الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 177

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف:

الصفحات: 177
المشاهدات: 21136
تحميل: 6389


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21136 / تحميل: 6389
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

فلو أرادت جماعة بشرية - مثلاً - أن تتحرَّك في طريق التنمية الاقتصادية وتحقيقها، فالقرار في هذا الشأن متروك لها، إن شاءت اتَّخذته، وإن شاءت لم تتّخذه. الأمر الذي يرتبط بالكتاب والسُّـنَّة، في هذا المجال، هو أنَّ على هذه الجماعة إذا قرَّرت أن تتحرَّك باتجاه التنمية، أن تعود إلى الكتاب والسُّـنَّة، لتعرف من خلالهما النواهي (المحرَّمات) الإلهية؛ كي لا ترتكبها وتمارس الفعل الحرام في التنمية. ومعنى ذلك أنَّ دور الكتاب والسُّـنَّة، في مسألة التنمية الاقتصادية، هو أن يبيِّنا ما لا يجب وما لا يليق، لا أن يبيِّنا ما يجب وما ينبغي.

هذا الأنموذج يكشف عن ضرب آخر من ضروب العودة إلى الكتاب والسُّـنَّة، يُبنى على فهم جديد لحقيقة الوحي ودوره. الرؤية الأولى تجعل ما يُرجى من الكتاب والسُّـنَّة يمتد ليشمل كل فضاءات الحياة ومجالاتها. أمَّا الرؤية الثانية، فإنَّها تقصُر الدائرة في حدود المحور الأصلي لحياة الإنسان؛ أي الحياة المعنوية (دائرة اجتناب الذنوب والتقرُّب إلى الله)، وتصرف مهمَّة الكتاب والسُّـنَّة إلى هذا المحور. أمَّا حركة الإنسان في أبعاد الحياة الاُخرى المتمثِّلة بإيجاد التمدُّن، والثقافة، والعمران، وأمور المعاش، فتوكل إلى الإنسان نفسه؛ بمعنى أنَّ هذه الرؤية تترك الإنسان حرَّاً، وتوكل إليه ممارسة الوسائل والأدوات للحياة في هذا العالم.

لاحظوا أنَّ أمامنا نمطين من الترقُّب والتوقُّع لكيفية الحصول على الأحكام من الكتاب والسُّـنَّة، ينتهيان إلى رؤيتين مختلفتين بشأن حقيقة الوحي ودوره في حياة الإنسان. والأمر المهمّ الذي يربطنا بالموضوع، أنَّ هاتين العقيدتين أو الرؤتين هما - في حقيقتهما ومضمونهما - تعبير عن عقائد ومتبنَّيات فلسفية وكلامية. وهناك مسائل أخرى تدخل في تدخل في تأليف هذه الأفكار والمعتقدات الفلسفية والكلامية وتكوُّنها.

٢١

على سبيل المثال: لو عاش الفقيه في عصر تزدهر فيه التنمية الاقتصادية، بحيث تكون التنمية إحدى الضرورات، وتكون الحياة العادية المألوفة هي الحياة التي تقترن مع مستلزمات الصناعة، والمستلزمات الاجتماعية والثقافية للحالة الصناعية؛ لو عاش الفقيه في عصر كهذا وألِفَه وقَبِل ضرورات التنمية الاقتصادية، ومستلزمات الحياة الصناعية، فإنَّه سينطوي - أراد ذلك أم لم يرد - على رؤية كونية خاصة تتَّسق مع هذا اللون من الحياة؛ أيْ تتَّسق مع التمدُّن الجديد، وسيكون لهذه لرؤية الكونية أثرها في أفكار هذا الفقيه الفلسفية ومتبنَّياته الكلامية.

هذا الفقيه سيفهم الوحي ويتلقَّاه ويفسِّره بطريقة تتَّسق مع التمدُّن الجديد، لا أن ينفيه ويحكم عليه بالفناء والزوال، وفقيه كهذا سينظر إلى دور الكتاب والسُّـنَّة، في تنظيم الحياة المتمدِّنة وضبط العلم والصناعة، أنَّهما يقومان فقط بدور رعاية القيم المعنوية أثناء طيِّ هذا المسار، لا أن يبيِّنا أدوات هذا التنظيم ووسائله، ولا أن يحكما بالفناء والزوال على التمدُّن والعلم والصناعة. وبذلك تكون أسئلته أسئلة خاصة متطابقة مع هذه الرؤية، والأجوبة التي ينتظرها لا تخرج عن هذا البُعد.

ما نراه واضحاً هو:دخول العلوم، والفلسفة، والوضع الحضاري، وحالة العصر، في تكوين رؤية الفقيه وما ينتظره من الكتاب والسُّـنَّة.

ويمكن، في النقطة المقابلة، أن يعيش الفقيه في عصر يفتقر للعلوم والتمدُّن والصناعة والأوضاع المرتبطة بها، فحينئذٍ يكون من السَّهل لمثل هذا الفقيه أن ينهض من نومه صباحاً، ويقول: لا أعود إلاّ إلى الكتاب والسُّـنَّة؛ بحيث أحصل منهما على شرح كامل لجميع ما ينبغي أن أفعله وما لا افعله. بَيْد أنَّ الذي حصل هو أنَّ فقهاءنا الماضين، مع عدم معاصرتهم لأوضاع شبيهة بالحضارة الجديدة، كانوا يقبلون مقتضيات عصورهم.

٢٢

هنا بودِّي أن أستطرد قليلاً وأؤكِّد: أنَّ التشتُّت الذي نراه، في كثير من الفتاوى، يعود إلى عدم توجُّه الحوزات الفقهية إلى دور المباني الفلسفية، والكلامية، وطبيعة الرؤية الكونية للفقيه. فلو توافرت البحوث الكافية في هذه المباني ونُقِّحت؛ لأدى ذلك إلى اختفاء أغلب عناصر الاضطراب في الفتوى، ولو تمَّ التدقيق في هذه المباني الفلسفية والمرتكزات الكلامية، وفي الرؤية الكونية، على قدر التدقيق الحاصل في البحث الأصولي، لأمكن أن تختفي الكثير من النقاط البارزة غير الفاعلة التي تظهر على الفقه، وبخاصة في المعاملات، ويذهب ما يعتور السياسة الفقهية من ضياع وحيرة على هذا الصعيد.

فما نحتاج إليه من أجل ذلك، هو بحوث شافية ووافية، ناظرة إلى المسائل الفلسفية والكلامية المعاصرة، وإلى ما يشهده العالم من تصوُّرات في الرؤية الكونية ومبانيها. والذي يؤسَف له أنَّه حتّى لو تمَّ الانتباه في حوزاتنا العلمية إلى الفلسفة والكلام، فإنَّ الذي يبقى غائباً في هذا المضمار هو طبيعة العلاقة بين هذه المباني وبين الفقه والاجتهاد.

التصوّر السائد هو أنَّ الفقيه لا يحتاج إلى الفلسفة والكلام، بل ثَمَّة ما هو أكثر، إذ يُتَصَوَّر أنَّ الفقيه الذي يتجاهل الفلسفة والكلام يحظى فقهه بحظٍّ أوفر من الصَّواب. فقد جرت العادة أنْ يُسأل الفقيه عن مبانيه الأصولية في الفتوى، وأحياناً تتعرَّض هذه المباني للنَّقد، بَيْدَ أنَّه لا يُسأل عن مبانيه الفلسفية والكلامية وعن رؤيته الكونية التي سَرَت إلى علم الأصول ونفذت إليه، وتركت آثارها بالتالي على فقهه، ولا تتعرَّض هذه المباني إلى النَّقد أبداً، فلا أحد يسأل الفقيه عن طبيعة الأصول الفلسفية والكلامية والرؤية الكونية التي أقام فقهه على أساسها؟ وبسبب هذه الغفلة عن المبادئ والمباني الأوّلية، ترى أنَّ كلَّ شخص يفتي بما يشاء، من دون أن تتوافر ضوابط واضحة لإنهاء حالة التشتُّت والاضطراب هذه.

٢٣

أنا شخصياً لا أشكُّ في أنَّ طريق إصلاح منهج الفقاهة والاجتهاد يتمثَّل في أن تعتني حوزاتنا العلمية،في المرتبة الأولى ، بحقل(الإلهيات) (الرؤية الكونية)؛ أي معارف التوحيد، ثمَّ تُعنى،في المرتبة الثانية ، بحقول الفقه والاجتهاد؛ أي أنَّ الجهد الأهمّ ينبغي أن يبذل في إطار حقل معارف التوحيد، ثُمَّ يؤسَّس الفقه والاجتهاد ويبنى على ذلك الجانب المعرفي.

أمَّا في مجال الفقه والاجتهاد، فينبغي، في البدء، أن تُحدَّد ضوابط معيَّنة تندرج تحت عنوان:مقاصد الشريعة ، ثُمَّ يمارس الاجتهاد بعدئذ في إطار تلك المقاصد، وفي إطار تدوين الأصول الكلّية العامة لمقاصد الشريعة، بوصفها الأطر الكلِّية والضوابط العامة للفقه والاجتهاد، وهناك مسائل كثيرة لا مجال الآن للخوض فيها.

على ضوء ما مرَّ، ما ينبغي طرحه على طاولة البحث، في الوقت الحاضر، هوالاجتهاد الفلسفي والكلامي في إطار الزمان والمكان ، وذلك بدلاً ممَّا هو حاصل فعلاً من عرض مسألة الاجتهاد الفقهي في إطار متغيَّرات الزمان والمكان، وذلك بالمعنى الذي يفيد تقدُّم المقولة الأولى على الثانية، وترتُّب المسألة الثانية - من حيث المبنى - على الحصيلة التي يُصار إلهيا في البحث الأوّل.

نعرف أنَّه من المألوف القول - في مواجهة هذه الدعوة -: إنَّ المرتكزات الفلسفية والكلامية قد طُرحت خلال القرون الماضية، واستحكمت مبانيها ونقِّحت بما فيه الكفاية، بحيث لا تحتاج إلى إعادة النظر فيها.

هذه على أيِّ حال نظرية سائدة، لكن ألا ينبغي لحوزاتنا العلمية أن تطرح هذا الادّعاء الكبير على بساط البحث، في أجواء حرَّة ونهج تحقيقي بعيد عن التعصّب؛ لكي يتبيَّن من البحث والمناقشة مقدار ما يتحلَّى به هذا الادّعاء من صحَّة أو سقم؟

٢٤

يمكن أن نُضيف إلى ما مرَّ، أنَّ مبانينا الفلسفية والكلامية في السابق لم تكن تطرح بشكل حيٍّ، وبنحو يُبيِّن علاقتها بالفقه والاجتهاد المتداول في الحوزات؛ لذلك يحصل أحياناً أن تصدر فتوى ليس لها صلة بتلك المباني الفلسفية والكلامية المتبنَّاة، ولا تتناسب وإيَّاها.

كما يقال أحياناً: إنَّ المِلاك في الفقاهة والاجتهاد هو الفهم العُرفي للكتاب والسُّـنَّة، وفي تحقيق الفهم العُرفي لا دخل أبداً للمباني والمقدِّمات الفلسفية والكلامية، ولا أثر للرؤية الكونية. هذا الكلام يخضع لنقاش واسع، فالفهم العُرفي يُبْنى على أساس مجموعة من المقدِّمات والمتبنَّيات العُرفية، وهذه بدورها تؤلِّف نوعاً من الفلسفة، وتستبطن رؤية كونية خاصة، وإن عبَّرت عن نفسها بشكل ابتدائي وبسيط.

إذاً، فالفهم - أي فهم الكتاب والسُّـنَّة - حتّى وإن كان عُرفياً، لا يكون ميسوراً من دون وجود مجموعة مبانٍ فلسفية، ومقدِّماتٍ كلامية، ورؤيةٍ كونيَّةٍ محدَّدة. والسؤال الذي يُطرح في هذا المجال هو:إلى أيِّ مدىً يصحُّ الادِّعاء القائل: إنَّ الفهم الفقهي والاجتهادي للكتاب والسُّـنَّة يجب أن يكون فهماً عرفياً؟ وما هي طبيعة الأدلّة التي تعضد هذه المقولة؟ فالفقهاء في الغالب يفتون على أساس الفهم العُرفي للكتاب و السُّـنَّة، ولكن متى؟ وما هي طبيعة أوضاع الفتوى وشروطها؟ وما هي الظروف الزمانية والمكانية التي تحيط بها؟ حينما نعود إلى جواب هذه الأسئلة، نجد أنَّ ذلك كان يحصل في مجتمع كانت الفتوى تنصرف فيه إلى عمل المكلَّفين، كأفراد فحسب، وفي مجتمع من المجتمعات ما قبل الصناعية، وقبل عصر العلم في موجته المعاصرة، وقبل التخطيط لأجل التنمية الاقتصادية والثقافية والسياسية.

٢٥

لكن ما هو مآل ذلك في الوقت الحاضر؟ عصرنا، الآن، هو عصر الجمهورية الإسلامية التي تقوم على أساس دستور مكتوب، وخُطَّة تنموية أُولى وثانية، وتعيش في ضوء خطط تقوم على أساس العلوم الاجتماعية والإنسانية ذات الصلة، تُهيَّأ من قبل مئات الخبراء و المتخصِّصين. وفي وضع تبحث فيه المسائل الإنسانية من خلال التحوُّلات الاجتماعية، وفي إطار القضايا البشرية العامة، لا من خلال النظر إلى عمل هذا المكلَّف الفرد أو ذاك، في عصر كهذا ينطوي على جميع هذه العناصر والصفات، هل يمكن للفتوى التي ترتبط بالمعاملات وبالسياسة، أن تبقى رهينة الفهم العُرفي المتحدِّر من مئات السنين؟ ثُمَّ هل يمكن البقاء في إطار ذلك الفهم من دون أن تتمَّ الحركة باتجاه فهم يتناسب مع المسائل الإنسانية العامة - والأساسية - المُعاشة، بعيداً عن ذلك الفهم العُرفي المتوارث؟

ما أرمي إليه هو أنَّنا، في هذا العصر، لا نملك إلاّ أن ندع الفهم العُرفي ونتركه جانباً، ونتحوَّل إلى فهم علمي دقيق.

أنا أعتقد أنَّنا اليوم بحاجة إلى أن نُضيف إلى علم أصول الفقه، البحوثَ الجادَّة فيعلم تفسير النصوص (الهرمونطيقا) ، التي كانت قد ظهرت في المائتين والخمسين سنة الماضية، على أن تُدرس في الحوزات العلمية بشكل دقيق وجِدِّي.

فلا يمكن، اليوم، أن نتوفَّر على علم كلام، أو تفسير، أو فقه منقّح، من دون الاطّلاع على هذه البحوث ومعرفتها، وما يُهمله مفكِّرونا المعاصرون في شأن تفسير المتون الدينية في الوقت الحاضر، ولا يعتنون به الآن، وبخاصة في مجال علم الفقه، كان قد اهتمَّ به المتكلِّمون المعتزلة في القرنين الهجريين الثالث والرابع. إنَّ المعركة الأساسية التي نشبت بين المعتزلة والأشاعرة كانت تدور حول هذا الموضوع؛ إذ ذهب المعتزلة إلى عدم إمكان فهم كلام الله من دون التوفُّر على مجموعة من المقدِّمات والمتبنَّيات العقلية السابقة، في حين قال الأشاعرة بإمكان فهم كلام الله من دون هذه المقدِّمات والمسلَّمات.

٢٦

لقد صرَّح بذلك القاضي عبد الجبَّار فيشرح الأصول الخمسة، وفي كتابالمتشابه في القرآن الكريم، وأشار إلى أنَّه لا يمكن فهم كلام المتكلِّم من دون معرفة قبلَّية مسبَّـقة بأوصافه وحالاته. ولأنَّ الله يُعرف بالعقل فقط؛ يجب إذاً أن تُعرَف أولاً صفاته بالعقل؛ لكي يتيسَّر فهم كلامه.

ما يريد أن يقوله المعتزلة هو أنَّ لغة كلام الله لغة عقلية، لا لغة عامِّـيَّة أو عرفية. ثُمَّ انتبه المعتزلة إلى أنَّ ظهور الكلمات في كلام المتكلِّم والقائل، هو أمر نسبي، له صلة بمشخَّصات المتكلِّم وصفاته وسائر المقدِّمات الأخرى، وبالتالي لا معنى لادِّعاء الظهور من دون هذه المقدِّمات والمسائل.

هذه المسائل هي من بين ما توفَّر عليه علم(قراءة النص) الجديد بشكل مفصَّل.

* إذا قبلنا بأنَّ للفلسفة والعُرفان تأثيراً في الاجتهاد؛ فسنستنتج حينئذ أنَّ العلوم اللازمة للاجتهاد تتَّسع لتشمل العُرفان والفلسفة، فما هو رأي السادة الحضور في الندوة؟

الشيخ معرفت: إنَّ العلوم الضرورية للاجتهاد هي مجموعة من العلوم الأدبية والعقلية والاستدلالية، فهذه مقدِّمات، ويجب أن تكون مثابةً وأساساً، حتّى إذا ما وصل الإنسان إلى مرتبة يستطيع أن يمارس فيها الاجتهاد، يقال له حينئذ: إنَّ عليك أن تعرف مجموعة أخرى من العلوم لها دخل في الاستنباط.

ولمَّا كان سؤالكم يرتبط بالقسم الأوَّل، فينبغي أن يحدَّد أثر المسائل الكلامية والعلمية في الفقه؛ ففي أيِّة مرحلة من مراحل الفقه يكون لهذه المسائل أثر؟

٢٧

لكي يتَّضح هذا الاستفهام نقول: إنَّ للفقه مرحلتين: تتمثَّل المرحلة الأولى في مهمَّة استنباط الأحكام الشرعية؛ واستنباط أحكام الشرع يكون بمعنى اكتشاف الفقيه لتلك القوانين التي وضعها الشارع المقدَّس في نصوص الكتاب، أو في ما دلَّت عليه سنة النبي (ص)، ويطلق عليها تعبير:(الأحكام الكلِّية) . أمَّا المرحلة الثانية، فهي تتمثَّل في ما يراه الفقيه من مسؤولية في توضيح مقدار بعض الموضوعات ونوعيَّـتها. ودعوى أن تشخيص الموضوع ليس من وظيفة الفقيه، ليست صحيحة بنحو مطلق. فإذا أراد الفقيه أن يبيِّن حكماً شرعياً، عليه أن يشخِّص الموضوع الذي يرتبط به الحكم (موضوع الحكم)، وإلاّ لا يجوز للفقيه - مثلاً - أن يقول: (الخمر حرام)، من دون أن يعرِّف الخمر، وهذا مثال بسيط للمسألة.

والمسألة تأخذ مداها الأكبر في باب المعاملات؛ خصوصاً في المواطن التي لا يكون فيها للشارع موضوع تأسيسي. فالشارع يريد أن يعيِّن حكم المعاملات المتداولة بين المسلمين من خلال قاعدة(أوفوا بالعقود) ، و(المؤمنون عند شروطهم) ، و(تجارةً عن تراضٍ) ، أو قاعدة(لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)، وغيرها. حين يأتي الفقيه ليبحث عن حكم(الشفعة) - مثلاً - عند الشارع في إطار هذه الموازين ومن خلالها، عليه أن يعرف(الشفعة) المتداولة بشكل دقيق وكامل، حتّى يعيِّن لها حكمها. في مثال آخر يكشف عن حاجة الفقيه لتشخيص الموضوع، يمكن أن نشير إلى المسائل البنكية (المصرفية)، فالأسئلة توجَّه حول البنوك (المصارف)، ولكن نظراً إلى أنَّ فقهاءنا عجزوا عن تشخيص الموضوع؛ لعدم معرفتهم بما يجري في المصرف، نراهم لم يجيبوا عن هذا السؤال حتّى الآن، وإنَّما أرادوا أن يروا هل يمكن التوفيق بين المسائل المصرفية وبين المضاربة أو لا؟

٢٨

من هنا نقول: إنَّ على الفقيه أن يكون عارفاً بموضوع الحكم في المرحلتين، مرحلة استنباط أصل الحكم، وكذلك مرحلة تطبيق الحكم على الموضوع الذي أطلق الفتوى في صدده. وقد كان فقهاؤنا الماضون منتبهين إلى هذه المسألة. من هذه الزاوية بالذات، رأينا الحسن بن يوسف الحلّي المعروف بالعلاَّمة (٦٤٨ - ٧٣٦هـ)، درس بدقّةٍ الموضوعات التي كانت شائعة في زمانه، وبحث الأوضاع التي كان قد قرَّرها العُرف لكلّ معاملة، في إطار القواعد الشرعية الكلِّية، ثُمَّ أفتى بعد ذلك بالجواز أو بعدمه. لنفترض أنَّ العلاَّمة درس مسألة المضاربة كما كانت سائدة في عصره؛ وذلك في إطارِ حالةٍ يكون طرفها الأوَّل: المالك صاحب المال، وطرفها الثاني: العامل الذي يبذل العمل. في مثل هذه الحالة، كان العُرف السائد يقضي بأن يُقدِّم المالك نقداً؛ وكان النقد آنذاك ذهباً وفضَّة، فيما كان على الثاني أن يبذل جهده بالعمل. هذه الشروط أخذها من العُرف؛ بمعنى أنَّ العُرف العقلائي في عصره يجري هذه المعاملة في إطار هذه الظروف، فما كان من العلاَّمة إلاّ أنْ حكم وأبان رأي الشرع في المسألة انطلاقاً من هذا العُرف العقلائي الذي عاصره.

والسؤال هو: بعد مُضيّ ما بين (٧٠٠ - ٨٠٠) سنة على عصر العلاَّمة، هل بقي العُرف ثابتاً على ما كان عليه في زمنه؟ لا شك في عدم ثباته. ولكن لماذا؟ لأنَّ العُرف وأسلوب العقلاء في الحياة يتغيَّران تبعاً لشرائط الزمان والمكان. ففي ذلك العصر لم يكن معروفاً - على سبيل المثال - سوى ثلاثة أنواع من التجارة، في حين نجد أنَّ العُرف العقلائي السائد في العالم (العُرف العقلائي العالمي) يتحدَّث - مثلاً - عن عشرة أنواع للتجارة. العلاَّمة في عصره بحث الأنواع الثلاثة تلك، وأحاط بمختلف جوانبها، وحدَّد موقفه في ضوء ذلك. أمَّا الآن، فحيث توجد عشرة ضروب للشراكة، فحين نستفتي الفقيه المعاصر عن أحد هذه الضروب المتداولة، نراه يكتب في الجواب: إذا كان الموضوع الذي تستفتون فيه متطابقاً مع أحد تلك الأنواع الثلاثة، فلا إشكال فيه. والسبب الذي يدفع الفقيه المعاصر لممارسة مثل هذا الإفتاء أنَّه لم يعمل بالطريقة نفسها التي عمل بها العلاَّمة الحلّي في عصره.

٢٩

د. كُرْجي: أعتقد أنَّ للشواهد والقرائن وخصوصيات الزمان والمكان، وعلى نحو يقيني، دخلاً كبيراً في فهم الأدلّة (الكتاب والسُّـنَّة). يمكن أن نشبِّه الحالة بموضوع شأن النزول في القرآن؛ فحين نعود إلى الرِّوايات، نجد أنَّ الفقهاء والرواة كانوا يستفيدون منها معنى عامَّاً وهم قريبون إلى عصر صدورها، لكنَّها حين وقعت بيد الفقهاء المتأخِّرين، تدريجياً أخذوا يذكرون لها وجوهاً متعدِّدة، راحت تبتعد بها عن مؤدَّاها الأصيل؛ لذلك أعتقد بأنَّه من الأمور الضرورية جدَّاً للاجتهاد، هو أن يتوفَّر الفقيه ويجهد لكي تكون له رؤية إلى جميع الخصوصيات والشرائط التي كانت تحيط بالرواية أو الآية في وقت صدروها ونزولها.

إذا عمل الفقيه في إطار هذا النهج، من المؤكَّد أنَّ استنباطه وما يأخذه من الآية والرواية سيكون قريباً كثيراً لِمَا ينبغي أن يكون عليه. أمَّا إذا لم يدقِّق في هذه المواصفات والشروط، فسيبتعد عن المراد.

* نرجو منكم الإشارة إلى مثال لهذه الحالة؟

د. كُرْجي: الذي أذكُره كشاهد على ما أقول، هو القول المتداول والمعروف بين أهل السُّـنَّة من أنَّ(الخراج بالضمان). فقد كانوا يريدون في الأزمنة السابقة من (الخروج بالضمان):(ما يخرج عن العين) ، وكانوا يصرفون القول إلى هذا المعنى عموماً. فإذا كان الإنسان ضامناً للعين، لا يجب عليه أن يدفع شيئاً آخر بالإضافة إليها. أمَّا إنْ لم يكن ضامناً، فعليه أن يدفع. هذا ما كان يستفاد من الحديث في السابق. أمَّا في الوقت الحاضر، فقد ذكر الفقهاء الكبار وجوهاً متعدِّدة في معنى الحديث، جميعها - تقريباً - تبتعد عن المعنى السابق. افرضوا أنَّهم قالوا: إنَّ الخراج يعني الضرائب المالية، وقالوا: إنَّ (الخراج بالضمان) هو نفسه الخراج والمقاسمة التي تطرح في أبواب الفقه، إذ قالوا: إنَّ الضامن للعين، عليه أن يدفع الضرائب المالية للعين (أي خراجها)، في حين نجد أنَّ علماء

٣٠

العصر الأوَّل - الشيعة وأهل السُّـنَّة بالأخص - فهموا من (الخراج بالضمان): أنَّ الإنسان لو كان ضامناً للعين، فإنَّ منافعها الأخرى تكون له وبالمجان، وبالتالي لا يضمن المنافع المترتِّبة عليها. لقد استفاد الأقدمون معنى مقارباً لِمَا ذكرته، إذ ذهب إلى ذلك من قدماء السُّـنَّة أبو حنيفة (النعمان بن ثابت، ت ١٥٠ هـ)، ومن الشيعة ابن حمزة (العماد الطوسي، توفِّي أواخر القرن السادس). وأنا أسوق هذا الكلام بالاعتماد على مطالعاتي السابقة؛ إذ لم أقم حديثاً بتجديد قراءتي له.

ولكن حينما آل الأمر إلى عصرنا، رأينا أنَّ السادة العلماء الكبار ممَّن حضرت دروس بعضهم، احتملوا للحديث وجوهاً متعدِّدة، ثمَّ انتهوا للقول: إنَّ الحديث مجمل لا يمكن فهم شيء منه، فهو ضعيف سنداً ومجمل في المعنى؛ ولذا فهو ساقط عن الاعتبار والاستدلال.

هذا مثال سقته على الحالة التي عرضت لها آنفاً.

* إنَّ هذه الحالة تُوجب اللبس؛ فالإنسان يكون ضامناً للعين وضامناً للمنافع أيضاً، لذلك قالوا الذي قالوه لدفع هذا التوهُّم؟

د. كُرْجي: يمكن أن يقال هكذا وتُفسَّر آراؤهم على هذا الأساس، فأبو حنيفة كان يعتقد بمثل هذا الرَّأي.

* هل الحديث المذكور نبوي؟

د. كُرْجي: أجل، ولكنَّه حديث ضعيف؛ يعني ليس له راوٍ إمامي، فهو مثل كثير من الروايات في باب (قواعد الفقه)، التي جاءت من السُّـنَّة وأخذها عنهم الشيعة. قصَّة هذا الحديث هي شيء من هذا القبيل، وهذا ما لديَّ بالنسبة للسؤال الأوَّل.

٣١

المنحى المقاصدي

الشيخ مجتهد شَبَسْـتَري: أود أن أُضيف شيئاً إلى ما ذكرتُه سابقاً، في شأن قضية مقاصد الشريعة التي يجب أن تؤخذ في الفقه على نحو جدِّي. لقد اعتمد الغزالي والشاطبي كثيراً على مقاصد الشريعة، حتَّى قال أحدهما(لا أذكر مَن هو): إنَّ مقاصد الشريعة تكمن في هذه الأصول الخمسة: حفظ العقول، وحفظ الأموال، وحفظ الدِّين، وحفظ النفوس، وحفظ الأعراض.

كُرْجي: لقد أخذ البقيَّة عن هؤلاء، وبخاصة عن الأوَّل.

الشيخ مجتهد شَبَسْـتَري: يذكر الشاطبي أنَّ جميع الاستنباطات ذات الصلة بالمعاملات والسياسة ينبغي أن تتمَّ في هذا الإطار. ومحصَّل ذلك أن لا معنى للاستنباط بلا مِلاك، فكلّ مسألة يجب أن يتَّضح الإطار الذي ينتظمها، والأرضية التي تتحرَّك عليها؛ بحيث يتبيَّن المقصد الذي لها علاقة به من بين مقاصد الشريعة، وإلاّ من دون تعيين أرضية العلاقة بين المسألة ومقصدها سيقع الفقيه في لون من الاستنباط غير الصحيح، حيث يسأل عن مسألة فيعود للآيات والروايات كي يستنبط الحكم من مظانِّه، هكذا من دون أن يعيد المسألة إلى المقصد الذي ينتظمها من مقاصد الشريعة.

يجب أن يتمَّ الاستنباط على ضوء تلك الأصول الكلّية والرؤى العامة للشارع في كلّ حقل من الحقول، تماماً كما يحصل في تفسير القوانين، فحينما يريد الحقوقي أن يشرح مادَّة من القانون ويفسِّرها، لا يمكنه أن يفعل ذلك من خلال أخذ مادَّة واحدة فقط، وإنَّما يأخذ المادَّة القانونية المعنيَّة ويضعها في بابها الذي ينتظمها، ثُمَّ يفسِّرها على أساس موازين خاصة.

٣٢

والأصول الخمسة التي ذكرتْ مقاصدَ للشريعة، تعكس وجهة نظر أولئك السادة، وإلاّ يمكن لإنسان آخر أن يعيِّن مقاصدَ الشريعة على نحو آخر، أو أن يضيف إلى الأصول المذكورة، لكن مع ذلك يوجد الكثير من المسائل المتضمِّنة في هذه الأصول الخمسة، فحين نقول مثلاً: إنَّ حفظ الدين هو أحد مقاصد الشريعة، فحينئذ سيكون السؤال هو: كيف نعرِّف هذا الدين، وما هو معناه؟ ما الذي نعدُّه جوهره، وما الذي يدخل في عِداد (الأهداف) التي تحافظ على الجوهرة؟

طبيعي أنَّ هذه الأسئلة لا تدخل في نطاق البحث الفقهي، بَيْدَ أنَّها أهمُّ من البحث الفقهي، فإذا أعلن الفقيه أنَّ الفكرة، أو العمل الفلاني، يستوجب إضعاف دين الناس، عليه أوَّلاً أن يكشف عن طبيعة رؤيته لحقيقة الدين، بحيث إذا مُسَّت فإنَّه يشعر بالخطر.

في هذه المسألة ثَمَّة مجال لبحوثٍ كثيرة، وقد أسهم العُرفاء والفلاسفة والمتكلمون بنظريات مختلفة في هذا الشأن. لا يمكن طرح رأي مقبول في هذا المجال إلاّ من خلال البحث الدقيق، ولا يمكن حلُّ المسألة بالاعتماد فقط على رأي لهذا أو وجهة نظر يبديها ذاك.

من هذه الجهة بالذات ينبغي أن تخرج الاستنباطات من حال التشتُّت، ويتحوَّل الخلاف من الاختلاف في الاستنباط إلى الاختلاف في المباني، إذ الصحيح أن يتَّضح أين يختلف هذا الشخص مع ذاك في مبنى معيّن. والأمر الطَّبيعي أنَّ البحث في عموم هذه المسائل المبنائية (التأسيسية) يرتدُّ بدوره إلى قضية أصلية مهمَّة؛ تتمثَّل بحقيقة الوحي وما ننتظره من الكتاب والسُّـنَّة كما أوضحنا ذلك سابقاً.

٣٣

* لنا سؤال موجَّه إلى الشيخ شَبَسْـتَري؛ وهو: هل يبقى ما يقصده الشارع في ذلك العصر (عصر التشريع) ثابتاً، أو أنَه ربَّما يتَّفق في بعض الأحكام أن يكون للشارع في ذلك الزمان قصد خاص، بحيث إذا تحقّق مراده بتشريع يحقِّق المراد، فلا يبقى ثَمَّة مقصد آخر؟ أي أنَّ السؤال تحديداً هو: هل مقصود الشارع مطلق أو نسبي؟ وكم من أحكام الشريعة يكون على نحو القضية الخارجية، وكم منها يكون على نحو القضية الحقيقيّة؟

الشيخ شَبَسْـتَري: سؤال في محلِّه. إذا كان هناك - مثلاً - عشرة أنواع من التجارة أو أكثر، لها حكم عقلائي؛ بمعنى أنَّه قد وضُع لها قانون، فلماذا لا يعمل المسلمون بذلك ويأخذون به؟ ولماذا يعودون إلى الكتاب والسُّـنَّة ليحدِّدوا من خلالهما ما يأخذونه من تلك القوانين وما يردُّونه؟ هذه القضية لم تتحوَّل إلى مسألة في الوقت الحاضر فقط، بل كانت كذلك منذ البداية؛ منذ أن انبثقت أُولى بذور الاجتهاد وبدأ ممارسة واعية بين المسلمين، فمنذ ذلك الحين أطلَّت هذه المسألة على الواقع.

حين كان النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قيد الحياة، كان يعمل بآيات القرآن وبالأحاديث، ولكن سرعان ما طُرحت هذه المسألة من بعده، وذلك في اللحظة التي تبلور فيها مفهوم الاجتهاد وتحوَّل إلى نوع من الرأي والنَّظر، وأخذت تعبِّر عن نفسها بمحتوى السؤال الآتي: ما الذي يوجب العودة إلى الكتاب والسُّـنَّة لتحصيل النظر الفقهي في قضيَّة خاصة؟

٣٤

تنطوي هذه المسألة على مبنىً كلامي، وكل ما في الأمر أنَّ هذا المبنى الكلامي يختلف سعةً وضيقاً من شخص إلى آخر. والمبنى الذي نعنيه يتمثَّل في ما تحمله ذهنية المسلمين من عدم جواز مخالفة حكم الله في أيِّ موطن من المواطن؛ لأنَّ المشرِّع الأصلي هو الله. ومحل الاختلاف - بعد التسالم على ذلك المبنى - هو الأرضية التي يتحرَّك فيها الشارع (الله) في تشريعه، وما تنطوي عليه هذه الأرضية من سعةٍ وضيقٍ بين مختلف الفقهاء. فلا ريب في أنَّ هناك اختلافاً كبيراً في سعة هذه المساحة وضيقها، بين فقيه يقول - مثلاً - بأصالة الحظر ويتحرَّك على ضوء ذلك، وآخر يتحرَّك في ضوء أصالة الإباحة، وفقيه ثالث يذهب للقول بأنَّه حتّى المعاملات هي أمور توقيفية، وآخر لا يقول بتوقيفية المعاملات، وإنَّما يكلها إلى نظر العُرف.

من هنا تتفاوت الرؤى بين رؤية تذهب إلى أنَّ أرضية شارعية المشرِّع (الله سبحانه) واسعة جدّاً، وأخرى تلتزم بمحدودية هذه المساحة وضيقها. فثَمَّة فقيه يرى نفسه بحاجة إلى الحكم الشرعي المباشر في كلّ قضية ومكان، وإلى جانبه فقيه آخر يتوفَّر على بيان الأحكام من خلال الأصول الكلّية. في حين هناك فقيه ثالث يذهب إلى الاكتفاء بما ورد فيه نص وحسب.

ما نخلص إليه هو:أنَّ هناك اختلافاً مهماً في طبيعة الفهم وأسلوبه، يعود كله ويرتدُّ إلى حقيقة الوحي وطبيعة ما ينتظره الفقيه منه . فالإنسان المسلم يريد (حكم الله) على الدوام، وهو قلق في هذا الشأن، بَيْدَ أنَّ ما يقع فيه الاختلاف هو مجال هذا الحكم وحدوده.

٣٥

مداخلات في الفهم العُرفي

* هل تقصد بأصالة الحظر وأصالة الإباحة ما يذهب إليه أصوليُّونا في الغالب؛ من القول بأصالة الإباحة، في حين يذهب بعض أخباريِّينا إلى القول بأصالة الحظر؟ وفي الوقت نفسه فإنَّ القائلين بأصالة الإباحة يذهبون إلى أنَّ جميع الأفعال الإرادية للإنسان لها واحد من الأحكام الخمسة: الإباحة، الحرمة، الوجوب، الاستحباب، والكراهة، ولَمَّا كان الأمر كذلك، يجب علينا أن نرجع إلى الشريعة الماثلة في مجاميعنا الروائية، فإذا اطمأننَّا إلى عدم وجود حكم للشارع، ندرج المسألة تحت عنوان: العموميَّات والإطلاقات؛ من قبيل: ( تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ ) ، و ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) ، وإذا لم نجد منعاً خاصاً في هذا المضمار، نتعاطى مع المسألة من خلال عنوان: ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) ، وبالتالي فإنَّ ما يذهب إليه أولئك في هذه المسائل ليس القول: إنَّها تندرج في بناء العقلاء، وإنَّ بناء العقلاء حجَّة علينا. كلاّ، وإنَّما مفاد كلامهم في الغالب إمَّا إرجاع المسألة إلى حكم خاص إن وُجد، أو وضْعُها تحت واحد من الإطلاقات والعمومات التي وصلت من ناحية الشرع. وإذا أردنا أن نوجِّه المسألة، في ضوء بناء العقلاء، ينبغي إعادة هذا البناء بشكل قهقرائي إلى عصر المعصوم عليه‌السلام . وفي زمن الشَّارع إمّا أن يكون الشارع قد أمضى ذلك البناء أو لا، وعدم الردع كافٍ في الكشف عن الإمضاء.

وما يهمُّنا أن نشير إليه هو: ليس هناك تأثير يذكر، في هذه المواطن، لأصالة الحظر وأصالة الإباحة، وإنَّما تدخل المسألة وتفسَّر على أساس شمول الفقه وعمومه نسبة لأفعال المكلَّفين. والآن لا ندري إذا كان بمقدور توضيحكم، أن يرد إشكالنا هذا أم لا؟

٣٦

الشيخ مجتهد شَبَسْـتَري: هناك اختلاف كبير في الإباحة، وهل هي حكم أو لا؟ إذ يذهب بعضهم إلى عدم كونها حكماً. وهذا معناه أنَّ الإنسان قد تُرِك حرَّاً في هذه المنطقة. وتصوُّر المسألة ينطوي بالنسبة إلينا على صعوبة فائقة؛ إذ لا نستطيع أن نتصوَّر، نتيجة تربيتنا النَّفسية الخاصة، أنَّ الإنسان تُرك حرَّاً في بعض المساحات والأبعاد، إلاّ أنَّ المسألة تظل على أيِّ حال تعكس مبنى معيَّناً يقوم على عدم اعتبار الإباحة حكماً. وعليه، فإنَّ الذي يفهم من الإباحة(عدَم الحكم) ، إنَّما يعبِّر عن طريقة خاصة، أو عن فهم خاص. ثمَّة إلى جوار ذلك، فهم آخر يذهب إلى أنَّها(حكم)، تماماً كما ذكرتم من أنَّ الفقيه يتفحَّص المدارك فيصل بعد التفحُّص إلى وجود حكم هو الإباحة، ومعنى ذلك أنَّنا توفَّرنا على الحرية بوصفها ثمرةً للحكم، أي أنَّ الحرية مُنحت لنا بوسيلة الحكم.

هناك فهم ثالث يؤكِّد أنَّ جميع المسائل توقيفية، ونحن لم نمنح حرية شرعية، فكلّ ضرب من الضروب يُعبر عن (فهم). والسؤال هنا: ليس لدينا أكثر من هذا الكتاب وهذه السُّـنَّة التي بين أيدينا، وأصحاب الرؤى الثلاث يعودون إلى هذا الكتاب وهذه السُّـنَّة، فكيف - إذن - تحقَّق التنوُّع في هذه(الأفهام) الثلاثة؟

بديهي أنَّ هذا التنوُّع في الفهم لم يأتِ عفوياً ولا تلقائياً، فلا نستطيع القول: إنَّ هذا الفقيه يفهم المسألة بهذه الطريقة والآخر يفهمها بشكل آخر من دون أن يكون ثمّة سبب لتغاير الفهم واختلافه. وإنَّما هناك ذخيرة معرفية أوّلية في داخل كلّ فقيه في(مكوِّناته) هي التي تسوقه للتفكير بهذه الطريقة أو تلك.

د. كُرْجي: أرى من الضَّروري أن نتأمَّل قليلاً في هذه المسألة؛ فمسألة الحظر والإباحة والبراءة والاشتغال تشير إلى موقعين. ففي مسألة الحظر والإباحة، وبقطع النظر عن ورود الشرع (يعني إذا لم يصلنا حكم)، هل نملك حرية الفعل؛ بحيث نفعل ما نريد ونتصرّف كما نشاء أو لا؟ ما هو موقف العقل؟ فإذا لم يكن ثَمَّة وجود للشرع، فهل نستطيع أن نفعل ما نريد أو لا؟

٣٧

يعتقد بعضهم أنَّه ليس بمقدورنا أن نفعل شيئاً؛ في حين يذهب بعض آخر إلى أنَّه لا يمكننا أن نفعل أيَّ شيء إلاّ في الحدود التي أجازتها الأديان، ومن بينها الدين الإسلامي، فنحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً إلاّ في إطار ما أباحه الدين، هذه الحالة يُعبَّر عنها بالحظر، وفي مقابلها تأتي حالة الإباحة، بمعنى أنَّ الإنسان حرٌّ، له أن يفعل ما يشاء، والعقل يقول: عليك أن تفعل ما تستطيع عمله.

نأتي إلى تصوُّر أو طرح آخر للمسألة؛ إذ نفترض أنَّ الشَّرع وصلنا، ولكنَّنا لم نعرف حكمه في فعلٍ ما، أو كان له حكم ولكن لم يصلنا، فما هو التكليف في مثل هذه الحال؟ يعتقد بعضهم بالبراءة، وبخاصة في الشبهة الحكمية التحريمية.

ثَمَّة إلى جوار هذا الفريق فريقٌ آخر هم:الأخباريون، يعتقدون بأصل الاشتغال، إذ يجب العمل بالاحتياط. أمَّا الأصوليُّون، فيعتقدون بأصل البراءة نظراً لِمَا في الشرع من أدلَّة.

هناك مسألة أخرى تتمثَّل بالرجوع إلى عرف العقلاء أو - لنقل - إلى فهم العُرف. بَيْدَ أنَّ الرجوع إلى عرف العقلاء مهم جدّاً، فليس الواقع الحاصل هو تدخل الشارع في كلّ شيء. هو بلا ريب يتدخَّل في أمور، ولكن في الأمور التي لا يتدخَّل فيها فإنَّ الإنسان حرّ، بل ثَمَّة مَن يعتقد أنَّ عدم ردع الشارع كافٍ للورود فيها (المساحات الحرَّة)، في حين يعتقد آخرون بلزوم الإمضاء، إمضاء الشرع.

تبقى مسألة فهم العُرف للغة أدلَّة الأحكام، وللغةِ موضوعاتها وقيودها وشروطها. إذا كان العُرف العام ينقاد إلى معنى، فعلى أيِّ شيء نحمله؟ من الواضح أنَّه يحمل على ما يفهمه العُرف؛ إذ من البديهي أنَّ هذه الأدلّة أُلقيت إلى العُرف، فالشارع خاطب العُرف بكلام: الشراب المسكر حرام، والشيء الكذائي حلال، والآن علينا أن نعود إلى العُرف لنرى ما الذي يفهمه من الشراب، وماذا يفهم من الموضوعات الأخرى كالبيع مثلاً.

٣٨

المسألة المهمَّة الأخيرة في هذا المضمار، هي مسألة نوع الفهم العُرفي، فهل المِلاك هو فهم العُرف والناس في زمان الشارع (التشريع)، أو أنَّ المناط هو العُرف في كلّ عصر؟

* في المواطن التي يُرجِع فيها الشارع إلى العُرف، ويكون العُرف مختلفاً، هل تأتي الأحكام الشرعية مختلفة أيضاً تبعاً لاختلاف العُرف؟

د. كُرْجي: ليس ثَمَّة ما يدعو إلى الإرجاع. أمَّا إذا تمّ الإرجاع إليه (إلى العُرف)، فنعم! ثُمَّ ما هو وجه الحاجة لكي نتجشّم العناء ونقول: إنَّ الفقهاء فهموا ما كان عرفاً في زمن الشارع؟!

*وما الضرورة في أن نقول: إنَّ هذه أمور شرعية بنحو جازم؟

د. كُرْجي: يقول الشارع المقدَّس:( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) ، وفي أيِّ زمن تُطلق هذه الكلمة، فالإطلاق يكون على نحو الحقيقة، لا على نحو المسامحة. نعم، يمكن أن يكون هناك فرق في الأزمان المختلفة. ففي عصر من العصور لم يكن يقال عن (السرقفلية / الخلو) أنَّها تباع، أمَّا اليوم، فيقال من دون أن يكون في الاستخدام تساهل أو تسامح، وقد قال الفقهاء باشتراط كون البيع واقعاً على عين؛ وذلك لأنَهم جعلوا عرف ذلك الزمان ملاكاً، أمَّا إذا رفضنا ذلك، فإنَّ المراد من( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) هو ما يعنيّه العُرف في كلّ زمان من (البيع).

* حسناً، الكلام ينطبق على (أحلَّ) أيضاً، فالعُرف هو الذي أحل؟

د. كُرْجي: إنَّ كلّ الألفاظ التي تؤخذ في الأدلّة، محمولة على ما يفهمه العُرف منها.

٣٩

سجال في ثبات اللفظ وتغيّر المعنى

الشيخ شَبَسْـتَري: أنا أعتقد بأنَّ المعاملات ليست تأسيسية، بَيْدَ أنِّي أريد أن أطرح سؤالاً هو: حين نقول: إنَّ (البيع)، في( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) ، يُراد منه ما يفهمه العُرف في كلّ زمان، فإنَّ هذا القول سيكون عُرضة لاعتراض الباحثين اللغويين، فهؤلاء يذهبون إلى أنَّ اللغة هي أمر تاريخي، بمعنى أنَّ اللغة تتَّصل في داخل كلّ جماعة وحضارة وعصر، بما ينطوي عليه ذلك العصر وتلك الحضارة والمجتمع. وحينئذ فإنَّ(النسيج اللغوي) لحضارة معيّنة لا يمكن أن يكون ناظراً إلى حضارة أخرى.

فاللغات ليست أمراً نستطيع أن نمدَّد معانيه كما نقدر ونريد، وهذه المسألة التي يمكن أن نُطلق عليها عنوان(الشبهة) لا ترد في هذا المجال وحده، بل تمتدُّ لتشمل التفاسير العُرفانية والفلسفية لقسم من الآيات؛ حيث يعترض باحثو اللغة بالاعتراض نفسه، فحين نقول - مثلاً-: إنَّ لليد في اللغة العربية معنى عامَّاً يشمل حتّى (اليد الملكوتية) لله سبحانه، أو إنَّ (القلم) يشمل في معناه اللوح المحفوظ أيضاً، فإنَّ هذا الضرب من المعنى لا يتَّسق مع محدودية اللغات وتاريخيَّـتها.

إذا رضينا بمفاد هذه الشبهة، ينبغي لنا أن نقبل أنَّ المراد من( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) هو فقط ذلك القسم من البيع الذي كان في زمن نزول القرآن، ومن ثَمَّ فهو لا يشمل مفاد البيع، وما يسمَّى بيعاً في جميع العصور ومختلف المجتمعات.

والقول نفسه يقال عن جملة( تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ ) ، فالتجارة كانت تنطوي على مفهوم خاص بها في ذلك العصر، وإذا كان العالم المعاصر قد أفرز اليوم عشرة أنواع من التجارة، فإنَّ هذه الأنواع هي أشياء أخر لا تندرج تحت عنوان التجارة الذي ورد ذكره في القرآن الكريم.

كيف ندفع هذه الشبهة؟!

٤٠