البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن11%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36224 / تحميل: 8327
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

مِن الظالم بمِثل ما اعتدى عليه ، حسماً لمادّة الفساد ، وتحقيقاً لشريعة العدْل :

( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) ٢ : ١٩٤ .

وجوّز لوليّ المقتول أنْ يقتصّ مِن القاتل العامد :

( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) ١٧ : ٣٣ .

والقرآن بسلوكه طريق الاعتدال ، وأمره بالعدْل والاستقامة ، قد جمع نظام الدنيا إلى نظام الآخرة ، وتكفّل بما يُصلح الأُولى، وبما يضمن السعادة في الأخرى ، فهو الناموس الأكبر جاء به النبيّ الأعظم ؛ ليفوز به البشَر بكِلتا السعادتين ، وليس تشريعه دنيويّاً محْضاً لا نظَر فيه إلى الآخرة ، كما تجده في التوراة الرائجة ، فإنّه مع كِبَر حجمها لا تجد فيها مورداً تعرّضت فيه لوجود القيامة ، ولم تُخبر عن عالَمٍ آخر للجزاء على الأعمال الحسنة والقبيحة .

نعم صرّحت التوراة بأنّ أثَر الطاعة هو الغنى في الدنيا ، والتسلّط على الناس باستعبادهم ، وأنّ أثَر المعصية والسقوط عن عَين الربّ هو الموت وسلب الأموال والسلطة ، كما أنّ تشريع القرآن ليس أُخرويّاً محضاً لا تعَرُّض له بتنظيم أمور الدنيا ، كما في شريعة الإنجيل .

فشريعة القرآن شريعة كاملة تنظر إلى صلاح الدنيا مرّة ، وإلى صلاح الآخرة مرّة أخرى ، فيقول في تعليماته :

( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ٤ : ١٣ .

٦١

وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ٤ : ١٤. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ٩٩ :٧. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ٩٩ : ٨. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ٢٨ : ٧٧) .

ويحثّ الناس - في كثير مِن آياته - على تحصيل العِلم ، وملازمة التقوى ، بينما يُبيح لهم لذائذ الحياة وجميع الطيّبات :

( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) ٧ : ٣٢ .

ويدعو كثيراً إلى عبادة الله ، وإلى التفكّر في آياته التشريعية والتكوينية وإلى التأمّل والتدبّر في الآفاق وفي الأنفس ، ومع ذلك لم يقتصر على هذه الناحية التي تُوصل الإنسان بربّه ، بل تعرّض للناحية الأخرى التي تجمعه مع أبناء نوعه .

وأحلّ له البيع :

( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) ٢ : ٢٧٥ .

وأمَره بالوفاء بالعقود .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ٥ : ١

٦٢

وأمَر بالتزويج الذي يكون به بقاء النوع الإنساني :

( وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ٢٤ : ٣٢فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ٤ : ٣) .

وأمر الإنسان بالإحسان إلى زوجتة ، والقيام بشؤونها ، وإلى الوالدَين والأقربين ، وإلى عامّة المسلمين ، بل وإلى البشَر كافّة ، فقال :

( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ٤ : ١٩وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ٢ : ٢٢٨وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ٤ : ٣٦وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ٢٨ : ٧٧إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ٧ : ٥٦وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ٢ : ١٩٥)

٦٣

هذه أمثلة مِن تعاليم القرآن التي نهج فيها منهج الاعتدال ، وقد أَوجب الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر على جميع أفراد الأمّة ، ولم يخصّه بطائفة خاصّة ، ولا بأفراد مخصوصين ، وهو بهذا التشريع قد فتح لتعاليمه أبواب الانتشار ، ونفخ فيها روح الحياة والاستمرار فقد جعل كلّ واحد مِن أفراد العائلة والبيئة مرشداً لهم ، ورقيباً عليهم ، بل جعل كلّ مسلم دليلاً وعيناً على سائر المسلمين يهديهم إلى الرشاد ، ويزجرهم عن البَغْيِ والفساد .

فالمسلمون بأجمعهم مكلّفون بتبليغ الأحكام ، وبتنفيذها ، أفهل تعلم جنوداً هي أقوى وأعظم تأثيراً مِن هذه الجنود ، ونحن نرى السلاطين يُنفّذون إرادتهم على الرعيّة بقوّة جنودهم ، ومِن الواضح أنّهم لا يلازمون الرعية في جميع الأمكنة والأزمان ، فكم فَرْق بين جُند الإسلام ، وجُند السلاطين

ومِن أعظم تعاليم القرآن التي تجمع كلمة المسلمين ، وتوحّد بين صفوفهم : المؤاخاة بين طبقات المسلمين ، ونبذ الميّزات إلاّ مِن حيث العِلم والتقوى ، حيث يقول :

( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ٤٩ : ١٣قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ٣٩ : ٩) .

قال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :

إنّ الله عزّ وجلّ أعزّ بالإسلام مَن كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان مِن نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها ، وباسق أنسابها ، فالناس اليوم كلّهم أبيَضهم وأسوَدهم ، وقُرشِيِّهم وعربيِّهم وعجميِّهم مِن آدم وإنّ آدم خلَقه الله مِن طين ، وإنّ أحبَّ الناس

( البيان - ٥ )

٦٤

إلى الله عزّ وجلّ يوم القيامة أطْوَعهم له وأتقاهم ) (١) . وقال : ( فضْلُ العالِم على سائر الناس كفضْلي على أدناكم )(٢) .

فالإسلام قدّم سلمان الفارسي ؛ لكمال إيمانه حتّى جعله مِن أهل البيت(٣) ، وأخّر أبا لهَب عمّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لكُفْرِه

إنّك ترى أنّ نبيّ الإسلام لم يفتخر على قومه بنَسبٍ ولا حَسَب ، ولا بغيرهما ممّا كان الافتخار به شائعاً في عصرِه ، بل دعاهم إلى الإيمان بالله وباليوم الآخِر ، وإلى كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة ، وبذلك قد تمكّن أنْ يسيطر على أمّة ، كانت تتفاخر بالأنساب بقلوب مِلؤها الشِقاق والنفاق ، فأثّر في طِباعها حتّى أزال الكِبر والنخوة منها ، فأصبح الغنيُّ الشريف يُزوّج ابنته مِن المسلم الفقير ، وإن كان أدنى منه في النسَب(٤) .

هذه شريعة القرآن في إرشاداته وتعاليمه ، تتفقّد مصالح الفرد ، ومصالح المجتمع ، وتضع القوانين التي تكفل جميع ذلك ، ما يعود منها إلى الدنيا وما يرجع إلى الآخرة فهل يشكّ عاقل بعد هذا في نبوّة مَن جاء بهذا الشرع العظيم ، ولا سيّما إذا لاحظ أنّ نبيّ الإسلام قد نشأ بين أمّة وحشيّة ، لا معرفة لها بشيء مِن هذه التعليمات ؟ ! !

_______________________

(١) فروع الكافي ج ٢ باب ٢١ إنّ المؤمن كُفؤ المؤمنة .

(٢) الجامع الصغير بشرح المناوي ج ٤ ص ٤٣٢ .

(٣) البحار ج ٧٦ باب فضائل سلمان .

(٤) ومِن ذلك تزويج زياد بن لبيد ، وهو مِن أشرف بني بياضة ابنته مِن جُوَيبر ؛ لإسلامه وقد كان رجلاً قصيراً ذميماً محتاجاً عارياً ، وكان مِن قباح السودان فروع الكافي ج ٢ باب ٢١ إنّ المؤمن كُفؤ المؤمنة

٦٥

٤ - القرآن والإتقان في المعاني :

تعرّض القرآن الكريم لمواضيع كثيرة العدد ، متباعدة الأغراض مِن الإلهيّات والمعارف ، وبدء الخلْق والمعاد ، وما وراء الطبيعة مِن الروح والمَلَك وإبليس والجِنّ ، والفلَكيّات ، والأرض ، والتاريخ ، وشؤون فريق مِن الأنبياء الماضين ، وما جرى بينهم وبين أُممهم ، وللأمثال والاحتجاجات والأخلاقيات ، والحقوق العائلية ، والسياسات المدنية ، والنُظُم الاجتماعية والحربية ، والقضاء والقدر ، والكسْب والاختيار ، والعبادات والمعاملات ، والنكاح والطلاق ، والفرائض ، والحدود والقصاص وغير ذلك .

وقد أتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة ، التي لا يتطرّق إليها الفساد والنقد في أيّة جهة مِن جهاتها ، ولا يأتيها الباطل مِن بين يدَيها ولا مِن خلفها ، وهذا شيء يمتنع وقوعه عادة مِن البشَر - ولاسيّما ممّن نشأ بين أمّة جاهلة ، لا نصيب لها مِن المعارف ولا غيرها مِن العلوم - ولذلك نجد كلّ مَن ألّف في عِلمٍ مِن العلوم النظرية ، لا تمضي على مؤلَّفه مدّة حتّى يتّضح بطلان كثير مِن آرائه .

فإنّ العلوم النظرية كلّما ازداد البحث فيها وكَثُر ، ازدادت الحقائق فيها وضوحاً ، وظهر للمتأخّر خلاف ما أثبته المتقدِّم ، والحقيقة - كما يقولون - بنتُ البحث ، وكم ترك الأوّل للآخر ؛ ولهذا نرى كتُب الفلاسفة الأقدمين ، ومَن تأخّر عنهم مِن أهل التحقيق والنظر ، قد صارت عُرْضة لسهام النقد ممّن تأخّر ، حتّى أنّ بعض ما اعتقده السابقون برهاناً يقينيّاً ، أصبح بعد نقدِه وهْماً مِن الأوهام ، وخيالاً مِن الأخْيِلة .

والقرآن مع تطاول الزمان عليه ، وكثرة أغراضه ، وسمُوّ معانيه ، لم يوجد فيه ما يكون معْرَضاً للنقْد والاعتراض ، اللهمّ إلاّ أوهام مِن بعض المُكابرين ، حسبوها مِن النقد ، وسنتعرّض لها ، ونوضّح بطلانها إن شاء الله تعالى .

القرآن والإخبار بالغيب :

أخبر القرآن الكريم في عدّةٍ مِن آياته عن أمور مهمّة ، تتعلّق بما يأتي مِن

٦٦

الأنباء والحوادث ، وقد كان في جميع ما أخبر به صادقاً ، لم يخالف الواقع في شيء منها ولا شكّ في أنّ هذا مِن الإخبار بالغَيب ، ولا سبيل إليه غير طريق الوحي والنبوّة

فمِن الآيات التي أنبأت عن الغَيب قوله تعالى :

( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) ٨ : ٧

وهذه الآية نزلت في وقعة بَدْر ، وقد وعَد الله فيها المؤمنين بالنصر على عدوِّهم وبقَطْع دابِر الكافرين ، والمؤمنون على ما هم عليه مِن قِلّة العدد والعدّة ، حتّى أنّ الفارس فيهم كان هو المقداد ، أو هو والزبير بن العوّام ، والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوّة ، وقد وصفتهم الآية بأنّهم ذَوُوا شَوكة ، وأنّ المؤمنين أشفقوا مِن قتالهم ، ولكنّ الله يريد أنْ يُحقّ الحقّ بكلماته. وقد وفى للمؤمنين بوَعده ، ونصرهم على أعدائهم ، وقطَع دابر الكافرين .

ومنها قوله تعالى :

( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ١٥ : ٩٤إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ١٥ : ٩٥الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ١٥ : ٩٦) .

فإنّ هذه الآية الكريمة نزلت بمكّة في بدْء الدعوة الإسلامية ، وقد أخرج البزار والطبرانى في سبب نزولها عن أنس بن مالك : أنّها نزلت عند مرور النبيّ

٦٧

( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) على أُناس بمكّة ، فجعلوا يغمزون في قَفاه ويقولون: ( هذا الذي يزعم أنّه نبيّ ، ومعه جبرئيل )(١) . فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ونُصرة الله له ، وخذلانه للمشركين الذين ناوَأوه واستهزأوا بنبوّته ، واستخَفّوا بأمره .

وكان هذا الإخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد مِن الناس ، انحطاط شَوْكة قُريش ، وانكسار سلطانهم ، وظهور النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عليهم .

ونظير هذه الآية قوله تعالى :

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ٦١ : ٩ .

ومِن هذه الأنباء قوله تعالى :

( غُلِبَتِ الرُّومُ ٣٠ : ٢فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣٠: ٣) .

وقد وقع ما أخبرتْ به الآية بأقلّ مِن عشْر سنين ، فغَلَب ملِك الروم ، ودخل جيشه مملكة الفُرس

ومنها قوله تعالى :

( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ٥٤ : ٤٤سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ٥٤ : ٤٥) .

_______________________

(١) لُباب النقول ص ١٣٣ جلال الدين السيوطي

٦٨

فأخبر عن انهزام جمْع الكفّار وتفرّقهم وقمْع شَوْكتهم ، وقد وقع هذا في يوم بدْر أيضاً حين ضرب أبو جهل فرسه ، وتقدّم نحو الصفّ الأوّل قائلاً : ( نحن ننتصر اليوم مِن محمّد وأصحابه ) ، فأباده الله وجمْعَه ، وأنار الحقّ ورفع مناره ، وأعلى كلمته.

فانهزم الكافرون ، وظفر المسلمون عليهم ، حينما لم يكن يتوهّم أحد بأنّ ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً - ليس لهم عدّة ، ولا يصحبون غير فَرَس أو فرَسين وسبعين بعيراً يتعاقبون عليها - يظفرون بجمْعٍ كبير تامّ العدّة وافر العدد ، وكيف يستفحل أمْرُ أولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير ، حتّى تذهب شَوْكته كرماد اشتدّت به الريح ، لولا أمْرُ الله ، وإحكام النبوّة ، وصِدْق النيّات ؟ !

ومنها قوله تعالى :

( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) ١١١ : ٢ ، ٣ ، ٤ .

وقد تضمّنت هذه السورة نبأ دخول أبي لهَب ، ودخول زوجته النار ومعنى ذلك هو الإخبار عن عدم تشرّفهما بقبول الإسلام إلى آخر حياتهما ، وقد وقع ذلك .

٦ - القرآن وأسرار الخليقة :

أخبر القرآن الكريم في غير واحدة مِن آياته عمّا يتعلّق بسُنن الكَون ، ونواميس الطبيعة ، والأفلاك ، وغيرها ممّا لا سبيل إلى العِلم به في بدء الإسلام ، إلاّ مِن ناحية الوحيِ الإلهي وبعض هذه القوانين وإنْ عَلِم بها اليونانيون في تلك العصور ، أو غيرهم ممّن لهم سابق معرفة بالعلوم ، إلاّ أنّ الجزيرة العربية كانت بعيدة عن العِلم بذلك وإنّ فريقاً ممّا أخبر به القرآن لم يتّضح ، إلاّ بعد توفّر العلوم ، وكَثْرة

٦٩

الاكتشافات وهذه الأنباء في القرآن كثيرة ، نتعرّض لها عند تفسيرنا الآيات التي تشير إليها إنْ شاء الله تعالى .

وقد أخَذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الأمور ، فصرّح ببعضها حيث يحْسُن التصريح ، وأشار إلى بعضها حيث تُحمد الإشارة ؛ لأنّ بعض هذه الأشياء ممّا يستعصي على عقول أهل ذلك العصر ، فكان مِن الرشد أنْ يُشير إليها ، إشارةً تتّضح لأهل العصور المقبلة حين يتقدّم العِلم ، وتكثر الاكتشافات

ومِن هذه الأسرار التي كَشف عنها الوحي السماوي ، وتنبّه إليها المتأخّرون ، ما في قوله تعالى :

( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) ١٥ : ١٩ .

فقد دلّت هذه الآية الكريمة على أنّ كلّ ما ينبت في الأرض له وزنٌ خاصّ ، وقد ثبت أخيراً أنّ كلّ نوع مِن أنواع النبات ، مركّب مِن أجزاء خاصّة على وزن مخصوص ، بحيث لو زِيد في بعض أجزائه أو نقص ، لكان ذلك مركّباً آخر وأنّ نسبة بعض الأجزاء إلى بعض مِن الدقّة ، بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقاً بأدقّ الموازين المعروفة للبشَر .

ومِن الأسرار الغريبة - التي أشار إليها الوحي الإلهي - حاجة إنتاج قِسم مِن الأشجار والنبات إلى لُقاح الرياح ، فقال سبحانه :

( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) ١٥ : ٢٢ .

فإنّ المفسّرين الأقدمين وإنْ حملوا اللقاح في الآية الكريمة على معنى الحَمْل ، باعتبار أنّه أحد معانيه ، وفسّروا الآية المباركة بحَمْل الرياح للسحاب ، أو المطر الذي يحمله السحاب ، ولكنّ التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام ،

٧٠

ولا سيّما بعد ملاحظة أنّ الرياح لا تحمل السحاب ، وإنّما تدفعه مِن مكان إلى مكان آخر .

والنظرة الصحيحة في معنى الآية - بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات - تفيدنا سِرّاً دقيقاً لم تُدركه أفكار السابقين ، وهو الإشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللُقاح ، وأنّ اللقاح قد يكون بسبب الرياح ، وهذا كما في المشمش والصنوبر والرمّان والبرتقال والقطن ، ونباتات الحبوب وغيرها ، فإذا نَضُجت حبوب الطلع انفتحت الأكياس ، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح ، فتسقط على مياسم الأزهار الأخرى عفْواً

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أنّ سُنّة الزواج لا تختصّ بالحيوان ، بل تعمّ النبات بجميع أقسامه بقوله :

( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ١٣ : ٣. سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ٣٦ : ٣٦) .

ومِن الأسرار التي كشف عنها القرآن هي حركة الأرض ، فقد قال عزّ مِن قائل :

( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً ) ٢٠ : ٥٣ .

تأمّل كيف تشير الآية إلى حركة الأرض إشارة جميلة ، لم تتّضح إلاّ بعد قرون ، وكيف تستعير للأرض لفْظ المَهْد الذي يُعمل للرضيع ، يهتزّ بنعومةٍ لينام فيه مستريحاً هادئاً ؟ وكذلك الأرض مَهْدٌ للبشَر وملائمة لهم ، مِن جهة حركتها الوضعية والانتقالية ، وكما أنّ تحرّك المهْد ؛ لغاية تربية الطفل واستراحته ،

٧١

فكذلك الأرض ، فإنّ حركتها اليومية والسنوية ؛ لغاية تربية الإنسان ، بل وجميع ما عليها مِن الحيوان والجماد والنبات .

تشير الآية المباركة إلى حركة الأرض إشارة جميلة ، ولم تصرّح بها ؛ لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها ، حتّى أنّه كان يُعدّ مِن الضروريات التي لا تقبل التشكيك(١) .

ومِن الأسرار التي كَشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرناً : وجود قارّة أخرى ، فقد قال سبحانه وتعالى :

( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) ٥٥ : ١٧ وهذه الآية الكريمة قد شغلت أذهان المفسّرين قروناً عديدة ، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتّى ، فقال بعضهم : المراد مَشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما ، وحمَله بعضهم على مشرقَيْ الصيف والشتاء ومغربَيهما ولكنّ الظاهر أنّ المراد بها الإشارة إلى وجود قارّة أخرى ، تكون على السطح الآخر للأرض ، يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنّا ؛ وذلك بدليل قوله تعالى :(يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ٤٣ : ٣٨ .

_______________________

(١) واجترأ الحكيم ( غاليله ) بعد الألف الهجري ، فأثبتَ الحركتَين ( الوضعية والانتقالية ) للأرض فأهانوه ، واضطهدوه حتّى قارب الهلكة ، ثمّ سُجن طويلاً مع جلالته ، وحقوقه العلمية ، فصار حكماء الإفرنج يكتمون كشفيّاتهم الأنيقة المخالفة للخرافات العتيقة ؛ خوفاً مِن الكنيسة الرومية الهيئة والإسلام ص ٦٣ طبعة بغداد .

٧٢

فإنّ الظاهر مِن هذه الآية ، أنّ البُعد بين المشرقَين هو أطْوَل مسافة محسوسة ، فلا يمكن حمْلها على مشرِقَي الشمس والقمر ولا على مشرقَي الصيف والشتاء ؛ لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطوَل مسافة محسوسة ، فلابدّ مِن أنْ يُراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب .

ومعنى ذلك أنْ يكون المغرب مشرقاً لجزء آخر مِن الكُرة الأرضية ليصحّ هذا التعبير ، فالآية تدلّ على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف ، إلاّ بعد مئات مِن السنين مِن نزول القرآن .

فالآيات التي ذَكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد ، يُراد منها النوع كقوله تعالى :

( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ٢ : ١١٥ .

والآيات التي ذكرت ذلك بلفظ التثنية ، يُراد منها الإشارة إلى القارّة الموجودة على السطح الآخر مِن الأرض

والآيات التي ذكرت ذلك بلفظ الجمْع ، يُراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكُرة الأرضية كما نشير إليه .

ومِن الأسرار التي أشار إليها القرآن الكريم كُرويّة الأرض ، فقال تعالى :

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٧ : ١٣٧رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ٣٧ : ٥فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ٧٠ : ٤٠) .

٧٣

ففي هذه الآيات الكريمة دلالة على تعدّد مطالع الشمس ومغاربها ، وفيه إشارة إلى كُروّية الأرض ، فإنّ طلوع الشمس على أيّ جزء مِن أجزاء الكُرة الأرضية ، يُلازم غروبها عن جزء آخر ، فيكون تعدّد المشارق والمغارب واضح لا تكلّف فيه ولا تعسّف .

وقد حمل القرطبي وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيّام السنة ، لكنّه تَكلّف لا ينبغي أنْ يُصار إليه ، لأنّ الشمس لم تكن لها مطالع معيّنة ليقع الحَلْف بها ، بل تختلف تلك باختلاف الأراضي ، فلابدّ مِن أنْ يُراد بها المشارق والمغارب التي تتجدّد شيئاً فشيئاً ، باعتبار كُرويّة الأرض وحركتها .

وفي أخبار أئمّة الهدى مِن أهل البيت ( عليهم السلام ) وأدْعيَتِهم وخُطَبِهم ما يدلّ على كُروِيّة الأرض .

ومِن ذلك ما رُوي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال :

( صَحِبَني رجل كان يُمسي بالمغرب ويغلس بالفجر ، وكنت أنا أُصلّي المغرب إذا غَرُبتْ الشمس ، وأُصلّي الفجر إذا استبان ليَ الفجر ، فقال لي الرجل : ما يمنعك أنْ تصنع مثل ما أصنع ؟ فإنّ الشمس تطلع على قَوم قبلنا وتغرب عنّا ، وهي طالعة على قَوم آخرين بعد ، فقلت : إنّما علينا أنْ نُصلّي إذا وجبت الشمس عنّا وإذا طلع الفجر عندنا ، وعلى أولئك أنْ يُصلّوا إذا غَرُبتْ الشمس عنهم )(١) .

يستدلّ الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب ، الناشئ عن استدارة الأرض ، ويُقرّه الإمام ( عليه السلام ) على ذلك ، ولكن ينبّهه على وظيفته الدينية .

_______________________

(١) الوسائل ج ١ ص ٢٣٧ باب ١١٦ إنّ أوّل وقت المغرب غروب الشمس

٧٤

ومثله قول الإمام ( عليه السلام ) في خبر آخر : ( إنّما عليك مشرقُك ومغربُك ) ومِن ذلك ما وَرَد عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في دعائه عند الصباح والمساء :

( وجعل لكلّ واحد منهما حدّاً محدوداً ، وأمَداً ممدوداً ، يُولج كلّ واحد منهما في صاحبه ، ويُولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد )(١) .

أراد صلوات الله عليه بهذا البيان البديع التعريف ، بما لم تُدْركه العقول في تلك العصور وهو كُروِيّة الأرض ، وحيث أنّ هذا المعنى كان بعيداً عن أفهام الناس ؛ لانصراف العقول عن إدراك ذلك ، تلطّف - وهو الإمام العالِم بأساليب البيان - بالإشارة إلى ذلك على وجهٍ بليغ ، فإنّه ( عليه السلام ) لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامّة الناس ، مِن أنّ الليل ينقص تارةً فتُضاف مِن ساعاته إلى النهار ، وينقص النهار تارةً أخرى ، فتُضاف مِن ساعاته إلى الليل ؛ لاقتصر على الجملة الأُولى : ( يولَج كلّ واحد منهما في صاحبه ) ولَما احتاج إلى ذِكر الجملة الثانية : ( ويولج صاحبه فيه ) .

إذن فذِكر الجملة الثانية إنّما هو للدلالة على أنّ إيلاج كلّ مِن الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه ؛ لأنّ ظاهر الكلام أنّ الجملة الثانية حاليّة ، ففي هذا دلالة على كُروية الأرض ، وأنّ إيلاج الليل في النهار - مثلاً - عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قَوم آخرين .

ولو لم تكن مهمّة الإمام ( عليه السلام ) الإشارة إلى هذه النُكتة العظيمة ، لم تكن لهذه الجملة الأخيرة فائدة ، ولَكانت تكراراً معنويّاً للجملة الأُولى .

ولقد اقتصرنا في بيان إعجاز القرآن على هذه النواحي ، وفي ذلك كفاية ودلالة على أنّ القرآن وحيٌ إلهي ، وخارج عن طَوق البشَر .

_______________________

(١) الصحيفة السجّادية الكاملة

٧٥

وكفى بالقرآن دليلاً على كَونه وحْياً إلهيّاً ، أنّه المدرسة الوحيدة التي تخرّج منها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، الذي يفتخر بفَهْم كلماته كلُّ عالِمٍ نِحرير ، وينهل مِن بحار عِلمه كلُّ محقّق متبحّر .

وهذه خُطَبه في نهج البلاغة ، فإنه حينما يوجّه كلامه فيها إلى موضوع لا يدع فيه مقالاً لقائل ، حتّى لَيَخال مَن لا معرفة له بسيرته أنّه قد قضى عمره في تحقيق ذلك الموضوع والبحث عنه ، فممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المعارف والعلوم متّصلة بالوحي ، ومُقتبَسة مِن أنواره ؛ لأنّ مَن يعرف تاريخ جزيرة العرب - ولا سيّما الحجاز - لا يخطر بباله أنْ تكون هذه العلوم قد أُخذتْ عن غير منبع الوحي ولَنِعْم ما قيل في وَصْف نهج البلاغة : ( أنّه دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين ) .

بل أعود فأقول : إنّ تصديق عليّ ( عليه السلام ) - وهو على ما عليه مِن البراعة في البلاغة ، والمعارف وسائر العلوم - لإعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أنّ القرآن وحيٌ إلهي ، فإنّ تصديقه بذلك لا يجوز أنْ يكون ناشئاً عن الجهل والاغترار ، كيف وهو ربّ الفصاحة والبلاغة ، وإليه تنتهي جميع العلوم الإسلامية ، وهو المَثَل الأعلى في المعارف ، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف .

وكذلك لا يجوز أنْ يكون تصديقه هذا تصديقاً صوَرِيّاً ناشئاً عن طلب منفعة دنيوية من جاهٍ أو مال ، كيف وهو منار الزهد والتقوى ، وقد أعرَض عن الدنيا وزخارفها ، ورفض زعامة المسلمين حين اُشترط عليه أنْ يسير بسيرة الشيخَين ، وهو الذي لم يُصانع معاوية بإبقائه على ولايته أيّاماً قليلة ، مع عِلمه بعاقبة الأمر إذا عزَلَه عن الولاية .

وإذن فلابدّ مِن أنْ يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقاً حقيقيّاً ، مطابقاً للواقع ، ناشئاً عن الإيمان الصادق ، وهذا هو الصحيح ، والواقع المطلوب .

٧٦

٧٧

أوهام حَول إعجاز القرآن

٧٨

القرآن والقواعد كيف يثبت الإعجاز لجميع البشَر قَول النظام بالصرفة مخالفة قُصص القرآن لكتُب العهدَين وجود التناقض في الإنجيل إبطال الجَبْر والتفويض إثبات الأمر بين الأمرين في القرآن القرآن كان مجموعاً على عهد النبيّ أسلوب القرآن في جمْعِه بين المواضيع المختلفة سخافات وخرافات في معارضة سورتَين مِن القرآن .

٧٩

لقد تحدّى القرآن جميع البشَر ، وطالبهم أنْ يأتوا بسورة مِن مِثْله ، فلم يستطع أحدٌ أنْ يقوم بمعارضته ، ولمّا كَبُر على المعاندين أنْ يستظهر القرآن على خصومه ، راموا أنْ يحطّوا مِن كرامته بأوهام نسجتْها الأخْيِلة حول عَظَمة القرآن ، تأييداً لمذاهبهم الفاسدة .

ومِن الحَسَن أنْ نتعرّض لهذه الأوهام التي أتعبوا بها أنفسهم ؛ ليتبيّن مبْلَغُهم مِن العِلم ، وأنّ الأهواء كيف تذهب بهم يميناً وشمالاً ، فتُرديهم في مهوىً سحيق قالوا :

١ - إنّ في القرآن أموراً تنافي البلاغة ؛ لأنّها تخالف القواعد العربية ، ومِثْلُ هذا لا يكون مُعجزاً .

وهذا القول باطل مِن وجهَين :

الأوّل : إنّ القرآن نزل بين بُلَغاء العرب وفُصَحائها ، وقد تحدّاهم إلى معارضته ، ولو بالإتيان بسورة واحدة ، وذكر أنّ الخَلْق لا يقدرون على ذلك ، ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً ، فلو كان في القرآن ما يخالف كلام العرب ، فإنّ هؤلاء البُلغاء العارفين بأساليب اللغة ومزاياها لأخذوه حجّة عليه ، ولعابوه بذلك ، واستراحوا به عن معارضته باللسان أو السِنان ، ولو وقع شيء مِن ذلك ؛ لاحتفظ به التاريخ ، ولَتواتر نقله بين أعداء الإسلام ، كيف ولم يُنقل ذلك ولا بخبر واحد ؟ .

(البيان - ٦)

٨٠

الإداريّة، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم، حيث يقول عنهم :

١.( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة: ١٠٠ ).

٢.( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح: ١٨ ).

٣.( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر: ٨ ).

٤.( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح: ٢٩ ).

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

٨١

غير أنّ هناك آيات جمّة ـ إلى جانب ذلك ـ تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً، بل وممدوحين، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه:( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة: ١٠١).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة: ١٠٢ ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران: ١٥٤ ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم بالله ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر، لاذوا بالفرار، قال سبحانه عنهم:( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا *وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلّا يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا *يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

٨٢

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً ) ( الأحزاب: ١٠ ـ ٢٠ ).

وهذه الآيات، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين، لقوله سبحانه:( إِذْ جَاءُوكُم مِن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه:( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:( ولـمّارَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب: ٢٢ ـ ٢٣ ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول: بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام، أضف إلى ذلك، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله:( فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

١. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

٨٣

٢. إنّ التأريخ يشهد، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ: ( لـمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و

ونهض اليهود وقالوا: والتوراة، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلّا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج )(١) .

٣. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام كان له السهم الأوفر في القيادة، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية، ما قاله عليّعليه‌السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم: « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذريّ: ١٤٣.

٨٤

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين »(١) .

وبالرغم من أنّهعليه‌السلام قد اقصي عن الخلافة، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر ـ من بعد النبيّ ـ عن أهله، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لـمّا ولاّه إمارتها ويقول: « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه »(٢) .

٤. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو، أو تمزيق الوحدة، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٣٠ ( طبعة عبده ).

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم (٦٢).

٨٥

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة، كما هو محط البحث.

ب ـ الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها وتلك الامبراطوريّتان هما: الروم، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

١. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً، ذات حضارة متقدمة زاهرة، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أمّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فمزّق رسالته المباركة التي كتبهاصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة الله تعالى وكتب إلى عامله باليمن :

٨٦

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به )(١) .

٢. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية، كانت ذات صفة توسّعيّة، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني )، وضرب عنقه(٢) .

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره، وعن تعصبهم ضدّه، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

__________________

(١) الكامل للجزري ٢: ١٤٥.

(٢) اُسد الغابة ١: ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٨٧

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة، واستشهاد القادة الثلاثة، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً، وصالح أهلها على الجزية، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز(١) .

ولم يكتف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الحملة، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم(٢) .

٣. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة، والمطّلع على تركيبته يجد، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد، وضرب المسلمين بعضهم ببعض، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن، بين أفرادها وأبنائها، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الدوائر، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٥١٥ ـ ٥٢٩.

(٢) الملل والنحل ١: ٢٩ ( طبعة القاهرة )، الطبقات الكبرى ٤: ٦٥، الكامل في التاريخ ٢: ٢١٥.

٨٨

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية، وبنحو يخفى على العاديين من الناس(١) .

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول:( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء: ٨١ ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم:( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء: ٨٣ ).

وهم يريدون الفتنة دائماً، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن:( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة: ٤٨ ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء، وعدم الوفاء بالوعد:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر: ١١ ـ ١٢ ).

__________________

(١) لقد تصدّى القرآن الكريم، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم، وخططهم، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

٨٩

ولذلك، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول:( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء: ١٤٥ ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب ـ سواء قبل قوة الإسلام وبعدها ـ للمكر بالإسلام والكيد له، والمؤامرة عليه، بحيث لولا وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأتوا على ذلك الدين، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل ـ بقوة ـ أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره، وخاصّة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً، أن يتفق هذا الثلاثي ـ الناقم على الإسلام ـ على محو الدين، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج ـ العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام، هو النظام القبلي، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ ـ في ذلك المجتمع ـ مكانةً كبرى، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية ـ آنذاك ـ كانت ترجع ـ في الأصل ـ إلى قبيلتي، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون )، إلّا أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة، حتّى أصبح من العسير، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

٩٠

فمن يراجع الكتب التالية: ( بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد، الجزء (٤) الفصل (٤٦)، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (٣). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام، يعرف ـ معرفةً كاملةً ـ مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها ـ في الغالب ـ بلفظة ( آل ) مثل، آل النعمان وآل جفنة، أو لفظة ( بنو)، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل، غطفان وخزاعة ( وهما ـ في الحقيقة ـ اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية ـ قبل الإسلام ـ وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد، وتبنى الأمجاد، كما كانت هي، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان، كما حدث بين الأوس والخزرج، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة )، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي، والاقتتال المرير، لولا تدخّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس(١) .

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة ـ في ذات الوقت ـ فقد سعى الرسول الأكرم ـ وبحكمة كبرى ـ أن

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة لابن هشام ١: ١٩٦ تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم، ومروج الذهب ٢: ٢٧٨ تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩١

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه ـ في نفس الوقت ـ من سيئات جسيمة، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين، فقد سعى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في محو الروح القبلية، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد، والصف الإسلامي الواحد، ولكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب، إلّا أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( ٢٣ عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز و و.

إنّ اُصول هذه العشائر ـ في ابّان العهد الإسلاميّ ـ وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة، إلّا أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار، إلى قبائل وأفخاذ وفروع، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: ( بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء، وردت

٩٢

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين(١) ، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلّا كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك عند فراغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عدوّه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرتحل فيها فارتحل الناس(٢) .

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة، وبأقل تحريك، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل: أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من

__________________

(١) قال السهيليّ: ( لـمّا سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الكلمات قال: « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة، وجعل الله المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).

(٢) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٩٣

العداوة في الجاهلية. فقال: قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ، أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ، فقتلا جميعاً

قال ابن هشام: قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ

فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً

أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام: ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم، فقال: « يا معشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع:( قُلْ يَا أَهْلَ

٩٤

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ *قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران: ٩٨ ـ ٩٩ ).

وأنزل الله في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ *وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى ـوَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران: ١٠٠ ـ ١٠٥ )(١) .

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه، في قصّة الإفك قال، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على المنبر: « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً، وما يدخل على أهلي إلّا معي ».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ(٢) أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ]، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمرو الله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ١: ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

(٢) فيه تأمل، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

٩٥

قالت عائشة: فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول الله يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت(١) .

فكيف كان يجوز ـ والحال هذه ـ أن يترك الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به أمّة هذه حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين، إلى أمّة نشأت على الاختلاف، وتربّت على الفرقة، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ ـ في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً ـ حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر: لـمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

__________________

(١) صحيح البخاري ٥: ١١٩ باب غزو بني المصطلق.

٩٦

على الله بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلّا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك، وعذيلها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب: ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض )، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف )(١) .

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات: لـمّا بويع أبو بكر وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) السيرة النبويّة لابن هشام ٢: ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

٩٧

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم

واستحيروا الله من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً

يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة

ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه

بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً

ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً

كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً

غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمةً، ولما دفع الله عنهم أعظم، كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

٩٨

ألا قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش: ( والله يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم، وما كان اللّه ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « الأئمّة من قريش » فقد قال: « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة، لقتل جعفر وأصحابه، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا

وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا

ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم

ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك(١)

إنّ ما نقلناه لك هنا، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ١٧ ـ ٣٨ ( طبعة مصر ).

٩٩

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أن يستخلفصلى‌الله‌عليه‌وآله ( قائداً ) للاُمّة، وراعياً لمصالحها وشؤونها، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك، والظروف الحرجة المحيطة بهم، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها، وهي في خضمّ تلك الأخطار، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة، إذ ربمّا كانت تبتلي ـ في ذلك الأمر ـ بالخلاف الذريع، والفرقة الكبيرة، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها، والرواسب القبليّة الجاهليّة، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها، كانت توجب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم العقل السليم، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526