البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 34685
تحميل: 7585

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34685 / تحميل: 7585
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مِن الظالم بمِثل ما اعتدى عليه ، حسماً لمادّة الفساد ، وتحقيقاً لشريعة العدْل :

( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) ٢ : ١٩٤ .

وجوّز لوليّ المقتول أنْ يقتصّ مِن القاتل العامد :

( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) ١٧ : ٣٣ .

والقرآن بسلوكه طريق الاعتدال ، وأمره بالعدْل والاستقامة ، قد جمع نظام الدنيا إلى نظام الآخرة ، وتكفّل بما يُصلح الأُولى، وبما يضمن السعادة في الأخرى ، فهو الناموس الأكبر جاء به النبيّ الأعظم ؛ ليفوز به البشَر بكِلتا السعادتين ، وليس تشريعه دنيويّاً محْضاً لا نظَر فيه إلى الآخرة ، كما تجده في التوراة الرائجة ، فإنّه مع كِبَر حجمها لا تجد فيها مورداً تعرّضت فيه لوجود القيامة ، ولم تُخبر عن عالَمٍ آخر للجزاء على الأعمال الحسنة والقبيحة .

نعم صرّحت التوراة بأنّ أثَر الطاعة هو الغنى في الدنيا ، والتسلّط على الناس باستعبادهم ، وأنّ أثَر المعصية والسقوط عن عَين الربّ هو الموت وسلب الأموال والسلطة ، كما أنّ تشريع القرآن ليس أُخرويّاً محضاً لا تعَرُّض له بتنظيم أمور الدنيا ، كما في شريعة الإنجيل .

فشريعة القرآن شريعة كاملة تنظر إلى صلاح الدنيا مرّة ، وإلى صلاح الآخرة مرّة أخرى ، فيقول في تعليماته :

( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ٤ : ١٣ .

٦١

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ٤ : ١٤. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ٩٩ :٧. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ٩٩ : ٨. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ٢٨ : ٧٧) .

ويحثّ الناس - في كثير مِن آياته - على تحصيل العِلم ، وملازمة التقوى ، بينما يُبيح لهم لذائذ الحياة وجميع الطيّبات :

( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) ٧ : ٣٢ .

ويدعو كثيراً إلى عبادة الله ، وإلى التفكّر في آياته التشريعية والتكوينية وإلى التأمّل والتدبّر في الآفاق وفي الأنفس ، ومع ذلك لم يقتصر على هذه الناحية التي تُوصل الإنسان بربّه ، بل تعرّض للناحية الأخرى التي تجمعه مع أبناء نوعه .

وأحلّ له البيع :

( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) ٢ : ٢٧٥ .

وأمَره بالوفاء بالعقود .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ٥ : ١

٦٢

وأمَر بالتزويج الذي يكون به بقاء النوع الإنساني :

( وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ٢٤ : ٣٢فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ٤ : ٣) .

وأمر الإنسان بالإحسان إلى زوجتة ، والقيام بشؤونها ، وإلى الوالدَين والأقربين ، وإلى عامّة المسلمين ، بل وإلى البشَر كافّة ، فقال :

( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ٤ : ١٩وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ٢ : ٢٢٨وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ٤ : ٣٦وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ٢٨ : ٧٧إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ٧ : ٥٦وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ٢ : ١٩٥)

٦٣

هذه أمثلة مِن تعاليم القرآن التي نهج فيها منهج الاعتدال ، وقد أَوجب الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر على جميع أفراد الأمّة ، ولم يخصّه بطائفة خاصّة ، ولا بأفراد مخصوصين ، وهو بهذا التشريع قد فتح لتعاليمه أبواب الانتشار ، ونفخ فيها روح الحياة والاستمرار فقد جعل كلّ واحد مِن أفراد العائلة والبيئة مرشداً لهم ، ورقيباً عليهم ، بل جعل كلّ مسلم دليلاً وعيناً على سائر المسلمين يهديهم إلى الرشاد ، ويزجرهم عن البَغْيِ والفساد .

فالمسلمون بأجمعهم مكلّفون بتبليغ الأحكام ، وبتنفيذها ، أفهل تعلم جنوداً هي أقوى وأعظم تأثيراً مِن هذه الجنود ، ونحن نرى السلاطين يُنفّذون إرادتهم على الرعيّة بقوّة جنودهم ، ومِن الواضح أنّهم لا يلازمون الرعية في جميع الأمكنة والأزمان ، فكم فَرْق بين جُند الإسلام ، وجُند السلاطين

ومِن أعظم تعاليم القرآن التي تجمع كلمة المسلمين ، وتوحّد بين صفوفهم : المؤاخاة بين طبقات المسلمين ، ونبذ الميّزات إلاّ مِن حيث العِلم والتقوى ، حيث يقول :

( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ٤٩ : ١٣قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ٣٩ : ٩) .

قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :

إنّ الله عزّ وجلّ أعزّ بالإسلام مَن كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان مِن نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها ، وباسق أنسابها ، فالناس اليوم كلّهم أبيَضهم وأسوَدهم ، وقُرشِيِّهم وعربيِّهم وعجميِّهم مِن آدم وإنّ آدم خلَقه الله مِن طين ، وإنّ أحبَّ الناس

( البيان - ٥ )

٦٤

إلى الله عزّ وجلّ يوم القيامة أطْوَعهم له وأتقاهم ) (١) . وقال : ( فضْلُ العالِم على سائر الناس كفضْلي على أدناكم )(٢) .

فالإسلام قدّم سلمان الفارسي ؛ لكمال إيمانه حتّى جعله مِن أهل البيت(٣) ، وأخّر أبا لهَب عمّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لكُفْرِه

إنّك ترى أنّ نبيّ الإسلام لم يفتخر على قومه بنَسبٍ ولا حَسَب ، ولا بغيرهما ممّا كان الافتخار به شائعاً في عصرِه ، بل دعاهم إلى الإيمان بالله وباليوم الآخِر ، وإلى كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة ، وبذلك قد تمكّن أنْ يسيطر على أمّة ، كانت تتفاخر بالأنساب بقلوب مِلؤها الشِقاق والنفاق ، فأثّر في طِباعها حتّى أزال الكِبر والنخوة منها ، فأصبح الغنيُّ الشريف يُزوّج ابنته مِن المسلم الفقير ، وإن كان أدنى منه في النسَب(٤) .

هذه شريعة القرآن في إرشاداته وتعاليمه ، تتفقّد مصالح الفرد ، ومصالح المجتمع ، وتضع القوانين التي تكفل جميع ذلك ، ما يعود منها إلى الدنيا وما يرجع إلى الآخرة فهل يشكّ عاقل بعد هذا في نبوّة مَن جاء بهذا الشرع العظيم ، ولا سيّما إذا لاحظ أنّ نبيّ الإسلام قد نشأ بين أمّة وحشيّة ، لا معرفة لها بشيء مِن هذه التعليمات ؟ ! !

_______________________

(١) فروع الكافي ج ٢ باب ٢١ إنّ المؤمن كُفؤ المؤمنة .

(٢) الجامع الصغير بشرح المناوي ج ٤ ص ٤٣٢ .

(٣) البحار ج ٧٦ باب فضائل سلمان .

(٤) ومِن ذلك تزويج زياد بن لبيد ، وهو مِن أشرف بني بياضة ابنته مِن جُوَيبر ؛ لإسلامه وقد كان رجلاً قصيراً ذميماً محتاجاً عارياً ، وكان مِن قباح السودان فروع الكافي ج ٢ باب ٢١ إنّ المؤمن كُفؤ المؤمنة

٦٥

٤ - القرآن والإتقان في المعاني :

تعرّض القرآن الكريم لمواضيع كثيرة العدد ، متباعدة الأغراض مِن الإلهيّات والمعارف ، وبدء الخلْق والمعاد ، وما وراء الطبيعة مِن الروح والمَلَك وإبليس والجِنّ ، والفلَكيّات ، والأرض ، والتاريخ ، وشؤون فريق مِن الأنبياء الماضين ، وما جرى بينهم وبين أُممهم ، وللأمثال والاحتجاجات والأخلاقيات ، والحقوق العائلية ، والسياسات المدنية ، والنُظُم الاجتماعية والحربية ، والقضاء والقدر ، والكسْب والاختيار ، والعبادات والمعاملات ، والنكاح والطلاق ، والفرائض ، والحدود والقصاص وغير ذلك .

وقد أتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة ، التي لا يتطرّق إليها الفساد والنقد في أيّة جهة مِن جهاتها ، ولا يأتيها الباطل مِن بين يدَيها ولا مِن خلفها ، وهذا شيء يمتنع وقوعه عادة مِن البشَر - ولاسيّما ممّن نشأ بين أمّة جاهلة ، لا نصيب لها مِن المعارف ولا غيرها مِن العلوم - ولذلك نجد كلّ مَن ألّف في عِلمٍ مِن العلوم النظرية ، لا تمضي على مؤلَّفه مدّة حتّى يتّضح بطلان كثير مِن آرائه .

فإنّ العلوم النظرية كلّما ازداد البحث فيها وكَثُر ، ازدادت الحقائق فيها وضوحاً ، وظهر للمتأخّر خلاف ما أثبته المتقدِّم ، والحقيقة - كما يقولون - بنتُ البحث ، وكم ترك الأوّل للآخر ؛ ولهذا نرى كتُب الفلاسفة الأقدمين ، ومَن تأخّر عنهم مِن أهل التحقيق والنظر ، قد صارت عُرْضة لسهام النقد ممّن تأخّر ، حتّى أنّ بعض ما اعتقده السابقون برهاناً يقينيّاً ، أصبح بعد نقدِه وهْماً مِن الأوهام ، وخيالاً مِن الأخْيِلة .

والقرآن مع تطاول الزمان عليه ، وكثرة أغراضه ، وسمُوّ معانيه ، لم يوجد فيه ما يكون معْرَضاً للنقْد والاعتراض ، اللهمّ إلاّ أوهام مِن بعض المُكابرين ، حسبوها مِن النقد ، وسنتعرّض لها ، ونوضّح بطلانها إن شاء الله تعالى .

القرآن والإخبار بالغيب :

أخبر القرآن الكريم في عدّةٍ مِن آياته عن أمور مهمّة ، تتعلّق بما يأتي مِن

٦٦

الأنباء والحوادث ، وقد كان في جميع ما أخبر به صادقاً ، لم يخالف الواقع في شيء منها ولا شكّ في أنّ هذا مِن الإخبار بالغَيب ، ولا سبيل إليه غير طريق الوحي والنبوّة

فمِن الآيات التي أنبأت عن الغَيب قوله تعالى :

( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) ٨ : ٧

وهذه الآية نزلت في وقعة بَدْر ، وقد وعَد الله فيها المؤمنين بالنصر على عدوِّهم وبقَطْع دابِر الكافرين ، والمؤمنون على ما هم عليه مِن قِلّة العدد والعدّة ، حتّى أنّ الفارس فيهم كان هو المقداد ، أو هو والزبير بن العوّام ، والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوّة ، وقد وصفتهم الآية بأنّهم ذَوُوا شَوكة ، وأنّ المؤمنين أشفقوا مِن قتالهم ، ولكنّ الله يريد أنْ يُحقّ الحقّ بكلماته. وقد وفى للمؤمنين بوَعده ، ونصرهم على أعدائهم ، وقطَع دابر الكافرين .

ومنها قوله تعالى :

( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ١٥ : ٩٤إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ١٥ : ٩٥الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ١٥ : ٩٦) .

فإنّ هذه الآية الكريمة نزلت بمكّة في بدْء الدعوة الإسلامية ، وقد أخرج البزار والطبرانى في سبب نزولها عن أنس بن مالك : أنّها نزلت عند مرور النبيّ

٦٧

( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) على أُناس بمكّة ، فجعلوا يغمزون في قَفاه ويقولون: ( هذا الذي يزعم أنّه نبيّ ، ومعه جبرئيل )(١) . فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ونُصرة الله له ، وخذلانه للمشركين الذين ناوَأوه واستهزأوا بنبوّته ، واستخَفّوا بأمره .

وكان هذا الإخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد مِن الناس ، انحطاط شَوْكة قُريش ، وانكسار سلطانهم ، وظهور النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عليهم .

ونظير هذه الآية قوله تعالى :

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ٦١ : ٩ .

ومِن هذه الأنباء قوله تعالى :

( غُلِبَتِ الرُّومُ ٣٠ : ٢فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣٠: ٣) .

وقد وقع ما أخبرتْ به الآية بأقلّ مِن عشْر سنين ، فغَلَب ملِك الروم ، ودخل جيشه مملكة الفُرس

ومنها قوله تعالى :

( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ٥٤ : ٤٤سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ٥٤ : ٤٥) .

_______________________

(١) لُباب النقول ص ١٣٣ جلال الدين السيوطي

٦٨

فأخبر عن انهزام جمْع الكفّار وتفرّقهم وقمْع شَوْكتهم ، وقد وقع هذا في يوم بدْر أيضاً حين ضرب أبو جهل فرسه ، وتقدّم نحو الصفّ الأوّل قائلاً : ( نحن ننتصر اليوم مِن محمّد وأصحابه ) ، فأباده الله وجمْعَه ، وأنار الحقّ ورفع مناره ، وأعلى كلمته.

فانهزم الكافرون ، وظفر المسلمون عليهم ، حينما لم يكن يتوهّم أحد بأنّ ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً - ليس لهم عدّة ، ولا يصحبون غير فَرَس أو فرَسين وسبعين بعيراً يتعاقبون عليها - يظفرون بجمْعٍ كبير تامّ العدّة وافر العدد ، وكيف يستفحل أمْرُ أولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير ، حتّى تذهب شَوْكته كرماد اشتدّت به الريح ، لولا أمْرُ الله ، وإحكام النبوّة ، وصِدْق النيّات ؟ !

ومنها قوله تعالى :

( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) ١١١ : ٢ ، ٣ ، ٤ .

وقد تضمّنت هذه السورة نبأ دخول أبي لهَب ، ودخول زوجته النار ومعنى ذلك هو الإخبار عن عدم تشرّفهما بقبول الإسلام إلى آخر حياتهما ، وقد وقع ذلك .

٦ - القرآن وأسرار الخليقة :

أخبر القرآن الكريم في غير واحدة مِن آياته عمّا يتعلّق بسُنن الكَون ، ونواميس الطبيعة ، والأفلاك ، وغيرها ممّا لا سبيل إلى العِلم به في بدء الإسلام ، إلاّ مِن ناحية الوحيِ الإلهي وبعض هذه القوانين وإنْ عَلِم بها اليونانيون في تلك العصور ، أو غيرهم ممّن لهم سابق معرفة بالعلوم ، إلاّ أنّ الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العِلم بذلك وإنّ فريقاً ممّا أخبر به القرآن لم يتّضح ، إلاّ بعد توفّر العلوم ، وكَثْرة

٦٩

الاكتشافات وهذه الأنباء في القرآن كثيرة ، نتعرّض لها عند تفسيرنا الآيات التي تشير إليها إنْ شاء الله تعالى .

وقد أخَذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الأمور ، فصرّح ببعضها حيث يحْسُن التصريح ، وأشار إلى بعضها حيث تُحمد الإشارة ؛ لأنّ بعض هذه الأشياء ممّا يستعصي على عقول أهل ذلك العصر ، فكان مِن الرشد أنْ يُشير إليها ، إشارةً تتّضح لأهل العصور المقبلة حين يتقدّم العِلم ، وتكثر الاكتشافات

ومِن هذه الأسرار التي كَشف عنها الوحي السماوي ، وتنبّه إليها المتأخّرون ، ما في قوله تعالى :

( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) ١٥ : ١٩ .

فقد دلّت هذه الآية الكريمة على أنّ كلّ ما ينبت في الأرض له وزنٌ خاصّ ، وقد ثبت أخيراً أنّ كلّ نوع مِن أنواع النبات ، مركّب مِن أجزاء خاصّة على وزن مخصوص ، بحيث لو زِيد في بعض أجزائه أو نقص ، لكان ذلك مركّباً آخر وأنّ نسبة بعض الأجزاء إلى بعض مِن الدقّة ، بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقاً بأدقّ الموازين المعروفة للبشَر .

ومِن الأسرار الغريبة - التي أشار إليها الوحي الإلهي - حاجة إنتاج قِسم مِن الأشجار والنبات إلى لُقاح الرياح ، فقال سبحانه :

( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) ١٥ : ٢٢ .

فإنّ المفسّرين الأقدمين وإنْ حملوا اللقاح في الآية الكريمة على معنى الحَمْل ، باعتبار أنّه أحد معانيه ، وفسّروا الآية المباركة بحَمْل الرياح للسحاب ، أو المطر الذي يحمله السحاب ، ولكنّ التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام ،

٧٠

ولا سيّما بعد ملاحظة أنّ الرياح لا تحمل السحاب ، وإنّما تدفعه مِن مكان إلى مكان آخر .

والنظرة الصحيحة في معنى الآية - بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات - تفيدنا سِرّاً دقيقاً لم تُدركه أفكار السابقين ، وهو الإشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللُقاح ، وأنّ اللقاح قد يكون بسبب الرياح ، وهذا كما في المشمش والصنوبر والرمّان والبرتقال والقطن ، ونباتات الحبوب وغيرها ، فإذا نَضُجت حبوب الطلع انفتحت الأكياس ، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح ، فتسقط على مياسم الأزهار الأخرى عفْواً

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أنّ سُنّة الزواج لا تختصّ بالحيوان ، بل تعمّ النبات بجميع أقسامه بقوله :

( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ١٣ : ٣. سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ٣٦ : ٣٦) .

ومِن الأسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الأرض ، فقد قال عزّ مِن قائل :

( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً ) ٢٠ : ٥٣ .

تأمّل كيف تشير الآية إلى حركة الأرض إشارة جميلة ، لم تتّضح إلاّ بعد قرون ، وكيف تستعير للأرض لفْظ المَهْد الذي يُعمل للرضيع ، يهتزّ بنعومةٍ لينام فيه مستريحاً هادئاً ؟ وكذلك الأرض مَهْدٌ للبشَر وملائمة لهم ، مِن جهة حركتها الوضعية والانتقالية ، وكما أنّ تحرّك المهْد ؛ لغاية تربية الطفل واستراحته ،

٧١

فكذلك الأرض ، فإنّ حركتها اليومية والسنوية ؛ لغاية تربية الإنسان ، بل وجميع ما عليها مِن الحيوان والجماد والنبات .

تشير الآية المباركة إلى حركة الأرض إشارة جميلة ، ولم تصرّح بها ؛ لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها ، حتّى أنّه كان يُعدّ مِن الضروريات التي لا تقبل التشكيك(١) .

ومِن الأسرار التي كَشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرناً : وجود قارّة أخرى ، فقد قال سبحانه وتعالى :

( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) ٥٥ : ١٧ وهذه الآية الكريمة قد شغلت أذهان المفسّرين قروناً عديدة ، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتّى ، فقال بعضهم : المراد مَشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما ، وحمَله بعضهم على مشرقَيْ الصيف والشتاء ومغربَيهما ولكنّ الظاهر أنّ المراد بها الإشارة إلى وجود قارّة أخرى ، تكون على السطح الآخر للأرض ، يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنّا ؛ وذلك بدليل قوله تعالى :(يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ٤٣ : ٣٨ .

_______________________

(١) واجترأ الحكيم ( غاليله ) بعد الألف الهجري ، فأثبتَ الحركتَين ( الوضعية والانتقالية ) للأرض فأهانوه ، واضطهدوه حتّى قارب الهلكة ، ثمّ سُجن طويلاً مع جلالته ، وحقوقه العلمية ، فصار حكماء الإفرنج يكتمون كشفيّاتهم الأنيقة المخالفة للخرافات العتيقة ؛ خوفاً مِن الكنيسة الرومية الهيئة والإسلام ص ٦٣ طبعة بغداد .

٧٢

فإنّ الظاهر مِن هذه الآية ، أنّ البُعد بين المشرقَين هو أطْوَل مسافة محسوسة ، فلا يمكن حمْلها على مشرِقَي الشمس والقمر ولا على مشرقَي الصيف والشتاء ؛ لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطوَل مسافة محسوسة ، فلابدّ مِن أنْ يُراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب .

ومعنى ذلك أنْ يكون المغرب مشرقاً لجزء آخر مِن الكُرة الأرضية ليصحّ هذا التعبير ، فالآية تدلّ على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف ، إلاّ بعد مئات مِن السنين مِن نزول القرآن .

فالآيات التي ذَكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد ، يُراد منها النوع كقوله تعالى :

( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ٢ : ١١٥ .

والآيات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية ، يُراد منها الإشارة إلى القارّة الموجودة على السطح الآخر مِن الأرض

والآيات التي ذكرت ذلك بلفظ الجمْع ، يُراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكُرة الأرضية كما نشير إليه .

ومِن الأسرار التي أشار إليها القرآن الكريم كُرويّة الأرض ، فقال تعالى :

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٧ : ١٣٧رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ٣٧ : ٥فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ٧٠ : ٤٠) .

٧٣

ففي هذه الآيات الكريمة دلالة على تعدّد مطالع الشمس ومغاربها ، وفيه إشارة إلى كُروّية الأرض ، فإنّ طلوع الشمس على أيّ جزء مِن أجزاء الكُرة الأرضية ، يُلازم غروبها عن جزء آخر ، فيكون تعدّد المشارق والمغارب واضح لا تكلّف فيه ولا تعسّف .

وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيّام السنة ، لكنّه تَكلّف لا ينبغي أنْ يُصار إليه ، لأنّ الشمس لم تكن لها مطالع معيّنة ليقع الحَلْف بها ، بل تختلف تلك باختلاف الأراضي ، فلابدّ مِن أنْ يُراد بها المشارق والمغارب التي تتجدّد شيئاً فشيئاً ، باعتبار كُرويّة الأرض وحركتها .

وفي أخبار أئمّة الهدى مِن أهل البيت ( عليهم السلام ) وأدْعيَتِهم وخُطَبِهم ما يدلّ على كُروِيّة الأرض .

ومِن ذلك ما رُوي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال :

( صَحِبَني رجل كان يُمسي بالمغرب ويغلس بالفجر ، وكنت أنا أُصلّي المغرب إذا غَرُبتْ الشمس ، وأُصلّي الفجر إذا استبان ليَ الفجر ، فقال لي الرجل : ما يمنعك أنْ تصنع مثل ما أصنع ؟ فإنّ الشمس تطلع على قَوم قبلنا وتغرب عنّا ، وهي طالعة على قَوم آخرين بعد ، فقلت : إنّما علينا أنْ نُصلّي إذا وجبت الشمس عنّا وإذا طلع الفجر عندنا ، وعلى أولئك أنْ يُصلّوا إذا غَرُبتْ الشمس عنهم )(١) .

يستدلّ الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب ، الناشئ عن استدارة الأرض ، ويُقرّه الإمام ( عليه السلام ) على ذلك ، ولكن ينبّهه على وظيفته الدينية .

_______________________

(١) الوسائل ج ١ ص ٢٣٧ باب ١١٦ إنّ أوّل وقت المغرب غروب الشمس

٧٤

ومثله قول الإمام ( عليه السلام ) في خبر آخر : ( إنّما عليك مشرقُك ومغربُك ) ومِن ذلك ما وَرَد عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في دعائه عند الصباح والمساء :

( وجعل لكلّ واحد منهما حدّاً محدوداً ، وأمَداً ممدوداً ، يُولج كلّ واحد منهما في صاحبه ، ويُولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد )(١) .

أراد صلوات الله عليه بهذا البيان البديع التعريف ، بما لم تُدْركه العقول في تلك العصور وهو كُروِيّة الأرض ، وحيث أنّ هذا المعنى كان بعيداً عن أفهام الناس ؛ لانصراف العقول عن إدراك ذلك ، تلطّف - وهو الإمام العالِم بأساليب البيان - بالإشارة إلى ذلك على وجهٍ بليغ ، فإنّه ( عليه السلام ) لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامّة الناس ، مِن أنّ الليل ينقص تارةً فتُضاف مِن ساعاته إلى النهار ، وينقص النهار تارةً أخرى ، فتُضاف مِن ساعاته إلى الليل ؛ لاقتصر على الجملة الأُولى : ( يولَج كلّ واحد منهما في صاحبه ) ولَما احتاج إلى ذِكر الجملة الثانية : ( ويولج صاحبه فيه ) .

إذن فذِكر الجملة الثانية إنّما هو للدلالة على أنّ إيلاج كلّ مِن الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه ؛ لأنّ ظاهر الكلام أنّ الجملة الثانية حاليّة ، ففي هذا دلالة على كُروية الأرض ، وأنّ إيلاج الليل في النهار - مثلاً - عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قَوم آخرين .

ولو لم تكن مهمّة الإمام ( عليه السلام ) الإشارة إلى هذه النُكتة العظيمة ، لم تكن لهذه الجملة الأخيرة فائدة ، ولَكانت تكراراً معنويّاً للجملة الأُولى .

ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي ، وفي ذلك كفاية ودلالة على أنّ القرآن وحيٌ إلهي ، وخارج عن طَوق البشَر .

_______________________

(١) الصحيفة السجّادية الكاملة

٧٥

وكفى بالقرآن دليلاً على كَونه وحْياً إلهيّاً ، أنّه المدرسة الوحيدة التي تخرّج منها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، الذي يفتخر بفَهْم كلماته كلُّ عالِمٍ نِحرير ، وينهل مِن بحار عِلمه كلُّ محقّق متبحّر .

وهذه خُطَبه في نهج البلاغة ، فإنه حينما يوجّه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالاً لقائل ، حتّى لَيَخال مَن لا معرفة له بسيرته أنّه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه ، فممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المعارف والعلوم متّصلة بالوحي ، ومُقتبَسة مِن أنواره ؛ لأنّ مَن يعرف تاريخ جزيرة العرب - ولا سيّما الحجاز - لا يخطر بباله أنْ تكون هذه العلوم قد أُخذتْ عن غير منبع الوحي ولَنِعْم ما قيل في وَصْف نهج البلاغة : ( أنّه دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين ) .

بل أعود فأقول : إنّ تصديق عليّ ( عليه السلام ) - وهو على ما عليه مِن البراعة في البلاغة ، والمعارف وسائر العلوم - لإعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أنّ القرآن وحيٌ إلهي ، فإنّ تصديقه بذلك لا يجوز أنْ يكون ناشئاً عن الجهل والاغترار ، كيف وهو ربّ الفصاحة والبلاغة ، وإليه تنتهي جميع العلوم الإسلامية ، وهو المَثَل الأعلى في المعارف ، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف .

وكذلك لا يجوز أنْ يكون تصديقه هذا تصديقاً صوَرِيّاً ناشئاً عن طلب منفعة دنيوية من جاهٍ أو مال ، كيف وهو منار الزهد والتقوى ، وقد أعرَض عن الدنيا وزخارفها ، ورفض زعامة المسلمين حين اُشترط عليه أنْ يسير بسيرة الشيخَين ، وهو الذي لم يُصانع معاوية بإبقائه على ولايته أيّاماً قليلة ، مع عِلمه بعاقبة الأمر إذا عزَلَه عن الولاية .

وإذن فلابدّ مِن أنْ يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقاً حقيقيّاً ، مطابقاً للواقع ، ناشئاً عن الإيمان الصادق ، وهذا هو الصحيح ، والواقع المطلوب .

٧٦

٧٧

أوهام حَول إعجاز القرآن

٧٨

القرآن والقواعد كيف يثبت الإعجاز لجميع البشَر قَول النظام بالصرفة مخالفة قُصص القرآن لكتُب العهدَين وجود التناقض في الإنجيل إبطال الجَبْر والتفويض إثبات الأمر بين الأمرين في القرآن القرآن كان مجموعاً على عهد النبيّ أسلوب القرآن في جمْعِه بين المواضيع المختلفة سخافات وخرافات في معارضة سورتَين مِن القرآن .

٧٩

لقد تحدّى القرآن جميع البشَر ، وطالبهم أنْ يأتوا بسورة مِن مِثْله ، فلم يستطع أحدٌ أنْ يقوم بمعارضته ، ولمّا كَبُر على المعاندين أنْ يستظهر القرآن على خصومه ، راموا أنْ يحطّوا مِن كرامته بأوهام نسجتْها الأخْيِلة حول عَظَمة القرآن ، تأييداً لمذاهبهم الفاسدة .

ومِن الحَسَن أنْ نتعرّض لهذه الأوهام التي أتعبوا بها أنفسهم ؛ ليتبيّن مبْلَغُهم مِن العِلم ، وأنّ الأهواء كيف تذهب بهم يميناً وشمالاً ، فتُرديهم في مهوىً سحيق قالوا :

١ - إنّ في القرآن أموراً تنافي البلاغة ؛ لأنّها تخالف القواعد العربية ، ومِثْلُ هذا لا يكون مُعجزاً .

وهذا القول باطل مِن وجهَين :

الأوّل : إنّ القرآن نزل بين بُلَغاء العرب وفُصَحائها ، وقد تحدّاهم إلى معارضته ، ولو بالإتيان بسورة واحدة ، وذكر أنّ الخَلْق لا يقدرون على ذلك ، ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً ، فلو كان في القرآن ما يخالف كلام العرب ، فإنّ هؤلاء البُلغاء العارفين بأساليب اللغة ومزاياها لأخذوه حجّة عليه ، ولعابوه بذلك ، واستراحوا به عن معارضته باللسان أو السِنان ، ولو وقع شيء مِن ذلك ؛ لاحتفظ به التاريخ ، ولَتواتر نقله بين أعداء الإسلام ، كيف ولم يُنقل ذلك ولا بخبر واحد ؟ .

(البيان - ٦)

٨٠