الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 177

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف:

الصفحات: 177
المشاهدات: 21143
تحميل: 6389


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21143 / تحميل: 6389
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا التعدِّي في محلِّه، وقد قام العُرف بتوسيع معنى اللفظ وأوجد لنا ظهوراً لفظياً. ويمكن للعرف أن يُخطئ في فهمه، إلاّ أنَّ هذا الخطأ لا يمنع من التعدِّي؛ لأنَّ الفهم العُرفي صار باعثاً أن يجد اللفظ ظهوراً في مطلق الماء، بمعنى أنَّ للكلام ظهوراً في مطلق الماء، ولا خصوصية للإناء، وهذا المعنى واضح للعُرف تماماً.

يُعدُّ مثل هذا الظهور حُجَّة، وهو خارج عن القياس. فالمعيار هنا ليس الفهم الصحيح للعرف، بل هو الاستظهار العُرفي الذي يُعدُّ حُجَّة.

* على ضوء حُجِّـيَّة الظواهر على أساس بناء العقلاء، هل يكون هذا البناء مُحرِزاً في ما إذا احتمل الخلاف والاشتباه؟

السيد الحائري: أجل، هو مُحرِز. والحقيقة هي أنَّ جميع الظواهر هكذا؛ أي فيها احتمال الخلاف، وإلاّ إذا ارتفع مثل هذا الاحتمال، فستصير نصاً؛ لذلك نحن نقول: إنَّ العُرف إذا ما ألغى شيئاً بفهمه العُرفي - حتّى لو كان منشأ الإلغاء هو بساطة العُرف نفسه - فإنَّ ذلك يصير سبباً لكي يبرز للفظ ظهور في الإطلاق، وهذا حُجَّة بالنسبة لنا.

أمَّا المورد الثالث لكشف المِلاك، فهو أن لا يتمَّ ذلك من خلال النص (مثل المورد الأوَّل)، ولا عن طريق العُرف (مثل المورد الثاني)، إنَّما يتمُّ الكشف عنه من طريق الفهم العقلي للفقيه، حتّى لو احتمل العُرف وجود الفرق؛ لكن حيث إنَّنا أحرزنا القطع واليقين بأنَّ هذا هو مِلاك الحكم، وعلمنا أنَّ هذا المِلاك لم يصطدم بمانع، فعندئذ يمكننا تسرية الحكم إلى هذا المورد أيضاً.

في هذه الحالة يتعيَّن علينا أيضاً أن نلتزم جانب الحذر لكي لا نسقط في هوَّة القياس. ما يذكره الأجلاّء الكبار في شأن هذا المورد، هو أنَّنا لا نعرف مِلاكات الأحكام، وربَّما كانت هناك حكمة أو دقَّة ما كامنة في العمل نحن لا نفهمها.

١٠١

* هل يمكن لمِلاكات الأحكام أن تُطرح على نسقٍ واحد في المسائل التعبُّدية وغير التعبُّدية؟

د. كاتوزْيان: إنَّ القياس عبارة عن توسعة مجال الحكم ومدِّه، بحيث يشمل الموارد الأخرى. وما يفترضفي عملية المدِّ والتوسعة هذه، أنَّ النَّص الموجود هو أحد مصاديق القاعدة التي لحظها الشارع، بَيْدَ أنَّ الأحكام التعبُّدية استثناء من القاعدة، ومن ثُمَّ ينبغي أن تبقى محدودة في مورد النص. على سبيل المثال: إذا كان حكم تلف المبيع قبل القبض ناشئاً عن االتعبُّد، الذي يفيد أنَّ المبيع يرجع في اللحظة التي سبقت التلف إلى ملكية المشتري، وأنَّه تلف في هذا الوقت، فلا ينبغي أن ينْفَذ الحكم في تلف الثمن المعيّن وفي تلف العين المستأجرة قبل القبض، لكن إذا كان الحكم هو نتيجة ارتباط تمليك وتسليم العوضين في قصد المعاوضة، كما هو مقتضى التحقيق، فعندئذٍ يسوغ مدُّ الحكم وتوسعته ليشمل جميع العقود التمليكية والمعوَّضية التي يتلف فيها أحد العوضين قبل التسليم.

د. كُرْجي: يبدو لي أنَّه لا يمكن الحديث عن المِلاك بصيغة واحدة. ففي المسائل غير التعبُّدية، ثَمَّة نسبة عالية من مِلاكات الأحكام يمكن إدراكها من قبل العُرف والعقلاء. أمَّا ما يُدَّعى في الأغلب من وجود أشياء أخرى يعلمها الشارع، ونحن لا نفهمها، وهي مِلاك الحكم، فهذه دعوى من دون شاهد ولا دليل.

ما يبعث على الأسف أنَّ هذا الادّعاء ساقنا إلى تعبُّديَّات لا موضع لها، وأفضى إلى تقعيد العمل، وهو بحسب لغة الشعر ممَّا لا ضروة له؛ حيث بقينا نعاني ممَّا نجم عنه من مشكلات، ووضعنا أنفسنا أحياناً هدفاً لطعن المغرضين ولومهم.

حتّى في الموارد التي لم نعثر فيها على مِلاك الحكم في المسائل غير التعبُّدية، فإنَّ ذلك لا يخلو من عدَّة صور، هي: إنَّنا لم نبذل الدقّة الكافية، أو إنَّنا وضعنا فهمنا جانباً وأعرضنا عنه بسبب الإفراط في التعبُّد.

١٠٢

وإنَّ لي على هذا الادّعاء أمثلة كثيرة في الفقه، لا يسمح المجال لذكرها، لكن من المناسب أن أذكر مثالاً أو مثالين. في يوم من الأيَّام، التقيتُ بعدد من الفضلاء، ودار الحوار في مسائل مختلفة، عندها قام أحد أدعياء العلم بالحديث عن اشتراط الإمام المعصوم في باب الجهاد أو في إجراء الحدود والتعزيرات وما شابه؛ حيث بادر إلى طرح عدد من الروايات. لقد تحدَّث عن التعارض والترجيح والإطلاق والتقييد، وبحث كلَّ شيء في الموضوع ورواياته، إلاّ ما كان ينبغي له قوله من أنَّ المقصود من لزوم وجود الإمامعليه‌السلام في هذا القبيل من الموارد، هو ليس شرط حضور الإمام المعصوم، بل المقصود أنَّ الجهاد ليس مثل الصلاة والصوم بحيث يمكن للإنسان وحده أن يتَّخذ القرار في شأنه، بل ينبغي وجود قائد يأخذ القرار الحاسم، ويصدر الأمر على أساس العقل، والدراية، والتدبير، والمشاورة، وما شابه، أو أن يقول: إنَّ الحدود ليست كبقيَّة المسائل، بحيث يمكن اتخاذ القرار في شأنها من دون وجود الحاكم العادل الجامع للشرائط، حتّى لا يستلزم تطبيقها الهرج والمرج.

السؤال: لماذا لا ينبغي أن يكون هذا المعنى أحد محتملات الموضوع ورواياته؟ كذلك الحال بالنسبة إلى الأمور الستَّة في باب الديَّات، ومسائل كثيرة أخرى. على سبيل المثال: لماذا لا يُحتمل، في باب الديَّات، أنَّ الإبل والبقر والغنم هي تعبير عن مفردة أو وحدة قياسية للقيمة كانت سائدة في ذلك العصر، وليست أمراً تعبُّدياً صرفاً؛ بحيث لا يجزئ في الدية أي شيء آخر غير هذه الموارد الستَّة؟ أكثر من ذلك، ما ينبغي أن يقال اليوم هو العكس تماماً؛ أي يجب القول: إنَّ هذه الأمور الستَّة ليست كافية أبداً في الوقت الحاضر وبخاصَّة في المدن، وبالنتيجة ينبغي أن تتغيَّر بما يناسب الوحدة القياسية للقيمة في هذا الزمان، وبالصيغة التي لا تكون فيها قيمة الدية خمسمائة أو ستمائة ألف تومان مثلاً إزاء الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات.

١٠٣

ليس الهدف أن أقول إنَّ كلامي صحيح، بل ما أريده: لماذا لا يكون هذا الكلام أحد محتملات المسألة؟

ما ننتهي إليه هو أنَّ أشباه هذه المسائل كثيرة جدَّاً، ينبغي التفكير فيها على نحو صحيح. وما ذُكر يرتبط بأجمعه بالأمور غير التعبُّدية. أمَّا في المسائل التعبُّدية، فهي وإن كان المِلاك فيها ملموساً عُرفاً، وعقلائياً أحياناً، كأن يذكر الخضوع والتواضع بالنسبة للصلاة، والصوم مثلاً، إلاّ أنَّه يتعذَّر على العُرف والعقلاء تعيين مِلاكات كثير من المسائل الأخرى، أو أنَّ المصلحة تقتضي أحياناً أن يخفى المِلاك أحياناً، وهذا ممَّا لا يختصُّ بالإسلام وحده أو مطلق الأديان، بل يسري إلى آداب جميع الأمم، وتقاليد الشعوب والأقوام كافَّة، بل هو ممَّا يُلحظ حتّى في المراسم الرسمية للبلدان، حتّى المتقدِّمة منها. من أمثلة ذلك: المراسم المتَّبعة في أداء اليمين، والمواثيق البروتوكولية وقواعد التشريفات المقدَّسة وغير المقدّسة، مثل: مراسم نصب رؤساء الجمهورية وعزلهم، ونصب أعضاء المجالس التشريعية، وغير ذلك من المناصب. أو كما يحصل في ممارسات، مثل: عقد الزواج والطلاق وغيرها. إنَّ نسبة كبيرة من هذه الأمور تُبنى على مصالح تعبُّدية غير ملموسة.

* ما هو مرتكز الفكرة التي تُفيد بأنَّ الأحكام غير العبادية هي تأسيسية أيضاً؟

الشيخ معرفت: يبدو أنَّ هناك خطأ قد وقع في طرح السؤال؛ لأنَّ الأحكام هي تأسيسية بالمطلق. أجل، ما هو غير تأسيسي هو أكثر موضوعات الأحكام ومتعلَّقاتها في غير العباديات. فما كان متداولاً في إطار هذه المسائل، ولا يزال، هو صرف عرف العقلاء، ممَّا صار موضعاً لإمضاء الشرع كما هو، أو في إطار شروط جديدة.

السيد مرعشي: الأحكام، من حيث الجعل، هي إمَّا تأسيسية أبدعها الشارع واخترعها، أو أنَّها إمضائية؛ بمعنى أنَّ الشارع أمضى ما هو موجود. على سبيل المثال، كان بيع المعاطاة متداولاً في العُرف، وقد أمضاه الشارع، من دون أن يتعلَّق به جعل ابتدائي، بَيْدَ أنَّ هذين الضربين من الأحكام كليهما ملزمان. أمَّا كون الأحكام التأسيسية ملزمة، فهو أمر واضح جلي. وأمَّا الأحكام الإمضائية وكونها مُلزِمة أيضاً، فلأنَّ الشارع أمضاها، وقد صارت ثانياً وبالعرض حكم الله.

١٠٤

على سبيل المثال، كانت الدية موجودة في الجاهلية، وقد أمضاها الشارع، وبسبب إمضاء الشارع لها صار العمل بها مُلزِماً، فلا نستطيع أن نقول: ما دامت الدية تنطوي على تأسيس حقوقي في الجاهلية، فإنَّ العمل به غير لازم، وبذلك لا يستطيع الإنسان أن يمتنع عن الدية إذا ما ارتكب قتل الخطأ، أو شبه العمد، بحيث لا يلتزم بدفع دية القتيل إلى أولياء الدم، أو أن يجتهد من عنده، ويقول: ما دام الإنسان لا يقابل بالمال، فإذاً لا تدفع ديته إذا ما ارتُكب القتل بحقّه.

يتبيَّن ممَّا مرَّ أنَّه إذا كان المقصود من السؤال أنَّ الأحكام غير العبادية تأسيسية أيضاً، ومن ثُمَّ فهي مُلزِمة بعد الجعل والإمضاء، تماماً مثل الأحكام العبادية، فهذا أمر صحيح. أمَّا إذا كان المقصود أنّه ليس لدينا أحكام إمضائية، فهذا أمر غير صحيح.

* هل الأحكام غير العبادية - في الإسلام - تأسيسية، أو أنَّ الشارع أمضى بناء العقلاء مع التوسعة والتضييق أحياناً؟

السيد الحائري: أحد معاني التأسيسي والإمضاء هو أن تكون للحكم سابقة وأصل عقلائي، وقد قام الشارع بإمضائه، وذلك في مقابل الأحكام التي لا سابقة ولا أصل عقلائي لها، إنَّما الشارع هو الذي أسَّسها، كما هو الأمر غالباً في العبادات. وهناك في العبادات أحكام إمضائية، أيضاً، لكنَّها أقل، على حين أنَّ الأحكام الإمضائية في المعاملات أكثر.

بمعنى آخر: إنَّ الأحكام جميعها تأسيسية، وذلك بالمعنى الذي نكون فيه جميعاً عبيد الشارع، لا عبيد العقلاء. صحيح أنَّ لبعض الأحكام أصلاً عقلائياً، إلاّ أنَّ الشارع هو الذي جعلها. على سبيل المثال، يُعَدُّ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) إمضائيّاً بالمعنى الأوّل، لكن بالمعنى الثاني، فإنَّ الشارع هو الذي جعله، ومن ثُمَّ يتعيَّن علينا العمل بجعل الشريعة، لا بجعل العقلاء؛ لأنَّ الجعل الثاني لا قيمة له بالنسبة إلينا. وبعبارة أخرى: إنَّ الصحّة أمر إنشائي، والشارع هو الذي أنشأها.

١٠٥

مساحة بناء العقلاء، ما هو المدى الذي يمتدُّ إليه بناء العقلاء؟

د. كُرْجي: أرى أنَّ مجال حكم العُرف وبناء العقلاء وقيمتهما يمتد على رقعة واسعة جدّاً، بعكس المجال التعبُّدي الذي يتحرَّك على مدى ضيِّق ومحدود جدّاً. إنَّ جميع ألفاظ الموضوعات، والمتعلّقات والمحمولات، وأدلّة الأحكام كافّة، سواء أكانت أحكاماً تكليفية أم أحكاماً وضعية أم أحوالاً شخصية أم أحكاماً عامّة، وغير ذلك، تُعَدُّ بأجمعها من الشارع المقدَّس، وكذلك حال المصطلحات وعدد قليل من موضوعات الأحكام التي وضعها الشارع المقدَّس نفسه، أو قام باستعمالها مجازاً في المعاني الشرعية، على حين أنَّ جميع الأحكام الوضعية تقريباً، والأحكام القضائية، والحكوميِّة، وما شابهها، حتى النِّسب والإضافات، هي من جاب العُرف والعقلاء.

لقد أمضى الشارع هذه الأحكام بموجب( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) ونظائر ذلك، وكذلك بموجب أدلّة الأحكام القضائية والحكوميِّة، على أنَّ الأمر لا يقتصر على الأحكام الفقهية وحدها، بل يمتد إلى الأحكام الأصولية أيضاً، فأحكام من قبيل حُجِّـيَّة الأمارات والأصول وغير ذلك، هي بأجمعها أحكام عقلائية أمضاها الشارع الإسلامي المقدَّس.

وعلى هذا الأساس، يكون مدى اعتبار أحكام العُرف والعقلاء واسعاً وممتدّاً جدّاً، وبالعكس ينحصر مدى الأحكام التأسيسية في مساحة ضيِّقة جدّاً.

السيد مرعشي: هذا سؤال مهم، وما يبعث على الأسف أنَّه يتمُّ الاستناد في مواردَ إلى بناء العقلاء، مع أنَّه لا بناء لهم فيها. على سبيل المثال: رأيتُ أحد الكتَّاب في إحدى المجلاّت، يستند في مسألة(مرور الزمان) إلى بناء العقلاء، مع أنَّ هذه مسألة نظرية، قبَلها عدد من الحقوقيين، وأنكرها عدد آخر. على هذا، يُعَدُّ من الضروري أن تخضع مسألة مجال بناء العقلاء في الاستنباطات الفقهية، المشار إليها في السؤال، إلى دراسة أكثر دقة.

١٠٦

معنى بناء العقلاء هو:المنهج / السيرة التي يستخدمونها في الأمور المرتبطة بحياتهم، بحيث يتوافقون على سلوك يتحوَّل إلى سيرة و منهج. على أنَّ مجال السيرة وفاعليتها مختلف، يمكن المرور به كما يأتي:

أ - يذهب المرحوم الشهيد محمد باقر الصدر (١٣٥٣ - ١٣٩٩) (أعلى الله مقامه) إلى أنَّ مدى بناء العقلاء ومساحته إنَّما يرتبطان بتنقيح موضوع الحكم الشرعي، لا بتشريع الحكم.

وهذا يكون على ضربين:

١ - أن تكون السيرة مُنقِّحة لموضوع الحكم الشرعي ومُبيِّنة له ثبوتاً، كما في مثل الآية الكريمة:( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ) ؛ حيث من اللازم أن يتمَّ تشخيصنا لمصداق المعروف في كلّ عصر بالرجوع إلى سيرة العقلاء. وإذا ما كان هناك اختلاف بين المصداق المعروف في العُرف الفعلي وبين مصداق العُرف السابق، فمن اللازم أن يكون العُرف الفعلي هو المِلاك، ومن ثُمَّ تُعامَل الزوجة وفاقاً للعرف القائم.

٢ - أن تكون السيرة مُنقِّحة للموضوع إثباتاً وكشفاً، لا ثبوتاً. على سبيل المثال: إذا ما كانت سيرة العقلاء تقضي بوجود حقّ الخيار للمغبون عند الغبن في المعاملة، فإنَّ مثل هذه السيرة يمكنها أن تكشف عن عدم تحقُّق الشرط الضمني في العقد؛ والسبب أنَّ بناء المتعاملين في العقد قائم على أساس عدم وجود الغبن. فإذاً، سيرة العقلاء صارت - هنا - مُنقِّحة للموضوع إثباتاً لا ثبوتاً، فقد أثبتت السيرة أنَّ موضوع العقد - المتمثِّل بوقوع المعاملة - مشروط بعدم تحقُّق الغبن فيه، وإذا ما غُبن الإنسان في المعاملة، فالأمر إليه؛ إذ له أن يأخذ بالخيار، كما له أن يمتنع عن الأخذ به.

ثُمَّ يستنتج الشهيد الصدر بأنَّه لا حُجَّة لإمضاء الشارع في مثل هذا المورد الذي تتحرَّك به السيرة في إطار تشخيص موضوع الحكم.

١٠٧

ب - أن تكون مساحة السيرة وبناء العقلاء وفاعلية دورهما متمثِّلة في إطار تنقيح ظهور الدليل. ما يكفي للعمل بمثل هذه السيرة هو التناسق والانسجام في ما بين العلاقات العُرفية والمرتكزات العقلائية في فهم المراد في الزمن المتأخِّر، وبين زمان صدور النص.

ج - أن تتحرَّك سيرة العقلاء ويكون دورها فاعلاً في نطاق الأمارات الشرعية، من قبيل: خبر الثقة، واليد، وبقيَّة الأمارات المعتبرة.

ما يعتقده المرحوم الشهيد الصدر في هذا المجال - أسوة ببقيَّة الأجلاّء ومتابعة لهم - أنَّ السيرة في مثل هذه الموارد لا بدَّ من أن تكون ممضاة من الشارع، إمَّا بإظهار الرضا أو عن طرق السكوت. وما يُستند إليه في هذه الموارد هو إمضاء الشارع للسيرة، لا سيرة العقلاء نفسها.

إنَّ السيرة العقلائية في هذه الموارد معتبرة في نفسها، ومن ثُمَّ فإنَّ الجعل الشرعي إثباتاً ونفياً ليس صحيحاً في هذه المواضع، ومردُّ ذلك أنَّه ليس للشارع المقدَّس تأسيس جديد في موارد بناء العقلاء، وهو لا يلج ميدان العمل بالسيرة بعنوان كونه شارعاً، إنَّما يعمل بالسيرة بوصفه أحد العقلاء؛ لذلك تجد أنَّ رواة الحديث لا يسألون الإمامعليه‌السلام بشأن العمل بخبر الواحد، بمثل قولهم: هل العمل بخبر الثقة حُجَّة أو لا؟ ذلك لأنَّ حُجِّـيَّة خبر الثقة، بعنوان كونه كبرى كلّية، هي موضع تسالم العقلاء، إنَّما يتَّجهون بأسئلتهم إلى صغيرات المسألة، من قبيل سؤالهم: هل يونس بن عبد الرحمن ثقة أو لا؟

وللإمام الخميني (رضوان الله عليه) نصٌّ في كتاب(أنوار الهداية)، الذي هو تعليقة على كتاب(كفاية الأصول). فعند حديثه عن باب الأمارات يمرُّ على بحث سيرة العقلاء، ويُسجِّل ما نَصُّه:(فأعلم أنَّ الأمارات المتداولة على ألسِنة أصحابنا المحقِّقين، كلّها من الأمارات العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع أمورهم، بحيث لو ردع الشارع عن العمل بها لاختل نظام المجتمع، ووقفت رحى الحياة الاجتماعية) .

١٠٨

ثمّ يقول:(ما هذا حاله، لا معنى لجعل الحُجِّـيَّة له، وجعله كاشفاً مُحرِزاً للواقع بعد كونه كذلك عند العقلاء كافَّة). فما يكون عدم العمل به سبباً لاختلال النظام الاجتماعي، لا معنى لقولنا فيه: إنَّ الشارع جعله حُجَّة ومُحرِزاً للواقع؛ وذلك بعد أن تسالم جميع العقلاء عليه، وعدَّوا عدم العمل به سبباً في اضطراب النظام.

على ضوء هذا البيان وتأسيساً عليه، بادر الإمام الخميني لنقد كثير من مطالب الأصوليين وعدَّها مرفوضة. ثمّ انتهى في خاتمة كلامه إلى النتيجة الآتية:(وممَّا ذكرنا يُعرف وجه النظر في كلام هؤلاء الأعلام المحقِّقين (رحمهم الله)؛ من التزام جعل المؤدَّى منزلة الواقع تارةً، والتزام تتميم الكشف وجعل الشارع الظنَّ علماً في مقام الشارعية، وإعطاء مقام الإحراز والطريقية له أخرى، إنَّها كلمات خطابية لا أساس لها) .

تأسيساً على ما مرَّ بيانه، يتّضح أنَّ بناء العقلاء عبارة عن منهج عقلائي، يعمل العقلاء به بما هم عقلاء، ويعدُّون العمل به ضرورياً ولازماً، وعدم العمل به موجباً لاختلال النظام ومستلزماً للهرج والمرج، أو للعسر والحرج على الأقل.

إذاً فالشارع يعمل في موارد بناء العقلاء بالسيرة الموجودة بين العقلاء بوصفه أحد العقلاء، بحيث كلَّما تحقَّق وجود هذه السيرة، فإنَّ الأصل هو العمل وفق تلك السيرة في أيِّ موضع ثبت وجودها، لكن من الضروري الانتباه إلى أنَّ الجهة [المسؤولة] في تكوُّن سيرة العقلاء، هي [التي] توفِّر البُعد العقلائي، ووجوده فيها.

بالنسبة إلى حُجِّـيَّة بناء العقلاء، هل ثَمَّة حُجَّة إلى عدم ردع الشارع أو إمضائه لها، بحيث ينبغي إعادة بناءات العقلاء بصورة قهقرائية إلى زمان الشارع؛ للاطمئنان إلى أنَّها تمَّت تحت نظره، أو أنْ نقطع من خلال القواعد الكليّة والإطلاقات العمومية بعدم الردع أو بالإمضاء، أو أنَّنا لا نحتاج في بناء العقلاء إلى عدم الردع أو الإمضاء، بل إنَّ العقاء بما هم عقلاء حُجَّة؟ ثُمَّ ما هو المدى الذي يتحرَّك فيه بناء العقلاء؟ وما هي مساحته؟

١٠٩

السيد الحائري: هناك مسلكان معروفان بين الأصوليين حيال بناء العقلاء، هما:

الأوَّل: مسلك المرحوم المحقِّق الأصفهاني (محمد حسين الأصفهاني المعروف بالكمباني، ت١٢٦٦)، ويبدو أنَّ تلميذه المرحوم محمد رضا المظفَّر تابعه على ذلك. تتمثَّّل عقيدة هذه المدرسة في أنَّ الشارع هو سيد العقلاء، ومن ثُمَّ لا يمكن أن يكون العقلاء قد أدركوا شيئاً لم يدركه الشارع. تأسيساً على هذا، ذهبوا إلى أنَّه ما من شيء بناه العقلاء إلاّ وكان للشريعة مثله.

على هذا الضوء، ستكون مساحة بناء العقلاء واسعة جدّاً، وفي أي موقع كان للعقلاء مبنىً، فنحن نقبله ونرتضيه من دون أن تكون هناك حُجَّة لأن نقول: إنَّ مثل هذا المبنى لم يكن له مصداق في زمان الشارع، والآن وجد له مصداق.

لقد تواءم مسلك المحقِّق الأصفهاني مع مسلك آخر، متمثِّلٍ بالقول إنَّ الحسن والقبح ليس لهما واقع خارجي، بل إنَّ قوامهما ببناء العقلاء. وهذا المبنى يؤيّد تلك المقولة التي تُفيد بأنَّكلَّ ما أمضاه العقلاء هو ممضى من الشارع أيضا ً؛ يعني إذا ما ذهب العقلاء إلى أنّ الفعل الكذائي قبيح، فإنَّ الشارع يقول عنه: إنَّه قبيح أيضاً، من دون أن يكون وباء بناء العقلاء حسن وقبح في المسألة.

على هذا الضوء، سيكتسب بناء العقلاء وفق مسلك المرحوم الاصفهاني مجالاً واسعاً يمتدّ فيه.

الثاني: وهو المسلك المشهور الذي يختلف مع المحقِّق الأصفهاني في النقطتين معاً. ففيما يتعلَّق بمقولة إنَّ الشارع سيد العقلاء، وبالتالي لا يمكن مخالفة العقلاء، فهذا ليس صحيحاً. أجل، الشارع سيد العقلاء، لكن يمكن لرئيس العقلاء أن يدرك شيئاً يعجز عن إدراكه العقلاء؛ ومردُّ ذلك أنَّ الشارع هو عقل الكلّ، يحيط بجميع المصالح والمفاسد، بعكس العقلاء الذين لا يُعدُّ كل واحد منهم عقلاً كلِّياً؛ وبالنتيجة لا يحيط بالمصالح والمفاسد كافّة.

على هذا يمكن أن يُصدِر العقلاء حكماً في شأن موضوع معيَّن، ثُمَّ يُعارضهم الشارع فيه؛ بحكم أنَّه أعقل ويَفهم الأمر ويُحيط به على نحو أكمل منهم، فتبدو له مسألة قد خفيت عنهم يقوم على أساسها بمخالفة حكمهم.

١١٠

أمَّا عن النقطة الثانية المتمثِّلة بعدم وجود حسن وقبح وراء بناء العقلاء، فإنَّ أغلب السادة الأعلام لا يرتضون ذلك، بل هم يذهبون إلى وجود واقعية للحسن والقبح يُدركها العقل. من جهة أخرى، يمكن لبناء العقلاء أن يقع تحت تأثير عوامل مختلفة غير الحسن والقبح؛ بمعنى أنَّ الحسن والقبح شيء، والمصالح والمفاسد شيء آخر. إذ يمكن أحياناً أن يقع بناء العقلاء تحت تأثير المصالح والمفاسد، لا تحت تأثير الحسن والقبح، بل يمكن أن يكون لهذه البناءات جذر في مكان آخر، فقد تكون هناك - مثلاً - مجموعة من الآداب والرسوم المحلِّية، فغفل العقلاء وأسبغوا عليها طابعاً كلِّياً عامَّاً.

على ضوء هذا المبنى، يتَّضح جواب السؤال الثاني؛ حيث لا مجال لبناء العقلاء في االتعبُّديات المحضة غالباً. فلا علاقة للشريعة بالعقلاء في مجال االتعبُّديات المحضة، بل تمتدُّ مساحة بناء العقلاء في مجال المعاملات أكثر، أو في الموارد المشابهة التي لا تَعبُّد فيها.

* إنَّ ما يقصده المحقِّق الأصفهاني هو العقلاء بما هُم عقلاء، وليس البناءات التي لها جذور ومناشئ وأصول في الآداب والتقاليد والعادات حتّى يمكن نقضها.

السيد الحائري: ما تفضَّلتم بذكره يختلف على نحو صريح مع ما يذكره المحقِّق. صحيح أنَّه يقال: العقلاء بما هم عقلاء، بَيْدَ أنَّكم تخلطون بين العقلاء بما هم عقلاء وبين إدراك العقل.

* ما نقصده هو العقل العملي، وليس العقل النظري.

السيد الحائري: إنَّ المسلك المذكور لا يعترف بوجود واقع وراء أحكام العقل العملي.

* إذا ما كان الأمر يدور في نطاق العقلاء بما هم عقلاء، لا في نطاق الآداب والأعراف الخاصّة، فعندئذ لا يرد هذا الإشكال؛ وذلك أنَّ ما يقوله أولئك من أنَّ (العدل حسن) و(الظلم قبيح) هما من القضايا المشهورة التي اتّفق العقلاء عليها.

السيد الحائري: أجل، أعرف أنَّ العقلاء بما هم عقلاء، لكن هؤلاء العقلاء بما هُم عقلاء لا يكشفون عن واقعية ما، بمعنى أنَّ أولئك لا يعدُّون الحسن والقبح تعبيراً عن حقيقة موجودة اكتشفها عقلنا على مستوى مقولة (العدل حسن) و(الظلم قبيح)، بل يذهبون إلى أنَّ العقلاء أشادوا بناءً يفيد بأنَّ العدل حسن والظلم قبيح.

١١١

الشيخ معرفت: يتمثَّل دور بناء العقلاء (أو عرف العقلاء) في نطاق الدائرة الفقهية، في عملية تشخيص المفاهيم فحسب، وفي الدائرة الأصولية بباب الظهورات فقط.

يمكن النظر إلى الفقه من خلال زوايا ثلاث هي:

١ - تبيين الأحكام الشرعية، تكليفية ووضعية، وعبادية ومعاملاتية، وسياسية واجتماعية، وما إلى ذلك. إنَّ فهم الحكم الشرعي واستنباطه في طور مطلق، له علاقة - بالنسبة إلى الفقيه - بكيفية الاستفادة من الأدلّة المعيَّنة.

طبيعي ينبغي الاستناد في استنباط الأحكام، إلى مجموعة من الظهورات الكلامية ممَّا هو واقع في مجال بناء العقلاء.

٢ - تبيين موضوعات الأحكام ومتعلَّقاتها، حيث تنبغي الاستعانة في تشخيص مفهومها بالعُرف.

٣ - التشخيص المصداقي الذي يرتبط بالمكلَّف نفسه، وليس بالفقيه ولا بالعُرف العام. نعم، الموضوعات المستنبَطة (مثل: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام) مثل الأحكام في التشخيص المفهومي، وأحياناً المصداقي، هي من وظيفة شخص الفقيه لا غير.

١١٢

الهوامش:

ــــــــــــــ

١ - مصطلح من علم الأصول يستخدمه الأصوليون في الأبحاث اللُّغوية، ويراد منه حالة أسماء الإشارة؛ حيث يتصوَّر الواضع المعنى العام ويضع اللفظ للخاص. انظر: محمد رضا المظفر، أصول الفقه، ج١، ص١١ـ١٢ (المحرِّر).

٢ - محمد كاظم اليزدي، تكملة العروة الوثقى، ج١، ص٧٠.

٣ - البرص مرض جلدي يصيب الإنسان، ذكراً كان أم أنثى، والقَرَن، هو: لحم (غدَّة) ينبت في فم الرحم يمنع من الوطء (المحرِّر).

٤ - يراجع: الحدائق، ج٢٠، ص ١٥ - ١٨؛ ومفتاح الكرامة، ج٤، ص٤٢٤.

٥ - مفتاح الكرامة، ج٦، ص٢٩، و جامع الشتات، ص١٤٤.

٦ - لمزيد من التفاصيل يراجع: القواعد العامة للعقود، ج٢، الرقم ٤١٥.

٧ - يدل هذا المصطلح على حالة معرفة المفهوم والشك في دخول هذا الفرد تحته أو عدم دخوله؛ كما إذا كنا نعلم ما هو الخمر، ولكن نشك في أن هذا المائع خمر أو ليس خمراً (المحرِّر).

٨ - مصطلح منطقي، يُراد به: القضايا التي اتفق العقلاء على صحَّـتها، وسلَّموا بها، مثل: حسن العدل وقبح الظلم، وشكر المنعم...إلخ (المحرِّر).

٩ - قاعدة فقهية مفادها: وجوب الالتزام بالشروط التي يأخذها الإنسان على نفسه في عقوده ومعاملاته (المحرِّر).

١٠ - بيع الكالي بالكالي، هو بيع يُؤجِّل فيه كل من الثَّمن والمُثَّمن. والمنابذة هي أن يلقي كل من المتابعين العين الآخر، فيتم البيع - ودون علم - بأوصاف الثَّمن أو المثمَّن.

١١ - جواهر الكلام، ج٣٦، ص١٠٩ - ١٢٠.

١٢ - ينظر: الوسائل، ج١٦، ص٣٠٨.

١٣ - ينظر: الوسائل، ج١٦، ص٣٠٩.

١٤ - الزخرف: ١٨.

١٥ - الشهيد الثاني، الروضة البهية في شرح اللمعة، ج٣، ص١٠٥.

١١٣

المنهج الاجتهادي لدى الفقهاء، السيد البروجردي أنموذجاً

يُعدُّ السيد البروجردي (توفِّي ١٣٨٠ هـ) من أعلام الحوزة العلمية الإماميَّة، ومن روَّادها البارزين. تميَّزرحمه‌الله بمنهج علمي اجتهادي على المستويين: العلمي، والعملي (المتمثِّل في إدارة الحوزة العلمية). ودرس عليه عدد كبير من الطلبة، صار عدد منهم أعلاماً يشار إليهم بالبنان، منهم: الشيخ لطف الله الصافي، الشيخ حسين النوري، الشيخ أبو طالب تجليل، الذين كان لنا معهم هذا الحوار في منهج أستاذهم وغيره من رجالات الحوزة العلمية.

* يقال: إنَّ السيد البروجردي بحث في الجذور التاريخية لدليل الانسداد، وأنَّه كان يعتقد بوجود الدليل العلمي على حُجِّـيَّة خبر الواحد، خلافاً لغيره ممَّن كانوا يعتقدون أنَّ الدليل على الحُجِّـيَّة هو الظن المطلق، يُرْجى توضيح ذلك.

الشيخ الصافي: من أساليب البحث لدى المرحوم الأستاذ السيِّد البروجردي (أعلى الله مقامه)، أنَّه كان يبحث في جذور البحوث العلمية، وفي تطور أي مسألة خلال القرون. واستعمال هذا الأسلوب في دليل الانسداد، أدَّى إلى البحث في العدول من عصر المحقِّق جمال الدين الخونساري، وانتهى إلى أنَّ الدليل الذي يُثبِت في النهاية حُجِّـيَّة خبر الواحد قد تغيَّر أصله، فأقيم على أساس الحُجِّـيَّة المطلقة للظن؛ لهذا نجد أنَّه في مجلس درسه - الذي دوَّنتُ تقريراته - شرح دليل الانسداد في فصلين:

في الفصل الأوَّل بيَّنَ أسلوب المتأخرين من المحقِّق الخونساري - وبخاصَّة الشيخ - والمحقِّق الخراساني (قدِّس سرُّهم)، وعرض آراءهم بشكل وافٍ وفي خمس مقدِّمات، ثم انبرى لمناقشتها.

وفي الفصل الثاني بيَّن أسلوب العظماء الذين سبقوا المحقِّق الخونساري، ممَّن تعرَّضوا لهذا الدليل ولم يتناولوا المقدِّمات التي ذكرها المتأخِّرون، وفي الختام أثبت حُجِّـيَّة خبر الواحد من دون الحُجِّـيَّة المطلقة للظن.

١١٤

ومن بين ما قاله في تقريره لهذا الدليل: بمقتضى آية النفر وأشباهها من الآيات الأخرى؛ مثل آية الكتمان، وبحسب الأخبار الكثيرة، فإنَّ تعليم الأحكام والاستفتاء والإفتاء والقضاء وتعلُّمها أمرٌ واجب، وليس هناك أحد أهمل في أمور الدنيا والآخرة، ولا يرضى الشارع المقدَّس أن يضيِّع أحدٌ ما على نفسه فوائد هذه الأحكام التي جاءت في الكتاب والسُّـنَّة في أبواب كثيرة؛ ذلك لأنَّ المقصود من هذه الأحكام أن تكون مرجعاً للناس في جميع أمور معاشهم، ومعياراً لحلِّ الخلافات والخصومات وحفظ الأنظمة والأمور الأخرى. ولئلاّ ينقض الغرض من ذلك، ولئلاّ يكون إنزال الكتاب وإرسال الرسول بهذه الشرائع من دون فائدة، ولتحفظ هذه الفوائد، ولتصل إلى الناس على مرِّ القرون والعصور، من أجل هذا: أوجب تعليمها وتعلُّمها، وحرَّم كتمانها.

إذاً، إذا كان باب العلم بهذه الأحكام والطرق اليقينية إليها ينسدّ، علينا إمَّا أن نقول بالاكتفاء بالأحكام المعلومة المسلَّم بها، وهذا الأمر غير جائز؛ لصريح الآيات والروايات الدالَّة على بقاء الدين الإسلامي إلى يوم القيامة، لأنَّ الاكتفاء بهذا القدر القليل إذا لم يؤدِّ إلى إضاعة فوائد جميع الأحكام، فإنَّه سيؤدِّي حتماً إلى إضاعة أغلبها.

أو أن نقول - ويجب أن نقول -: إنَّ هذه الأحكام تُحرَز بالطرق الظنِّية المتعارفة - دون غير المتعارفة كالقياس - وذلك لدوران الأمر بين الأخذ بالطريق الظنِّي بحُجِّـيَّة الظن الحاصل من طريق متعارف عليه، وإمضاء الشارع المقدَّس لهذه الطريقة. ولا يخفى عليك أنَّ تعلُّم الأحكام وتعليمها بالطريق المتعارف، والقول به، والإفتاء به، ليس قولاً بغير علم؛ لأنَّه هو العلم المأثور الذي أطلق عليه اسم العلم في الكتاب والسُّـنَّة كقوله تعالى:( أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) .

ومع هذا البيان، لا حُجَّة إلى المقدِّمة الأولى والثالثة والرابعة والخامسة، ويثبت به حُجِّـيَّة الخبر والظن الحاصل منه؛ لأنَّه هو الطريق المتعارف في عصر النبي والأئمة (صلوات الله عليهم)، وإلى زماننا هذا. ولا يشمل الدليل إلاّ الطريق المتعارف، فلا حُجَّة في إخراج مثل القياس عن شموله له إلى الاستدلال؛ لأنَّه ليس من تلك الطرق.

١١٥

وبالجملة، فإنَّ بين هذا البيان وبيان العظماء الذين طرحوا دليل الانسداد بعد المحقِّق الخونساري فوارق متعددة، كتبناها في تقريرات بحث الأستاذ الأعظم.

* كان السيّد البروجردي مُحِيطاً بأقوال أئمة العامة ونظريات الصَّحابة؛ لأنَّه كان يعتقد أنَّ البحث في الرواية وفهمها بشكل كامل لا يتسنَّى لأحد إلاَّ بعد الاطلاع على الظروف التي صدرت فيها الرواية، ولا يمكن الاستفادة من اللفظ إلاّ في الحصول على المعنى الظاهري. فهل كان هذا الأسلوب من ابتكاره؟ وما هو مدى تأثير الإحاطة بفقه العامة ومعرفة محيط صدور الرواية وظروفه على الاجتهاد؟

الشَّيخ الصافي: لا شك في أنَّ الاطلاع على الفتاوى وآراء الصحابة والتابعين وعلماء العامة، مؤثِّر في فهم مجموع الروايات - التي له فيها رأي - والاستفادة منها بشكل صحيح، كما هو مؤثِّر في فهم علَّة صدور تلك الروايات.

لهذا، فكل رواية يحتمل أنَّها تعتمد على أقوال غير أهل البيتعليهم‌السلام ، أو كانت جهة صدورها مجهولة، وجب فيها الاطلاع على تلك الفتاوى والأقوال. وكان قدماء الفقهاء منكبِّين على هذا العلم ويولونه الأهمية.

فمثلاً الشيخ الطوسيقدس‌سره ألفَّ كتاباً مهمَّاً في هذا المجال هو كتاب(الخلاف) ، وكذلك العلامة الحلّي (رضوان الله تعالى عليه) وضع كتابه(تذكرة الفقهاء)، لكن في العقود الأخيرة قلَّ الاهتمام بهذا العلم في المحافل العلمية وجلسات الدرس والبحث، وصار مهملاً تقريباً. فلم يعُد كتاب(الخلاف) متداولاً بوصفه مصدراً للمراجعة؛ لهذا فإنَّ السيّد البروجردي هو الذي أمر بإعادة طبعه ونشره، فجدَّد بذلك الاهتمام بهذا العلم. فهو من خلال معرفته الواسعة بأقوال الصحابة وعلماء الإسلام - من جميع الفرق - أظهر أهمية هذا العلم، وحُجَّة الفقيه إليه، بحيث إنَّ كتاب (الخلاف) الذي طُبع للمرة الأولى والثانية بأمرٍ منه، عاد وطُبع عدَّة طبعات في ما بعد.

١١٦

ومن الفوائد الأخرى لهذا العلم الذي يقارن بين فقه أهل البيتعليهم‌السلام وفقه الآخرين؛ بيانُه قوَّة فقه أهل البيتعليهم‌السلام واستقامته، واستناده إلى الكتاب والسُّـنَّة.

* رغم معرفته الواسعة بالأصول، وتفرُّده بآرائه الأصولية، فإنَّه لم يكن يتمسَّك بالأصول عند استنباطه، وقد شُوهد الأسلوب نفسه لدى بعض تلامذته، فما هو سبب ذلك؟

الشيخ الصافي: نعم، الأمر كما تقولون؛ حيث لم يكن سماحته متمسِّكاً بالأصول العملية، وسبب استغنائه عن التمسُّك بالأصول العملية يعود إلى تخصُّصه الكامل في فهم الروايات، والدقة التي كان يبذلها في هذا المجال، وحسن سليقته في رفع التعارض بين الأخبار المتعارضة، لكنَّه في الوقت نفسه كان يؤكِّد كثيراً على علم الأصول، وعلى حُجَّة الفقيه إليه. والدليل على ذلك وضعه للحاشية المفصَّلة والدقيقة والعميقة على كتاب أستاذه الخراساني:(كفاية الأصول) .

* هل يمكن القول: إنَّ الأسلوب الذي اتبعه آية الله البروجردي في الاجتهاد - كالاطلاع الواسع على الفقه وقلَّة استخدام الأصول - تُعطي اطمئناناً أكبر في تحصيل حكم الشارع؟

الصافي: إنَّ أسلوبه في الفقه والاستنباط، والدخول في المسائل والخروج منها، أكثر اطمئناناً. فمعرفته الواسعة بأسانيد الروايات والرجال والطبقات وأقوال العامة والخاصة، وبخاصَّة القدماء منهم، وبحثه الدقيق في مضامين الروايات وحتى بعددها، يفضي إلى الاطمئنان؛ فمثلاً عندما يشتمل أحد الأبواب -في (الوسائل) - على عشرين رواية، تجده يرجعها إلى عدة روايات أساسية، وهذا ما جعل أسلوبه فريداً.

كما أنَّه اهتم بكتب كثيرة، منها كتاب:(مفتاح الكرامة) مثلاً، الذي لم يكن هناك اهتمام به. وباهتمامه بدراسة أقوال الفقهاء الشيعة - وبخاصَّة القدماء منهم - أضحى هذا الكتاب متداولاً بين المدرِّسين والحوزات العلمية.

١١٧

* ما هي الفوائد التي تركها تقسيمه لرجال الحديث على فهم الروايات، وتحديد صحتها أو سقمها؟ وهل هناك بين فقهاء الشيعة من قسَّم الرجال على غرار ما فعله آية الله البروجردي؟ وهل اقتبس سماحته هذا الأسلوب من العامة؟

الصافي: من الواضح أنَّ لعلم طبقات الرجال والرواة دوراً في تحديد صحة تلك الأحاديث أو سقمها، فأحياناً نجد حديثاً معنعناً أو مُتَّصل النسب حسب الظاهر، لكن عند استخدام علم طبقات الرجال يظهر عدم اتصال بعض أسناده، أو إرساله.

وفضلاً عن ذلك، فإنَّ جميع الأحاديث الموصولة الأسناد، رغم أنَّها معنعنة في الظاهر، لكن احتمال سقوط بعض أسانيدها وحذفه وإرسالها محتمل. ويظهر عدم إرسالها من خلال علم الرجال، ولا حُجَّة هنا لاستعمال الأصول الظنية كأصل عدم الخطأ وأصل عدم الحذف.

أمَّا هل هناك مَن سبقه من فقهاء الشيعة إلى تقسيم الرجال هكذا، فإنِّي لا أعرف أحداً قام بذلك قبله. كما أنَّ وجود هذا الأسلوب بشكل إجمالي لدى العامة لا يعد دليلاً على اقتباسه منهم؛ لأنَّها فكرة تخطر للشخص المتتبِّع للروايات والأسانيد من أمثاله بشكل ذاتي.

* مع الأخذ بنظر الاعتبار النقل بالمعنى، وسعة تحمُّل رواة الأحاديث والفارق في ما بينهم؛ من حيث المعلومات والسن واللغة، هل يمكن الاعتماد على ألفاظ الروايات أو لا؟

الشيخ النوري: إذا كان راوي الحديث جامعاً للشروط، كالضبط والعدالة والثقة وغير ذلك، عندئذٍ لا بد من الاهتمام والتدقيق في ألفاظ الروايات، وعند الشك فإنِّ أصل عدم السهو وعدم الغفلة وعدم النسيان وعدم الزيادة أو النقصان وأمثال ذلك تكون هي المؤثِّرة في المقام.

١١٨

فمثلاً في باب الغسل لدينا مجموعتان من الروايات عن غسل الجانب الأيسر والأيمن، في بعض الروايات جاء عطف الطرف الأيسر على الأيمن بالواو، بينما جاء عطفها في روايات أخرى بالفاء، أو (ثمَّ). و(الفاء) و(ثمَّ) تدلَّان نوعاً على الترتيب، وإن كانتا أحياناً لا تدلَّان على شيء خاص. وهما على خلاف الواو التي لا تدل نوعاً على الترتيب والتعاقب.

المرحوم السيد الخوئي كان يعمل بالروايات الصحيحة من حيث المبنى، ولا يهتم باشتهار العمل ببعض الروايات أو عدمه؛ لهذا نجده لا يرى ضرورة تقديم الطرف الأيمن على الأيسر في الغسل. فهو يستند إلى الرواية التي تعطف بالواو، فيقول: ليس من الضرورة تقديم الطرف الأيمن على الأيسر في الغسل؛ لأنَّ الرواية التي تحمل الواو أكثر رجحاناً من الروايات الأخرى من حيث السند، والمعيار أيضاً هو صحة الرواية وسقمها في القبول وعدمه.

لكن، في رأيي، بما أنَّ سند تلك الروايات حسن أيضاً، وإن كانت لا تبلغ قوة تلك الرواية، ولأنَّ ظواهر الألفاظ هي حُجَّة أيضاً؛ لهذا لا أفتي بما يفتي به السيد الخوئي، بل كما هو مشهور؛ لا بد من القول بالترتيب في الغسل، وتقديم الأيمن على الأيسر.

نعم... إذا كانت ظواهر بشكل لا يقبل الجمع، عندئذ يكون هناك حكم آخر. وبما أنَّ الكتب القديمة كانت مخطوطة بالخط الكوفي من دون نقاط، وعندما نحذف النقاط عن بعض الحروف تصبح بعض الحروف متشابهة، بل متطابقة. لذا إذا نظرت بدقة في كتب الروايات، تجد قد كُتب فوق بعض الكلمات حرف (خ) أو حرف (ل خ)، والخاء تعني أنَّ هذه الكلمة وجدت بهذه الصورة في مخطوطة أخرى، و(ل خ) تعني أنَّها وجدت هكذا في عدَّة نُسخ أخرى؛ أي أنَّه إذا كانت هذه الكلمة في عدَّة نُسخ على هذه الصورة، فهي في نسخ أخرى على صورة أخرى. فمثلاً في إحدى الروايات التي طرحها الشيخ الأنصاري في أصوله أيضاً وردت على ثلاث صور:

١١٩

في النسخة الأولى:(مَن حدَّدَ قبراً)، وفي الثانية:(مَن جدَّد قبراً)، وفي الثالثة:(مَن جدَّث قبراً) ، ومعنى جَدَّدَ يختلف عن جدَّث؛ لأنَّ (حدَّدَ قبراً) تعني جعله كالهرم، بينما (جدَّد قبراً) تعني جدَّد بناء قبرٍ قديم، في حين أنَّ (جدَّث قبراً) تعني أعدَّ قبراً لغيره. في هذه الحالات المتعارضة يجب النظر: هل هي من باب دوران المحذورين، فلها حكم، أو أنَّها من باب الأقل والأكثر، فلها حكم آخر، وهكذا...

* إنّّ حُجِّـيَّة الظواهر تكون على أساس مبنى العقلاء، وعندما لا تُنقل الألفاظ عينُها، يصعب على العقلاء البناء. فمن ناحية، يرى رواة الأحاديث جواز النقل بالمعنى، ومن ناحية أخرى تعرَّض بعض الرواة لحوادث جعلتهم يعتمدون في ما بعد على (ما حفظوه) من الروايات، كما حدث لابن عمير مثلاً، ومن ناحية ثالثة، فإنَّ تحمُّل الرواة في الأحاديث مختلف كثيراً، فكيف يمكن الاعتماد على الألفاظ، ووضع فرق بين الواو والفاء أو بين الفاء وثمَُّ، حيث تدل الفاء على الترتيب والتعاقب، في حين لا تدل الواو على الترتيب ولا ثُمَّ على التعاقب، بل على التراخي؟

الشيخ النوري: يكون الأمر كذلك لو كانت (الجهة الكبرى) من القضية هكذا، فعندها لا يمكن الاعتماد على الألفاظ. لكن إشكالنا في (جهتها الصغرى)، وحينها لا يكون الأمر كما تظُن؛ لأنَّ الرواة كانوا أصحاب ألواح؛ أي أنَّهم كانوا يمتلكون القرطاسية كالورق والقلم، وكانوا يكتبون أقوال المعصومينعليهم‌السلام ، ويجب أن لا يشك في هذا المجال أساساً؛ لأنَّ كلمة (راوٍ) تُطلق على أهل الحفظ وممَّن يروون الروايات بنصها من دون زيادة أو نقصان، وإذا لم يكن كذلك، فلا يُطلق عليه اسم (راوٍ). لهذا، فإنَّ رواة الحديث كانوا يحفظون حتى المراتب؛ فمثلاً عبد الله بن مسكان كان يجلس عند موضع الأحذية، ويقول: هذا مكاني عند وجود العظماء، ولعلّ بعضهم لم يكن يراعي هذا الأمر أحياناً، لكن غالباً ما كان الأمر كذلك، حيث كان رواة الأحاديث يحضرون مجالس المعصومينعليهم‌السلام ، وهم مزوَّدون بأدوات الكتابة والحفظ المناسبة آنذاك، ليسجِّلوا كلماتهم عينها ويحفظوها في ألواحهم.

١٢٠