البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 34701
تحميل: 7585

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34701 / تحميل: 7585
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الثاني : أنّ القرآن نزل في زمان لم يكن فيه للقواعد العربية عَين ولا أثر ، وإنّما أُخذت هذه القواعد - بعد ذلك - مِن استقراء كلمات العرب البُلغاء ، وتتبّع تراكيبها ، والقرآن لو لم يكن وحْياً إلهياً - كما يزعم الخصْم - فلا ريْب في أنّه كلام عربيّ بليغ ، فيكون أحد المصادر للقواعد العربية ، ولا يكون القرآن أقلّ مرتبة مِن كلام البُلغاء الآخرين المعاصرين لنبيّ الإسلام ومعنى هذا : أنّ القاعدة العربية المستحدثة إذا خالفت القرآن كان هذا نقْضاً على تلك القاعدة ، لا نقداً على ما استعمله القرآن .

على أنّ هذا لو تمّ فإنّما يتمّ فيما إذا اتّفقت عليه القراءات ، فإنّا سنُثبت - فيما يأتي - أنّ هذه القراءات المعروفة إنّما هي اجتهادات مِن القرّاء أنفسهم ، وليست متواترة عن النبيّ ( ص ) فلو ورَد اعتراض على إحدى القراءات ، كان ذلك دليلاً على بطلان تلك القراءة نفسها ، دون أنْ يمسّ بعَظَمة القرآن وكرامته وقالوا :

٢ - إنّ الكلام البليغ - وإنْ عجز البشر عن الإتيان بمثلِه - لا يكون معجزاً ، فإنّ معرفة بلاغته تختصّ ببعض البشَر دون بعض ، والمعجز لابدّ وأنْ يَعرف إعجازه جميع أفراد البشر ؛ لأنّ كلّ فرْدٍ منهم مكلّف بتصديق نبوّة صاحب ذلك المعجز .

الجواب :

وهذه شُبهة تشبه ما تقدّمها في ضعف الحجّة ، وتفكّك القياس ، فإنّ المُعجز لا يُشترط فيه أنْ يَدرك إعجازه كلّ البشر ، ولو اشترطنا ذلك لم يسلم لنا مُعجز أصلاً ، فإنّ إدراكه يختصّ بجماعة خاصّة ، ويثبت لغيرهم بالنقل المتواتر .

وقد ذكرنا امتياز القرآن عن غيره مِن المعجزات ، بأنّ التواتر قد ينقطع في مرور الزمان ، وأمّا القرآن فهو معجزة باقية أبَديّة ببقاء الأمّة العربية ، بل ببقاء مَن يعرف خصائص اللغة العربية ، وإنْ لم يكن عربياً وقالوا :

٣ - إنّ العارف باللغة العربية قادر على أنْ يأتي بمِثل كلمةٍ مِن كلمات القرآن .

٨١

وإذا أمكنه ذلك ، أمكنه أنْ يأتي بمثل القرآن ؛ لأنّ حُكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد .

الجواب :

إنّ هذه الشُبهة لا تليق بالذِكر ، فإنّ القدرة على الإتيان بمِثْل كلمةٍ مِن كلمات القرآن ، بل على الإتيان بمِثل جُملة مِن جُمَله لا تقتضي القدرة على الإتيان بمِثل القرآن ، أو بمِثل سورة مِن سِوَره ، فإنّ القدرة على المادّة لا تستلزم القدرة على التركيب ؛ ولهذا لا يصحّ لنا أنْ نقول : إنّ كلّ فرد مِن أفراد البشَر قادر على بناء القصور الفخمة ، والصروح الضخمة ؛ لأنّه قادر على وضْع آجرة في البناء ، أو نقول : إنّ كلّ عربيٍّ قادر على إنشاء الخُطَب والقصائد ؛ لأنّه قادر على أنْ يتكلّم بكلّ كلمة مِن كلماتها ومفرادتها ، وكأنّ هذه الشُبهة هي التي دعَتْ ( النظّام ) وأصحابه إلى القول : بأنّ إعجاز القرآن بالصِرفة .

وهذا القول في غاية الضَعْف :

أوّلاً : لأنّ الصِرفة التي يقولون بها ، إنْ كان معناها : أنّ الله قادر على أنْ يُقدِر بشراً على أنْ يأتي بمِثل القرآن ، ولكنّه تعالى صَرف هذه القدرة مِن جميع البشَر ، ولم يُؤتها لأحد منهم ، فهو معنىً صحيح ، ولكنّه لا يختصّ بالقرآن ، بل هو جارٍ في جميع المعجزات .

وإنْ كان معناها : أنّ الناس قادرون على أنْ يأتوا بمِثل القرآن ، ولكنّ الله صَرَفهم عن معارضته ، فهو واضح البطلان ؛ لأنّ كثير مِن الناس تصدّوا لمعارضة القرآن ، فلم يستطيعوا ذلك ، واعترفوا بالعَجز .

ثانياً : لأنّه لو كان إعجاز القرآن بالصِرفة ، لوُجد في كلام العرب السابقين مثله قبل أنْ يتحدّى النبيّ البشَر ، ويطالبهم بالإتيان بمِثل القرآن ، ولو وُجد ذلك لنُقل وتواتر ؛ لتكثّر الدواعي إلى نقلِه ، وإذ لم يوجد ولم يُنقل ، كشَف ذلك عن كَون القرآن بنفسه إعجازاً إلهيّاً ، خارجاً عن طاقة البشَر وقالوا :

٨٢

٤ - إنّ القرآن ، وإنْ سُلِّم إعجازه ، إلاّ أنّه لا يكشف عن صِدْق نبوّة مَن جاء به ؛ لأنّ قُصص القرآن تخالف قُصص كتُب العهدَين ، التي ثبتَ كَونها وحياً إلهيّاً بالتواتر .

الجواب :

إنّ القرآن بمخالفته لكتُب العهدَين في قُصصها الخرافية قد أزال ريْب المرتاب في كَونه وحياً إلهيّاً ، لخلوّه عن الخرافات والأوهام ، وعمّا لا يجوز في حُكم العقل نسبته إلى الله تعالى ، وإلى أنبيائه ، فمخالفة القرآن لكتُب العهدَين بنفسها دليل على أنّه وحيٌ إلهيّ ، وقد أشرنا فيما تقدّم إلى ذلك ، وإلى جملة مِن الخرافات الموجودة في كتُب العهدَين وقالوا :

٥ - إنّ القرآن مشتمل على المناقضة ، فلا يكون وحياً إلهيّاً ، وقد زعموا أنّ المناقضة وقعت في موردَين :

الأوّل : في قوله تعالى :

( قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاّ رَمْزاً ) ٣ : ٤١ .

فإنّه يناقض قوله تعالى :

( قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ) ١٩ : ١٠ .

الجواب :

إنّ لفظ اليوم قد يُطلق ويُراد منه بياض النهار فقط كما في قوله تعالى :

٨٣

( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ) ٦٩ : ٧ .

وقد يُطلق ويُراد منه بياض النهار مع ليله كما في قوله تعالى :

( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ) ١١ : ٦٥ .

كما أنّ لفظ الليل قد يُطلق ويُراد به مدّة مغيب الشمس واستتارها تحت الأُفُق ، وعليه جاء قوله تعالى :

( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ٩٢ : ١. سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ٦٩ : ٧) .

وقد يطلق ويراد منه سواد الليل مع نهاره ، وعليه جاء قوله تعالى :

( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) ٢ : ٥١ .

واستعمال لفظَي الليل والنهار في هذين المعنيَين كثير جدّاً ، وقد استُعملا في الآيتين الكريمتين على المعنى الثاني ( مجموع بياض النهار وسواد الليل ) ، فلا مناقضة وتوَهّم المناقضة يبتني على أنّ لفظَي الليل والنهار قد استُعملا على المعنى الأوّل وما ذكرناه بيّن لا خفاء فيه ، ولكنّ المتوَهّم كابَر الحقيقة ؛ ليحطّ مِن كرامة القرآن بزعمِه هذا ، وقد غفَل أو تغافل عمّا في إنجيله مِن التناقض الصريح عند إطلاقه لهاتَين الكلمتَين ! ! ! .

فقد ذُكر في الباب الثاني عشر مِن إنجيل متّى : إخبار المسيح أنّه يبقى

٨٤

مدفوناً في بطن الأرض ثلاثة أيّام أو ثلاث ليال ، مع أنّ إنجيل متّى بنفسه والأناجيل الثلاثة الأُخَر ، قد اتّفقت على أنّ المسيح لم يبقَ في بطن الأرض إلاّ يسيراً مِن آخر يوم الجمعة ، وليلة السبت ونهاره ، وليلة الأحد إلى ما قبل الفجر فانظر أُخرَيات الأناجيل ، ثمّ قُل لكاتب إنجيل متّى ، ولكلّ مَن يعتقد أنّه وحيٌ إلهيّ : أين تكون ثلاثة أيّام وثلاث ليال .

ومِن الغريب جدّاً أنْ يؤمن علماء الغرب ومفكّروه بكتُب العهدَين ، وهي مليئة بالخرافات والمناقضات ، وألاّ يؤمنوا بالقرآن، وهو الكتاب المتكفّل بهداية البشر ، وبسَوْقِهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ولكنّ التعصّب داءٌ عُضال ، وطلاّب الحقّ قليلون، كما أشرنا إليه فيما تقدّم .

الثاني : إنّ القرآن قد يسند الفعل إلى العبد واختياره فيقول :

( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ١٨ : ٢٩ .

والآيات بهذا المعنى كثيرة ، فيدلّ على أنّ العبد مختار في عمله وقد يسند الاختيار في الأفعال إلى الله تعالى فيقول :

( وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) ٧٦ : ٣٠ .

فزعموا أنّه يدلّ على أنّ العبد مجبور في فِعله وقالوا : هذا تناقض واضح ، والتأويل في الآيات خلاف الظاهر ، وقَول بغير دليل .

الجواب :

إنّ كلّ إنسان يُدرك بفطرته أنّه قادر على جُملة مِن الأفعال ، فيمكنه أنْ يفعلها وأنْ يتركها ، وهذا الحُكم فطريّ لا يشكّ فيه أحد ، إلاّ أنْ تعتريه شُبهة مِن خارج وقد أطبق العقلاء كافّة على ذمّ فاعل القبيح، ومدْح فاعل الحَسَن ، وهذا برهان

٨٥

على أنّ الإنسان مختار في فِعله ، غير مجبور عليه عند إصداره وكلّ عاقل يرى أنّ حركته على الأرض عند مشْيِه عليها ، تغاير حركته عند سقوطه مِن شاهق إلى الأرض ، فيرى أنّه مختار في الحركة الأُولى ، وأنّه مجبور على الحركة الثانية .

وكلّ إنسان عاقل يُدرك بفطرته أنّه وإنْ كان مختاراً في بعض الأفعال حين يُصدرها وحين يتركها ، إلاّ أنّ أكثر مبادئ ذلك الفِعل خارجة عن دائرة اختياره ، فإنّ مِن جُملة مبادئ صدور الفِعل نفس وجود الإنسان وحياته ، وإدراكه للفِعل ، وشَوقِه إليه ، وملاءمة ذلك الفِعل لقوّةٍ مِن قواه ، وقدرته على إيجاده ، ومِن البيّن أنّ هذا النوع مِن المبادئ خارج عن دائرة اختيار الإنسان ، وأنّ موجِد هذه الأشياء في الإنسان هو موجِد الإنسان نفسه .

وقد ثبتَ في محلّه أنّ خالق هذه الأشياء في الإنسان ، لم ينعزل عن خَلْقِه بعد الإيجاد ، وأنّ بقاء الأشياء واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثّر في كلّ آن ، وليس مَثل خالق الأشياء معها ، كالبنّاء يُقيم الجدار بصُنعه ، ثمّ يستغني الجدار عن بانيه، ويستمرّ وجوده وإنْ فُنيَ صانعه ، أو كمثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه ، ثمّ يستغني عنه في مرحلة بقائه واستمراره .

بل مَثل خالق الأشياء معها ( ولله المَثل الأعلى ) كتأثير القوّة الكهربائية في الضوء ، فإنّ الضوء لا يوجد إلاّ حين تمدّه القوّة بتيّارها ، ولا يزال يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوّة في كلّ حين ، فإذا انفصل سِلكه عن مصدر القوّة في حين ، انعدم الضوء في ذلك الحين كأن لم يكن .

وهكذا تستمدّ الأشياء وجميع الكائنات وجودها مِن مُبدِعُها الأوّل ، في كلّ وقت مِن أوقات حدوثها وبقائها ، وهي مفتقرة إلى مَدده في كلّ حين ، ومتّصلة برحمته الواسعة التي وسِعتْ كلّ شيء .

وعلى ذلك ففِعل العبد وسَطٌ بين الجَبْر والتفويض ، وله حظّ مِن كلٍّ منهما فإنّ إعمال قدرته في الفِعل أو الترك ، وإنْ كان باختياره إلاّ أنّ هذه القدرة وسائر المبادئ حين الفِعل تُفاض مِن الله ، فالفِعل مستند إلى العبد مِن جهة وإلى الله مِن جهة أخرى والآيات

٨٦

القرآنية المباركة ناظرة إلى هذا المعنى ، وأنّ اختيار العبد في فِعله لا يمنع مِن نفوذ قدرة الله وسلطانه .

ولنذكر مثلاً تقريبيّاً يتّضح به للقارئ حقيقة الأمر بين الأمرين ، الذي قالت به الشيعة الإمامية ، وصرّحت به أئمّتها ، وأشار إليه الكتاب العزيز .

لنفرض إنساناً كانت يده شلاّء لا يستطيع تحريكها بنفسه ، وقد استطاع الطبيب أنْ يوجِد فيها حركة إراديّة وقتيّة بواسطة قوّة الكهرباء ، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصَلَها الطبيب بسِلك الكهرباء ، وإذا انفصلت عن مصدر القوّة لم يمكنه تحريكها أصلاً ، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسِلك للتجربة مثلاً ، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده ، ومباشرة الأعمال بها - والطبيب يمدّه بالقوّة في كلّ آن - فلا شُبهة في أنّ تحريك الرجل ليده في هذه الحال مِن الأمر بين الأمرين ، فلا يستند إلى الرجل مستقلاًّ ؛ لأنّه موقوف على إيصال القوّة إلى يده ، وقد فرضنا أنّها بفِعل الطبيب ، ولا يستند إلى الطبيب مستقلاًّ ؛ لأنّ التحريك قد أصدره الرجل بإرادته ، فالفاعل لم يُجبَر على فِعله لأنّه مُريد ، ولم يُفوّض إليه الفِعل بجميع مبادئه ، لأنّ المَدد مِن غيره .

والأفعال الصادرة مِن الفاعلِين المختارِين كلّها مِن هذا النوع ، فالفِعل صادر بمشيئة العبد ، ولا يشاء العبد شيئاً إلاّ بمشيئة الله ، والآيات القرآنية كلّها تُشير إلى هذا الغرض ، فهي تُبطل الجَبْر - الذي يقول به أكثر العامّة - لأنّها تُثبت الاختيار ، وتُبطل التفويض المَحض - الذي يقول به بعضهم - لأنّها تُسنِد الفِعل إلى الله وسنتعرّض إنْ شاء الله تعالى للبحث تفصيلاً ، ولإبطال هذين القولَين حين تتعرّض الآيات لذلك

وهذا الذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت - ع - وعلومهم ، وهُم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وإليك بعض ما وَرَد منهم : سأل رجل الصادق ( عليه السلام ) ، فقال :

٨٧

( قلتُ : أجَبَر الله العباد على المعاصي ؟ قال : لا قلتُ : ففوّض إليهم الأمر ؟ قال : قال : لا قال : قلتُ : فماذا ؟ قال : لطف مِن ربِّك بين ذلك )(١)

وفي رواية أخرى عنه :

( لا جَبْر ولا قَدْر ، ولكن منزلة بينهما )(٢) وفي كتُب الحديث للإمامية جُملة مِن هذه الروايات وقالوا :

٦ - لو كان الإتيان بكتابٍ ما مُعجزاً ( لعَجْزِ البشَر عن الإتيان بمِثْلِه ) ؛ لكان كتاب اقليدس وكتاب المجسطي مُعجزاً ، وهذا باطل ، فيكون المقدّم باطلاً أيضاً .

الجواب :

أوّلاً : إنّ الكتابَين المذكورين لا يعْجَز البشر عن الإتيان بمثلِهما ، ولا يصحّ فيهما هذا التوَهّم ، كيف وكتُب المتأخّرين التي وُضعَت في هذين العِلمَين أرقى بيانٍ منهما ، وأيْسر تحصيلاً ، وهذه الكتُب المتأخّرة تَفضُل عليهما في نواحٍ أخرى ، منها وجود إضافات كثيرة لا أثر لها فيهما .

ثانياً : إنّا قد ذكرنا للمعجز شروطاً ، ومِن هذه الشروط : أنْ يكون الإتيان به في مقام التحدّي ، والاستشهاد به على صِدق دعوى منصب إلهيّ .

ومنها : أن يكون خارجاً عن نواميس الطبيعة وكِلا هذين الشرطَين مفقود في الكتابَين المذكورين ، وقد أوضحنا ذلك أتمّ إيضاح في أوّل بحثنا عن الإعجاز وقالوا :

٧ - إنّ العرب لم تُعارض القرآن ، لا لكَونه معجزاً يعجز البشر عن الإتيان

_______________________

(١) الكافي : كتاب التوحيد باب الجبْر والقَدْر ، والأمر بين الأمرين .

(٢) نفس المصدر

٨٨

بمثلِه ، ولكنّهم لم يعارضوه لجهات أخرى لا تعود إلى الإعجاز أمّا العرب الذين عاصروا الدعوة ، أو تأخّروا عنها قليلاً، فقد كانت سيطرة المسلمين تمنعهم عن التصدّي لذلك ، فلم يعارضوا القرآن خوفاً على أنفسهم وأموالهم مِن هؤلاء المسيطرين .

ولمّا انقرضت سلطة الخلفاء الأربعة ، وآلَ الأمر إلى الأمويّين الذين لم تَقُم خلافتهم على محور الدعوة الإسلامية ، صار القرآن مأنوساً لجميع الأذهان بسبب رشاقة ألفاظه ، ومتانة معانيه ، وأصبح مِن المرتكزات الموروثة خلفاً عن سلف ، فانصرفوا عن معارضته لذلك .

الجواب :

أوّلاً : إنّ التحدّي بالقرآن ، وطَلَب المعارضة بسورة مِن مثْلِه ، قد كان مِن النبيّ - ص - في مكّة قبل أنْ تظهر شوكة الإسلام ، وتقوى سلطة المسلمين ، ومع ذلك لم يستطع أحد مِن بُلغاء العرب أنْ يقوم بهذه المعارضة .

ثانياً : إنّ الخوف في زمان الخلفاء ، وسيطرة المسلمين ، لم يمنع الكافر مِن أنْ يُظهر كُفره ، وإنكاره لدين الإسلام وقد كان أهل الكتاب يعيشون بين المسلمين في جزيرة العرب وغيرها بأهنأ عَيْشٍ وأكرم نعمة ، وكان لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم ، ولا سيّما في عصر خلافة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، الذي اعترف بعدْلِه ووفور عِلْمِه ، المسلمون وغيرُهم فلو كان أحد هؤلاء الكتابيّين ، أو غيرهم قادراً على الإتيان بمِثْل القرآن ، لأظهره في مقام الاحتجاج .

ثالثاً : إنّ الخوف لو سُلِّم وجوده ، فهو إنّما يمنع عن إظهار المعارضة والمجاهرة بها ، فما الذي منع الكتابيّين ، أو غيرهم مِن معارضته سرّاً في بيوتهم ومجامعهم ؟ ولو ثبتت هذه المعارضة ؛ لتحفّظ بها الكتابيّون ، ليُظهروها بعد زوال الخوف عنهم ، كما تحفّظوا على قُصص العهدَين الخُرافية ، وسائر ما يرتبط بدينهم .

رابعاً : إنّ الكلام وإنْ ارتفع مقامه مِن حيث البلاغة ، إلاّ أنّ المعهود

٨٩

مِن الطِباع البشرية أنّه إذا كُرّر على الأسماع هبط عن مقامه الأوّل ؛ ولذلك نرى أنّ القصيدة البليغة إذا أُعيدت على الإنسان مراراً مَلّها ، واشمأزّت نفسه منها ، فإذا سمع قصيدة أخرى ، فقد يتراءى له في أوّل نظرة ، أنّها أبلَغ مِن القصيدة الأُولى ، فإذا كُرّرت الثانية أيضاً ظهر الفَرْق الحقيقي بين القصيدتين ، وهذا جارٍ في جميع ما يلتذّ به الإنسان ، ويُدرك حُسْنه مِن مأكول ، وملبوس ومسموع وغيرها .

والقرآن لو لم يكن معجزاً لكان اللازم أنْ يجري على هذا المقياس ، وينحطّ في نفوس السامعين عن مقامه الأوّل ، مهما طال به الزمان وطرأ عليه التكرار ، وبذلك تسهل معارضته ، ولكنّا نرى القرآن على كَثْرة تكراره وترديده ، لا يزداد إلاّ حُسناً وبهجةً ، ولا يُثمر إلاّ عِرفاناً ويقيناً ، ولا ينتج إلاّ إيماناً وتصديقاً ، فهو في هذه المزيّة على عكس الكلام المألوف .

وإذن فهذا الوجه يؤكّد إعجازه ، لا أنّه يُنافيه كما يتوَهّمه هذا الخصْم .

خامساً : إنّ التكرار لو فُرض أنّه يوجب أُنْسَ النفوس به ، وانصرافها عن معارضته ، فهو إنّما يتمّ عند المسلمين الذين يصدّقون به ، ويستمعون إليه برغبة واشتياق كلّما تكرّرت تلاوتُه ، فلماذا لا يعارضه غيره المسلمين مِن العرب الفُصَحاء ؟ لتقع هذه المعارضة موقع القبول ، ولو مِن غير المسلمين وقالوا :

٨ - ذكر التاريخ أنّ أبا بكر لمّا أراد جمْع القرآن ، أمَرَ عُمر وزيد بن ثابت أنْ يقعدا على باب المسجد ، وأنْ يكتُبا ما شَهِد شاهدان على أنّه مِن كتاب الله ، وفي هذا شهادة على أنّ القرآن ليس خارقاً للعادة ؛ لأنّه لو كان خارقاً للعادة بنفسه ، لم يحتجّ إلى الشهادة عليه ، ولَكان بنفسه شاهداً على نفسه .

الجواب :

أوّلاً : إنّ القرآن معجزة في بلاغته وأسلوبه ، لا في كلّ كلمة مِن كلماته ، وإذن فقد يقع الشكّ في تحريف بعض الكلمات المفردة ، أو في زيادتها ونقصانها ،

٩٠

وشهادة الشاهدَين - إذا صحّت أخبارها - إنّما هي لرفع هذه الاحتمالات ، التي تعرض مِن سَهْوِ القارئ أو مِن عَمْدِه ، على أنّ عجْز البشر عن الإتيان بسورة مِن مِثل القرآن ، لا يُنافي قدرتهم على الإتيان بآية ، أو ما يشبه الآية ، فإنّ ذلك أمْرٌ ممكن ، ولم يدَّعِ المسلمون استحالة ذلك ، ولم يذكره القرآن عند التحدّي بالمعارضة .

ثانياً : إنّ هذه الأخبار التي دلّت على جمْع القرآن في عهد أبى بكر ، بشهادة شاهدَين مِن الصحابة ، كلّها أخبار آحاد : لا تصلح أنْ تكون دليلاً في أمثال ذلك .

ثالثاً : إنّها معارَضة بأخبارٍ كثيرة ، دلّت على أنّ القرآن قد جُمِع في عهد النبيّ - ص - وكان كثير مِن الصحابة يحفظ جميع القرآن وأمّا الحافظون منهم لبعض سِوَره وأجزائه ، فلا يُعلَم عددهم إلاّ الله تعالى على أنّ النظرة العقلية البسيطة تشهد بكذب تلك الأخبار ، التي استدلّ بها الخصْم .

فإنّ القرآن هو السبب الأعظم في هداية المسلمين ، وفي خروجهم مِن ظُلُمات الشقاء والجهل إلى نور السعادة والعِلم ، وقد بلغ المسلمون في العناية بالقرآن الدرجة القصوى ، فقد كانوا يتلون آياته آناء الليل وأطراف النهار ، وكانوا يتفاخرون في حِفْظه وإتقانه ويتبرّكون بسِوَره وآياته ، والنبيّ يحثّهم على ذلك فهل يَحتمل عاقل بعد هذا كلّه أنْ يقع الشكّ فيه عندهم حتّى يحتاج إثباته إلى شاهدَين ؟ وسنثبت - إن شاء الله تعالى - فيما يأتي أنّ القرآن كان مجموعاً في عهد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقالوا :

٩ - إنّ للقرآن أسلوباً يُباين أساليب البُلَغاء المعروفة ، فقد خلط بين المواضيع المتعدّدة ، فبينا هو يتكلّم في التاريخ إذا به ينتقل إلى الوعد والوعيد ، إلى الحِكَم والأمثال ، إلى جهات أخرى ولو كان القرآن مبوَّباً يجْمَع في كلّ موضوع ما يتّصل به مِن الآيات ، لكانت فائدته أعظم ، وكانت الاستفادة منه أسهل

٩١

الجواب :

إنّ القرآن أُنزل لهداية البشَر ، وسَوْقهم إلى سعادتهم في الأُولى والأخرى ، وليس هو بكتاب تاريخ ، أو فقه ، أو أخلاق أو ما يشبه ذلك ؛ ليعقد لكلّ مِن هذه الجهات باباً مستقلاًّ ولا رَيْب في أنّ أسلوبه هذا أقرب الأساليب إلى حصول النتيجة المقصودة ، فإنّ القارئ لبعض سِوَر القرآن يمكنه أنْ يُحيط بكثير مِن أغراضه ، وأهدافه في أقرب وقت وأقلّ كُلفة ، فيتوجّه نظره إلى المبدأ والمعاد ، ويطّلع على أحوال الماضين فيَعْتبِر بهم ويستفيد مِن الأخلاق الفاضلة ، والمعارف العالية ، ويتعلّم جانباً مِن أحكامه في عباداته ومعاملاته .

كلّ ذلك مع حِفظ نظام الكلام ، وتَوفية حقوق البيان ، ورعاية مقتضى الحال وهذه الفوائد لا يمكن حصولها مِن القرآن إذا كان مبوَّباً ، لأنّ القارئ لا يُحيط بأغراض القرآن ، إلاّ حين يتمّ تلاوة القرآن جميعه ، وقد يعوقه عائق عن الإتمام فلا يستفيد إلاّ مِن بابٍ أو بابَين .

ولَعمري أنّ هذه إحدى الجهات المُحسّنة لأسلوب القرآن ، الذي حاز به الجمال والبهاء ، فإنّه مع انتقاله مِن موضوع إلى موضوع يتحفّظ على كمال الربْط بينهما ، كأنّ كلّ جُملة منه دُرّة في عقْد منتظم ، ولكن بُغْض الإسلام أعمى بَصَر هذا المستشكل وأصَمّ سمْعَه ، حتّى توهّم الجمال قُبحاً ، والمحاسن مساوئ على أنّ القرآن قد كرّر بعض القُصص مِراراً بعبارات مختلفة ، حسب المناسبات المقتضية للتكرار ، فلو جُمعتْ تلك العبارات كلّها في بابٍ واحد لانتفتْ تلك الفائدة الملحوظة ، وكان التكرار لغير فائدة ملموسة للقارئ .

سخافات وخرافات :

ذكر كاتب رسالة ( حسن الإيجاز )(١) في رسالته هذه ، أنّه يُمكن معارضة

_______________________

(١) كُتَيِّب صدر مِن المطبعة الإنكليزية الأمريكانية ببولاق مصر سنة ١٩١٢م

٩٢

القرآن بمِثْلِه ، وذكر جُمَلاً اقتبسها مِن نفس القرآن ، وحوّر بعض ألفاظها ، وزعم أنّه يُعارض بها القرآن ، فأظهر مبلغه مِن العِلم ، ومقدار معرفته بفنون البلاغة ، وهنا نذكر للقارئ تلك العبارات ، ونوضّح له وجوه الفساد في المعارضة الوَهْمية ، وقد تعرّضنا لها في كتابنا ( نفحات الإعجاز )(١)

ذكر هذا المتوهّم في معارضة سورة الفاتحة قوله : ( الحمد للرحمن ربِّ الأكوان ، المَلِك الديّان ، لك العبادة ، وبك المستعان، اهدنا صراط الإيمان ) ، وتخيّل أنّ قوله هذا وافٍ بجميع معاني سورة الفاتحة ، مع أنّه أخصر منها .

ولستُ أدري ماذا أقول لكاتبِ هذه الجُمَل ، وهو بهذا المقدار مِن التمييز بين غثِّ الكلام وسمينِه ؟ ! وليته عرَض قوله هذا على علماء النصارى العارفين منهم بأساليب الكلام ، وفنون البلاغة قبل أنْ يفضح نفسه بهذه الدعوى .

أوَ لم يشعر بأنّ المألوف في معارضة كلام بمِثْله ، أنْ يأتي الشاعر أو الكاتب بكلامٍ يتّحد مع الكلام المعارَض في جهة مِن الجهات ، أو غرَضٍ مِن الأغراض ، ولكنّه يأتي بكلام مستقلّ في ألفاظه وتركيبه وأسلوبه ؟ وليس معنى المعارضة أنْ يقلّد الكلام المعارَض في تركيبه وأسلوبه ، ويتصرّف فيه بتبديل بعض ألفاظه ببعض ، وإلاّ لأمكنت معارضة كلّ كلام بهذا النحو مِن المعارضة .

وقد كان أيْسر شيء لمعاصري النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مِن العرب ، ولكنّهم لمعرفتهم بمعنى المعارضة الصحيحة ، ومعرفتهم بوجوه البلاغة في القرآن ، لم تمكّنهم المعارضة ، واعترفوا بالعَجْز ، فآمن به مَن آمن منهم ، وجَحَد به مَن جحد :

( فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) ٧٤ : ٢٤ .

على أنّه كيف تصحّ المقايسة بين جُمَلِه هذه التي أتعب بها نفسه ، وبين فاتحة

_______________________

(١) كتبناه ردّاً على ( حسن الإيجاز ) طُبع في المطبعة العلوية في النجف الأشرف سنة ١٣٤٢هـ

٩٣

الكتاب ، حتّى يتوهّم أنّها وافية بمعناها ؟ أوَ لم يكْفِ هذا الكاتب جَهْله بفنون البلاغة ، حتّى دلّ الناس على عيوبه بالجَهر بها ؟!! وكيف تصحّ المقايسة بين قوله ( الحمد للرحمن ) مع قول الله تعالى :

( الْحَمْدُ لله ) ١ : ٢ .

وقد فوّت بجملته هذه المعنى المقصود مِن قول الله تعالى ، فإنّ كلمة ( الله ) عَلَمٌ للذات المقدّسة الجامعة لجميع صفات الكمال، ومِن صفات الكمال الرحمة التي أشار إليها في البسملة ، فذِكر كلمة ( الرحمن ) يوجب فَوْت الدلالة على بقيّة جهات الكمال المجتمعة في الذات المقدّسة ، والتي يستوجب بها الحمْد مِن غير ناحية الرحمة ، وكذلك استبدال قوله : ( ربّ الأكوان ) بقوله تعالى :

( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ١ : ٢. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١ : ٣) .

فإنّ فيه تفويتاً لمعنى هاتَين الآيتين ، فإنّ فيهما دلالة على تعدّد العوالم الطولية والعرضية ، وأنّه تعالى مالك لجميعها ومربّيها ، وأنّ رحمته تشمل جميع هذه العوالم على نحوٍ مستمرٍّ غير منقطع ، كما يدلّ عليه ذِكر لفظ ( الرحيم ) بعد لفظ ( الرحمن ) وسنوضّح ذلك في تفسير البسملة .

وأين مِن هذه المعاني قول هذا القائل : ( ربّ الأكوان ؟ ) ، فإنّ الكون معناه الحدوث والوقوع والصيرورة والكفالة(١) ، وهو بجميع هذه المعاني معنى مصدريّ ، لا يصحّ إضافة كلمة الربّ إليه ، وهي بمعنى المالك المرَبّي نعم يصحّ إضافة كلمة الخالق إليه ، فيقال : خالق الأكوان ، على أنّ لفظ الأكوان لا يدلّ على تعدّد

_______________________

(١) راجع لسان العرب

٩٤

عوالم الموجودات الذي يدلّ عليه لفظ العالَمين ، ولا على سائر الجهات التي تدلّ عليها الآية الكريمة وكذلك استبداله جُمْلة ( المَلِك الديّان ) بقول الله تعالى :

( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ١ : ٤ .

مع أنّ جُمْلَته تلك لا تدلّ على وجود عالم آخر لجزاء الأعمال ، وأنّ الله تعالى هو مالك ذلك اليوم ، وليس فيه لأحد تصرّف ولا اختيار ، وأنّ الناس كلّهم في ذلك اليوم تحت حُكم الله تعالى ، يَنفُذ فيهم أمره ، فبعضهم إلى الجنّة ، وبعضهم إلى النار ، وغاية ما تدلّ عليه جُملته تلك : أنّ الله مَلِك يُجازي بالأعمال ، وأين هذا مِن معنى الآية الكريمة ؟ ! أمّا قوله تعالى :

( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ١ : ٥ .

فقد فَهِم هذا الكاتب مِن معناه أنّ العبادة لا بدّ مِن أنْ تكون لله ، وأنّ الاستعانة لا تكون إلاّ به تعالى ، فأبدلها بقوله : ( لك العبادة ، وبك المستعان ) ، وقد فاته أنّ المقصود بالآية تلقين المؤمن أنْ يُظهر توحيده في العبادة ، وحاجته وافتقاره إلى إعانة الله عزّ وجلّ في عباداته وسائر أعماله ، وأنْ يعترف بأنّه وجميع المؤمنين لا يعبدون غير الله ، ولا يستعينون بأحدٍ سوى الله ، بل يعبدونه وحده ويستعينون به وأين هذا مِن عبارة هذا الكاتب على أنّها ليست أخصر مِن الآية المباركة ؟ ! ! وقوله تعالى :

( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ١ : ٦ .

أراد به طَلب الهداية إلى أقرب طريق يُوصل سالكه إلى مقاصده ، مِن أعماله ومَلَكاته وعقائده ، ولم يحصره بطريق الإيمان فقط ، وهذا لا يفي به قول

٩٥

الكاتب ( اهدنا صراط الإيمان ) على أنّ معنى هذه الجُملة طلب الهداية إلى طريق الإيمان ، ولا دلالة فيها على أنّ ذلك الطريق مستقيم لا يضلّ سالكَه .

وقد استغنى الكاتب بجملته هذه عن بقيّة السورة المباركة ، وزعم أنّ هذه البقيّة غير محتاجٍ إليها ، وهذا يدلّ على قصوره عن فَهْم معناها ، فإنّ قوله تعالى :( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) ١ : ٧ .

فيه دلالة على وجود طريق مستقيم سلَكه الذين أنعَم الله عليهم مِن النبيّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين ، ووجود طُرُق أخرى غير مستقيمة سَلَكها المغضوب عليهم ، مِن المعاندين للحقّ ، والمُنكرين له بعد وضوحه ، والضالّون الذين ضلّوا طريق الهدى بجهلِهم ، وتقصيرهم في الفحص عنه ، وفي اقتناعهم بما وَرِثوه مِن آثار آبائهم ، فاتّبعوهم تقليداً على غير هدىً مِن الله ولا برهان .

والقارئ المتدبّر لهذه الآية الكريمة يتذكّر ذلك ، فيحضر في ذهنه لزوم التأسّي بأولياء الله المقرّبين في أعمالهم ، وأخلاقهم وعقائدهم ، والتجنّب عن مسالك هؤلاء المتمرّدين الذين غَضِب الله عليهم بما فعلوا ، والذين ضلّوا طريق الحقّ بعد اتّضاحه ، وهل يُعدّ هذا المعنى مِن الأمور التي لا يهتمّ بها ، كما يتوهّمه هذا الكاتب ؟ ! ! .

وذكر في معارضة سورة الكوثر : قوله : ( إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلّ لربّك وجاهر ، ولا تعتمد قول ساحر ) ، انظر كيف يُقلِّد القرآن في نَظْمه وتركيبه ويُغيِّر بعض ألفاظه ، ويُوهِم الناس أنّه يُعارض القرآن ، ثمّ انظر كيف يسرق قوله هذا مِن مُسَيلمة الكذّاب ، الذي يقول : ( إنّا أعطيناك الجماهر ، فصلّ لربّك

 (البيان - ٧) .

٩٦

وجاهر ، وإنّ مُبغِضُك رجلٌ كافر ) .

ومِن الغريب أنّه توَهّم : أنّ المشابهة في السجع بين الكلامَين تقتضي مشاركتهما في البلاغة ، ولم يلتفت إلى أنّ إعطاء الجواهر لا تترتّب عليه إقامة الصلاة والمجاهرة بها ، وأنّ لله على عبده نِعَماً عظيمة هي أشرف ، وأعظم مِن نِعمة المال ، كنعمة الحياة والعقل والإيمان ، فكيف يكون السبب الموجِب للصلاة لله ، هو إعطاء المال دون تلك النِعَم العظيمة ؟ ! ولكنّ الذي يُستأجر بالمال للتبشير ، يكون المال قِبلتَه التي يُصلّي إليها ، وهدفه الذي يسعى إلى تحصيله ، وغايته التي يُقدّمها على كلّ غاية ( وكلّ إناءٍ بالذي فيه ينضح ) .

ولَسائلٍ أنْ يسأل هذا الكاتب عن معنى كلمة ( الجواهر ) التي جاء بها معرّفةً بالألف واللام ، فإنْ أراد بها جواهر معيّنة ، فليست في اللفظ قرينة تعيّن هذه الجواهر المقصودة ، وإنْ أراد بها جميع الجواهر الموجودة في العالَم ، مِن حيث أنّ الجَمْع المعرّف بالألف واللام يدلّ على الاستغراق ، فهو كِذبٌ صريح .

وما هو وجه المناسبة بين الجُمْلتَين السابقتين ، وبين قوله : ( ولا تعتمد قَول ساحر ) وما هو المراد مِن لفْظ ساحر ، ومِن قوله الذي لا يعتمد عليه ؟ فإنْ أراد به ساحراً معيّناً ، وقولاً مخصوصاً مِن أقواله ، كان عليه أنْ ينصب قرينة على هذا التعيين وليس في جُملته هذه ما يصلح للدلالة عليه .

وإنْ أراد به كلّ قَولٍ ، لكلّ ساحر ؛ لأنّهم نَكِرتان في سياق النهي ، لزوم اللغْوِ في هذا الكلام ؛ لأنّه لا يوجد سبب معقول لعدم الاعتماد على قَول كلّ ساحر ، ولو كان هذا القول في الأمور الاعتيادية مع الاطمئنان بقوله .

وإنْ أراد أنْ لا يعتمد قول الساحر بما هو ساحر ، فهو غلط ، لأنّ الساحر مِن حيث هو ساحر لا قَول له ، وإنّما يسحر الناس ، ويُفسد عليهم حالهم بحِيَله وأعماله .

وأمّا سورة الكوثر ، فقد نزلت في مَن شنأ رسول الله - ص - فقال : إنّه أبْتَر ، وسيموت وينقطع دينه واسمه ، وقد أشار إلى ذلك بقوله تعالى :

( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) ٥٢ : ٣٠

٩٧

فأنزل الله تبارك وتعالى :

( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ١٠٨ : ١ .

وهو الخير الكثير مِن جميع الجهات أمّا في الدنيا : فشرف الرسالة ، وهداية الخَلْق وزعامة المسلمين ، وكَثرة الأنصار ، والنصر على الأعداء وكَثرة الذرّية - مِن بَضعتِه الصدّيقة الطاهرة - التي توجب بقاء اسمه ، ما دامت الدنيا باقية .

وأمّا في الآخرة : فالشفاعة الكبرى ، والجنان العالية ، والحوض الذي لا يشرب منه إلاّ هو وأولياؤه ، إلى ما سوى ذلك مِن نِعَم الله عليه .

( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) ١٠٨ : ٢ .

شكراً له على هذه النِعَم ، والمراد بالنَحْر : النَحْر بمِنى ، أو نَحْرُ الأُضحية في الأضحى ، أو رفْع اليدَين إلى النَحْر في تكبير الصلاة ، أو استقبال القِبلة بالنَحْر ، والاعتدال في القيام ، وجميع ذلك يُناسب المقام ؛ لأنّه نحوٌ مِن الشُكر لتلك النِعَم وقد أنزل الله سبحانه :

( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) ١٠٨ : ٣ .

فلا يبقى له اسم ولا رسم ، فكانت العاقبة لهؤلاء الشانئين ما أخبر الله عنهم ، فلم يبقَ لهم اسم ولا ذِكرُ خيرٍ في الدنيا ، زيادة على جزائهم في الآخرة مِن العذاب الأليم ، والخِزيِ الدائم .

وهل تُقاس هذه السورة المباركة في معانيها السامية ، وبلاغتها الكاملة بتلك الجُمَل الساقطة ، التي أجْهَد هذا الكاتب بها نفسه، فقلّد القرآن في نحْوِ تركيبه ، وأخذ مِن مُسَيلمة الكذّاب ألفاظها وأسلوبها ، وأتى به كما شاء له العناد ، بل كما شاء له الجهل الفاحش ؛ ليعارض بها عَظَمة القرآن في بلاغته وإعجازه ؟ !

حول سائر المعجزات

٩٨

إثبات المعجزات بالبراهين المنطقية محاسبة المدارك التي استند إليها مُنكرو تلك المعجزات بشارة التوراة والإنجيل بنبوّة محمّد إسلام كثير مِن اليهود والنصارى الدليل القطعي على إثبات هذه البشارة معجزات النبيّ أَولى بالتصديق مِن معجزات الأنبياء السابقين .

٩٩

لا يشكّ باحث مطّلع في أنّ القرآن أعظم معجزةٍ جاء بها نبيّ الإسلام ، ومعنى هذا أنّه أعظم المعجزات التي جاء بها الأنبياء والمرسلون جميعاً وقد ذكرنا في المباحث المتقدّمة بعضاً مِن نواحي إعجازه ، وأَوضحنا تفوّق كتاب الله على جميع المعجزات ، ولكنّا نقول ههنا : إنّ معجزة النبيّ ( ص ) لم تكن منحصرة بالقرآن الكريم ، ولقد شارك جميع الأنبياء في معجزاتهم ، واختصّ مِن بينهم بمعجزة الكتاب العزيز والدليل على قولنا هذا أمران :

الأوّل : أخبار المسلمين المتواترة الدالّة على صدور المعجزات منه ، وقد ألّف المسلمون - على اختلاف مِلَلَهم ونِحلَهم في هذه المعجزات - مؤلّفات كثيرة ، فليراجعها مَن يرغب في الاطّلاع عليها ولهذه الأخبار جهتان مِن الامتياز على أخبار أهل الكتاب بمعجزات أنبيائهم :

الجهة الأُولى : قُرب الزمان ، فإنّ الشيء إذا قَرُب زمانه كان تحصيليّ الجَزْم بوقوعه ، أيْسر منه إذا بَعُد زمانه

الجهة الثانية : كَثرة الرواة : فإنّ أصحاب النبيّ - ص - الذين شاهدوا معجزاته أكثر - بألوف المرّات - مِن بني إسرائيل، ومِن المؤمنين بعيسى الناقلين لمعجزاتهما فإنّ المؤمنين بعيسى ( عليه السلام ) في عصره كانوا لقلّتهم يُعَدَّون بالأصابع ، وإنّ نقْل معجزاته لا بدّ وأنْ ينتهي إلى هؤلاء المؤمنين القليلين في العدد ، فإذا صحّت دعوى التواتر في معجزات موسى وعيسى صحّت دعوى

١٠٠