عبْدي ، وإذا قال : اهدنا الصِراط المستقيم ، قال الله تعالى : هذا لِعَبْدي ، ولِعَبْدي ما سأل )(١) .

ثمّ إنّك عرفتَ أنّ الطُرُق التي يسلُكها البشَر في أعمالهم وإيمانهم ثلاثة :

أحدها : الطريق الذي مهّده الله لعباده ، يسلُكُه مَن هَداه الله إليه بفضْله وإحسانه .

ثانيها : الطريق الذي يسلُكُه الضالّون .

ثالثها : الطريق الذي يسلُكُه المغضوب عليهم .

وقد بيّن الله سبحانه مغايرة الطريق المستقيم للطريقَين الآخَرَين ببيان أنّ سالِكي هذا الطريق غير سالِكي ذينك الطريقَين وبذلك بيّن أنّ مَن اجتنب الطريق المستقيم ، فلا مَناص له مِن الخُذلان ، إمّا بضلاله فحَسْب ، وإمّا بضلاله مع استحقاقه الغضَب الإلهي أعاذنا الله مِن الخُذلان وهدانا إلى صراطه المستقيم .

_______________________

(١) عيون أخبار الرضا - باب ما جاء عن الرضا مِن الأخبار المتفرّقة ص ١٦٦ ، طبعة إيران سنة ١٣١٧ هـ وتقدّم نظير هذا عن أبي هريرة في الصفحة ٤٤٦ مِن هذا الكتاب .

٤٨٥

٤٨٦

البحث الثالث

حول آية اِهدنا

٤٨٧

الهداية بمعنى الاستمرار الهداية بمعنى الثواب الهداية بمعنى الاستزادة منها .

٤٨٨

ذَكر المفسّرون : أنّ مَن يطلب الهداية مِن الله لا بدّ وأنْ يكون فاقداً لها ، فكيف يطلبها المسلم الموحِّد في صلاته ، وأجابوا عنه بوجوه :

١ - أنْ يُراد بالهداية : الاستمرار عليها ، فبعد ما منّ الله تعالى على المُصَلّي بهدايته إلى الإيمان ، يطلُب منه الاستمرار والثبات على هذه النعمة ؛ لئلاّ تزِل له قدَمٌ بعد ثبوتها .

٢ - أنْ يُراد بالهداية : الثواب فمعناه : اهدنا طريق الجنّة ثواباً لنا .

٣ - أنْ يُراد بالهداية : زيادتها ، فإنّ الهداية قابلة للزيادة والنقصان ، فمَن كان واجداً لمرتبةٍ منها جاز أنْ يطلُب مرتبةً أكمل منها .

وكلّ هذه الوجوه استحسانية تُخالِف ما يقتضيه ظاهر الآية المبارَكة ، والصحيح أنْ يقال : إنّ الهداية التي يطلُبُها المسلم في صلاته هي هداية غير حاصلة له ، وإنّما يطلب حصولها مِن ربِّه فضلاً منه ورحمة .

وتوضيح ذلك : أنّ الهداية مِن الله تعالى على قِسمَين : هداية عامّة وهداية خاصّة ، والهداية العامّة قد تكون تكوينيّة ، وقد تكون تشريعية ، أمّا الهداية العامّة التكوينية : فهي التي أعدّها الله تعالى في طبيعة كلّ موجود ، سواء أكان جماداً أمْ كان نباتاً أو حيواناً ، فهي تسري بطَبْعها أو باختيارها نحو كمالِها ، والله هو الذي أَودع فيها قوّة الاستكمال ، ألا تَرى كيف يهتدي النبات إلى نُموِّه ، فيسير إلى جهة لا صادّ له عن سَيرِه فيها ، وكيف يهتدي الحيوان ، فيُميِّز بين مَن يُؤذيه

٤٨٩

ومَن لا يُؤذيه ؟ فالفأرة تفرُّ مِن الهرّة ، ولا تفرّ مِن الشاة ، وكيف يهتدي النَمل والنَحْل إلى تشكيل جمعية وحكومة وبِناء مساكن ! وكيف يهتدي الطِفل إلى ثدْيِ أُمِّه ، ويرتضع منه في بَدْء وِلادته :

( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ٢٠ : ٥٠ .

وأمّا الهداية العامّة التشريعية : فهي الهداية التي بها هدى الله جميع البشَر بإرسال الرُسُل إليهم ، وإنزال الكتُب عليهم ، فقد أتمّ الحُجّة على الإنسان بإفاضته عليه العقل ، وتمييز الحقّ مِن الباطل ، ثمّ بإرساله رُسُلاً يَتْلون عليهم آياته ، ويُبيِّنون لهم شرائع أحكامه ، وقَرَن رسالتَهم بما يدلّ على صِدْقِها مِن مُعجزٍ باهرٍ ، وبرهانٍ قاهرٍ ، فمِن الناس مَن اهتدى ، ومنهم مَن حقّ عليه الضلالة :

( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) ٧٦ : ٣ .

وأمّا الهداية الخاصّة : فهي هداية تكوينيّة ، وعناية ربّانية خصّ الله بها بعض عِباده حسَب ما تقتضيه حِكمتُه ، فيُهيّئ له ما به يهتدي إلى كماله ويصِل إلى مقصوده ، ولولا تسديده لوَقع في الغيِّ والضلالة ، هذا وقد أُشير إلى هذا القِسم مِن الهداية في غير واحدٍ مِن الآيات المبارَكة ، قال عزّ مِن قائل :

( فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ٧ : ٣٠. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ٦ : ١٤٩. لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ٢ : ٢٧٢. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ٦ : ١٤٤. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٢ : ٢١٣. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ٢٨ : ٥٦وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ

٤٩٠

سُبُلَنَا ٢٩ : ٦٩. فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ١٤ : ٤) .

إلى غير ذلك مِن الآيات ، التي يُستفاد منها اختصاص هداية الله تعالى وعنايته الخاصّة بطائفةٍ خاصّة دون بقيّة الناس ، فالمسلم بعد ما اعترف بأنّ الله قد مَنَّ عليه بهدايته هدايةً عامّةً تكوينية وتشريعية ، طلَب مِن الله تعالى أنْ يهديَه بهدايته الخاصّة التكوينية ، التي يختصّ الله بها مَن يشاء مِن عِباده .

* * *

وصَفوَة القول :

إنّ البشَر بطَبعِه في معرض الهلاك والطغيان ، فلا بدّ للمسلم الموَحِّد أنْ لا يتَّكِل على نفْسه ، بل يستعين بربِّه ، ويدعوه لهدايته ، ليسلُكَ به الجادّة الوسطى ، فلا يكون مِن المغضوب عليهم ، ولا مِن الضالّين .

٤٩١

٤٩٢

قِسم التعليقات

٤٩٣

مصادر : حديث الثقلَين ، ترجمة : الحارث وافتراء الشعبيّ عليه مصادر : حديث لتَرْكبُنَّ سُنن مَن قبلَكم محادثة : بين المؤلِّف وحَبْر يهوديّ ترجمة : القرآن وشروطها قصّة : قريش في محاولتهم تعجيز النبيّ تحريف : رواية في صحيح البخاريّ رأي : محمّد عبْدَه في الطلاق الثلاث اختلاق الرازي نِسبة الجهل إلى الله على لسان الشيعة أحاديث : مشيئة الله أحاديث : إنّ الدعاء يُغيِّر القضاء أهمّية آية البَسْملة معرفة : بَدْء الخليقة في كتاب التكوين أحاديث : إنّ البَسْملة جزءٌ مِن القرآن قصّة : نسيان معاوية لقراءة البَسْملة قراءة : النبيّ البَسْملة وتوجيه رواية أنَس ابن تيمية : ونقْلُه أحاديث جواز زيارة القبور تُهمة : الآلوسي للشيعة حوار : بين المؤلِّف وعالِم حجازيّ فضيلة : تُربة الحسين (ع) تأويل : آية السجود بالكَشْـف حديث : إبليس مع الله الإسلام : يدور مدار الشهادتَين العبادة وأقسام دوافعها الأمْر بين الأمرَين : والحسنات والسيّئات مصادر : رواية الشفاعة .

٤٩٤

التعليقة (١)

ص ١٨

مصادر :

حديث الثقلَين

روى - حديث الثقلَين - أحمد في الجزء ٣ مِن مُسنده ص ١٤ ، ١٧ ، ٢٦ ، ٥٩ عن أبي سعيد الخدري ورواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن : الجزء ٢ ، ص ٤٣١ ، وأحمد في الجزء ٤ مِن مُسنَده : ص ٣٦٦ ، ٣٧١ عن زيد بن أرقم ورواه أحمد في : الجزء ٥ ص ١٨٢ ، ١٨٩ عن زيد بن ثابت .

ورواه جلال الدين السيوطي في ( جامعِه الصغير ) عن الطبراني عن زيد بن ثابت وصحّحه وقال العلاّمة المناوي في شرحه : الجزء ٣ ، ص ١٥ : قال الهيثمي : ( رجالُه مُوَثّقون ) .

ورَواه أيضاً أبو يعلى بسنَدٍ لا بأس به ، والحافظ عبد العزيز بن الأخضر ، وزاد أنّه قال في حجّة الوداع ( ووَهَم مَن زعَم وَضْعه كابن الجوزي ) ، قال السمهودي ( وفي الباب ما يزيد على عِشرين مِن الصحابة ) .

ورواه الحاكم في ( المستدرَك : الجزء ٣ ، ص ١٠٩ ) عن زيد بن أرقم وصحّحه ، ولم يعقبه الذهبيّ وفي ألفاظ الروايات اختلاف في التعبير ، لكنّها متّفقة في المقصود .

* * *

٤٩٥

التعليقة (٢)

ص ١٨

ترجمة :

الحارث وافتراء الشعبي عليه

هو الحارث بن عبد الله الأعوَر الهَمْداني ، وقد اتّفقت كلمات علماء الإمامية على أنّه مِن أعاظم أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعلى نزاهته ومكانته السامية ، ووَصفوه بالوَرع والتقوى ، والقيام بخدمة سيِّده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .

ونصّ على توثيقه الأعلام في كتُبهم الرجالية وغيرها ، وذَكر غير واحد مِن أكابر علماء السُنّة الحارث فأثنى عليه قال ابن حجر العسقلاني في ( تهذيب التهذيب ) في ترجمة الحارث :

قال الدوري عن ابن معين : ( الحارث قد سمع مِن ابن مسعود وليس به بأس ) وقال عثمان الدارمي عن ابن معين : ( ثقة ) وقال أشعث بن سوار عن ابن سيرين : ( أدركتُ الكوفة وهم يقدِّمون خمسة ، مَن بدأ بالحارث ثنّى بعبيدة ، ومَن بدأ بعبيدة ثنّى بالحارث ) وقال ابن أبي داود : ( كان الحارث أفْقَه الناس ، وأحسَب الناس ، وأفرَض الناس ، تعلَّم الفرائض مِن عليٍّ ) .

وقال أبو جعفر الطبري في المنتخَب مِن كتاب ( ذَيل المذيَّل ) تحت عنوان : مَن هلَك سنة ١٦١هـ : ( وكان الحارث مِن مقدّمي أصاحب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعبْد الله في الفقْه والعِلم بالفرائض والحِساب ) .

قال الذهبي في ترجمة الحارث : وحديث الحارث في السُنن الأربعة ، والنسائي مع تعنّته في الرجال ، فقد احتجّ به وقوّى أمره ، وكان مِن أوعية العِلم قال مُرّة بن خالد أنبأنا محمّد بن سيرين قال : ( كان مِن أصحاب ابن مسعود خمسة يُؤخَذ عنـهم ، أدركتُ منهم أربعة ، وفاتني الحارث فلمْ أرَه ، وكان يفضُل عليهم وكان أحسنهم )

٤٩٦

أقول : قد شاء التعصّب والهوى أنْ يقول الشعبي : ( حدّثني الحارث الأعور وكان كذّاباً ) ، وأنْ يُتابعَه جماعة على رأيِه .

قال أبو عبد الله القرطبي في الجزء الأوّل مِن تفسيره ص ٥ : ( الحارث رَماه الشعبيّ بالكَذِب ، وليس بشيء ولم يبين من الحارث كذِب ، وإنّما نَقِم عليه إفراطَه في حبِّ عليٍّ ( عليه السلام ) ، وتفضيله له على غيره ، ومِن هاهنا - والله أعلم - كذّبه الشعبيّ ؛ لأنّ الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر ، وإلى أنّه أوّل مَن أسلم ) .

قال ابن حجر في ترجمة الحارث : وقد فسّر ابن عبد البرّ في كتاب ( العِلم ) السرّ في طَعْن الشعبي على الحارث ، فقال : ( إنّما نَقِم عليه لإفراطه في حبّ عليّ ( عليه السلام ) ، وأظنّ أنّ الشعبي عوقِب على تكذيبه الحارث ؛ لأنّه لم تَبِن منه كِذبة أبداً ) .

وقال ابن شاهين في الثقات : قال أحمد بن صالح المصريّ : ( الحارث الأعور ثقة ما أحفَظه ، وما أحسن ما روى عن عليٍّ ، وأثنى عليه قيل له : فقد قال الشعبي : كان يكذب ، قال : لم يكن يكذب في الحديث ، إنّما كان كِذْبُه في رأيه ) .

بربِّك أخبرني أيّها الناقِد البصير هل يجوز في شريعة العِلم ؟ أو هل يُسوِّغ الدِين نِسبة الفاحشة إلى المسلم ، وقَذْفَه بالكذِب بمجرّد وَلائه لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وتفضيله إيّاه على غيره ؟ أليس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هو الذي جاهَر بتفضيل عليٍّ ( عليه السلام ) على غيره ، حتّى جعَله منه بمنزلة هارون مِن موسى ، وأثْبتَ له خِصالاً لم يحظَ بمِثلها رجُل مِن الصحابة .

وقد شهد بذلك - على ما رواه الحاكم في المستدرك : الجزء ٣ ، ص ١٠٨ - سعد بن أبي وقّاص أمام معاوية حين حمَلَه على سبِّه ، فقال : ( كيف أسبُّ رجُلاً كانت له خِصال مِن رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) ، لو أنّ لي واحدة منها لكان أحبّ إليَّ مِن حُمْر النِعَم ) ، ثمّ ذَكر قصّة الكِساء ، وحديث المَنزِلة وإعطاء الراية له في يوم خيبر ، ولم يكتفِ نبيُّ الإسلام ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك حتّى أعْلَم الأمّة بمَنزلته الرفيعة - كما في نفس المصدر ص ١٠٨ - فقال لعليّ : ( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، وغير ذلك مِن فضائله التي لا تُعدّ ولا تُحصى

٤٩٧

نعم ليس مِن الغريب أنْ يفتري الشعبي على الحارث ، ويصِفُه بالكَذِب ، فقد كان مِن صنايع الأُمَويّين يرتع في دنياهم ، ويسير على رغباتهم ، فقد بعَثه عبد الملك بن مروان - كما في كتاب النجوم الزاهرة : الجزء ١ ، ص ٢٠٨ - إلى مِصر بسبب البيعة للوليد بن عبد الملك ، ثمّ تولّى المظالم بالكوفة - كما في كتاب الأغاني : الجزء ٢ ، ص ١٢٠ - مِن قِبَل بشر بن مروان أيّام ولايته عليها مِن قِبَل عبد الملك ، ثمّ تولّى القضاء - كما في تاريخ الطبري : الجزء ٥ ، ص ٣١٠ الطبعة الثانية - مِن قِبَل عُمَر بن عبد العزيز في الكوفة ، فهو مَروانيّ النزعة ، يقول ويفعل بما يشاء له الهوى ، لا يتحرّج مِن كِذْبه ، ولا يتبرّم مِن خَطْل .

ذَكر أبو الفرج في الأغاني : الجزء ١ ، ص ١٢١ عن الحسن بن عمَر الفقيمي قال : ( دخلت على الشعبي ، فبينا أنا عنده في غرفته إذ سمعت صوت غناء ، فقلت أهذا في جوارك ؟ فأشرف بي على منزله ، فإذا بغلام كأنّه قمَر وهو يتغنّى . قال : فقال لي الشعبي : أتعرف هذا ؟ قلت : لا : فقال : هذا الذي أُوتيَ الحُكم صبيّاً ، هذا ابن سريج ) .

وذَكر أيضاً في : الجزء ٢ ، ص ٧١ عن عمَر بن أبي خليفة قال : ( كان الشعبي مع أبي في أعلى الدار ، فسمِعنا تحتنا غناءً حسَناً ، فقال له أبي : هل ترى شيئاً ؟ قال : لا فنظرنا ، فإذا غلام حَسَن الوَجه حديث السِنّ يتغنّى . فإذا هو ابن عائشة ، فجعل الشعبي يتعجّب مِن غنائه ، ويقول : يؤتي الحِكمة مَن يشاء ) .

وذَكر أيضاً في : الجزء ٢ ، ص ١٣٣ : ( إنّ مصعب بن الزبير أيّام وِلايته على الكوفة ، أخذ بيَد الشعبي وأدخله في حَجَلَة زوجته عائشة بنت طلحة ، وهي بارزة حاسرة ، فسأله عن حالها فأبدى رأيه فيها ، ووَصَفها له بما يريد ، ثمّ أمَر مصعب له بعَشَرة آلاف درهم وثلاثين ثوباً ) .

نعَم ليس غريباً مِن الشعبي أنْ يصِف الحارث بهذه الصِفة ، وقد افترى على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، كما في القرطبي الجزء ١ ص ١٥٨ حيث كان يحلِف بالله : ( لقد دخل عليٌّ حُفرَته وما حَفِظ القرآن ) .

٤٩٨

قال الصاحبي في فقْه اللُغة ، ص ١٧٠ : ( وهذا كلام شنيع جدّاً فيمَن يقول : سلوني قبل أنْ تفقدوني ، سلوني ، فما مِن آية إلاّ أعلَمُ بلَيلٍ نزلتْ أَمْ بنهار ، أَمْ في سَهلٍ أمْ في جبَل ) .

وروى السدي عن عبد خير عن عليٍّ : ( أنّه رأى مِن الناس طَيَرة عند وفاة رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) ، فأقْسم أنْ لا يضع على ظَهرِه رِداءً حتّى يجمَع القرآن ، قال : فجلس في بيته حتّى جمَع القرآن ، فهو أوّل مُصحف جُمِع فيه القرآن ، جمَعَه مِن قلْبِه ، وكان عند آل جعفر ) .

ألا تنظر أيّها المسلم الغيور إلى هذا الرجُل كيف تجرَّأ على الله وعلى رسوله ، وتكلَّم بهذا الكلام الشنيع ؟ أفيُقال مِثلُ هذا الكلام فيمَن هو باب مدينة عِلم الرسول ، والمُبيِّن لأمّته لِما أرسله الله به ؟ وفي ذلك روايات كثيرة ، كما في ( كنز العمّال : الجزء ٦ ، ص ١٥٦ ) - وفيمَن هو باب مدينة الحِكمة كما في ( صحيح الترمذي : الجزء ١٣ ، ص ١٧١ ) - وفيمَن هو مع القرآن والقرآن معه ، لن يفترِقا حتّى يرِدا على الحوض كما في ( مستدرَك الحاكم : الجزء ٣ ، ص ١٢٤ ، والجامع الصغير للسيوطي : الجزء ٤ ، ص ٣٥٦ ) إنّ الذين يكسبون الإثم سيُجزَون ما كانوا يقترفون .

* * *

التعليقة (٣)

ص ٢٠

مصادر :

حديث لتركبُنَّ سُنن مَن قبْلكُم

. ورَد هذا الحديث في مُسنَد أحمد : الجزء ٥ ، ص ٢١٨ ، مِن حديث أبي واقِد الليثي وعند البخاريّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسُنّة ، باب قَول النبيّ : لتتبعن سُنن مَن قَبْلكم ، الجزء ٨ ، ص ١٥١ وعند مُسلم في كتاب ( العِلم ) ، باب اتّباع سُنن اليهود والنصارى ، الجزء ٨ ، ص ٥٧ وفي مُسنَد أحمد : الجزء ٣ ، ص ٧٤ عن أبي سعيد الخدري وفي مجمع الزوائد للهيثمي : الجزء ٧ ، ص ٢٦١ عن ابن عبّاس .

٤٩٩

التعليقة (٤)

ص ٤٣

محادثة :

بين المؤلِّف وحَبْرٍ يهوديّ

وقد جرَت محادثة بيني وبين حَبرٍ مِن أحبار اليهود ، تتّصل بموضوع انتهاء شريعتهم بانتهاء أمَد حُجّتها وبرهانها قلـتُ له : هل التديّن بشريعة موسى ( عليه السلام ) يختصّ باليهود ، أو يعمّ مَن سواهم مِن الأُمَم ؟ فإنْ اختصّت شريعتُه باليهود لَزِم أنْ نُثبِت لسائر الأُمَم نبيّاً آخر ، فمَن هو ذلك النبيّ ؟ وإنْ كانت شريعة موسى عامّة لجميع البشَر ، فمِن الواجب أنْ تُقيموا شاهداً على صِدْق نبوّته وعمومها ، وليس لكم سبيل إلى ذلك ، فإنّ مُعجزاته ليست مشاهَدة للأجيال الآخرين ؛ ليحصل لهم العِلم بها ، وتواتر الخبر بهذه المُعجزات يتوقّف على : أنْ يصِل عدد المُخبِرين في كلّ جيل ، إلى حدٍّ يمنع العقلُ مِن تواطئهم على الكَذِب ، وهذا شيءٌ لا يسَعكم إثباته .

وأيُّ فَرْقٍ بين إخباركم أنتُم عن معاجز موسى ( عليه السلام ) ، وإخبار النصارى عن معاجز عيسى ( عليه السلام ) ، وإخبار كلِّ أُمّة أخرى بمعاجز أنبيائها الآخَرين ، فإذا لَزِم على الناس تصديقكم بما تُخبِرون به ، فلِمَ لا يجب على الناس تصديق المُخبِرين الآخَرين في نقْلِهم عن أنبيائهم ؟ ! .

وإذا كان الأمْر على هذه الصورة ، فلِمَ لا تُصدِّقون الأنبياء الآخَرين .

فقال : إنّ معاجز موسى ثابتة عند كلّ مِن اليهود ، والنصارى ، والمسلمين ، وكلّهم يعترفون بصِدْقها وأمّا معاجز غيره فلَمْ يعترف بها الجميع ، فهي لذلك تحتاج إلى الإثبات ، فقلتُ له : إنّ معجزات موسى ( عليه السلام ) لم تثبُت عند المسلمين ، ولا عند النصارى إلاّ بإخبار نبيّهم بذلك لا بالتواتر ، فإذا لَزم تصديق المُخبِر عن تلك المعاجز ، وهو يدّعي النبوّة لَزم الإيمان به والاعتقاد بنبوّته ، وإلاّ لم تثبُت تلك المعاجز أيضاً ، هذا شأن الشرائع السابقة .

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526