الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 177

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف:

الصفحات: 177
المشاهدات: 21150
تحميل: 6389


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21150 / تحميل: 6389
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

وأحمد بن محمد بن خالد القمي. لكن عند المقارنة بين الراوي والمروي عنه يعرف كل منهما. فأفضل ما يُستفاد من هذا هو تحديد مشتركات الرجال، وهو أمر مهم جداً. بالطبع فإنَّ المرحوم العلاَّمة البروجردي أيضاً قام بذلك من خلال تدقيقه في الأسانيد. كان يقول: لم أكن قد رأيت جامع الرواة بعد، لكنِّي سمعت بوجود كتاب بهذا الاسم، فظننت أنَّه سيوفِّر علينا الجهد، وعندما انتقلتُ إلى قم أتوني بنسخة منه، فلاحظت أنَّ الفوائد الموجودة في رجالي غير موجودة في جامع الرواة. ثُمَّ أمر بطبع جامع الرواة.

* مع أخذ الكتابين المذكورين بنظر الاعتبار، ما هي الفوائد التي جاء بها كتابكم (معجم الثقات) ممَّا لا نستطيع الحصول عليه من كتب الرجال السابقة؟

الشيخ تجليل: الهدف من تدوين (معجم الثقات) هو: أنَّ المشتغِل بالفقه يحتاج دوماً إلى البحث في أسانيد الحديث، ومَن يُراجع خلال استنباطه الفقهي لا يملك مجالاً لمراجعة التفاصيل؛ لذا قرَّرتُ أن أعدَّ فهرساً بأسماء الثقات لأسهِّل عملي، فصرتُ أراجع الفهرس عند بحثي في أيِّ سند، ثُمَّ طوَّرت الأمر، فذكرت مداركها بشكل موجز، ثُمَّ بدا لي تمييز المشتركين في الأسماء، فكان أفضل طريق هو الترتيب الطبقي، وترتيب الطبقات كان نتيجة عملمعجم رجال الحديث وجامع الرُّواة. فعندما كنتُ أكتبجامع الثقات لم يكنمعجم الرجال موجوداً، وبالفعل جاء عمل آية الله العظمى الخوئي مُكمِّلاً، وأكثر شمولية منجامع الرواة. العمل الذي قام به هذان العظيمان كان أساساً لمنهجيًَّة الطبقات. فالإنسان عندما يبحث في الراوي والمروي عنه ويحددهما، يعرف حينئذٍ من أيِّ طبقةٍ كان الراوي.

إنَّ استنباط الطبقات وترتيبها، ووضع الرواة في كل طبقة، هو أمر مهم جداً، يجب أن يتم بعدما قام به هذان العظيمان، ولم أقُم بذلك، بل قام به المرحوم العلاَّمة البروجردي. وكما قلتُ أثناء تأليفي: صادفتُ كتاب(طرائف المقال) ، الذي قام بالعمل نفسه. لكن للأسف فقدتُ تلك النسخة التي قد أخذتُها من المرحوم آية الله العظمى النجفي، فعرض لي سفر إلى الحج، ولم أشأ أن أترك ذلك الكتاب النادر في بيتي،

١٤١

فأعدته له، وبعد عودتي طلبته منه، لكنَّه لم يجده، ولم أجده في فهرس الكتب المخطوطة لمكتبته، ولا أدري أين هو. ومع ذلك، فهو لم يكن كاملاً. فاستخرجت بنفسي عدداً من الطبقات التي لم أجدها فيه. وبعد طبع كتاب(تجريد الأسانيد) ، للمرحوم آية الله العظمى البروجردي، كَتَبَ بعضهم الطبقات في كتاب أول تجريد الأسانيد، فأضفتها إلى معجم الثقات في طبعته الثالثة، حتى يتأكَّد منه إذا وجد أي اختلاف في تنظيم الطبقات. ولا أظن أنَّ هناك كتاباً بحجممعجم الثقات الصغير هذا قد جمع بشكل أكمل في تدوين الأسماء.

* في باب الشهادات، الشهادة التي تكون عن (حسٍّ) مقبولة، والتي تكون عن (حدس) لا تُقبل، فكيف تكون شهادة النجاشي وابن الغضائري وبقيَّة الرجاليين عن الأئمةعليهم‌السلام شهادة حسِّية رغم الفاصلة بينهم، فضلاً عن أنَّ النجاشي وأمثاله لا يصل بسلسة سنده إلى المستشَّهد به؟

الشيخ تجليل: لا شك في أنَّ الشهادة عنحسٍّ معتدٌّ بها، والشهادة عنحسٍّ تُطلق على المحسوس أو القريب من الحس، فبعض الأمور باطنية، لا تُبصر بالعين، كالشجاعة وحسن الخلق وغيرها، ولأنَّها قريبة من الحس، وآثارها القريبة مشهودة، عُدَّت من المشهودات عنحسٍّ .

السؤال هو: كيف نفسِّر توثيق النجاشي للرواة، رغم الفاصل الزماني الذي تجاوز المئتي عام بينه وبين الرواة؟

الجواب على هذه الشبهة هو أنَّ أصل مسألة الاعتداد بالوثاقة أتت في نصِّ الأئمةعليهم‌السلام ؛ حيث دعوا للرجوع إلى الثقات. ففي رواية يسأل الإمامعليه‌السلام : يابن رسول الله، زكريا بن آدم ثقة؟ فيقول: (نعم، ثقة)، ثُمَّ يسأل: أآخذ عنه معالم الدين؟ فيقول:(نعم). إذن تُؤخذ معالم الدين من الثقات، وإلاّ فإنَّ هذا الأمر مرتكَز عقلائي، ويقول به الأئمة. لهذا من الطبيعي أن تكون ثقة الرواة ببعضهم في عهد الأئمةعليهم‌السلام . كان يرى أنَّ أولئك الأفراد ثقاة، ويأخذ الرواية عنهم، ولعله

١٤٢

كان يرى غيرهم ليسوا بثقات. مثلاً يُسأل عن الفطحيين: (يابن رسول الله، كتبنا ملأى من أحاديثهم)، فماذا نفعل بانحراف هذا المذهب؟ فيأمرهمعليه‌السلام أن يأخذوا ما رووه، ويتركوا ما اعتقدوه؛ أي أنَّهم ثُقاة.

على أيِّ حال، هذه الأمور كانت بين أصحاب الأئمةعليهم‌السلام أيضاً، وبعد الأئمة كانت في العصور التالية طبعاً. ولم تكن مسألة التوثيق أمراً أبدعته عصور الشيخ الطوسي والنجاشي. فمن المسلَّم به أنَّ الذين عُدُّوا من الثقات في عهد الأئمةعليهم‌السلام ، سرت الثقة بهم في الطبقة اللاحقة، إلى أن كان عصر الشيخ والنجاشي.

ويُحتمل أنَّ النجاشي والشيخ كان لها رأي بتوثيق مَن سبقهم، ولم يوثِّقوا أحداً بعيداً عن ثقة السلف بهم؛ لأنَّ الثقة تتكوَّن بالمعاشرة، ولم يكن الشيخ والنجاشي في عصر الأئمةعليهم‌السلام ليعاشروا الرواة، إذن ويقيناً كان الشيخ والنجاشي يأخذان بتوثيق مَن سبقهم. وكما قال آية الله العظمى الخوئي: يحتمل أنَّهم كانوا يأخذون كابراً عن كابر. هكذا أخذوا عمَّن سبقهم، ونقلوه إلينا. لهذا لا يمكننا أن نجزم إنْ كانت توثيقاتهم عن حدسٍ وليست عن حس. فيحتمل أن تكون توثيقاتهم توثيقات مَن سبقهم نفسها. وهذا الأمر يكفي في الحُجِّـيَّة لدى العقلاء. وإذا شهد أحد بوثاقة آخر أمام القاضي، فلن يسأله القاضي على ماذا بنيت شهادتك؟ فعندما يكون الشاهد عادلاً يعتمد على شهادته، رغم عدم وجود احتمال بأن تكون شهادة الشاهد بوثاقة مَن لم يعاشره، بل عاشروه مَن يثق به، وأخذ التوثيق عنه، هذا الاحتمال لا يقدح بحُجِّـيَّة الشهادة، لنقول: هناك احتمال أنَّها ليست عن حسٍّ.

لهذا نحن نرى أنَّ توثيقات النجاشي والشيخ وأمثالهما حُجَّة. أمَّا توثيقات مَن جاء بعدهم، كالعلاَّمة وابن الغضائري وغيرهما، فقد أخذوها عن ذينك العظيمين، أو أنَّها حَدَسِيَّة؛ كأنْ ينقل الكشِّي وغيره من الرواة، أو استنبطوا من الروايات الواردة، أو استفادوا من سيرتهم وكونهم شيوخ الرواية وغير ذلك من القرائن. لكن الماضي لم يصل لأيدينا؛ لهذا فإنَّ توثيقاتهم حُجَّة.

١٤٣

* يطرح هنا سؤالان:

حول القسم الأول من جوابكم يُطرح هذا السؤال: لو أنَّ المرحوم النجاشي، أو الشيخ الطوسي، بيَّنا تلك الشهادات - أي سلسلة الشهود - أو ذكرا هذه الشهادات في طيَّات كتبهما والأصول، لكان الأمر كما قلتم]، لكنَّهما لم يبِّينا ذلك، كما أنَّنا لا نجد هذه الشهادات بين كتب الأصول والجوامع. لنفترض فنقول:

كانوا عدولاً وأهل خبرة، وهذا هو بناء العقلاء؛ أنَّ خبر الثقة حُجَّة، وأنَّهما كانا يحصلان على التوثيق بطريقة نجهلها، وأنَّ تحصيلهم له كان عن حسٍّ أو على أساس حدسهم.

ثانياً: على فرض أن الشهادة كانت عن حسٍّ، فلو بيَّنا لنا تلك الشهادات، لكنَّا استفدنا نحن من تلك العبارات بشكل آخر، خلافاً لرأي الشيخ والنجاشي. فمثلاً ابن قولويه يشهد في أوَّل كتاب (كامل الزيارات)، بقوله: إنَّ جميع الرواة الذين أروي عنهم هم من كبار المشايخ، وإنَّني أوثِّقهم. ثُمَّ يُطرَح هذا السؤال: ترى أيشمل ذلك أيضاً المشايخ الذين روى عنهم ابن قولويه (بالواسطة) كما يشمل مشايخه المباشرين؟ لقد اختلف العلماء في ذلك، فمثلاً المرحوم آية الله العظمى الخوئي كان في البدء - ربَّما ثلاثين سنة - يعتقد أنَّ شهادة ابن قولويه في أوَّل كامل الزيارات تشمل جميع المشايخ المباشرين وغيرهم، إلاّ أنَّه، وفي أواخر عمره، أرسل رسالة إلى ممثِّله في طهران يبدي فيها عدوله عن ذلك الرأي، وأنَّ تلك الشهادة خاصة بالمباشرين. ما أقوله هو: لو أنَّهم سجَّلوا تلك الشهادة، فربَّما نفهم منها غير ما فهمه النجاشي أو الشيخ الطوسي.

الشيخ تجليل: السبب في عدم النقل هو أنَّ كتب الرجال لم تكن مألوفة قبل النجاشي والشيخ، بل كانوا يسجِّلون نصوص الأحاديث فقط. ولم يكونوا يكتبون شيئاً عن الأشخاص، كل ما كان هو نصوص الأحاديث، وإذا كان هناك كلام عن راوٍ، فكان الكلام نفسه مكتوباً من قدح أو مدح. ولم تكن كتابة التوثيقات جارية، بل كانوا

١٤٤

ينقلونه من رجل إلى آخر. كأنْ يعاشر جمعٌ شيخاً لهم لمدة ١٥ عاماً مثلاً، ويأخذون عنه الكثير من دون أن يكون عنده شيء مكتوب، لكنَّها معلوماته المتلقَّاة من مشايخه. وكما انتقلت الأحكام بهذه الطريقة، انتقلت التوثيقات أيضاً. وقد بنى العقلاء على عدم متابعة الشهادات. فعندما ينقل شاهد عدل خبراً ما عن أمرٍ محسوس، يقبله العقلاء ولو كان هناك احتمال أن يكون قد استنبطه، فهم يقبلون بالأمر المحسوس والقريب من الحس.

نعم، إذا كان أمراً غير محسوس، لا يقبله العقلاء كشهادة. ففي الأمر غير المحسوس، إذا كان الناقل خبيراً، فيقبل منه لكونه خبيراً، وليس كشهادة.

ثانياً: إذا لم نقبل بهذا الكلام، فسنصل إلى الانسداد، وعند الانسداد نصبح في حيرة، وليس لدينا غير هذه الروايات، نضطر لخلط الرطب باليابس، أو في الحد الأدنى أن نجعل كلامهم معياراً. ومن باب الانسداد لا بدَّ لنا من الاعتماد على توثيقاتهم، أليس من الأفضل أن نستفيد من هذا الممكن، ولو كان هناك خير منه، لأخذنا به، لكن لا يوجد، هذا هو المتوافر.

* لقد اقتنع بعض الفقهاء بعدم إمكانية تحصيل العلم بالأسانيد أو الوثاقة (انسداد باب العلم)، وبالتالي يجوز الاعتماد على الظن مطلقاً؟

الشيخ تجليل: الانسداد مرحلي أيضاً، ولا يجوز العمل مباشرة بأيِّ ظن، بل لا بدَّ من مراعاة مراتب الظن.

* نقصد الانسداد السَّنَدي. إذا كان العُرف بين القدماء لا يقضي بالتوثيقات، فستبقى تلك المشكلة والشبهة، وهي: لو أنَّهم سجَّلوا لنا مستنداتهم التي اعتمدوها في التوثيق، لربَّما استنبطنا منها غير ما استفاده منها الشيخ والنجاشي، إلاّ إذا كان القسم الأخير من جوابكم هو الجواب عن هذا السؤال؛ أي أنَّ معيار العقلاء كان هذا.

الشيخ تجليل: كل يوم كانت جماعة من الرواة تحضر في المجلس، وهذا الشخص كان شيخ الرواية لمدة خمسين عاماً، فكيف لا يعرفونه.

١٤٥

جماعة من الرواة كانوا يعرفون إبراهيم بن هاشم، فكيف نتصوَّر أنَّهم لا يعرفونه. لهذا نقول: إنَّ أحد مصادر توثيقنا هو هذا الأمر، ولعله كان أحد أهم طرق التوثيق لدى القدماء أيضاً. فشيخ الرواية، لا شيخ الإجازة، هو الشخص الذي كانوا يقصدونه كل يوم ليأخذوا الروايات عنه، فجماعة من رواتنا كانوا هكذا.

على أيِّ حال، فإنَّ الأمر المهم هو أنَّ فقهائنا ومحدثينا كانوا يثقون بأولئك، وملأوا كتبهم من أحاديث أولئك، فالكليني - مثلاً - أخذ عن الراوي الفلاني كثيراً من الأحاديث، ويقول في أول كتابه أيضاً: إنِّي جمعت الأحاديث الصحيحة. هذا الاعتماد نفسه مصدر لاستنباط الوثاقة.

ويعتقد آية الله العظمى البروجردي بضرورة عدم الاكتفاء بالمقدار المحدَّد من التوثيقات التي جاءت في رجال النجاشي والشيخ وأمثالهم. هذه الثقة التي منحها القدماء - مثل الكلينيرضي‌الله‌عنه - لأحاديث أولئك، وأصدروا فتاواهم بالاعتماد عليها، هي أفضل وسيلة لإحراز الوثوق بها.

* ذكرتم الشهادات المتأخِّرة عن الشيخ والنجاشي، مثل شهادة العلاَّمة. السؤال هو: إنَّ العلاَّمة مثل الشيخ؛ فقيه وعادل وثقة، ويندر وجود نظير له في علمه، ورغم أنَّه من أهل الخبرة وأهل الثقة والفن وغير ذلك، وعندما يقدِّم شهادةً ما، ويقبل بالشهادة عن حسٍّ، ويرفض الشهادة عن حدسٍ، فكيف يشهد بتوثيق راوٍ عن حدسٍ؛ أي يشهد لِمَا يعمل خلافَه في الفقه، هل هذا مقبول؟

الشيخ تجليل: إنَّه لا يقول: إنَّ شهادتي حُجَّة، فلو قال ذلك لكان قوله خلاف رأيه هو، إنَّه يكتب في الرجال: لقد ثبت لديَّ أنَّ فلاناً موثَّق؛ أي هذا ما فهمته أو استنتجته، ولم يقل: هو حُجَّة عليكم، تماماً كما يكتب في الكتب الفقهية ثبت لديَّ أنَّ حكم الله هو كذا.

١٤٦

* وهل يُعطي في كتاب الرجال رأياً وفتوىً أو شهادةً؟

الشيخ تجليل: علينا أن ننظر هل نعدُّ ذلك شهادة أو لا؟ بالنسبة إليه فإنَّ كل ما لديه هو استنباط. ومصادره محدودة بما هو بين أيدينا، ولم يكن بين يديه أمرٌ آخر وجديد.

* لعله كان؟

الشيخ تجليل: كلا لم يكن، لو كان موجوداً لكتب عنه. نعم، كانت هناك بعض الكتب التي ليست بين أيدينا، لكنَّها كانت في متناول أجلاَّّء العلماء. كانت بيد ابن إدريس مثلاً، خُذ مثلاً على ذلك كتاب(مدينة العلم) للصدوق، فإنَّه ضاع ولا يوجد بين أيدينا، كما أنَّه - على الظاهر - لم يكن في متناول العلاَّمة أيضاً.

على أيِّ حال، إذا وثَّق العلاَّمة أحداً ما، كان توثيقه معزِّزاً لوثاقته؛ أي أنَّه يزيد من حسن ظنِّنا، وعندما نجمع حسن الظن من هنا وهناك قد نحصل على الوثوق. ولا ينبغي القول: إنَّ ذلك لا تأثير له، بل له تأثير، لكن على الفقيه أن لا يكتفي بذلك ليطلق فتواه، بل عليه أن يدقِّق في الأمر بشكل معمَّق بنفسه أيضاً.

إضافة إلى هذا، فإنِّي لا أذكر أنَّ العلاَّمة وثَّق أحداً ما بشكل مستقل، بل كان دوماً يتابع الشيخ والنجاشي.

المتأخرون، من أمثال المرحوم المامقاني والأسترابادي والبهبهاني، كانوا يستنبطون أحياناً، وإلاّ فإنَّ الذي عليه علماء الرجال هو المتابعة، كل واحد كان يتابع مَن سبقه في علم الرجال.

طبعاً لتوثيق العلاَّمة للرجال فائدة أخرى أيضاً، وهي أنَّ هذه النسخة من رجال الكشِّي والشيخ وصلت إلينا، وتصحيح العلاَّمة وتوثيقه يدلاَّن على أنَّ النسخة التي كانت لديه هي هذه النسخة نفسها.

١٤٧

العقلاء يعتمدون كلام الثقة، وقد أيَّد الشارع هذا الأمر. لهذا فإنَّ كيفية الوثوق عقلائية أيضاً. أمَّا الرجل سريع التَّصديق، فليس لنا أن نعتمد على توثيقه. والرجل صعب التصديق إذا لم يثق بالراوي عليه أن ينظر في ما قاله غيره؛ ليرى هل يعنيه ذلك على حصول الثقة لديه أو لا؟ وعندئذ يمكننا أن نتوصَّل إلى الوثوق بأفراد كُثُر لم يبدَ رأيٌ بوثاقتهم. ولا أحدٌ ينكر ذلك. فكيف يمكننا أن نتصوَّر أنَّ شخصاً عاشر آخر لمدة عشرين عاماً، وكان يأخذ الحديث عنه كل يوم، لكنَّه لم يعرف ما إذا كان يكذب على المعصومعليه‌السلام ويزوِّر أحاديثه. على هذا فمَن كانوا من شيوخ الرواية، هم ثقات بلا إشكال.

* إذاً هل يمكننا أن نتجاوز النجاشي والشيخ في توثيق مَن لم يوثِّقاه، لنمنح ثقتنا لكل مَن يثبت أنَّه كان شيخ الرواية أو شيخ الإجازة؟

الشيخ تجليل: نعم، وخصوصاً أنَّ الشيخ والنجاشي حاولا جمع الثِّقات ودوَّنا عرضاً بأسماء آخرين أيضاً.

* إذاً هل يمكن القول: إنَّ الجمود على ألفاظ الرجاليِّين على الشهادة والوثاقة ليس له مسوِّغ؟

الشيخ تجليل: لم يجمد أحد من الفقهاء على تلك الألفاظ، قد يكون فعل ذلك بالنسبة لشخصٍ ما.

* لدينا في قم أساتذة يتوقَّفون في أمر إبراهيم بن هاشم.

الشيخ تجليل: ليس ذلك من بنات أفكارهم، بل قال بذلك مَن سبقهم، وهو المرحوم الهمداني في(مصباح الفقيه)؛ حيث كان يتردَّد عند كل حديث مسند إلى إبراهيم بن هاشم، وكان يقول: صحيح ذلك الحديث أو حسنه، ووجه التردُّد هو عدم وجود توثيق له. لكن لا مجال للتردُّد؛ والشاهد على ذلك آراء فقهائنا الذين عملوا على أساس أحاديثه على مدى القرون. فالمرحوم المامقاني ينقل في الفصل التاسع عشر أو العشرين من كتابه(فلاح السائل) ، حديثاً عن ابن طاووس ورد في سنده إبراهيم بن

١٤٨

هاشم، وبعد نقله لذلك الحديث يقول: (ورُواة هذا الحديث ثقات بالاتفاق). والعلاَّمة البروجردي عندما يصحِّح الأسانيد فيصل إلى إبراهيم بن هاشم فيصححه. لهذا لا يمكننا أن نتخلَّى عنه لأنَّ اسمه لم يرد في رجال النجاشي ولأنَّه لم يكتب إلى جانب اسمه أنَّه ثقة.

* هل المقصود من الجمود هو التردُّد حيال مَن لم يوثَّقوا في كتب الرجال؟

الشيخ تجليل: نعم.

* رغم عدم صحة ما جاء فيه من أنَّه (أول مَن نشر حديث الكوفيين بقم)؟

الشيخ تجليل: نعم، إذا كانت هذه الصفة قد أُسقطت عنه، لكنَّها تدل على أنَّه كان شيخ رواية، وهذا بحدِّ ذاته أمرٌ مهم كما ذكرتُ من قبل. فالقمِّيون كانوا شديدي الدقَّة، فقد أَخرجوا من قم أحد العلماء الكبار لأنَّه كان قد نقل حديثاً واحداً عن شخصٍ ضعيف، فكيف يمكن أن يقبلوا من إبراهيم كل تلك الروايات، فقبوله لديهم ينبئ عن الثِّقة به.

علي بن إبراهيم بن هاشم نفسه نجده، في أول تفسيره، يوثِّق جميع مَن نقل عنهم أحاديث كتابه، في حين أنَّ كثيراً من أسانيد تفسير علي بن إبراهيم تشتمل على إبراهيم بن هاشم، بل ثلث أحاديث كتابه ينقلها عن والده، فكيف لا يكون والده ثقة، ثُمَّ يقوم هو بتوثيقه؟ جميع الذين نَقَل عنهم أحاديثَ كتابه ثقات بلا إشكال.

* نقول في باب الطبقات: (هناك تواتر)، عندما يكون التواطؤ على الكذب محالاً. فهل نأخذ الطبقة كما اصطلح عليها المرحوم آية الله العظمى البروجردي، أو نأخذ القرن معياراً كما حدَّدها المرحوم العلاَّمة الأمينيرضي‌الله‌عنه في باب حديث الغدير؛ حيث يقول: يجب الأخذ في خلافة أمير المؤمنين قرناً بعد قرن. فهل يكون التواتر هكذا أو لا؟

الشيخ تجليل: تعريف التَّواتر هو: ما يفيد القطع. فإذا كانت الأسانيد المتعدِّدة تنتهي إلى شخصٍ واحد، في وسط السند أو في آخره، عندئذ لا تُفيد القطع؛ لأنَّها تعود إلى خبرٍ واحد. فمثلاً مائة شخص نقلوا عن خمسين شخصاً آخرين، ونقل الخمسون عن شخصٍ واحد، ونقل ذلك الشخص عن آخرين، يكون الخبر واحداً ولو كان نقل ذلك الشخص عن خمسين آخرين.

١٤٩

التواتر الذي يُفيد اليقين لا بد من أن تكون أسانيده كثيرة، لدرجة تجعل العاقل - عند ملاحظته لكثرة الأسانيد - يستيقن به، من دون اللجوء إلى القرائن. هذه الكثرة تُفيد اليقين عندما لا تنتهي إلى شخص واحد. أمَّا إذا انتهت إلى شخص واحد، في وسطها أو في آخرها، عُدَّت خبرا ًواحداً غير متواتر.

ثُمَّ إنَّ التواتر على أقسام:

[القسم الأول:] التواتر اللَّفظي ؛ أي أنَّ لفظاً معيناً صدر عن الإمامعليه‌السلام في مجلس في اليوم الفلاني والساعة الفلانية، كصدور حديث غدير خم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام جماعة، هذا قسم من التواتر. وإثبات التواتر في هذه المسألة تترتَّب عليه مساحة واسعة.

المرحوم الأمينيرضي‌الله‌عنه أراد أن يختصر عمله، فقسَّم الرواة إلى قرون، وسجَّل أسماء الأشخاص الذين نقلوا حديث الغدير في كل قرن، هذا ما فعله هو، لكن القرن يشتمل على ثلاث طبقات. لكنَّه لمَّا كانت تواريخ وفيِّات الرواة مدَّونة، وأراد أن يُسهِّل الأمر، أتخذ كل قرن بقرنه، ولم يكن يقصد اعتماده.

القسم الثاني من التَّواتر هو:التَّواتر اللَّفظي، فننقل لفظاً معيناً، لكنَّه لم يصدر في مجلس واحد. مثلاً ممَّا حصلتُ عليه من روايات أهل السُّـنَّة أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحدَّث بحديث الثَّقلين في ثلاثة أماكن مختلفة، وفي فواصل زمنية منفصلة، آخرها عندما أراد توديع أمَّـته، فتوجَّه إلى المسجد آخر مرَّة، وأعاد عليهم حديث الثَّقلين. هذا نوع من التواتر، وهو يثبت أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ولو بشكل مُجمل - تحدَّث بهذا الحديث في إحدى تلك المرَّات بشكل قطعي.

القسم الثالث من التَّواتر هو:التَّواتر المعنوي، وهو أن يُنقل حكمٌ ما بالتَّواتر، لكن ليس من إمام واحد، بل من أئمة متعدِّدين، فيُنقل إلينا هذا الحكم من مجالس وتواريخ وعبارات وألفاظ متعدِّدة، لكن عندما نضعها إلى جانب بعضها بعضاً، نجد أنَّ أصل صدور الحكم عن المعصومعليه‌السلام أمر قطعي.

١٥٠

القسم الرابع من التَّواتر هو:التَّواتر الإجمالي ، وهو عندما تكون الروايات لا تحمل المعنى نفسه، بل لكل منها معنى مختلف، لكن عندما نجمعها نتيقن بأنَّ بعضها صادر عن الإمام، فيثب لنا تواتر ذلك المقدار المشترك في ما بينها من دون خصوصيَّاته، ولدينا الكثير من هذا النوع من التَّواتر.

وأنموذجاً على ذلك: ادَّعى أحدهم أخيراً أنَّه قد استفاد من ظاهر القرآن أنَّ قصر الصَّلاة يختص بحالات الخوف. أمَّا في السفر الآمن، فمهما طال يجب أن يتم المسافر صلاته. وهذا الكلام يَرُدُّه أنَّ أحاديث قصر الصلاة جاءت في أبواب مختلفة، وشملت ما يقارب المئتين وخمسين حديثاً. ومن هذا التواتر الإجمالي نتيقَّن بوجوب قصر المسافر لصلاته. في حين أنَّ بعض هذه الأحاديث يتناول قصد الإقامة، وبعضها الآخر المسافة، وغيرها مستثنيات المسافة، لكنَّها جميعاً مشتركة في أنَّ أصل قصر الصلاة للمسافر أمر مُسلَّّم به. إضافة إلى أنَّ ظاهر القرآن لا يُفيد ذلك.

* مرَّ بنا في الأسئلة السابقة، أنَّ المعيار الذي اختلف فيه المرحوم آية الله العظمى البروجردي وآية الله العظمى الخوئي في شأن ما إذا كان إعراض الأصحاب يوجب وهن الحديث، وعمل الأصحاب يجبر ضعف السند، فيرى المرحوم آية الله العظمى البروجردي أنَّه كلَّما ازدادت صحَّته ازداد وهنه، وكلَّما ازداد وهنه ازدادت صحَّته. والمرحوم آية الله العظمى الخوئي لا يؤيَِّد ذلك؛ فهو لا يرى في إعراض الأصحاب ما يُوجب الوهن فيه، كما أنَّه لا يرى في عمل الأصحاب ما يجبر الضعف. في حين أنَّ بعض تلامذة المرحوم الخوئي يقولون بالتفصيل، فيرون أنَّ الإعراض يُوجب الوهن، وأمَّا عمل الأصحاب، فلا يجبر الضعف.

لذا نريد أن نتعرَّف إلى رأي المرحوم آية الله العظمى البروجردي في ذلك، والمقدِّمات التي أوصلته إلى تلك النتيجة؟

١٥١

الشيخ تجليل: المرحوم آية الله العظمى السيد الخوئي تفرَّد بهذا الرأي من النَّجفيِّين، وإلاَّ فالمرحوم آية الله الحكيم، وصاحب الجواهر، والمرحوم الهمداني وسائر الفقهاء البارزين في النجف الأشرف، لم يكونوا يقولون برأيه. وعلى حد علمي ليس هناك فقيه آخر يقول بذلك. فتلك شبهة برزت في رأي المرحوم آية الله العظمى الخوئي، ثُمَّ تبعه فيها آخرون من بعده.

في الشقِّ الأول من المسألة كلامه مقبول، فعندما نجد سنداً ضعيفاً، لا يمكننا الأخذ به عندما يثبت لنا خلافه، حتى لو قبله الآخرون. فمثلاً في المسائل الفقهية، إذا استنبطتَ أمراً، استنبط غيرك خلافه، فلن يكون استنباطه حُجَّة عليك. فمن الطبيعي أن لا يرجع الخبير إلى خبير آخر، بل عليه أن يستنبط بنفسه.

ولكن عندما ندقِّق أكثر في مبدأ الوثوق، نجد أنَّ الوثوق يحصل عند العقلاء من جهات مختلفة، ومن جملة تلك الجهات وثوق الآخرين. فعندما نرى أنَّ أهل الخبرة والاطلاع والدراية بالرجال يثقون بهذا الشخص، فمن الطبيعي أن نثق به أيضاً. وقد أسلفتُ أنَّ الفقهاء لا يفتون بحكم الله من دون حُجَّة؛ لأنَّه(مَن أفتى بغير علمٍ، فليتبوَّأ مقعده من النار) ، والفتوى بغير علم في نظري هي من أكبر الكبائر. فقد يرتَّكب الإنسان معصية بينه وبين الله، ولا يجرَّ الآخرين معه نحو الضلالة، لكن عندما يجرُّ الآخرين نحو المعصية، فمن الصعب جداً أن يغفر الله له. وعندما يفتي فقهاؤنا (رضوان الله تعالى عليهم) طوال قرون استناداً إلى هذا الحديث الشريف، ألا يدل ذلك على أنَّه كان ثقة عندهم؟

١٥٢

بناءً عليه، عندما يكتب الفقهاء أنَّ هذا السند ضعيف، ثُمَّ يفتون به، فإنَّ عملهم هذا يدل على وثوقهم بمضمون الخبر، أو على الأقل لا بدَّ من وجود تسويغ لقبول هذا الحديث. أمَّا بالنسبة إلى الإعراض، فعلينا أن نقول: إنَّ الإعراض هو بالشكل الآتي:

قد يكون هناك إنسان صادق، ولم يكذب طوال عمره، لكنَّه أخطأ في عمره مرَّة واحدة، ولم يكن خَطَؤُهُ عن عمد، فنقل سهواً، كأن لم يسمع بدقة، أو كان منشغلاً بأمرٍ آخر، فتحدَّث الإمامعليه‌السلام بحديث، فسمعه الرجل خطأ، ثُمَّ حدَّث به خطأ، لكن ليس عن عمد، بل كان يعتقد بأنَّ الإمام تحدَّث هكذا. لكن عندما ينفي أصحاب الإمام الخاصِّين وبطانته - حسب تعبير العلاَّمة البروجردي - كلامه، فهؤلاء هم أهل السرِّ، ويعرفون آراء الإمام، فيقولون: كلا، ليس الأمر كذلك، أنت مخطئ، عندئذ يكون الأمر بشكل آخر.

* ما هو رأيكم بكتاب (كامل الزيارات)؟

الشيخ تجليل: خلال مرحلة إعدادي لكتاب (معجم الثقات)، كنتُ أريد أن أجمع كل مَن ورد توثيق في حقِّه، ولو لم يكن ثقة عندي. لهذا أوردتُ رواة كتاب(كامل الزيارة) و(تفسير علي بن إبراهيم). وفضلاً عن هذين الكتابين، فإنَّ الشيخ الطوسي يتحدَّث في كتابه(عدَّة الأصول)، فيذكر أسماء ثلاثة: صفوان بن يحيى، ابن أبي عمير، وأحمد بن أبي نصر البزنطي؛ فيقول: (عُرِفوا بأنَّهم لا يروون إلاَّ عن ثقة) وعرفوا هنا لا تعني أنِّي أرى أنَّهم لا يروون إلاَّ عن ثقة؛ بل تعني أنَّ الفقهاء هكذا ذكروهم، أو الرأي المشهور للفقهاء هو هذا، لكنِّي لا أجد هذا الكلام في النسخة الحالية لكتاب (عدَّة الأصول)، وصاحب (وسائل الشيعة) يشهد بهذا الأمر، إذ ينقل الكلام نفسه؛ ما يعزِّزه، ويفتح لنا الطريق للاعتماد عليه.

١٥٣

لهذا قمتُ باستقصاءمَن يروي عنه صفوان، وابن أبي عمير، والبزنطي. كما أنَّ الأسانيد المنتهية إليهم لا بد من أن تكون موثَّقة أيضاً، وسلسلة السند إليهم لا بد من أن تكون صحيحة. ثُمَّمَن استُنبطتْ وثاقته، أي أولئك الذين يمتلكون الأدلة التي جعلت المتأخِّرين يعتقدون بالوثاقة اعتماداً عليه، ومَن ورد فيه رواية أو مدح؛ بحيث يُستَنبط منها الثقة بهم،جمعتُ كلَّ أولئك؛ لكن كلاًّ لوحده،إضافة إلى أولئك الذين جاء فيهم توثيق خاص ، فأصبح الكل في أربع مجاميع.

وبما أنَّ الفقهاء لهم آراء مختلفة تبعاً للمبادئ التي يعتمدونها في علم الرجال والدراسة، قد يقبل بعضهم بتوثيقات(كامل الزيارات)، ولا يقبل بها آخرون؛ لذا وضعتُ كلاًّ منها في شكلٍ مستقلٍّ عن الآخر.

القسم الأول: مَن جاء فيهم توثيق خاص، وهم أكثر من مائة بقليل.

القسم الثاني: مَن روى عنه الثلاثة المذكورون، أتيتُ بهم مع السند والأدلة بشكل مختصر. لكنِّني اكتفيت من الكتب الأربعة بالوافي؛ لأنَّه جمع الكتب الأربعة، والوسائل لم يجمعها كلها، بل جمع الفروع فقط ولم يجمع الأصول. وأسانيد الوافي نُظِّمت بشكل أفضل، ودراستها أسهل.

القسم الثالث: لأنِّي لم أكن مطمئناً لاستفادة الوثاقة من شهادة مؤلِّفكامل الزيارات، قمتُ بذكر مَن روى عنهمكامل الزيارات بخط صغير، وكذلك الأمر بالنسبة لتفسير علي بن إبراهيم.

القسم الرابع: الأشخاص الذين لم يوثَّقوا بصراحة، ولكن مُدِحوا أو وُصِفوا بأوصاف ربَّما يُستكشف منها الوثاقة.

أمَّا رأيي فيكامل الزيارات، فإنِّي أستبعد الرأي الأخير للسيد الخوئي في توثيقه لمشايخه وأساتذته المباشرين فقط؛ ذلك لأنَّه لا بد لنا من أن نرى ماذا يريد ابن قولويه أن يقول في مقدِّمته. عندما ندقِّق في المقدِّمة، نجد أنَّه يُريد أن يُثبت الثقة بالكتاب وبأحاديثه التي جمعها فيه. ويُؤكِّد أنَّه مُعتدٌّ بها، وأن يقول: لا تتصوروا أنَّني جمعتُ الأحاديث التي بلغتني من دون تدقيق. إنَّه يُريد إثبات قيمة كتابه، وإلاّ فأيَّة ثمرة تُجنى من مجرَّد كون الراوي الأخير ثقة، وهو ينقل عن الضعاف؟

١٥٤

من ناحية ثانية، إنَّنا نرى وجود ضعاف في أسانيدكامل الزيارات. ومَّن كان منهم موسوماً بالضعف صراحة ومشهوراً بالفسق، لم يكن أمره خافياً على ابن قولويه، فكيف نتعامل معهم؟

إنَّ ما أراه يختلف عن رأي سماحة السيِّد الخوئي، فالمراد بالثقة عند صاحبكامل الزيارات ، هو: الثقة في نقل الحديث، الأمر الذي ثبت لديه بالقرائن، كما لو نقل أحد مبغضي آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضيلة لهم، فيُعلم لدينا أنَّه صادق في قوله ذاك.

أمَّا محمد بن سنان وأمثاله، ممَّن يُضعِّفهم بعض العلماء، فلديَّ كلام أيضاً عليهم. إنَّهم يقولون عن محمد بن سنان: إنَّه كذَّاب، فكيف نعمل بأحاديثه؟ فيدعون أحاديثه جانباً، لكنَّنا، في الجانب الآخر، نجد أنَّ القدماء (رضوان الله عليهم) ينقلون رواياته، فالكليني، مثلاً، يقول في أوَّل كتابه الكافي: إنِّي أنقل الأحاديث الصحيحة، ونجد أنَّه ينقل كثيراً من الأحاديث عن محمد بن سنان.

الأمر اللاَّفت للنظر هو أنَّ محمد بن سنان، وأمثاله من الغلاة، يُنْعَتُون بالكذَّابين؛ لغلوِّهم، لا لأنَّهم يكذبون، بل بمعنى أنَّهم يقولون كذبة كبيرة؛ حيث يقولون في الأئمة قولاً نرفضه. فهل من الإنصاف أن ننعته بأنَّه ينقل عنهم كذباً، في حين أنَّنا نحن نعدُّ الأئمة أئمة، ونخشى أن نكذب عليهم، فكيف بمَن يعتقد بربوبيتهم، أتراه يكذب عليهم، وبخاصَّة في أحاديثهم الفقهي؟ نعم، لنا أن نرفض ما يأتي به في إثبات غلوِّه، أو ما يزوِّّره لمصلحته.

١٥٥

أسس التَّطوير الفقهي، حوار مع الشَّيخ جعفر سبحاني

يُعدُّ اسم الأستاذ جعفر سبحاني، عند الذين ألِفوا البحوث الفقهية منذ زمنٍ مديد، اسماً مشهوراً؛ فقد أمضى سنين طوالاً في التدريس والبحث، مُستفيداً من قدرة الفهم والإبداع؛ ما جعل منه صاحب رأي في مختلف المسائل الدينية، وصب كل اهتمامه - وبكل ما أوتي من قوة - على المحافظة على الكيان المعنوي للمجتمع الإسلامي، ولم يدَّخر وسعاً في هذا المضمار.

إنَّ تربيته المئاتَ من الطلبة، وكتابته عشرات الكتب والرسائل؛ لدليل صادق على هذه الجهود المضنية التي بذلها.

ونغتنم هنا الفرصة التي أتاحها لنا، لنطرح على سماحته مجموعة أسئلة في مجال أسس المعرفة وبعض الشُّبهات التي تثار حول بعض المسائل الفقهية.

ومع شكرنا الجزيل لسماحته، نضع بين أيدي النخبة المثقَّفة من القُرَّاء نصَّ هذا الحوار.

* مع شكرنا الجزيل لإتاحتكم هذه الفرصة لنا، وفي سبيل افتتاح هذا البحث، حبَّذا لو تفضَّلتم بالتعريف بالدور الذي تؤدِّيه الخلفية الفكرية والمعرفية والوجودية والإنسانية للفقيه، في استنباطه الأحكام الشرعية؟

الشيخ سبحاني: لا يوجد فقيه بمقدوره أن يستنبط حكماً من دون اعتماده على مجموعة من الفرضيَّات البديهية المسبَّقة؛ وذلك لأنَّ الفقيه ليس حالة معزولة يستطيع أن يستنبط الحكم الإلهي من غير التأثُّر بتاريخ حياته مع أمه وأبيه، وبيئته العلمية، واتصاله بالمجتمع.

١٥٦

وليس ذهن الفقيه وحده الذي لا يخلو من الفرضيَّات المسبَّقة، بل إنَّ علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء، أيضاً، يكتشفون القوانين والمعادلات باعتمادهم على سلسلة من الفرضيَّات البديهية المسبَّقة. وعلى هذا ينبغي أن نضيف إلى سؤالكم أمراً آخر، وهو أنَّ الفرضيَّات المسبَّقة نوعان:

١ - فرضيَّات مسبَّقة مشتركة، يتمكَّن العلماء بوساطتها من الاستمرار في بحوثهم؛ فالفقيه، مثلاً، يتمكَّن من الاستنباط اعتماداً على مجموعة من القواعد الأدبية واللُّغوية والمبادئ البديهية، المتَّفق عليها من قبل الجميع. كما يتمكَّن علماء الرياضيات من الخوض في أبحاثهم من خلال القبول بجدول الضرب، وكذلك عالم الكيمياء يتابع أبحاثه بعد قبوله بتصنيف مندلييف الدوري للعناصر الكيماوية. وعلى هذا، فليس بمقدور أيِّ باحثٍ أن يُقدِم على البحث من غير اعتماده على الفرضيَّات البديهية. وهذا النوع من الفرضيَّات لا نقاش فيه.

٢ - وفي ما يتعلَّق بالفقيه، فإنَّ الأمر المطروح هو أنَّه يمكن للبيئة التي نشأ وترعرع فيها أن تؤثِّر في بعض آرائه. وهنا نورد أمثلة لذلك:

يميل الفقهاء الذين يعيشون في بيئة تكون فيها أنابيب الماء إمَّا قليلة أو منعدمة، وحيث ينتفع الناس من الماء القليل - وبسبب المعضلات القائمة - إلى القول بعدم (انفعال الماء القليل بملاقاته المُتنجِس). بينما الفقهاء الذين يعيشون في المدن الكبيرة، ويستفيدون من نعمة شبكة أنابيب المياه، ولا يعانون من شُحِّ المياه، يفتون - بموجب رواية أو روايتين - بانفعال الماء القليل بملاقاة المُتنجِس، ولا يعبأون بالأدلة التي تُعارض آراءهم.

والنتيجة المستخلَصة هي:إنَّ المعضلات التي تواجه الفقيه تكون أحياناً دافعاً للفقيه للبحث عن حلِّها .

وشبيه بهذا ما يُلاحظ في مناسك الحج؛ فالفقيه الذي يُعاين صعوبات الحج عن قرب، يقل احتياطه في فتاواه، خلافاً للفقيه الذي يُراقب عن بُعد، فإنَّ احتياطاته في الحج كثيرة.

١٥٧

وقد قيل قديماً:(الحاجة أم الاختراع) ؛ ولذا فإنَّ مسائل شركات التأمين، أو بيع الامتيازات، والشركات الحديثة، تدعو الفقيه إلى الخوض فيها واستنباط الأحكام لها؛ بينما الفقيه المتقدِّم؛ وبسبب عدم الحاجة لأجوبة عن مسائل كهذه، لا يُفكِّر بالعثور على أجوبة لها، وغالباً ما يرفضها ولا يراها صحيحة.

وبطبيعة الحال، فإنِّ هذا النوع من الاحتياجات المختلفة، لا يُشكِّل إلاّ نسبة مئوية ضئيلة من المسائل الفقهية. وأمثال هذه الافتراضات غير موجودة في الأمور التي هي محل للابتلاء؛ بحيث تُؤدِّي إلى ظهور اختلاف في الفتاوى، فمثلاً أحكام مُبطلات الصوم والصلاة لم تتغيَّر عِبر الزمان.

ويتَّضح من هذا أنَّ الأمور التي لا علاقة لها باستنباط الفقيه، لا يُؤثِّر وجودها أو عدم وجودها في استنباطه. ومن ذلك المسائل المتعلِّقة بنظرية المعرفة في الفلسفة الإسلامية؛ ممَّا يبحث في موضوع الوجود الذهني أو مواضع أخرى منه. وكذلك قضايا الوجود، وهل أنَّ الأصالة للوجود أو للماهيَّة، والقضايا المتعلِّقة بمعرفة الإنسان ومعرفة غرائزه وذاته، تترك أثراً في تفكير عالم الأخلاق، وليس في نمط تفكير الفقيه.

والخلاصة هي أنَّه ينبغي تحديد الفقه ومبادئه. وسنرى، في هذه الحالة، أنَّ هذا النَّوع من المعلومات لا يُؤثِّر في استنباط الفقيه،وغالباً ما يكون المؤثِّر في الفقه هو الحاجة أو عدم الحاجة ؛ حيث تحدوا الحالة الأولى بالفقيه إلى التفكير بتلبية تلك الحاجة. لكن البحث الموجود في علم الفلك في شأن محورية الأرض أم محورية الشمس، وما إذا كان القبول بالنظريات البطليموسية أو الكوبرنيكية، لا يُؤثِّر أيٌّ منهما في استنباط الأحكام الفقهية؛ ولذا فليس معقولاً القول: إنَّ التطوُّر الحاصل في علوم الرياضيات والفيزياء سيؤدِّي إلى إحداث تطوُّر في علم الفقه.

فمثلاً، إنَّ معرفة المسافة بين كوكبين بشكل أكثر دقَّة، لن تكون سبباً في زعزعة أسس القواعد الأدبية. فالمعروف أنَّ تأثير علمٍ ما في علم آخر لا يمكن أن يتمَّ ما لم تكن هناك علاقة بين الاثنين؛ ولذلك فإنَّ علوم اللغات الفارسية، والعربية، والصينية، والرومانية، ثابتةٌ وراسخة، بينما حدثت الثورة الكوبرنيكية في علم الفلك وأبطلت النظرية البطليموسية ولم تتأثَّر تلك الأدبيات بما حصل من تطوُّرات فلكية.

١٥٨

ونودُّ هنا التذكير بأنَّ القول بتأثُّر الفقهاء بالمتغيِّرات أمرٌ لا يقتصر على الفقهاء، بل إنَّ الجنس البشري والعلماء هم على هذه الشاكلة. فقبل مائة عام لم تُخْطَ خطوة واحدة في علاج السرطان؛ لأنَّه كان مرضاً نادراً. أمَّا اليوم، حيث انتشر بشكل واسع، فإنَّ العلماء - وبدافع من الحاجة - مندفعون للبحث عن علاجٍ له. وكان الناس، في ما مضى، ينتفعون من أنواع الوقود الشائعة الاستعمال، لكنَّهم يعلمون اليوم أنَّهم سيواجهون في المستقبل نقصاً في الوقود المستخرَج؛ وقد أدَّى هذا الأمر بالناس إلى البحث عن إمكانية الاستفادة من الطاقة الشمسية والذَّرِّية مثلاً.

ونخلص من ذلك إلى أنَّ الفرضيَّات المسبَّقة على نوعين:

١ - الفرضيَّات العامة التي تخطر في أذهان العلماء جميعهم.

٢ - الفرضيَّات الخاصة المتأثِّرة بمعطيات خاصَّة؛ مثل البيئة التي يعيش فيها الفقيه، والتي بإمكانها التأثير في كيفية الاستنباط، لكن بشكلٍ نادر جداً.

ومهما يكن، فإنَّ مواجهة مشكلة جديدة تحتاج إلى جواب فقهي، تُؤدِّي إلى أنْ يبذل الفقيه جهداً أكبر للعثور على حلول لها من الكتاب والسُّـنَّة، بينما لم يبذل الفقهاء المتقدِّمون مثل هذه الجهود بسبب عدم الابتلاء بمسائل كهذه.

* ما هو دور الفقه في تحديد الموضوع؟

الشيخ سبحاني: الموضوعات، في الفقه الإسلامي، على نوعين:

النوع الأوَّل: أحياناً يتولَّى الفقه تحديد الموضوع، مثل: إنَّ الكرَّ من الماء غير قابل للإفعال، وكذلك تحديد الإسلام لمدَّة الصوم - الذي يعني في اللغة العربية الإمساك بالمعنى المطلق - ما بين طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وما شابههما ممَّا يُحدِّده الشارع المقدَّس نفسه.

١٥٩

والنوع الثاني: ويشمل الموضوعات التي وضع حكمها تحت عنوان عام، وأُوكِل تحديد مصاديقها وموضوعاتها إلى العُرف؛ مثل السجود على الأرض، حيث يُعدُّ أرضاً كل ما عدَّه العُرف كذلك، أو بحث النجاسات الوارد في الفقه، حيث عُدَّ البول والدم نجسين، إلاَّ أنَّ تحديد مصاديقهما أُوكِل إلى العُرف.

وعلى هذا، فحيثما حدَّد الفقه جميع خصائص الموضوع، فإنَّ الفقيه والعُرف هما في مستوى واحد من وجهة نظر تحديد الشارع المقدَّس. ولكن في الحالات التي يكون فيها الحكم موضوعاً تحت عنوانٍ عام، فإنَّ تحديد مصاديقه يُحال إلى العُرف، ويكون الفقيه حينها تابعاً للعُرف.

* نصل هنا إلى سؤال يمكن أن يكون مطروحاً من قبل الكثيرين؛ وهو أنَّه مع الأخذ بنظر الاعتبار مختلف الآراء، إلى أيِّ مدى تصل حرية رأي الفقيه؟ هل يمكن لرأي الفقيه أن يؤثِّر في ضروريات الدين أو ضروريات الفقه؟

الشيخ سبحاني: إنَّ عمل الفقيه ليس وضع الأحكام، بل هو اكتشاف الحكم الإلهي اعتماداً على الكتاب والسُّـنَّة. وعلينا أن نُفرِّق بين المخترِع والمكتشِف. فالمخترِع يبتكر من عنده، ويُوجِد شيئاً لم يكن موجوداً من قبل، بينما المكتشِف يكتشف شيئاً كان موجوداً من قبل، لكنَّه مختفٍ خلف ستار، فيُميط عنه الستار ويُظهره. كان عمل نيوتن اكتشاف حقيقة واقعة كان البشر عنها غافلين؛ أي قانون الجاذبية. بينما كان ما أنجزه الأخوان (رايت) هو اختراع آلة لم يكن لها وجود من قبل؛ حيث تمكَّنا - باتخاذهما الطبيعة أنموذجاً، ومع أخذهما بنظر الاعتبار مجموعة قوانين طبيعية - من صنع شيء جديد يُدعىالطائرة .

١٦٠