الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة33%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 177

  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22184 / تحميل: 7064
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء الثاني

معهد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العالي للشريعة

١

مقتضيات المشاركة الحضارية للاجتهاد الفقهي

مقدِّمة

ما يحفِّز الباحثين وبعض مؤسَّسات الدِّراسات الدينية ودوائرها - وبخاصة في حقل العلوم الشِّرعية - إلى تقديم مشاريع إحيائية في ممارسة العمل الاجتهادي؛ ليس إلاّ شعورهم بأنَّ الوضعية الاجتهادية الحاضرة غير مستوعبة لمستجدَّات الحياة ومتطلَّبات العصر، وغير جاهزة للخوض في عمليَّة تنظيرية تخلق مناخاً نظرياً متلائماً مع حقيقة الحضارة الإسلامية.

عرفت الآونة الأخيرة صرخات عالية تدعو إلى ضرورة استئناف جهود جادة للانطلاق باتجاه التجديد والإحياء في الفقه والاجتهاد، من خلال ممارسة إعادة النظر في قواعد العمل الاجتهادي وضوابطه؛ لأجل تمكينه من القيام بالدور اللاّزم في التنظير الفقهي الشامل والمنسجم مع وظائف الفكر الديني، ومهمَّاته تجاه الإنسان والحياة.

إنَّنا، وفي الوقت الذي نتَّفق فيه مع دعاة الإصلاح والتجديد على أنَّ الحاجة ماسَّة، أكثر من أي وقت آخر، للحديث عن إحياء الفقه والاجتهاد الفقهي وتحديثهما، وهو ما سنتحدَّث عنه لاحقاً، سنبرهن على أنَّ سياسة الهدم والتدمير، قبل تحضير البديل وتأهيله، سوف تسفر حتماً عن كوارث كبيرة على التُّراث الإسلامي، وعلى أصالة الاجتهاد الفقهي وعمقه. نرى هذا في الوقت الذي نؤكِّد فيه: أنَّ الفقه الإسلامي في واقعه الراهن، غير جاهز للمواكبة والتصدِّي الحقيقي، بخاصة على صعيد التنظير وصياغة حلول فكرية تدعم مصداقية الحديث المتواصل عن الطاقات و(الظرفيَّات) الكبيرة للفقه الديني؛ الأمر الذي يدعونا جميعاً إلى استنفار الطاقات والإمكانيات العلمية والمنهجية الهائلة، للخروج بفقه يؤسِّس لتدبير الحياة، والإدارة الدينية لإنسان هذا العصر، ولمجتمعنا المعاصر، بكل ما تحتويه خصوصية هذا العصر الحاضر، وما تواجهه الأمة، ونظرية الدين المتكامل، من تحدِّياتٍ علمية، ونظرياتٍ هائلة، ترمي إلى النيل من مبدأ قدرة الدين على تلبية حاجات الإنسان والمجتمع، مهما تطوَّرا وتقدَّما.

٢

وما يُنجز عملياً، بين فنية وأخرى، من مواجهة لهذه التحديات النظرية بوصفها(شُبهات دينية) ، أو(محاولات للنَّيل من قداسة الدين) ، وتوظيف هذه القداسة لأجل إطلاق الأحكام المُدِينة والمستهجنة، لا يجدي جدوى الخوض الفكري والعلمي المُمنهَج في المواجهة، والمتمثِّل في تطوير عملية الاجتهاد، وتمكين العقل الاجتهادي من التواجد الكثيف في مختلف مساحات الحياة، من دون دعوة الأمة إلى أن تنزوي وتتقوقع وتتجنَّب خوض معارك يفرضها التطوُّر الحياتي.

وتتمثَّل وظيفة الفقه والاجتهاد في إرساء إطاراتٍ معرفيةٍ شاملة، ونظرياتٍ ومناهجٍ دقيقة ومواكِبة للحياة المعاصرة، وذلك كلّه في ظلّ الالتزام الكامل والدقيق بمؤدَّيات النُّصوص الدينية والسنة الشريفة، مدعومة بصيغ عقلية في منطقة خلت من تناول نصِّي تفصيلي.

أمَّا الحديث عن إمكانية وقوع العقل في شرك الخطأ عند الاعتماد عليه؛ بغية تجاهله وتجاهل دوره الكبير في صياغة الإسهام الحضاري الإسلامي، فلا يتجاوز مشكلة فقدان الوعي الكافي لإدراك: أنَّ الاجتهاد الديني لا معنى له من دون الاتكال على العقل، في ما رُسِم له من دور وموقع من قبل الشارع المقدَّس، وفي منطقة تحرُّكه، وذلك بعد تحديد مساحات هذه المنطقة، وتأطير دوره المعترف به شرعاً ضمن النقاش في منظومة (مصادر المعرفة)، ومنابع الاستنباط الشرعي.

إنّ أي عمل على إسقاط جدوى العقل الإنساني - المدعو في النص الشرعي المعتبر: حجةَّ الله الباطنة - في تحمُّله لدوره الذي يستحقه، سينتهي في النهاية إلى استمرار العجز التنظيري في الإسهام الحضاري، وبقاء الإخفاق في صياغة مناهج وأنظمة كفوءة في ساحات الاقتصاد والسياسة، وما إلى ذلك من مفاصل الحضارة المعاصرة. هذا، وإنَّ إلغاء الإنسانِ العاقلَ من طريق الاجتهاد الديني؛ تحت ذريعة أنَّّ النَّص الديني يغنينا عن ذلك، يتنافى مع أوَّليَّات الفهم الصحيح لمدلول الوحي، وما احتل العقل فيه من هامش كبير وموقع متميِّز يمكِّننا في ظله استنطاق النَّص، المتمثِّّل في الوحي والحديث الشريف، والاستنباط منه.

٣

ومن جهة أخرى، فإنَّّ إدراك الوقائع والأحداث في الإطار الزماني والمكاني، ووعي طبيعة هذا الإدراك وديناميكيَّته، سيؤثِّران في عمق عملية الاجتهاد، ويدعوان إلى إعادة النظر في تثمين انجرار تفاصيل مقتضيات الزمن الماضي إلى العصر الراهن، وفي المحاولة الخاطئة لإسقاط ما للثوابت الدِّينية من قيمة لا زمانية على المتغيرات، الّتي لا بدّ من القيام بأقلمة الأحكام في ظلّها تارة، وعصرنتها تارة أخرى. ومعلوم أنَّ خلط الثابت والمتغيِّر في جسم الفقه، وعدم العمل على وضع حدود واضحة لهما، من شأنه أن يجلب نتيجة مأساوية علينا، سواء أكان من جرَّاء عرض إجابات الماضي، وتقديم بدائل منصرمة إلى الاقتضاء الحاضر؛ ما يؤدِّي إلى صمت فقهي يخصِّب المجال لاعتبار الدين عاجزاً عن المواكبة والمعاصرة، وهذا في حال عدم الاعتراف بوجود المتغيِّرات، ومحاولة توسيع نطاق الثوابت إلى أبعد ممَّا هو مرسوم لها في الشريعة؛ أم من جرَّاء تمييع الثوابت الدينية، واعتبار الدين ظاهرة زمنية بلا ثوابت، يخضع لمصلحة الإنسان ورؤيته العصرية، ويحق له أن يُغيِّر منه ما يشاء، ويُثبت منه ما يشاء؛ جلباً للمصلحة وتدبيراً للحياة، عِبْرَ تجاهل القواعد الثابتة، وتخطِّي أسس الدِّين السَّماوية المُوحى بها.

إذاً إنَّ قسطاً كبيراً، وحيِّزاً واسعاً، من مشروع عملية التحديث الفقهي، لا بدَّ من أن يختصَّا بالعمل على إيضاح ملابسات الثابت والمتغيِّر وإشكاليَّاتهما؛ لأنَّ الأمر يمثِّل عصب الحياة للاجتهاد المعاصر، وذلك تفادياً للوقوع في مشكلة كبيرة لها طرفان أسلفنا الحديث عنهما باختصار قبل قليل.

٤

ولعلَّ انعدام الوعي الكافي، في المؤسسات المعنيَّة بالدراسة الفقهية والاجتهاد الشرعي، لمهمَّات الدين الإسلامي الواسعة؛ هو ما سبَّب خلط أولويَّات المرجعيَّات الشرعية في المعالجات الفقهية، الأمر الذي جعل جلَّ اهتمامات هذه الفعاليَّات الفقهية، المتمثِّلة بالدروس العالية والبحوث التخصُّصية، ينصب في حقل العبادات، دون الحقول التي تتحرَّك وتتطوَّر وتتطلَّب بذل جهد أقصى وأكبر من قِبَل المجتهدين قبل أيِّ حقل آخر. وما نتج عن ذلك هو عجز هذه القواعد عن بناء شخصية فقهية تخوض الحياة العلمية لتقدِّم وتعطي لواقعها حلاًّ دينياً يوفِّر للإنسان والمجتمع قِيَماً فيها صلاح الدنيا والآخرة، من دون أن يأتي ذلك لحساب أحدهما على الآخر، ونحن مع اعتبار الأصالة والأولوية للأخير في حال حتمية استحالة الجمع، مع أنَّ نشوء ثنائية كهذه، واعتبار فاصلة بينهما، لا أصل له في مداليل النص الشرعي. ولعلّ التفاوت في المرتبة بين المقولتين قد أسَّس لتجاهل الحياة، وبنى لتربية خاطئة للعقل الإسلامي والشخصية المسلمة في ما يتصل بفهم حقيقة الدنيا وعلاقتها بالآخرة؛ ما أدّى إلى حرمان المسلم المعاصر وإفقاره من إمكانيات مادية توفِّر له الأمن والهدوء وكرامة الحياة، بعيداً عن وطأة الصِّعاب وضغوط الذلَّة.

وقد أسهم ذلك كله مباشرةً في إهمال كثير من التعاليم الدينية الراقية إلى تحسين الحياة، وساعد على حدوث تأخُّرٍ وتخلُّفٍ لا يسعنا إنكارهم، وعزَّز سلطان أعدائنا علينا. ولا يخفى أنَّ غياب الفقه المعاصر عن وسط الحياة السياسية والاجتماعية، تنظيراً ومعالجةً وتقديماً لبدائل، أسهم في خلق المناخ الراهن.

بغية إدراك وجه القصور في حركة الاجتهاد، لا يمكن تغييب عنصر آخر؛ وهو التأثُّر السياسي الكبير، في الوسط الاجتهادي، بالأنظمة السياسية في مراحل تاريخية طويلة؛ ما أسهم في انغلاق أبواب الاجتهاد بين المذاهب الإسلامية، وعدم إتاحة الفرصة للتعامل الفقهي والحوار الإسلامي الشامل، بغية الوصول إلى منظومة فقهية اجتهادية تسترفد من مائدة إسلامية واحدة، لتحويل الهمِّ المذهبي إلى همِّ الأمّة، وإلى مطالب مشروع الحضارة الإسلامية العالمية.

٥

ومن جهة أخرى، من الضّروري أن نطرح سؤالاً آخر عن الاجتهاد المعاصر؛ وهو: ما مدى إمكانية الحديث عنالاجتهاد (المقاصدي) ، الذي يتحرَّك المجتهد فيه على أساس مسبَّق، وضعه لنفسه عبر تبنِّيه مقاصد عامة ومِلاكات كلِّية للشريعة عموماً، وللأحكام الفقهية خصوصاً، وفي ظلِّها يعمل على تحديد قيمة النّص الشرعي ويمارس النقد؟ سؤالٌ قد أخذ مساحة جيدة من اهتمام البحث الفقهي المعاصر، وإن كان متأخِّراً، ولكنَّه طُرح في الوسط التجديدي بقوَّة. ولعلّ السبب في حيوية موضوع المقاصد وارتباطه بالحياة، يعود إلى صعوبة الجمع بين رؤية فكرية تفهم نصوصَ الدّين وأحكامه بوصفها منظومة معرفية لا سبيل إلى معرفة أسبابها، ومقاصدها، وأسرار وجودها، وإنَّما هي مطالب سماوية لا تُفهم خلفيَّاتها ودواعيها، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، لعلَّه يعود إلى الحديث عن الثابت والمتغيِّر، أو إلى تأثُّر الخطاب الشرعي بالواقع المعيوش؛ لأنَّه من غير المعقول اعتبار أنَّ عصر صدور النُّصوص والأحاديث الدينية الأولى لم يكن له تأثير في إجابات الشريعة، بينما العصور اللاَّحقة، بما في ذلك عصرنا هذا، قد تؤثِّر في الاهتمام الفقهي والشرعي من قبل الفقهاء! الأمر الذي يدفعنا إلى التفكير الجادِّ والدرس العميق للعثور على مواطن المقاصد من النص الشَّرعي.

وإذا كان الثابت والمتغيِّر حقيقتين في قلب الفكر الإسلامي، فمن دون الاعتراف بهما معاً، قد لا يمكن الدفاع عن قدسيَّة الدين في حال رفض الثوابت، ولا الدفاع عن إنسانية الدين وعملانية الشريعة، في حال رفض المتغيِّرات.

٦

ومن الواضح، أيضاً، أنَّ السبيل إلى إثبات جدارة الدين باختراق الزمان والمكان، وأهليَّة الشريعة الشاملة والكاملة، كامنٌ في قبول وجود ثوابتَ خلف الأحكام تهدف الشريعة إلى تحقيقها، مع أخذ الحذر من وقوع الاجتهاد في فخِّ دوائر محظورة - كالقياس - تنتهي بالفكر الديني إلى الخضوع لعملٍ اجتهادي ذوقي، واستنسابي، أو استحساني، بينما الدراسة المقاصدية تتمكَّن من تمتين البحث الفقهي وجعله قادراً على تعزيز القواعد الفقهية، وإعادة ترتيبها من جديد، وبالذات سيقحم الموضوعُ هذا، الاهتمامَ القرآني في قلب الاجتهاد؛ وذلك لأنَّ بحث المقاصد يسفر عن تفعيل الفهم القرآني وإدخال الدراسة القرآنية إلى ساحة العمل الاستنباطي، لكونه المصدر الأساس في تحديد المقاصد العامة للشريعة الإسلامية. ولا أعتقد أنَّ المرء بحاجة إلى تأكيد:أنَّ فاعلية النَّص القرآني، موقعاً ودوراً في حركة الاجتهاد، لو قورنت بفاعلية الحديث والنص غير القرآني، ضئيلةٌ، وتكاد تختفي من ساحة الاجتهاد .

إنَّ تحريك قضية المقاصد سيجرُّنا إلى التردُّد في إمكانية اكتفاء المجتهد بجزء منالقرآن، المسمَّى بآيات الأحكام؛ لأنَّه لا آية في الكتاب الكريم يتمكَّن المجتهد من القول بالاستغناء عنها في عمله الاجتهادي. وإنَّ القرآن الكريم هو بمثابة الينبوع الصافي الذي تنطلق منه القواعد الأساسية والعامة للشريعة الإسلامية، وما جاءت السنة الشريفة إلاّ تبييناً وتفسيراً، وليس تأسيساً واستئنافاً. والقرآن الكريم يمثِّل المرجعية الكبرى لفهم مقاصد الدين الإسلامي، التي في ظلَّ إدراكها الجيد يسهل على الفقيه مراجعة الحديث الشريف وتقييمه. وإنَّ غياب القرآن الكريم - أو تغييبه - على أثر سلسلة تدابير غير معرفية وغير علمية، أدّى إلى وضع بيان فقهي كان الدور الأكبر فيه للحديث دون الآيات الشريفة، مع أَنَّه من المعروف أنَّ (اليد) قد مسَّت الحديث، وتم اختلاق بعضٍ منه أو تزويره، دون القرآن الكريم، وأصبحت العملية الاجتهادية بعد أحداث تاريخية سياسية، وغير سياسية، تدور في فلك الحديث، وظلَّ القرآن، وبالذات تلك المساحات الكبيرة غير الفقهية، حسب مدلولٍ حديثٍ للفقه مختلف عن حقيقة المصطلح في الكتاب والسنة، بمنأى عن هذه

٧

العملية. ومن الغريب هو أنَّ الاستشهاد بآيةٍ محكمة من القرآن الكريم على مقصد ديني عام يمثِّل عملاً غير مقبول في حال عدم إرفاقها بأحاديث تدعم فهمنا للآية و تؤيِّده، وذلك على الرُّغم من أنَّ محكم القرآن الكريم هو عصب الدين والوحي. وتعليق مدلول محكمات القرآن الكريم على تأييد من الأحاديث الشريفة؛ سيؤدِّي إلى محاولة نزع المرجعية وخلعها عن الكتاب الكريم، الأمر الذي أدَّى إلى فتح أبواب التأويل في بعض محكمات القرآن الكريم، وخلطِ الأوراق، وضياعِ الطريق، وتكريسِ القيادة الحديثية محلَّ مرجعية الكتاب الكريم وأصالته، وإخراج القواعد الدينية الثابتة منه، إلى جانب التمسُّك الكامل بالحديث الشريف والسُّنَّة المقدَّسة الصحيحة، وتهميش أحدهما مؤدٍّ بالأمة إلى الضياع والضلال، ويسبّب اللجوء إلى تأويل محكم الكتاب الكريم بغية التوفيق بينه وبين الحديث، هذا كلُّه قد حصل غير مرَّة في سير بعض العلماء المسلمين.

إنَّ تزوُّد المجتهد بجزء من القرآن الكريم، وعدم تبنِّي تلك المنظومة المعرفية المتكاملة والشاملة في ما يخص المجتمع والتاريخ والإنسان، سيؤدِّي في النهاية إلى إنجاز عملٍ اجتهادي غير كامل؛ لأنَّ المجتهد لدى قيامه باستنطاق الحديث الشريف، واستنباط الحكم منه، سيوظِّف معرفته وفرضيَّاته وآراءه في الإنسان والتاريخ والمجتمع... إلخ، في فهمه، شاء ذلك أم أبى، غير أنَّ الغالب في الأمر هو عدم نشأة هذه الفرضيَّات من الكتاب الكريم. وبكل بساطة نقول: هناك شريحة من المَعْنيين بفهم الأحكام واستنباطها، ينطلقون من قاعدة معرفية - عن الإنسان مثلاً - قد كوَّنوها من خلال عيشهم معه في بيئتهم، ثُمَّ يستخدمونها في فهم الحديث الشريف، وهذا العمل هو محاولة لفرض اقتناع على مدلول الحديث من دون أن يكون في ذلك تعمُّد.

٨

وعليه، ينبغي التأكُّد من أنَّ معالجة موضوع التعاطي مع النص، ومقوِّمات فهمه، والعناصر المتداخلة في تكوُّن انطباع القارئ والمستنبِط، ستفتح آفاقاً مهمة على طريق الاجتهاد؛ الأمر الذي يحتَّم علينا إجراء دراسات جادَّة في مجال دراسة النّص، وعلم تفسيره وقواعده ومناهجه المعروضة في البحوث الألسنية واللغوية، بخاصة في مجال (الهرمنيوطيقا) (علم تفسير النَّص وفهمه)؛ وذلك كلِّه بهدف التقليل - أكبر قدر ممكن - من تدخُّل الذات، والحدِّ من محاولتها الفضولية للدخول الخفي والدقيق على خط مدلول النص الشرعي وتحت عنوان النّص نفسه. والتمييزُ بين الأمرين في غاية الدقة والصعوبة، والحل الأسلم يكمن في اللجوء إلى الكتاب والسُّنَّة لتكوين الاقتناع الأنتروبولوجي لدى الفقيه، ورفض الاتكال على معطيات المعيوش.

ويُخشى من استمرار عدم الاعتراف، من قبل الوسط الفقهي الرسمي، بالجانب الفعلي والفلسفي والكلامي، وكذلك التاريخي واللغوي، والاكتفاء بالحديث (النص) على حساب باقي مصادر الاستنباط؛ الأمر الذي قد يؤدِّي إلى حرمان الإنسان من تأسيس فقه شامل، يأخذ الفقيه فيه جميع الحقائق السامية والراقية العقلية، والإنسانية الأخرى، بعين الاعتبار، ويسبِّب استمرار الخطاب الإسلامي الديني الآحادي بعيداً عن عقول الناس وقلوبهم؛ لخلوِّه من الشموليّة والكمال في ما يقدِّم من حلول عملية لأزمات ومآسٍ نفسية واجتماعية واقتصادية معاصرة، أخفقت في معالجتها جميع النظريات الوضعية، والأنظمة المعرفية الإنسانية المنقطعة عن الوحي والسماء.

إنَّ هذا الإصدار منكِتَاب الحيَاة الطَّيِّبة يحاول أن يؤسِّس لنقاشات علمية، ومعالجات أوليَّة لقضايا مهمة، على طريق اجتهادٍ معاصر، عِبر استقطاب آراءٍ ورؤىً واسعة لعدد من المجتهدين البارزين في مجال الفقه والشريعة الإسلامية، ونأمل أن يكون خطوة في سبيل الهدف المنشود.

الحيَاة الطَّـيِّبة

٩

مرتكَزات الاجتهاد المعاصر ومبانيه

وقائع ندوة حَوْزَوُيَّة - جامعيَّة

جاءت تجربة قيام الدولة الإسلاميَّة في إيران، وما رافقها من حاجات ملحَّة للتأصيل الفقهي في مختلف مرافق التجربة التي تتحرَّك في مدار الحياة؛ لتفرض على الحوزة العلمية أجواء وشواغل جديدة، حتى أضحى الحديث عن اجتهاد جديد يلبِّي الحاجات المستحدَثة ويواكب المستجدَّات وكأنَّه من الثَّوابت التي لا محيد عنها، فلم يَعُد الاجتهاد المتوارث من عصر ما قبل قيام الدَّولة يلبِّي سوى دائرة ضيقة من حاجات الحياة إلى الفقه، تتَّصل في الأغلب بدائرة العبادات وبعض المعاملات من حياة الإنسان الفرد.

في هذا السياق كانت الصَّيحة المدوِّية التي أطلقها الإمام الخمينيقدس‌سره قبل أربعة أشهر من وفاته (بيان ١٥/ رجب/ ١٤٠٩ هـ)، والموجَّه إلى الحوزات العلمية، التي أعلن فيها:إنَّ الاجتهاد المتداول لم يعد كافياً لإشباع حاجة الواقع .

لذلك كلِّه لم تعد الأوساط التي تنتسب إلى التجربة الجديدة وتتنفس في مناخاتها تناقشُ في ضرورة التجديد، وإنَّما انتقلت إلى ترسيم سُبُله، والتفتيش عن إمكانات ممارسته وإنزاله إلى الواقع، وصوغ مرتكزات علمية متينة لإحداث هذه النُّقلة.

من هذه الزَّواية بالذات، قرأنا بحوثاً وشهدنا ندوات وعرفنا آراء كثيرة في التجديد الفقهي وإمكاناته، تضَّمنت كثافة ملحوظة في الرؤى الغنية.

من بين الأعمال المذكورة، تُعَدُّ هذه الندوة التي زاوجت بين الحقلين: الحوزوي والجامعي، واحدة من أبرز ما شهدته الساحة العلمية على هذا الصعيد خلال السنوات الأخيرة؛ من حيث كفاءة المشاركين، وجرأة الأسئلة، ووضوح المطالب وعمقها، وكثافة الرؤى، واتساع الآفاق؛ الأمر الذي دعانا إلى ترجمتها وتقديمها إلى القارئ العربي.

١٠

أسماء المشاركين في هذه النَّدوة، مرتبةً ألفبائياً حسب اسم الشهرة:

١ - السيد كاظم الحائري ، أستاذ في الحوزة العلمية.

٢ - الشيخ محمد مجتهد شَبَسْـتَري ، أستاذ جامعي يجمع بين التحصيلين: الحوزوي والجامعي.

٣ - د. ناصر كاتوزْيان ، أستاذ جامعي.

٤ - د. أبو القاسم كُرْجي ، أستاذ جامعي.

٥ - السيد محمد حسن مرعشي ، عضو سابق في ديوان القضاء العالي، أستاذ في الحوزة العلمية حاليَّاً.

٦ - الشيخ محمد هادي معرفت ، أستاذ في الحوزة العلمية.

المحرِّر

١١

تأثير الفلسفة والكلام في الاجتهاد

* ما هي العلاقة بين النَّظريات الفلسفية والكلامية وبين استنباط الأحكام الفقهيّة؟ ثُمَّ ما هي العلوم اللاَّزمة لممارسة الاجتهاد؟

د. كُرْجي: يتألَّف هذا السؤال، في الحقيقة، من سؤالين، هما:

١ - ما هي طبيعة علاقة نظريات هذه العلوم (المشار إليها في السؤال) بالاستنباط؟

٢ - ما هي العلوم التي ينبغي أن يلمّ بها المجتهد؟

السؤال الأوَّل عام غير محدَّد، فإذا كان المقصود معرفة علاقة هذه العلوم المباشرة بعلم الفقه، على نحو علاقة علم الأصول به، فالجواب بالنفي، فمن دون معرفة علم الأصول والتوفُّر عليه يتعذَّر استنباط الأحكام الفقهية، في حين أنَّ الأمر ليس كذلك بالنسبة لهذه العلوم، لكن في الوقت نفسه تُعَدُّ معرفة بعض هذه العلوم، والإلمام بها إلى حد معيّن، ضرورية في بعض المسائل الفقهية.

على سبيل المثال: من اللازم معرفة الرياضيات بشكل عام في مسائل الوصايا والإرث، وكذلك في بعض مسائل تقسيم المال المشترك، وذلك في حدود الثقافة العامة. وفي معرفة القبلة، من الضروري أن يكون الفقيه ملمَّاً بعلم الهيئة، كما ينبغي له أن يكون على دراية بمسألة بطلان الدور - وهي من المسائل الفلسفية - على صعيد عدم جواز التقليد في (مسألة التقليد).

كذلك ينبغي التوفُّر، في مجال البحث، على (مسألة حُجِّـيَّة خبر الواحد) ونظائرها، من قبيل مسألة حُجِّـيَّة الظهور (ومن الواضح أن هذه المسائل أصولية، لا فقهية)، وعلى معرفة مبحث حُجِّـيَّة الكتاب و السُّـنَّة، وهذه مسألة كلامية، وهكذا الحال في مبحث حُجِّـيَّة خبر الواحد، - وهو كما مرَّ - من المسائل الأصولية، لا الفقهية.

١٢

أمَّا إذا كان المقصود من السؤال أمراً آخر هو: إذا لم يكن الإنسان معتقداً بالعقائد الصحيحة المبتنية على مرتكزات (مبانٍ) مختلفة في علوم مختلفة، من بينها الفلسفة والكلام، فهل بمقدوره أن يكون مجتهداً؟ فإنَّ الجواب هو: أجل، يستطيع ذلك، بل يمكن أن يكون استنباطه حُجَّة عليه أيضاً، شريطة أن يمارس ذلك على ضوء القواعد الصحيحة للاستنباط، كأن يستفيد - مثلاً - من نصوص الكتاب والسُّـنَّة وظواهرهما، ويراعي الالتزام بقواعد الخاص والعام، والمطلق والمقيّد، والمفهوم والمنطوق، وغيرها. كما عليه أن يعمل بالأمارات والأصول المعتبَرة، وأن يستفيد من كلِّ واحد منها في مجاله الخاص.

لكن إذا كان المراد من السؤال: هل الاجتهاد المذكور في الفرض أعلاه حُجَّة على الآخرين أو لا؟ فالجواب هو: ما دامت العدالة من شروط مرجع التقليد، فلا يجوز تقليده، كما لا يجوز إسناد القضاء إليه.

وفي ما يتعلَّق بالسؤال الثاني، فإنَّ العلوم اللاَّزمة للاجتهاد هي: علوم آداب اللغة العربية، المنطق، أصول الفقه، تفسير آيات الأحكام، معرفة الأحاديث الفقهية، معرفة مواطن الإجماع، الدراية بالأحكام العقلية بالدَّرجة الضَّرورية التي تستلزمها ممارسة الاجتهاد، بالإضافة إلى لمحات من علوم أخرى.

السيد مرعشي: لقد بيَّن الفقهاء ما يحتاج إليه الاجتهاد من علوم في الكتب الفقهية (انظر مثلاً: كتاب القضاء). أمَّا بالنِّسبة للنظريات الفلسفية والكلامية والعلمية، فيمكن أن تكون مؤثِّرة في مقدِّمات الرؤية؛ لذلك يحصل أحياناً في علم الأصول أن تتسع دائرة البحث لتشمل المسائل الفلسفية. فبحوث من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، ومبحث الضد، والطلب والإرادة، وقبح العقاب بلا بيان، لها جميعاً خلفيَّة فلسفية وكلامية.

١٣

أمَّا بالنسبة للنّظريات العلمية، فيمكن أن تكون مؤثِّرة في تشخيص الموضوعات، وكثيرة هي الأمثلة والمصاديق التي يمكن ذكرها شاهداً في هذا المجال؛ فعلى سبيل المثال: نجد في باب الديَّة تعلُّق نصف الدية في حال قطع خصية الرجل اليسرى، في حين يتعلَّق ثلث الدية في حال قطع خصية الرجل اليمنى؛ وقد علَّل الفقهاء ذلك بأنَّ الطفل يولد من خصية الرجل اليسرى، طبقاً لمؤدَّى بعض الروايات الضعيفة؛ لذا فإنَّ ديَّتها نصف الديَّة الكاملة، ولكن العلم لا يقبل ذلك. وانتبه لذلك الشهيد الثاني (زين الدين العاملي، ٩١١ - ٩٦٥هـ) في شرح اللمعة، وذكر أنَّ الأطبَّاء لا يوافقون على مثل هذا التعليل.

من الأمثلة ما يُذكر طبقاً لمفاد مجموعة من الروايات، من أنَّ النطفة تمكث في الرحم أربعين يوماً، وتكون علقة أربعين يوماً، ومضغة أربعين يوماً، في حين لا تنسجم معطيات العلم اليوم مع هذا الترتيب.

وبشكل عام: الأحكام تابعة لموضوعاتها، ويمكن للعلم أن يُعين الفقيه ويُساعده في معرفة الموضوعات، وفي مثل هذه الحالة، تكون المعرفة دقيقة من دون أن تنطوي على شكٍّ أو تردُّد؛ كما هي الحال في ميزان الموقف العلمي - مثلاً - من قضية بلوغ الفتاة في سنِّ التاسعة؛ إذ يمكن للعلم أن يثبِتَ - على نحو دقيق - هل تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ في سنِّ التاسعة أم لا؟

السيد الحائري: إذا كان المقصود من السؤال أنَّ الفلسفة والكلام يهبان الفقيه رؤية إلهيَّة، ويجعلان أفُقَه أرحب، فهذا أمر حسن له تأثيره؛ إذ يجب أن يكون للفقيه رؤية ميتافيزيقية (غيبية) إلهية، وإلاّ لا يكون فقيهاً، ولن تكون ثَمَّة قيمة لفتاواه. الفلسفة تُثبت لنا أنَّ هذا العلم هو حلقة مرتبطة بحلقات أخرى، وهذه أمور ينبغي للعالِم الدِّيني أن يعرفها.

أمَّا إذا كان المقصود خلط المسائل الفلسفية والعلمية بعلم الأصول، لتكون الحصيلة كالتي بين أيدينا: علم أصول متضخِّم ممَّا دخله ونفذ إليه، فهذا أمر مرفوض.

١٤

* ألا يوجد فَرق بين مدرسة الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت١٢٦٦هـ) والميرزا محمد حسين النائيني (ت١٣٣٥هـ)؟ فالمرحوم الأصفهاني متأثِّر بالفلسفة والكلام، واتجاهه الأصولي يختلف تماماً عن الاتجاه الأصولي للمرحوم النائيني، ومن الواضح أنَّ لهذا الاختلاف أثره في الفقه.

السيد الحائري: نعم، ولكن أيُّ هاتين المدرستين أحقّ؟ هذا أمر غير معلوم.

* بحثنا يدور في طبيعة تأثير الذِّهنية الفلسفية والكلامية في الفقه والأصول، أمَّا الأحقّية، فهي مسألة أخرى.

السيد الحائري: نحن نقبل بوجود مثل هذا التأثير الذي يفضي إلى الأحقّية.

* يمكن أن يكون للعلم أحياناً تأثير على الفتوى. ففي مسألة العصير العنبي، يذهب بعض الفقهاء إلى أنَّ الغليان يجب أن يكون طبيعياً و تلقائياً، حتّى تزداد الحالة الأسيدية والسكَّرية. أمَّا إذا سخن بالنار ووصل إلى الغليان، فلا يطرأ على ماهيَّته أيُّ تغيير، ومن ثَمَّ لا يشمله حكم النجاسة.

السيد الحائري: التغيُّر يطرأ تدريجياً على العصير العنبي، بعد أن يبرد وتتغيَّر ماهيَّـته؛ ولذلك أفتى الفقهاء بحرمته ونجاسته.

الشيخ مجتهد شَبَسْـتَري: أعتقد أنَّه بالإمكان طرح السؤال بشكل أصحّ إذا صُغنا المسألة على النحو الآتي: ما هي صلة فهم الكتاب والسُّـنَّة بالنظريات الفلسفية والكلامية؛ أيْ النظريات التي تقع خارج مجال تخصُّص الفقيه. والباعث إلى ذلك، هو أنَّ الصيغة تعرُض لمسألة في غاية الأهميّة، وهي: كيف ينبغي أن يُفهم الكتاب والسُّـنَّة؟

١٥

ثَمَّة أنواع مختلفة من الفهم، فالعُرفاء فهموا الكتاب والسُّـنَّة عرفانياً، والفلاسفة فلسفياً، وثَمَّة إلى جوار هذين الفهمين الفهم الفقهي للكتاب والسُّـنَّة، وهذه الأشكال من الفهم تتفاوت في ما بينها. وحينئذٍ سيكون السؤال: هل يمكن لإنسان له اطلاع على النظريات التأسيسيَّة، في الفلسفة والكلام، أن ينال الفهم الفقهي ويُحرزه؟ وهل يتحقَّق الفهم الفقهي مع وجود أيِّ نوع من أنواع الفهم الفقهي ويُحرزه؟ وهل يتحقَّق الفهم الفقهي مع وجود أيِّ نوع من أنواع النظريات الفلسفية والكلامية؟ أو أنَّ اختلاف النظريات الفلسفية والكلامية يؤدِّي إلى اختلاف الفهم الفقهي؟

وهكذا ترون أنَّ المسألة تعود إلى قضية كيفيَّة تحقُّق فهم الكتاب والسُّـنَّة وترتد إليها.

قضية كيفية قراءة النصوص وتفسيرها قضيَّة مهمَّة جداً؛ فنحن لدينا، إلى جوار علم الفقه، فلسفةَ علم الفقه، والمقصود بعلم الفقه هو الواقع الموجود والمتداول في الحوزة والذي يخضع لموازين محدَّدة؛ حيث يُقال في تعريفه:(هو العلم الذي يبحث في الأحكام الشرعية لأفعال المكلَّفين، وَيستنبط تلك الأحكام من أدلَّتها التفصيلية) . بَيْد أنَّ الذي لم يبحث في علم الفقه هو (ماهيَّة) هذا البحث والتفحُّص وحقيقته؛ أي لا يُصار إلى بحث فلسفي في هذا المجال، بحيث تُعرف كيفيَّة تحقُّق هذا البحث والفحص في أعمال المكلَّفين، وما هي طبيعة النسيج الذي ينطوي عليه والمقدَّمات التي يقوم عليها ويستنبطها.

إنَّ البحث في هذه الدائرة(حقيقة البحث الفقهي) وما يكتنفها من أصول، هو أمر تنهض به(فلسفة علم الفقه) . وفي حوزاتنا العلميَّة، لا وجود لعلم باسم: فلسفة علم الفقه، ولكن يجب أن يوجد؛ ففي الوقت الحاضر بدأت تعرض إلى جوار أي علم، فلسفة ذلك العلم؛ لذلك لا يسعنا أن نغفل عن فلسفة علم الفقه، ونتجاهلها رغم أهمِّـيتها الفائقة.

وبديهي أنَّّ علم الأصول تكفَّل بعرض مجموعة من مباحث فلسفة الفقه ودراستها، ولكن ثَمَّة بحوث مهمَّة لا يتولى علم الأصول دراستها وبحثها.

١٦

* وهذا هو علم (المعرفة الفقهية)؟

الشيخ مجتهد شَبَسْـتَري: البُعد المعرفي في الفقه لا يمثِّل فلسفة الفقه كلِّها، وإنَّما يمثِّل جزءاً مهمَّاً منها.

والآن نعود بعد هذه المقدِّمات إلى الموضوع المُثار، فإحدى المسائل الأساسية في فلسفة علم الفقه تتمثَّل بما يتضمَّنه السؤال الآتي: هل هناك دخل وتأثير لِمَا يحمله الفقيه من نظريات فلسفية، ولِمَا يؤمن به من نظريات كلامية، ولِمَا له من رؤية كونية، في كيفية فهمه للكتاب والسُّـنَّة أو لا؟ هذا سؤال مهم.

من أجل إضاءة جوانب عن هذا السؤال - وأنا أعتقد بوجود التأثير - ينبغي أن ننتبَّه إلى مسألة أساسية تتمثَّل في أنَّ على الفقيه أن يحدِّد موقفه في هذا المجال، ويكشف عنه بوضوح؛ وذلك بأنْ يحدِّد دائرة الاستنباط الفقهي ويشخِّص مجالها، بحيث يُعلم في أيِّ المسائل تجب العودة إلى الكتاب والسُّـنَّة؟ وفي أيِّ المسائل لا تجب العودة أصلاً إلى الكتاب والسُّـنَّة؟ هذه مسألة أساسية ينبغي أن يكون للفقيه موقف واضح منها.

أمَّا سبب التأكيد على هذه النقطة المتمثِّلة بـ:وجوب تحديد الفقيه - أوَّلاً - لحدود عودته إلى الكتاب والسُّـنَّة ، فإنَّما يُفسَّر على أساس أصل ثابت في علم التفسير يقول: إنَّ فهم أيَّ نصٍّ - من دون أن يقتصر ذلك على الكتاب والسُّـنَّة وحدهما - سواء أكان نصَّاً فلسفياً أم تاريخياً أم قانونياً، لا يكون ممكناً إلاّ إذا حدَّد قارئ النص ما يترقَّبه ويريده من عودته إلى النص؟ وما هي الأفكار التي ينطوي عليها النص بشكل عام؟ فمن دون حسم هذه المسألة لا يتيسَّر الوصول إلى أيِّ ضرب من ضروب فهم النص؛ لذلك على الفقيه أن يحدِّد - بادئ ذي بدء - لماذا يعود إلى الكتاب والسُّـنَّة؟ وما هي طبيعة الأفكار والمواقف التي يتكفَّلها الكتاب والسُّـنَّة؟

١٧

وبعبارة أخرى، يمكن أن تطرح المسألة على نحو آخر يتمثَّل بالموقف من الوحي نفسه: فما هو الوحي؟ كيف ينظر قارئ النص إلى الوحي؟ وكيف يحدد دائرته ومفاده؟ وما هو الدَّور الذي يؤمن به للوحي في حياة الإنسان؟. وفي المقابل: ما هي الحاجات التي يؤمِّنها الوحي نفسه بعودتنا إليه؟ وما الذي ننتظره منه؟ وعلى الفقيه أن يكون بصيراً بطبيعة الرغبة التي تجذبه إلى الكتاب والسُّـنَّة، وأن يكون مدركاً لعمقها وكيفيَّـتها على نحو صحيح.

نعم، يمكن للفقيه أن يُدرك، بعد رجوعه للكتاب والسُّـنَّة، أنَّهما يجيبانه عن أسئلة لم تكن قد وردت على ذهنه، أو أنَّهما يقومان بتصحيح أسئلته، ذلك كلُّه محتمل؛ لذلك ينبغي أن يكون ذهن الفقيه حال عودته إلى الكتاب والسُّـنَّة منفتحاً بشكل كامل، بمعنى أن يكون مستعدَّاً لِمَا قد يفضي إليه الرجوع إلى الكتاب والسُّـنَّة من تغيير يطرأ على إدراكه ووعيه وذهنه.

فعملية تفسير الكتاب والسُّـنَّة، سواء كانت فقهية أم غير فقهية، هي عملية أخذ وعطاء تتركَّز على قراءة النص، وتحصل دائماً بين قارئ النص وبين معطياته. هي حركة تبادل دورية، حركة تنطلق من مفسِّر النص وقارئه إلى النص، ومن النص إلى المفسِّر، بحيث يتكاملان فيما بينهما عبر هذه الحركة التبادلية (التفاعلية) التي يُعبَّر عنها فيعلم التفسير أو (الهرمنيوتيك) بـ: (الدور) .

فلا يمكن أن يعود النص بمعطى لصالح الإنسان من دون أن يوظِّف مفسِّر النص ما عنده؛ أي لن يكون بمقدور الإنسان أن يحصل على شيء من النص. فللإنسان معطيات عليه أن يوظِّفها ليحصل من النص على شيء، وعندما يخرج من النص بحصيلة يقوم بتصحيح معطياته الذاتية الخاصة على ضوئها، ثُمَّ يعود للنص مرَّة أخرى فيستفيد منه مجدَّداً بما يعزِّز معارفه.

١٨

إنَّ علميَّة تفسير النصوص تنطوي على(الدور)، وذلك خلافاً لِمَا نتصوَّره؛ إذ نظنُّ أنَّنا نعود إلى النص فنفهم منه، ولكن الواقع ليس بهذه الدرجة من البساطة، بل ما يتوقَّعه الفقيه من النص، وما يترقَّبه منه هو الذي يحدِّد طبيعة الأسئلة التي يطرحها على الكتاب والسُّـنَّة، وينتظر الإجابة عنها.

فلو افترضنا أنَّ الفقيه يتوقَّع أن يحصل على حكم شرعي، فحينئذ نسأل: هل يتعلَّق الحكم الشرعي الذي يريد أن يحصل عليه بجميع أفعال المكلَّفين أو ببعضها؟ ثُمَّ لماذا يتعلَّق بهذا القسم بالذات؟ وما هو دليل انتخابه من دون غيره؟ بمعنى أنَّ على الفقيه أن يكون له موقف من قضية حقيقة الكتاب والسُّـنَّة، فما هي حقيقتهما، وما هو دورهما في حياة الإنسان، حتّى يبتغي أن يحصل منهما على مثل هذه الأحكام التي يريدها؟ إنَّ القول: إنَّ مجال الكتاب والسُّـنَّة يتألَّف من دائرة معرفة حكم أفعال المكلَّفين، هو أمر ينطوي على الضيق والسعة، ولا يمكن المرور به مرور الكرام.

سنضع معنيين لهذه المقولة، أحدهما إلى جانب الآخر، ثُمَّ نقارن بينهما:

في الحالة الأولى ، يكون المعنى الذي يبغيه الفقيه من الحصول على حكم أفعال المكلَّفين، أن يقول: عندما أنهض من النَّوم صباحاً، لا أفعل أيَّ شيء إلاّ بعد أنْ أعود أوَّلاً إلى الكتاب والسُّـنَّة؛ لأرى طبيعة التكليف الذي يحدِّدانه لي. ومعنى ذلك أنِّي أتوقَّع أن يُعيِّن الكتاب والسُّـنَّة تكليفي - على نحو أوَّلي - إزاء جميع أفعالي وأنشطتي، بصورة حكم شرعي فقهي من نوع الأحكام الخمسة (الحرمة، الوجوب، الإباحة، الكراهة، الاستحباب)، فأنا إذاً أنتظر من الكتاب والسُّـنَّة حكماً شرعيّاً فقهيّاً أوَّلياً إزاء جميع أفعالي. أنتظر منهما أن يحدِّدا ما أفعله وما لا أفعله؛ والسَّبب في هذه النظرة: إيماني بأنَّ حقيقة الوحي ودوره أن يحدِّدا تكليفي إزاء جميع ما يصدر منِّي من حركات وسكنات.

١٩

إذا كان هذا هو ما ينشده الفقيه من الكتاب والسُّـنَّة، فإنَّ حياة هذا الفقيه ومَن يعمل بنظره (بفتاواه الفقهية)، وكذلك حياة المجتمع الذي يفتي له الفقيه، ستكتسب شكلاً خاصاً. فأفراد مجتمع كهذا عليهم أن لا يحرِّكوا ساكناً، إلاّ إذا جاء فيه موقف من الكتاب والسُّـنَّة بصورة خاصة أو عامة. وإذا اعتقد الفقيه بمثل هذه الرؤية، لا يستطيع أن يُخرج من دائرة الفقه ومجاله قسماً أعظم من فعاليات الإنسان التي ترتبط بالمسار الطبيعي للحياة الإنسانية والتمدُّن البشري، والتي أوكلت بمقتضى كلِّيات الكتاب والسُّـنَّة إلى الإنسان نفسه، وأنيطت بالعلوم والتجربة البشرية؛ ذلك لأنَّ إناطة هذا القسم من النشاط البشري بالبشر يتعارض مع العقيدة - التي ينطوي عليها إيمان الفقيه المفترض - التي تذهب إلى أنَّ وظيفة الوحي هي أن يحدِّد للإنسان جميع سكناته وحركاته ومختلف ضروب نشاطه. إنَّ فقيهاً كهذا عليه أن يضع العلم والتجربة البشرية جانباً، ويتخلَّى عنهما تماماً، حتّى يستطيع أن يتمثَّل إيمانه في حقيقة الوحي (الكتاب والسُّـنَّة) ويبقى وفيَّاً له.

أمَّا النَّوع الثاني من الانتظار والترقُّب لبيان أحكام المكلَّفين من الكتاب والسُّـنَّة، فيأتي في جانب آخر؛ إذ هناك نوع من التفكيك في ذهن الفقيه، بمعنى أنَّه يَعرف - كإنسان حرٍّ ذي فكر - أنَّ هناك مسائل ترتبط تلقائياً بعقل الإنسان وتدخل في نطاق هذه الدائرة، وهناك حيِّز من الحياة ينهض به العقل، وقد أُوكل أمره إلى الإنسان نفسه؛ بحيث لا يكون للوحي دور في هذه المساحة سوى تعيين الأصول الكلِّية، والقيم التي توجِّه الأنشطة البشرية، ومن ثَمَّ فإنَّ دور الوحي - في قناعة فقيه كهذا - لا يمتد ليشمل تعيين وظيفة الإنسان في جميع أنشطته وفعَّالياته.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

نهاية كما يعقل من صفة المخلوقين ، ولكن قديم أول ، وآخر لم يزل ، ولا يزال بلا بدء ، ولا نهاية لا يقع عليه الحدوث ، ولا يحول من حال الى حال خالق كل شيء»(١) .

ومن الغريب أن يكون النداء بهذه الفقرات بحرف (يا) مع أنها موضوعة في المصطلح النحوي لنداء البعيد فكيف يلتئم هذا مع إخباره سبحانه عن قربه من العبد بقوله :

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (٢) .

والجواب عن ذلك : بأن الداعي وجد نفسه بعيداً عن ربه نظراً لجرائمه العديدة لذلك استعمل في النداء ما يدل على البعد من حروف النداء إعترافاً منه بتقصيره

٢ ـ اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ. اَللّـهُمَّ اغْفِـرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ. اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّـرُ النِّعَمَ. اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاء. اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ الْبَلاءَ. اَللّهُمَّ اغْفِرْ لي كُلَّ ذَنْب اَذْنَبْتُهُ ، وَكُلَّ خَطيئَة اَخْطَأتُها. اَللّهُمَّ اِنّي اَتَقَرَّبُ اِلَيْكَ بِذِكْرِكَ ، وَاَسْتَشْفِعُ بِكَ اِلى نَفْسِكَ ، وَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ اَنْ تُدْنِيَني مِنْ قُرْبِكَ وَاَنْ تُوزِعَني شُكْرَكَ ، وَاَنْ تُلْهِمَني ذِكْرَكَ.

__________________

(١) أصول الكافي : كتاب التوحيد / باب معاني الأسماء واشتقاقاتها / حديث (٦).

(٢) سورة ق : آية (١٦).

١٢١

في هذا الفصل من الدعاء نلمح من بين فقراته المواضيع التالية :

١ ـ يوجه الدعاء الداعي بعد القسم على الله بصفاته ، وأسمائه أن ينسق طلبه ، ويحدده على نحو الأهم ، فالأهم ، ولذلك وقبل كل شيء يرى ضرورة تقدمه بطلب غفران الذنوب ، والتجاوز عن معاصيه.

٢ ـ أن الذنوب كما لها مخلفات أخروية من إستحقاق كذلك لها آثار وضعية تتحقق في هذه الدنيا من تعجيل بلاء ، أو تغير نعمة ، أو حبس دعاء ، وهكذا.

٣ ـ التدرج الدعائي في الطلب من الأقل الى الأكثر ، فبينما نرى الداعي يبدأ بطلب المغفرة للذنوب التي تغير النعم مثلاً ، أو غيرها من الذنوب التي تسبب بعض الأمور الخارجية نرى الداعي يترقى ليطلب من ربه أن يغفر له كل ذنب أذنبه ، وكل خطيئة صدرت منه.

وهذا ما نستوضحه عند شرحنا لفقرات الدعاء بالخصوص ، وأن هذا الأسلوب له أثره الخاص في جلب رضا الخالق ، والوصول من وراء ذلك الى الغاية المنشودة له من العفو عما صدر منه مطلقاً.

٤ ـ موضوع الشفاعة : حيث يتقدم الداعي بجعل وبسيط بينه ، وبين خالقه ليتشفع له في تحصيل ما يريده منه ، وتحقيق ما يطلبه منه.

ومن الإِجمال في عرض هذه المطالب المذكورة الى التفصيل :

١٢٢

«اللهم إغفر لي الذنوب التي تهتك العصم»

غفر الشيء : ستره ، والذنوب : جمع ذنب وهو الجرم ، والإِثم.

والعصم : من العصمة ، وهي المنعة. وإعتصمت بالله اذا إمتنعت بلطفه عن المعصية وعصمة الله عبده إذا منعه مما يوبقه(١) .

وفي الحديث : «ما إعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي إلا قطعت أسباب السماوات من بين يديه وأسخت الأرض من تحته»(٢) .

وقد يدرج الداعي من أول الدعاء يتوسل الى ربه ، ويقسم عليه برحمته ، وبقوته ، وهكذا بصفاته ، وأسمائه ، ولكن من هذه الفقرة من دعائه بدء ببيان المقسم ، وهو الشيء الذي كان التوسل ، والقسم لأجله. لذلك يبدو لنا واضحاً التناسق والإِرتباط بين فقرات الدعاء السابقة ، وما بدأ به من الفقرات الآتية «اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم».

وقد تضمنت هذه الجملة التماس العبد من ربه غفران الذنوب التي تهتك العصم أي الذنوب التي تكون سبباً في زوال مناعة العبد من الوقوع في الموبقات ، والرذائل.

إن التعبير الدعائي بالذنوب اليت تهتك العصم يعطينا فكرة واضحة عن لطف الله في منح الإِنسان المناعتين المعنوية ، والجسمية

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة (عصم).

(٢) مجمع البحرين مادة (عصم).

١٢٣

فالبدن الصحيح له المناعة الكافية عن تلقي الأمراض التي تخز به وتكون سبباً في علته ، أو هلاكه ، ومتى حافظ الإِنسان على الارشادات الصحية كانت مناعته البدنية كافية لصد الأمراض. أما لو خالف ، وأهمل صحته ، فان ذلك معناه عدم مقاومة الجسم لصد أي مرض ، وهجومها عليه ونتيجة ضعف المناعة ، وانعدامها.

وهذا الإِنسان نفسه كما أودعه الله في أصل تكوينه المناعة الجسمية كذلك أودعه المناعة من الوقوع في الموبقات ، والرذائل ، والتي تكون سبباً في هلاكه أخروياً من لطف الله ، وجنته ومن ثم دخوله النار.

هذه المناعة أودعها الله عباده بمنحهم جوهرة العقل ، وهداهم النجدين(١) حيث أبان لهم طريق الخير كما أوضح لهم طريق الشر فإن أعمل الإِنسان عقله ، وامتثل أوامر ربه ، واجتنب نواهيه كان ذلك الإِنسان معصوماً ، وممنوعاً من الوقوع في كل ما يوصله الى العقاب الأخروي.

أما لو خالف ما يمليه العقل عليه من التزام طريق الهداية ، وركب هواه ، وارتكب الذنوب فإن هذا الإِنسان تنعدم عنده المناعة من الوقوع في الرذائل وطبيعي أن تكون نتيجة هذا الإِنسان اليأس ، وانه :( خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ) (٢) .

أما الذنوب التي تهتك ال عصم ، وتكون سبباً في زوال المناعة المعنوية ، فهي كما عن الإِمام الصادق «عليه السلام» :

__________________

(١) كما جاء في الآية الكريمة( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) البلد آية (١٠).

(٢) سورة الحج : آية (١١).

١٢٤

«شرب الخمر واللعب ، والقمار ، وفعل ما يضحك الناس من المزاح ، واللهو ، وذكر عيوب الناس ، ومجالسة أهل الريب»(١) .

ولا بد لنا من التنبيه ونحن أمام هذه الفقرات التي بدأ الداعي فيها طلب غفران الذنوب التي تهتك العصم ، أو تنزل النقم ، أو تغير النعم وغيرها مما سيأتي ذكرها ، فإن الأخبار الكريمة ذكرت تلك الذنوب وعددتها ولكنها ليست أسباباً حقيقية في إيجاد مسبباتها من هتك العصم ، أو إنزال النقم ، بل في الحقيقة إنها مقتضيات لحصول تلك الأمور ـ وعلى سبيل المثال ـ فإن اللعب بالقمار يكون مقتضٍ لزوال مناعة الإِنسان من وقوعه في المحرمات ، والموبقات ، ولكن ـ في نفس الوقت ـ قد لا تترتب على هذا المقتضي النتائج التي ذكرت لها اذا حصل المانع من التأثير ، والمغفرة تأتي في مقدمة ما يمنع من تأثير هذه المقتضيات ، وهكذا الصدقة ، وما شاكل مما يقف في طريق تأثير المقتضي ، وترتيب آثاره.

«اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم»

والنقم : جمع نقمة ، وهي العقوبة. وكما التمس الداعي في الفقرة السابقة أن يغفر الله له الذنوب التي تهتك العصم كذلك تضرع اليه أن يغفر له الذنوب التي تنزل العقوبة بحسب طبعها الأولي الاقتضائي.

أما تلك الذنوب فهي : كما جاء عن الإِمام الصادق «عليه السلام».

__________________ ـ

(١) مجمع البحرين : مادة (عصم).

١٢٥

«نقض العهد ، وظهور الفاحشة ، وشيوع الكذب ، والحكم بغير ما أنزل الله ، ومنع الزكاة ، وتطفيف الكيل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس بخمس قالوا : يا رسول الله ما خمس بخمس؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : ما نقض قوم العهد إلا وسلط الله عليهم عدوهم ، وما ظهرت عنهم الفاحشة إلا وقد فشا فيهم الموت ، وما شاع فيهم الكذب ، والحكم بغير ما انزل الله إلا وقد فشا فيهم الفقر ، وما منعوا الزكاة الا حبس عنهم القطر ، وما طففوا الكيل الا منعوا النبات ، واخذوا بالسنين»(١) .

وقد يقال : لماذا كانت هذه الذنوب بالخصوص تنزل العقوبة والذنوب كلها من هذه الجهة على حد سواء من ناحية الجرأة على المولى وانتهاك حرمته المقدسة بمخالفته أوامره وعدم إجتناب نواهيه؟

والجواب عن ذلك : بأن هذه الذنوب التي مر ذكرها لو تأملناها رأينا مفاسدها تضر بالمجتمع ، وتنخر بكيانه ، أو لا أقل أن يقال : أنها من حيث المجموع تتفشى تضعضع كيان المجتمع المتطامن ، وتجر أبناءه الى الويلات ، والهبوط في مهاوي الرذيلة.

ان بعض هذه الذنوب يكفي لإِفساد مجتمع بكامله فكيف بمجموعها؟

واي مجتمع يرجى منه الخير ، وأبناؤه ينقضون العهد ليسببوا بذلك عدم التزام بأمورهم التجارية ، والإِجتماعية فتشيع الفوضى بينهم ، ولذلك يسلط الله عليهم عدوهم كما أخبر عن ذلك النبي

__________________

(١) شرح دعاء كميل للسبزواري ٦٣ طبع إيران حجر.

١٢٦

صلى الله عليه وآله وسلم فيما تقدم من الحديث. وهكذا لو ظهرت الفاحشة فيما بينهم. ومن الفاحشة الزنى. ولا نحتاج الى بيان ما للزنى من العواقب الوخيمة فلقد كتب في ذلك الكثير ، وبينوا المضار المترتبة على هذه العملية ، وغيرها من الجرائم المذكورة في الحديث. فليس من المستبعد أن يكون حصول هذه الخصال الرديئة ، وإنتشارها موجباً لنزول البلاء ، وتعجيل العقوبة من باب الوقوف أمام تيار هذه الرذائل ، ومدى ما تخلفه من آثار تستوجب مثل هذا القمع الفوري لما في التأخير من عواقب وخيمة إجتماعية.

وقد أخبر القرآن الكريم عن مثل هذا الاجراء الفوري في بعض القضايا المماثلة بقوله تعالى :

( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (١)

ولسنا في صدد بيان ما جريات وقائع الآية الكريمة من بيان ما بدله أولئك الذين ظلموا (وهم بنو اسرائيل) من مخالفة ما قيل لهم.

بل غرضنا من الإِستشهاد هو أن أولئك القوم حيث لم يلتزموا بما أمروا به ، وبدلوا ما أريد منهم ، لذلك كان جزاؤهم الفوري هو نزول العذاب عليهم كإجراء معاكس إستدعته المشيئة الإِلهية طبقاً للصالح العام ، والمصلحة الإِجتماعية.

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٥٩).

١٢٧

«اللهم إغفر لي الذنوب التي تغير النعم»

النعم : جمع نعمة ، وهي ما تفضل الله على عبده من الرزق ، والعافية والسلامة ، وما الى ذلك من ألطافه التي منحها للمخلوقين.

ويقول اللغويون : أن نعمة الله ما أعطاه الله العبد مما لا يتمنى غيره أن يعطيه إياه»(١) .

أما الذنوب التي تغير النعم فهي كما جاء عن الإِمام الصادق «عليه السلام» :

«ترك شكر النعم ، الإِفتراء على الله ، والرسول ، قطع صلة الرحم ، تأخير الصلاة عن أوقاتها ، الدياثة ، وترك إغاثة الملهوفين المستغيثين ، وترك إعانة المظلومين»(٢) .

ولماذا لا تغير هذه الذنوب النعم التي من الله بها على عباده فشكر المنعم واجب عقلاً ، ولأن عدم شكره متوعد عليه بنص الآية الكريمة في قوله تعالى :( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (٣) .

«والكفر بنعمة الله يكون بعدم شكرها أو بإنكار أن الله وهبها ونسبتها الى العلم ، والخبرة ، والكد الشخصي ، والسعي. كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم الله ، والعذاب الشديد قد يتضمن محق النعمة عيناً بذهابها ، أو سحق آثارها في الشعور فكم من نعمة تكون بذاتها نقمة يشقى بها صاحبها ، وقد يكون عذاباً مؤجلاً الى اجله في

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة (نعم).

(٢) شرح دعاء كميل للسبزواري (٦٤).

(٣) سورة إبراهيم : آية (٧).

١٢٨

الدنيا ، أو في الآخرة كما يشاء الله ، ولكنه واقع لأن الكفر بنعمة الله لا يمضي بلا جزاء»(١) .

«وقطع صلة الرحم قال فيها الإِماام أبو جعفر الباقر «عليه السلام» وان اليمين الكاذبة ، وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها»(٢) .

والبلقع في اللغة : هي الأرض القفر.

وليتصور الإِنسان بيته ، وهو يرفل بالنعم التي انعم الله بها عليه من كل جوانبه ، وإذا به بعد قطع رحمه قفر من كل شيء كما يقول الإِمام «عليه السلام» لذلك نرى الإِمام «عليه السلام» في هذه الجملة يلتمس من ربه أن يغفر له الذنوب التي تمحق النعم لتبقى نعمه تعالى عليه متواصلة ، ولئلا يكون محروماً من فيض لطفه الكريم.

«اللهم إغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء»

ولماذا ، وكيف تحبس هذه الذنوب الدعاء ، وتمنعه من التأثير في الإِجابة مع صدوره من قلب ، ولربما في زمانٍ له حرمته ، أو في مكان له قدسيته ، وبعد كل هذا وذاك فإنه سبحانه قريب ، وقريب ، وفوق كل ذلك يجيب دعوة من دعاه؟

وللإِجابة على هذه التساؤلات نقول :

ان معنى الدعاء هو : المناجاة مع الله ، وهو تعبير عن حالة العبد

__________________

(١) في ظلال القرآن في تفسيره لآية (٧) من سورة إبراهيم.

(٢) جامع السعادات : ٢ / ٢٥٨ / مطبعة النجف.

١٢٩

النفسية ، وما هو عليه من الالتجاء ، والتضرع الى خالقه ليتجاوز عن آثامه وخطاياه ، أو هو في حالة التماس يطلب من ربه ما يريد من توفير نعمة ، أو دفع بلاء ، أو ما شاكل من تمنيات مشروعة. وهو في كل هذه الحالات يتجه الى ربٍ مطلعٍ على خفايا الأمور ، ويعلم ما تنطوي عليه السرائر ـ فإذا فرضنا والحالة هذه ـ أن العبد الداعي يقف بين يدي ربه ، وهو يتسم بخبث السريرة ، وسوء النية ، فأي صفاء يجده في قلبه وهو يدعو بلسانه؟ اليس ذلك مجرد لقلقة لسان ، وصدور الفاظ لا تنبعث عن قلب ملهوف؟

إن الإِمام أبو جعفر الباقر «عليه السلام» يحدثنا ليلفت أنظارنا الى مثل هذه القلوب العفنة فيقول :

«ما من عبد مؤمن الا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنباً خرج في تلك النكتة سوداء ، فإذا تاب ذهب ذلك السواد واذا تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض ، ولم يرجع صاحبه الى خير أبداً ، وهو قول الله تعالى :( بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

والرين : هو الحجاب الكثيف ، والمراد به هنا : حجاب الذنوب ، والآثام وهذه النكت السوداء في القلب ـ كما يقول عنها الحديث ـ ما هي إلا خلفيات هذه الذنوب ، وما تستوجبه من قساوة القلب ، واذا بها حجب متراكمة تظلم القلب ، وتمنع من وصول النور الإِلهي اليه.

__________________

(١) مجمع البحرين : مادة (رون) وفيه ذكر الحديث ، وقد تعرضت له مصادر الحديث من الصحاح الستة باختلاف لفظي بسيط.

١٣٠

«وخير الدعاء ما صدر عن قلب نقي ، وقلبٍ تقي»(١) .

كما جاء في حديث آخر.

ومع سوء النية ، وخبث السريرة كيف يحافظ الداعي على صدر نقي من كل شائبة ، وقلب تقي سليم من الحواجب المظلمة؟

لذلك نرى أمثال هؤلاء الدعاة هم المعنيون بقول الإِماام أمير المؤمنين «عليه السلام» «ثم تدعون فلا يستجاب»(٢) .

وقبل أن ننتقل من هذه الفقرة لا بد لنا من الإِجابة على ما يرد عليها من الإِشكال التالي :

ان الداعي بهذه الفقرة يطلب من ربه أن يغفر له الذنوب التي تحبس الدعاء ، ومع وجود تلك الذنوب ، وفرض محبوسية الدعاء عن الإِجابة ، فإن الدعاء في هذه الصورة أيضاً يكون محبوساً فلا يؤثر أثره فلماذا اذاً يدعو بها ، ويردد «اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء».

والجواب عن ذلك : أنا سبق وأن بينا بأن هذه الذنوب ليست أسباباً حقيقية لايجاد مسبباتها ، بل هي من باب المقتضي لترتب الأثر عليها فلم يثبت أن وجود سوء النية ، والذي ذكر أنه يحبس الدعاء هو الذي اذا وجد عند الإِنسان حبس دعاءه وأعرض الله عن سماع كل دعوة له ـ بل كما قلنا ـ أن ذلك مقتضي لهذا الأثر ، واذا ثبت ذلك

__________________

(١) أصول الكافي : باب (ان الدعاء سلاح المؤمن) حديث ـ

(٢) نهج البلاغة من وصية له «عليه السلام» للحسن والحسين «عليهما السلام» لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).

١٣١

فاحتمال ان دعوة الداعي بهذه الفقرة ليست محبوسة قوي لإِحتمال وجود ما يمنع من تأثير ذلك المقتضي لو كان قد صدر منه ذنب من تلك الذنوب كسوء النية ، وخبث السريرة ، والنفاق مع الإِخوان ، وغير ذلك مما جاء في الخبر المتقدم.

«اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء»

والبلاء : هو الغم. أما الذنوب التي تكون سبباً في نزول البلاء وتورث الغم ، والتي يتوسل الداعي ان يغفرها الله له ، فهي كما جاء عن الإِمام زين العابدين «عليه السلام».

«ترك إغاثة الملهوفين ، وترك معاونة المظلوم ، وتضييع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر»(١) .

وفي بعض الأخبار انها سبع : «الشرك باالله ، وقتل النفس التي حرم الله تعالى ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، والزنا ، والفرار من الزحف ، والسرقة» (٢).

ولا ينافي أن تكون بعض الذنوب تشترك في التأثير فهي ـ مثلاً ـ كما تكون سبباً في نزول النقم ، كذلك تكون سبباً في نزول البلاء. وذلك يعود الى عظم الجرائم حيث تكون مؤثرة بتأثيرين ، أو اكثر تبعاً لما تخلفه من آثار اجتماعية سيئة.

__________________

(١) أسرار العارفين : ٤٢.

(٢) السبزواري في شرح دعاء كميل : ٦٩.

١٣٢

«اللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء» (١)

والرجاء : هو الأمل. ورجاه يرجوه رجواً أمل به(٢) .

والذنوب التي تقطع الرجاء هي التي عددها الإِمام «عليه السلام» بقوله : «اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والثقة بغير الله والتكذيب بوعيد الله».

ان هذه الذنوب بطبيعتها تجل العبد بعيداً عن ربه ، وتقطع ذلك الاتصال النفسي بين العبد ، وخالقه ، وعندها يكون مثل هذا الشخص مصداقاً للآية الكريمة :( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) (٣) .

والضلال : ضد الهدى ؛ والمعنى الذي يقصده الداعي بطلب غفران مثل هذه الذنوب هو أن يجنبه الله عنها لئلا يكون ضالاً ، وبعيداً عن ساحة لطفه بإنقطاع رجائه من عفوه ، وكرمه ، فإن القلب المفعم بالإِيمان لا ييأس ، ولا يقنط من رحمته سبحانه معما عظم ذنبه وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

__________________

(١) هذه الفقرة من الدعاء لم توجد في كثير من كتب الدعاء وقد تعرض لها بعض الشراح فأثبتوها في الدعاء ولعلهم اخذوا ذلك من كتاب (المصباح) لتقي الدين ابراهيم بن علي العاملي الكفعمي ، وهو من مصادر كتب الدعاء عند الإِمامية ، وقد تعرضنا لها تبعاً لمن تقدم ليؤتى بها على سبيل الرجاء.

(٢) أقرب الموارد : مادة (رجو).

(٣) سورة الحجر : آية (٥٦).

١٣٣

«والذي لا إله الا هو ما أعطي مؤمن قط خير الدنيا ، والآخرة إلا بحسن ظنه بالله ، ورجائه له ، وحسن خلقه ، والكف عن إغتياب المؤمنين ، والذي لا إله الا هو لا يعذب الله مؤمناً بعد التوبة ، والاستغفار إلا بسوء ظنه بالله ، وتقصيره من رجائه ، وسوء خلقه ، واغتيابه للمؤمنين. والذي لا إله الا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن لأن الله كريم بيده الخيرات يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن الظن به ، ثم يخلف ظنه ، ورجاؤه فاحسنوا بالله الظن ، وارغبوا اليه»(١) .

ومن هذا الحديث يتضح لنا ما للرجاء بالله من الأهمية في حياة العبد ، وبعد انتقاله الى الآخرة ، وعدم القنوط ، واليأس من رحمته الواسعة.

فلا غرو اذا رأينا الإِمام عليه السلام يعلمنا كيف يجب ان يلتمس الداعي من ربه ان يغفر له تلك الذنوب التي تكون السبب في انقطاع العلقة بين المولى وعبده؟ «إن الله يغفر الذنوب جميعاً».

«اللهم اغفر لي كل ذنب أذنبته»

وهكذا يذهب الداعي برجائه الى أقصى حد ويلتفت الى أنه يمثل بين يدي ربٍ كريمٍ جاء في كرمه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوماً : يا كريم العفو فقال له جبرئيل : أتدري ما تفسير يا كريم العفو؟ هو أنه يعفو عن السيئات برحمته ثم يبدلها حسنات

__________________

(١) أصول الكافي : باب حسن الظن بالله / حديث / ٢.

١٣٤

بكرمه»(١) .

فلماذا إضاً يقتصر الداعي في دعائه على طلب المغفرة لبعض الذنوب كالتي تهتك العصم ، أو كالتي تنزل النقم ، أو التي تحبس الدعاء؟ فهل هو بدعائه ، وطلبه يتوجه الى بشر مثله محدود العواطف ليضيق ذرعاً بما يريد منه؟

لا : ولك أن تكرر النفي الى ما لا نهاية ، فإن الداعي يتوجه بطلبه الى ربٍ عطوف يريد منه أن يتفضل عليه ، فيغفر عليه ، فيغفر له كل ذنب أذنبه ، وكل إثم صدر منه ، وهو ـ في الوقت نفسه ـ لم يذهب بعيداً بهذه الأمنيات ، فعوامل الرجاء تدفعه الى الاستزادة من هذا الفيض ما دامت الآيات الكريمة تبشر المذنبين قائلة :( إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) (٢) .

( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (٣) .

وتترقى آية أخرى فتتحدى جميع البشر فتقول :

( وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ ) (٤) .

واذا كان هو مصدر الغفران فقط وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «والذي نفسي بيده الله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها»(٥) .

__________________

(١) جامع السعادات : ١ / ٢٥١ الطبعة الثالثة / مطبعة النجف وهكذا جاء في إحياء العلوم للغزالي : ٤ / ١٢٩ باختلاف بسيط.

(٢) سورة الزمر : آية (٥٣).

(٣) سورة النساء : آية (٤٨).

(٤) سورة آل عمران : آية (١٣٥).

(٥) جامع السعادات : ١ (٢٥١).

١٣٥

إذاً فليذهب بالعبد رجاؤه الى مدارج السمو وليلتمس من ربه ان يغفر له كل ذنب أذنبه ففي رحاب الله يجد ذلك المسكين أمانيه تتحقق فقد ورد في الحديث :

«ان العبد اذا أذنب فاستغفر يقول الله لملائكته أنظروا الى عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنوب ، ويأخذ بالذنب إشهدوا اني قد غفرت له»(١) .

«وكل خطيئة أخطأتها»

والخطيئة : هي الذنب المتعمد ، وقيل إنها الذنب أعم من الإِثم لأن الإِثم لا يكون إلا من عمدٍ ، وهي قد تكون لا عن عمد(٢) .

والتناسق الدعائي يقضي أن يكون المراد بها في هذه الجملة هو : المعنى الثاني لأن الروعة الدعائية تظهر على هذا التفسير فإن الداعي بعد أن تدرج في الالتماس يطلب أن يغفر له الذنب الفلاني ، والذنب الموصوف بكذا. بعد كل هذا أضرب ، وجاء يلتمس أن يغفر له كل ذنب أذنبه ، وطبيعي أن الذنب هو الجرم الذي يصدر عن عمدٍ ، ولكنه حيث وجد من عطف ربه ، وكرمه ما شهد له بانه : يغفر الذنوب جميعاً عدا الشرك به فلماذا لا يذهب الى آخر الشوط ، فيلتمس من ربه أن يتجاوز عن كل ما صدر منه ولو كان ذلك عن غير عمدٍ وهو المسمى (بالخطيئة)؟ فهو يريد أن يفتح صفحة جديدة ليعود كيومٍ ولدته أمه خلواً من كل ذنب جرماً كان ذلك الذنب ، أو

__________________

(١) جامع السعادات : ١ / ٢٥١ الطبعة الثالثة.

(٢) أقرب الموارد ، والقاموس ، وغيرهما : مادة (خطأ).

١٣٦

خطيئة ليرى حلاوة الإِجابة تتمثل له بعد أن ورد في الحديث القدسي «إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ، ولم أخلقهم لأربح عليهم»(١) .

كلا : وحاشا له أن يساوم عليهم ، ويربح من وراء عبادتهم ، بل هو منبع الحنو والرقة ، يعاملهم بالحسنى ، وان كانت الذنوب قد سودت وجوههم.

ان كان لا يرجوك الا محسن

فبمن يلوذ ويستجير ـ المجرم

«اللهم اني اتقرب اليك بذكرك»

والمقصود بالتقرب ، هو القرب المعنوي ، لا المكاني لاستحالة ذلك بالنسبة اليه تعالى لإِستلزام التقرب المكاني الى تحديده بالمكان. وتعالى الله عن ذلك سبحانه.

أما الذكر ، فالمراد منه هو الإِتصال بالله ن طريق استحضار اسمائه ، وصفاته المقدسة في قلب الداعي ، على لسانه.

وبهذه الفقرة من الدعاء يكون الداعي قد ختم دور الإِلحاح والالتماس لطلب المغفرة ليبدأ بدور جديد ، وينزل بروحه الى عالم الحياة ، وهي خفيفة نظيفة ليباشر حياته من جديد وعلى أسس جديدة ، وطريقة جديدة مؤكداً بان ما سبق منه من هذا الطلب ، والإِلتماس لم يكن فقط لمجرد التجاوز عن ذنوبه فلرب داعٍ لم يتقرف في حياته من ذلك شيئاً كالأنبياء والأئمة الاطهار ، والصالحين من البشر ، ومع ذلك فهم يلحون في الدعاء ، ويلتمسون المغفرة ، ويقضون الوقت في المناجاة باكين خاشعين ، بل لبيان أن مع الإِلتماس

__________________

(١) جامع السعادات : ١ (٢٥١).

١٣٧

تقرب ، وفي التقرب تأكيد على الإِتصال الحقيقي به سبحانه وتعالى ، على الصعيدين ، الداخلي والخارجي.

الداخلي : حيث يتمثل بما ينطوي عليه القلب من استحضار الله ، وعدم الغفلة عنه.

أما الخارجي : فبأداء كل ما أمر به تعالى ، والاجتناب عما نهى عنه.

وبذلك نرجع الى الدعاء ليعلمنا بأننا يجب ان نعتمد : في الطريقة الجديدة للحياة التي يرضاها لنا الله أن نكون قريبين منه بذكره المتواصل في كل لحظة ، وفي كل عمل نقوم به من أعمالنا ونراقبه في السراء ، والضراء ، وفي كل صغيرة ، وكبيرة ، وبذلك نضمن قربنا منه ، وبعدنا عن الذنوب.

وقد اعطى القرآن الكريم صورة حية لأولئك المقربين منه بقوله تعالى :( رجال لا تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ) (١) . قلوب حية عطرة منطوية على حب الله ، والقرب منه.

وألنسة رطبة بذكره جلّت قدرته تسبحه ، وتقدسه ، وتذكر نعماءه ، وآلاءه بحيث لا تلهيهم الدنيا بما فيها من تجارة ، وربح وحصول المال ، وما يستتبع ذلك من سعة في الملاذ الدنيوية.

«وأستشفع بك الى نفسك»

والداعي بشر ومهما كان فان من الغرائز البشرية الخوف. أما

١٣٨

الشجاعة واللامبالاة ، فانهما عارضان عليه نتيجة تطبعه ، وإقدامه. واستجابة لنداء الغريزة المذكورة نرى الداعي مهما كررت الآيات الكريمة تنبيء عن غفران الله ، وعفوه ، وأنه يغفر الذنوب جميعاً ، ومع الآيات التي تؤكد على عدم اليأس من روح الله ، ورحمته نقول : مع كل ذلك فهو يستعظم جرمه ، ويستكبر ذنبه ، ويخشى أن لا يستجيب الله لصارخ ندائاته المتعاقبة.

لذلك ، وبدافع من طبيعة الخائف النفسية يبدأ بالبحث عن الشفيع الذي يجعله الواسطة بينه ، وبين ربه. والشفاعة أمر يستسيغه ، ويقويه العرف لتأمين ما يتطلبه الإِنسان من قضاء حوائجه.

ولكن : يا ترى من هو ذلك الشفيع الذي يقبله الله ليتشفع في أمر عبده الخائف؟

ان عظم الذنب يتجسم أمام الداعي ، فيصور له رفض كل شفيع في حقه مهما كانت منزلته ، ومهما كانت رحمة الله واسعة.

وتبدد حيرة الداعي بقية أملٍ تلوح له باللجوء الى مصدر الخوف وهو الله سبحانه ، فهو الخصم ، وهو ـ في الوقت نفسه ـ الحكم ، وهو الأول ، والآخر.

ويأتي التعبير متناسقاً عند ما نرى الداعي يتضرع وهو يقول :

«واستشفع بك الى نفسك»

وكما كان الإِمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام يناجي ربه وهو يقول : «وانا يا سيدي عائذ بفضلك هارب منك اليك»(١) . وحري بالله جلّت عظمته أن لا يرد عن ساحة لطفه عبداً

__________________

(١) من دعاء الامام «عليه السلام» المروي عن أبي حمزة الثمالي.

١٣٩

التجأ اليه تائباً.

إلهي كيف تطرد مسكيناً التجأ اليك من الذنوب هارباً؟

أم كيف تخيب مسترشداً قصد الى جنابك ساعياً؟

ام كيف ترد ضمآناً ورد الى حياضك شارباً؟

كلا وحياضك مترعة في ظنك المحول ، وبابك مفتوح للطلب والوغول ، وأنت غاية المسؤول ، ونهاية المأمول(١) .

«واسئلك بجودك»

الجود : بمعنى السخاء ، وهو بمعنى الكرم ، وقيل : الجواد الذي لا يبخل بعطائه ، وهو من أسماء الله(٢) .

والقسم جاء في هذه الفقرة بصفة محببة للمسؤول وهو الله فإنه يحب الكرم ، ويثيب عليه ، والمورد يستدعي ذلك فإن الداعي يريد من الله ، ويطلب منه. ولا بد ، والحالة هذه من التضرع اليه بما عرف به من الجود ، والسخاء.

«أن تدنيني من قربك»

وترتبط هذه الفقرة من الدعاء بالفقرة السابقة من الدعاء من قوله :

«اللهم اني اتقرب اليك بذكرك»

فالقرب من الله حقيقة تتوقف على جهتين :

__________________

(١) فقرات من دعاء الصباح الذي كان يدعو به الامام علي بن أبي طالب «عليه السلام».

(٢) مجمع البحرين : مادة (جود).

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177